الْحَمْدُ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَحَبِيبَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْده وَرَسُولُهُ، أَشْرَف الأنام، مَن بيَّن الشَّرَائِع وَالْأَحْكَام، وَماز بين الْحَلَال وَالْحَرَام، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِوَعَلَى آله البَرَرة الكِرام وَعَلَى أصحابه السَادَة الأئمة الأعلَام وعَلى تابِعيهم وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

أما بعد: 

أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، فيقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه الكريم وفي النظم الحكيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۩ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ۩ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ۩ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم ربنا اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

أيها الإخوة المُسلِمون:

قد أظلنا – بحمد الله تبارك وتعالى – شهر عظيم مُبارَك، شهر فيه ليلة هي خيرٌ من ألف شهر، شهر جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعاً، مَن تقرَّب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمَن أدى فريضةً فيما سواه، ومَن أدى فريضةً فيه كان كمَن أدى سبعين فريضةً فيما سواه، وهو شهر المُواساة، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وهو شهر يُزاد فيه في رزق المُؤمِن، وهو شهر تضافرت فيه وتكافلت أسباب الغفران، يُغفَر فيه للصائمين بصيامه، مَن صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه، ويُغفَر فيه للصائمين بقيامه، مَن قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه، ويُغفَر فيه للصائمين باستغفارهم، فأما اللتان أمركم الله – سُبحانه وتعالى – بهما فشهادة أن لا إله إلا الله وتستغفرونه، خصلتان تُرضون بهما ربكم – سُبحانه وتعالى -، ويُغفَر فيه للصائمين باستغفار الملائك – عليهم السلام -، كما في حديث البيهقي أنهم يستغفرون للصائم ما دام صائماً، ويُغفَر فيه للصائمين بذكرهم الله – سُبحانه وتعالى – على عموم الذكر وتفصيله، ذاكر الله في رمضان مغفور له كما عند الطبراني، ويُغفَر فيه للصائمين بمجموع ذلك أو بشيئ من ذلك أو بمحض الفضل والرحمة الربانية، فهو شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، فمَن لم يُغفَر له في هذا الشهر فمتى يُغفَر له؟! المحروم في هذا الشهر – والله – هو المحروم، فإن الأشجار إذا لم تُثمِر في أوان الثمار كان حقها أن تُقطَع ويُوقَد عليها في النار، متى يصحو مَن به مِن داء الجهالة والغفلة مرضان؟!

روى الإمام الحاكم وقال صحيح الإسناد في مُستدرَكه عن كعب بن عُجرة – رضيَ الله تعالى عنه -، قال قال لنا رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – احضروا المنبر، قال فلما حضرنا رقيَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الدرجة الأولى ثم قال آمين، فلما ارتقى الثانية قال آمين، فلما ارتقى الثالثة قال آمين، فلما نزل قلنا يا رسول الله لقد سمعناك اليوم تقول شيئاً لم نكن نسمعه منك، قال لقد عرض لي جبريل، يعني عند المنبر، قال لقد عرض لي جبريل – عليهما السلام -، فقال بَعُدَ مَن أدرك رمضان ولم يُغفَر له، فقلت آمين، ثم قال جبريل لما ارتقيت الثانية بَعُدَ مَن ذُكِرت يا محمد عنده فلم يُصل عليك، قلت آمين – اللهم صل وسلم وبارك وشرِّف وكرِّم نبينا محمداً وآله وأصحابه وأتباعه، اللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته -، ثم لما ارتقيت الثالثة قال بَعُدَ مَن أدرك أبويه الكبر عنده أو أحدهما – أي أدرك الكبر أبويه كليهما أو واحداً منهما – فلم يُدخَلاه الجنة، قلت آمين.

متى يُغفَر؟! متى يُغفَر له الذي لا يُغفَر له في رمضان؟! متى يُعطى الذي لا يستعطي ولا يستوهب ولا يُعطى مَن لا يُعطى في رمضان؟! ومتى يؤوب الذي قلبه هائم وشارد في أودية الشهوات إذا لم يؤب في رمضان؟! متى يتوب الرازح تحت سلاسل الذنوب والمُهلِكات إذا لم يتب في رمضان؟!

أيها الإخوة الأفاضل:

وهذا الشهر العظيم الكريم فرض الله – سُبحانه وتعالى – صيامه لحكم وأسرار محلوظة بعيون البصائر، يلحظها الأكابر، ويغفل عنها الأصاغر، لذا ترون بعضهم – أعني بعض الأصاغر – ربما صام ولم يُصل، وربما صام وصلى لكنه لا يتحقَّق بحقيقة الصيام، فضلاً عن حقيقة الصلاة، فنقول لهذا الذي يستوفي مكياله في شهواته ويُطفِّف مكيال صومه وصلاته أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ ۩، يستوفون مكيال شهواتهم، ويُطفِّفون مكيال صومهم وصلاتهم، أهذا من القسط والعدل؟! أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ ۩.

الله – سُبحانه وتعالى – حكيم في خلقه، حكيم في أمره، حكيم في فعله، حكيم في شرعه، فكما يبعد بل يستحيل أن الله – سُبحانه وتعالى – يفعل فعلاً قدرياً أو كونياً – أي في خلقه أو في عالم الخلق – يخلو من حكمة فكذلكم يستحيل أن يشرع شيئاً حُكماً أو جُملة أحكام يُخليها من حكمة – سُبحانه وتعالى -، فنُريد أن نستجلي وأن نستبين وأن نتنوَّر ببعض حكم وأسرار هذا الصيام وهذا الشهر العظيم المُبارَك أو الصيام في هذا الشهر على وجه الخصوص.

يعلم كل مُسلِم ومُسلِمة أولاً – أي بدرجة أولى – أن العبادات واجب وليس حقاً، ولا سيما على المُكلَّفين في أوائل أطوار تكليفهم، المُكلَّف في أول طور ودرجات سلم تكليفه لا يرنو إلى التكاليف إلا على أنها واجبات، وهي كذلكم، الله ما أوجبها حقوقاً، وإنما أوجبها واجبات، أو ألزم بها واجبات، فإذا كانت واجبات فإذن هنا ابتداءً لا معنى للسؤال عن الحكمة، نلتزمها اعتقاداً، وننزل على حُكمها تطبيقاً في حياتنا، لأن الله أوجبها علينا، وهو عالم بسره وحكمته فيها، فإذا تيقَّن وخالط هذا اليقين شغاف قلب المُؤمِن والمُؤمِنة فلا بأس بعد أن يتطلَّع إلى استجلاء بعض الحكم والأسرار، أما أن يأتي المُكلَّف ويقول هذه العبادة غير منطقية، هذه العبادة غير معقولة، فلذا أنا أتقاصر وأتكاسل عن أدائها، فهذا إلحاد في أمر الله، وهذا رد على الله، وهذا تعقيب على حُكمه، ولا مُعقِّب لحُكم الله، لا مُعقِّب له في حكمه ولا في أمره – سُبحانه وتعالى -.

فأما بعض هذه الحكم فتعلمون أولاً أن العبادات على اختلافها وتنوعها إما أن تكون مُنقسِمة إلى عبادات بدنية كالصلاة والصوم، يقوم بها الإنسان ببدنه، سماها العلماء بدنية، وإما أن تكون عبادات مالية، كعبادة الزكاة والصدقات، وإما أن تكون عبادة جامعة بين النوعين، جامعة بين البدن وبين المال، كالحج والعمرة، فيها نفقة في سبيل أداء هذا الواجب، الذي لا يتم إلا به، وفيها أيضاً أفعال بالجسوم، أفعال بالبدن، فهي عبادات جامعة، وهذه قسمة.

وثمة قسمة ثانية، هناك عبادات فعلية، وهناك عبادات تروكية، أي فيها ترك وكف، العبادات الفعلية كالزكاة والحج وكالصلاة، والعبادة التركية التي تتمثَّل في الكف والامتناع هي الصوم، فحقيقة الصوم أنه إمساك عن أشياء مخصوصة، في وقت مخصوص، بشرائط مخصوصة، من شخص مخصوص، ألا وهو المُكلَّف، وهذا من أوضح وأخطر الحدود، إمساك عن أشياء مخصوصة، في وقت مخصوص، من شخص مخصوص، وبشرائط تتوفَّر في هذا الشخص مخصوصة، وهي شرائط الأهلية، أهلية التكليف، والله – تبارك وتعالى – أعلم.

بعد ذلكم أقول إن الله – تبارك وتعالى – أدار هذه العبادات جميعاً على مركز دائرة وعلى قُطب رحى واحد، جعلها تدور على تحقيق مقصد أعظم وهدف أجل، ألا وهو تقوى الله، كل العبادات! فقال – عز من قائل – في آية فذة جامعة يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۩، والتقوى هي وصية الله إلينا وإلى أهل المِلل جميعاً، وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ۩، فهي وصية مِلية أو وصاة إلهية إلى جميع أهل المِلل والأديان.

ولذا لا جرم أن علَّل الله لفرضية الصوم بقوله لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۩، قال كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۩ في أول السياق، وختم بنفس التعليل في آخر السياق، قال كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ۩، فكأن المقصد الأعظم من عبادة الصوم على وجه الخصوص في هذه العبادة هو التحقق بتقوى الله، هو التحقق بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته – لا إله إلا هو -.

ولا يخفاكم فهذا ظاهر أن المُراقَبة هي روح التقوى، بعيد جداً أن تكون تقياً ولا تتمتع بروح المُراقَبة، لابد من المُراقَبة للتقوى، لا يكون تقياً مَن لا يخشى الله في السر وفي الجهر، في الملأ وفي الخلاء، في الخلوة وفي الجلوة، لا يكون تقياً بحال، فالتقوى روحها المُراقَبة، والصوم يُنمي فيك أخي الصائم هذه الروح، فأنت تُمسِك من صباحك، فإذا استدبرت جُزءاً من نهارك عضك ومضك ألم الجوع والعطش، وربما تعرَّض لك من نفيس الرغائب ما هو أدخل في باب الإغواء من الطعام والجوع، كزينة زوجة وتجملها لك، سيما إذا كنت في مطلع وفي ميعة شرخ شبابك، دواعٍ كثيرة تدعو إلى المُلابَسة وإلى الوقاع، فحينئذ يتيقَّظ الروح، ولا يُريد أن تستلب منه الشهوات ما استلبته في غابر الأيام، هذا الشهر فُرصة وحيدة وربما يتيمة لأن تسترد فيه الروح ما استلبته منه أيدي الشهوات في سائر الأيام أو في ماضي الأيام، فها هنا يتقيَّظ روح المُراقَبة، ويجفل الإنسان ويتكعكع ويتراجع ويذكر صومه، إني صائم.

وهكذا بالمراس والتدريب والتمرين في مدى وفي بحر ثلاثين يوماً ينمو هذا الروح، وتقوى هذه العزمة، وتتشحَّر وتتمحَّض هذه الهمة، فهو خلق جديد للإنسان، هي ولادة جديدة لهذا الإنسان، وهل الإنسان كما قال بعض الحُكماء الغربيين إلا إرادة؟! هل الإنسان إلا إرادة؟! الإنسان بلا إرادة لا يُساوي شيئاً، الإنسان بلا همة لا ثمن له، وكل ما يتحقَّق من نجاح في الدنيا أو في الآخرة إنما هو بالإرادة، إنما هو بالهمة، والصوم أعظم مدرسة لتربية الإرادات والهمم، لأنه كف عن أعظم الشهوات، كف عن أشهى هذه الشهوات.

قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – في الحديث الذي أخرجاه في الصحيحين وتعرفونه، يقول كل عمل ابن آدم له، قال يقول الله تعالى – إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، لماذا؟ لماذا نسب الله الصوم وحده إليه ولم ينسب الصلاة ولم يخص نفسه بالزكاة أو بالحج أو بالجهاد؟ إلا الصوم! قال يدع شهوته وطعامه من أجلي، لا رقيب عليه إلا أنا – لا إله إلا هو -، لا رقيب عليه إلا الله، يستطيع أن يستزله الشيطان وأن يختلس وقتاً في غفلة الناس والأهلين، فيصير إلى أن يُطعِم نفسه شيئاً أو يشرب شيئاً، ولكنه لا يفعل، لأن روح المُراقَبة حية، ريّانة، نشطة، فارعة، قائمة على سوقها هنا، في سوق رمضان، في هذا المضمار الأغر، فهذه حكمة وأي حكمة، أعظم بها من حكمة!

وحكمة ثانية، هذا الشهر يُعلِّم الإنسان أيضاً على وجه أخص مما ورد في عموم الحكمة الأولى، يُعلِّم الإنسان ألا يكون عبداً لغريزة الوقاع، وهذه الغريزة التي قضى محمد – عليه الصلاة وأفضل السلام – في أحاديث صحيحة في غير ما واحد أنها أخطر مما يخاف على أمته منه، ما تركت على أمتي فتنة أضر عليهم من النساء، أي من هذه الغريزة، وإلا فالمرأة بذاتها ليست ضارةً، لكن بهذا الاعتلاق، بهذا التناغم بين ما رُكِز فيك وبين ما جُبِل فيها، ومن هنا ما تركت على أمتي فتنة أضر عليهم من النساء، أي من فتنة النساء، أن يُفتَتن بهن، حتى عدتها مدرسة التحليل النفسي المُعاصِرة أو مدرسة فرويد Freud، عدتها الأساس الأكبر بل الوحيد الذي تدور عليه مناحي ومناشط الإنسان كلها، وهذا كلام فيه مُجازَفة وفيه مُبالَغة، لكن قدر كبير من الحق فيه.

لذا خطر لي قبل أيام على جهة العروض أن الله – سُبحانه وتعالى – أشار إلى مراحل التنشؤ والتزيد الآدمي لا بعلامات عقلية بحتة، وإنما بعلامات جنسية، فذكر أن الأيتام إذا بلغوا النكاح – قال إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا۩ -، وجعل هذا أساساً، وهو مظنة للرشد بلا شك كما قيل، لكن هناك تفسير أعمق، ربما كشفت عنه الدراسات العلمية الحديثة، أيضاً ذكر الأطفال إذا بلغوا وإذا لم يبلغوا الحُلم – قال وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ ۩، وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ ۩-، وهي مسألة جنسية، جعلها حداً فاصلاً بين أطوار وأدوار في حياة الآدمي أو في حياة الإنسان، يُشير إلى أهميتها، يُشير إلى خطورتها، ولذا قال المُصطفى المُحمَّد – عليه الصلاة وأفضل السلام – أخشى ما أخشاه عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم، قال في بطونكم وفروجكم! وهذان النوعان من الشهوات هما أصالة اللذان يُمسِك عنهما عوام الصوّام، أي الصائم من عامة الناس عن ماذا يُمسِك؟ عن شهوات البطن وعن شهوات الفرج، عن منافذ الفتن، عن سواقي الفتن الكُبرى والعُظمى، وأما الخاصة من الصوّام فعن ماذا يُمسِكون؟ يُمسِكون عن كل ما يُشين صومهم، ويقدح عدالتهم، ويجرح مروءتهم الدينية، ويُوهي حبلهم بالله وحبل صلتهم بالله – سُبحانه وتعالى – في الحواس، في السمع والبصر، في اللسان، وفي سائر الجوارح، فهذا صوم الخواص، وأما خاصة الخاصة كما قال حُجة الإسلام الغزّالي – قدَّس الله سره النوراني – فصومهم في رمضان وفي غير رمضان عن الحُجب والأغيار، وفطرهم هو يوم لقاء الله – لا إله إلا هو -، صاموا عن كل شيئ إلا عن محبة الله، جعلوه قبلة أحلامهم، وقبلة آمالهم، ومرسى سفرهم وترحالهم وظعنهم وإقامتهم، اللهم حقِّقنا بأخلاق الصالحين من عبادك.

فالصوم فيه تدريب وتربية للإنسان أن يتحكَّم وأن يُهيمن وأن يقهر هذه الغريزة ولو في فترة من زمانه، شهراً كل عام، يا معشر الشباب مَن استطاع منكم الباءة فليتزوَّج، ومَن لم يستطع فعليه بالصيام، فإنه له وجاء، ووجاء بالمعنى اللفظي خصاء، وليس بالخصاء، شبيه بالخصاء، أن تُرض الأُنثيان حتى يضعف الباء والشبق وحتى يخبو مدد ومعين هذه الطاقة الإنسانية، فهذا تدريب للإنسان.

وأيضاً الصوم فيه حكمة أُخرى ثالثة، الإنسان إذا صار في نهاره إلى جوع وعطش، ثم صار بعد ذلك إلى طعام وشراب، أدرك قدر نعمة الله عليه، فلزوم الإنسان حالةً واحدةً من الشبع والري يجعله مشمولاً بأسباب الغفلة والقسوة، يجعله مشمولاً بأسباب القسوة والغفلة! يقسو قلبه فلا يعرف إذا أراد كيف يرحم مَن يجب أن يُرَحم، لا يعرف، لأنه لم يذق لسع الجوع وألم العطش، لم يذق شيئاً من ذلك، ولذا قال الإمام ابن الهُمام في فتح القدير – رحمة الله تعالى رحمة واسعة -، قال فإن الذي يجد ألم الجوع في بعض الأوقات يعلم حينئذ ألمه عند مَن يُعانيه في غالب الأوقات، وهم الفقراء والمساكين، فيصير في قلبه رقة عليهم، إذا ظمئ كبدك ذكرت الأكباد الظامئة في كل وقت، إذا جاعت معدتك ذكرت المعد الخالية في كل وقت، وهي لا تجد إلا التراب، تسفه! فهنا يصير القلب إلى رقة.

أيضاً يُشمَل القلب إذا لزم الإنسان حالة واحدة من الشبع والري بأسباب الغفلة، غفلة عن ماذا؟ عن تقدير نعمة الله، لأن الإنسان لا يعرف إن ألف الشيئ قدره، لا يعرف قدره إلا بفقده، فإذا فقدته عرفت قدره، والصوم فقد مفروض على الواجدين وعلى المُعدمين، الصوم فقد مفروض على الواجد وعلى المُعدم، على كل إنسان! ولذا جاء جبريل إلى النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – ومعه ملك يحمل مفاتيح كنوز الأرض، وخيَّره عن ربه مُبلِّغاً أن يا محمد إن شئت أعطيتك مفاتيح كنوز الأرض، أي فصرت نبياً ملكاً، وإن شئت ظللت عبداً، في فقرك ومسكنتك، اختيارية! لم يكن فقراً إجبارياً، هو اختار هذا – عليه الصلاة وأفضل السلام -، وكان أعظم شرف له، فتردد النبي، فأشار إليه جبريل بجناحه أن تواضع، قال بل أختار أن أجوع يوماً وأشبع يوماً، أجوع يوماً فأذكرك، وأشبع يوماً فأشكرك، أذكرك يا مُنعِم، يا مَن تُهت في مشهد النعمة عن عظمة المُنعِم وتفرده، بعض الناس يتيهون ويذوبون في شهود النعمة دون أن يصيروا إلى شهود المُنعِم – سُبحانه وتعالى -، وهذه غفلة، وأشكرك على هذه النعمة.

وفي حديث آخر عند الترمذي والإمام أحمد – رضيَ الله تعالى عنهما – أن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – قال بل أجوع وأشبع، فإذا جُعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك.

ورابعاً في الصوم تحرير للإنسان من إسار عبودية المألوف، الإنسان قد يألف أشياء كثيرة في حياته، عوائد اجتماعية أو عوائد فردية، في ميدان نفسه أو في ميدان أسرته، الصوم ثورة على المألوف بشكل عام، وفي هذا تحرير للإنسان، الإنسان قد يُستعبَد لشيئ وهو لا يدري، ولذا قال بعض الحُكماء من أئمة الدين كل ما امتلكك فأنت عبد له، أي شيئ يتملكك حُبه فأنت عبد له، أنت مُستعبَد له، فترى إنساناً عبداً لدينار، وإنساناً عبداً لامرأة، وإنساناً عبداً لجاه وكبر وغطرسة، وإنساناً عبداً لكذا وكذا وكذا، لا يخلو إنسان من عبودية، الصيام تحرير الإنسان من ألوان العبودية إلا لله – سُبحانه وتعالى -.

وأنتم لا يخفاكم أن عبوديتنا لله ليست البتة في أية بابة من الأبواب من جنس العبودية لغير الله، كائناً ما كان هذا المعبود، لماذا؟ لأن العبد في غير عبوديته لله يعمل ويُعطي لمَن يعبده، لمَن تُيِّم به، وأما أنت في عبوديتك لله فأنت تعمل وأنت تُعطى أجرك، عبوديتك نتيجتها وآثارها عليك أنت بالإيجاب، لا يأخذ سيدك منها شيئاً، بل أجرها موفوراً لك، وأما في غير عبودية الله فأنت تعمل لغيرك، ولذا ورد في حديث الترمذي والحاكم – رضيَ الله تعالى عنهما – ما تعلمون في الخمس الكلمات التي أمر الله – تبارك وتعالى – يحيى أن يُبلِّغها إلى بني إسرائيل وتلكأفي تبليغها فهم عيسى بتبليغها عن مَن أشرك بالله شيئاً أو مَن عبد مع الله شيئاً آخر أو أحداً من الناس، ولذا قال القرآن مرة شَيْئًا ۩ وقال مرة أَحَدًا ۩، الأحد من العاقلين، والشيئ من الجمادات، فعم أنواع الشرك المعروفة في كل الأمم، قال أَحَدًا ۩ وقال شَيْئًا ۩، شبَّهه – سُبحانه وتعالى – في هذه الكلمة الفذة الجامعة بمثل عبد له سيده، لكنه يعمل ويُعطي لغير سيده، فهذا عبد السوء، فلا تكن يا أخي المُسلِم عبد سوء لله – سُبحانه وتعالى -.

مَلَكْتُ نَفْسِي مُذْ هَجَرْتُ طَبْعِي                               اليأسُ حُرٌّ والرَّجَاءُ عَبْدُ،.

ولا يخفاكم أيضاً أن هيمنة عادات الإنسان ومألوفاته ومُشتهياته عليه قد تقوده في غير مرة إلى ذل وإلى بذل ماء الوجه وإلى مواقف لا يرتضيها لأنفسهم أصحاب المروءات.

إِذَا الْمَرْءُ أَعْطَى نَفْسَهُ كُلَّمَا اشْتَهَتْ                       وَلَمْ يَنْهَهَا تَاقَتْ إِلَى كُلِّ بَاطِلِ.

وَسَاقَتْ إِلَيْهِ الإِثْمَ وَالْعَارَ بِالَّذِي                              دَعَتْهُ إِلَيْهِ مِنْ حَلاوَةِ عَاجِلِ. 

فهذه أيضاً حكمة برأسها في الصيام.

وحكمة خامسة، شهر رمضان المُعظَّم المُكرَّم بذاته شهر قدس، أي شهر قدسي، لأن الله – تبارك وتعالى – كما اصطفى من آحاد الناس أُناساً وكما اصطفى من الأمكنة مواقع اصطفى من الأزمان أزماناً، فاصطفى شهر رمضان فيما اصطفى من الأزمان على أشهر أُخرى، وخصه بمزايا ونفحات وإقبالات كريمة عُلوية، لم يخص شهراً آخر بها، فشهر رمضان مُقدَّس في ذاته.

لذا رغب الله – تبارك وتعالى – إلى المُكلَّفين، رغب إلى عباده، لكن برسم التشريع وبأمر الشارع – لا إله إلا هو -، أن ينقطعوا إلى أداء حق العبودية في هذا الشهر، وأن يتزوَّدوا ما وسعهم التزود من خيرات وقدسيات وأنوار وعطايا هذا الشهر، عظيم جداً! ومَن أراد أن يتزوَّد ترونه يستطيع أن يتزوَّد هذا التزود وأن يتحقَّق بحقيقة العبودية وهو على موائد الطعام والشراب وفي مجالس التفكه والنساء؟! لا يُمكِن، هذا مُستحيل.

ولذا كان الصيام أيسر وأخطر سبيل إلى تحقيق هذا الغرض، فشرعه الله – تبارك وتعالى – في هذا الشهر، وهذا جواب بعض الملاحدة الذين يقولون سلَّمنا أن الصيام في نفسه له حكمة وفيه أسرار كبيرة وجمة، لكن لماذا جُعِل في رمضان بالذات؟ أجاب بعض الأذكياء بمُلاطَفة وفيها ظرافة، أجاب المُلحِد الذي سأله هذا السؤال، يُريد أن يقول له إن الله – تبارك وتعالى – هو الذي يخص الأزمان بما شاء، لا أن لها اختصاصاً بمزايا كيف شاءت هي، لأنها لا تعقل، كل ما خلقه الله الله هو الذي يُودِع فيه المزايا، وهذا مذهب أهل السُنة والجماعة، أن الحُسن والقُبح والمزايا والخصائص في الأشياء شرعية، المُشرِّع – عز وجل – هو الذي أودعها وهو الذي يكشف عنها في أكثر الأبواب، أما المُعتزِلة والشيعة وغيرهم فقالوا الحُسن والقُبح والخصائص والمزايا عقلية، العقل يستقل بدركها، ولو لم يأت التشريع، وفي هذا أيضاً مُجازَفة.

المُهِم فأجابه قائلاً أنت خلقك الله – تبارك وتعالى – إنساناً، أرأيت لو خلقك – أكرمكم الله – حماراً، أكان يُعجِزه؟ فخجل وتململ وأُسقِط في يده وقال لا، قال لماذا خلقك إنساناً؟ لأنه أراد هذا، الله – عز وجل – له الخلق والأمر، أراد هذا، لا مُعقِّب لأمره ولا مُعقِّب لحُكمه، فإذ شاءت إرادته – سُبحانه وتعالى – أن يجعل في رمضان هذه القُدسية وهذه النفحات وهذه الإقبالات والعطايا، فندبنا إلى صيامه، لكي نُحسِن التزود من شهر رمضان.

فأسأل الله – تبارك وتعالى – لي ولكم أن يجعلنا في هذا الشهر من المغفور لهم، ومن المرحومين، ومن المعتوق رقابهم من نار جهنم، وأن يُنيلنا بفضله ومنته ليلة القدر فيه، وأن يرفع لنا قدراً فيه وفي كل زمان.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه غفور توّاب رحيم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلَّم تسليماً كثيراً.

اللهم إنا نسألك ونبتهل إليك بالدعاء والضراعة أن تجعلنا هُداةً مهديين، غير ضالين ولا مُضِلين، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة العدل في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر.

اللهم اجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، اهدِنا واهدِ بنا، اللهم أرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم زِدنا ولا تنقصنا، وأعطِنا ولا تحرمنا، وأكرِمنا ولا تُهِنا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وخذِّل عنا ولا تخذلنا.

اللهم اجعلنا والمُسلِمين والمُسلِمات جميعاً من عتقائك في شهر رمضان الكريم، اللهم لا تدع لنا في هذا اليوم الكريم ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرَّجته، ولا كرباً إلا نفَّسته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا غائباً إلا رددته، ولا أسيراً إلا أحسنت فكاكه، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة لنا فيها صلاح ولك فيها رضا إلا أعنت على قضائها.

اللهم انصر الإسلام والمُسلِمين، وأعل بفضلك كلمتي الحق والدين، اللهم انصر مَن نصر المُسلِمين، واخذل مَن خذل المُسلِمين، ربنا اغفر لنا ولوالدينا، وللمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات، وتقبَّل منا صلاتنا وصيامنا وقيامنا وركوعنا وسجودنا ودعاءنا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا، اللهم تقبَّل عنا أحسن ما عملنا وتجاوز عن سيئاتنا في أصحاب الجنة، وعد الصدق الذي كانوا يُوعدون.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩.

____________

فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۩، قوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

(1995)

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: