إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، الْلَّهُم صَلِّ وَسَلِم وَبَارِك عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ.

عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد: 

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول المولى الجليل – سُبحانه وتعالى – في مُحكَم التنزيل بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ۩ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ۩ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ۩ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ۩ فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ ۩ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ۩ فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ ۩ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ۩ مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ ۩ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ۩ فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ ۩ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ۩ كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ ۩ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ۩ هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ ۩ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ۩ وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ۩ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ۩ مُدْهَامَّتَانِ ۩ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ۩ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ ۩ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ۩ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ۩ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ۩ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ۩ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ۩ حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ ۩ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ۩ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ ۩ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ۩ مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ ۩ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ۩ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ ۩

تبارك الله العظيم، سُبحانه وبحمده، أشهد أن لا إله إلا هو، صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

أيها الإخوة الأفاضل، أيتها الأخوات الفاضلات:

قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – فيما يرويه عنه أسامة بن زيد – رضيَ الله تعالى عنهما – ألا هل مُشمِّر للجنة؟ فإن الجنة لا خطر لها، أي لا شيئ يعدلها ويُساويها في شرفها وعلو مقامها، فإن الجنة لا خطر لها، وهي ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تُزهِر، وثمرة نضيجة، ونهر مُطرِد، وقصر مشيد، وزوجة حسناء جميلة، في مقام أبد، في جدة ونُضرة، في دار عالية سليمة بهية، ألا هل من مُشمِّر؟ قالوا – رضيَ الله تعالى عنهم، أي أصحابه – نحن المُشمِّرون لها يا رسول الله، قال قولوا إن شاء الله.

فأين التشمير يا إخواني؟ أين التشمير لهذه الدار التي دعا إليها العزيز الغفّار، التي دعا إليها ورغَّب فيها وندب إليها وبشَّر بها؟ والبُشرى على قدر المُبشِّر وقدرته، البُشرى على قدر مَن بشَّر وعلى قدر قدرته وإمكانه في أن يُنيل وأن يُعطي وأن يهب ويمنح وأن يُمتِع وأن يُفضِل وأن يُجزِل، فليس مَن بشَّره ملك من الملوك مُقتدِر ذو طول كمَن بشَّره واحد من عُرض الناس، والمُبشِّر هنا رب العالمين – لا إله إلا هو -، وما أدراكم بما يُبشِّر – لا إله إلا هو -؟! المُبشِّر هو رب العالمين، ذو السبحات والطول والإنعام، لا إله إلا هو.

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ۩ ذَٰلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا ۩، الله أكبر! ذَٰلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ۩، الله – عز وجل – يُبشِّر، وَبَشِّرِ الَّذِينَ ۩، هنا محمد يُبشِّر، من بعد ما بشَّر الله، وكفى به مُبشِّراً، لا بُشرى بعد بُشرى الله – سُبحانه وتعالى -، هو الذي يُبشِّر، الله أكبر!

لو أتى إليك أميرٌ أو أتيت أنت أميراً أو ملكاً عظيماً، واسع الطول – وكل طول دون طول الله حقير وصغير وفانٍ ولا خطر له ولا قيمة له -، فقال لك أبشر يا عبد الله، لك البُشرى! ستُستطار فرحاً، سيطير قلبك من مكمنه فرحاً وسروراً وروحاً، لماذا؟ لأنه ملك، بِمَ يُبشِّر؟ أيُبشِّر بشيئ حقير؟ بلا شك سيُبشِّر بشيئ عظيم، على قدره، لا يُمكِن أن يُبشِّر والشيئ يكون لا خطر له، فكيف إذا كان المُبشِّر هو رب العالمين – لا إله إلا هو -؟! وأمر نبيه أن يُبشِّر، وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُوا هَٰذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ۩، هكذا أيها الإخوة والأخوات، نعم.

وهذه الجنة على شرفها وخطرها ونعيمها لا يدخلها أحد إلا بتوقيع ومنشور، بكتاب مُوقَّع، بمنشور ليس أميرياً، وليس سُلطانياً، بل إنه منشور رباني صمداني إلهي، قال الله – تبارك وتعالى من قائل، جل مجده، لا إله إلا هو، سُبحانه في عليائه، سُبحانه وتعالى – كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ۩ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ ۩ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ۩ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ۩، اللهم اجعلنا من المكتوبين فيه، المزبورين في صحائفه، المذكورين في مطاويه وتضاعيفه، بفضلك ومنّك وجودك العميم، يا كريم، يا رب العالمين، بكتاب! 

ولذلك أخرج الإمام أحمد في مُسنَده وابن حبان في صحيحه، قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – الآتي، وهو من حديث البراء بن عازب، الحديث الطويل الشهير، والذي صححه غير واحد، وكان من آخرهم الحافظ ابن حجر – قدَّس الله سره -، حديث طويل، وفيه يذكر البراء مما سمع من رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – أن روح المُؤمِن أو نسمة المُؤمِن أو نفس المُؤمِن حين تُقبَض تأخذها الملائكة، فتلفها، تلفها في أثواب طاهرة مُحنَّطة بأحسن الحنوط والطيب الإلهي، ثم تصاعد بها أو تصعد بها السماوات، تستفتحها سماء سماء، كلما استفتحت الأملاك سماء فُتِح لهم، فيُشيعها الملائكة المُقرَّبون، أي يُشيعون هذه النسمة أو هذه النفس الطيبة الطاهرة التي كانت في البدن الطيب، ما أطيبها! وما أطيب بدن حملها! طيَب الله أبداننا وقلوبنا، ظاهرنا وباطننا، عقائدنا وأقوالنا وأفعالنا ونوايانا ومسالكنا وضروبنا وآثارنا، اللهم آمين، لأن هذه الجنة التي جئنا اليوم نتذاكر ونتشاوق – إن جاز التعبير، أي يُشوِّق بعضنا بعضاً – ونتباشر – أي يُبشِّر بعضنا بعضاً، ببعض ما أعد الله فيها لأوليائه، جعلني الله وإياكم وإياكن منهم ومنهن – هي دار طيبة وهي دار الطيبين، لا يدخلها إلا مَن طاب حساً ومعنىً، ظاهراً وباطناً، قولاً وفعلاً ومُعتقَداً ومسلكاً، فاحرصوا أو ليحرص كل منكم ومنكن على أن يكون طيباً حقيقةً، ليبتعد عن كل القاذورات، عن كل ما يُدنِّس ظاهره، وعن كل ما يُدنِّس باطنه من قبل، حتى يدخل هذه الجنة مُنعَّماً – بإذن الله تبارك وتعالى -، نسأل الله أن يجعلنا منهم من غير سابقة حساب ولا عذاب، بفضل الله، وهذا للمُقرَّبين، المُقرَّبون يدخل كثيرون منهم بل قال بعضهم هم الذين يدخلون من غير حساب ولا عذاب، جعلني الله وإياكم من المُقرَّبين، ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ۩ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ ۩، عسى أن نكون من هؤلاء القليلين، لكن يحتاج إلى عمل، ليس بمثل هذا الدعاء، وليس بالأماني، بالعمل، وبالشتمير، ألا هل من مُشمِّر؟

مَن آمن وأيقن لابد أن يُشمِّر، لابد أن يعمل، لابد أن ينفي عن نفسه الراحة، لابد أن ينفي السكون، جعل الله لكل شيئ باباً، وجعل لكل باب مفتاحاً، ومفتاح الخيبة والحرمان والخُسران الدعة والراحة والسكون، لا تسترح، لا تُرِح نفسك، لا تسكن، لا تتبطَّل، إنما اعمل، إنما هي أيام وساعات قلائل يا عبد الله ويا أمة الله، ثم تنقضي أيام هذه الدنيا – بإذن الله تعالى -، إلى دار الأبد، إلى سعادة الأبد – إن شاء الله تبارك وتعالى -، وهكذا!

فتُشيع هذه النسمة الطيبة الملائكة المُقرَّبون، من أملاك هذه السماء، حتى إذا صاروا إلى السماء السابعة قال رب العالمين – لا إله إلا هو – اكتبوا عبدي في عليين، توقيع! هذا هو التوقيع الأول، هذا هو المنشور الإلهي الأول، هذا من أهل الجنة، لن يدخلها إلا بهذا التوقيع، لن يدخلها إلا بهذا المنشور، منشور من رب العالمين، وهذا معنى كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ۩ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ۩، اكتبوا عبدي في عليين، ثم أعيدوه إلى الأرض، منها خلقتهم، وفيها أُعيدهم، ومنها أُخرِجهم تارة أُخرى.

هناك الكتاب الثاني أو التوقيع الثاني والمنشور الثاني، والمنشور باللُغة العادية الدارجة هو الكتاب الذي يكتبه الأمير أو يُوقِّعه الأمير والسُلطان، ككتاب التعيين، هذا يُعيَّن سفيراً، هذا يُعيَّن أميراً، وهذا يُعيَّن قاضياً، هذا اسمه المنشور، نُريد مناشير رب العالمين – لا إله إلا هو -، لا نُريد مناشير البشر ولا مناشير الجامعات ولا مناشير الناس، لا تعنينا! ليست مُهِمة جداً، ليست مُهِمة! وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ۩، أتُحِب أن تتنافس؟ نافس في طريق الآخرة، نافي في النعيم المُقيم، نافس في جوار رب العالمين، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ۩ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ۩، نافس فيما بشَّرك الله به وفيما دعاك إليه وندبك وحفزك وحرَّك همتك، عظَّم الله همتنا وأظمأ أكبادنا، أظمأ الله الأكباد منا إلى معارفه وإلى مقاماته وإلى ما شرَّفه به أولياءه، اللهم آمين.

المنشور الثاني – أيها الإخوة والأخوات، أعزكم الله، ونوَّر وأنار أفئدتكم وأفئدتكن بذكره ومعرفته – يتعلَّق بما أخرجه الإمام الطبراني من حديث سلمان الفارسي – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين -، قال قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – لا يدخل أحد الجنة إلا بجواز، كما نقول الآن جواز سفر، جواز! منشور مُوقَّع، إلا بجواز يقول عليه الصلاة وأفضل السلام وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً – من رب العالمين، بسم الله الرحمن الرحيم – هذا نصه، ما أحلى هذا العلم الإلهي! من أين هذا؟ هذا علم محمد يا أحبابي، هذا علم رسول الله، ما أحلى هذا العلم! ما أشرف هذا العلم! كأننا رأيَ عين، كأننا نرى الآخرة ومنازلها رأيَ عين، وهذا وجه نصبه، كأننا رأيَ وليس رأيُ، كأننا رأيَ عين، أي نراها رأي عين، كأننا رأيَ عين كما في حديث حنظلة وأبي بكر -، هذا كتاب من الله رب العالمين، الملك الكريم، إلى فلان ابن فلان، أدخِلوا عبدي جنةً عاليةً، قطوفها دانية، فيدخل! اللهم اجعلنا منهم، اللهم أسعِدنا بهذا الكتاب، مَن امتلك هذا الكتاب دخل، مَن لم يمتلكه لن يدخل، الله المُستعان – أيها الإخوة والأخوات -.

وهذه الجنة شيئ عجيب، تعلمون ما روى فيها أبو هُريرة – رضوان الله عليه – فيما خرَّجه الشيخان، قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – قال الله – عز وجل – أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، واقرأوا إن شئتم فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ۩.

في حديث المُغيرة بن شُعبة – رضيَ الله عنه – أن موسى – عليه الصلاة وأفضل السلام – سأل ربه، أي رب ما أدنى أهل الجنة منزلةً؟ فقال أدناهم منزلةً يا كليمي رجلٌ يُؤمَر فيُقال له ادخل الجنة بعد أن دخل الجنة أهلها ونزلوا منازلهم، دخلوا منازلهم! فيقول يا رب وكيف وقد دخل أهل الجنة الجنة ونزلوا منازلهم وأخذوا أخذاتهم؟ كلٌ سبق إلى ما قُدِّر له، إلى ما أُسعِد به من القسمة الإلهية الشريفة العالية المُنيفة، كيف؟ ماذا بقيَ لي؟ يبدو أن الجنة انتهت، تقاسموها وتشاركوها، فيقول الله – تبارك وتعالى – لهذا العبد المسكين – آخر أهل الجنة دخولاً الجنة – أما ترضى يا عبدي أن يكون لك مثل مُلك من ملوك الدنيا؟ فيقول بلى يا رب قد رضيت، فيقول ولك مثله معه، ومثله، ومثله، ومثله، كم الأمثال أصبحت؟ خمسة، هو وأربعة أمثاله، قال – عليه السلام – فقال في الخامسة قد رضيت يا رب، هو يكتفي، وربما لو لم يقل لظل الله يجود عليه، لأن الله هو الجواد، يُنفِق من خزائن كُن ۩، لا إله إلا هو، كُن فَيَكُونُ ۩، كريم، لا إله إلا هو، نسأل الله أن يُعظِّم يقيننا بوعده وبموعوده، وأن يُغنينا بحلاله عن حرامه، وبفضله عمَن سواه، هذا الملك الجواد، لا إله إلا هو.

والله والله إني لأرى الدنيا ويراها كل مُؤمِن – أُقسِم بالله – لا تُساوي ذرة، والله العظيم لا نرى الملايين ولا الملايير تُساوي شيئاً، ولامَن يملكها، والله العظيم لا يُحسَد ولا يُغبَط إلا مَن كان له حظ في الآخرة، قبل أيام قدَّر الله أن أُتابِع درساً حسنياً، للعلّامة المرحوم الشيخ عبد الفتّاح أبي غُدة الحلبي – رحمة الله عليه رحمة واسعة – بين يدي الملك المرحوم – ملك المغرب، رحمة الله عليه هو الآخر -، درس في حديث السفينة، ثم يقول المُعلِّق في التلفاز أو في الرائي، يقول وها هو فضيلة الشيخ عبد الفتّاح أبو غُدة يتقدَّم مُهدياً جلالة الملك مجموعة من مُصنَّفاته ومعها نُسخة من المُصحَف الشريف برواية حفص عن عاصم، فلم أملك عيني، فاستعبرت، قلت قد درج الاثنان إلى رحمة الله – إن شاء الله – ومغفرته ورضوانه، الملك والعالم! والذي جعلني أستعبر هو ما خطر في نفسي على غير ما إرادة مني بخصوص الملك – ملك المغرب في وقته -، هل عساه – الله أعلم، لعله إن شاء الله يكون فعل – تصفَّح هذه الكتابات؟ هل يعنيه شيئ من أمر هذه الكُتب؟ الله أعلم، ملك عنده الملايير وعنده القصور وعنده الحور وعنده من كل شيئ زوجان وصنفان، ماذا يُريد؟ لعله لم يفتحها، لأن كل عالم مِمَن يأتونه تقريباً في الأغلب يُهديه مجموعة مُصنَّفاته، لا يستطيع أن يقرأها، فقلت هو الآن في برزخه، والله الذي لا إله إلا هو كأنني أراه، والله العظيم والله العظيم لا يتحسَّر على قصوره ولا ملاييره وعلى أولاده ولا نسائه ولا خدمه ولا حشمه ولا ثرره ولا أي شيئ، والله العظيم يتحسَّر على لحظة كان يُمكِن أن يقضيها في تصفح كتاب الله أو قراءة سُنة رسول الله أو قراءة العلم الشرعي ولم يفعل، والله العظيم هذا الذي يتحسَّر عليه، فيا هنيئاً لكم، يا هنيئاً لكم إن بصَّركم الله، لا تُضيِّعوا أعماركم، لا تتبطَّلوا، اسألوا الله أن يكشف عن قلوبكم الأقنعة والحجاب، حتى تروا، حتى تُبصِروا، حتى تُوقِنوا، هذه الدنيا والله العظيم ليست بالدار التي تستأهل وتستحق أن يُفني الإنسان خواطره ونفسه فيها، اركضوها، اركلوها، تأتكم طائعةً، تأئكم مُكرَهةً على الرُغم منها – بإذن الله تعالى -، اجروا في آثارها، والله لن تبلغوها، كالظل! كالظل إن تركته لحق بك، إن عدوت في أثره لم تسبقه ولم تُدرِكه، اتركوها! وقد أقسم لكم ربكم فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ۩، ما هذا الانقطاع عن الله؟ ما هذا الكسل؟ ما هذه البطالة؟ كلها في حُب الدنيا، في الاستهتار بالدنيا – والعياذ بالله -، فلعنة الله على هذه الدنيا، هذه الدنيا التي تصرف عن الله لعنة الله عليها، وطيَّب الله دنيا تصل الحبل بالله – تبارك وتعالى -، طيَّب الله بُقعةً من الأمر وساعةً بل سويعةً بل دقيقةً من دنيا يركع فيها عبد لله بإخبات وإخلاص، طيَّب الله مقاماً يبكي فيه عبد لله – لا إله إلا هو -، يتلو شيئاً من كلامه، يُؤتى بتالي القرآن يوم القيامة، أما الذي كان له المُلك فنعم سيُؤتى به ويُؤتى بمُلكه، ويُحاقَق ويُحاسَب على كل ذرة من مُلكه.

ولذلك صح عن رسول الله أن الأغنياء يتأخَّر دخولهم الجنة عن الفقراء، ليس لهوانهم، رب غني ويكون صالحاً ولياً، ولكن سيطول حسابهم، لأن الواحد منهم سيُسأل عن كل ما عنده، انتبهوا! هكذا، هذا العدل الإلهي، لا يُمكِن أن تُعطى كل شيئ فيُبسَط لك ما لم يُبسَط لغيرك من فقراء الناس ثم بعد ذلك تسبقهم إلى الجنة، لا والله، هذا ليس مُقتضى العدل، وإنما ستُسأل عن كل درهم ودُريهم كسبته وأفدته، إن نجوت فيا حيهلاً، سيكون ربما مقامك بحسب العمل والقبول أعلى من مقام الفقير الذي سبقك، المقام أعلى، ولكن الدخول آخر، الدخول أكثر تأخراً، هذا معنى آخر، الدخول آخر، يأتي مُتأخِّراً، انتبهوا! أما إن كان أخذه وأفاده وكسبه من غير حِل فأمه الهاوية بانتظاره – والعياذ بالله تبارك وتعالى -، أمه الهاوية! خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ۩، انتهى هذا، سيلعن كل درهم كسبه من غير حلال وصرفه في غير طاعة، والله سيلعنه، سيلعن هذا الدرهم، هكذا فكِّروا تفكير الرجال، لا رجال إلا المُؤمِنون الكاملون، لا رجال إلا أولياء الله، لا رجال إلا مَن عبدوا الله وعرفوا الله واتقوا الله، وإن كانوا شذاذاً وإن كانوا أفذاذاً وإن كانوا منزورين قليلين، نسأل الله أن نكون منهم، بفضله ومنّه، استعينوا بالله، استعينوا بالله على هذا، ادأبوا في الدعاء بهذا المعنى، والله العظيم يا إخواني هذا الذي يحتاجه المرء، هذا الذي يحتاجه المرء! هكذا.

فلنعد أيها الإخوة، قال يا ربي فأعلاهم منزلةً؟ عودة إلى حديث المُغيرة بن شُعبة، موسى سأل ربه عن أدنى أهل الجنة منزلةً، ثم قال فأعلاهم منزلةً؟ هذا الذي له مثل مُلك الملك الدنيوي وأربعة أضعافه، وله أربعة أمثاله معه، هذا أدنى الناس منزلةً، فكيف بأعلى الناس؟ قال أولئك الذين أردت، الله أجاب – لا إله إلا هو -، قال له أتسأل عن أعلاهم منزلةً؟ هذا شيئ لا يُطيقه الوهم، لا يستحضره الخاطر، لا يبلغه الخيال وإن كان خصيباً، لا يبلغه الخيال الخصيب، قال أولئك الذين أردت، غرست كرامتهم بيدي، الله أكبر! قالوا ثلاثة زاولها الله بيده – لا إله إلا هو -، قال لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ۩، هكذا قال – لا إله إلا هو – عن آدم، خلقه بيديه، وأنزل الألواح على موسى مكتوبةً بيديه كما ورد، وغرس جنات خاصة أوليائه بيديه، الله أكبر! قال أولئك الذين أردت، غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها، لا جبريل ولا ميكائيل ولا إسرافيل ولا محمد ولا موسى ولا عيسى ولا الخليل، قال وختمت عليها، فلا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، الله أكبر! يا رب ما عساه يكون هذا الشيئ؟! لا نستطيع أن نعرف، مُجرَّد التخيل لا نستطيعه، الله يقول لنا ايئسوا، لا تُحاوِلوا أن تتخيَّلوا، جبريل لن يعرف هذا، جبريل لا يستطيع أن يتخيَّله لو صح منه التخيل، قال غرست بيدي وختمت عليها، يا الله، يا رب! ما الثمن يا رب العالمين؟!

قبل أيام يقول لي أحد أحبابي – جعلنا الله من المُتحابين في جلاله، لأن المُتحابين في جلاله من أهل الغُرفات يوم القيامة، المُتحابين في جلال الله، ليس في المال، ليس في الشركات، ليس في النسب، ليس في الدم، وليس في الحزبية الباطلة، في الله! تُحِب التقي لأنه تقي، تُحِب المُؤمِن لأنه يدلك على الله، يُذكِّرك بالله، يُعينك على طاعة الله، هذا الذي تُحِبه، وتستوثق من محبته، لا لأي معنىً آخر من المعاني، وهكذا – والله أتفكَّر أحياناً فأقول يا ليت أمي لم تلدني، يا ليتني كنت نسياً منسياً، قلت له – نوَّره الله – سبقك بها صدّيق الأمة، قال مثلها، وفاروق الأمة، قال مثلها، وأبو ذر، وسلمان، وغير واحد من أصحابه، وكثيرون من أسلاف هذه الأمة، قلت له أما أنا فلا أكذبك، لا يخطر هذا على بالي، لا أجد نفسي مُتوجِّهاً أن أقول له يا ليتك لم تخلقني، كيف؟ كيف وقد خلقني ودلني عليه؟ هذا أعظم شيئ وأعظم نعمة، أنا لا أُحِب أن تُزايلني هذه النعمة، بالعكس! أنا مُمتن لله بكل ذرة بل بكل ذريرة في كياني، لأنه خلقني وعرَّفني به، دلني عليه، أمكنني من أن أكون مُوحِّداً له، هذا بفضله، ليس بحذاقتنا ولا بجهودنا، من فضله وحده – لا إله إلا هو -، وهو يُعرِّفنا به، نسأل الله أن نزداد به معرفةً وله عرفاناً، تتكامل وتتام هذه المعرفة حتى تصير كأنها رأيُ عين.

روى البيهقي في الزُهد الكبير والإمام الطبراني، قال الحافظ ابن رجب بأسانيد مُرسَلة وأُخرى موصولة، والمُرسَل أصح، أن حارثة أتى النبي ذات صباح، فسأله النبي – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – كيف أصبحت يا حارثة؟ قال أصبحت يا رسول الله مُؤمِناً حقاً، قال انتبه، فإن لكل قول حقيقة، إن لكل قول برهاناً مُؤيَّداً، علائم ودلائل، فما حقيقة قولك؟ ما حقيقة دعواك الإيمان الحقيقي؟ قال يا رسول الله – شاب هذا، من شباب الأنصار، وليس المُهاجِرين – عزفت نفسي عن الدنيا، يوم تعزف نفس أحدكم أو إحداكن عن الدنيا فاعلموا أن الله أراد به الخير، نسعى إلى الدنيا، نعمل، بعد الفجر نقوم ونذهب إلى أعمالنا، لا بأس، مطلوب هذا منا، فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا ۩، لكن بالحلم، وبالتقوى، وبعدم الشُح، وبعدم الحرص، وبعدم الاستهتار في طلب الدنيا، الاستهتار في طلب الدنيا أي الاستغراق في طلب الدنيا، والاستهتار من ألفاظ الأضداد، وبعدم الاستهتار في طلب الدنيا، هذا هو! ولكن النفس عن الدنيا عازفة، لا تفرح بها، لا تُقدِّرها، لا تقف عندها، تعلم أنها عرض زائل، زائل زائل زائل، سريع الزوال، العزوف – قال -.

قال عزفت نفسي عن الدنيا، فأظمأت نهاري، أي صُمت، وأسهرت ليلي، لم أذق غمضاً، قيام الليل، الليل بطوله! فأصبحت وكأنني أرى عرش ربي بارزاً، الله أكبر! هذا شاب، لكن وصل إلى هذا بالعمل،  ليس بالأماني وبالدعاء، اعمل، صُم وصل وقُم واذكر وابتعد عن كل الذنوب، كل الذنوب! كبيرها وصغيرها، لا تترخَّص ولا تتلاعب، لأن الله ليس مُحتاجاً إليك، أنت المُحتاج إليه، فاصدقه، فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ ۩، اصدق الله لترى الخير من الله – تبارك وتعالى -.

فأصبحت وكأنني أرى عرش ربي بارزاً، وكأن أهل الجنة عن يميني يتزاورون فيها، كأنني أشمهم، كأنني أتلمحهم، كأنهم يلوحون لي، وكأن أهل النار عن شمالي يتضاغون – وفي رواية ويتعاوون والعياذ بالله، تعاوي الكلاب والذئاب – فيها، انظروا بماذا علَّق المُعلِّم الأكرم الأبر الأطهر الميمون – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً -، قال عبدٌ نوَّر الله الإيمان في قلبه، عرفت فالزم.

قيل هذا الحارثة – رضوان الله عليه – هو حارثة بن سُراقة، قيل هذا! وحديثه في صحيح البخاري من رواية أنس بن مالك – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين -، أصابه سهم في بدر غرب، سهم غرب أي سهم طائش، لا يُدرى راميه، أصابه سهم غرب في بدر، فسقط شهيداً، أو ارتفع شهيداً، فجاءت أمه، وكان وحيدها كما قيل في الشروح وليس في نص الحديث، وقالت يا رسول الله أخبرني عن ابني حارثة، فإن كان في الجنة طابت نفسي، وإن كان غير ذلك فلأجهدن في البكاء عليه – وفي رواية فلترين ما أصنع عليه -، لن أكف عن البكاء، لن ترقأ لي دمعة، ابني وحيدي! أيكون مات وخسر الآخر أيضاً؟ في رواية قال لها المُصطفى المُحمَّد – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – أهبلتِ يا امرأة؟ قال لها – عليه السلام – أهبلتِ يا امرأة؟ إنها ليست جنة واحدة، إنها جنان، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى منها، الله أكبر، الفردوس! 

وفي الصحيح يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجَّر – أي تتفجَّر – أنهار الجنة، الفردوس! الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ۩، لما اصطنعها الله وغرسها – لا إله إلا هو – بيديه وهي أرفع الجنان قال لها انطقي، قالت قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ۩، تكلَّمي – قال – يا فردوس، قالت قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ۩، لم يُفلِح البطّالون ولا العابثون ولا اللاهون ولا النائمون ولا المُشرِكون ولا الناكبون ولا الغافلون، إنما أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ۩، الإيمان بحقه، الإيمان بشرطه، قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ۩، نعم.

روى أهل السُنن الأربعة أبو داود والنسائي والترمذي إلا ابن ماجة عن أبي هُريرة – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – لما خلق الله – تبارك وتعالى – الجنة قال لجبريل – عليه السلام – يا جبريل اذهب فانظر إلى الجنة، اذهب إليها فانظر إليها! فذهب جبريل، فنظر إليها، قال وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، ما هذا؟ قال، ما هذا؟ جبريل! ملك مُنزَّه عن الشهوات والملاذ وعن ضعف البشرية وأشواقها وطموحاتها ومنازعها، لكن هذا شيئ عجيب، لا تطاله العبارة، قال وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فحفها الله – تبارك وتعالى – بالمكاره، أقل هذه المكاره أن تُصلي الصلوات وهي عليك ثقيلة، قُم من فراشك، صل الفجر يا رجل، أقل شيئ! صل الفجر، لا نتحدَّث عن قيام الليل، ماذا تفعل؟ أتنام؟ أتنام عن الفجر وتُريد الجنة يا مسكين؟ تضحك على مَن؟ ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة، الشيطان يضحك عليك، أنت لا تضحك على أحد، الشيطان فقط يتلاعب بك، قُم يا رجل، اجتهد.

وَإِذَا حَلَّتِ الْعِنايةُ قَلْباً                                           نَشِطَتْ لِلْعِبَادَةِ الأَعْضَاءُ.

والله العظيم! فقط ما هو إلا أن تحل عناية الله في قلبك فتنشط نشاطاً عجيباً، تُصبِح تنام أقل، تأكل أقل، تشتهي أقل، ينزغك الشيطان والنفس أقل بكثير – بإذن الله -، تُصبِح عبداً ربانياً، سلوا الله العناية، إن العناية إذا حلت ألحقت العاجز بالقادر، ألحقت الأصاغر بالأكابر، ألحق المُتأخِّرين بالمُتقدِّمين، ألحقت أصحاب اليمين بالمُقرَّبين، اللهم ألحقنا بهم، هكذا! نعم، قُم واجتهد.

حفها الله بالمكاره، قال ألا أدلكم على ما يغفر الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال إسباغ الوجوه على المكاره، والحديث صحيح، هذا أقل المكاره، أن تتوضأ في البرد الشديد، في القر الشديد، في البرد الشديد توضأ، أن تقوم في الليلة القصيرة، لا ليل لها تقريباً، مثل هذه الليالي، قُم وصل الصلاة في وقتها يا رجل، صل واقرأ وتنغَّم.

هل أجمل – يا إخواني بالله عليكم فكِّروا في هذا، لكن جرِّبوا هذا – من أن ترى نفسك واقفاً بين يدي الله تتلو كلامه، وأن تعلم أنه يُحِب هذا ويستمع إليك؟! وفي حديث الترمذي ما أذن الله لشيئ أذنه – وليس إذنه، أي ما استمع الله لشيئ استماعه – إلى نبي حسن الصوت يترنم بالقرآن، قال العلماء وفي معنى النبي كل صالح وصالحة، كل مُسلِم ومُسلِمة، حاول أن تُحسِّن صوتك، وأن تتخشَّع في الليل، الساعة الثانية الآن أو الثالثة، قُم وصل، قبل أن ينشق عمود الفجر والصُبح صل، خاطب الله بكلامه، وتعلم أنه ينظر إليك، ويفرح بك، ويُعطيك، ويُجزِل، ويُفيض، ويمنح، ويهب، لا إله إلا هو! هل أجمل من هذا؟! بالله الذي لا إله إلا هو ليس في الدنيا أجمل من هذا، أُقسِم بالله العظيم، لا زوجة ولا ولد ولا مال ولا عز ولا شهادة، بالله العظيم هذه لذة الدنيا.

كان محمد إقبال – قدَّس الله سره – يقول الآتي، هو الفيلسوف، القانوني، الأديب، الشاعر، والمُفكِّر العظيم، وهو مع كل هذه الطاقات واللياقات يقول ربي اسلبني بصري، اسلبني حواسي، اسلبني ما شئت، لا تسلبني أنة السحر، حين أقوم بين يديك أُناجيك، أئن وأبكي وأتوه وأضرع إلى جلالك، لا تسلبني هذه اللذة، الله أكبر! هذا جرَّب وعرف وذاق، وليس مَن سمع كمن جرَّب وذاق، ذوقوا أيها الإخوة، ذوقوا! لا تحرموا أنفسكم وأنفسكن هذا العز، لعنة الله على التلفاز، لعنة الله على المُسلسَلات، لعنة الله على الأفلام، لعنة الله على كل ما أخذنا من الله، على كل ما جعلنا نتكاسل وننام عن فرض الله، أغلق كل شيئ ونم مُبكِّراً بعد العشاء مُباشَرةً، لتقوم لله، وجرِّب، وبعد ذلك يستحيل – الصفقة أصبحت واضحة – أن تبيع هذا بهذا – بإذن الله تعالى -، أنا أضمن لك، أنا زعيم لك، لن تفعل هذا – بإذن الله تعالى – إن جرَّبت وذقت، هذا هو!

ولذلك نحن نتعجَّب، كيف يُقدِر الله أولياءه وأحبابه على العبادة العجيبة؟ يا إخواني أنتم ترونها مشقات وتكاليف، والله هي نعيم، إنهم يرتضون ويخترفون، يخترفون ويقطعون أثمار هذا النعيم أثماراً، من كل فاكهة زوجان، تتنوَّع وتتوارد عليهم، إنهم في نعيم مُقيم، نحن لا ندري به، ثم نقول إننا نُشفِق عليهم، كف يصلون مئات الركعات؟ نعيم! هم يودون أنه زيد في سواد الليل وطوله، أكثر ما يُزعِجهم هو طلوع الفجر، قال أحدهم لي أربعون سنة ما أزعجني ولا أحزنني إلا طلوع الفجر، الله أكبر! لماذا يا سيدنا؟ لأنه بين يدي الله، لأنه في اللذة والنعيم المُقيم يا أحبابي، يا إخواني وأخواتي، جرِّبوا هذا بالله عليكم، جرِّبوا هذا وتوسَّلوا إلى الله وإلى هذا بكل ما يُعين عليه، أعانني الله وإياكم عليه، اللهم آمين، هذا هو.

على كلٍ فحفها الله – تبارك وتعالى – بالمكاره، ثم قال يا جبريل اذهب إليه فانظر إليها، فذهب وعاد، فقال وعزتك لقد خشيت ألا يدخلها أحد، صعبة! طريق الجنة صعب، فلما خلق – سُبحانه وتعالى – النار قال يا جبريل اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، فقال وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، لن يدخلها أحد – والعياذ بالله -، أقل شيئ – هذا أقل شيئ، هذا ضحضاح جهنم – هو أن يغلي الدماغ كما تغلي المرجل، الدماغ في الداخل هذا يسيح ويغلي، ليدخل أحدكم الساونا Sauna على درجة تسعين أو ثمانين، ليضع الماء ثم يضع شيئاً من جلد، ليضع هذا ثم يرى كيف يُشوى الجلد، ما هذا؟ يحدث هذا في حرارة تسعين، أي هذا لعب، وليتوهَّم بعد ذلك جهنم.

روى الإمام البيهقي قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – ما من يوم إلا والجنة والنار تسألان، تقول الجنة أي رب – جعلني الله وإياكم من أهلها – طابت ثمرتي، واطردت أنهاري، واشتقت إلى أوليائي، فعجِّل لي بأهلي، اللهم اجعلنا منهم، وعجِّل بنا إليها يا رب العالمين، ما نُريد في هذه الدنيا؟ ما نُريد من هذه الدنيا؟ وإلا تسأل النار – النار تسأل أيضاً -، تقول أي رب اشتد حري، وبعد قعري، وعظم جمري، فعجِّل إلىّ بأهلي، لا جعلني الله وإياكم من أهلها، شيئ مُخيف، شيئ مُخيف جداً، هذه جهنم!

قال لن يدخلها أحد يا رب هذه، فحفها الله بالشهوات، فليسمع يا أصحاب الشهوات، وليسأل كل واحد نفسه هل أنا من أصحاب الشهوات؟ هل أشتهي الغيبة والنميمة والحديث في عباد الله – فلان وعلانة من الناس -؟ اتق الله في نفسك! هل أنا مِمَن يشتهي الكذب والدعاوى والمُبالَغات الفارغة؟ هل أنا مِمَن يشتهي النساء والصور – الصور الجميلة الحسناء كما يُقال -؟ من أعظم العلوم الإلهية – تفقَّهوا فيه – ومن أعظم المواهب الربانية علم المفاتح، ليس مفاتح الغيب، هذه لله، ليست لنا، وليست إلى أحد منا أيضاً، ليست لنا ولا إلينا، إنما يُراد بالمفاتح الآتي، الله جعل لكل شيئ خزائن، ولا جرم جعل للخزائن أبواباً، وجعل لكل باب مفتاحاً، مفتاح الزنا والعشق والشذوذ ما هو؟ ما هو؟ النظر، تنظر إلى ما حرَّم الله، فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ ۩، لماذا تفتن نفسك؟ صور – يقول – هذه، أفتاني إخواني، مَن أفتاك؟ هل أفتاك الجاهل مطموس البصر والبصيرة؟ هل أفتاك بالصور يا جاهل؟ انظر ماذا فعلت بك الصور، انظر! أجب نفسك، لا تسألني، لا تسأل المشايخ، قال استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك وأفتوك وأفتوك، قل لنفسك يا مُعثَّر ماذا فعلت بي الصور؟ يقول هذه صور، أحدهم يقول أضعها على التليفون Telephone، كيف تضعها على التليفون Telephone؟ وحين يرن يُؤذِّن الله أكبر يا مُعثَّر، أنت مُعثَّر، أنت خائب، أنت جاهل، ألا تستحي من الله؟ أتضع ذكره وأذانه مع الصور القذرة؟ 

مفتاح الزنا النظر، انتبه! كل الفتن هذه مبدأها من النظر، وَمُعظَمُ النارِ مِنْ مُستَصْغرِ الشَرِرِ، النظر! هذا هو طبعاً – والعياذ بالله -، مفتاح جهنم ما هو؟ الشرك، مفتاح الجنة – أعظم مفتاح هذا وأشرف مفتاح – ما هو؟ لا إله إلا الله، مَن عنده المفتاح يدخل، النبي قال هذا، قال مفتاح الجنة لا إله إلا الله، مَن كان مِن أهل لا إله إلا الله دخلها، مَن ليس مُوحِّداً لن يدخلها، إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ۩، هذا هو، مفاتيح!

مفتاح السخط الإلهي والمُعاجَلة والمُعافَصة أو المُغافَصة بالعقوبة وضيق الرزق والهم والحَزن ما هو؟ البغي والإثم وقطيعة الرحم، طبعاً! انتبه إلى قطيعة الرحم، مفتاح قطيعة الرحم – طبعاً هذه مفاتح، خزائن الخير وخزائن الشر، أعوذ بك من كل شر خزائنه بيدك، هكذا علَّمنا المُصطفى عليه السلام – ما هو؟ مفتاح قطيعة الرحم والإساءة إلى الإخوان ما هو؟ حُب المال، الذي هو مفتاح للشُح والحرص ثم البُخل، وهي مفاتيح القطيعة والبغي والإثم على أقرب الناس إليك يا مسكين، افهم! حاول أن تتفقَّه في هذه المسائل وأن تسأل عن كل شيئ، عن خزائن كل شيئ، ما هي أبوابه؟ وما هي مفاتيحه؟ الجنة لها كما تعلم ثمانية أبواب، ثمانية أبواب!

عن عُتبة بن غزوان كما في صحيح مُسلِم، قال بلغنا – هذا معنى أنه مرفوع هذا، هذا له حُكم المرفوع قولاً واحداً، هذا يعني أنه من كلام رسول الله – أن ما بين مصراعين – وتعرفون المصراع، أي درفة الباب، كل باب له درفتان، الدرفة اليمين والدرفة الشمال، هذه اسمها المصراع، وهذا ليس له أي مصراع، هذا باب واحد، لكن الحديث عن الباب الذي له درفتان، أو شُقتان، هذه تُسمى المصراع، هذه هي! هذه أبواب ضخمة جداً جداً، أي بوّابات، وهو قال بلغنا أن ما بين مصراعين – من مصاريع باب من أبواب الجنة مسيرة – مسيرة كم؟ – أربعين سنة، الله أكبر! قال وإنه سيأتي عليه يوم – أي على هذه الأبواب أو على كل باب منها – وإنه لكظيظ من الزحام، الله أكبر! الناس سيركب بعضهم بعضاً، الكل يُسابِق إلى الجنة، من أهل التوحيد، اللهم اجعلنا منهم.

وإنه لكظيظ من الزحام، وتعرفون أول مَن يدخل طبعاً، ولن يدخل أحدٌ قبله ولن يُسمَح لأحد، إنه السيد الأجل، إمام الكل وقائد الركب، صلى الله عليه وآله وأصحاب وسلم دائماً دائماً وأبداً أبداً كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون، أول مَن يدخل وأول مَن يستفتح وأول مَن يُفتَح له، ثم يتلوه الخلائق على قدر مقاماتهم، قال أبو سعيد الخُدري ما بين مصراعي الجنة – هكذا قال، ولا تُفهَم إلا بأنها مصراعي باب من أبواب الجنة، وهذا في لفظ أيضاً، والحديث في الصحيحين – مسيرة أربعين سنة، نفس الشيئ! مثل الحديث الذي ذكرناه، وهذا مرفوع، رواه أبو سعيد الخُدري عن رسول الله مرفوعاً، سمعه من الرسول، عجيب! أبواب ضخمة جداً جداً.

في الصحيحين من حديث أبي هُريرة – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – الآتي، وما أجمل هذا الحديث! مَن أنفق زوجين مِن ماله – مَن أنفق زوجين مِن ماله، أي شيئ، أنفق ذهباً وفضةً مثلاً، هكذا! أنفق إبلاً وبقراً، وقيل غير ذلك على كلٍ – نُوديَ يوم القيامة من أبواب الجنة، أنت لمَن أعطيت هذا؟ لله، نُوديَ يا عبد الله هذا خير، تعال، جزاؤك، جزاء ما أنفقت، تعال، تعال، هذا هو، هذا خير، أي خير مما أنفقت، مُعَد لك، جزاء ما أنفقت، قال – عليه السلام – فمَن كان مِن أهل الصلاة دُعيَ مِن باب الصلاة، من الناس مَن يُصلي ليل نهار، هذا يُقال له تعال، غلبت عليه الصلاة، يصوم، يحج، يُجاهِد، يتزكى، يتصدَّق، ولكن غلبت عليه الصلاة، انتبهوا! هذا معناها، تدخل من الباب الذي غلب عليك عمله، هذا باب الصلاة، غلبت عليك الصلاة فتدخل منه – إن شاء الله -، فمَن كان مِن أهل الصلاة دُعيَ مِن باب الصلاة، ومَن كان مِن أهل الصيام دُعيَ مِن باب الصيام، ومَن كان مِن أهل الصدقة دُعيَ مِن باب الصدقة، ومَن كان مِن أهل الجهاد دُعيَ مِن باب الجهاد، فقام أبو بكر الصدّيق – انظروا إلى سؤاله، ما أحسنه! وما أحذقه! وما أطمعه في رحمة الله! – وقال يا رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً – ما على أحد ضرورة أن يدخل من أي الأبواب شاء، ولكن هل يدخل أحدٌ منها كلها؟ انظروا إلى الطمع، هذا هو، يُحِب أن يدخل من هنا ومن هنا ومن هنا، لأنه يُحِب الأعمال الصالحة، أعني أبا بكر، يُحِب كل هذه الأعمال هو، يُحِب الصدقة والجهاد والصوم والصلاة والنفقة وكل شيئ، يُحِب هو كل هذا فعلاً، وكان مُجلياً، كان المُجلي في هذه الحلبة – قدَّس الله سره – وليس المُصلي، أي المُصلي الذي يأتي بعد المُجلي في اللُغة، ليس المُصلي المُصلي المعروف لنا، المُهِم كان المُجلي، ابن بجدتها وفارس حلبتها، قال – قدَّس الله سره – فهل يدخل أحدٌ منها كلها؟ قال نعم، وإني لأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر، رضيَ الله عنه وأرضاه، صدّيق الأمة يا إخواني، رجل!

تروي عائشة – رضوان الله تعالى عليها، الصدّيقة بنت الصدّيق -، تقول قال – صلى الله عليه وسلم – مرةً – أي ذات غدوة أو ذات صباح – هل أصبح أحد منكم صائماً؟ قال أبو بكر أنا يا رسول الله، قال أنا صائم، الحمد لله صائم، يُكثِر الصيام، قال هل أصبح أحد منكم شيَّع جِنازة – يُقال جِنازة وجَنازة، اللفظان فصيحان أو الكلمتان فصيحتان -؟ قال أنا يا رسول الله، ما شاء الله! قال هل أصبح أحد منكم عاد مريضاً؟ قال أنا يا رسول الله، نعم! مثل هذا يسأل عن الأبواب كلها، انتبهوا! ليس أمثالنا، يسأل عن الأبواب كلها، ماذا تفعل يا مسكين؟ يسأل عن الأبواب كلها، يُريد ثمانين باباً، وهو لو استقل بباب واحد يكون في خيرٍ كثيرٍ – إن شاء الله -، أبو بكر يسأل هذا السؤال، هو له والجواب له – إن شاء الله -، أبو بكر يعرف هذا، ليس صاحب دعوى، أي لا يدّعي أنه حريص وما إلى ذلك، لا! هو هذا، مقام عمل، هذا عمل وهذه أعمال وأحوال،مقامات إلهية! قال أنا يا رسول الله، الله أكبر! قال هل أصبح أحد منكم أطعم مسكيناً؟ قال أنا يا رسول الله، قال لم يجتمعن لأحد في يوم إلا بنى الله له بيتاً في الجنة، لك قصر في الجنة، وهذا أيضاً يدخل من أبواب الجنة كلها، قال السادة العلماء – أعاد الله علينا من بركاتهم ونفعنا بعلومهم وأنظارهم الإلهية -، قالوا يدخل منها كلها تشريفاً، أما الدخول الذي هو الدخول فيدخل من الباب الذي غلب عليه عمله.

المُهِم أن نعود إلى حديث جبريل، فقال لن يدخلها أحد، أي جهنم، فحفها الله بالشهوات، الله أكبر! الصور – كما قلنا -، الوجوه الحسان، النساء، العورات، وروائحهن الطيبة، هذا طريق جهنم يا مسكين، تذكَّر أنها طريقة جهنم، هذه تقودك إلى جهنم، فلعنة الله على هذه الطريق، لا أُريدها، لا أُحِبها، ماذا أُريد منها؟ لا أُريد، وكذلك المال، تأخذ المال وتجمع وتمنع وتُكثِّره وتتأمَّل في الكونتو Konto كل يوم، تدخل على الإنترنت Internet وتفتح الحساب الإلكتروني، تقول أُريد أن أدخل، كم أصبح؟ مسكين! ماذا تُريد من هذا المال؟ ماذا؟ ماذا تُريد؟

كان الليث بن سعد – أبو الحارث، إمام أهل مصر، قدَّس الله سره – من أصحاب الملايين، عنده غلات وأموال وأشياء عجيبة، قال العلماء ولم يُخرِج زكاة ماله سنة، لماذا يا إمام أهل مصر؟ لماذا أيها الإمام الخامس في الإسلام؟ قالوا لا يحول عليه الحول وعنده نصاب، يتصدَّق به كله، بالملايين! كله يُعطيه، وأكثر ما كان يُعطي لإخوانه العلماء وطلّاب العلم، ويقول العلماء رحم بين أهله، لا ينبغي أن يذل العالم، ينبغي أن نُكرِمهم، وأن نُفرِّغهم، يُعطيهم بعشرات الآلاف، ومثله عبد الله بن المُبارَك، لا يكاد يأكل إلا الخُبز القراف، أي الحافي كما نحن نقول، هناك خُبز حافٍ أو قراف يأكله بالزيت، ويُطعِم الفقراء والمساكين وأصحابه أجاويد أو أجود الطعام، لأنه كان مُتموِّلاً، يعيش حياة الزاهد، ويعيش الناس في كنفه وبماله حياة الواجدين المُترَفين، فحيا الله هاته الأرواح، هنيئاً لهم.

بعض الناس ليس كذلك، الله يُموِّله الملايين، ويبقى يُمني نفسه، يقول إن شاء الله سأفعل، الآن عندي اثنان مليون يورو أو عندي الآن اثنان من الملايين، إذا أصبح الاثنان ثلاثة فسأُعطي – إن شاء الله – إخواني وأحبابي، يا أخي لا أعطيت ولا أبقيت، اذهب يا مسكين، أنت أهبل، ما هذا؟ ما الاستهبال هذا؟ يا رجل سارع، سارع! كما قلت اركل هذه الدنيا برجلك، والله العظيم لو أعطاه الله ثلاثة ملايين لقال لا، حين تُصبِح عشرة سأُعطي، حين تُصبِح عشرة – إن شاء الله – سأُعطي أخي وأخي وإخواني، لا يُريدون منك، مسكين! أنت مُتأخِّر، أنت مُتخلِّف عقلياً، أَفَلَا تَعْقِلُونَ ۩ الله قال، المُؤمِن التقي هو العاقل يا إخواني، المُؤمِن التقي الذي يُسارِع في الخيرات. 

انظروا ماذا قال تعالى، وَسَارِعُواْ ۩، لم يقل وامشوا أو واسعوا، قال وَسَارِعُواْ ۩، جري ركضاً، وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ۩، قال سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ۩، قال سَابِقُوا ۩، لا تجعل أحداً يفوتك، لا تجعل أحداً يبزك، لماذا يبزك؟ لا تدع أحداً يبزك، انطلق دائماً، سارع وسابق وأعط لله – تبارك وتعالى -.

حُفت جهنم – والعياذ بالله – بالشهوات، بالأموال، بالنساء، بالكذب، بالغيبة، بالنميمة، بالكبر، بالغطرسة على الناس، وبالتبجح على عباد الله، ما أعجب شأن هذا الإنسان! كلها أشياء محبوبة للطبع البشري، انتبهوا إلى هذا، هذه الأشياء يُحِبها الطبع البشري، أي الطيني هذا، المُلوَّث بلوثة الطين، ولذلك الناس يُسارِعون ويتهافتون على جهنم تهافت الفراش على النار، لماذا؟ لأنها محفوفة بالشهوات، لا! والعاقل مَن يتدبَّر الأمور، ينظر في أدبارها، وينظر في عواقبها، يقول لا، لن أبوء بسخط الله وبجهنم، من جراء ماذا؟ من جراء مُزاوَلة شهوة يسيرة، تمتد رُبع ساعة أو نصف ساعة أو يوماً أو يومين أو حتى ستين سنة، كلام فارغ! كله كلام فارغ، وسلوه مَن يموت، سلوا مَن يُمدَّد على فراشه، سلوه، كل هذا – والعياذ بالله – قبض الريح، كله كلام فارغ، لا يبقى إلا العمل الصالح، فامهدوا لأنفسكم، أعانني الله وإياكم على ذكره وشُكره وحُسن عبادته.

أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، فيا فوز المُستغفِرين!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

                                                                     (الخُطبة الثانية)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

أيها الإخوة:

إذن في الصحيحين من حديث أبي هُريرة يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – حُفت الجنة بالمكاره، هذا مُلخَّص الحديث السابق، ولكنه في الصحيحين، وحُفت النار بالشهوات، وفي مُسنَد الشهاب القضاعي المعروف بمُسنَد الشهاب وفي مُسنَد الإمام إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بإسحاق بن راهويه – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – قال ابن عباس – رضيَ الله تعالى عنهما – طريق الجنة حَزن بربوة، حَزن أي وعر، الطريق الحَزن هو الطريق الوعر، لا يكون سالكاً ولا سهلاً مُستوياً ولا مُعبَّداً، هذا طريق وعر بربوة، لابد أن تُصاعِد فيه، لابد من هذا، وهذا ضد الطبع البشري، فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ۩، لابد أن تقتحم العقاب أو العقبات، طريق الجنة حَزن بربوة، وطريق النار سهل بسهوة، والسهوة هي الأرض المُستوية المُنبسِطة، يمشي فيها بسهولة، تدلٍ! فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ۩، لأنك تتدلى، أنت فقط تستجيب، دائماً أنا أقول لنفسي سُبحان الله، لو استفزك أخوك فالرد عليه وتعنيته وتبكيته سهل جداً جداً، لا يحتاج إلى أي عبقرية، الكافر يفعلها، الطفل يفعلها، الفاسق يفعلها، الفاجر يفعلها، وكل إنسان ضعيف الشخصية يفعل هذا، مُباشَرةً! فعل ورد فعل، لكن الصعب هو أن تكظم غيرك وأن تقول له عفا الله عني وعنك يا أخي، لا تُوجَد مُشكِلة، إن قلت لي سوءاً لم أقل لك إلا حُسناً، غفر الله لي ولك، السلام عليكم، قَالُوا سَلَامًا ۩.

بالمُناسَبة مَن كظم غيظه – هذا في الحديث – وهو قادر على أن يُنفِذه خيَّره الله يوم القيامة من الحور العين ما شاء، إن شاء الله في الجُمعة القادمة – إذا بسط الله لنا في العمر وأمهلنا – سنتحدَّث عن أشياء أُخرى كثيرة في الجنة، منها الحور العين، الحوراء التي لو بصقت على الدنيا لعذب ماؤها من بصاقها، لعذوبة ريقها كما يقول النبي، النبي يقول هذا، ليس من عندنا، بصقة واحدة تفعل هذا، الحواء التي ينظر إليها زوجها فيرى مُح عظمها في ساقها من خلال سبعين حُلة، هناك سبعون ثوباً، لكن هذا ضوء، تُنير، شيئ عجيب هذه الحوراء، الله يُخيِّرك، يقول لك اختر أي حوراء تُريد, لماذا يا رب؟ قال أنت كظمت غيظك لي، قال وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ۩، ما من جُرعة أحب إلى الله أن تُكظَم من جُرعة غيظ، هذه هي القوة، قوة! لأن هذه طريق الجنة، ماذا؟ حَزن بربوة، مُصاعَدة، ضد الطبع البشري، ضد ضعف البشرية، جاهد نفسك.

أن تتصدَّق الآن ليس سهلاً، يُقال لله يا مُحسِنين، لكن ليس سهلاً أن تتصدَّق، المال شقيق الروح، يقولون هذا، وأنا أقول لكم هذا عند مَن لم يعرف الله، مَن عرف الله يقول والله العظيم المال شقيق التراب، مَن عرف الله يقول بالله المال شقيق الحجر، لا شيئ! مثله مثل الحجر، مَن عرف الله يقول هذا، مَن لم يعرف الله – ليس في طريق المعرفة – يقول المال شقيق الروح، مساكين الناس، يظنون أن هذا دائماً حقيقة مُطلَقة، ليس دائماً، لا! أنباء اليقين تقول هو شقيق التراب، كلام فارغ، لكن لابد أن تُجاهِد نفسك، هذه طريق الجنة، قل أعط لتجده غداً بين يديك، أعط ولا تخش.

قيل لمحمد بن كعب القرظي – التابعي الجليل والولي الصالح – ماذا خلَّفت لأولادك؟ وكان الرجل قد تصدَّق بكل ماله، وتركهم لا شيئ لهم، ببّاناً لا شيئ لهم كما يقول العرب أو تقول العرب، قالوا له لِمَ لَمْ تترك شيئاً؟ هلا ادخرت لهم شيئاً؟ قال محمد بن كعب ادخر لنفسه عند الله، وأما أولاده فادخر لهم الله، الله أكبر! نعم الذخر والذخيرة والذاخر والمذخور، قال ادخرت لهم الله أنا، أما أنا فادخرت مالي لنفسي، أنا أُريد فكاك رقبتي، ماذا يُغني عن ابني وابنتي وزوجتي؟ نفسي نفسي، وهكذا! قل لنفسك هكذا، تعلَّم واخرج عن هذا المال أو بعض عن هذا المال.

قال وطريق النار سهل بسهوة، ونختم بحديث مُسلِم، في صحيح مُسلِم يُؤتى بأنعم أهل الأرض من أهل النار، هو كان في الدنيا أنعم الناس، أي ربما اليوم هو أغنى واحد، ويعيش على أنه أكثر البشر تنعماً، الله أعلم مَن هو، يُؤتى به يوم القيامة إذا كان من أهل النار، ويُغمَس وفي رواية يُصبَغ في جهنم صَبغة واحدة، اسم مرة، ليس صِبغة وإنما صَبغة، مرة! صَبغة واحدة، ثم يُخرَج، فيُقال له يا عبد الله هل رأيت نعيماً قط؟ أي في حياتك، عشت تسعين سنة أنت مثلاً، هل مر بك خير قط؟ فيقول لا والله، ما رأيت نعيماً قط، ولا مر بي خير قط، غمسة واحدة أنسته كل نعيم الدنيا، ويُؤتى بأبأس – فقير محروم ضعيف مسكين – أهل الدنيا من أهل الجنة، اللهم اجعلنا منهم، فيُصبَغ في الجنة صَبغة واحدة، صَبغة هكذا! نحن نتحدَّث عن الجنة والله أعلم بها، لا نعرف شيئاً، أنتم تخيَّلوا ريحها، أي ريح الجنة، من مسيرة أربعين سنة، من أربعين سنة تشم رائحتها، شيئ عجيب الجنة هذه، الجنة! ذَٰلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ ۩، يُصبَغ صَبغة واحدة، ثم يُقال له يا عبد الله هل مر بك بؤس قط؟ هل مرت بك شدة؟ فيقول لا والله، ما رأيت شدةً ولا مر بي بؤس قط أو كما قال.

هذه الدنيا وهذه الآخرة يا إخواني، دائماً تفكَّروا في هذا، وهي أيام معدودات.

أسأل الله العظيم، مولاي الكريم، الجواد، الغفور، الرحيم، بسبحاته، بجلاله، بجماله، ببهائه، بإفضاله، بإنعامه، بإحسانه، بتتميمه النعمة وإكماله، لا إله إلا هو، بإسمائه الحُسنى وصفاته العُلا، أن يرزقنا حُسن النظر فيما يُرضيه عنا، وأن يُعيننا على ذكره وشُكره وحُسن عبادته، وأن يُعظِّم يقيننا في موعوده.

اللهم اجعلنا من خاصة أوليائك، وكُن لنا ما كنت لهم يا رب العالمين، بفضلك ومنّك، اغفر لنا الذنب المُتقدِّم والذنب المُتأخِّر.

اللهم إنا نسألك ونضرع إليك ونبتهل أن تغفر لنا جدنا وهزلنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا، وما تأخَّر من ذنبنا وما تأخَّر، وما جنينا على أنفسنا، وما أنت أعلم به منا.

اللهم ارحمنا بترك المعاصي أبداً ما أحييتنا، وارحمنا أن نتكلَّف ما لا يعنينا، برحمتك يا أرحم الراحمين، انصر الإسلام وأعِز المُسلِمين، وأعل بفضلك كلمتي الحق والدين، نوِّر قلوبنا وأفئدتنا وبصائرنا وأبصارنا بذكرك، وارزقنا عملاً بكتابك ومُتابَعةً لحبيبك وصفيك – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم -، وأحسِن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، إلهنا ومولانا رب العالمين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من أفضاله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

 (22/5/2009)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: