إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.

عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – جل مجده – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ :

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ۩ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ۩ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩ قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.

إخواني وأخواتي:

قبل مُدةٍ وجيزة طُرِحَ علىّ هذا السؤال: لو أُتيحَ لك أن تُنشيء يوتوپيا Utopia أو مدينةً فاضلة مَن كنت ستطرد منها؟ أي تأسياً بأفلاطون Plato صاحب أول يوتوپيا Utopia تقريباً في التاريخ – الجمهورية – والذي شاء أن يطرد منها أصحاب الفن التمثيلي والشعراء، وكان جوابي سأطرد من هذه المدينة الفاضلة مُلَّاك الحقيقة المُطلَقة وحاملي مفاتيح الجنة والنار، أما الشعراء سأبقيهم والمُغنين والراقصين والراقصات وأصحاب الفن التمثيلي وأصحاب الدعوات الدينية وكل هؤلاء، لا مُشكِلة لنا معهم، فقط مَن يزعمون أنهم يمتلكون الحقيقة المُطلَقة لا مكان لهم في مُجتمَع بشري فاضل، لأنهم سيُحيلونه إلى جهنم حمراء، سيُحيلونه إلى كارثة مُمتَدة وإلى لعنة حقيقية، لماذا؟ لأنهم آلهة، الذي يزعم أنه يمتلك الحقيقة وحازها من عند أواخراها وحدودها هو الإله فقط، ولذلك حين يزعم أحد أنه يمتلك هذه الحقيقة ويقطع بأنه يمتلكها فإنه مُتألِّه، هو خطيرٌ جداً، وإذا كان الإله يقودنا إلى ما فيه سعادتنا ومنفعتنا فهذا يقودنا لكي يُحطِّمنا بهوسه المجنون، لأنه من حيث يزعم أنه إله لا يزيد عن أن يكون مُهوَّساً مجنوناً يتعانى من عقد نقص رهيبة نفسية وعقلية وغير ذلك طبعاً، هذا هو الإله الزائف، ولذلك هذا سيُحطِّم كل أتباعه، سيُحطِّم الذين يعبدونه أيضاً، الذين يُصدِّقون بهذا الهوس سيتحطَّمون عند عتبات وتخوم هذا الجنون المُنفلِت العقال والمُطلَق السراح، وكذلك الحال مع حاملي مفاتيح الجنة والنار، ولا يحمل مفاتيح الجنة والنار مِن هؤلاء إلا الذين تألَّهوا أيضاً بالزيف والكذب وزعموا أنهم حازوا لا أقول نصاب الحقيقة إنما حدود الحقيقة المُطلَقة، ليس النصاب الأدنى للحقيقة وإنما الحدود الأبعد والأقصى للحقيقة المُطلَقة، وطبعاً جوابي هذا ليس عجيباً، ليس عجيباً من امريءٍ يعيش في القرن الحادي والعشرين، كل رجل يعيش في هذا العصر – في القرن العشرين أو في القرن الحادي والعشرين أو حتى في القرن التاسع عشر – طبيعي جداً أن يصدر منه هذا الجواب، وإلا فهو الرجعي حقيقةً والمُتخلِّف الذي لا يعيش زمنه، الذي لا يعرف المدى البعيد الذي ذهبت إليه البشرية والشوط الفسيح الذي قطعته في تقرير حقوق الإنسان وفي تقرير كرامة الإنسان وفي تقرير إنسانية الإنسان، لذا هذا الجواب طبيعي.

أفلاطون Plato إلى حدٍ ما طبيعي أن يطرد هؤلاء المذكورين، ولكن غير طبيعي أن يكون هذا الطارد أفلاطون Plato بالذات، لأنه تلميذ سقراط Socrates، سقراط Socrates أستاذه الأكبر وأستاذه الأبرز والأذكى وهو الذي روى لنا عنه في مُحاوَرة الاعتذار – Apology – ما قاله لقضاته ومُحاكِميه في تضاعيف مُحاكَمة طويلة ذكية جداً وإنسانية رائعة تدل على هذه الروح المُتفرِّدة التي لا تلتزم إلا بالحقيقة وإلا بالصدق الذي يُصالِحها مع نفسها ومع البراهين والأدلة، قال لهم وإن قلت لكم إن امتناعي من التخلي عن مُناقَشتي كل يوم وكلما تاحت لي فرصة مسائل الخير وسائر المسائل التي سمعتموني أُناقِش فيها وأُساجِل وأُجادِل وأُدرِّسها أنا ومَن معي – إن قلت لكم إن امتناعي عن التخلي من درس وبحث ونقاش هذه المسائل – هو أجمل ما في الإنسان، هو خير ما يفعله الإنسان – يُريد أن يقول سقراط Socrates لقضاته خير ما يُبرهن إنسانية الإنسان أن يلتزم بالبحث عن الحقيقة وأن يلتزم بأن يكون سئَّالاً مُتشكِّكاً يطرح الإسئلة والشكوك والإيرادات من كل جهة، لماذا؟ لأنه لا يملك ترف أو هوس أو جنون أن يدّعي أنه يعرف الحقيقة، وهذا معنى الفيلسوف، قبل الفيلسوف كان هناك الحكيم السفسطائي، السفطسائي هو الحكيم الذي عرف الحقيقة، سقراط Socrates كان أكبر عدو لهم وحطَّمهم، قال أنا لست حكيماً ، هذه غطرسة لا أدعيه ، أنا مُحِب للحكمة، أنا باحث، وهذا هو معنى فيلسوف، فيلسوف من فيلو Philo أي المحبة والعشق، والسوفيا – Sophy – هى الحكمة، أي عشق الحكمة، فأنا أُحِب وأعشق الحكمة، وهذا أحسن ما يُمكِن أن أفعله أو يفعله أي إنسان أن يلتزم بالبحث دائماً وطرح الأسئلة والشكوك والإيرادات بصدد الموضوعات المُختلِفة المُهِمة كموضوعة الخير والشر والحق والعدل والمُساواة وإلى آخره – ولكنكم لن تُصدِّقوني، لكن هذا ما سأظل مُعتصِماً به، وتلقَّى كأس الموت الزؤام بكل رضا وطواعية وسماح نفس، شربه وأخلد إلى الموت الكريم، فسقراط Socrates علَّم الناس كيف تكون الميتة – ميتة المرء – كريمة ومُشرِّفة، فعجبٌ وأي عجب لأفلاطون Plato ألا يصدر عن مثل هذه الروح، وأن يُقيِّد – يضع قيوداً وتحديدات كثيرة – لأنه يرفض الشعر والشعراء، فلماذا يرفض؟ هو ادّعى أن الشعر والشعراء يُرقِّقون طباع الناس، يجعلونها رقيقة أو طباعاً رقاقاً لا تليق بالإنسان الذي يعيش في هذه المدينة الفاضلة، يُفسِدون الأخلاق هؤلاء الشعراء، غير مُلتزِمين أيضاً باللغة الدقيقة وهى لغة التأمل الفلسفي، لديهم لغة شعرية مُنفلِته خيالية، وماذا عن الفن التمثيلي؟ أرسطو Aristotle عنده نظريات رائعة جداً وسابقة في الفن التمثيلي وفي الفن المسرحي وفي تفسير التطهر – هكذا زعم أرسطو Aristotle – الذي ينتاب الإنسان ويعرض للإنسان بعد أن يحضر – مثلاً – قصة فنية ومن ثم يتطهَّر الإنسان، أرسطو Aristotle كان رائعاً جداً في مُعالَجته لهذه الأشياء، فلماذا أفلاطون Plato يتنكَّر لها؟ طبعاً هناك تبريرات ميتافيزيقة مُعقَّدة جداً، لأن أفلاطون Plato عنده نظرية ميتافيزيقية ترى أن هذا العالم كله ليس عالم الحقائق، هذا عالم الظلال المُشوَّهة، كل شيئ – أنا وأنت وهذا والكل – ليس الحقيقة، هذا ظلٌ للحقيقة وللمثال الذي يقبع في عالم المُثل وفي عالم الحقائق كما شرحت لكم مرة، نحن فقط مُجرَّد ظلال، فأن تأتي تُمثِّل الظلال فأنت تزيدها تشوهاً وبُعداً عن الحقائق بمرحلة زائدة، يقول لا نُريد هذا، وهذا أمرٌ عجيب، نظرية ميتافيزيقية يُريد لها أن تكون لها تدعيمات واقتضاءات حتى في ميدان الاجتماع والفن، ومن ثم هذه أيدولوجية، هذا تصرّف أيدولوجي من أفلاطون Plato، وهو تصرّف غير معرفي، هذا ليس معرفياً تماماً، هذا أيدولوجي أكثر منه معرفياً، وعلى كل حال فيما بين هذا الموقف وهذا الموقف طُرِحَت قضايا شديدة الحساسية ولا تزال خاصة بين الشعوب وفي المُجتمَعات والدول التي لم تأخذ بنصيبها اللائق بها من الحريات ومن حقوق الإنسان.

موضوعة اليوم هى موضوعة حرية القول والكلام والتعبير، حرية الشاعر أن يقول وأن يشعر وأن يقرض الشعر، فهذه حرية للقول، حرية الرسَّام أن يرسم والمُمثِّل أن يُمثِّل على خشبة المسرح، هذه حرية تعبير Expression، فالأول Speech والثاني Expression، وهذه نفس الحرية في النهاية، نطاق واسع يضمن هذه الحريات، حرية القصَّاص الروائي أن يكتب قصة وأقصوصة ورواية، هذه حرية تعبير، حرية أن يرفع المرء شعاراً من الشعارات، هذه حرية تعبير، وأن يحرق شعاراً وأن يحرق رمزاً وأن يحرق علماً أو بطاقة، هذه حرية تعبير، أن يخطب وأن يقول وأن يكتب مقالة في النت Net أو في صحيفة وأن يفوه بشيئ في مُقابَلة إذاعية أو مُقابَلة مُتلفَّزة، هذه حرية قول وحرية تعبير، كلها حريات ولها أساليب كثيرة، أن يصنع تمثالاً – كما قلنا – يحمل رسالة، هذه حرية تعبير وهى قوية، هذه من الحريات المُقرَّرة الآن في عالم الناس، ولكن للأسف الشديد الذي لا تُخطيء العين مُلاحَظته أنه في عالم العرب والمسلمين هذه الحريات ليست منقوصة بل منقوصة إلى حد بعيد جداً فانتبهوا، المُقلِق – وهذا الذي دقع إلى هذه الخُطبة وحثَّ عليها – أنه لا يُمارِس هذا الانتقاص وهذا القمع لهذه الحرية ولسائر الحريات فريق بعينه، كلنا ذلكم الفريق للأسف الشديد على تفاوت، ليس لدينا دراسات علمية وإحصائية تُحدِّد نسب هذا التفاوت لكن كلنا ذلك الفريق، كل فريق هو بانتظار فقط أن يتسلَّط وأن تُواتيه الفرصة – وأعظم فرصة هى السُلطة، أن تصير في السُلطة – لكي يمنع غيره من التعبير، أي عن أن يُعبِّر، وطبعاً وسائل المنع تُناظِر وتُضاهي وسائل التعبير في كثرتها وتعدُّدها وتفاوتها، أنت – كما قلت – تُعبِّر عن رأيك بأشكال مُختلِفة جداً من القول – هذه أول وسيلة تواصل – إلى الرسم والنحت والمسرح والأقصوصة والمقالة وإلى آخره، هناك وسائل كثيرة جداً، وقد يصل هذا إلى الحرق، مثل حرق الأشياء ورفع الأشياء، هذه كلها وسائل تعبير، ووسائل المنع أيضاً تُضاهيها في الكثرة من الرقابة، إشعارك أنك مُراقَب وكل ما تقوله مُسجَّل، وربما تُحاسَب عليه، ربما تُعتقَل، ربما تُسجَن، ربمت تُحاكَم، ربما تُقتَل، ربما تُغتال دون مُحاكَمة، وربما يُصادَر حقك في نشر هذه الأشياء، يُصادَر الكتاب الذين نشرته، قد تُغلَق الصحيفة التي نشرت لك المقالة أو يُغلَق الموقع في النت Net الذي نشر لك الكلمة وإلى آخره، هذه وسائل عبر التاريخ والبشر يستخدمونها للأسف ولا يتورَّعون وخاصة إذا كانوا في السُلطة، وهذه الرقابة والمُصادَرات لا تُمارِسها سُلطة بالمعنى الأخص للسُلطة، فحتى السُلطة المُجتمَعية تُمارَس هذا، المُجتمَع كسُلطة يُمارِس هذا، أليس كذلك؟ المُجتمَع يفعل هذا، كتب مرةً … ماذا أقول؟ لا أقول الروائي وهو روائي ولا كاتب مقالات وهو كذلك، ولكن هو فيلسوف تشريخ السُلطة، فيلسوف تفكيك خطابات القمع، أي الخطابات القمعية، جورج أورويل George Orwell صاحب رواية حديقة الحيوان ورواية 1948، معروف جورج أورويل George Orwell ومعروف مُصطلَح الأخ الأكبر،على كل حال كتب جورج أورويل George Orwell يقول الآراء حين لا تكون شائعة ولا تُهدِّد بالشيوع – آراء يبدو أنها من العمق ومن الغموض ومن الالتباس ومن الغرابة ومن الترف – لن يتأثَّر بها ربما إلا عدد يسير جداً من البشر، وربما حتى فقط لا يتأثَّر بها إلا مَن أنتجها، كما قال النبي ورأيت النبي وليس معه أحد، وهذا صحيح طبعاً، قال النبي عُرِضَت علىّ الأمم فرأيت النبي ومعه الرَّهْطُ، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، ما معنى هذا؟ معنى هذا أن هذا النبي – عليه السلام – أتى بآراء لم يحملها إلا هو، لم يقتنع بها أحد إلا هو، وهذا يحصل طبعاً، هذه حالات استعصاء ثقافي، ونوح تقريباً عانى من حالة الاستعصاء الثقافي، ألف سنة إلا خمسين عام وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ۩، حالة استعصاء لأن المُجتمَع أغلق آذانه – أي أسماعه – وبصره وبصيرته، فهو لا يُريد، لا يُريد أن يسمع ولا يُريد أن يتداول الفكرة، وهذه حالة استعصاء، يكتب أرسطو Aristotle مرة بذكاء مُتألِّق بالغ نافذ – ما أجمل هذه المقولة لأرسطو Aristotle – قائلاً علامة العقل المُتعلِّم تداوله لأفكار رغماً عدم قناعته بها، هذا مُهِم إذا كنت تريد أن تروز عقلك وأن تعرف أن عقلك الموهوب لك هل هو عقل مُتعلِّم أم عقل غير مُتعلِّم، عقل مُستعصٍ جامد، عقل آلي، ليس عقل إنسان وإنما عقل آلي، هو كآلة أو كوعاء لابد أن تُوضَع فيه الأشياء وضعاً، يضعها الأب والأم والمُدرَّس والشيخ والمُجتمَع فقط، أما أن يبتكر هو شيئاً أو أن ينتخب هو شيئاً أو يأخذ شيئاً أو يترك شيئاً فهذا لا يستطيعه، هذا المسكين آلة، هو مُبرمَج يُبرمِجه المُجتمَع، ليس هذا هو الإنسان، آخر شيئ يُمكِن أن يكونه الإنسان هو هذا المُبرمَج، بالعكس النبتة أحسن منك في هذه الحالة، الشجرة أفضل منك، الشجرة ماهيتها ليست في ذهن إنسان يُصمِّمها أبداً كماهية الروبوت Robot أو كماهية الحاسوب، ماهية الروبوت Robot أو الحاسوب أين تقبع؟ في ذهني أنا المُهندِس، في ذهن المُهندِس الذي يُصمِّمها، ولذلك هو يُصمِّمها وفق هذه الماهية – وفق هذا الـ Essence – ثم بعد ذلك يتركها لتعمل وفق ما يُريد تماماً، وكل خطأ واقع أو مُتوقَّع له ما يُستدرَك به، هذه هى الآلة، لكن الشجرة لا يُمكِن معها هذا، لا تستجيب لهذا، الشجرة تستجيب لماهيتها الكامنة فيها وفي بذرتها، ولذلك تنمو باعتمال قوى داخلية فيها من جميع الجهات وتتطوَّر، هذه هى الشجرة، صرنا أقل من شجرة، صار الإنسان أقل من نبتة، انحطَّ عن أفق نبتة ليلتحق بوهدة الروبوت Robot والآلة، لكن الإنسان الحقيقي أعلى من النبتة، هو أعلى حقيقةً، لذلك يُمكِن أن يُعارِض رأي أمة كاملة طبعاً، ليس رأي جماعة وما إلى ذلك وإنما أمة كاملة، هى عندها اتجاه وهو عنده اتجاه آخر، فأمّوا سَمتَهُمْ وأمَمْتُ سَمتي، أنا عندي سمت آخر، هذا هو الإنسان، ليس عناداً وليس تلبيةً لرغبة في التميز أبداً، فقط لأنه غير مُقتنِع، الفيلسوف الإنجليزي الرائع جون لوك John Locke يكتب قائلاً لا يُمكِن إملاء القناعة، افهموا هذا، هذا فيلسوف ليبرالي مُمتاز وهو صاحب رسالة التسامح، هو من الأوائل المُؤسِّسين الواعين، يقول للناس حاولوا أن تفهموا أن القناعات لا تُملى على الناس، لا يُمكِن أن تُملي علىّ قناعة وتقول أستحلفك بالله أن تقتنع بهذا، هذا لا ينفع، لا يُمكِن أن تستحلفني بالله في هذه الحالة، لا يُمكِن أن تقول أنا أُهدِّدك وسوف أقتلك أو سوف أُعطيك فتُرغِّبني و تُرهِّبني، هذا لن ينفع، لابد من أن أقتنع بها ذاتياً، لابد أن أنا أكون مُقتنِعاً، لا تُحاوِل أن تُرهِبني كأن تقول لي وحسبك عنقٌ من النار يخرج لك يوم القيامة وكذا وكذا، لا تُرهِبني يا أخي لأنني لست مُقتنِعاً، حين أقتنع سأفعل هذا من تلقائي وسأصدع برأيي من تلقائي، فالقناعات لا تُفرَض، كل الشعوب المُتخلِّفة لم تفهم هذا بعدُ، تفهم أن القناعات تُفرَض، إذن هى شعوب مُستبِّدة كفراعينتها وكطواغيتها، هذا هو الطغيان، تقول الآية الكريمة مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى – ثم قال لهم فرعون كل ما أراه هو رشاد –وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ۩، أي لا تخافوا، هذا منطق الآبائية أو الأبوية، أي Paternalisme كما سماه جون ستيوارت ميل John Stuart Mill، قال منطق الأبوية يليق بالأطفال والشخوص غير الناضجين في الأمم المُتوحِّشة، لا يليق بالراشدين في أمم مُتحضِّرة، لا يحق لأحد أن يقول لأحدٍ سأمنعك وسأمُلي عليك، هذا Dictation، كأن يقول أحدهم سأُملي عليك بالأمر بالإرغام لمصلحتك يا بني، لست ابناً لك ولست أبي ولا أعترف بهذه الأبوة الزائفة، هذه الأبوية تليق بالأطفال الصغار، مارسها مع ابنك على أنك ستُدمِّره، إذا كنت دائماً ستكون خُطتك في تربية ابنك أنك تُملي عليه وتُملي وتُملي وتُملي وتُملي من أجل مصلحته فأنا أقول لك أنت لم تُربِّه، أنت تركت هذا المسكين عطلاً وهدراً، أهدرت كل قواه وكل إمكاناته وتركته أشل، سيسير في الحياة أشل بلا قدرة على الاستقلال وبلا قدرة على الانتخاب، ابنك هذا يُمكِن أن يكون صفراً من الأصفار ويُمكِن أن يكون قنبلة مُتفجِّرة، مُباشَرةً يُعبِّئونه في خمس دقائق ويقولون له اذهب إلى الجنة لكن فجِّر أهلك وفجِّر أحبابك، عادي جداً فيُفجِّرهم، يُقال له فجِّر الناس المُصلين في المسجد فيُفجِّرهم، يُقال له افعل هذا وضع يدك مع العميل ومع الاستعمار لكي تأخذ حقوقك فيفعل هذا، لأن هذا لم يتعلَّم أن ينتخب موقفه وأن يصدر عن قناعاته، لم يتعلَّم هذا، هذا المسكين دائماً يُملى عليه، هذا المنطق الأبوي المحقور يليق بالصبيان – كما يقول جون ستيوارت ميل John Stuart Mill – وبالأشخاص البالغين في الشعوب المُتخلِّة الوحشية، لكنه لا يليق بالبالغين في الشعوب المُتحضِّرة.

نعود بعد أن طوَّفنا إلى أرسطو Aristotle وكلمة أرسطو Aristotle الرائعة، ماذا قال أرسطو Aristotle؟ قال علامة العقل المُتعلِّم : تداوله لأفكار رغماً عدم قناعته بها، هذا هو العقل المُتعلِّم، هو عقل مُتحرِّر مُنفتِح واثق، أفكاره التي يقتنع بها لا تأسره بحيث يتشرنق فيها، لا تُمثِّل له شرنقةً تخنقه كدودة القز، لذا هو مُتحرِّر، وهو أيضاً مُنفتِح، عنده استعداد أن يطلع على ما عند الآخرين وعلى أن يسمع ما عند الآخرين وأن يقرأ ما عند الآخرين، وليس بدافع أن يرد عليهم لكن الدافع الحقيقي والرئيس والأصلي الاطلاع، أي أن أطلع، وقد أطلع وأقتنع دون أي مُشكِلة، وسأُعرِب عن هذا، وقد أطلع ولا أقتنع وسأرد، لكن سأحترم الرأي الآخ على الأقل في الحقوق الدنيا، أن من حقه أن يكون ومن حقه أن يُقال ومن حقه أن يُصدَع به، لست مُقتنِعاً به ولكنني أتداوله وأتعاطى معه، إذن علامة العقل المُتعلِّم هى تداوله لآراء رغم عدم اقتناعه بها، تماماً مثل مُوحِّد قد يكون ربانياً مُتألِّهاً ذا صلة خاصة شديدة الخصوصية بالله – تبارك وتعالى – ويطلع على أفكار الملاحدة وعلى نظريات الملاحدة، هذا عقل مُتحرِّر واثق مُتعلِّم، يطلع عليها ويختبر ما فيها من أفكار دون أي مُشكِلة، لماذا لا؟ لكن منطق الوصاية ومنطق سوف تضل وتذل وكذا يليق بالأطفال الصغار أيضاً، إنه منطق إملاء، إذن هذا المُثير للأسف الشديد في الحالة العربية وربما الإسلامية بعامة، لكن نحن الآن كعرب نتحدَّث على الأقل عن الحالة العربية، هناك شعوب إسلامية خير حالة منا ولو نسبياً على الأقل، حتى لا نظلم الآخرين، ليس من باب التعصب العروبي لكن حتى لا نظلم إخواننا المسلمين الآخرين في العالم الإسلامي المُترامي والمُوزَّعين في أمم وفي دول كثيرة، في الحالة العربية الكل يفعل هذا على تفاوت، فقط ينتظر اللحظة التي تُمكِّنه من أن يُقصي الآخر ويقمع الآخر ويقطع لسان الآخر، وهذا شيئ غريب، وهنا قد يقول لي أحدكم ماذا تعني؟ هل الأمر لا يقتصر فقط على الإسلاميين؟ نعم لا يقتصر على الإسلاميين، هذا يفعله الإسلاميون وغير الإسلاميين، وهذا الذي ظهر في الفترة الأخيرة بشكل واضح، وأنا أعني الحالة المصرية، هذا يُوجَد بشكل واضح، تحريض على الإقصاء، تحريض على القتل أيضاً، تحريض على الطرد، وهذا شيئ مُخيف، هذا – كما قلنا في آخر خُطبة – منطق مُخيف جداً، نحن مصدومون، أنا شخصياً – أُحِب أن أحكي كما عودتكم ضميري – مصدوم بكثير من الذين يرفعون راية الليبرالية، العلماني لا يهمني، من المُمكِن أن أكون علمانياً وأكون استبدادياً من درجة أولى، هذا أمر عادي وهو يحصل، هتلر Hitler كان علمانياً، هتلر Hitler لم يكن دينياً، هل موسوليني Mussolini كان دينياً، هل هل موسوليني Mussolini رجل ديني؟ هل موسوليني Mussolini كان ثيوقراطياً؟ لم يكن كذلك أبداً، وإنما كان علمانياً، والنظام النازي نظام علماني، علماني حقيقي حتى النخاع ولكنه نازي، أليس كذلك؟ هذا أمر عادي ويحصل دون أي مُشكِلة، قد يكون علمانياً ونازياً، هذا أمر عادي، لكن أن يكون ليبرالياً ونازياً هذا لا يُمكِن، أن يكون ليبرالياً وإقصائياً هذا لا يُمكِن، أنت ليبرالي، يعني التزامك الأول الرئيس بالحريات، ليس بالحريات لليبراليين وحدهم بل بالعكس، في الموقف الليبرالي المُتطرِّف – هكذا يُسمونه، في كل شيئ طبعاً وسطان وطرف، يُوجَد تطرّف في أقصى اليمين وتطرّف في أقصى الشمال – كل الآراء والاجتهادات عندها الحق أن تكون وأن يُصدَع بها مهما كانت، هل هذا ينطبق حتى على الآراء النازية والفاشية؟ ينطبق حتى على الآراء النازية والفاشية، من حق أصحابها أن يحملوها وأن يُدافِعوا عنها، وهنا يختلف طبعاً الليبراليون، هناك ليبراليون مُعتدِلون مُتوسِّطون يُجادِلون ويٌسائلون، يقولون – وهذا غير صحيح – نحن لا نُعطي أعداء الحرية وهذه المنصة وهذه الفرصة لكي يُعبِّروا عن اغتيالهم للحرية، فنحن نعمل على نقد أنفسنا وعلى نقد دعوتنا وأفكارنا وقناعاتنا لأن هذا غير منطقي، لكن هذا غير صحيح، هذا الدفاع بحد ذاته ضعيف جداً وهش وهذا يُقنِع أيضاً الشعوب غير المُتمرِّسة بالحجاج الصحيح، هناك مُحاجة أقوى من هذه تقول ماذا؟ تقول أنت من أجل أن تحمي هؤلاء المُتطرِّفين العنصريين في الحقيقة كل ما تقوم به أنك تُولي أقل الناس عدداً على الأقل وتعاطفاً معهم حاجة إلى الحماية الحماية في مُقابِل الأكثرية الكاسرة التي ستُكرَث بنتائج هذه الحماية، هذا الكلام فيه منطق، وهذه المُحاجة لفيلسوف أمريكي، بمعنى أن العنصريين قلة مثل مَن يُسمونهم بالنازيين الجدد مثلاً، هؤلاء موجودون في أوروبا وفي أمريكا، كم عددهم؟ مَن الذي يقتنع بهذه الأفكار؟ وهذه الأفكار دفعنا ضريبتها أثماناً باهظة وتكاليف مُؤلِمة مُخيفة من الدموع و الدماء، هؤلاء قلة قليلة، لماذا نحن بهذه الليبرالية المُتطرِّفة نريد أن نحوطهم بحمايتنا وهم أقلية؟ في مُقابِل ماذا؟ في مُقابِل الذين هم ضحايا لعنصريتهم من المسلمين واليهود والسود وإلى آخره، وهؤلاء كثرة، عشرات ومئات الملايين سيدفعون ثمن حمايتك لهذه الأقلية، يقولون غير مُتوازِن الموقف، ومن ثم يرد عليهم أصحاب الموقف الليبرالي المُتطرِّف، انظروا إلى هذه النقاشات في العالم الغربي هنا فانتبهوا، والهاجس عندهم – عند الليبرالي المُعتدِل وعند الليبرالي المُتطرِّف – هو ألا يكون محسوباً على قامعي الحريات، هذا عار عندهم، عار أن أقمع الحريات، هل هذا ينطبق حتى على النازي؟ ينطبق حتى النازي، أخاف أن أكون قامعاً للحرية، لا أريد أن أكون قامعاً، لا أريد أن أُعيد هذا السجل اللعين البغيض الذي يقوم على قمع الإنسان بقمع حرياته وإهدار كراماته وحقوقه، وهذا الشيئ جميل جداً، في بلادنا يُقتَل إنسان بسهولة، البشر لدينا أرقام، يُقال سقط عشرون أو سقط ثلاثون أو سقط مائتان أو فجَّر نفسه فسقط كذا، هذا أمر عادي، يُقال رحمة الله عليهم وهم – إن شاء الله – شهداء وانتهى الأمر، الآن في الغرب من المُمكِن أن تُتابِعوا أشياء وأفلام – Movies – عن هذا، وقد يكون الفيلم طويلاً ويصل إلى ساعتين أو ساعتين وعشر دقائق فقط عن شرطي قتل رجلاً بطريق الخطأ، لو كان الشرطي أكثر تماسكاً لأطلق عليه الرصاص على الأقل في رجله كما أطلق هو عليه، لكن هو ضربه في مقتل، ومن ثم يبدأ التحقيق، والفيلم كله يدور عن الصراع الداخلي الباطني – صراع الضمير وتأنيب الضمير – لدى الشرطي، الشرطي لا يستطيع أن يعيش، لم يعد سوياً عند نفسه، لا يستطيع أن يعيش حياته السوية كما كان يعيشها، مع أنه شرطي وكان يُلاحِق مُجرِماً والمُجرِم أطلق عليه النار، يُقال له هل كان عندك فرصة ألا تُطلِق عليه في مقتله؟ لم فعلت هذا؟ المسألة طويلة، فقلت سبحان الله هؤلاء بلغوا شأواً بعيداً في احترام الإنسان وفي تقديس حاجات الإنسان، أما نحن فما زال الإنسان عندنا صرصاراً من الصراصير أو دودة أو أي شيئ، المسألة مسألة أعداد وأرقام، وهذا ابتذال في ثقافة روحها الدين – ثقافة العرب والمسلمين روحها الدين، وأعني بالدين هنا الإسلام بالذات لأنه أكثرية هؤلاء مسلمون – وهذا الدين لا دين مثله لا تشريع مثله في التحريج في دماء الناس وحقوق الناس وحريات الناس، ولكن هذه المسألة تحتاج إلى مواقف أخرى نُفصِّل فيها القول، لماذا؟ لماذا تبقى هذه النصوص مُجرَّد أشياء تُبتذَل لدينا على المنابر؟ هى تُبتذَل، مُجرَّد كلام لا تأثير له تقريباً في حياتنا إلا في الحدودالدنيا البسيطة، عملياً ليس له تأثير، لماذا؟ هذا لغز لابد أن نُفكِّكه ولابد أن نحله، وإلا في النهاية سوف نصل إلى مرحلة تخف وتبتهت فيها قناعتنا بهذا الدين وقدرته على أن يمدنا بأسباب التغيير نحو الأفضل ونحو الأحسن، وعلى كل حال يرد الآخرون – كما قلت – المُتطرِّفون ويقولون ما تفعلونه في نهاية المطاف هو أنكم تتركون الغضب والقناعات تغلي تحت السطح، أنتم منعتموها من أن تُعبِّر عن نفسها بهذه الحُجج، لكن هل سوف تفنى؟ لن تفنى، هذا الذي يحمل أفكاراً نازية لن يقضي على أفكاره أنك تمنعها أن تظهر إلى العلن، ستبقى في الداخل تعتمل، سيعمل من تحت الأرض ومن خلف الكواليس، سيكون أشد خطورة، علماً بأنه قد يُنظَر إليهم من بعض الناس الذين لديهم استعداد – بعض الناس عندها استعداد لهذا – على أنهم ضحايا، يُقال هؤلاء ضحايا للقمع وضحايا للإقصاء، فتزداد مساحة التعاطف معهم، وهكذا نكون خدمناهم أكثر.

حدَّثتكم مرة قبل أشهر في خُطبة عن الفارق البعيد بين موقف الأمريكان وموقف السوفيت من ضباط وقادة النازيين في الحرب العالمية الثانية، كان رأي ستالين Stalin أن نُعدِم منهم على الأقل خمسين ألفاً كما قال، لابد أن نُعدِم خمسين ألف لكي نُعلِّمهم الأدب، علماً بأن هذا نفس المنطق العربي، هذا منطق العرب اليوم، إعدام واعتقالات واذبح وافعل ومن ثم سوف نقضي عليهم، ما شاء الله، هذا منطق الطواغيت ومنطق العجزة عن التغيير وعن الفهم، هؤلاء لم يفهموا شيئاً ولم يتعلَّموا بل ليس عندهم أي استعداد لأن يفهموا حتى، فيرد عليه فرانكلين روزفلت Franklin Roosevelt وهو يضحك قائلاً هل تسعة وأربعون ألفاً يكفي؟ أنت تُريد إعدام خمسين ألف فهل لو أعدمنا تسعة وأربعين سوف يكفي؟ وفي نهاية المطاف الأمريكان كانت خُطتهم ليست القضاء على النازيين، النازي سوف يموت لا محالة، مُعظَم هؤلاء القادة الكبار كانوا من العواجيز، فهم سوف يموتون وحدهم، لكن الخُطة تتمثَّل في القضاء على الفكرة النازية، أن نُعرِّي هذه الفكرة وأن نفضحها وأن نُفقِدها مصداقيتها بين الألمان، أن يُدرِك الشعب الألماني نفسه أن هذه الفكرة خاسرة وأنها فكرة ملعونة، وقد جرت عليهم اللعنة والدمار وعلى غيرهم، إذا ماتت الفكرة انتهى كل شيئ، لا حاجة لي بقتل هؤلاء الحملة العواجيز، أليس كذلك؟ وفي نهاية المطاف يُعدَم فقط أربعة عشر، وهذا شيئ غريب، من خمسين ألف أعدموا أربعة عشر واحد، وثلاثة أخذوا براءة، والبقية أخذت أحكاماً مُتفاوِتة بالسجن وبالحبس، وهذا شيئ عجيب، هذه عقلية الأمريكان، كانت عقلية ذكية هنا ومُمتازة، وهى عكس العقلية العربية اليوم، يُقال اذبح وامسح بالأستيكة، لكن أنت لا تستطيع هذا، بالعكس أنت تُساعِد هكذا على التطرّف .

أيها الإخوة والأخوات:

إذن موضوعتنا أو موضوعنا – كما قلت لكم – حرية القول وحرية الكلام وحرية التعبير، وأعتقد أن الفرق لاح الآن واضحاً لكم، حرية القول أو الكلام تستخدم الأسلوب الأكثر قِدماً في التواصل عن طريق اللسان، أتكلَّم وأُعبِّر عن رأيي بلساني، حرية التعبير أوسع وأكثر شمولية، فأُعبِّر عن رأيي بكل الوسائل المُتاحة للتعبير سواء أكانت حقيقية أو رمزية، هذه إسمها حرية التعبير، هذا يُسمونه القول الحر – Free Speech – وهذا يُسمونه التعبير الحر – Free Expression – بمعنى أن هذا شيئ وهذا شيئ، لكن الجامع المُشترَك هو حرية التعبير عن موقفي، لنقل أنه موقفي، هذا موقف لي، ليس شرطاً أن أُعبِّر عنه بالكلام، ولكن موقف عبَّرت عنه مرة بالقول ومرة بغير القول، فهذا تعبير عن موقفي، من حق الإنسان أن يُعبِّر عن مواقفه، المرحوم محمد عابد الجابري – مُفكِّر المغرب الرائع – قال طريق الديمقراطية الصحيحة يبدأ بتقرير وتطبيق حق طلب الكلمة، أعطنى الكلمة لكي أتكلَّم فأنا عندي رأي، قال هذه الديمقراطية، إذا ما بدأنا الديمقراطية بحرية القول وحرية التعبير فليس عندنا ديمقراطية، الديمقراطية ليست صناديق وانتخابات وفقط بل هى حرية قول بالدرجة الأولى ، هذا لابد منه للكل، الأعجب من هذا – وهذا فعلاً يُثير العجب والإعجاب – أن هربرت ماركوز Herbert Marcuse – الفيلسوف الألماني اليساري الشهير – يتحدَّث عن التسامح القمعي، أي قمعية التسامح، يُوجَد تسامح قامع ويُوجَد استبداد قامع، الاستبداد القامع مفهوم جداً، لكن كيف يُوجَد تسامح قامع؟قال هذا يُوجَد في شعب غير مُتعلِّم تماماً – هذا الشعب العربي هنا وهناك – وغير مُؤهَّل، لماذا؟ طبعاً لوجود طواغيت ومُستبِّدين حرصوا الحرص كله على أن يأفنوا عقله وعلى أن يجعلوه شعباً غير واعٍ وغير مُتعلِّم، وطبعاً لكي أحكي ضميري أقول لكم نحن دعاة المشروع الإسلامي – نحن الإسلاميين – أيضاً كنا كذلك إلى حد بعيد جداً، أنا لم أر الإسلاميين عملوا عملاً حقيقياً في إنعاش وعي الإنسان، بالعكس خاطبوه تقريباً على الدوام خطاباً عاطفياً وخطاباً وثوقياً عقدياً وأيدولوجياً وليس خطاباً معرفياً، لم يُعلِّموه أن يعرض الشيئ ونظيره والشيئ وضديده باستمرار مع المُقارَنات حتى في وسط الدائرة الإسلامية ذاتها، للأسف دائماً كنا نفعل هذا وما زلنا وبطريقة مُثيرة للقلق وللفزع، يقوم لك إمام على مُستوى الأمة ويقول لك – مثلاً – صدقة الفطر لا يجوز أن تُخرَج إلا عيناً من الأعيان المذكورة في الحديث الصحيح ومَن أخرجها على غير هذه الطريقة فهى باطلة مردودة وسوف تُصبِح صدقة من الصدقات، ويبدأ يتشدَّق، يا أخي تباً لك، يا رجل تباً لك، يا أخي هذا مذهب، نعم هو مذهب الجمهور لكن هناك مذهب مُخالِف وقال به عدد من الصحابة وقال به مذهب الإمام أبي حنيفة، ومُعظم المسلمين السُنة على المذهب الحنفي، لماذا تسكت عنه؟ قل لنا يا أخي المسألة فيها قولان، لماذا تقول قولاً واحداً؟ يُقال الغناء والموسيقى حرام، يُنبِت النفاق في القلب كما يُنبِت الماء البقل، مَن استمع إلى قينة صُبَ في أذنية الآنك، ما الآنك؟ الرصاص المُذاب، هذا حرام وهذا حرام، وتُصبِح عندنا عقيدة أن الموسيقى مُحرَّمة، ويا ويل أي شخص مُتدين ونحن نعرف أنه إنسان صالح أن يستمع إلى الموسيقى، مثل هذا المسكين إذا ركبت معه السيارة يقوم بإخفاء سيديهات – CDs – فيروز ووديع الصافي وما إلى ذلك لأنها حرام، حرام ماذا يا أخي؟ لقد حرَّمتم علينا عيشتنا وحياتنا، حرام ماذا؟ لم يُعلَّم الواحد منا أن هناك عشرات عشرات عشرات الأئمة الكبار وهم أساتذة مثل مالك والشافعي في هذه الرُتبة وبعضهم أساتذة للشافعي وأساتذة لأحمد كانوا مُغنيين وكانوا ضرَّابين على العود وعلى الآلات الوترية،ومن الصحابة وأبناء الصحابة وبنات الصحابة، وهناك أشياء ثابتة لا مجال للطعن فيها، وهناك عشرات الآراء في المسألة، وأئمة كبار قالوا هذا حلال ليس فيه شيئ، قالوا الموسيقى والأدوات والعود كلها حلال، لكن هذا لم نسمعه ولو لمرة واحدة، يعيش الواحد فينا خمسين سنة ويسمع أن الموسيقى والغناء وكل هذه الأشياء مُحرَّمة، يُقال دائماً حرام، حتى التليفون – Telephone – حين يرن تخجل من رنته وكأنه شيئ عيب، لأنه يرن في المسجد فيُقال لك حوَّلها إلى الله أكبر، دائماً نحن نُؤذِّن، نقتل ونُؤذِّن، نأكل ونُؤذِّن، نذبح ونقطع الرؤوس ونُؤذِّن، دائماً نُؤذِّن، وهذه قصة غريبة جداً، فطبعاً ظهر عندك عقل مُسلِم مُسطَّح وهو – كما أقول دائماً – بعمق واحد مللي، هو أنبوبي بؤبؤي وثوقي وجامد، مُستعِد أن يقتل، يُكفِّر ويقتل على آراء مثل هذه، ما هذا يا أخي؟ أنا أقول لكم علينا كإسلاميين أن نُراجِع أنفسنا، نحن أساءنا إلى العقل المسلم، أساءنا إلى العقل العربي، لم نُساهِم في إنعاش هذا العقل والوعي بحيث نكون مُتقدِّمين على غيرنا بخُطوات في هذا السبيل، نقول نحن الذين أسَّسنا للديمقراطية الحقيقية الآن، نحن الذين أسَّسنا قبل الليبرالي وقبل العلماني للانفتاح الفكري وللانفتاح المعرفي للقول بالعدل، قال الله وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا ۩، نحن الذين فعلنا هذا، لكن ليس عندنا القدرة أن نقول هذا أبداً، لا نحن نقدر على أن نقول هذا ولا هم للأسف يقدرون على أن يقولوا هذا، هم ظهروا الآن بوجوه أخرى تماماً، شارات وعناوين وللأسف عند أول اختبار سقطوا، إذن كلنا ساقطون، هل تعرفون لماذا؟ لأننا لسنا أصيلين، لسنا أصلاء في حمل هذه الدعوات وهذه الأفكار وهذه النظريات الكبيرة، غيرنا توصَّل إليها من خلال المُعاناة، مُعاناة القرون ومُعاناة الأجيال وعبر عشرات الملايين من الضحايا، ومن ثم فهموا، لكن نحن ما الذي يلزنا أن نسير في نفس الطريق وندفع أيضاً عشرات الملايين حتى نتعلَّم؟ أين عبرة التاريخ؟ أين القدرة على الاستفادة من عبرة التاريخ؟ ليس عندنا هذا للأسف الشديد، هذه الأمة حلفت يميناً على هذا ومن ثم لا فائدة، ولذلك – كما قلت لكم – نحن حلفنا يميناً على أن ما فعلناه في الجزائر سوف نفعله في مصر، ومن ثم لا فائدة، لكن هذا لن يحصل، وأنا – كما قلت لكم – مُستبشِر، هذا لن يحصل، مصر عندها خصائص وعندها استثناءات كثيرة وفيها تجانس مُختلِف قليلاً، فإن شاء الله لن يحصل بعون الله تعالى، لكن – لا قدر الله ولا سمح – لو حصل سوف تجدون مَن كانوا يركبون رؤوسهم يقولون نحن على صواب أيضاً وكان ينبغي أن يحصل كذا وكذا، هل تعرفون لماذا؟لأنهم لا يعرفون معنى للكارثة، الحياة عندهم كارثة، تفكيرهم هو كارثة أصلاً، التفكير نفسه تفكير كارثي، لذلك هم الآن لا يُوقِّرون حتى الموت، الموت عندهم طقس طبيعي كالتنفس، يُقال ماتوا ونحن نقتلهم وهم يقتلوننا، هذا أمر عادي، إن قتلونا فنحن في الجنة، وإن قتلناهم فهم في النار، هل المسألة تقتل وتُقتَل؟ هل هذه القضية؟ هل هذه قضيتك؟ متى سوف تُعمِّر؟ متى ستعكس وتُترجِم دعواك أنك فعلاً داعية دين تتحمَّل وتصبر وتمتص الإساءة وتمتص المظلمة؟ من أجل ماذا؟ ليس من أجل أن عدنان وغير عدنان قال لك مثل هذا الكلام، وإنما من أجل أنه دينك يأمرك بهذا، دينك هو الذي يقول هذا، هذا ليس من عندنا وليس على قدر هوانا، إذا كنت تُريد الدين إياك تسمع المشائخ لن أقول الكذَّابين لكن أقل شيئ يُوصَفوا به أنهم جاهلون للأسف، مثل هذا الشخص جاهل ولا يفهم ماذا يقول، يقول لك مَن قُتِلَ دون مظلمته فهو شهيد وقد ظُلِمنا فنُقاتِل، يا رجل يا جاهل قال الرسول دون مظلمته في نزاع فردي بين واحد وواحد، لكن هناك أحاديث الفتن، وهى أحاديث كثيرة جداً جداً وتقول العكس تماماً، عندما تُوجَد فتنة ممنوع أن ترفع أي شيئ، اقعد في بيتك، هذا الذي قلته فأصابهم الجنون بسببي، هذا الذي قاله الرسول يا حبيبي أصلاً، من أين أتيت بهذا؟ هل أتيت به من بيتي؟ والحمد لله أنا لست مصرياً، يُشرِّفني أن أكون مصرياً، أنا فسطيني ويُشرِّفني أن أكون أي عربي وأي مسلم، لكنني لست مصرياً حتى لا يُقال أن عندي أي مكسب خاص، ليس عندي بفضل الله، لكن النبي علَّمنا هذا، وإذا كنت شرحت هذا الحديث الذي سوف أتلوه قولوا لي، لعلي شرحته فلا أُحِب أن أُكرِّر نفسي، هل شرحت هذا الحديث أم لا؟ إن كنت شرحته لا أُريد أن أُعيده، قال الرسول يا أبا ذر، فقال لبيك يا رسول الله وسعديك، كيف أنت إذا أصاب الناس موتٌ يصير فيه البيت بالوصيف؟ أي لكي تُقبَر في قبر تحتاج إلى ثمن عبد، إن شرحته قولوا شرحته حتى أمضي فالموضوع طويل، وعلى كل حال قال له ماذا تفعل يا أبا ذر؟ في الفتنة الأهلية الموت بالهبل، الناس تموت بالمئات وبالألوف ومن ثم لا تجد مَن يدفنك، لكي يُدفَن الإنسان يحتاج أهله إلى ثمن عبد، لأن الوصيف هو العبد والوصيفة هى الأمة، وثمن العبد قد يصل إلى خمسمائة درهم أو ألف درهم أو ألفين أو ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف، وهذا كله لكي يُحفَر لمَن مات ويُوارَى بسبب كثرة القتل في الحرب أهلية، فقال أبو ذر ما خار لي الله ورسوله، أي أنني لا أعرف ماذا سوف أفعل، فنصحه الرسول بماذا؟ قال تجلس في بيتك وتعتزل، إياك أن تُشارِك، وبعد ذلك سكت عنه النبي ثم قال يا أبا ذر، فقال لبيك يا رسول الله وسعديك، قال كيف أنت إذا رأيت أحجار الزيت وقد غرقت في الدم؟ وأحجار الزيت منطقة بالحَرة، أي حَرة المدينة، قال له سوف يكون الدم إلى الركب، تلك الأحجار سوف تغرق في الدم، قال أبو ذر قلت ما خار لي الله ورسوله أو الله ورسوله أعلم، قال عليك بمَن أنت منه، أي كُن مثلي، أنا ماذا حدث معي ومع أحبابي وأصحابي في مكة؟ على مدى ثلاث عشرة سنة كان يُنادي بالصفح والسلام والعفو ويقول كفوا أيديكم، وهنا قد يقول لي أحدكم أنهم فعلوا هذا لأنهم كانوا قليلين وضعاف، وهذا غير صحيح، ماذا عن المدينة إذن؟ كانوا كثرة وكان عندهم دولة وسُلطة، ومع ذلك عاش المُنافِقون وكان هناك خيانات وسب لله وسب للرسول واستهزاء وخذلان وخيانة الوطنية وحدث عود بثلث الجيش – عبد الله بن أُبي – في أحد، أليس كذلك؟ ووصف للنبي بأنه كذا وكذا وكذا وحدثت أشياء فظيعة، ومع ذلك أي نزاع داخلي في الأمة لا حل له بالسلاح، السلاح ممنوع تحت كل الظروف،
والذي يحمل السلاح سوف يتحمَّل عار هذا وإثمه وشناره إلى آخر الدهر، نحن لا نحمله، احمله وحدك واقتلني لكنني لن أحمله، قال الله لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ۩، أنا لن أحمله، هذا هو المنطق، والنبي هو الذي علَّمنا هذا، هذا ليس كلامي يا أخي، يتحدَّثون عن الدين، الدين حين يحدث صراع على السُلطة فعلاً – من أجل سُلطة – وتحدث مقاتل ومذابح لن يُؤمِن به بعد ذلك أحد، وكل مَن يُؤمِن به هو يُؤمِن فقط بالسُلطة، هو عنده نظرية أيدولوجية سُلطوية، هو موضوع سُلطة فقط وليس موضوع دين، وهذه لعنة طبعاً، قال أبو ذر يا رسول الله أفلآخذ سيفي – ما دام الحكاية وصلت إلى الدماء – فاجعله على عاتقي؟ سوف أقاتل مع الحق يا سيدي ضد المُبطِّلين، قال له النبي شاركت القوم إذن، أي أصبحت مثلهم ودخلت في الفتنة، لم يقل له خُذ سيفك وكُن مع المُحقين، وإنما قال له شاركت القوم إذن يا أبا ذر، سوف تُصبِح منهم، في الفتنة ماذا أفعل؟ قال له تجلس في بيتك، تكون حلساً – مثل الكساء الذي يُوضَع على البعير – من أحلاس بيتك، أجلس في البيت على مدار الأربع والعشرين ساعة ولا أخرج في الفتنة، قال يا رسول الله فإن دُخِل علىّ بيتي أو قال داري؟ دخل هؤلاء المُتصارِعون في الحرب الأهلية علىّ في بيتي وأرادوا أن يقتلوني، لم يقل له في هذه الحالة ارفع سلاحك كالخرطوش أو الرشاش مثلاً، حتى في هذه الحالة قال ممنوع، يا الله، يا رسول الله، هو هذا، علماً بأن كل مَن درس تواريخ الحروب الأهلية يعلم أن هذا الدرس نفسه يتكرَّر دائماً والله العظيم، هذا النبي يا جماعة، هذا نبي وليس الشيخ فلان والشيخ علان من الذين عندهم بيانات وما إلى ذلك، لا يا جماعة، الآن دخلنا في موضوع ثانٍ غير الذي كنا نتكلَّم فيه، وهو يحتاج إلى وقت له وحده، وعلى كل حال قال له فإن خشيت أن يبرهك شعاع سيفه – خفت يا أبا ذر من هذا الموت الزؤام الأحمر – فألق ثوبك على رأسك يبؤء بإثمه وإثمك، من ثم سوف تكون خير ابني آدم، كُن أنت المقتول ولا تكن القاتل، إياك أن تُشارِك في القتل، إياك أن تفعل هذا، وإياك تُتيح فرصة لمَن يُريد أن يقتل تحت جناحك فانتبه، كأن يُقول لك أحدهم سوف أخرج وأنا مُسالِم، نحن أصبحنا في فتنة الآن، في كل مرة تخرج فيها سوف يدخل معك آخرون لكي يُعمِلوا القتل ومن ثم هذه سوف تُحسَب عليك والقتل سوف يستمر، وهذه أمة – كما قلت لكم – مُتربَّص بها، لها أعداء يُحِبون أن يُفكِّكوها وأن يُدمِّروها، وهؤلاء الأعداء ينجحون، فإلى الآن كل خططهم نجحت، أليس كذلك؟ نجحوا هنا وهنا وهنا، ولك يبق إلا هنا – أي في مصر – لا قدَّر الله، لا قدَّر الله أن تنجح، نحتاج إلى عقل ونحتاج إلى الإخلاص ونحتاج إلى وعي، المسألة ليست مسألة مُحِق ومُبطِل ومظلمتي ودون ماله ودون أهله ودون عرضه ودون نفسه، هذا كله نزاع فردي فافهم حتى لا يضحكون عليك، افهم لأن هذا الحديث في النزاع الفردي – واحد مع واحد – وليس في النزاع الأهلي، هذا هو الدين لكننا لا نتعلَّم، ليس عندنا قدرة على أن نتعلَّم التاريخ، سوف أقول لكم شيئاً ثم نرجع إلى موضوعنا، وهو أنني أستطيع أن أفهم أن هذا يصدر عن المُتطرِّفين المسكونين بالكراهية والحقد والرغبة في التدمير لكن لا يهمني طبعاً موضوع اللحى وحديثهم عن الإسلام، هذا كله ما يهمني ولا يُمكِن أن أغتر به، هل أنا أغتر بلحية؟ لا يُمكِن، حتى الماركسيون عندهم لحية كبيرة وما إلى ذلك، كارل ماركس Karl Marx كان عنده لحية، لا تهمني اللحية والعناوين ولا يهمني قول أحدهم أنا مُجاهِد وأُجاهِد وجاهدوا ثم يأتي بآيات، هذا لا كله لا يهمني، أنا يهمني أن أُحلِّل سلوكك وأن أُحلِّل خطابك وأن أُحلِّل الأهداف التي تذهب إليها والنتائج التي تنجم عن أفعالك ومسالكك، هذا الذي يهمني أنا، أما بالنسبة لنيتك فأنا لست رب، هذه عند الله، لا أستطيع أن أعرفها، مهما تعمل لا أقدر على أن أقول لك أنت قطعاً من أهل النار، أنا لا أعرف، أنت حر لكن المُرجَّح أنك من أهل النار طبعاً، لأنك قتلت شخصاً ظلماً، هذا المُرجَّح لكني قطعاً لا أعرف، ولايهمني هذا الموضوع كله، لكن يهمني فقط أن أحكم عليك – كما قلت – بحسب الأشياء المذكورة وبحسب المعايير المذكورة، هؤلاء بالذات أنا أفهم تماماً لماذا يُكرِّرون أنفسهم ولماذا لا يتعلَّمون الدرس ولن يتعلَّموا، وإلى اليوم وغداً وبعد وغد وإلى عشرة آلاف سنة قادمة ستبقى الأمم – ليس فقط نحن وإنما كل الأمم – تُنبِت أمثال هؤلاء لكن على قلة وأكثر، من المُمكِن أن يصيروا أقل بإذن الله تعالى، من المُمكِن في لحظات حرجة في الأمة أن يكونوا كثرة كئيبة قابضة، لكن لماذا إذن لا يتعلَّمون؟ هل تعرفون لماذا؟ مُشكِلتهم ليست في المعرفة وليست في العلم بمعنى أنه لا يفهم بشكل صحيح وأنه يُمكِن تصليح سولكه بتفهيمه، لا والله، في مُعظَم الحالات ليست هذه مُشكِلتهم، إذن ما هى المُشكِلة؟ المُشكِلة نفسية أخلاقية، هؤلاء أُناس لديهم رغبة في القتل، هناك أُناس عندها استعداد للجريمة، الواحد منهم عنده هذه الرغبة وعنده قدر كبير من العقد ومن الكره للناس، هو يكره الناس، لذلك من المُستحيل أن تجده بسَّاماً طيباً حبيباً، تُوجَد شدة رهيبة يا أخي، شدة في النظرة وشدة في الكلام وشدة في الفعال، عنده شدة عجيبة، هؤلاء الناس مسكونون بطاقة غير طبيعية من الكراهية ومن الأحقاد ومن السودوية ومن المرارات، يُحِبون أن يسيروا في هذا الطريق، أي طريق القتل والتدمير والتخريب، لكن ماذا يحتاجون لأنهم مسلمون في أمة مسلمة؟ التبرير والذريعة، وجدوها عند الشيخ فلان، هل الذي عنده نصف كم؟ بل حتى الذي بلا كم، شيخ ماذا؟ وهباب ماذا؟ هل هو يفهم شيئاً؟ هل هو يعرف كيف يتكلَّم؟ هل يعرف كيف يُفسِّر؟ هل هو يفهم شيئاً يا أخي؟ فقط هو الشيخ أبو فلان، أبو عوسجة وأبو قتادة وأبو مُرة وأبو سمرة، هذا شيئ يُجنِّن، وجد له كُتبيات صغيرة ومنشورات وفي النت Net وتصويرات فكرَّهونا حتى في أشياء كثيرة، وهذا شيئ غريب يا أخي، وآيات قرآنية تُتلى وما إلى ذلك، ويُقال لك هذا الشيخ قال كذا وكذا وانتهى الأمر، الشيخ أعطاه فتوى أن الجندي حلال، قال هم أعطوا الجندي المصري ورجال الأمن المصريين فرصة – مثلاً – لكي يتركوا البلد، قالوا لهم هذه فرصة لكم لكي تتركوا هذا، ما شاء الله، هل يترك بلده لك؟ هل يترك بلده ويترك الأمن ويترك كل شيئ لك أنت ولأمثالك؟ وأنتم عندكم استعداد بعد ساعة فقط من عدم تركنا لهذه المواقع أن تذبحونا وتذبحوا بلادنا وأهلنا، ما شاء الله على الذكاء هذا الفظيع، وهو يعرف أنك لن تترك، ومن ثم يقول أنا أعطيتك الفرصة وقد أعذر مَن أنذر، ما هذا يا أخي؟ من أين أتى هؤلاء الناس؟ من أين نزلوا علينا؟ من أي أرض نبتوا؟ ويقتل لك الواحد منهم الجنود ورجال الأمن ويحرق ويسحل وكأنه أمر عادي وهو مُرتاح جداً، ويُقال جاهدوهم وقاتلوهم فهذا جهاد وقتال، أي فقهٍ هذا يا أخي؟ أي فقه هذا؟ والله لو دُفِعَت الملايين – الملايين المُملَّيَنة وأُقسِم بالله على هذا – لإنتاج مثل هذا الفقه ودسه على الأمة لتدميرها ما نجح هذا النجاح، لا إله إلا الله، لذلك أنا أقول لكم اترطوا قليلاً المشاهد اليومية المُبتذَلة والمشاهد العاطفية، واتركوا حتى الحدث الراهن، وألقوا نظرة طائر، انظروا إلى المشهد البانورامي، سوف ترون أن هذا الخطاب الإسلامي بالطريقة هذه دمَّرنا في الجزائر فذهبت الجزائر، ودمَّرنا في العراق، وهذا بإسم الإسلام، فذهبت الجزائر بإسم الإسلام وليس بإسم أي شيئ ثانٍ، وذهبت العراق بإسم الإسلام والصراع الشيعي والسُني والسُني والشيعي وإلى آخره، وذهبت سوريا بإسم الإسلام ونُصيري وسُني وكذا ونحن وما إلى ذلك، وسوف تذهب مصر – لا قدَّر الله، وإن شاء الله لن تذهب بإذن الله تعالى وبحق لا إله إلا الله – بإسم الإسلام، يا ما شاء الله على الإسلام، وذهبت أفغانستان ودُمِّرَت وذُبِّحَت بإسم الإسلام، ما هذا الإسلام العجيب يا أخي؟ وقُسِّمت السودان وانفصل جنوبها عن شماله بإسم الإسلام أيضاً، ما هذا الإسلام الحلو؟ ما هذا الإسلام الفظيع؟ ما هذا الإسلام الذي ليس فيه أحد لكي يقف ويتساءل ما هو هذا الإسلام؟ مَن وراء هذا الإسلام؟ مَن وراء هذا الخطاب؟ إلى متى سنبقى هكذا صماً بكماً عمياً؟ إلى متى؟ وكان المفروض الإسلام والخطاب الإسلامي والمشروع الإسلامي باستمرار وعلى الدوام – والله العظيم – يُنتِج النتيجة المُعاكِسة – أقسم بالله – ويكون حلَّالاً للمشاكل في الشعب الواحد ويكون – والله العظيم – مُؤلِّفاً للقلوب – لقلب القبطي على المسلم والمسلم على القبطي والشيعي على السُني والسُني على الشيعي – ومُقرِّراً لحقوق الإنسان، ومُتقدِّماً أن يكون الإسلام بخُطوات على كل ما قرَّره الغرب والشرق – وإن قرَّر – من حقوق الإنسان، ولكن هذا ما حصل، ولا يُوجَد إلى الآن حتى إمكانية أن يحصل بسرعة للأسف الشديد، أليس كذلك؟ لذلك أعود وأقول انتبهوا إلى حرية الرأي وحرية القول، تعوَّدوا وتمرَّنوا وتمرَّسوا أن تستمعوا إلى القول الآخر حتى وإن لم تكونوا مُقتنِعين به، أعطوا أنفسكم فرصة أن تستمعوا إليه، أعطوا أنفسكم هذا، نحتاج إلى هذا كثيراً،
رأي واحد يُدمِّرنا، وهنا قد يقول لي أحدكم لقد خضت بنا في أمور ودخلت في أشياء لكن حرية الرأي وحرية التعبير وحرية القول ما علاقتها بالدين؟ هل تتساءل عن علاقتها بالدين؟ نحن – كما قلت لكم – ثقافتنا في الجوهر وفي الأساس دينية، والدين سبق كل مواثيق العالم – وبالذات العالم الغربي – في تقرير هذه الحريات والله العظيم، وسنختم الخُطبة بضرب أمثلة من كتاب الله وسُنة رسوله وسيرة الخلفاء الراشدين، وسوف ترون فعلاً كيف كانت الحرية، وخاصة حرية التعبير وحرية القول، هذا رأيي يا سيدي – مهما كان هذا الرأي – وأُريد أن أقوله، ولا أُعتقَل ولا أُقتَل ولا أُروَّع بسبب رأيي، هذا هو الإسلام والحمد لله، يتحدَّثون عن الثورة الفرنسية في ألف وسبعمائة وتسع وثمانين، لكن أصلاً في بريطانيا في ألف وستمائة وتسع وثمانين – قبل مائة سنة بالتمام – تم إعلان حقوق الإنسان البريطاني، وقُرِّر فيه – كُتِبَ فيه هذا – حرية التعبير، الإنسان عنده الحق أن يُعبِّر بحرية عن آرائه دونما إزعاج، هذا كان يُوجَد قبل الثورة الفرنسية، وقبل حتى هذا الإعلان البريطاني في حوالي ألف وستمائة وأربعة وأربعين ينشر جون ميلتون John Milton الـ Areopagitica، وفي الـ Areopagitica يُدافِع عن كل الآراء ويُعطيها الفضاء الذي تصطرع فيه بحيث تنتصر دائماً الحقائق على الزيوف والأكاذيب ويُدافِع عن الطباعة غير المُرخَّصة، هذا هو المقصود بال Areopagitica، المقصود بها أن حتى الطباعة الغير مُرخَّصة لابد أن نسمح بها، والخطاب كان مُوجَّهاً للبرلمان الإنجليزي، لماذا إذن؟ لأننا لو قلنا نُريد أن نُرخِّص سوف ندخل طبعاً في الحدود والتقييدات، أليس كذلك؟وأشياء كثيرة ستُستبعَد ولن تجد فرصة أن تبرز إلى النور، فجون ميلتون John Milton كان يُناقِش هذا بأسلوب عبقري في هذا الكتاب، وهذا الكتاب قد يصل إلى مائة وثلاثين صفحة وهو كتاب عبقري جميل، قال أن الطباعة حتى غير المُرخَّصة لا ينبغي أن تُرخّص، الكل يطبع والكل يتكلَّم فلا يُغلَق فم إنسان، والتعديل الأول في الدستور الأمريكي ألف وتسعمائة وواحد وتسعين كان عن ماذا؟ أول تعديل في الدستور الأمريكي يقول ممنوع على الكونجرس Congress – هذه الهيئة التشرية التسنينية – أن يُدخِل تقييدات وتحديدات على حرية القول والتعبير، هذا ممنوع وهذا أمرٌ جميل، ممنوع أن يُدخِلوا شيئ من هذا، وهذا لا يعني طبعاً حرية مُطلَقة، لكن هذا موضوع ثانٍ، وهنا قد يقول لي أحدكم وماذا في القرآن؟ القرآن فيه ما تلوته عليكم،الملائكة تُناقِش الله، تقول الآية الكريمة قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۩، لم يقل لهم هلكتوا فاذهبوا إلى جهنم يا ملائكة، لم يقل هذا أبداً، تقول الآية الكريمة قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ۩، ولم يُعوِّل على علمه الأزلي السابق فحسب بل أثبت لهم مُباشَرةً صدقية هذا الاختيار، هو اختار ذلك – اختار يجعل هذا الخليفة هذ الآدم وليس ملكاً من الملائكة – وأبرز لهم هذا، تقول الآية الكريمة وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ۩، ثم تقول الآية التي أتت بعدها قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩، قال لهم أرأيتم؟ هذا يعني أن تصرّفي صحيح، يا الله، الله – تبارك وتعالى – لا يكتفي بحيثيته كإله – لأنه هو الإله الخالق المُدبِّر لا إله إلا هو – ولم يقل أنا فعلت وانتهى الأمر وممنوع أن يتكلَّم أي أحد، لم يحدث هذا أبداً، ولم يُغضِبه أنهم استفصلوا وأحبوا أن يُناقِشوا ويستفهموا، هم حاوروه – لا إله إلا الله – يا أخي، فلا يقل لي أي أحد أنا فوق الحوار، مَن أنت، لا يُمكِن لأي أحد أن يقول هذا، كل واحد يُمكِن أن يُحاوَر ويُؤخَذ منه ويُرَد عليه، هذا رب العالمين، وهذه آية مفتاحية في حرية التعبير، فما رأيكم؟ لأن الطرف فيها رب العزة لا إله إلا هو، ثم أن القرآن ملآن وغاص – غاص من أوله إلى آخره – بسرد مقولات الكافرين والمُشرِكين والمُشبِّهين والمُشكِّكين، وقالوا ويقولون وسيقولون، أليس كذلك؟ القرآن ذكرها حتى وخلَّدها، هو أثبتها وخلَّدها، وهناك أشياء فيها قدح في الله مُباشَرةً وقدح في الأنبياء وفي الرسل واتهامات لهم بكذا وكذا وكذا، فيُوجَد قدح في محمد – عليه السلام – وقدح في كتاب الله وما إلى ذلك، أليس كذلك؟ هذا شيئ غريب، لكن هذا موجود دون أي مُشكِلة، كل هذا موجود، ثم أن هناك مُحاوَرات مع الرسول، قال الله قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا ۩، هى كانت تُجادِل وتأخذ وتعطي ولم يقل لها ما هذا؟ لم يقل لها مهْ أو صهْ، لم يقل كفى لأنني رسول الله، لم يقل هذا أبداً، وأنزل القرآن ينتصف للمرأة، فحل لها عقدة مُشكِلتها، القرآن لم يكن ضدها أبداً، لابد من الحوار، هذه حرية تعبير، وهى عندها الحق تُعبِّر عن رأيها يا أخي، ما المُشكِلة؟!وليس هذا فحسب، بل أن ربنا – تبارك وتعالى – نهى جماعة من الصحابة عن مُناداة النبي بإسمه من خلف الحجرات وقال إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ۩، كانوا ينُادون عليه قائلين يا محمد باستمرار، فكانوا يُزعِجونه ويُنادونه بإسمه الفردي، وقبل هذا كان يُوجَد أُناس من الصحابة – ومنهم حتى صحابة أجلاء وأنتم تعرفون القصة – يرفعون صوتهم فوق صوت النبي، قال الله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ ۩ أنت اليوم لا تقدر أمام عالم جليل أو شيخ وقور ن ترفع صوتك كأن تقول بصوت عالٍ لا والله هذا غير معقول وهذا كذا وكذا، لا تقدر على أن تفعل هذا، هذا عيب ومن ثم الكل سوف يزدريك ويقتحمك بعينه، ماذا تفعل أنت؟ هل أنت مجنون؟ لكن ماذا عن النبي؟ ترتفع أصواتهم ويقولون لا يا فلان لا يا علان بين بعضهم عند الرسول، وهنا قد يقول لي أحدكم هذه الآية معروفة وتتعلَّق بثابت بن قيس وأبي بكر وعمر وكل هذه القصة المعروفة في الصحيحين، لكن الدلالة الغريبة لمطلع هذه السورة الجليلة هل تعرفون ما هو؟ أن النبي لم ينهاهم ولو لمرة واحدة، النبي نفسه لم ينههم وكان يسكت وكأنه أمر عادي، يعلون أصواتهم عنده ويتكلَّمون ويصرخون مهُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ع بعضهم ويسكت وكأنه أمر عادي، يُنادون عليه قائلين يا محمد من وراء الحجرات ويسكت وكأنه أمر عادي، فالنبي لم يتكلَّم، لكن مَن الذي تكلَّم الآن؟ رب النبي ورب هؤلاء، قال لهم لا تفعلوا هذا، هذا غلط، هذا أمر لا يليق بمقام النبي الخاتم والرسول العظيم، لكن النبي لم يتكلَّم، أرأيت؟ النبي عنده هذه اللياقات، لياقات الاتساع للجميع والتسامح مع الجميع وسماع الجميع، سواء أخطأوا أو أصابوا هذا أمر عادي ومن ثم يسمع، وليس هذا فحسب، قال الله وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ ۩، هل تعرفون اللمز؟ قال الله ۩، وهذا عيب، أي أنه يعيب النبي ويذكره بعيب، هل النبي يُعاب؟ ألا تباً لكم إلى آخر الدهر، قال الله وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ۩، أي أن الله حتى كشف النقاب عن دوافعهم الصغيرة، الدوافع صغيرة، فالدوافع ليست الحق والعدل، والله ،لو ثاروا من أجل الحق والعدل لقلنا قد يكونوا مُحِقين، لكنهم لم يفهموا هذا، ولم يضعوا الهناء موضع النقب، ولكن ثاروا من أجل ماذا؟ من أجل حظوظهم النفسانية، هم لم يأخذوا منها، إذا أعطيتهم سوف تكون أحسن شخص يا محمد، إذا لم تُعطِهم سوف يتهمونك في عدالتك، ولذلك هذه الآية سبب نزولها أن النبي جاءته غنائم – بعض الغنائم – فجعل يُنفِقها ها هنا وها هنا كما يقول الراوي، أي أنه لم يترك لنفسه أي شيئ، جعل يُنفِقها هنا وها هنا، فلم يبق منها شيئ، ووراءه فتىً من الأنصار – شاب أنصاري صغير غير مُؤدَّب – فقال ما هذا بعدلن أي أن هذا ليس من العدل، لأنه لم يأخذ منها، فأنزل الله وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ ۩، هل تعرفون إسمه؟ لا نعرف إسمه، هل أخذوه وضربوا على وجهه؟ لم يفعلوا هذا أبداً، لكن القرآن أراد أن يُعلِّمه ويُعلِّمنا من خلاله أن هذا لا يصح أونه غلط ولا يليق أن يُقال في حق رسول الله، وإذا يُوجَد لمز فإن اللمز فيك، موقفك شخصاني جداً، أي ذاتي أو ذاتوي، لأنك لم تأخذ منها، لو أخذت لقلت هذا عدل، ونفس الشيئ حدث في حديث أبي سعيد الخدري في صحيح البخاري ومسلم، عندما انصرفوا من هوزان – أي حنين بعد فتح مكة – جاءته غنائم كثيرة جداً طبعاً، ولعلها أكثر غنائم غنَّمها الله المسلمين، وأنتم تعرفون أيضاً ماذا فعل، النبي كان يُعطي ويتألَّف، يتألَّف أبا سفيان وصفوان ومُعاوية وفلان وعلان، يتألَّف ويعطي هؤلاء وهؤلاء وهؤلاء وهؤلاء، وطبعاً مُعاوية أخذ أيضاً وهذا معروف، فهو كان يتألَّفهم لأنه يُريد منهم أن يُحِبوا الإسلام وتطمئن به قلوبهم وتنشرح به صدورهم، فجاء حُرْقُوص – ذو الخُوَيْصِرَة إسمه حُرْقُوص، وذو الخُوَيْصِرَة كان شيطاناً وقد خرج منه الخوارج – وقال أمام الناس اعدل يا محمد، أف، قال هذا لمحمد وليس لرئيس دولة، الآن يقولون تكلَّم في الرئيس فضعوه في السجن، أيام مُبارَك كانوا يُسجنون الشخص بالسنتين وبالثلاث حتى لأنه تكلَّم كلمة في الرئيس، إبراهيم عيسى عندما قال عنه مريض وضعوه في السجن، ما هذا؟ هل هو لا يمرض؟ والله لم نكن نعرف أن مُبارَكاً لا يمرض، هل هو مصنوع من ذهب أم من ماذا؟ قالوا لا يمرض، كيف تقول هو يمرض؟ ولك أن تتخيَّل هذا، فهذه القصة لا تتعلَّق بمُبارَك ومرضه وإنما تتعلَّق برسول الله، هذا رسول رب العالمين، وقيل له أمام الناس وأمام أصحابه وفرسانه اعدل يا محمد فإنك لم تعدل منذ الغداة، منذ الصباح وأنت تُظلِم، كل هذه القسمة لا تدخل في رأسي، فقال له النبي ويلك، خبت وخسرت إن لم أعدل، هل أنا لا أعدل؟ سوف أكون خائباً وخاسراً إن لم أعدل، قال له خبت وخسرت إن لم أعدل، فقالوا له يا رسول الله أفنضربه؟ فقال اتركوه، هذا رأيه وقد عبَّر عن رأيه، ماذا حدث؟ كشف عن سوءته وعن نفسه المُظلِمة المُلتاثة، لكن أنا لن أفعل له شيئاً، هذا الرسول يا إخواني، انظروا إلى الرسول وانظروا إلى العصور الوسطى، وهذه أحاديث صحاح ولها إشارات في كتاب الله تبارك وتعالى، فهذا هو إذن.

في الصحيحين من حديث أبي هريرة – رضوان الله عليهم أجمعين – قال جاء رجلٌ يُطالِب النبي بدينه – أعطى النبي ديناً – فأغلظ له، أي أغلظ للنبي وقال له أنت كذا وكذا، كيف تتكلَّم مع النبي بهذه الطريقة؟ فهمَّ به النبي الصحابة، قال النبي دعوه – اتركوه – فإن لصاحب الحق مقالة، يا سلام، يا سلام يا رسول الله، يا سلام، هذا هو طبعاً يا أخي، الرجل يرى أن هذا وقت دينه، أي وقت التقاضي، والنبي لم يُعطِه، لكن لماذا النبي لم يُعطِه؟ لأن النبي لا يترك في بيته شيئاً واحداً، النبي كان لا يسمح لنفسه أن يبيت عنده طعام الغد، ما رأيكم؟ هذا شيئ غريب، هذا ممنوع وكان يغضب ولا يستطيع أن ينام، لابد أن يُنفَق كله في الأمة وفي الناس لكن لا يُترَك عنده، ويقول ما ظن محمد لو لقى الله وهذا في بيته؟ لكن كم هذا يا رسول الله؟ عشر دراهم أو خمسة دراهم، مثل عشرة يورو أو عشرين يورو، أي كلام فارغ، وكان عنده تلال الذهب والفضة لكنه يُعطيها للناس باستمرار، فمن المُؤكَّد أنه لم يكن عنده ما يدفع به دينه فتأخَّ، لكن هذا الرجل أغلظ للنبي، ما هذه الناس يا أخي؟ سبحان الله، تقول الآية الكريمة أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ۩، الله يُريد أن يُعلِّمنا، الله بعثه في أمة غليظة صعبة كالحجر الصوان وكالصلد لكي نتعلَّم، لكي نتعلَّم أن هذه أخلاق الأنبياء وأخلاق أتباع الأنبياء، قال النبي دعوه – لا تُزعِجوه – فإن لصاحب الحق مقالة، وليس هذا فحسب، بل كان هكذا مع زوجاته، وهذا عند مَن؟ عند العرب يا حبيبي، ما أحلى المرأة حين ترد على زوجها في قريش، مَن أنتِ؟ وأصل الحديث في الصحيحين عن سيدنا عمر رضوان الله عليه، هذا حدث حين كان يُآمِر نفسه في أمر، أي يُفكِّر في أمر ويتدبَّره، يقول كنت في أمرٍ أتدبَّره، فقالت لي زوجتي لو فعلت كذا وكذا، فقال لها اسكتِ يا لكاع، ما لكِ ولأمرٍ أتدبَّره؟ أي ما علاقتكِ بالموضوع؟ كما نقول، ما دخلكِ أنتِ وأنتِ امرأة، ماذا يقول سيدنا عمر في أول الحديث؟ إن كنا في الجاهلية لا نعد النساء شيئاً، أي أنها صفر ساقط كما نقول، المرأة كانت لا تُمثِّل شيئاً، هى صفر ساقط، لا يُمكِن لامرأة أن تقول لزوجها اعمل أو لا تعمل ورأيي كذا وكذا، رأي ماذا؟ تُصَك على وجهها مُباشَرةً، لأن هذه أمة جاهلية، فعمر كان يسير على هذه الأخلاق في ذاك الوقت لأنه ظن أن الأمور كما هى لم تتغيَّر وخاصة في هذا الموضوع بالذات، ولذا قال لها اسكتِ، فقالت عجبت لك يا ابن الخطاب لا تُحِب أن تُراجَع – أي لا تُحِب أن تُراجِعك امرأة – وابنتك حفصة تُراجِع رسول الله حتى يظل يومه غضبان، فقال لها ماذا؟ وتُراجِعه؟ قالت له نعم ويظل طول اليوم غضبا أيضاً، فعمر مُباشَرةً خرج مكانه – كما يقول الرواي – وأخذ ثوبه – لا يُوجَد تأجيل لأنه لا يُصدِّق هذه القصة – وقصد إلى ابنته وقال لها يا بُنية أوتراجعين رسول الله؟ قالت له نعم إنا لنُراجِعه، إلى آخر الحديث، ليس أنا فحسب بل أنا وعائشة وفلانة وعلانة، نُراجعه ونرد عليه وما إلى ذلك، هذا أمر عادي، هذا هو النبي، يا سلام، هو مُعلِّم بل أعظم مُعلِّم، هذه حرية التعبير، هذا لا يعجبني ومن ثم أقول رأيي، أرأيتم؟ هذا هو النبي.

أدركنا الوقت، أبو بكر في أول خُطبة له – رضوان الله على صديق هذه الأمة – قال وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوِّموني، يا سلام، هو لا يُعطيهم الحق بل يأمرهم به، قال هذا واجب معصوب بجبينكم ومُناط في أعناقكم، هذا واجب فلا تسكتوا، لأن أمة الخير تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، حين ترى غلطاً احكه، حين ترى تقصيراً احكه، لا تقل هذا أمير المُؤمِنين وهذا خليفة بل احك ما حدث، ونفس الشيئ فعله سيدنا عمر، وعمر مشهور بهذا، وإن كان أكثر أحد مشهور في هذا الباب هو عليّ عليه السلام، لماذا؟ لأن زمانه زمان نزاع، مر عليه خمس سنين كلها نزاع وخوارج ومشاكل وفتن داخلية، فسوف يكون مضرب الأمثال هنا عليّ في هذه الأشياء، لأن هناك أشياء كثيرة حصلت له عليه السلام، ولكن سيدنا عمر كان يفعل نفس الشيئ أيضاً، فهو أيضاً مضرَّب الأمثال في هذا الباب، في مرة كان يسير عمروظمأ ظمأً شديداً فاستسقى شاباً من قريش، شاب من قريش كان يجلس فقال له اسقني يا أخي أو يا بني، فجدح له ماءً بعسل، ما معنى جدح؟ خلط، لم يُحِب أن يُعطي أمير المُؤمِنين ماء فقط، فأتى بالماء ووضع عليه العسل وخلطهما ثم قال تفضل، فقال لا أُريده، قال الله تعالى أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا ۩، حين يُخلَط الماء بالعسل فإن هذه تكون مسألة رافهة، أي فيها ترف، لو كان ماء فقط لشربناه، لكن الشاب لم يسكت وأفهمه أنه يفهم الآية بشكل غير صحيح وأن كل كلامه غير صحيح وأنه يضع الآية في غير موضعها، فقال له مُباشَرةً – لم يقل أستأذنك يا مولانا أو بعد إذنك أو أعطني الأمان وما إلى ذلك وإنما تحدَّث مُباشَرةً – يا أمير المُؤمِنين ليست هذه الآية لك ولا لهذا القبيل، أي أنها ليست لك ولا للمسلمين كلهم، قال له هى في الكفار، فقال له كيف؟ قال له اقرأ ما قبلها، قال الله في سورة الأحقاف وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ ۩، فعمر ضرب كفاً بكف وقال كل الناس أفقه من عمر، كل الناس أفقه من عمر، أي اتضح أننا لا نفهم شيئاً، قال كل الناس أفقه من عمر بكل بساطة، وهو أمير المُؤمِنين، عمر هو إمبراطور المسلمين، وطبعاً قصته مع المرأة التي رواها البيهقي وغير البيهقي وأبو يعلى الموصلي على ما أذكر معروفة للكل، أليس كذلك؟ قال ممنوع أن الشخص يدفع مهراً أو يستدفع مهراً أكثر من كذا وكذا، لابد أن يكون قليلاً وفي الحد الفلاني وكذا وكذا، فقامت له امرأة – يُقال أنها عجوز – وقالت يا أمير المُؤمِنين أكتاب الله أحق أن يُتبَع أو قولك؟ انظروا إلى هذه العبارة شديدة جداً، قالت له نحن نتبع مَن؟ هل نتبع كلام الله أم كلامك؟ فقال لها بل كتاب الله يا أمة الله، قالت له فإن الله – تبارك وتعالى – يقول وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا ۩، كم؟ قال الله قِنْطَارًا ۩، إذن يجوز هذا، لأن الله يقول وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا ۩، إذن من المُمكِن أن أعطي مهراً يُساوي قنطار ذهب أو فضة، أليس كذلك؟ وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا ۚ أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا ۩، عمر أول ما سمع هذا رجع إلى المنبر، لأن أين أعلن كلامه؟ على المنبر، فلم يُحِب أن يقول لها بينه وبينها بارك الله فيكِ والله يفتح عليكِ واستري علينا واذهبي، لم يفعل هذا، أنا أخطأت في الاجتهاد على المنبر وسوف أُصحِّحه على المنبر، فمُباشَرةً عاد إلى المنبر، جفل الناس وقالوا ماذا يحدث؟ فقال أيها الناس كنت نهيتكم أن تتغالوا في المهور ألا فليفعل رجلٌ في ماله ما شاء، كلُ أحد أفقه من عمر، قالها مرتين – يقول الراوي – أو ثلاث مرات، افهموا هذا فهو يقول لهم لا تُقدِّسوني، لا تظنون أنني نسيج وحدي، من المُمكِن أن أغلط بل وأغلط كثيراً، وهذه المرأة طلعت أفهم مني، وغيرها أفهم مني فانتبهوا، يا سلام عليك يا أبا حفص، رضوان الله تعالى عليك، هذا هو الذي يُريد الحقيقة، هذا الذي يُريد الحق، هذا الذي يُريد مصلحة الجميع، لا يُريد مصلحة نفسه وحيثيته وسُلطته أبداً، وإنما يُريد الحقيقة للناس، يفنى في الحق رضوان الله تعالى عليه.

بقيَ فقط أن نختم الخُطبة الثانية – إن شاء الله – بنماذج من الإمام عليّ أبي الحسن، وما أروعها وما أحسنها وما أجملها من نماذج إن شاء الله، لكي نرى كيف أسَّس هذا الدين – نصه المُؤسِّس في الكتاب والسُنة – وخلفاؤه الراشدون لحرية القول والتعبير.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستعفروه.

الخُطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

أما بعد، إخواني وأخواتي:

تعرفون قصة الخوارج مع الإمام عليّ – عليه السلام – وقصة التحكيم وأنه حكَّم الرجال بدل أن يُحكِّم كتاب الله وكفَّروه وكل هذه القصة الطويلة البلهاء، فهذا الكلام طبعاً كلام أبله، موضوع التحكيم موضوع أبله وهو كلام أُناس لم يفهموا كتاب الله تبارك وتعالى، تقول الرواية كان الأمام أبو الحسن – عليه السلام – ذات صباح – ذات غداة – يُصلي بأصحابه وأتباعه – أي بأمته – صلاة الصبح في الكوفة، يُصلي وهو إمام في المسجد، ولكم أن تتخيَّلوا إلى أين وصلت هذه السخافة وهذا السخف في هؤلاء الخوارج، فإذا بأحد هؤلاء الخوارج في الصفوف الخلفية ولعله كان لا يُصلي خلف عليّ طبعاً – بما أنه يرى كفر فإذن لا يُصلي خلفه بالحري والله أعلم – يقول إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ۩، أي أنه يُريد أن يُشوِّش عليه، كأنه يقول لهم مَن تصلون خلفه كافر أصلاً، هذا حكَّم الرجال – حكَّم أبا موسى وعمرو بن العاص – في قضية كذا وكذا وهذا لا ينفع ومن ثم هو كافر، فهم كانوا يُشوِّشون عليه، لو هذا حصل اليوم ماذا سوف يحدث؟ قل لي ماذا سوف يحدث؟ لو وقف رئيس الدولة أو الملك أو الشيخ أو الأمير وقام له أحدهم وأراد أن ينكِّت عليه بآية كهذه، ماذا سوف يحدث؟ نُكتة أنك فاسق وضال وكافر، الإمام عليّ لم ينصرف من صلاته، لم ينُبه شيئ غير أنه تلا على البديهة قول الله – تبارك وتعالى – فَٱصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ ٱلَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ ۩، ثم مضى في صلاته، هذا هو فقط، وانتهت القضية، لا طلبه ولا حاققه، لماذا لم يطلبه رغم أنه يقوم بالتشويش عليه؟ هل تعرفون لماذا؟ هذا رأيه، رأيه أنه كافر وكذا، هو لا يقوم بعمل مشاكل عملية ولا يرفع السلاح إذن فليُترَك، ولذلك حين عاد الإمام عليّ – كرَّم الله وجهه – من النهروان بعد حربه الخوارج وقع بأيدي رجاله وكان مُتقدِّماً عليهم في المسير رجل إسمه أبو العيزار الطائي يرى رأي الخوارج، لم يخرج بالسلاح لكنه كان مُتعاطِفاً مع مقولاتهم الأيدولوجية – مثل قولهم لابد من تحكيم شرع الله وأنتم تُحكِّمون الرجال وهذا لا يجوز ولذا هذا كفرٌ بكم – فقالوا هذا مُشكِلة فائتوا به، ويبدو أن أبا العيزار الطائي له يعني قيمة في قومه فأخذوه، أتوا به الإمام عليّ، فقال مَن هذا؟ قالوا هذا أبو العيزار يرى رأي الخوارج، قال الإمام عليّ حسنٌ، ماذا ترون أن أفعل به؟ قالوا اقتله، هو يحمل نفس النظرية، فقال أقتله ولم يخرج علىّ؟ كيف أقتله؟ هل أقتله بالرأي؟ هل لأنه حامل لنظرية الخوارج أقتله؟ هذا مُهِم جداً اليوم، أنا أقوله لكي نسمعه جيداً بسبب هذه الأحداث التي تجري اليوم، هو حامل للنظرية وحامل للفكر، فهل أقتله لأنه فقط يحمل فكر الخوارج؟ قال لهم ما هذا؟ هذا ظلم، أقتله ولم يخرج علىّ؟ هو لم يحمل سيفاً ولم يُقاتِلني، هو حمل فقط النظرية، قالوا له تحبسه، أي ضعه في السجن، قال أحبسه ولا جنايةَ له؟ وهنا قد يقول لي أحدكم هل الرأي ليس جناية؟ ليس جناية، الرأي ليس جناية، يا أخي هذا رأيه وهذه قناعته، قناعته أنك كافر وأنك كذا وكذا لكن لا يفعل أي مشاكل ولا يحمل سيفاً، إذن هو حر يا أخي، فليُكفِّر إذن، ماذا أفعل له؟ أنا عند الله كيف أنا، وهو عند الله كيف هو، أليس كذلك؟ قال أحبسه – أسجنه – ولا جنايةَ له؟ قالوا فماذا نفعل به، قال خلوا سبيل الرجل، أي اتركوه، ما هذا الكلام الفارغ؟ انظرو إلى الإمام عليّ، يا سلام، وهذا مَن ؟ انتبهوا إلى هذا دائماً وتذكَّروه، هو ليس رئيس دولة وإنما هو خليفة المسلمين، كل المسلمين باستثناء أهل الشام تحت رايته، وكانوا يأتمرون بأمره، هؤلاء رعيته وأمته، أي أنه كان إمبراطوراً كبيراً جداً جداً ومُخيفاً، لكن ليس عنده هذا الكلام، هذه ليست جناية، والأعجب من هذا أن الإمام عليّ عنده عبارة مثل التي قالها عمر، عمر قال لا خير فيكم إن لم تقولوها – قولوا وكونوا أحراراً – ولا خير فينا إن لم نسمعها، والإمام عليّ عنده عبارة من أروع ما يكون، ماذا قال؟ قال لا تُكلِّموني – لا تُخاطِبوني – بما تُكلَّم به الجبابرة ولا تتحفَّظوا مني بما لا يُتحفَّظ به عند أهل البادرة – مَن أهل البادرة؟ الحكام الذين عندهم حدة وغضب، ومن ثم أنت تتحفَّظ في الكلام لأنك تخاف منهم – ولا تنثنوا أو كما قال عن أن تقولوا عندي بالحق الذي ترون، فلست بمُعظِمٍ لنفسي، وإن الذي يستكبرُ أن يسمع الحق أن يُقال له أو العدل أن يُعرَض عليه لهما عند العمل بهما أو العمل بهما عليه أثقل أو كما قال، ثم قال فلا تكفوا عن مقالٍ بحق – لمَن؟ لي، دائماً قاولوني وردوا علىّ وكلِّموني وشافهوني، بماذا؟ قال عن مقالٍ بحق، أي شيئ ترونه حقاً تكلَّموه معي بشأنه، قولوا يا أبا الحسن هذا صح وهذا غلط وهذا ينفع وهذا لا ينفع، تكلَّموا معي ولا تسكتوا، هو يُغريهم بهذا ويحثهم عليه – فلا تكفوا عن مقالٍ بحق أو مشورةٍ بعدل، فإني لست في نفسي بفوق أن أُخطيء، ولا أملك هذا من نفسي إلا أن يكفي الله ما هو أملك به منها مني، فإنما أنا وأنتم عبيدٌ مملوكون لربٍ لا رب غيره، يا الله، ما هذا الجمال؟ ما هذه العظمة؟ يُغري أمته بحرية الرأي ويقول لهم قولوا، هل تعرفون لماذا؟ لأنه الهدف الأكبر والهدف الأبعد مصلحة الأمة واستقرار الأمة وسعادة الأمة ومن ثم رضاء الله بهذا بإذن الله تبارك وتعالى، هذا شيئ عجيب، كان يخرج أحدهم عنده مئذنة في بيته – أحد أعداء الإمام عليّ صنع له أسطوانة في بيته كالمئذنة – كلما أذَّن مُؤذِّن المسلمين – كأنه مُؤذِّن عليّ، لكنه مُؤذِّن المُسلِمين ويُؤذِّن للصلاة – ويبدأ يسب عليّ، يصعد المئذنة ويقول له فيك وفيك، يقول إنما أنت ساحرٌ كذاب، والناس طبعاً كانت تنزعج، كيف يسب أمامنا؟ لماذا قلة الأدب هذه؟ وعليّ يكتفي بأن يقول له حسبك عنقٌ من جهنم، قال له يُوجَد حساب في الآخرة فقط، هل أخذه؟ هل قبض عليه؟ لم يفعل هذا أبداً، قال له أنت بهذه الطريقة تعرف نيتك، حسبك عنقٌ من جهنم، سوف يطلع لك غداً عنقٌ من جهنم في الآخرة وهذا يكفي، ثم يكف عنه، هذا هو الإمام عليّ، هذه حرية التعبير، وأنتم تعلمون القصص الكثيرة التي تقول كيف كانوا يسبونه وما إلى ذلك ورغم كل هذا كان يعفو عنهم و لا يتكلَّم، لذلك هذا الموضوع طويل، فنحتاج إذن أن نقول وأن يسمع بعضنا بعضاً دون أن نتشنج ودون أن نترامى بالتكفير وبالخيانة، أنا رأيت أُناساً يستسهلون جداً الرمي بشيئين، بالخيانة وبالكفر، يُقال هذا خائن، هذا من الخونة، لقد خان القضية وخان الأمة، يا جماعة هذا بهتان، لا تستسهلوا هذا، هذا الشيئ فظيع، علماً بأن لا يسلك هذا المسلك إلا ضعيف الحُجة، الإنسان غير الواثق في حُجته وغير الواثق في موقفه يفعل هذا، والأسوأ من هذا التكفير، وكم مرة وكأين من مرة سمعتم فيها وعرفتم أن التكفير خُطوة إلى التفجير والقتل، اليوم يُكفِّر وغداً يقتل.

في النهاية لعل من أجمل العبارات التي تُكثِّف موضوع حرية الرأي وقدسية هذه الحرية عبارة الفرنسي المُتشكِّك الربوبي فولتير Voltaire، هذه العبارة للأسف ليست لعربي وليست مُسلِم لكن قالها فولتير Voltaire وشرَّقت وغرَّبت، وفعلاً هى من أجمل ما تسمع في حياتك، قال اختلف معك فيما تقول ولكنني مُستعِد أن أُدافِع حتى الموت عن حقك في أن تُعطَى الفرصة لتقول ما تعتقد، أي أنني أختلف معك ولا أقتنع بفكرتك لكن عندي الحق في أن أُدافِع حتى الموت من أجل أن تُعطَى الفرصة أن تقول ما تعتقد، يا ليت هذه الأمة تبدأ تتعلَّم هذا المنطق الآن، وهذا المنطق منطق الكتاب والسُنة والرسول والخلفاء الراشدين.

اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً، واغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أسرفنا وما أنت أعلم به منا وما جنينا على أنفسنا، جنِّبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم أصلِح ذات بين المُسلِمين وألِّف بين قلوبهم، اللهم إنا نسألك أنت ترحمنا، اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم، ولا تُعذِّبنا فأنت علينا قادر، اللهم لا تُشمِت بنا الأعداء ولا تجعلنا مع القوم الظالمين برحمتك يا أرحم الراحمين، يا قوي، يا متين، يا رب العالمين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة.
(انتهت الخُطبة بحمد الله)

فيينا (13/9/2013)

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: