إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – جل ثناؤه – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ۩ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ۩ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ۩ لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ۩ وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ۩ كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ ۩ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ۩ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ۩ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ۩ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ۩ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ۩ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ۩ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ۩ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ۩ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

إخواني وأخواتي:

هذا الدين نورٌ كله، مُبتدأً وتوسطاً ومُنتهىً، ولا جرم، فالله – جل ثناؤه ومجده – هو نور السماوات والأرض؛ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۩، وشرعه ووحيه الذي أوحى وأنزل نورٌ مُبين؛ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ۩، يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا ۩.

والواسطة في تبليغ هذا الوحي النوراني العلوي هو نورٌ أيضاً، سراج مُنير؛ وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا ۩، والهدف والغاية الإخراج من الظُلمات إلى النور؛ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۩.

عجيب! لِمَ هذا التأكيد والتركيز على النور، مُبتدأً ومُنتهىً وتوسطاً؟ نفياً لكل مظاهر الخفاء والإسرارية والإلغازية والغموض، ومن ثم فهذا الدين بطبعه لا يحتمل هذه المعاني، يرفضها تماماً.

تقول أمنا، أم المُؤمِنين عائشة – رضيَ الله تعالى عنها وأرضاها -، ثلاث مَن حدَّثكم بهن فقد كذب، والحديث في الصحيح. قالت – رضيَ الله عنها وأرضاها – ومَن حدَّثكم أن محمداً كتم شيئاً مما أوحاه الله إليه، فقد كذب. هذا الدين واضح كله، بيّن كله.

وطريقة رسول الله والبُصراء من أصحابه وأئمة الهُدى من ورائهم – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – في إبلاغ هذا الدين وإيصاله، تقوم على ماذا؟ على التبيين، لأن الأنبياء والرُسل إنما بُعثوا بالبيّنات، أمور بيّنة وواضحة.

ولقد أذكر قبل سنوات، وكنت أقرأ في كتاب لأحد المُستشرِقين الكبار، وخاض وجال جولات مع الأديان العالمية، وخاصة الشرق أقصوية، عانى من جرائها ما عانى، حتى إذا أفضت النوبة إلى الحديث عن الإسلام، قال وها هنا بالذات نستشرف النور والوضوح والظهور. في بداية الفصل! شيء تقشعر له الأبدان. ولعل الرجل لم يقرأ هذه الآيات، ولم تمر به مرةً من الدهر، لكنه حين قرأ هذا الإسلام ووقف على موارثيه الزكية النورانية، شعر بأنه أمام دين يختلف، دين يتسم بالوضوح، يتسم بالوضوح! يتسم بالمبينية، مُبيَّن وواضح.

ولذلك أحبابي – إخواني وأخواتي في الله – رأينا الأئمة الهُداة المُهتدين الراشدين، عبر القرون، والذين – بفضل الله تبارك وتعالى – يُمثِّلون مُعظَم هذه الأمة المرحومة، طريقتهم في إبلاغ الدين والكلام في الدين هي هذه، طريقة واحدة، وجه واحد، ولسان واحد، بلا بطون، بلا أسرار، بلا إغماض، وبلا خفاء. طريقتهم واضحة، وتتسم أيضاً بالتواضع الجم والكبير. قولنا هذا رأيٌ، وهو أحسن ما بلغناه أو بلغنا إليه أو أصبناه، مَن جاءنا بأحسن منه صرنا إلى قوله. رأيي هذا في فهمي للنص أو للدين صوابٌ يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأٌ يحتمل الصواب. كانوا مُتواضِعين جداً، على ما حصَّلوا من علوم جمة، وزاد وفير، جعلهم مضرب الأمثال – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم -، إلا أنهم كانوا واضحين جداً، لم يلجأوا قط إلى خُطة الجمعيات السرية، أو الجماعات الخفائية، والتنظيمات التراتبية الهيراركية، أبداً! ولم يُحبِّذوا هذه الخُطة، ولم تخطر منهم على بال. إنما الذي حصل بطبيعة الأمور، أن مدارس فكرية فقهية وكلامية ومسلكية، نشأت – نستطيع أن نقول بطبيعة الأمور، ولا نود أن نقول من تلقائها، ولكن نشأت، ولم يكن من هدفهم إنشاء هذه المدارس، ولكنها نشأت، بطبيعة الانتقاء أو الانتخاب الثقافي، إن جاز التعبير -.

الأئمة – مثلاً – المتبوعون كانوا في وسط مئات الأئمة، مئات! وبعضهم يذكر ألوف الأئمة، وبعضهم بالغ وذكر أنه إلى القرن الخامس الهجري شهدت الساحة الفقهية أو الثقافية الإسلامية زُهاء خمسة آلاف، مَن نادى بمذهب له، لم يُنتخَب منها إلا مذاهب على عدد أصابع اليدين الثنتين. طريقة الأمور، هؤلاء أثبتوا نجاعتهم، أثبتوا نجاعتهم! أنهم الأفضل، أنهم الأكفأ، أنهم الأعلم والأفقه والأحسن. لكن الأمر لم يكن مقصوداً، لم يكن مقصوداً ولم يكن ضمن أجنداتهم – إن جاز التعبير – أو ضمن برامجهم، أن يصيروا أئمة على رأس هرم مُعيَّن وأن يقودوا، أبداً، أبداً!

العالم الرباني الذي يُعنى أولاً بإصلاح نفسه، أكثر ما يعنيه نفسه أولاً، أن يُصلِح نفسه! أن يضمن بطريقة أو بآخرة تزكية هذه النفس، تمهيداً أو مهداً لآخرته، تمهيداً لآخرته! نعم، لمقامه عند الله – تبارك وتعالى -، يعلم أنه ليس له إزاء الآخرين الذين يقتربون من الحق في عقائدهم وأقوالهم ومسالكهم بأنصباء مُختلِفة وبأقدار مُختلِفة، بين مُقِل وبين مُكثِر، وبين مُقترِب وبين مُبتعِد، يعلم أنه ليس له عليهم وإزاءهم إلا ماذا؟ النُصح والوعظ والتذكير والتبيين والأمر والنهي، فقط. وهو ليس وكيلاً على العباد، وليس وصياً عليهم وعلى ضمائرهم وعلى مسالكهم، وليس وكيلاً عن السماء أيضاً إزاءهم. يعلم هذا! ولذلك كانوا يتسمون بهذه الربانية وبهذا التواضع الجم.

لكن لم تكن الحالة مع الجميع هي هذه الحالة، هناك أُناس كثيرون وطوائف مُختلِفة، اشرأبت أعناقها إلى أهداف وغايات مُتباينة، تُغاير هذه الغاية، وهي إصلاح الناس، إصلاح عقائد وقيم ومُثل ومسالك الناس. لا! هذا لم يكن يعنيهم، الذي عناهم بدرجة أولى أن يُصيبوا الحُكم والسُلطة.

المأزق أو المُشكِلة في السياق الإسلامي يا إخواني عبر القرون الخوالي كلها، أن السُلطة الزمانية – سُلطة الكُرسي، السُلطة السياسة – كانت مُندمِجة إلى حد بعيد بالسُلطة الروحية، أو بالمعنى الروحي، أي بالدين. وهو المعنى الذي أبدأ وأعاد فيه كثيراً العلّامة عبد الرحمن ولي الدين بن خلدون – رحمه الله تعالى -. هكذا! السُلطة تنشأ دائماً بوازع ديني، بدباجة دينية، بتبرير ديني، بمعنى ديني، هكذا في عالم المُسلِمين.

ولذلك أولئكم الذين نابذوا وناكروا ونازعوا السُلطان سُلطانه، إنما عمدوا أولاً إلى العبث بأصول ماذا؟ بأصول الدين. هذا ما فعله القرامطة، وما فعله الإسماعيلية، والحشاشون المُنبثِقون من الإسماعيلية بعد ذلك، وكل الفرق المعروف درسها، ومعنى درسها في تاريخ المُسلِمين. عبثوا بالعقائد، بالدين! لأن الدين إذا انحلت عروته، يُمكِن بعد ذلك ضرب ماذا؟ الوحدة السياسية، المعنى السياسي. وهذا الذي حصل، ونجحوا وأصابوا حظوظاً مُتفاوِتة من النجاح عبر القرون، ويكفيك أنهم أنشأوا خلافات دامت قروناً، دامت قروناً!

فالقرامطة فتنتهم امتدت لأكثر من مئة سنة، والحشاشون أكثر من مئة وخمسين سنة، والفاطميون حكموا زُهاء أربعة قرون إلا قليلاً، وخلونا نقول ثلاثة قرون ونصف القرن. نجحوا! وهذه الأمثلة الفاقعة، هناك أمثلة كثيرة غير هذه الأمثلة في تاريخ المُسلِمين.

لماذا هذه الخُطبة؟ هذه الخُطبة لتقول يا إخواني علينا أن نستلهم درس التاريخ. كما تعلمون ربما لا تُوجَد على وجه الأرض أمة تعيش في التاريخ وفي الماضي كالأمة المُسلِمة اليوم، لكن وبكل تواضع وبكل ألم أيضاً وحسرة يُمكِن أن يُقال لا تُوجَد أيضاً أمة على وجه الأرض لم تتعلَّم من تاريخها ولم تستلهم التاريخ كهذه الأمة، فهي لا تزال تدأب تُعيد نفس الأخطاء والخطايا، لم تتعلَّم شيئاً من أخطائها وخطاياها، وهذا شيء مُحيِّر حقيقةً، هذا شيء مُحيِّر!

لماذا أقول هذا؟ أقول هذا لأن هناك درساً ينبغي أن نتعلَّمه جيداً، وأن نقف عنده طويلاً. العمل للإسلام، العمل لإصلاح أوضاع المُسلِمين، لا يقتضي ولا يستلزم وليس يصح أن يسلك هذه الخُطة – أقول هذا بين قوسين – (الملعونة)؛ خطة العمل السري المُستخفي التراتبي التنظيمي، بكل غوائله وبكل عقابيله وبكل دسائسه، هذه ليست خُطة أئمة المُسلِمين ولا ربانيي المُسلِمين ولا علماء المُسلِمين، من الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين وأئمة الهُدى إلى اليوم، لم تكن هذه خُطتهم! لكن هذه بصراحة عبر التاريخ كانت خُطة الباطنية، القرامطة، الحشاشين، وأمثال هؤلاء، نعم! وأثَّرت في الواقع الإسلامي كثيراً، تأثيرات سلبية قاتلة، ضربت الأمة والدين في مقاتل، بل إن تأثيرها امتد إلى القارات الأُخرى، وقد تعجبون، إذا علمتم أن تأثير هذه الفرق موجود إلى اليوم في طوائف مُنتشِرة عبر العالم، في رأسها الطائفة أو الجمعية السرية المشهورة بالماسونية، هناك الــ Freemasons، أي البناؤون الأحرار، هؤلاء مُتأثِّرون بالحشاشين، بالإسماعيلية، عن طريق تأثرهم بفُرسان المعبد. وفُرسان المعبد ثابت في تواريخ غربية كثيرة تأثَّروا كثيراً بالإسماعيلية الحشاشية، أو الإسماعيلية النزارية. والعالم يُعاني من هذه الفرق ومن تخريبها ومن دسائسها ومن مُؤامراتها إلى اليوم!

وللأسف هناك أيضاً حركات وتنظيمات إسلامية – أقول هذا بين قوسين – (تدّعي – هكذا هي تُظهِر – أنها تُريد خدمة الإسلام وخدمة المُسلِمين وخدمة الأمة وخدمة الدين)، أخذت هذه الخُطة نفسها، وتأثَّرت بالبرنامج نفسه، وبالأسلوب التنظيمي التراتبي نفسه، وأيضاً ضُربت بالأمراض ذاتها، بالأمراض اللعينة ذاتها! مما أثَّر تأثيراً كبيراً على واقعنا، أمةً وديناً، عقلاً وعاطفةً، مسلكاً واعتقاداً! وهذا شيء خطير، لا ينبغي له أن يستمر، وينبغي كشف الستر عنه وكشف النقاب عنه، وأن نتحدَّث بوضوح.

طبعاً يا إخواني من باب الإنصاف، لا بد أن نذكر ما يعتل به هؤلاء وما يحتجون به أو يتذرعون، يقولون يا أخي لا بد أن نعمل عملاً يتسم في جُزء منه بالسرية والخفائية، لماذا؟ قالوا لأن النبي فعل هذا، ولنا في رسول الله الأسوة الحسنة والقدوة المُثلى. أليس كذلك؟ الرسول! الرسول ظل – عليه الصلاة وأفضل السلام وآله – ثلاث سنوات مُستخفٍ بدينه، وكذلك أتباعه وأصحابه، في المُختبأ الشهير، في دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين، أصحاب رسول الله -.

قالوا لكم النبي فعل هذا. وهذا كان أولاً! القرآن نفسه قال وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ ۩، في سورة غافر (المُؤمِن). فهذا هو، القرآن تحدَّث عن الكتم، والله – تبارك وتعالى – يقول لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ۩، الله يُعلِّمنا التقية، يُعلِّمنا العمل السري، العمل الاستخفائي التحجبي، الله يقول إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ۩.

وهذا تدليس على الناس، ولعب بمعاني النصوص ومعاني الأحداث والسيرة الشريفة. غير صحيح! هذا لا يشهد لهم، وليس فيه أدنى حُجة، لماذا؟ لنكن واضحين.

أولاً أما أن الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – استخفى بمَن معه، بدينهم وإيمانهم في دار الأرقم، في أول مبدأ أو مطلع الدعوة، فهذا حق، هذا حق ولكن ليس على طريقة الجمعيات السرية الباطنية، التي تستخفي بهدف ماذا؟ بهدف انتظار الساعة الموعودة، حيث وإذ تُناجِز المُجتمَع أو السُلطة القائمة وتضرب ضربتها، أبداً، أبداً!

ما فعله النبي وأصحابه أنهم كانوا مُجرَّد بذرة، بذرة ضعيفة مُستوحِشة غريبة، أُريد لها أن تأخذ فُرصتها في أن ترى النور، أن تنبت قليلاً، ولذلك القرآن شبههم هذا التشبيه في آخر سورة الفتح، مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ ۩، نعم! حين ضرب المثل الزرعي الشهير، هناك المثل الزرعي الشهير، نعم! جميل، ولذلك لو علم هؤلاء الطواغيت، سدنة الشرك والوثنية، بهؤلاء في أول أمرهم، لما أُتيحت فُرصة لهذه البذرة أن ترى النور أصلاً، ولانتهى الأمر في مكانه.

ولذلك بعد ثلاث سنوات فقط، الله نفسه – تبارك وتعالى – هو الذي اختار لهم خُطة الصدع وخُطة الاستعلان بالدين والدعوة والإيمان، بين قوم مُشرِكين كافرين. وهذه مُهِمة جداً، ضعوا تحتها عشرة خطوط حُمر. فقال – تبارك وتعالى – وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ۩، وثبت في الصحيح كيف صعد الصفا وقال ما قال، ثم قال له عمه أبو لهب الآتي. وبين قوسين أقول (في الخُطبة الأخيرة بعض الناس علَّق، وعلَّق مرة ومرتين وثلاث؛ كيف تتكلَّم عن عم النبي، وهو في باله أنني أتكلَّم عن أبي طالب، وأنا لا أتكلَّم إلا عن أبي لهب، المذكور في القرآن الكريم، تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ۩، هذا عم النبي الذي هلك، وتبت يداه في الجحيم مُخلّداً. المُهِم هذا هو على كل حال) قام أبو لهب، وقال له ألهذا جمعتنا مُذ اليوم، أو مُذ الصباح؟ تباً لك. فأنزل الله تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ۩، تبت يداك أنت، أي هذا البعيد.

فكانت هذه البداية، وبعد بضعة أيام نزل قوله – تبارك وتعالى – من سورة الحجر، وهي مكية، فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ۩، اصدع! الدين يقوم على الصدع والبيان والاستعلان، وليس الاستسرار والاستخفاء دائماً، إنما هذا الاستخفاء للمعنى الذي ذكرت قُبيل قليل، لا للمُناجزة، لا للمُناجزة! والنبي لم يُناجِز في مكة، وأبى أن يُناجِز أصلاً، النبي حتى في المدينة أبى خُطة الفتك وخُطة الاغتيال وخُطة المُنازَعة والمُناجَزة بخفاء وبليل، أبى! هذا ليس من الإسلام في شيء، والإسلام – كما قلت لكم – دين الوضوح.

المُسلِم ما ثمة مسافة بين ظاهره وباطنه، المُسلِم الكامل، المُسلِم الحق! على الأقل إذا تعلَّق الأمر بماذا؟ بشؤون الدين والاعتقاد. ولا أتحدَّث عن الأسرار الشخصية وربما بعض البوائق الذاتية، لا! أتحدَّث عما يتعلَّق بالدين وشؤون الدين. لا مسافة بين القول وبين ماذا؟ وبين الاعتقاد. وإلا كان مُنافِقاً – والعياذ بالله -، المُسلِم واضح، ما يعتقده يقوله، وقد يجتهد في بعض فروع الاعتقاد والدين – إن كان عالماً وله حق النظر في أدلة المسائل – ويُخطئ، لا بأس! ولكنه لا يستخفي، وهو شجاع، المُؤمِن شجاع وواضح، تعلَّم هذا من الأنبياء، لكي يكون مُستبصِراً وعلى بصيرة.

ولذلك هذا الدين أيضاً إذ يخوض معركته مع سدنة الشرك والوثنية الذين أبوا عليه حُرية الدين والاعتقاد، أبوا عليه أن يُعطى فُرصةً في الوجود والحياة، أيضاً حرَّم الفتك وحرَّم الاغتيال. وقتادة ذكر هذا، كما ذكره غير مُفسِّر من المُفسِّرين. أبى النبي على مَن أراد من شجعان أصحابه ومُتحمِّسيهم أن يدهموا بعض كُبراء مكة في بلداتهم ليلاً، قال لا، الإسلام ليس هكذا، الإسلام لا يغدر، الإسلام لا يفتك.

ولذلك روى الإمام أحمد في مُسنَده، على الأقل في ثلاثة مواضع، أن رجلاً قال للزُبير بن العوام – رضيَ الله عنه وأرضاه – الآتي، والزُبير أحد العشرة، هو أحد العشرة وهو حواري رسول الله، ابن عمته! وكان ما تعلمون من نزاع بينه وبين الإمام عليّ – كرَّم الله وجهه -، حتى انتهى الأمر بوقعة الجمل، فيها طلحة والزُبير وعائشة – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين -، الفتنة الشهيرة المعروفة! فجاء أحدهم إلى الزُبير، وقال له أقتل لك عليّاً؟ قال لا. أول ما قال له هكذا، بادهه بالجواب، قائلاً لا. لكن أنت في حرب معه، هذه معركة، وعليّ قد يقتلك، عليّ من الشجعان، بل أشجع الشجعان وأفرس الفرسان، لا تُوجَد فُرصة لأن تُنازِل عليّاً وتنجو!

قال له أنا أقتله لك، أنا أُخلِّصك من عليّ. قال له أقتل لك عليّاً؟ قال لا. ثم قال وكيف تقتله وهو بين رجاله وجُنده؟ قال أتبعه، ثم أفتك به. أي غيلةً، أي غدراً، أي أُظهِر له أنني ربما من جماعته ومن أنصاره، وأنني ربما حتى ضمن مُحبيه وشيعته، وبعد ذلك إذا واتتني فُرصة طعنته من الخلف. قال لا، قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – الإيمان قيد الفتك، لا يفتك مُؤمِن. هذا الزُبير، الله أكبر! هذا الحديث الذي أثارني فيه يا إخواني وهز أعطافي – فعلاً هؤلاء تلاميذة النبوة، يقولون لكم تلاميذ النبوة. هؤلاء تلاميذ النبوة، رضيَ الله عنهم وأرضاهم – أن إيمانه عزيز، إيمانه غالٍ، أغلى حقاً من حياته، وليس كلاماً وكذباً، حقاً إيمانه أغلى من حياته، وبما أن النبي قال الإيمان قيد الفتك، لا يفتك مُؤمِن، فإن تحققت بالإيمان وصح أنك مُؤمِن حقاً، فلن تغدر، لن تغتال، لن تفتك، لن تقتل مَن يُعطيك الإيمان، لن تقتل مَن هو منك في ظنه عند نفسه في مأمن، ثم تغتاله؟ لا تفعل هذا أبداً.

ولذلك أنا أُشجِّع مذهب المالكية، ومُرتاح إليه جداً. مذهب المالكية أن الذي يغتال – قتل الغيلة – لا يُعفى عنه. لا عفو كما قال ابن أبي زيد القيرواني في الرسالة، قال وقتل الغيلة ليس فيه عفو، وإن كان القاتل مُسلِماً والمقتول كافراً – رضيَ الله عنه -. هذا مذهب المالكية، قتل الغيلة لا عفو فيه. أي لا يستطيع أولياء الدم أو أهل المقتول أن يعفو، لا! لا يُوجَد عفو، أنت تأخذ أخي أو تأخذ ابني أو تأخذ أي مواطن، تقول له – مثلاً – هيا نذهب إلى النُزهة الفلانية. حتى إذا انفردت به، قتلته. أو تأخذه في بيتك، وتضع له مُخدراً ثم تخنفه أو تسممه، قتل غيلة! قتل جبان. أو تجعل نفسك في حراسته، ثم تستل خنجراً وتطعنه أو تُطلق عليه النار، أو تأتي تُكبِّر معه في المسجد، وتُفجِّر نفسك، أيها الجبان! هذا قتل غيلة، قال المالكية لا عفو فيه. ليس لأولياء الدم أن يعفو، وليس للسُلطان أن يعفو. إذن هو ليس ماذا؟ قصاصاً. هو حد، ولذلك المُغتال يُقتَل حداً، ولا يُقتَل قصاصاً، لأن القصاص فيه العفو وفيه الصُلح وفيه الدية، وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۩، إلا أن السادة المالكية – حياهم الله وبياهم – خصوا قتل الغيلة بمكان، بهدف وغاية أخذ المال، فإن لم يكن كذلك، أُلحِق بالقتل العمد، وفيه القصاص، والقصاص فيه العفو والصُلح والدية، وكل الأشياء.

بعض مُجتهِدي الحنابلة الآن في المملكة السعودية أيضاً لا يعفون عن المُغتال، ولم يُخصِّصوا الغيلة بما خصَّصها به السادة المالكية، قالوا لك لا، هذا يعمه كله، أي غتيال! تقتل مَن يكون منك في مأمن! هذا اغتيال، وليس فيه عفو، لا السُلطان يعفو عنك ولا أهل الدم. وهذا الصحيح، وهذا الذي نُرجِّحه ونرتاح إليه، عقاباً لهؤلاء الجُبناء.

أكثر فرقة اغتالت في الإسلام هي فرقة الحشاشين، هذه الفرقة كانت تقوم بالاغتيالات، جماعة الحسن بن عليّ الصبّاح. الحسن بن عليّ الصبّاح صاحب قلعة ألموت، قلعة ألموت وليس الموت، ألموت! في شمال فارس. السلاح الماضي الذي أشهروه في وجوه أعدائهم وأثاروا الرعب والفزع في قلوبهم سلاح الاغتيال، الاغتيال السياسي! ولا يغتالون الناس العاديين، يغتالون الناس المُهِمين، أول ضحاياهم نظام المُلك – رحمة الله عليه -، الوزير السلجوقي العظيم، وزير ملك شاه بن قلب أرسلان، نعم قتلوه غيلةً، وأمر بقتله مَن كان زميله في الدراسة، وهو هذا الملعون، الحسن بن عليّ الصبّاح كان زميله، وفي بداية عهد الحسن بن الصبّاح اشتغل في بلاط ملك شاه مع نظام المُلك – رحمة الله عليه، أي على نظام المُلك، ولعن الله بن الصبّاح، أي هذا اللعين الحشاش -.

وإلى الآن في اللُغات الأوروبية إذا تكلَّموا عن السفاكين والسفاحين – أي الــ  Thugs – والخناقين، يقولون ماذا؟ الـــ Assassins. هذا هو، الحشاشون! الـــ Assassins هم الحشاشون، أي قيل هي ترجمة للحشاشين، لأن أسلوبهم الاغتيال. ولا يُوجَد في الإسلام اغتيال، هذا في الإسلام مرفوض بتاتاً، الإيمان قيد الفتك، لا يفتك مُؤمِن. لا يفتك مُؤمِن! ثم خُطة المُؤمِن – كما قلت لكم – مبنية على ماذا؟ على الاستعلان، وليس على الاسترار والاستخباء والتخفي.

إذن لا حُجة في قضية ماذا؟ دار الأرقم بن أبي الأرقم. لماذا؟ لأنه نبي وأصحابه – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – يستخفون ببذرة الإيمان لا للمُناجَزة، وإنما لترى هذه البذرة النور فقط، حتى إذا رأت النور، أُمِروا بالصدع والمُعالَنة، أُمِروا بالصدع والمُعالَنة! فنزل بعدها قوله – كما قلت لكم – من سورة الحجر فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ۩، قال له فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ۩، فجعل النبي يصدع.

الآن – انتبهوا، هنا تكملة المسألة – بعد أن صدع، ما الذي حصل؟ حصل – كما نعلم جميعاً مُذ كنا صغاراً حين دَرسنا ودُرسنا السيرة – الابتلاء، ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ ۩, ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ ۩! عمّار وأم عمّار وأبو عمّار (ياسر) وبلال وزنيرة، وكل هؤلاء المساكين ابتُلوا، كان الاضطهاد والتعذيب والقتل والتهجير. الآن الظرف كان أنسب ما يكون للـ… ماذا؟ للعمل السري. هل عمل النبي عملاً سرياً؟ أبداً، ظل يدعو في العلانية، ظل يدعو في العلانية! ويأمر بالصبر، وينهى عن المُناجَزة. يا رسول الله مُرنا – شباب! شباب وعندهم روح فدائية -، يفعلون بنا هذا؟ نحن أيضاً نُحِب الموت، كما يُحِبون هم الحياة. نحن نستطيع أن نُباغِتهم وأن نفعل فيهم الأفاعيل. يقول لا، لم أؤمر بهذا، أُمِرت بالعفو، أُمِرت بالصفح، وَقُلْ سَلَامٌ ۩. ويضرب لهم الأمثال بمَن اضطُهد وابتُليَ من أتباع عيسى المسيح، الذين يُنشَرون بالمناشير، ما بين اللحم والعظم، ما يُثنيهم ذلك عن دين الله. وأين العمل السري؟ لا يُوجَد عمل سري، علانية!

وبقيَ – عليه الصلاة وأفضل السلام – يتحمَّل المرائر ويتجرَّع المصاعب والعذابات عشر سنوات بعد ذلك. أي هناك ثلاث سنوات في الاستسرار، وهناك عشر سنوات في العلانية المُبتلاة، وبعد ذلك هناك الهجرة، ترك لهم الجمل بما حمل وهاجر مع أصحابه الذين اتبعوه وآمنوا وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْـزِلَ مَعَهُ ۩ إلى المدينة المُنوَّرة – على مُنوِّرها ألف مليون تحية وسلام -. هذه خُطة النبي، أين العمل السري؟ أين العمل السري يا إخواني؟

قالوا لكم الله قال إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ۩. وأيضاً هذه مسألة أُخرى، وتذكَّروا الخطوط الحُمر العشرة.  حتى لو تحدَّثنا تنازلاً وتعابطاً عن مسألة عمل سري، نقول سري مِمَن؟ وإزاء مَن؟ مِن نبي وأصحابه المُؤمِنين الأوائل، إزاء مُجتمَع كافر مُشرِك وثني، لا يُؤمِن بالله إلهاً واحداً، وإنما يُؤمِن بالتعددية والوثنية، ويُعاقِب على التوحيد ويستنكره. هل هذا واضح؟ هل هذه الحالة مُتحقِّقة في ديار المُسلِمين؟ اللهم إن هذا كذب، ونُشهِدك أنه كذب وافتراء، لأن بلاد المُسلِمين مهما كان فيها من تحلل ومن فساد، إلا أنها بلاد التوحيد والإسلام، لا يزال الناس – كل الناس، ما عدا شذوذ لا يُؤبه بهم – من أهل لا إله إلا الله، محمد رسول الله. وأنا أتحدَّث عن المُسلِمين طبعاً، هم من أهل لا إله إلا الله، محمد رسول الله، والمساجد عامرة، والبيوت تُقام فيها الصلوات، ورمضان يُصام في كل عام يا إخواني، وحفظة القرآن بالملايين في بلاد المُسلِمين، في الشرق والغرب، والبيت لا زال محجوجاً معموراً بالحجات والعمرات باستمرار، أليس كذلك؟ فمن أين هذا؟ من أين أن الأمة كفرت والأمة في جاهلية؟

ولذلك – انتبهوا إلى هذا – لكي يُنظَّر لهذا الفكر والعمل السري والعمل الاستخبائي، كان لا بد أن يكون هؤلاء المُنظِّرون مُتسقين مع أنفسهم، وقد اتسقوا، فحكموا على المُجتمَع بماذا؟ بالكفر. بل بالغوا وقالوا هذه المُجتمَعات الإسلامية تعيش جاهلية أبشع وأشنع وأشد من الجاهلية الأولى. وأنا أقول وأنا على منبر رسول الله أشهد بالله أنهم غلطوا. لن أقول كذبوا، ولكن غلطوا غلطاً مُبيناً، والله هذا غلط، وكلام غير صحيح، ومُناقِض للنصوص الثابتة عن رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -.

هناك نصوص كثيرة مُستفضية، أفادت أنه لا يخشى على أمته الشرك بعده، وإنما يخشى عليه هذا الذي أحدثه هؤلاء وأمثالهم، ماذا يخشى؟ يخشى النزاع بين المُسلِمين، أن يُبغِض بعضهم بعضاً، وأن يُنازِع بعضهم بعضاً، وأن يُكفِّر بعضهم بعضاً، وأن يقتل بعضهم بعضاً. وهذا الذي حدث! أما أن الأمة تكفر وتخرج من التوحيد إلى الوثنية والجاهلية والكلام الفارغ هذا فلا، هذا كلام إنشائي – والله العظيم -، وليس كلاماً علمياً، وليس فيه من الحقيقة لا كثير ولا قليل.

طبعاً أيضاً ولكي يتسقوا مع أنفسهم، قالوا الآتي، لأن هناك اعتراضاً كان سيُشهَر في وجوهههم، وقد شُهر، ما هو؟ يا سيدي الأمة ليست اليوم فقط بعد أن ذهبت خلافتها وغربت شمس دولتها الواحدة، فيها فساد وتحلل وعدم تحكيم بعض الشرائع الإلهية، وخاصة في الحدود، لا! الأمة من مئات السنين، من أيام بني أُمية، وبني العباس، ومَن تلا، فيها هذا التحلل وهذا الفساد وهذا الظلم وهذا التهتك. ولذلك هؤلاء المُنظِّرون – وأنتم تعلمون مَن أقصد، هذا معلوم – ذهبوا مرة أُخرى لكي يتسقوا وقالوا الآتي. جميل! هذا شرط الاتساق النظري، مَن يُريد أن يبني نظرية، لا بد وأن يُحقِّق أولاً شرط الاتساق، وإلا سيكون معنى هذا أن هذه ليست نظرية، مُجرَّ ركام من الأفكار الفارغة، غير المنظومة في نظام واحد. فماذا قالوا؟

قالوا لكم هذا صحيح، باستثناء الخلافة الراشدة. وليس هذا فحسب، لأن هناك اعتراضاً، سيُشهَر أيضاً اعتراض آخر، وهم يعرفونه، قالوا لكم وليس كل الخلافة الراشدة. وهي امتدت كم؟ كم امتدت الخلافة الراشدة؟ هل امتدت لأربعمائة سنة؟ امتدت لأربعين سنة. والنبي قال الخلافة بعدي أربعون، ثم تكون مُلكاً عاضاً، وفي رواية ثم يُؤتي الله المُلك مَن شاء. نعم! فقالوا نعم، هذا صحيح، خلافة أبي بكر وعمر، والعشر سنوات الأولى فقط من خلافة عُثمان. وسكتوا عن خلافة عليّ، لأن فيها نزاعات وحروب أهلية طاحنة. أهذه فقط؟ قالوا لك هذه هي، هذه الفترة التي تُمثِّل لنا الصفحة المُضيئة في تاريخنا والإسلام الحق الذي طُبِّق. وما عدا ذلك يا إخواني؟ ما عدا ذلك أيها المُفكِّرون العظام؟ قالوا لكم غاب الإسلام عن الوجود. هذه هي! هذه مُصطلَحات، قالوا لكم فُقِد الإسلام من الوجود. ما المُصطلَحات الإنشائية هذه؟ أهذا علم؟ أهذا فقه؟ أهذا تفسير؟ أهذا تأويل للكتاب والسُنة؟ ما اللعب بالدين هذا؟

وهناك سخرية، يسخرون من علماء الأمة ومن تراث الأمة، وقالوا لكم حتى التراث (تراث الأمة عبر القرون) لا يخلو من أقذاء وأقذار جاهلية كثيرة، مُتأثِّر بالجاهلية! طبعاً لأن الأمة كلها في جاهلية، والعلماء في جاهلية، والحكام والدنيا كلها في جاهلية. ما شاء الله، ما أشد فرحة الملاحدة والمُشكِّكين وأعداء الدين بمثل هذا التفكير الإسلامي الأصولي! سوف يقولون لكم فما هذا الدين، وما هذا النجاح الذي تتحدَّثون عنه، وهذا الدين لم يُصب نجاحاً إلا في نحو ثلاثين فقط؟ ليس الأربعين التي تحدَّث عنها النبي فحسب، هم قالوا لكم لا، نُريد أن نستثني، أي نُريد أن نعمل حسبة جديدة من عندنا. شيء غريب وعجيب يا إخواني! هذا الذي حدث، وطبعاً نتساءل من أين خرجت لنا جماعات التكفير والتفجير والذبح والقتل؟ من هذا الفكر بالضبط يا إخواني، من هذا الفكر! وهذا الفكر الذي كان يعمل أيضاً في السر، وله تنظيماته التي تغتال وتقتل وتُحاسِب بالرصاص. وأين الإيمان قيد الفتك؟ وأين لا يفتك مُؤمِن يا أخي؟ وأين وحدة الأمة؟ بعد ذلك أنت تتحدَّث عن أمة وعن مُجتمَعات كأنها كافرة؟ قال لكم نعم. قال لكم لا بد وأن نكون صريحين، وسنصدم المُسلِمين أو – أقول هذا بين قوسين – (مَن يعتقدون أنهم مُسلِمون) بهذه الحقيقة؛ لستم مُسلِمين، إسلامكم من قديم مفقود، غير موجود في الوجود، تعالوا نُعلِّمكم الإسلام، تعالوا نُعلِّمكم الإسلام من جديد، الإسلام الذي ما تعلَّمه أئمتكم ولا مشايخ مشايخ مشايخ أئمتكم إلى ألف ومائتي سنة وألف وثلاثمائة سنة. الله أكبر يا أخي، أي تفكير هذا؟ أي تطرف هذا؟ قال لكم هذا فكر إسلامي، تنظير إسلامي عظيم، شهداء ذهبوا ضحية هذا الفكر. أي شهادة؟ وأي تنظير؟ وأي عبث هذا الذي جرى بديننا وبأفكار شبابنا وبناتنا؟ وضاعت أجيال كاملة، ضاعت ولا زالت ضائعة – والله العظيم – يا إخواني، بمثل هذا التفكير الخطير، والخطير جداً.

درس اليوم على فكرة الذي أُريد أن أُدلي به هو أن مَن نظر وفكَّر واعتبر، تلفته مشابه خطيرة وحرجة وحسّاسة، بين هذه التنظيمات وبين التنظيمات الباطنية التهديمية عبر التاريخ، في الشرق وفي الغرب، وخاصة في شرقنا العربي المُسلِم، وحتى في الغرب، بما فيها التنظيم الماسوني، فيها مشابه غير طبيعية، مشابه غير طبيعية!

لئلا نُطيل فقط نأتي إلى الذرائع، ثم نذكر مشابه بسرعة، والأمر لا تحتمله خُطبة واحدة ولا ربما حتى مُسلسَل خُطب، الأمر يحتاج إلى دراسات أكاديمية توثيقية دقيقة، تفتح الأعين العُمي وتُسمِع الآذان الصُم وتُفهِم القلوب الغُلف. نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُبصِّرنا وأن يكشف عنا العماية والغشاوة يا إخواني.

إذن لا تستطيع وليس من حقك أن تقيس مُجتمَعات مُوحِّدة مُصلية صائمة قائمة مُؤمِنة على مُجتمَعات الشرك، وتقول النبي استستر، فنحن نستسر هنا. لا! استسر بين مُشرِكين عادوا توحيده، لم يُعادوا برنامجه في إنشاء الدولة، النبي لم يكن لديه بالمرة برنامج لإنشاء الدولة، النبي لو كان براجماتياً ويشتغل بعقلية سياسية وليس بعقلية نبي داع إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ ۩، لاهتبل فُرصة عظيمة حين قالوا له تعال يا محمد، أنت منا وابن أخينا، وأنت حبيبنا، إذا كنت تُريد مُلكاً ملكناك، كان يُمكِن أن يقول لهم نعم، أنا أُريد المُلك. حتى إذا أصاب المُلك، انتهزها بعد ذلك فُرصةً، ووظَّفه واستعمله في فرض ماذا؟ مُعتقَده ورأيه الذي هو حق. لا! النبي لا يُؤمِن بهذه الطريقة، ليس هكذا! هو يدعو إلى الله، والإنسان إذا أراد أن يذهب إلى الله، فلا بد أن يستجيب قلبه قبل ماذا؟ أن يستجيب جسده وبنده. قلب، إيمان! لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ ۩، دين بيان ونور، الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۩.

فالنبي لم يُؤمِن بهذا أبداً أبداً، النبي لم يُرد أن يكون ملكاً، ولم يُرد أن يكون غنياً، ولم يُرد أن يكون عظيماً فيهم. أراد فقط أن يُبلغِّهم كلمة الله، أن يُخرِجهم من ظُلمات الوثنية إلى نور التوحيد، فقط! هذه القضية كلها.

فقال لكم الله قال إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ۩. حتى لا نُطيل ارجعوا إلى أعظم التفاسير الأثرية، تفسير أبي جعفر بن جرير الطبري، شيخ المُفسِّرين. جميل أنه نقل عن عدد من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم آراء في تأويل هذه الآية العظيمة من سورة آل عمران، ومن هذه الأقوال ما نقله عن مُعاذ بن جبل، عالم الصحابة الجليل، ومُجاهِد بن جبر، تَلميذ بن عباس، المُفسِّر العظيم أيضاً. قالا – رضيَ الله تعالى عنهما – إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ۩، كان هذا في جِدة الإسلام، نزلت هذه الآية في جِدة الإسلام. ما معنى في جِدة الإسلام؟ أي والإسلام جديد، طري، مُستضعَف، مُستغرِب، مُستوحِش، مُستغرَب. هذا هو! في جِدة الإسلام. كان الإسلام ضعيفاً، هذا هو!

إذن هو حديث عن ماذا (حديث مُعاذ ومُجاهِد بن جبر)؟ عن مبعث المُتاقاة، أو التقية. ما الذي يبعثك على أن تُتاقي؟ أن تكون مُستوحِشاً ضعيفاً، بين قوم مُشرِكين. قالا – رضيَ الله عنهما وأرضاهما – أما اليوم وقد قويَ الإسلام، فأعز الله المُسلِمين عن أن يُتاقوا عدوهم. لا يُوجَد هذا، لا يُوجَد! قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۩، نحن مُؤمِنون وأنتم كفرة، وانتهى كل شيء، وكل شيء بحسابه، لا يُوجَد إمكانية لأن نقول كلمة الكفر.

لكن جوهر التقية أو ماهيتها (ماهية التقية أو المُتاقاة) ما هي – إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ۩ -؟ أيضاً روى أبو جعفر في تفسيره عن عبد الله بن عباس – رضيَ الله عنهما وأرضاهما -، قال هي أن يتكلَّم بلسانه من غير إيمان قلبه. أي عن ظاهر، لا عن باطن. بتعبير ابن العربي! عن ظاهر، لا عن باطن. يتكلَّم بلسانه، فربما مدح طواغيتهم وأصنامهم، إذا سيم الخسف والعذاب طبعاً، كما فُعِل مع عمّار بن يسار، والحديث مشهور، لا نُطوِّل بذكره، نعم! إذن أن يتكلَّم بلسانه، لا عن إيمان قلب، لا عن إيمان قلب!

ولا يقتل، ولا يأتي إثماً. إثم في حق بعض الناس، مثل زنا، اغتصاب، قتل. لا! كلام باللسان، هذا مُمكِن، نعم! اللات والعزى – والعياذ بالله – كذا وكذا. لا تُوجَد مُشكِلة، محمد البعيد كذا وكذا. طبعاً هذا تحت التعذيب والتهديد بأشياء فظيعة، قال هذه التقية. لكن واضح أنها ماذا؟ تقية من مُسلِمين مُؤمِنين صادقين. لمَن؟ لكفار مُشرِكين، يعادون التوحيد والدين، يعادون الله والنبي محمداً. هذه التقية، وليست تقية في مُجتمَع مُسلِم، من مُسلِم لمُسلِم، بحُجة أننا ماذا؟ قد نُدهَم، وقد كذا. والهدف كله ما هو؟ الهدف كله تغيير نظام سياسي. العب السياسة بالسياسة يا أخي، لِمَ تُقحم الدين؟ لِمَ تلعب بالدين أنت، وتُشوِّه الدين، وتُؤوِّل الآيات على غير تأويلها؟ ويضطرك هذا – كما قلت قُبيل قليل – لتحقيق شرط الاتساق، أن تحكم على الأمة بالكفر والردة والجاهلية، وتفتح عليها أبواب جهنم، من جماعات التكفير وجماعات التفجير والقتل. نعيش هذه اللعنة إلى اليوم يا إخواني والله العظيم! كلما خبت نارها، اشتد أوارها، بتزكية جديدة، من الفكر نفسه، من المعين نفسه. إلى متى سنظل هكذا؟ يجب أن نكون واضحين وحاسمين، لا نُجمجم ولا نتردد، يجب أن يُقال للصح صح وللغلط غلط، هذا ليس ديننا، وهذا لا يُعين عليه لا كتاب ولا سُنة.

الأعجب من هذا يا إخواني أن النبي نفسه – صلوات ربي وتسليماته عليه، مُعلِّم الناس خير، ما ترك شيئاً يهدينا وينجينا إلا دلنا عليه، وأصل هذا المعنى في الصحيحين، على كلٍ هذا هو – يقول الآتي، فيما يرويه الإمام ابن حبان في صحيحه وأبو بكر البيهقي وغيرهما. يقول عبد الله بن عمر – رضيَ الله تعالى عنهما وأرضاهما – أتاه رجل أعرابي، فقال يا رسول الله أوصني. يستوصي الرسول، أوصني. قال تعبدُ الله – ولو نصبت يجوز، أي تعبدَ الله، يجوز أيضاً – ولا تُشرِك به شيئاً، وتُقيم الصلاة، وتُؤتي الزكاة، وتحج وتعتمر، وتسمع وتُطيع – انتبهوا إلى هذا الآن، هذا آخر الحديث -، وعليك بالعلانية، وإياك والسرَ. الله أكبر!

وعليك بالعلانية، وإياك والسرَ. النبي هنا يفتح باباً كبيراً، لذلك روى ابن أبي عاصم في كتاب السُنة وغيره عن عمر بن الخطاب أن رجلاً استوصاه، فأوصاه بالوصاة ذاتها، هذه الوصاة – أي الوصية – ذاتها، هذه الوصاة ذاتها! فقال له وعليك بالعلانية، وإياك والسرَ، وإياك وما يُستحيَ منه. الذي إذا ذُكِر ونُشِرَ، فضحك. إذا لقيت الله، فقل له عمر أوصاني بهذا. الوصية نفسه! عليك بالعلانية. أمر المُؤمِنين مبني على ماذا؟ على العلانية. المُؤمِن ليس ذا وجهين، وليس ذا لسانين، وليس ذا برنامجين: برنامج للظاهر وبرنامج للباطن، لسان للظاهر ولسان للباطن، ووجه للظاهر والإعلام والناس ووجه للباطن.

جلست مرة مع أحد هؤلاء – وهو زارني في بيتي، قبل زُهاء ربع قرن – ودار حديث، فقال لي يا أبا محمد أنت تعرف – هذا بمعنى الكلام – البئر وغطاه، نحن نفعل هذا ريثما تواتينا فُرصة، ولو واتتنا فُرصة، أياً كانت، اهتبلناها ووصلنا إلى الحُكم، بانتخابات أو بغير انتخابات، باغتيالات أو بغير اغتيالات. قلت له لا. والله في بيتي قلت له لا، عفواً، أنا أُخالِفك تماماً، خُطتي لا يُمكِن أن تكون هذه الخُطة. ودار حديث، هو هذا، هو هكذا! هذه الحقيقة، هذه هي الحقيقة، هناك وجهان!

ولذلك روى الإمام البخاري في صحيحه من حديث أبي هُريرة – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين -، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – تجدون من شر الناس عند الله يوم القيامة ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه. أنت لا تفهمها فقط على أنها مُستوى الفرد البسيط، أي واحد يُنافِق واحداً، لا! على كل المُستويات، المُؤمِن ليس له وجهان، عليك بالعلانية، وإياك والسرَ. قال وإياك والسرَ. ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيهاً. يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام -.

وهناك حديث أبي داود أيضاً، أعتقد من رواية – اللهم صل على سيدنا محمد – ربما أبي سعيد، نعم! قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – كفى بك خيانةً أن تُحدِّث أخاك بحديث، هو لك به مُصدِّق، وأنت له به كاذب. تُعطيه تصريحات وكلاماً ووعوداً وبرامج، وهو يُصدِّق، وأنت في الحقيقة تكذب عليه! برنامجك وخُطتك وأجندتك وأهدافك غير ما قلت، ولكن ما الحيلة؟

هذه طريقة الجماعات السرية والباطنية، من أيام القرامطة والحشاشين، الطريقة نفسها! الذي يُقال للعامة لا يُقال للخاصة أتباع التنظيم، في الأخوية، أي في الــ Brotherhood، في الأخوية أو في التنظيم أو في الجماعة أو في الجمعية، أبناء المحفل أو أبناء الشيطان، أياً كان! الإسلام ليس فيه هذا أبداً.

ولذلك أختم الخُطبة الأولى بأثر جليل، عن عمر بن عبد العزيز – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – وهو الراشد الخامس، ماذا قال عمر فيما يرويه عن الإمام أبو عمرو بن الأوزاعي، وفيما أخرجه الإمام الدارمي وغيره؟ قال عمر بن عبد العزيز إذا رأيت قوماً يتناجون في دينهم، من دون العامة – أي يجلسون وحدهم ويتكلَّمون، هناك برامج تتعلَّق للدين، العمل للدين ولنُصرة الدين، ولكن هذا الكلام يجب أن يكون سرياً بيننا، لا يسمعه الآخرون، هذا لنا فقط، هذه ليست خُطة أبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم، أبداً أبداً أبداً! كلامهم كان في الكُتب وفي القلب وفي اللسان، وهو الشيء نفسه، الشيء نفسه! ولا يُوجَد غير هذا، أما كلام هؤلاء فيختلف، وعمر بن عبد العزيز واضح -، فاعلم أنهم على تأسيس ضلالة. الله أكبر! الدين ليس فيه أسرار، ليس فيه هذا، لماذا هذا؟ أنتم تستسرون بماذا وأنتم جالسون؟ الأمور واضحة. قال فاعلم أنهم على تأسيس ضلالة.

نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يهدينا بهداياته العامة، وبخواص هداياته، فلا نضل ولا يغضب، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

 

الخُطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

أما بعد، إخواني وأخواتي:

ربما في دقيقتين أو ثلاث دقائق فقط أذكر المشابه التي أردت أن تكون درس هذا اليوم، على أن أُفصِّلها ربما في درس بعد صلاة الجُمعة – إن شاء الله تعالى -.

مَن قرأ تاريخ الجماعات الهدّامة والسرية في الشرق والغرب – على الأقل كما قلت يقرأ تاريخ الحشاشين وتاريخ الماسونية، والكُتب كثيرة جداً عن الماسونية، بكل لُغات العالم -، رأى أن هناك مشابه لافتة جداً جداً بين كل التنظيمات السرية الهدّامة هذه، ذوات الأجندات الخفية.

أولاً السرية، عامل السرية! وطبعاً لا يخفاكم أنه في جو السرية تنمو كل الرذائل العقدية والخُلقية والمسلكية، وهذا الذي حدث مع الجميع، هذا يحدث مع الجميع! لأن هذا جو سرية، يتعفَّن الشيء ويتأسن، بخلاف الشيء الذي يظهر للنور والتداول.

ثانياً التركيز على الشيخ، على الأستاذ، على الإمام. ولماذا أقول الشيخ؟ لأن كان زعيم الحشاشين اسمه شيخ الجبل. رئيس القوم اسمه شيخ الجبل، هكذا كان هذا، لم يكن اسمه الأمير ولا السُلطان ولا الخليفة، قال لكم أنا شيخ الجبل. هذا الحسن بن عليّ الصبّاح – لعنه الله -، قال لكم اسمه الشيخ. هناك تركيز رهيب عليه، وهناك المُبالَغة والتهويل في قيمته ومزاياه وخصائصه، وأن لديه من العلوم كذا وكذا، ومن علوم الخفاء ومن القدرة ومن الكاريزما Charisma، أي سيصير شيئاً كبيراً، وقد يكون شخصاً سفّاكاً قاتلاً أثيماً مُجرِماً، فقط! هذا هو فقط، ولكنهم يجعلونه شيئاً كبيراً، ولم يبق لهم إلا أن يقولوا صلى الله عليه وسلم.

إذن يتم التركيز على الإمام أو الشيخ أو الأستاذ، ولماذا قلت الأستاذ؟ لأن زعيم المحفل اسمه الأستاذ على فكرة، مَن يسمع بالماسونية، يعلم أن الماسونية عندها ثلاث درجات أساسية فقط: درجة الصبي، والصبي هذا الذي يُريد أن يتعلَّم المهنة. بعد ذلك درجة الزميل، في المهنة. وبعد ذلك درجة الأستاذ. وأعظم أستاذ في المحافل الماسونية الأستاذ الأعظم. وعلى فكرة مُصطلَح أستاذية العالم مُصطلَح ماسوني، فانتبهوا! القضية خطيرة، ومكتوب في الأدبيات الماسونية أستاذية العالم، والأستاذ. شيء مُخيف! لكن طبعاً المحفل الإسكتلندي فيه ثلاث وثلاثون درجة، بعض المحافل على الأقل في أدبياتها عندها ألوف الدرجات، لكن هذه الدرجات الثلاثة، والحشاشون عندهم درجات، سأشرحها – إن شاء الله – في الدرس، عندهم درجات سبعة وسأشرحها، وهكذا!

فعندهم ماذا إذن؟ المُبالَغة في الإمام أو الأستاذ أو شيخ الجبل، إياً كان! والتهويل حوله. وينبني على هذا ادّعاء ماذا؟ ادّعاء الإمام هذا أو شيخ الجبل وادّعاء أتباعه فيه أنه احتكر الحقيقة المُطلَقة. حين تكون معه، تكون من أهل الحق. حين لا تكون معه، لا تكون – وهذا أكيد – على حق، إما أن تكون جباناً، أو تكون مُنافِقاً، أو تكون مدسوساً، أو تكون مصلحجياً، ولكن أنت لست على حق، فانتبه إذن، الحق كله عندنا. وكلهم عندهم الطريقة نفسها على فكرة، كلهم عندهم الفكرة نفسها، وهذا شيء خطير على فكرة، كلهم عندهم الاعتقاد نفسه. وادرس وقارن، وسوف يقشعر البدن منك، سوف تقول هذا هو، تخرَّجوا على أستاذ واحد. طبعاً لأن البرامج نفسها هي، تستسلَف وتُستنسَخ باستمرار فيما بينهم.

أيضاً ينبني على هذا ماذا إذن؟ أنت مع رجل – ما شاء الله عليه – شبه إله في الأرض، إله أوليمبي، ويحتكر الحقيقة المُطلَقة، وأنت (الغلبان) الأهبل، الذي تم انتخابك مُنذ البداية حين تفرسوا فيك أنك طيع، عظمك لين، يُمكِن أن تكون مُستحمَراً مُستغفَلاً تابعاً خانعاً. لا يُحِبون الأذكياء ولا ذوي الحس النقدي المُشاغِبين أبداً، وهذا سنشرحه أيضاً. فماذا يصير هنا؟ تصير هناك الطاعة المُطلَقة، تُطيع طاعة مُطلَقة دون تردد، ويصل الأمر إلى القتل، تقتل! يُقال لك اقتل، فتقتل. وقد تقتل ناساً من ذويك أو من المُقرَّبين أو مِمَن لهم فضل ويد عليك، تقتلهم! شيء غريب، إذن الطاعة المُطلَقة.

وبعد ذلك؛ خامساً الهيراركية أو التراتبية، هناك مراتب، خمس مراتب أو سبع مراتب أو سبع عشرة مرتبة أو سبعون مرتبة، أياً كان! هناك مراتب دقيقة، وهذه المراتب طبعاً توزيعها لا يتبع بالمرة الكفاءات الحقيقية والاستحقاقات الفطرية أو المُكتسَبة، وإنما ماذا؟ مدى القناعة ومدى الإخلاص الأعمى، في خدمة ماذا؟ البرنامج السري الخبيث.

سادساً يا إخواني ما لخَّصه المُؤرِّخ النمساوي الشهير فون هامر Von Hammer، في كتابه Geschichte der Assassinen، أي تاريخ الحشاشين، تاريخ المُجرِمين، وهذا تاريخ مُهِم جداً، في القرن التاسع عشر كُتِب. قال كل هذه البرامج تقوم على فكرة واحدة مركزية: حشد جماهير غفيرة من الناس، لتحقيق غايات وأهداف لا يعرفون حقيقتها. أي هم مُغفَّلون، يظنون أنهم يخدمون الإسلام ويخدمون الدين أو يخدمون الحقيقة والسلم والأُخوة والمُساواة – عند الماسونية – والإنسانية، وهم يخدمون ماذا؟ أهدافاً لا يفهمونها. طبعاً لأنهم (غلابة)، فهذا أيضاً شيء مُهِم.

سابعاً أخذ التبرعات الإلزامية من أعضاء الأخوية أو التنظيم أو المحفل أو الجماعة أو… أو… إلى آخره! كلهم عندهم الشيء نفسه، بدءاً من القرامطة، عندهم كلهم، كل عضو لا بد وأن يدفع، وفي بعض المرات تكون هناك نسب كبيرة، تصل إلى خمسة في المائة أو عشرة في المائة أو عشرين في المائة، وعند الجد لا بد وأن تُضحي بكل ما تملك، إذا اقتضى الأمر ذلك. فأيضاً هذا مسلك عند الجميع، عند كل هذه التنظيمات.

ثامناً استخدام العنف، توسل العنف، الذي يتجلى في أبشع صوره، وهي صورة الاغتيال المُنظَّم السياسي، باغتيال شخصيات وازنة مُهِمة، والشخصيات هذه قد تكون ماذا؟ قد تكون هي رحمة الله بالأمة – والله -، وقد يكون التعويل عليها. وهذا حصل يوم قُتِل نظام المُلك، ونظام المُلك هذا شخصية مُهِمة جداً جداً، أحد الذين خدموا الحضارة الإسلامية، وبنى النظاميات؛ نظامية نيسابور، ونظامية بغداد. رجل فاضل وصالح، قُتِل! ويتكرَّر هذا في كل مكان، وترى أن المقتولين كانوا أناساً وطنيين، كان محكوماً عليهم بالإعدام من الاستعمار ومن محاكم عسكرية، وتم اغتيالهم، فيقشعر بدنك، هؤلاء الذين قُتِلوا؟ نعم، هؤلاء بالذات الذين قُتِلوا بالرصاص، مطلوب قتلهم! شيء لا يكاد يُصدَّق.

حين يفهم الإنسان – كما قلت لك – يدوخ، الإنسان حين يفهم يدور عقله، حين يفهم! ولكن نحن نُريد أن نفهم بصراحة، الخُطة مبنية على أن نفهم، وليس على أن نُستغبى، نُريد أن نفهم.

آخر دراسة ألمانية قالت لك من سمات الأذكياء أنهم لا يُحِيون الغموض. يُحِب الواحد منهم أن يفهم كل شيء، مع أنهم مرنون جداً جداً، يُغيِّرون وجهات نظرهم، ليس انتهازاً، لأنهم مرنون، يحترمون الآراء الأُخرى، لا يحتكرون الحقيقة المُطلَقة أبداً، ويعترفون بأخطائهم، ولا يلقون باللائمة على غيرهم. أنا وجدت هذه الدراسة الألمانية الحديثة – سُبحان الله – تقول المُخلِصون حقاً هم الأذكياء. بالضبط! أي بصيغة دينية تقول المُخلِص. هذا المُخلِص! المُخلِص هكذا، والأمر نفسه مع المُتواضِع، وليس المُتربِّب، الذي يتصرَّف وكأنه إله ورب في الناس، ويدّعي أنه احتكر الحقيقة المُطلَقة، يقول تعالوا معي، تنجو، اتركوني، تهلكوا. أعوذ بالله، أعوذ بالله! ما هذا؟ إذن هذه أيضاً سمة خطيرة جداً ومُهِمة يا إخواني.

بعض هذه التنظيمات كانت تعمد إلى أخذ الأطفال وهم صغار، وأحياناً يخطفونهم، ليُربوهم على ماذا؟ على برامجهم الفذة المُخيفة الخطيرة. وهذه سمة بين كثير – ليس بين الكل، ولكن بين كثير – من هذه التنظيمات. لأن طبعاً حين تُربي الطفل وهو طري العود، ينتهي الأمر، هذا يُصبِح عبداً مُسعبَداً بالكمال والتمام لك.

إلى طبعاً صفات وسمات أُخرى، قد نذكرها – إن شاء الله – في الدرس.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

اللهم اغفر لنا وارحمنا واهدِنا واجبرنا، اللهم اهدِنا إلى أحسن مراشد أمرنا، اجعلنا هُداة مُهتدين، غير ضالين ولا مُضِلين، سلماً لأوليائك وعدواً لأعدائك، نُحِب بحُبك مَن أحبك ونُعادي بعداوتك مَن خالفك.

اللهم جنِّبنا الفتن كلها، ما ظهر منها وما بطن، واجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، وأصلِحنا بما أصلحت به عبادك الصالحين لك يا رب العالمين.

اغفر لنا ولوالدينا، وللمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات، بفضلك ورحمتك، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة.

 

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

 

للخُطبة تتمة حول مشابه الفرق السرية الهدّامة، ننشرها لحضراتكم في مقطع مُستقل بعنوان: قرامطة وماسون لكل العصور.

فيينا 30/8/2019

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: