حرية الإرادة بين الوعي واللاوعي

video

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. مَن يهده الله، فلا مضل له. ومَن يُضلل، فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شرك له، ولا نظير له، ولا مثال له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفوته من خلقه، وأمينه على وحيه، ونجيبه من عباده. صلى الله تعالى عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته المباركين الميامين، وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.

عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أحذركم وأحذر نفسي من عصيانه سبحانه ومخالفة أمره، لقوله جل من قائل مَّنْ عَمِلَ صَٰلِحًا فَلِنَفْسِهِۦ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّٰمٍۢ لِّلْعَبِيدِ *.

ثم أما بعد/

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات/

يقول الله جل مجده في كتابه العظيم، بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم:

لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ *

آمين، اللهم آمين. صدق الله العظيم، وبلغ رسوله الكريم، ونحن على ذلكم من الشاهدين. اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين، اللهم آمين.

إخواني وأخواتي/

في تجربة علمية مشهورة، جرى تعريض عدد أو مجموعة من طلاب الجامعة، لنص يدور حول حرية الإرادة، وينحاز إلى الرأي الذي يُقرر ويُثبت هذه الحرية، فيما جرى تعريض مجموعة أخرى من هؤلاء الطلاب، لنص آخر ينفي حرية الإرادة، وينحاز إلى تقرير كونها وهماً من الأوهام، التي ينخدع بها البشر.

واللافت بعد ذلك، أن المجموعة التي عُرض عليها النص المُنكر لحرية الإرادة – هذا ضمن تفاصيل وامتدادات التجربة -، مارست نوعاً من السلوك الشرير العنيف، إزاء مجموعة من الناس، سبق وأن أخبرت عن نفسها، بأنها لا تُحب الطعام الحار، بأنها لا تُحب الطعام الذي يحتوي على مواد حريفة أو مواد كما نقول بالعامية حارة، كالفلفل مثلاً. هؤلاء الطلاب الذين تعرضوا لقراءة النص المُنكر لحرية الإرادة، عملوا عن قصد وعن عمد، لزيادة هذه المواد الحريفة في الطعام.

سلوك شرير! وطبعا النتيجة منطقية ومفهومة إلى حد بعيد. بما أنني لست مسؤولا عن أفعالي، وبما أن هذه الأفعال تُملى علي بطريقة لا واعية، لا شعورية، بقول آخر بما أنني مجبور، مُكره، مُسيّر، مُلجأ، مُضطر، إذن لا علي أن أفعل ما يعن لي. وسواء أكنت شريراً أم خيراً، الأمر خارج عن نطاق إرادتي. نتيجة منطقية، ولكنها كانت صادمة. طلاب جامعيون! طلاب جامعيون، المفروض أنهم مَن سيقود عما قليل المُجتمع، في شؤون السياسة والاقتصاد والثقافة وغير ذلك، نزعوا إلى سلوك شرير، بمُجرد فقط أن أُلقي إليهم فكرة أنكم لستم مسؤولين، لستم مسؤولين عن قراراتكم التي تجترحونها؛ لأنه لا حرية للإرادة، لا Free will، لا يُوجد شيء اسمه Free will أبداً.

المجموعة الأولى التي أُكّد لها عبر النص المقروء أن حرية إرادتهم مُقررة ومكفولة، لم يسلكوا مثل هذا السلوك. شيء عجيب! ولذلك هذه القضايا ليست قضايا ترفية، تدعها لعلماء الأعصاب وعلماء النفس الاجتماعي وعلماء التحليل النفسي والفلاسفة – خاصة فلاسفة الأخلاق -؛ ليُعالجوها. لا، أبداً! إنها تضرب في صُلب وجوهر حياتنا المعيشة اليومية. حين يتعرض ابنك أو ابنتك لمثل هذه الأفكار، عبر مُقررات دراسية، جامعية أو مدرسية، أو حتى عبر التلفاز ووسائل التواصل الاجتماعي، حتماً ستُلقي بظلالها على سلوكه وعلى نظرته لنفسه ولأفعاله ولمفهوم الأخلاقية بشكل أساسي.

يُمكن أن أذهب خُطوة إلى الأمام؛ لأدعي أو أزعم أن إنكار حرية الإرادة، بغض النظر عما يُقام على هذه الدعوى العريضة الكبيرة، من أدلة يُزعم أنها علمية أو فلسفية أو غير ذلك، إنكار حرية الإرادة سيضرب الأخلاقية من أساسها. هم يدعون أنه ربما يُؤثر على المسؤولية القانونية والمسؤولية الأخلاقية! أبداً، أكثر من ذلك، هو سيقوض مفهوم الأخلاقية أساساً، رأساً، من أساسه! لأن ما معنى الأخلاقية؟ لِمَ لا يُوصف الحيوان بأنه أخلاقي أو لا أخلاقي؟

المفروض أن الحيوانات يُمكن أن تُوصف مسلكياتها كلها بأنها مُحايدة أخلاقياً. الحياد الأخلاقي Amoralism، Moralism أخلاقية، أما Amoralism، ففيها هذه ال A للنفي، وليس معناها ضد أو Anti-Moralism، لا! Amoralism الحيادية الأخلاقية. بمعنى أنه لا يصح أن تصف سلوكات الحيوان بأنها أخلاقية أو بأنها لا أخلاقية، هذا خطأ وهذا خطأ، هي مُحايدة أخلاقياً. كما يقول المناطقة لدينا مثلاً من قديم، من أيام أرسطو Aristotle، الملكة وعدم الملكة. ليس من شأن الحائط أن يُوصف بأنه ذكر، لو قلت إنه ذكر، خطأ، لو قلت إذن هو أنثى، خطأ! لأنه ليس من شأن الحائط أساساً أن يتصف بالجندرية، لا ذكر ولا أنثى. كذلك الحيوانات ليس من شأنها أساساً أن تتصف بالأخلاقية أو باللاأخلاقية، هي غير قابلة لهذه الملكات.
فقط الإنسان، الكائن الإنساني، الآدمي، هو القابل للملكات الأخلاقية. هو القابل للملكات الأخلاقية، ومن هنا يُمكن أن يُوصف سلوكه بأنه أخلاقي أو لا أخلاقي. ولا يُمكن ولا يصح أن يُوصف بأنه مُحايد أخلاقياً. هو إما أخلاقي وإما لا أو غير أخلاقي.

جميل، لماذا من شأن إنكار حرية الإرادة، أن تقوض الأخلاقية من رأسها، أساساً، وأصلاً؟ سنُتابع قضية المُقارنة والتمثيل بالحيوانية إزاء الإنسانية. ما مقدار المسافة أو المدى الفاصل بين رغائب وشهوات الحيوان، وبين إرادته للتلبية والإشباع – إذا سمحت الظروف طبعاً الخارجية -؟ تقريباً صفر. الحيوان حين يشتهي شيئاً، وليكن أي شيء، سواء أتعلق بالمطعوم أو المشروب أو بالمُسافدة “العملية الجنسية” أم غير ذلك، هو إذا احتاج أو اشتهى أو رغب شيئاً، يتوجه إلى اصطناعه مُباشرة، إذا لم تقهره ولم تمنعه ولم تحل الظروف الخارجية، بينه وبين تلبية هذه الشهوة أو الرغبة. هذا الحيوان! أما الإنسان، فإن المسافة بين رغائبه ومُشتهياته، بل احتياجاته وأحياناً ضروراته التي يتعلق بها بقاؤه، وبين إرادته أن يُلبي هذه الاحتياجات والمُشتهيات والرغائب، أحياناً قد تتمادى إلى مديات مُذهلة جداً، أحياناً قد تذهب بحياته، قد يُضحي حياته دون أن يُلبي! لماذا؟ ببساطة؛ لأنه ليس حيواناً، ولأنه كائن أخلاقي. المسافة بعيدة جداً!

العوام يُدركون هذا المعنى الفلسفي العميق والجميل في فلسفة الأخلاق، حين يرون شخصاً يتصرف بطريقة نزوية، ويُلبي مُشتهياته، بغض النظر عن كونها عيباً أم حراماً أم غير ذلك، يقولون هو حيوان! لأنه حيوان، وتصرف بطريقة حيوانية. أي هم ربما ليسوا واعين بهذه التوصيفات الدقيقة، لكن لديهم وعي عام وإجمالي أو جُملي بها. الإنسان إنسان، بمقدار ما يتمادى الفاصل بين رغائبه وبين إرادة تلبية الرغائب.

لماذا إذن يتمادى الفاصل؟ ما هي منشأية أو ما هو منشأ الفاصل هذا؟ منشأ الفاصل هو الذي يضرب في جذور الأخلاقية. قد يكون الحلال والحرام، التشريع الإلهي، قد يكون المُعتادات والتقاليد والاعتبارات الاجتماعية. لدينا اعتبار الحرام، الشعور بالذنب، ولدينا اعتبار العيب، الشعور بالعيب، بالخجل، بالعار بال Shame كما يقولون. اعتبارات تحكم الإنسان! لا نُريد أن نُناقش هذه الاعتبارات بحد ذاتها، لكن نحن نلفت إلى مدى فاعليتها، ومدى محكومية السلوكات الإنسانية لها، محكومية عظيمة جداً جداً.

حتى سيغموند فرويد Sigmund Freud كما سبقت الإشارة غير مرة صرّح بالآتي. وهذا الرجل معروفة توجهاته الأخلاقية وتفسيراته الليبودية أو الجنسية لمُختلف المنازع والسلوكات البشرية، إلا أنه صرّح بأن الحضارة، لم تنبثق ولم تظهر ولم تحصل، إلا بضبط الغرزي فينا. ضبط الغرائز! ضبط الغرائز جذر الأخلاقية. ضبط الغرائز كيف يتم؟ بتمادي الفواصل، كما قلت بين الحاجات، بين الغرائز، بين الرغائب، وبين إرادة تلبيتها.

لذلك مَن يتكلم في حرية الإرادة نفياً وإثباتاً، عليه أن يقف مُطولاً عند بيان الفرق بين الإرادة وبين الرغبة، أي بين ال Will وال Desire، بين الإرادة وبين الرغبة! يبدو أن الرغبة نوع خاص من الإرادة. مدفوع – هذا النوع الخاص من الإرادة مدفوع – بالغرائز، مدفوع بحوافز وبواعث، قد تكون لا واعية، قد تكون لا شعورية، وقد تكون عاطفية، وقد تكون موهومة، بغض النظر! لكن الإرادة، يبدو أنها بطبيعتها أمر ينتمي إلى العقلانية، أمر عاقل ومعقول، ويُدخل في اعتباره قضايا كثيرة، ليس فقط الدين والعادات، قضايا كثيرة! والمصلحة وأشياء كثيرة جداً. وهكذا تنشأ الأخلاقية. لا يُمكن تصور الأخلاقية، إذا أسقطنا كل هذه الاعتبارات وكل هذه المعاني.

للأسف الشديد العلماء، وخاصة علماء الأعصاب – في حقل علم الأعصاب -، من ثمانينيات القرن المُنصرم؛ القرن العشرين، بدأوا يُصرحون، وبصوت عال ومُزعج، بأن حرية الإرادة وهم، والعلم أثبت أنها وهم!

في القديم كان هذا الموضوع الشائك مُختلفاً. وهو من أكثر الموضوعات اشتباهاً واشتباكاً والتباساً. وذكرت مرة في خطبة قديمة لي، أن الفيلسوف الألماني الكبير إيمانويل كانط Immanuel Kant، اعتبر أن أكثر المسائل الفلسفية التباساً وتعقيداً، بل اعتبرها غير قابلة للحل، ثلاثة – وطبعاً نحن لا نُوافقه البتة، ولكن هذا رأيه -؛ مسألة وجود الله تبارك وتعالى، ومسألة الخلود، أي بقاء النفس – بفرض وجود النفس؛ لأن العلم المادي الطبيعاني لا يعترف بالنفس للأسف الشدية -، والمسألة الثالثة حرية الإرادة.

حرية الإرادة مسألة في غاية التعقيد، كان يُتعاطى معها على المستوى الفلسفي الميتافيزيقي والمستوى اللاهوتي الثيولوجي الكلامي. من الثمانينيات دخل على الخط علم الأعصاب، وبدأ يُدعى أن العلم قوض حرية الإرادة، كشف عن موهوميتها، مجرد Illusion! أي An illusion، مُجرد وهم، خُدعنا به عبر ألوف السنين! خُدع به الفلاسفة والمُفكرون واللاهوتيون والبشر العاديون حتى، البشر العاديون الذين تقريباً قل أن تجد منهم مَن يرتاب في أن لديه إرادة حرة، والعجيب أنه قد يستند إلى بعض الأدلة، تُعتبر بحد ذاتها، حين إعادة صياغتها، من أقوى الأدلة علمياً وفلسفياً، ويصدر عنها الإنسان، بما يُسمى في الفلسفة الموقف الطبيعي. الموقف الطبيعي البسيط لكل إنسان، من غير فلسفة، من غير علم، من غير حذلقة، من غير جدل! ولكن أدلة في مُنتهى القوة والصلابة، دون أن يدري العوام أنهم يتوفرون على مثل هذه الأدلة.

على كل حال، إذن لماذا؟ لماذا من الثمانينيات؟ تجربة قام بها عالم الأعصاب أو عالم الأحياء العصبية – هو كان Neurobiologist – اسمه بنيامين ليبيت Benjamin Libet، الأمريكي. تجربة مشهورة، لا نُريد أن نُطول بذكرها، موجودة في كل الأدبيات التي تُعالج مسألة حرية الإرادة، يكفي فقط أن تكتب بنيامين ليبيت Benjamin Libet، تأتيك عشرات ألوف النتائج، وتأتيك وثائقيات وتبسيطيات كثيرة جداً، معروفة! تجربة أصبحت أيقونية بامتياز.

باختصار، الرجل أراد أن يقيس شيئاً ما، يتعلق بحرية الإرادة، وعلاقتها بالوعي، وهل نحن نجترح قراراتنا، نتخذ قراراتنا عن وعي، أم أنها تُملى علينا بطريقة لا واعية؟ وطلب من المُختبرين لديه، أن يثنوا معاصمهم، وقتما يُقررون، أمامهم ساعة دوّارة، لكن أن يكونوا مُنتبهين إلى اللحظة التي يُقررون فيها ثني معاصمهم، أي ال Wrists، أي عند أي ثانية بالضبط، ويكتبون هذا.

يقول تفاجأت. وطبعاً أدمغتهم مُوصلة بجهاز رسّام، بجهاز رسّام المخ. طبعاً بعد ذلك طُورت هذه التجارب كثيراً، وصاروا يُصورون بال FMRI وأشياء أخرى، لا بأس! لكن التجربة هذه أساسها. لاحظ أنه قبل أن ينبعث الإنسان، ليحرك يده أو معصمه، يثني معصمه، ما الذي كان يحصل؟ قبل ذلك بزهاء خمسمائة مللي ثانية – الثانية ألف مللي، أي نصف ثانية، بزهاء نصف ثانية -، تنبعث نشاطات كهربية ما في الدماغ. بعد ثلاثمائة مللي ثانية، المُختبر يُصبح واعياً بما يُريده. أي المُخ أراد، قبل أن تعي أنت. أنت في الهامش، أنت مُهمش، ليس لك دور! المُخ، اللاوعي! اللاوعي هو مَن فعل! أنت متى تعي أنك تُريد؟ بعد ثلاثمائة. أي قبل مئتي A second ثانية، من ماذا؟ من الفعل نفسه. قبل مئتين! وهذا هو ترتيب هذه الأرقام؛ لكي نفهم التجربة؛ ثلاثمائة، وخمسمائة، ومئتان. هو هذا، على كل حال.

لا أريد أن أُسجل الآن أو أسرد النقود العلمية والفلسفية أيضاً الكثيرة جداً على هذه التجربة، حتى النقود العلمية والتجارب المُعارضة! أريد أن أعيد تقييم هذه التجربة، وتقييم تفسير ليبيت Libet لتجربته، من منظور بسيط، نعم هو فلسفي وفكري وما إلى ذلك، لكنه بسيط، وأرجو أن يكون مُقنعاً، وأرجو أن يكون مُضيفاً، يُضيف شيئاً جديداً، يُبسط هذه القضية التي كُتبت حولها عشرات ألوف الصحائف. عملية مُزعجة جداً أصبحت، تجربة ليبيت Libet هذه!
طبعاً لإنصاف البروفيسور بنيامين ليبيت Professor Benjamin Libet، هو قال بعد أن يُصبح الفرد واعياً بما يُملى عليه من اللاوعي، يبقى لديه حوالي مئة مللي ثانية – أي عشر الثانية -، ليُقرر هل أريد أن أفعل – أثني معصمي – أو لا أريد؟ وهذا ما يُمسى بماذا؟ حرية الرفض. وسُميت باسم هكذا رمزي ومُضمّن مُصلطحاً سياسياً بفيتو ليبيت Libet’s veto، هكذا تُسمى! Libet’s veto فيتو ليبيت.

نبدأ من هذه النُقطة بالذات، كان على الدكتور ليبيت Libet أن يسأل نفسه؛ هذا الفيتو Veto، هذه المُمانعة، هل هي إرادية، أم غير إرادية؟ هل هي واعية، أم غير واعية؟ واضح أنها واعية. وهو لم يقل إنها غير واعية! لأنها تتضمن ماذا؟ الرفض. الدماغ، اللاوعي لديك، يُريدك أن تثني معصمك. الوعي لديك يقول لا تفعل. في نهاية المطاف، يبدو أن هذا القرار بالرفض هو ابن الوعي، وليس ابن اللاوعي. هذا يكفينا، مُمتاز! في المرحلة الأولى يكفينا جداً، وهذا سيُقوض مُجمل تفسير ليبيت Libet لتجربته، سيُقوضه من أساسه وبطريقة بسيطة جداً جداً، وسوف نرى كيف، سوف نرى كيف!

لذلك هذا التضخيم الميلودرامي Melodramatic، هذا التفسير الميلودرامي Melodramatic – تضخيم، تضخيم رهيب لتجربة ليبيت Libet – عليه أن يتواضع قليلاً، وأن يعود إلى مُربع الصدقية والواقعية والموضوعية، وأن يقبل النقاشات الكثيرة، التي لها احترامها واعتبارها، في هذا الباب.

جميل، إذن قرار الرفض في نهاية المطاف هو قرار إرادي، والإرادة هي الماثلة والحاضرة هنا، إرادة! مَن قال إن الإرادة ينبغي أن تكون دائماً بالإيجاب؟ أبداً، بالعكس! الإرادة؛ أريد أن أفعل، أريد ألا أفعل، أليس كذلك؟ أريد أن أفعل، أريد ألا أفعل. أحياناً يتكبد الإنسان أكلافاً ضخمة، يدفعها، لماذا؟ لأنه يقول لا. ومعنى قوله لا، أنه يُريد ألا يخضع، يُريد ألا يخضع لإملاءات جبار، لإملاءات ربما إغرائية أو إكراهية، إني أخاف الله. ورجل – شاب مثلا – دعته امرأة ذات منصب وجمال – منصب يمنعهما من المُلاحقة والمؤاخذة، وجمال يُغريه ويُحرك فيه الوحش الرابض في دمه، إن جاز التعبير، غريزته -، فقال إني أخاف الله. كُتب على ابن آدم حظه من الزنا، مُدرك ذلك لا محالة، فالعينان تزنيان وزناهما النظر، والفم يزني وزناه القُبل، واليد تزني وزناها اللمس، والفرج يُصدّق ذلك أو يُكذّبه. عُدنا إلى مُربع الفرق بين الرغبة والإرادة. هل تُريد أن تفعل؟ هل تُريد أن تُلبي غريزتك، أن تُشبع هذه الغريزة فيك بما يُغضب الله تبارك وتعالى؟ لا أريد، مهما كان الطرف الآخر ممنوعاً مُحصناً وجميلاً مُغرياً، لا أريد؛ لأن الله لا يُريد، وبالتالي أنا لا أريد. الأخلاقي في، الروحاني في، لا يُريد. وقال لك هذا مادة! نحن لسنا مُجرد مادة، انس! نحن شيء يتعالى على المادة.

لماذا أدفع حياتي أحياناً ثمناً؟ لماذا أضحي ربما بعشرات الملايين من الدولارات؟ تُعرض علي وتُدفع لي طواعية وسماحاً، مُقابل أن أتنبى موقفاً مُعيناً، لن يُلحق بي على المستوى الشخصي الضرر، سيُلحق بآخرين، لكن أنا سأحوذ الملايين. لا أفعل، مع أنني فقير، مع أنني مدين. هذا هو الإنسان، هذه عظمة الإنسان، هكذا لا يكون الحيوان، هكذا ينبغي أن يكون الإنسان، هذه هي المسألة.

إذن الإرادة ليس بالضرورة أن تكون إرادة التلبية والإيجاب، أيضاً إرادة النفي والسلب والرفض، إرادة! وهي بنت الوعي. لِمَ افترضت أن إرادة الإيجاب هي دائماً بنت اللاوعي؟ مَن قال؟ مِن أين لك؟ مَن قال؟ ومِن أين لك؟ السؤال الثاني، الأكثر حراجة، وهو يضرب في الصميم؛ مِن أين لك أن هذا النشاط الكهربائي مثلاً الذي ثار في الدماغ، هو إرادة أن أثني معصمي؟ مَن قال هذا؟

وعلى فكرة، البروفيسور ليبيت Professor Libet، وهنا كان مُوفقاً جداً في تقديري، سمى هذا النشاط المُتزايد، الذي يأخذ طريقه إلى الانبثاق والظهور، قبل خمسمائة مللي ثانية، من انطلاق العضلة للفعل، سماه جهد الاستعداد Readiness potential، جهد الاستعداد! جميل جداً، هنا الاستعداد، ال  Readinessهذه! استعداد لماذا؟ لماذا لا يكون هذا الاستعداد نوعاً من التهيؤ الإجمالي العام للفعل، الذي لم يتحدد بعد، والذي سيتحدد بالإرادة الواعية؟

وأنا أضرب لهذا مثالاً مثلاً بجماعة من العدائين، قيل لهم انتبهوا، الآن أنتم تتسابقون، يحصل على الجائزة مَن يصل إلى الهدف أولاً قبل غيره، ولو بمتر واحد. إذن أين؟ لا، لم يُحدد. خُذوا أهبتكم، استعدوا، وربما نبدأ العد بعد عشر دقائق أو بعد خمس دقائق أو بعد دقيقة، لا ندري! عند الثلاثة انطلقوا مثلا، أو عند الواحد. ثلاثة، اثنان، واحد، انطلقوا.

أنا مُتأكد، وأراهن على هذا، أنه لو وُصلت أدمغتهم بأجهزة أيضاً كالمذكورة، من أي نوع مُتطور أو قديم، ستُسجل الأدمغة، نوعاً من ماذا؟ من نشاط الاستعداد. تهيؤ! لكن تهيؤ للجري، في أي جهة؟ ومتى؟ لا أحد يعرف. هذا ليس قرار الجري إلى الأمام، أو الأخذ إلى المُيامنة – المُيامنة الأخذ إلى اليمين، والمُياسرة الأخذ إلى اليسار -، أو الالتفات مئة وثمانين درجة والأخذ إلى الخلف، ليكون أمامي الآن ما كان خلفي. والجهات إضافية! هذا كله غير واضح؛ لأنه واقعياً غير مُحدد. فما جهد الاستعداد هذا؟ استعداد إجمالي. لماذا؟

أكثر من هذا، أنا الآن سأجازف بطرح احتمال ثالث، شديد الراديكالية، ومن منظورهم شديد الرجعية، لكن احتمال قائم، ليُختبر! لِمَ لا يكون جهد الاستعداد المُتكلّم عنه في تجربة ليبيت Libet أحد الأدلة، أحد المؤشرات، أحد المؤشرات على وجود النفس، المُجردة من المادة، وأنها حقيقتنا وجوهرنا، وما الدماغ، وما الجهاز العصبي برمته، وما البدن كله – وما البدن كله، أولاً عن آخر -، إلا فعلاً مركبة ووسيلة، تصطنعها هذه النفس؛ لكي تُعبر عن ذاتها، وعن إراداتها؟ لأن في نهاية المطاف لا أحد يستطيع أن يُقنعك أو يُقنعني أن القرارات تُملى علينا بطريقة لا واعية! غير صحيح، لا نجد هذا من أنفسنا البتة.

الآن ضربتان مُزدوجتان، إن جاز التعبير؛ الضربة الأولى أتت، لكنها لم تؤخذ بالاعتبار أيام ليبيت Libet، على أنها مُتقدمة عليه عقوداً، على يد جرّاح الأعصاب الكندي العظيم وايلدر بينفيلد Wilder Penfield. وايلدر بينفيلد Wilder Penfield ذكرته مرات كثيرة، في مُحاضرات قديمة. أحد أعاظم علماء الأعصاب، وجرّاحي الأعصاب، في التاريخ الحديث، إطلاقاً! وكان يُلقّب في وقته بأعظم الكنديين الأحياء، وايلدر بينفيلد Wilder Penfield!

وايلدر بينفيلد Wilder Penfield درس موضوع الوعي، والنفس، والبدن، وعلاقة الدماغ بالعقل – أي ال Brain بال Mind -، زهاء ثلاثين سنة، ووضع نتيجة أو حصائل تجاربه العلمية البارعة، التي استفادت منها كل البشرية، في هذا العصر، في كتابه سر العقل، لغز العقل، أي ال Mystery of the Mind.

ماذا فعل؟ وايلدر بينفيلد Wilder Penfield أتى بمجموعة من المرضى أيضاً، وبالطريقة الفسيولوجية التقليدية، أراد أن يُحفز كهربياً مناطق مُعينة في أدمغتهم، النتيجة ستكون تحريك اليد! اليد اليمين، اليد الشمال، الرجل، الأصبع، أي شيء! تجربة في مُنتهى الذكاء والبساطة، ودلالتها موحية.

فعل هذا، بدأت تتحرك الأعضاء، وسألهم وكان مُتوقعاً النتيجة، على الأقل لا بد أن يتوقع بنسبة خمسين في المئة، خمسين في المئة أنهم سيقولون نعم، نحن الذين حركنا أيدينا. لماذا؟ لأن التحريك جاء بعوامل مادية، بعوامل فيزيقية، بيوكيماوية، أو كهربائية، ولكن كلها عوامل مادية! اشتعالات ما في الدماغ، مادة! الأمر كله مادة، ويُختزل إلى مادة! هكذا يقول الطبيعانيون، أصحاب النموذج البحت، المُنكرون للنفس والروح.

لكنه فوجئ بأن جميع المُختبرين قالوا يا دكتور، نحن لسنا الذين حركنا أعضاءنا، أنت تفعل هذا. الله أكبر! عجيب! إذن ما الفرق بين هذه الحالة التي يُستثار فيها الدماغ كهربياً، ويُدرك المُختبر أنه لم يكن صاحب القرار، وبين الحالة التي يُقرر هو فيها، ولا يرى جرّاح الأعصاب وعالم الأعصاب إلا استثارات مُشابهة تماماً في الدماغ؟

أين هو الوعي؟ أين سر الوعي؟ أين ينبثق الوعي؟ ما هي نواة الوعي إذن؟ إلى ما ينتمي الوعي؟ موضوع الوعي ولغز الوعي لا أريد حتى أن أتطرق إليه؛ لأنه أصعب وأكثر تعقيداً مما يُظن! هذا يحتاج إلى ظروف أخرى، للإشارة – حتى مُجرد إشارات مُقتضبة – إليه. ولذلك الرجل غيّر نموذجه المادي! لن أستفيض بهذا.

الضربة الثانية – قلت ضربة مُزدوجة – ما هي؟ للأسف كل هؤلاء، سواء من علماء أعصاب أو فلاسفة ماديين أو أقل من ذلك، مِمَن ابتهجوا واستُطيروا فرحاً بكون حرية الإرادة وهماً من الأوهام التي عفا عليها الزمن بالدليل العلمي الصارم، كل هؤلاء لم يسألوا أنفسهم، بالعكس هم فعلوها، أي عادلوا بين الوعي وبين حرية الإرادة. بمعني أن كل ما تقوم به، واعياً به، نعم يُمكن أن تكون حراً في اجتراحه، لكنهم أكدوا في الوقت ذاته أن اللاوعي هو الذي يقودك، وتظن أنك كنت واعياً، تظن! تعيش الوهم هذا، أنت تعيش الوهم هذا! لكنك لست واعياً. اللاوعي هو الذي يقودك، ويعطيك وهم أنك واع، وتفعل هذا!

وهذا الكلام في مُنتهى الغلط، غلط كبير! طبعاً أكثرهم كما قلت علماء أعصاب، ليسوا فلاسفة، ليس لديهم تركيب عقل فيلسوف، يستطيع بضربة واحدة وبسيطة جداً جداً جداً، أن يقوض كل هذا البنيان، ببساطة! كيف؟

نعم! سأسألكم سؤالاً؛ شخص أراد أن يُصلح الموتور Motor في بئر؛ بئر عميقة، ربما بعمق ستين أو سبعين متراً في الأرض، تستنبط الماء، كما في بلادنا، تكون أكثر من ستين متراً! بين هو يُصلح، زلقت رجله، سقط! السؤال؛ وهو ساقط الآن، هل سقط باختياره؟ لا. هل يشعر بأنه مُضطر للسقوط؟ المسكين طبعاً مُضطر، ومرعوب من هذا، يتمنى لو وقف قانون الجاذبية عن العمل، وظل مُعلقاً في الهواء، قبل أن يصطدم بالأرض أو ربما بسواري حديدية تذهب به. لكن ليس هذا هو السؤال. السؤال الحقيقي؛ هل هو واع بما يجري عليه؟ طبعا واع. ما لم يُغم عليه، هو واع بما يجري عليه، وربما سارع إلى النطق بالشهادتين، واع! وواع بأنه إن مات الآن، سيقضي وينتقل إلى العالم الآخر! إذن فلأختم بالشهادتين؛ أشهد أن لا إله الله، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله. إذن واع.

هنا وعي، وهو مجبور ومُكره، أليس كذلك؟ لكن هو نفسه، لو شاء أن يتدلى في البئر، على سلم البئر، **.. هو الآن واع – الوعي أيضاً موجود -، ولكنه يفعل هذا باختياره. هو ينزل في البئر درجة درجة باختياره.

إذن المُعادلة بين حرية الإرادة وبين الوعي، مُعادلة مُتسرعة، وتركت فجوة. هذا نقد أيضا أن يُصوّب إلى أمثال هاته الطرائق المُتعجلة في التفكير.

قبل أن يُدركنا الوقت، وقد أزف ** الوقت للأسف الشديد، أريد أن أشير أيضاً إلى نقطة مُهمة، وهي أن القول بالجبرية وإنكار حرية الإرادة وبوهمية الإرادة الحرة، يُقوض أيضاً عقلانية الوجود، يشطب على كل شيء اسمه عقلانية، يُصبح العالم كله غير عقلاني، ولا شيء فيه عقلاني! والحق والحاصل والواقع أن العالم عقلاني، وأننا عقلاء، ونُفكر بطريقة عقلانية، ونعمل على تحسين العالم وتنميته وتغيير بنيته وشكله، بعقل وبدراسة.

لكي أثبت هذا، أحتاج إلى بعض المُقدمات، وقد تكون النتائج حتى مُلتبسة بالمُقدمات، أي بسرعة. أولاً، إخواني وأخواتي **، هل كل قراراتنا من قبيل تقرير ثني المعصم أو عدم ثني المعصم؟ واضح أن قرار ثني المعصم وعدم ثني المعصم، يندرج تحت ما يُمكن أن يُسمى بالقرارات التعسفية. ما معنى القرارات التعسفية أو الاعتباطية – أي Arbitrary decisions -؟ قرارات اعتباطية! أي لا تحتاج إلى قدر حتى مُحترم من العقلانية والمُحاكمة؛ حركت يدي، لم أحرك يدي، هو ليبيت Libet قال لي حرك أنت أو لا تحرك، كما تُريد.

لكي أوضح فكرتي ونقطتي، سآتي بمثال أحسن؛ آرثر إدينجتون Arthur Eddington في يوم من الأيام تحدث عن طاولتين، أنا سأتحدث عن كتابين.

بصفتي مثلا رجلا أحب القراءة والثقافة، ذهبت إلى معرض الكتاب. من بين عشرة أو خمسة عشر كتاباً حول حرية الإرادة والجدالات المُحتدمة حولها، أنا قررت أن أصطفي كتاباً منها. واضح أنني فعلت هذا بناء على اعتبارات عقلانية، في رأسها تزكية المُختصين؛ لأنني أنا قرأت عن هذا الكتاب مُراجعات في المجلات العلمية، كتبها مُختصون كبار، أثنوا على هذا الكتاب الفذ **. هذا اعتبار عقلاني تماما، أليس كذلك؟ واع أم غير واع؟ واع. في قمة الوعي، ومفهوم جداً، ويُمكن التنبؤ به. أي يُمكن لأي أحد آخر لا يعرفني، لكن يُقال له فلان هذا قارئ جيد، مُهتم بموضوعة الوعي وحرية الإرادة، وله فيها إسهامات من سنين، والآن لدينا خمسة عشر كتاباً، أي هذه الكتب ترشح أنه يختارها؟ سيقول أرشح هذا الكتاب؛ لأنه حديث، نزل قبل أسبوع، على الأرجح لن يكون في مكتبته. الكتب تلك قديمة، أكيد هو وقف معها. إذن هناك اعتبارات عقلانية، تسمح بالتنبؤ أيضاً. والقضية الآن غير خاضعة للحتمية، حتى لو سميتها حتمية – Deterministic، هذه تنبؤات حتمية، خلها ** حتمية، رغم أنه لا تُوجد حتمية حقيقةً -، هذه الحتمية معقولة، ومُبررة بتبريرات معقولة أيضاً، أليس كذلك؟

لذلك مذهب التوافقية أو مذهب التوافقيين في الغرب هنا، لا يرى تعارضاً بين الحتمية المادية، وبين حرية الإرادة، لكن هذا يحتاج إلى شرح، بعكس مذهب الحرية، يرى تعارضاً بين الحتمية المادية، وبين حرية الإرادة.

إذن هذا أول تبرير. التبرير الثاني موثوقية المؤلف؛ المؤلف مثلاً – نفترض مثلاً – البروفيسور شرينغتون Professor Sherrington، مثلاً في وقته، الحائز على جائزة نوبل، في جراحة الأعصاب وعلم الأعصاب والفسيولوجي، أو مثلا وايلدر بينفيلد Wilder Penfield مثلاً في وقته، عالم كبير هذا، حُجة في علم الأعصاب، كيف لا أقرأ له، وهذا عمل جديد له؟ اعتبار عقلاني. وعلى فكرة، يمكن أن نضع ليست ** بمثل هذه الاعتبارات، قد تبلغ عشرة أو حتى عشرين، كلها مفهومة ومعقولة تماماً.

الآن – الخطوة الثانية *** – في هذه المقدمة، هذا الكتاب الجديد، المُرشح بهذه الاعتبارات لأن أنتخبه، يوجد منه عشرون نسخة، عشرون نسخة! بعضها موضوع بشكل أفقي؛ ست نُسخ ***، وبعضها مرصوص فوق بعضه بشكل رأسي. مددت يدي، وأخذت نسخة. هل قراري بأخذ أو باصطفاء هذه النسخة من الكتاب كقراري السابق قُبيل قليل باصطفاء الكتاب نفسه من بين الكتب؟ الفرق كما بين السماء والأرض. القرار الثاني شبه اعتباطي، شبه اعتباطي! وأيضا اعتباطية معقولة. لماذا؟ لأنني أعلم بصفتي مُدمنا ** على القراء وأعرف الطباعة والقراءة وما إلى ذلك، أن هذه نسخ، مُجرد نسخ من كتاب واحد، مُتطابقة تماماً، ما لم يحصل كما يحصل في المطبعات العربية ***..، سقط في بعض الأوراق، وهذا الفشل الطباعي. هنا صعب جداً في هذا العالم أن يحدث هذا، كل نسخة تراجع على فكرة، وهذا شيء جميل في المطابع الغربية، كل نسخة تُراجع، لا يُمكن أن تجد عشرين صفحة ساقطة. على كل حال، ولذلك احتياري ** نسخة من بين النسخ ***… لو طُلب إلي اعتبار عقلاني مفهوم تماماً، لن أقدم. وسأقول لك لا، أنا اخترتها هكذا، ربما لأنها كانت الأدنى إلى يدي الشمال مثلا، أو يدي اليمين، أقرب إلي. أليس كذلك؟ فيما عدا ذلك، النسخ كلها مُتماثلة، وحتى مُغلفة بغلاف بلاستيكي ناعم، كلها، كلها! محفوظة حتى من الأتربة والأغبرة. هذا قرار اعتباطي، أليس كذلك؟

البنا ** الذي يبني، وربما يبني في اليوم خمسمائة طوبة، هل تظن أن يقف مع كل طوبة؛ لِمَ أختارك يا طوبة؟ من أين أضعك يا طوبة؟ أي يا بطة! لا يُوجد الكلام هذا. مُباشرة، يأخذ ويضع، يأخذ ويضع، أليس كذلك؟ حتى إذا أتى ***  إلى ال Corner، ويُريد طوبة من نوع مُعين، بدأ ينظر إلى الطوب المُكسر؛ لئلا يكسر واحدة صالحة. فيأخذ واحدة ويشذبها تشذيباً، ثم يضعها في الزاوية.

إذن هذه القرارات ماذا؟ اعتباطية. السؤال الآن؛ هل قراراتنا ** بالله عليكم، بوجه الله تبارك وتعالى قرارتنا في الحياة؛ في زواجنا، في طلاقهم – الأبعدين -، في تعلمنا، في اصطناعنا وظائف مُعينة، في مثل هذه الخُطبة **… هل مثل هذه القرارات، وغيرها بالملايين، هي قرارات اعتباطية، مثل اثن معصمك، لا تثن معصمك؟ ما هذه السذاجة؟ هذه سذاجة علمية وفلسفية، الحياة أكثر تعقيداً من هذا.

هناك قضايا، نحن نجترح فيها قرارات، تستبطن وعياً مُركباً جداً جداً، تدخل فيه دراسات علمية واستشارات، نستشير أقاربنا وأساتيذنا والخبراء والمُختصين. واحد زوجته مريضة، أليس كذلك؟ هل نُجري لها عملية؟ وأين نُجريها؟ ولماذا؟ وعند مَن؟ وكيف؟ وما الأفضل؟ وما إلى ذلك. ويُمكن أن تأخذ المسألة شهرين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة، أليس كذلك؟ وفي أوروبا أم في أمريكا؟ مايو كلينك Mayo Clinic أم جونز هوبكنز Johns Hopkins؟ أم أين؟ ولماذا؟ أم في كوريا الجنوبية؟ وكم تبلغ التكلفة؟ وكم تبلغ كذا؟ في هذه الفترة كلها؛ خمسة أشهر أو ستة أشهر، المسألة كلها واعية أم غير واعية؟ واعية، تشابك فيها وعي آخرين أيضاً، وعي آخرين! وعلى النت Net، وفي الحياة العادية. ماذا تقول لي؟ لا واع؟ هذا لا واع؟ هذا اعتباطي، مثل ثني معصم أو أخذ نسخة من كتاب؟ أبداً. القضية أكثر تعقيداً.

لذلك لا تتعجلوا، لا تصطنعوا هذه القفزة، وتدعوا أننا ضحايا وموضوعات لأدمغة تتخذ بالنيابة عنا القرارات، بغير وعي! كيف سنُصدق هذا؟ أنّى لنا أن نُصدق هذا؟

أستاذ مثلا في الرياضيات، في الثانوية العامة، ويعلم أن أحد تلاميذه نابغة رياضيات. أنا أقول لكم هذا الأستاذ سيُطلق تنبؤاً بنسبة تسعة وتسعين في المئة، سيقول بنسبة تسعة وتسعين في المئة، سيكون كذا. كيف؟ سيُعطي سؤالاً مُعيناً لتلميذه، وسيكتب في التنبؤ أنه سيُعيده بعد زهاء ربع ساعة، قائلاً ثمة خطأ مُعين في السؤال نفسه. لماذا؟ لماذا الأستاذ سيُطلق هذا التنبؤ؟ من أين؟ لأنه يعلم أن تلميذه نابغة رياضيات. كل ما درسه أو عُلّمه إلى حد الآن، حيذقه *** بشكل مُمتاز. الأستاذ، عن قصد وعن عمد، صاغ سؤالا غالطا، ولا يُمكن حله بأي من القواعد التي تعلمها هذا الطالب النابغة؛ لأن السؤال غلط، السؤال نفسه غلط!

الآن الطالب الفاشل غير الذكي في الرياضيات سيظل يُحاول إلى يوم الدين؛ أعطني فترة إضافية، أو ساعة إضافية، أو ساعتين إضافيتين. لو أعطاه الدهر كله، لن يحله؛ لأن السؤال غير قابل للحل، السؤال غالط أصلا. واضح ** ؟ أما الطالب النابغة، فبعد ربع ساعة، يقول ** يا أستاذ ثمة خطأ في صياغة السؤال، مُتأسف، مع احترامي لك. سيقول له ويل دون **، أحسنت، أنت الذي **…

على فكرة، هذا يحدث كثيراً – وليس قليلاً – عند تخرج أطباء كليات الطب. يؤتى بالطالب في الامتحان العملي إلى مُستشفى أو مصحة، ويؤتى إلى حالة راقدة على السرير، ويُقال له تفضل، اذكر لنا مِمَ يُعاني هذا المريض؟ يجري الفحوص بالطريقة العقلانية، مثلما أجرى الطالب تفحصا بالسؤال وإمكانيات حله بالطريقة العقلانية، اللاواعية أم الواعية؟ واعية تماماً. وتُراعي قواعد الرياضيات يا حبيبي. نحن الآن أمام رياضيات، ليس لا وعي ** وقرارات تعسفية. كما قلت لك هذه سذاجة فلسفية، هؤلاء الناس يتسمون بسذاجة غير طبيعية. يقولون لك أنت وأنت ** تجلس هكذا تتكلم، تقفز كلمة إلى ذهنك، اسم مدينة! تقفر رغماً عنك، انظر، أرأيت؟ الأمور كلها غير واعية. هذه سذاجة، المخ يعمل على مستويات، الذهن يعمل على مستويات، ذهني يعمل في النوم بطريقة تختلف عن طريقة عمله في اليقظة، ويعمل تحت تأثير المُهلوسات والمُخدرات، بطريقة تختلف عن طريقة عمله تحت تأثير التركيز العلمي والفلسفي والرياضياتي، وهكذا! والكل يعرف هذا. مَن يجهل تداعي الأفكار؟ أنت تحدثني عن تداعي الأفكار! أنا لا أتحدث عن تداعي الأفكار – Association -، أنا أتحدث عن تناسل الأفكار، أنا أتحدث عن المُعادلات الرياضية، أتحدث عن القابليات الموسيقية، عن وضع نظرية علمية فلسفية. تحدثني عن اسم مدينة يقفز إلى ذهني يا سام هاريس Samuel Harris؟ سام هاريس Samuel Harris، عالم الأعصاب المُلحد، المُنكر لحرية الإرادة، شيء مسخرة، سذاجة طفولية، والله العظيم!

إذن في كلية الطب كما قلت، ما الذي يحصل؟ يأتي هذا الطالب يفحص يفحص **، ويقول للمُمتحن بصراحة المريض لا يعاني من شيء، المريض فُل على عسل، Optimal. يقول له أحسنت، نجحت في الاختبار العملي، المريض اليوم أصلا أعطي ال ٤٤:٥٥ – بالألمانية -، الخروج! هو سيخرج بعد نصف ساعة، أحسنت.

الطالب الغبي سوف يضع تشخيصات مُختلفة من عنده! أنت لم تفهم الطب، ولم تدرس الطب، واضح أنك لا تعرف كيف تُطبق القواعد على الحالة، لا تعرف كيف تُوفق بين حالة وبين قواعد، تعمل هذا بطريقة اعتباطية، اطلع برا ***، فشلت، ليس لك حظ اليوم. واضح **؟

إذن العالم معقول، العالم معقول والعالم محكوم بالوعي وبالمعقولية، وليس بالاعتباطية والتعسفية! هناك مكان للاعتباطية والتعسفية ***… للأسف الشديد بقي لدينا القليل، لا بد أن نُنهي، مع أن الموضوع كما قلت في بدايته، لكن ربما يكفي هذا فقط لإثارة بعض التساؤلات.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه.

الخطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ *. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم اهدنا فيمَن هديت **، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت. اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى. اللهم لا تدع لنا في هذا اليوم الكريم، في هذه الساعة المُباركة، ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا كرباً إلا نفسته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا غائباً إلا رددته، ولا أسيراً إلا أحسنت طلاقه، برحمتك يا أرحم الراحمين، ولا حاجة لنا من حوائج الدنيا لنا فيها صلاح ولك فيها رضا إلا أعنت على قضائها، بمنّك وتيسيرك يا رب العالمين.

اغفر لنا ولوالدينا، وراحمهم كما ربونا صغاراً، اجزهم بالحسنات إحساناً، وبالسيئات مغفرة ورضواناً. واغفر اللهم للمُسلمين والمُسلمات، المؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، بفضلك ورحمتك، إنك سميع قريب مُجيب الدعوات.

عباد الله/

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *، وأقم الصلاة.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: