إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا وَعَظيمَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ۩ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ۩ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ۩ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ۩ قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ۩ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ۩ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ۩ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ۩ قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

إخواني وأخواتي:

وتستمر الحكاية، حكاية الصراع الأبدي – إن جاز التعبير – أو الصراع القديم، بين إبليس – لعائن الله عليه مُتتابِعة إلى يوم الدين -، وبين هذه الخليقة الضعيفة، بني وبنات آدم.

وفصلٌ عجيبٌ من فصول هذه الحكاية الصراعية، يتمثَّل في ندب أنفار وجماعات من بني آدم – من بني آدم، ضحية إبليس، ضحية الشر القديم، ضحية الشر العنيد المُصِر المُمتَد -، ليدفعوا عن عدوهم الأول والأكبر، عن إبليس! بمثل وبما لم يدفع به عن نفسه أصلا، وكأن المُحاكَمة قابلة للاستئناف، على أنها لا تقبل الاستئناف، لأن اللعنة حاقت به إلى يوم الدين. إذن كلمة الفصل قد صدرت، ولا استئناف، ولا مُراجَعة، ولا إعادة نظر في القضية وحيثيات الحُكم.

ومن أسف نجد أن هؤلاء الذين استزلهم وأضلهم إبليس واستهواهم، يتوزَّعون على الأمم المُوحِّدة – إن جاز التعبير -، على اختلافها. فقد حكى الإمام عبد الكريم الشهرستاني الآتي في كتابه الأشهر المِلل والنِحل، وهو على ما أذكر في المُقدَّمة الثالثة من كتابه، التي كسرها وخصصها لبحث أول شُبهة نشأت في الخليقة، أول شُبهة نشأت في الخليقة! ومصدرها ومُظهِرها، وأيضاً تجليات ولوازم وعقابيل وتوالي هذه الشُبهة، حيث ذهب الإمام الشهرستاني – رحمه الله تعالى – يُبيّن ويشرح ويُوضِّح، أنه ما من ضلالة وما من بدعة في الدين، إلا وهي بشكل أو بآخر مُتفرِّعة من إحدى هذه الشُبهات، المُتفرِّعة بدورها من الشُبهة الأولى التي نشأت في الخليقة، وهي شُبهة رد الوحي، أي الاستكبار على أمر الله ونهيه، رد الوحي! رد نصوص الوحي، بمحض الرأي والهوى.

وهذا أفسد الاعتبار، هذا أفسد الاعتبار! هذا ما يُعرِّفه علماء أصول الفقه بفاسد الاعتبار. مَن رد نصاً من نصوص الوحي، لا يقبل التأويل بوجه من الوجوه المُعتبَرة، بمحض رأيه وتشهيه وميله النفساني وهواه، فهو يرتكب فساد اعتبار في أجلى صوره.

ولذلك قيل إن إبليس هو سلف كل فاسدي الاعتبار في أقيستهم المُختلِفة. ومَن رد الشرع الواضح المُبين، الذي لا يقبل التأويل، بمحض رأيه ومُشتهياته وأمياله، فإنما هو خلف لذلك السلف اللعين، إنما هو خلف لإبليس! وسلفه في هذا ليس آدم، وليس أحداً من النبيين، وإنما سلفه إبليس – لعائن الله عليه مُتتابِعة -.

فذكر الشهرستاني أن هذه الشُبهة هي أول شُبهة نشأت في الخليقة، وذكر أن شرّاح الأناجيل – وسماها بأسمائها أربعتها، إنجيل متى ومرقس ويوحنا ولوقا – أوردوا هذه الشُبهات الإبليسية. قال شرّاح الأناجيل أوردوا هذه الشُبهات الإبليسية. كانت أول شُبهة أن قال إبليس في مُحاوَرة مُتخيَّلة، لكن منقولة هكذا لدى هؤلاء الشرّاح، بينه وبين الملائكة – عليها السلام -، أن قال أنا كنت عبداً طائعاً لله، خاضعاً لجبروته، مُستسلِماً لسُلطانه وأمره، مُحِباً له، دائناً له بالربوبية والإلهية، إلى أن شاء – تبارك وتعالى – أن يتغيَّر هذا الأمر وهذا الحال. ثم جعل اللعين يُورِد على حكمة الله وإرادته شُبهاته السبع، هي سبع شُبهات!

أولها أن الله – تبارك وتعالى – يعلم الله أزلاً، فلا بداية لعلمه، ما سيصير إليه أمري وشأني وحالي، فلِمَ خلقني وعرضني للعذاب والفتنة؟ هو يعلم في الأزل أنه حين يخلقني أو إذا خلقني، ثم يبتليني بهذا الابتلاء الكبير، بحيث يأمرني أن أسجد لمخلوق أنا أرى أنني أرفع منه وأنبل منه عُنصراً وأشرف منه عرقاً ومحتداً، سأتأبى. أنا سأتأبى! فلِمَ عرضني لهذه الفتنة؟ لِمَ خلقني أصلاً؟ هذه أول شُبهة.

وإذ خلقني – الشُبهة الثانية، ثانية السبع الشُبهات – كلفني بمعرفته وبطاعته، ما الحكمة في هذا – أن يطلب مني أن أعرفه وأن أُطيعه، وهو غني عن معرفتي إياه وعن طاعتي له -؟ يُدلِّس اللعين، يُدافِع عن نفسه، ويتفلسف.

قال وإذ خلقني وكلفني بمعرفته وطاعته وفعلت، عرفته وأطعته وعبدته وأحببته، فلِمَ يُكلفني بعد ذلك ويبتليني بأن أسجد لهذا المخلوق الفخاري الطيني؟ وطبعاً – كما في الشُبهة الأولى – يعلم أنني لن أفعل، لِمَ؟ أنا أُطيعه هو، لكن أُطيع آدم؟ وفي الحقيقة الطاعة ليست لآدم، الطاعة لله في أمرك بأن تسجد لآدم، يُدلِّس اللعين!

وإذ قد فعلت، فلم أستجب لأمره واستكبرت، فلِمَ لعنني وطردني من رحمته؟ فآدم لم يُلعَن ولم يُطرَد من رحمته، وقد عصاه وقد عصيت، لِمَ أنا لعنني وحاقت بي اللعنة وسوء المصير والمآب – والعياذ بالله تبارك وتعالى -؟

وإذ قد حصل كل ما ذُكر، فلِمَ طرقني إلى آدم؟ لِمَ جعل لي طريقاً إلى آدم، بحيث سمح لي أن أعود إلى الجنة، لأزل وأغوي هذا العبد الفخاري، هذه الخلقة الجديدة المُنكَرة لدي؟ لِمَ طرقني إلى آدم؟

وإذ قد فعل وطرقني إلى آدم – أي جعل لي طريقاً لإغواء آدم -، فما الحكمة في ذلك؟ وقد كان مُقتضى الحكمة أن يُنجي آدم وأولاده مني، لم يفعل أيضاً، ودخل آدم وأولاده في المحتنة، فصرنا جميعاً مُمتحنين مُبتلين مكروثين، أين الحكمة في هذا؟

يتساءل دائماً بلِمَ؟ لِمَ؟ لِمَ؟ لِمَ؟ لِمَ؟

وإذ قد فعل – أي كل ما ذُكر -، فلِمَ أمهلني إذ استمهلته؟ ومُقتضى الحكمة ألا يُمهِلني، لكي يُخلِّص آدم وبنيه مني ومن شري، لِمَ أمهلني؟

يقول الشهرستاني بحسب ما ورد في شروح الأناجيل، أن الله – تبارك وتعالى وجل وعز – أوحى إلى الملائكة، أن قولوا لهذا اللعين، هذا السفسطائي المُتفلسِف الآيس من رحمتي، لم تصدق في دعواك، أنك عرفتني وأحببتني وخضعت لي وأطعتني، كذّاب! هذه الدعوى منك، ولو صدقت فيها، ما احتججت واحتكمت علىّ بلِمَ؟

لا يُقال في وجه الله لِمَ؟ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ۩. مَن كان له مثل علم الله الكُلي المُطلَق المُحيط، وأيضاً – أي زائد – مثل قدرة الله المُطلَقة من كل قيد، المُحيطة – لا إله إلا هو – له أن يحتكم على الله، بإزاء الله، في قبال الله، بلِمَ؟ أما مَن لم يتوفر على مثل هذا العلم ومثل تلكم القدرة، فمن أين له أن يحتكم على الله بلِمَ؟ هذا لا يحصل، وهذه حماقة!

على كل حال يبدو أن إبليس كان هو منشأ ومصدر كما يقول الشهرستاني هذه الشُبهات، التي وجدت بطريقة أو بأُخرى سبيلها للأسف إلى أنفار من المُتصوِّفة، وفي رأسهم الحُسين بن منصور، المعروف بالحلّاج، في طواسينه، التي وصلتنا أو وصلنا بعضها، خاصة في طاسين الأزل والالتباس.

في طاسين الأزل والالتباس يحكي الحلّاج مثل هذه الشُبهات ويُزخرِفها ويُنمِقها. وإن تعجب، فاعجب إلى النتيجة والخُلاصة. يخلص الرجل في طاسينه الذي لُبس عليه فيه – لبّس عليه فيه إبليس، إن صدقت النسبة إليه وثبتت، فهذا من تلبيس إبليس، لا محالة ولا تردد، لا محالى وبلا تردد – إلى أن إبليس رأس المُوحِّدين، هو رجل مُوحِّد، وهو أبى أن يسجد لآدم، من أجل أن يمحض الله الوحدانية، الله وحده مَن يُسجَد له، وهو غار على الجناب الإلهي!

ما شاء الله، ما شاء الله على الاستنباط الإبليسي وعلى الفهم الشيطاني وعلى التدليس الوسواسي وعلى الزخرفة الخبيثة، التي يُكذِّبها نصوص كتاب الله. إبليس نفسه لم يدفع عن نفسه بمثل هذا الدفع أو الدفاع.

القرآن في آيات كثيرة، صرَّح فيه مُنزِله – لا إله إلا هو -، أن المبعث (مبعث الإباء والتأبي) هو الكبر والاستعلاء، الرجل استكبر على أمر الله واستعلى واحتقر أخاه في الخليقة (آدم)، ورأى نفسه خيرا منه، واضح جداً! القضية ليست غيرة على وحدانية الله وعلى جناب الله أبداً، إنما غيرة على ماذا؟ على حيثيته، أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ ۩.

قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَٰذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ ۩، هذه القضية، هو وأنا! أنا أعلى وأنا أفضل، كيف؟ كأنه يقول لله كيف تسمح لذاتك العلية أن تمتحنني بالسجود لهذا الحقير، هذا حقير، أنا أشرف وأعلى منه، أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ ۩.

قال لك لا، الأمر يتعلَّق بالوحدانية. ما الكذب هذا؟ تلبيس إبليس، وللأسف بعض الدارسين في القرن الحادي والعشرين لا زال يلوك ويمضغ ويُردِّد هذه التفاهات الإبليسية على أنها شُبه تحتاج إلى جواب، فهيا اشحذوا أسنتكم معاشر المُفكِّرين والعلماء والمُفسِّرين والعارفين، وأجيبوا عن شُبهاتنا. هذه شُبهات؟ هذه زُبالة الفكر، كلام فارغ، هذا الكلام كذب. إما أن تكون مُؤمِناً، وإما أن تكون كافراً. لا معنى طبعاً لأن يُورِد كافر مُلحِد (المُلحِد الذي يُنكِر وجود الله والنبوات والشرائع والرُسل) مثل هذه الشُبهات السخيفة، إلا من باب واحد فقط، وهو ماذا؟ وهو أنه يُريد أن يُلزِم المُوحِّدين أو المُتدينين أو الوحيانين (المُؤمِنين بوحي السماء، من يهود ونصارى ومُسلِمين) بماذا؟ باختلاط أمرهم واختباط شأنهم، وأنكم تسردون سردية أو تروون أسطورة وحكاية مُتناقِضة، لا معنى لها، تُخالِف المنطق. من هذه البابة فقط يُمكِن أن يتجه كلامه واعتراضه، وإلا لا معنى لاعتراضه وكلامه. وإما أن يكون هذا المُعترِض المُتشكِك المُتحيِّر المُتردِّد مُؤمِناً، إما أن يكون مُؤمِناً، وهذا لا ينبغي أبداً، فالإيمان يرشده مُباشَرةً إلى أقصر طريق، ألا وهي طريق الوحي. ماذا قال الرب الذي تُؤمِن به في هذه الحكاية؟ لا تُؤلِّف لي حكاية من لدنك، وتقول لي هذه ما جرى! هذا كذب، هذا لم يجر. الذي جرى ما قصه القرآن، والذي قص القرآن أن اللعين استكبر بأواً وزهواً ورؤيةً لنفسه، واستكبر عن أمر الله.

هذه القضية كلها فقط، لا أنه غار على جناب التوحيد وأراد أن يمحض الله وحده العبادة، والكلام الفارغ هذا، غير صحيح! نُصدِّق مَن؟ نُصدِّق رب العالمين، أم نُصدِّق هؤلاء الأبالسة، أو مَن يمتح من معين إبليس؟ الله يقول العلة انه استكبر وعلا. إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ۩، الله قال هذا، قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ ۩ في سورة ص، هذه هي! استكبار وعلو – والعياذ بالله -، واستكبار على ماذا؟ على أمر الله. هو رأى نفسه أن هذا الأمر لا يليق به، لا يليق أن أؤمر بهذا الأمر. عجيب! مَن الرب؟ ومَن المربوب؟ مَن الخالق؟ ومَن المخلوق؟ مَن الآمر؟ ومَن المأمور؟ مَن الحكيم؟ ومَن الأحمق؟ هذا الحمق كله، في مُقابِل المُطلَق، كل مُحاوَلة للتحدي حماقة.

انتبهوا إذن، سأُعطيكم قاعدة، أي قعدتها أنا، هذه ليست قاعدة لغيري، قاعدة هكذا، وأكيد ستُسلِّمون قاعديتها، لن يمتري أحد في قاعديتها.

في مُقابِل المُطلَق، كل مُحاوَلة للتحدي حماقة. أنا بشر، لدي ساقان، لدي رجلان، أعدو، وقد أكون عدّاء سريعاً، يُمكِن أن أُحاوِل مُسابَقة أعدى العدائين، مُمكِن جداً، لِمَ لا؟ مُمكِن! يتقاضاني هذا تدريب خمس سنوات ربما، وليس خمسة أشهر، سأتدرب خمس سنوات، وربما ماذا؟ آتي في المركز الأول. عادي! لكن أنا بشر، أسعى على رجلين، وأعدو بساقين، وأُريد أن أُسابِق ليس الريح، وإنما الضوء. هذه حماقة، حماقة! مُستحيل، مُستحيل عادي، وليس مُستحيلاً عقلياً، هذا لكي نفهم المنطق العقلي ونتكلَّم بلُغة المنطق الدقيق. في العادة هذا مُستحيل، لأن الضوء يسير بسرعة ثلاثمائة ألف كيلومتر في الثانية، الضوء يلف الأرض ثماني مرات في الثانية، وأنت تُريد أن تُسابِق الضوء، أحمق! أم أنك لست أحمق؟ قد يقول لي أحدهم إنه ليس أحمق. ولكنه أحمق.

الآن ليست القضية قضية ضوء مع الساقين، الحديث عن رب العالمين – لا إله إلا هو -، هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ۩، الذي لا حدود لعلمه ولا وجوده ولا قدرته ولا هيمنته، وأحدهم يُريد أن يستعرض عضلاته أمام الله، عضلات عقله أو حكمته أو حتى قوته البدنية، أمام الله! أكبر أحمق، أليس كذلك؟ أحمق بمراحل من الذي يُريد أن يُعادي ويُسابِق الريح، أليس كذلك؟ سوف يقول لك لماذا؟

ولذلك أمل دنقل للأسف في كلمات سبارتاكوس الأخيرة يقول ماذا؟ أمل دنقل يقول لك ماذا؟ المجد للشيطان. أستغفر الله العظيم!

المجد للشيطان.. معبود الرياح.

من قال “لا” في وجه من قالوا “نعم”.

من علّم الإنسان تمزيق العدم.

من قال “لا”.. فلم يمت,

وظلّ روحا أبديّة الألم!

يا ما شاء الله! صف كلام، المجد؟ الحماقة، على فكرة هذا مجد الحماقة، كل الحماقة للشيطان، الشيطان هو رأس الأبالسة، ورأس الغاوين، وحمّال أوزار الضالين والمُضلِين، ورأس الحمقى المُغفَّلين. فخل الشيطان يفرح الآن بهذه الأُهجية. رأس الحمقى على الإطلاق، وهو يعلم صدق كلامي، وأنا الآن أتكلَّم، وهو (الشيطان نفسه) يعلم صدق كلامي، كما تعلمه الملائكة والعقلاء من بني آدم، لأن تحدي المُطلَق حماقة، تحدي رب العالمين حماقة. أتُحِب أن تستحمق مثل أمل دنقل؟ اذهب واستحمق إذن، وقل لي المجد الشيطان. وهذا مجد ماذا؟ مجد الحماقة، مجد الهرف، مجد الجنون، مجد التفكك العقلي والذهني. لأن هذا الكلام يُوشِك أن يكون صاحبه فعلاً – أي بلا شك – رجل لا يتماسك في ذهنه شيئ مُحترَم ومعنى مُحترَم، حماقة ما بعدها حماقة! هذه حماقة ما بعدها حماقة، وسوف نرى الشُبهات المُعاصِرة على كل حال.

وهناك المقدسي في تفليس إبليس، هناك المقدسي هذا – أي عز الدين بن غانم المقدسي، من أهل القرن العاشر الهجري – في كتابه تفليس إبليس، وإنصافاً لهذا الرجل، وليس من المشاهير جداً، نقول بالعكس، هو لم يُسلِّم بمضمونات طاسين الحلّاج، وقدَّم بمُقدَّمة طويلة، تُوشِك أن تكون ثُلث الرسالة القصيرة – وهي عموماً في أربعين صفحة -، تُوشِك أن تكون ثُلث الرسالة، ليدل على فساد كلام الحلّاج وكلام مَن اتكأ على كلامهم الحلّاج أيضاً من فلان وعلان، لشُبهات إبليس. على أنه أوردها مُنمقة مُزخرفة، بأسلوب فيه نوع من الإسهاب، يخلو منه طاسين الحلّاج.

فبعض الناس للأسف نسب المضمون نفسه إلى المقدسي، وجعله وأجراه مجرى الحلّاج. لا! هذا ليس من الإنصاف، ولكن عندنا في القرن العشرين الراحل الفيلسوف السوري صادق جلال العظم، وكتابه المشهور جداً والذي حوكم بسببه وسُجِن أيامها في بيروت أو في لبنان، نقد الفكر الديني. حيث كتب تحت عنوان مأساة إبليس. مأساة إبليس! تراجيديا إبليس، إبليس مظلوم، أي هذا مسكين و(غلبان)، اتضح أنه كائن جميل و(حبّاب)، وهو مُوحِّد كبير ونحن لا نعرف، الله خدعنا – أستغفر الله العظيم – حين أخبرنا أنه لعنه، الله خدعنا! قال لك لا. قال لك هو ليس ملعونا. أي هذا عجيب، نُصدِّق مَن؟ ما القصة إذن؟ وطبعاً الأمر بالنسبة لأي مُؤمِن عادي واضح جداً.

فيقول لك هذا فيلسوف، صادق جلال العظيم فيلسوف، كان يُجيد أكثر من لُغة، ويكتب بأكثر من لُغة، وألَّف كُتباً كثيرةً في الفلسفة. فاعجب إن شئت عجباً لا ينقضي، لفيسلوف يقول وكان دفاع إبليس وتبرير إبليس لموقفه (موقف الإباء والاستعصاء على أمر الله) منطقياً. ما شاء الله على المنطق، حلو المنطق هذا، نتعلَّم المنطق من جديد! وخلونا نرى أين هذا المنطق؟ وأي منطق هذا؟

قال لك هذا كان منطقياً، حين قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ۩. أي صادق جلال العظم، وهو الفيلسوف المُلحِد، الماركسي التوجه والنزعة، يقول هذا الكلام منطقي تماماً. لماذا؟ لأنه يُقرِّر حقيقة مُقرَّرة بذاتها، كما هي! أرادها الله وشاءها، كما هي! وهذه ألفاظ صادق العظم. كيف؟ قال لك إن النار هنا في مُقابِل الطين. يا أخي فرق كبير بينهما، يا أخي النار أشرف من الطين، وإبليس كان صادقاً، إبليس كان صادقاً!

أولاً نُريد أن نرى أين المنطق هنا – أي في هذا الكلام -؟ هذا الدفاع الإبليسي (دفاع إبليس عن نفسه) ليس منطقياً، وليس سائغاً، بأي وجه من الوجوه، بل هو باطل من كل وجوه.

الوجه الأول – كما قلنا – فساد الاعتبار، فساد الاعتبار! ولذلك:

والخُلف للنص أو إجماعٍ دعا                        فساد الاعتبار كلُّ من وعى.

كما في مراقي السعود! قياسك فاسد الاعتبار، إذا كنت تطعن في صدر النص أو إجماع هذه الأمة المرحومة بمحض الرأي والهوى، هذا قياس يعتمد على الرأي والهوى، وهذا يُطبّق مع أي قياس، سمه ما شئت هذا القياس، هذا القياس فاسد الاعتبار. هناك أمر إلهي بأن أسجد، إذن انتهى الأمر، لا يُوجَد كلام هنا، سوف أسجد، سواء فهمت أو لم أفهم، أعلم أن هذا أمر صادر من الله، ومن ثم أسجد مُباشَرةً، أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۩، لأنه هو الذي خلق، لا يُمكِن لآلة أن تتأبى علىّ وقد قمت أنا بتصنيعها، تحتاج إلى أن تتبرمج وتحتاج إلى أشياء أُخرى، مع أن إبليس غير مُبرمَج، ولذلك هو قال لا. واستحق جزاءه، لأن الله شاء أن يخلقه كما خلق آدم أيضاً غير مُبرمَج، لهما الاختيار، لهما الاختيار وهذا عصا وهذا عصا، ولكن مبعث المعصية مُختلِف، وطبيعة المعصية في الحالتين مُختلِفة، وهذا سيأتي بيانه بُعيد قليل – إن شاء الله تعالى -.

إذن هذا فاسد الاعتبار، مُواجَهة النص الواضح، الذي لا يقبل التأويل، بأي قياس وبأي هوى وما إلى ذلك، مُباشَرةً هذا فاسد الاعتبار ولا قيمة له، لا قيمة له! واليوم على فكرة – وهذا قياس مع الفارق أيضاً – لا يستطيع مُواطِن في أي دولة من الدول الحرة المُتقدِّمة، مثل هذه الدول، أن يرد قانوناً لأنه يجده غير عادل. لا! سيأخذك القانون رغماً عنك، وستخضع لطائلة القانون وتأتيك المُحاسَبة والجزاء، ثم بعد ذلك اذهب واكتب ودافع عن نفسك، لا يُمكِن غير هذا، وما أحلى ذلك! ماذا لو فتحنا هذا الباب؟ بحسب هذا المعنى ماذا ستكون أهمية المجالس التشريعية والبرلمانات والعقلاء الذين يأتون والمُنتخَبون؟ كل هذا لن يكون له أهمية، قد يأتي أحدهم لك ويقول أنا – والله – غير مُقتنِع بصراحة، أنا غير مُقتنِع بهذا القانون، وهو لا يدخل مزاجي. فهل هذا يُمكِن؟ نعم أمام رب العالمين هذا مُمكِن، عند صادق العظم وعند هؤلاء التائهين للأسف هذا مُمكِن، هذا مُمكِن! ولِمَ لا يأخي؟ لماذا ربنا هكذا مُستبِد؟ أستغفر الله العظيم، يصفه بالمُستبِد وبالديكتاتوري، أي هذا شيئ عجيب، وكأن الوضع هكذا.

وطبعاً أنت تصف حاكماً بأنه يستبد برأيه، لأن عقله ليس عقل العقول، هذا مُجرَّد عقل، قد يُوجَد في عقول حاشيته مَن هو أرصن وأرزن من عقله، أليس كذلك؟ مهما بلغ هذا العقل، هو مُجرَّد عقل.

مثل هذه المُقايسة أو التمثيل يسوغ في حق رب العالمين، وهو مصدر العقل والنور كله – لا إله إلا هو -؟ هو مصدر كل شيئ، ثم يُقال لك استبد، الله مُستبِد. ما الغباء هذا؟ بصراحة هذا غباء، ولا أُحِب أن أنال من الناس، ولكن هذا غباء، هذا غباء شديد جداً، لا يُقال مُستبِد، حين يُوجَد عقل إزاء عقل، قد يُوجَد استبداد، هذا صحيح، حين يُوجَد عبد إزاء عبد، قد يُوجَد استبداد، ولكن هل يُمكِن هذا إزاء الرب – لا إله إلا هو -، وهو مصدر القوة كلها، ومصدر المِلك؟

الإنسان لو تصرَّف في مِلكه، يُعتبَر مُعتدياً؟ هذا مِلكه، وهو حر. هناك إنسان عنده قطعة أرض، يُريد أن يُبيحها، أو يُريد أن يمنحها، أو يُريد أن يستزرعها، أو يُريد أن يبني فيها، أو يُريد أن يُنشئ فيها مسبحاً، أو يُريد أن يتركها للكلاب الضالة. هو حر! مَن تصرَّف في مِلكه، فما ظلم. أليس كذلك؟ رب العالمين كلنا مِلك له، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ۩ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۩، وأنت تقول لي إنه ظالم ومُتعدٍ! مُتعدٍ على مَن يا حبيبي؟ تعدى على حق مَن؟ هذا كله حقه، أليس كذلك؟

إذا كنت تستخدم المنطق، فلتستخدم المنطق بصرامة وبأمانة، فلا تُدلِّس على الناس. ولكن هناك مَن يقول إنه مُعتدٍ وديكتاتور ومُستبِد. وبعض الحمقى يُصدِّقون، ويقولون لك والله هذا صحيح يا أخي، لماذا ربنا مُستبِد؟ فما هذه الحماقة؟ نسأل الله أن يُتِم علينا عقولنا.

المُشكِلة – كما أقول دائماً، وهذا مثل من أمثال العامة، وجدته في رُتبة علية من رُتب الحكمة والوضوح الفكري – أن الله قسم الأرزاق، فلم يرض أحد برزقه – لا تجد أحداً راضياً برزقه، حتى ولو عنده المليارات، هو يُريد المزيد، أليس كذلك؟ -، وقسم العقول، فالكل رضيَ بعقله. ويا ليتها كانت العكس، يا ليتها كانت كذلك، ولكن لكي تتم المحنة، كان الأمر على هذا النحو، فيا ليت كل الناس لم يرضوا بعقولهم، وطلب كل واحد منهم عقلاً أعلى وفهماً أحسن، كنا سنصير جميعاً فلاسفة وعلماء على فكرة، فنُكمِّل أنفسنا باستمرار ونتواضع للحقيقة، ولكن الأمر ليس كذلك، فالكل راضٍ بعقله، الكل يقول إن هناك جواباً عنده. والكل يقول إن عنده وجهة نظره. والواحد منهم لم يدرس في الموضوع حتى صفحتين، ولكن عنده وجهة نظره، يقول أنا عندي رأي. شيئ عجيب!

فنرجع إخواني وأخواتي إلى ما كنا فيه. فإذن هو قال لكم هذا دفاع منطقي. وأولاً هذا فاسد الاعتبار، ثانياً مثل هذا الدفاع بالذات ينبغي أن يتنزه عنه مثل صادق العظم، لماذا؟ لأنه رجل يساري، يُؤمِن بالاشتراكية، وضد العنصريات، وضد التمييز الطبقي والعنصري، على طول الخط! أتقبل الآن بإبليس لكي تُدافِع عنه أنت، وتنال من القرآن ومن الرسالات، بمثل هذا المنطق الذي يفوح بالعنصرية البغيضة، وتزكم رائحته العرقية اللعينة الأنوف؟ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ۩، أنا نار وهو طين. وهذه عنصرية، هذه عنصرية! إن صحت هذه العنصرية، تصح عنصريات البشر، نحن دم أزرق وأنت دم أحمر، نحن عرق آري وأنتم عرق سامٍ، نحن بيض وأنتم مُلوَّنون. أليس كذلك؟ وهذا لا يُمكِن، كلام فارغ، هذا منطق عرقي.

وبعد ذلك ماذا لو سلَّمنا جدلاً – هذا يُسمونه التسليم الجدلي أو الاعتباطي، فلو سلَّمنا تنزلاً أو جدلاً أو اعتباطاً – بأولوية وتفوق النار على الطين؟ أي هي كطبيعة أحسن من الطين، جميل! فهذا من حيث الأصل، لا من حيث الفروع، وهل هي أفضلية مُطلَقة، أم أفضلية باعتبارات ولحاظات وجهات؟ سؤالان مُهِمان جداً.

العربي البسيط الأُمي، كان يفهم هذه المسائل، دون أن يدرس منطق أرسطو Aristotle. وكان يقول ماذا؟

إذا افتخرت بآباءٍ لهم شرف                             قلنا صدقت ولكن بئس ما ولدوا.

يُخاطِب مَن؟ مهجوه. يقول له:

إذا افتخرت بآباءٍ لهم شرف                             قلنا صدقت ولكن بئس ما ولدوا.

أصلك حلو، ولكن أنت غير حلو. هذا هو! أي أنت من طين، وآباؤك من طين، وآباؤك كانوا – ما شاء الله – رفيعين وشرفاء ومُمتازين، ولكن أنت – أي هذا البعيد – خسيس، وترفع خستك بماذا؟ بهذا الانتساب والتعزي. أي أنا ابن فلان وعلان وابن العائلة الفلانية! ولكن أنت سيء، هذا معروف وواضح من أفعالك.

إذا افتخرت بآباءٍ لهم شرف                             قلنا صدقت ولكن بئس ما ولدوا.

والآخر يقول ماذا؟ وهو أبلغ من هذا، يقول:

وما ينفع الأصل من هاشمٍ                                     إذا كانت النفس من باهلة.

وباهلة هذه إحدى قبائل العرب المعروفة بالحُمق والبُخل واللؤم. يقول لك أحدهم هذا الباهلي. فأحدهم قال لك ماذا؟ أنا هاشمي. ولكن تصرفاتك ونزعاتك باهلية يا حبيبي!

وما ينفع الأصل من هاشمٍ                                     إذا كانت النفس من باهلة.

وهذا لم يفهمه إبليس، ولم يفهمه المداره المُحامِون المُدافِعون عن ماذا؟ عن إبليس. ظنوا أن شرف الأصل يقتضي دائماً وبلا مشروطية، شرف ماذا؟ الفرع. وهذا غير صحيح! بالحس وبالمُشاهَدة وبأحوال الناس غير صحيح، إذن كلام إبليس هنا ساقط.

ثالثاً من أين لنا أن نُسلِّم أصلاً بهذا؟ نحن سلَّمنا جدلاً، لأجل الإفحام من جهة أخرى، ولكن من أين وأنى وكيف نُسلِّم بتفوق النار على الطين وأفضلية النار على الطين، والنار بطبعها فيها خفة وطيش؟ أليس كذلك؟ وفيها تفريق، تحرق وتُدمِّر! الطين فيه رصانة ورزانة ورسوب وتجميع، وهو منبت الحياة. حتى لدى الماركسيين والتطوريين والملاحدة الحياة نشأت في طين، والخلية الأولى من طين. والطين لا يزال إلى اليوم مادة ماذا؟ مادة الحياة، في النبات والإنسان والحيوان. إذن كل ما نراه على هذا الكوكب الأزرق الجميل من مظاهر الحياة وروائها وجمالها، إنما ينتسب إلى ماذا؟ إلى الطين، وليس إلى النار. من أين أن النار أفضل إذن؟ فهل نحن صدَّقنا بأن النار أفضل؟ مَن قال هذا؟

وبعد ذلك – رابعاً الآن – لو صح وصدق هذا المنطق في الاحتجاج بنفاسة وشرف ونُبل العُنصر الأصل، لكانت الملائكة أولى بالإباء. أي تقول له لا، إذا كانت الحكاية كذلك، فنحن من نور طبعاً. والطبقات هي هكذا! نحن من نور، نحن لا نزال أعلى من النار. وربما كان أنفع ما في النار ما فيها من نور، أليس كذلك؟ نحن من نور طبعاً! ولكن الملائكة لم تجنح إلى هذا الاحتجاج العقيم، فاسد الاعتبار، في وجه الأمر الإلهي الصريح، الذي لا يقبل التأويل، وسجدت عن طواعية وسماح مُباشَرةً، فحظيت بنعمة الله، حظيت بنعمة الله!

لِمَ لَمْ يجنح المُدافِعون عن إبليس إلى مثل هذه المُقارَنة؟ لِمَ لَمْ يقولوا نعم، لو كان ذا حقاً، لكانت الملائكة أحق بالإباء، ولكنها لم تفعل، فأنت مُجرِم، أجرمت في حق نفسك؟ لا! يُدافِعون عنه بأي طريقة، ويُخادِعون أنفسهم، هم يُخادِعون أنفسهم!

وطبعاً القضية طويلة، ولا أُريد أن أتعرَّض لكل الشُبهات، فقط سأذكر ثلاث شُبهات، ثم نمضي – إن شاء الله – إلى صلاتنا. الموضوع طويل، وكُتبت فيه كُتب طويلة وأشياء ودراسات وأشعار ومُجادَلات ومُسجَالات، وهو بطبيعته ذو طبيعة سجالية، أي هذا الموضوع.

الشُبهة الأولى إخواني وأخواتي أتت على النحو الآتي: كتب صادق جلال العظم في كتابه المذكور (أي نقد الفكر الديني) أن حكاية آدم مع الشيطان أو الشيطان مع آدم والملائكة مُؤسَّسة على تناقض كبير، والظلم الذي لحق بإبليس المسكين بسبب التناقض. وأين التناقض يا دكتور العظم، يا فيلسوفنا؟ قال لك بين الأمر الإلهي، والمشيئة الإلهية، يُوجَد تناقض. الله شاء ألا يسجد إبليس، وكان يعرف هذا هو، ولذلك هذه القضية مرسومة من الأول ومُخطَّط لها من الأول، ولكنه أمره بعكس مشيئه، قال له اسجد، وهو يعلم ماذا؟ أنه لن يفعل. فصار التناقض!

فقال هناك تناقض بين المشيئة الإلهية والأمر الإلهي. وذهب يُشقِّق الكلام ويُفرِّع التعبيرات، في ماذا؟ في إثبات التناقض بين الأمر الإلهي والمشيئة الإلهية. والله أنا لم ينقض عجبي! لو قال هذا عامي فدم – عامي فدم لا يدري ما العلم وما المنطق -، لعذرته. ولو اعتُذر له بعاميته، لقبلنا ماذا؟ الاعتذار. ولكن أن يقوله فيلسوف، قضى حياته في الفلسفة والمنطق بلُغات شتى، غريب! وهل تعرفون لماذا؟ لأن من مبادئ ما تعلمناه في المنطق شروط وقوع التناقض بين القضيتين، هذا من المبادئ، هذا في رُبع المنطق الأول، حين تدرس المنطق، تدرس في الرُبع الأول أنت ماذا؟ شروط وقوع التناقض بين القضيتين. لكي تتناقض قضيتان، هناك شروط. أن تتحد القضيتان في ثمانية أمور – وفي الحقيقة هي تسعة، وسأسردها الآن. إذن يجب أن تتحد في ماذا؟ في تسعة أمور. إذا انفكت الوحدة ولو في وجه واحد، لم يقع النناقض، انتهى! ومعروف هذا، مبادئ المنطق هذه، وهذا الكلام ليس صعباً، هذا سهل جداً جداً، ويُمكِن لأي واحد أن يفهمه الآن – وأن تختلف في ثلاثة. هل هذا واضح؟

سوف نرى بادئ الرأي واختباراً لأول الأمور الثمانية – وهذه يُسمونها الوحدات الثمانية، وفي الحقيقة هي تسعة، ولكن يقولون الوحدات الثمانية – أن الوحدة لم تتحقق في أول أمر. وهي وحدة الموضوع، هذا هو طبعاً! يجب أن تتحد القضيتان في الموضوع ليقع التناقض، أي إذا قلنا العلم نور، والجهل ظلام – أي الجهل ليس نوراً -، فهل يُوجَد تناقَض؟ لا يُوجَد تناقض. لماذا؟ هذا الكلام علم، هذا جهل. اختلف الموضوعان! لكن لو قلنا العلم نور، العلم ظلام، لقلنا نعم، يُوجَد تناقض مبدئياً. ولكن انتبه، لا تحكم بالتناقض حتى تتحقق من تحقق ماذا؟ الأمور الثمانية الأُخرى. يجب أن تتحقق الوحدة في تسعة أمور، لو أمر واحد انخرم، لا يقع التناقض. هل هذا واضح؟

إذن وحدة الموضوع، وحدة المحمول، وحدة الزمان، وحدة المكان، وحدة القوة والفعل – أي الإمكان -، وحدة الشرط، وحدة الإضافة، ووحدة الحمل نفسه. يُوجَد عندنا حمل شائع وحمل أولي، فيجب أن يكون الحمل نفسه مُتحداً، وهناك وحدة المحمول، هل هذا واضح؟ أي المُسنَد أو الصفة أو الخبر بلُغة النُحاة والبلاغيين، ولكن هنا وحدة الحمل، فالمناطقة يتحدَّثون عن حمل أولي وحمل شائع، ولكن لا أُحِب أن أُصدِّعكم بهذا، ولذلك لم أشرح هذا ولا نحتاج إليه الآن، فيُمكِن لأي منكم أن يرجع إلى هذه الأمور، وهي أمور بسيطة جداً.

إذن هناك الحمل الأولي، لو قال عالم في أصول الفقه – مثلاً – ما المُجمَل؟ ما اللفظ المُجمَل؟ لقيل لك اللفظ المُجمَل هو اللفظ غير الظاهر في معناه، غير الظاهر المعنى، فيه إجمال. هل هذا واضح؟ هذا هو – مثلاً -، ولكن قد يقول لك أحدهم لا، هذا التعريف لي عليه تنقيض ونقد. ويقول ها قد بينته، أنت تقول المُجمَل هو ماذا؟ غير واضح المعنى. وها هو أصبح معناه واضح، ومن ثم تناقضت. لا! لا يُوجَد تناقض، هل تعرف لماذا؟ لأن المُجمَل الذي لا يكون معناه واضحاً مُحدَّداً، هو المُجمَل بالحمل الشائع، أي المُجمَل في مصاديقه، مثل لفظة القُرء، قال تعالى وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ۩، نعم! نذهب إلى المُعجَم، نجد: القُرء الحيضة، القُرء الطُهر، القُرء الفترة بينهما. أف! إذن في القرآن ما المُراد؟ المُراد هو ثلاث حيض، أو ثلاثة أطهار؟ مُجمَل! هذا مُجمَل، هل هذا واضح؟

لكن المُجمَل بالحمل الأولي مُختلِف، وهو ما يُسمونه الحمل المفهومي، أي As the concept، وذلك حين تُعرِّف أنت الشيئ كمفهوم، وهذا يُسمونه الحمل المفهومي، ووضعه مُختلِف، ولكن هذا هو المذكور في التعريف.

مثال آخر ونمضي، حين تدرس النحو يُقال لك هناك الاسم وهناك الفعل وهناك الحرف. أليس كذلك؟ ما هو الفعل؟ الفعل الذي لا يُخبَر عنه. والاسم يُخبَر عنه، أليس كذلك؟ والحرف لا معنى لها في ذاته إلا بالانضمام، وهذا يُسمونه المعنى الحرفي. إذن الفعل لا يُخبَر عنه، وقد يقول لك أحدهم ها تناقضت، ها قد أخبرت عنه، قولك الذي لا يُخبَر عنه إخبار عن الفعل. هذا إخبار عن الفعل يا إخواني بالحمل الشائع أم بالحمل الأولي؟ لا! هذا بالحمل الأولي، وهذا غير مُتناقِض، لأن الفعل بالحمل الشائع مثل ماذا؟ أكل، يأكل، كُل، لا يُخبَر عنه، إنما يُخبَر به، فنقول مُحمَد أكل السمكة – مثلاً -، فأخبرنا عن محمد، وهو الاسم، يُخبَر عنه، بماذا؟ بالفعل. فالفعل يُخبَر به، ولا يُخبَر عنه، والاسم ماذا؟ يُخبَر عنه، يُخبَر عنه هنا في هذا السياق. إذن هذا الحمل الشائع، هذا الفعل بالحمل الشائع، مثل أكل، يأكل، ضرب، نام، خطب، يخطب، استمع. هذا لا يُخبَر عنه. الفعل كمفهوم يختلف، أي الذي اسمه الفعل، وهو اسم الآن، كلمة الفعل اسم أو فعل؟ اسم. هذا الذي وقع الإخبار عنه بأنه لا يُخبَر عنه، وهو الفعل بالحمل الأولي.

هذا المنطق! ولذلك المنطق جيد، ودائماً ما نُحرِّض ونحفز أي إنسان عند نُهزة وعنده لياقة أن يتعلَّم هذه العلوم، لكي يصير مخه مرتباً ولا يضحك عليه. قد يأتي أحدهم ويُكفّره بالله وبالدين وبالوحي، لأنه لم يدرس المنطق، حتى ولو كان أستاذ فلسفة!

قال لك هناك تناقض بين الأمر الإلهي، والمشيئة الإلهية. أي تناقض يا أستاذ؟ يا بروفيسور Professo الفلسفة أي تناقض؟ يا رجل اتق الله، أنت لا علاقة لك بالتناقض أصلاً. مثلما كان يُخطئ ماركس Marx، ماركس Marx عمل فلسفة كبيرة وكفّر العالم، وماركس Marx في كُتبه الفلسفية كان لا يُميّز بين الضدين والنقيضين، فنقول له مساء الخير، ما شاء الله عليك. والله العظيم هذا الشيئ مهزلة، مهزلة! وماركس Marx كفّر العالم، وهو لا يُميِّز بين ما ذكرت، فهو يعتبر أن الإلكترون Electron والبروتون Proton نقيضان، وهذا غير صحيح، هذا غير صحيح! هما ضدان، الإلكترون Electron والبروتون Proton ليسا نقيضين، هما ضدان. فهو لم يدرس مبادئ المنطق، ولكنه أتى لك يُعلِّم العالم أشياء جديدة، وهذا غلط، فلا ينبغي أن تغتر على فكرة، ليس معنى أن هذا مُفكِّر وفيلسوف ودكتور ويوتيوبر YouTuber ويعمل مقاطع أن الأمر انتهى، لا! غير صحيح، خل عقلك مُرتباً، واتزن، ولا تطيرن مع كل طائر، ولا تطيرن ماذا؟ مع كل طائر.

نرجع، الأمر والمشيئة – قال لك – بينهما تناقض. ولا يُوجَد أصلاً أي تناقض، ولو قرأ الدكتور الراحل صادق جلال العظم مُقرَّراً بسيطاً في عقائد أهل السُنة والجماعة على الأقل، لعلم أن الأمرين يُمكِن أن يجتمعا دون أن أي تناقض أو تشاكس. فكيف هذا إذن؟ كيف يأمر الله – تبارك وتعالى – بشيئ، ولا يشاءه؟ كيف؟ هل يُوجَد تناقض هنا؟ لا، لا يُوجَد تناقض، وهذا يحدث في حياتنا كل يوم، وأعتقد أنني ذات مرة ضربت لكم مثلاً تجدون أمثاله كثيراً جداً في الكُتب العقيدة، هذا موجود، فهو مثل عادي.

الأب حين يُريد أن يُبرِّر أمام ضميره وأمام الزوجة وأمام الناس وأمام ابنه المُعاقَب سطوه على ابنه بالعقاب، ماذا يفعل؟ وابنه يستحق لأنه خائن، الولد ليس أميناً، يأكل الأموال! فيُعطيه مائة يورو – مثلاً -، ويقول له يا ابني اذهب إلى السوق، واشتر لي كذا وكذا وكذا، وهذه مائة يورو معك. وهو يعلم أن ابنه خائن، يعلم لما سبق في علمه واستقر عنده أن ابنه خائن وأنه سيغل ويخون بعض هذه اليوروات، هو يعلم هذا!

الآن المشيئة والإرادة، الأب شاء النتيجة أم لم يشأها؟ شاءها. ولذلك أذن بوقوعها، أي سمح له، أعطاه المائة يورو، مكَّنه! كان يقدر على ألا يُعطيه، ومن ثم لا تقع جريمة الخيانة. ولكنه أعطاه المائة يورو، وأطلق يده فيها، أليس كذلك؟ كان يقدر على أن يُعطيه المائة يورو، ويبعث معه أخيه الصغير، يقول له اذهب مع أخيك، وانظر واستمع جيداً بكم يشتري وكم يُعيد إليه صاحب البقالة. فأيضاً لن يخون، ولكن هو لم يفعل هذا، هو أطلق يده، وأوهمه أن يثق به، كأنه يقول له لا، أنا حتى أثق بك، أي ليس عندي أي مُشكِلة معك. هل هذا واضح؟ إذن هو شاء النتيجة، هذا صحيح، شاء النتيجة! هل أمر بها؟ أي هل ذهب وقال له يا ابني اذهب واسرق، لأنني أُريد أن أُعذِّبك وأُريد أن أُعاقِبك أمام أمك؟ لم يحدث هذا أبداً. لم يأمر بها، شاءها ولم يأمر بها.

إذن عندنا في حياتنا اليومية وبالعقل البسيط يُمكِن أن يجتمع الأمر بالشيئ وعدم مشيئته. فالأمر الذي اعترض صادق العظم بتناقضه مع الإرادة، هو الأمر ماذا؟ الأمر الشرعي. قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ۩، الله في كل شرائعه السماوية لم يأمر إلا بماذا؟ إلا بما هو حسن، لم يأمر إلا بما هو حسن جميل. المشيئة الإلهية المفروض تناقضها مع الأمر الإلهي في كلام العظم، هي ماذا؟ المشيئة القدرية الكونية، وليست المشيئة الشرعية. لأن المشيئة الشرعية تُساوِق، بل تُعادِل، بل تُرادِف ماذا؟ الأمر الشرعي. أي شاءه شرعاً، أي أمر به، لكن نحن لا نتحدَّث عن المشيئة الشرعية، وهي الأمر، والكلام عن المشيئة القدرية.

شيخ الإسلام ابن تيمية لخَّص المسألة بعبقرية تليق بأمثاله – ما شاء الله – حقيقةً وبسهولة، قال لك الإرادة الإلهية أو المشيئة الإلهية في كل هذه السياقات لكي تفهمها في عُمقها، تُساوي الإذن. هذه تُساوي الإذن، أي Erlaubnis، الإذن! وهو يُعطيك الإذن، لكن لا يُقال إنه أمر بالشيء إذا أعطاك الإذن به – أي مكنك، لم يحل بينك وبين ما تُريد -، يا أخي ألا يُوجَد أُناس سيئون وقتلة أنبياء؟ هل الله يُحِب قتل الأنبياء؟ لا، هل الله يُحِب اغتصاب الصغيرات، إحراق الناس، الكفر به؟ أبداً، أبداً! الله يلعن على هذا ويُعذِّب ويتوعَّد، إذن الله لم يأمر بهذا، أمر بأضداده، ولكن شاءه أو لم يشاءه؟ شاءه. بمعنى ماذا؟ أذن به، سمح أن يقع هذا، سمح أن يقع هذا! وإذ سمح، هل أجبر عليه؟ أبداً. أنت ما فعلت هذا إلا ماذا؟ إلا باختيارك، بقوة الاختيار لديك.

المحنة والابتلاء – لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۩ – تقوم على هذا، أن الله خلقنا، وأعطانا قوة الاختيار وقوة الميز – أي التمييز والتفريق بين الصح والغلط -، ومكننا أن نفعل هذا وهذا أيضاً، إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ۩، ولكنه بشرائعه – لكي يعذِر من نفسه، لا إله إلا هو، وهو غير مُضطَر إلى ذلك، ولكن هذا العدل والمحبة لنا – قال لنا انتبهوا، أغضب من هذا وأغضب على مَن فعله وألعنه وربما خلدته في جهنم، وأرضى عن هذا وعمَن فعله وأُثيب عليه وأمدح وأُجازي وأرضى. انتهى! إذن هذا اسمه ماذا؟ الأمر ومُقتضياته. وهذا ماذا؟ الإذن. أي هذه المشيئة، فهو يأذن، وهذه ليس معناها أنه يجبر، وهذه ليس معناها أنه أمر، وهذه ليس معناها ما ذكر.

هذا تعلَّمناه – الحمد لله – ونحن صغار، نشدو حروف العلم من منهج أهل السُنة في فهم العقائد. وهذا كلام مُتسِق ومعقول جداً، وهو أذكى حتى من كلام المُعتزِلة، الذين لم يُميِّزوا للأسف بين الأمرين. إذن انتهينا من هذه القضية، نأتي إلى الشُبهة الثانية وهي أصغر.

قال لك كيف يستكبر إبليس؟ هذه خُرافة وأُسطورة وكلام فارغ، إبليس يستكبر على الله؟ وأين حصل هذا يا أخي؟ أنت لا تستطيع أنت تستكبر على رئيس ولو أتيت اليوم بأقوى واحد في الدولة، كأن يكون بطلاً في التايكوندو Taekwondo أو بطلاً في الكونغ فو Kung Fu أو بطلاً في رياضة قوية شرسة، هذا لا يستطيع أن يستكبر – مثلاً – على رئيس كوريا الشمالية، هذا الذي يضرب بالصواريخ، يُعدِم الناس بالصواريخ! يُمكِن أن يُعطيك صاروخاً فيُعدِمك، رجل مُلتاث، غير طبيعي، غير مُتزِن، مُخيف، جبّار، عنيد، ولا تُوجَد عنده أي رحمة، فأرني كيف يُمكِن أن تستكبر عليه؟ يقولون هكذا، وصاحب الشُبهة أتى بمثال قريب من هذا، لا أُحِب أن أذكره، ولا طبعاً أن أنتقص من أحد، فالاحترام للجميع، ولكن شراستنا مع الأفكار، فانتبهوا إذن، شراستنا مع الأفكار، لا تُوجَد مُشكِلة.

فقال لك لا يستطيع. وهذا كلام حق، فعلاً لا يستطيع، إلا أن يكون مجنوناً، هذا مجنون ويُريد أن ينتحر، فطبعاً هو يُريد أن ينتحر وهذا سيقتله. فقال لك كيف برب العالمين؟ هذا ليس حاكماً مُجرِماً مُستبِداً، هذا رب العالمين، رب الأكوان! هل تعرفون ما الجواب؟

وأطال هذا السيد – نسأل الله لنا وله وللجميع الهداية إن شاء الله والرشاد وحُسن النية في البحث عن الحق والحقيقة – في هذه النُقطة، أطال في هذه النُقطة بالذات وكيف يستكبر؟ وكيف يستكبر على الله؟ وأين هذا؟ جميل جداً جداً. هل تعرفون ما منشأ هذه الشُبهة البسيطة، وهي أبسطها مما ييتخيل مُورِدها؟ التصور الطفولي، هو تصور طفولي! فنحن حين كنا صغاراً كنا نتصوَّر هكذا، أن الله جالس على عرشه، وهو كائن عظيم، موجود عظيم وكبير، أكبر من كل كبير، ولكن جالس على عرشه، خلق من الطين بيديه، وهو طين حقيقي، وعمل آدم ونفخ فيه، وجاءت الملائكة ومعها إبليس، قال لهم اسجدوا، فسجدوا، وهذا لم يسجد، وصار هذا الكلام. هذا تصور طفولي! مَن قال لك أصلاً إن جبريل رأى الله؟ هذا مبحث آخر، هذه المسألة مبحوثة في علم القرآن، هل تظن أن جبريل نفسه وهو عميد الملائكة، كل الملائكة، كان يرى رب العالمين حين كان يتلقى القرآن منه؟ أي هل تظن أن الله كان يذهب إليه جبريل – أستغفر الله العظيم – في حومة أو في بيت أو في كذا، وكان يدخل عليه وما إلى ذلك؟ لا يُوجَد الكلام هذا.

ولذلك ورد في بعض الأخبار أو الآثار إن الذين في السماء ليطلبون ما تطلبون. الشيئ نفسه! طبعاً هذا هو، أي هل أنت تظن أن الملائكة ترى الله وتدخل عليه في بيته؟ ما الكلام هذا؟ وهذا الكلام وثني على فكرة، هذه تصورات وثنية صبيانية.

فالذي أورد هذه الشُبهة الضعيفة – جد واهية وضعيفة – عنده هذا، مُستسلِف هذا التصور الطفولي البسيط الساذج، وقال كيف رأى إبليس الله؟ وكيف هو سمع الله مُباشَرةً؟ وكيف استكبر هو؟ مُستحيل لو حصل هذا، أن يستكبر هو وغيره، هذا غير موجود أبداً، إبليس استكبر – بكل بساطة هذا جواب شُبهة السيد – كما نستكبر نحن اليوم.

اليوم تأتي إلى واحد مُسلِم، صلى معك ثلاثين ليلة التراويح، وتقول له يا أخي اتق الله، واعتذر لأخيك هذا، فقد أسأت إليه. فيقول لك يا أخي كيف تقول لي اتق الله؟ هل ترى أنني كافر؟ ويرفض. يبدأ يستكبر! أنا أمرتك بتقوى الله، أمرتك بشيئ الله يُحِبه والنبي، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام، بينكما مُنافَرة وخصومة، فأقول لك يا أخي اتق الله، وكُن كخير ابني آدم، ابدأ أخيك بالسلام. ولكنه يقول لك يا أخي كيف تقول لي اتق الله؟ كيف أتيت لكي تقول هذا؟ لن أتأسف. وكذا وكذا!

أي هذا الإنسان يستكبر – لا إله إلا الله – في قضية بسيطة، قضية بسيطة! وربما نندبه إلى أن يعتذر وأن يبدأ بالتسليم على مَن له فضل ويد عليه أيضاً، أي هذا ليس مثل هذه القضية، فيستكبر، ويُوشِك أن يكون شراً من إبليس في هذه الحالة، أي ما الذي تظنه أنت في نفسك؟ ولماذا هذا الاستكبار وهذا البأو وهذه النفخة الزائدة؟ يستكبر! والبشر يستكبرون، كل يوم يستكبرون مليار مليار مرة على أوامر الله – عز وجل -، أليس كذلك؟ لماذا يستكبرون؟ فعلاً لأنهم محجوبون عن الله، ليس عن ذات الله فقط، عن عظمة الله وعن جلال الله. لو صح لهم من العرفان بالله والاعتقاد الحق في الله بعض ما يحكي شيئاً من عظمة الله وجلال الله، لما استكبر أحد عن أمر الله.

سيدنا عمر كان رجلاً مهيباً، كان طوالاً، وكان مُصارِعاً. عمر في الجاهلية كان مُصارِعاً، يُصارِع الناس، كان قوياً جداً، جهير الصوت، وله هيبة، وله وقع وجلال. فكان إذا غضب، لا يقوم أحد له، هذا غضب عمر! تنتفخ أوداجه، تحمر عيناه، فإذا ذُكّر بالله، يجلس مُباشَرةً، مُباشَرةً يقع، إذا قيل له يا عمر قال الله، رجع. وكان رجّاعاً – قال لك – إلى ماذا؟ إلى أمر الله. هذا المُؤمِن الحق، لأن الله جليل في نفسه. بقدر جلال الله في نفسك، تبخع وتخضع وتخشع لأمر الله، ولا يُوجَد كلام في هذا! وبقدر ما تكون معرفتك بالله ضئيلة واهية ضعيفة باهتة، يحصل الاستكبار والتردد والاشتباه والمُناقَشة وأحياناً الإصرار. وقد ذكر الله من صفات المُتقين أنهم لا يصرون، وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ۩. إبليس أصر أو لم يصر؟

بالله عليكم هل وجدتم في كتاب الله، وفي موضع واحد، أن إبليس أنكر أنه استكبر؟ هل قال لا، أنا لم أستكبر وما إلى ذلك؟ لم يحصل هذا أبداً، هو سلَّم، سلَّم أنه استكبر وأنه تعالى. مُشكِلته أنه بعد ذلك أصر وعند، أصر وعند! قال لا. وبدأ يُبالِغ – والعياذ بالله – في ماذا؟ في رد أمر الله، وفي التنصل من ذنبه بالكذب، فقال بِمَا أَغْوَيْتَنِي ۩. هل الله أغواك، أم أنت غويت بكبرك – والعياذ بالله -؟

كما قلت لكم يا إخواني آدم عصى وإبليس عصى، ولكن مبعث معصية آدم ما هي؟ الشهوة. اشتهى أن يأكل من هذه الشجرة، وأزله اللعين. وبعد أن عصى مُباشَرةً أدرك أنه أذنب، فماذا؟ استغفر ربه، خر لأمر الله، واعترف، وأقر، وبكى على نفسه، وندم. فقبل الله توبته.

اللعين مبعثه ماذا؟ ليس الشهوة، ليس أنه ضعف، وكان يُمكِن أن يعذره الله، أكيد كان يُمكِن أن يعذره كما عذرنا، ولكن المبعث هو الكبر. ولذلك النبي قال لا يدخل الجنة مَن كان في قلبه مثقال ذرة من كبر.

من لطائف العربية – هذا من لطائف اللُغة العربية يا إخواني – أنها حين تتحدَّث عن مادة الاستكبار، تستخدم صغيتين فقط في الصرف، وهما الاستفعال والتفعل. يُقال تكبَّر. ويُقال ماذا؟ استكبر. وفي الأمرين، كلتا الصغيتين، تدلان على ماذا؟ على التكلف والطلب. لماذا؟ لأنه لا كبير إلا الله. لا يُوجَد شيئ كبير إلا الله، فالله كبير مُتكبِّر بذاته – لا إله إلا هو -. أما نحن فلا أحد فينا تليق به الكبرياء، الكبرياء للكبير – لا إله إلا هو -، نحن صغار ضعفاء مساكين، نحن كائنات هشة، تُؤذيها البقة، تُنتنها العرقة، تقتلها الشرقة، فمن أين الكبرياء لنا؟ ولذلك ورد في الحديث الصحيح الكبرياء إزاري، والعظمة ردائي، مَن نازعني واحداً منهما، قسمته ولا أُبالي. لا يُمكِن لواحد منا أن يستكبر.

ولذلك احذر بالذات يا أخي المُسلِم ويا أختي المُسلِمة، من هذا الداء الوبيل المُهلِك، أي الكبر، أن تستكبر، فتغمص الناس أو تتعالى على الحق، بطر الحق! فإياك أن تبطر الحق، ولو أورده الله على لسان أجهل الناس وأفقر الناس وأضيع الناس وأكثر الناس مجهولية، لا معروف لا بعلم ولا بغيره، إذا نطق بالحق، فقل له صدقت، ونعشك الله كما نعشتني بالحق. إياك أن تبطر الحق، لتبرأ من الكبر. وإياك أن تغمط أو تغمص الناس، أي ترى أن واحداً أصغر منك وتحتقر الناس وتهزأ بهم، فهذا هو الكبر – والعياذ بالله -. هل هذا واضح؟

إبليس مبعث عصيانه ماذا؟ الكبر. ولذلك أصر، هذا شيئ في نفسه، ولم يتطهر منه – والعياذ بالله -. أصر وبقيَ مُصِراً – والعياذ بالله -.

رحمة الله على إمام أهل السُنة في وقته، وهو أحد مشاهير الأئمة، أعني عبد القاهر، أبا منصور البغدادي، فيما يرويه عنه ابن عساكر في تبيين كذب المُفتري، قال:

يا مَن عدا ثم اعتدى ثمّ اقترف                          ثم انتهى ثم ارعوى ثم اعترف!

قال:

يا مَن عدا ثم اعتدى ثمّ اقترف                          ثم انتهى ثم ارعوى ثم اعترف!

أبشر بقول الله في آياته                               إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ ۩.

فهذا نحن! هذا أنا، هذا أنتَ، هذا أنتِ، هذا آدم، ونحن أبناء آدم، فينا من أبينا، نغلط، ونُجاوِز. كل ابن آدم خطّاء، ولكن نتوب. فنسأل الله أن نكون من التوّابين، وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ۩.

الاقتراف يهدمه ماذا؟ الاعتراف. قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا ۩، آدم وحواء قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ۩. فجاءتهما مُباشَرةً ماذا؟ المقبولية. قَبل الله توبتهم وعفا عنهم. ولكن اللعين لم يفعل، وبقيَ مُصِراً.

ونأتي الآن إلى الشُبهة الثالثة والأخيرة، ولكن في الخُطبة الثانية – إن شاء الله تعالى -.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

 

الخُطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

إخواني وأخواتي:

الشُبهة الثالثة، ماذا لو تاب إبليس؟ طرحها أحد الأفاضل، ربما قبل فترة وجيزة، أيضاً في مقطع في اليوتيوب YouTube، ماذا لو تاب إبليس؟

قال لك إبليس كائن مُختار، أليس كذلك؟ هو مُختار، مثلنا مُختار، يستطيع أن يفعل الشيئ ويفعل ضده أو ضديده. ماذا لو خطر لإبليس – قال – وبخبث منه أن يتوب؟ فهو خبيث كبير، يتخابث لكي يُفسِد الخُطة الإلهية في هذه الخليقة! والخُطة الإلهية مبنية على ماذا؟ كما قلنا على هداية السبيلين، سبيل النجاة وسبيل الهلاك، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ۩. وما الذي يُناجي الفجور ويُسهّل الفجور ويُناغيه؟ إبليس البعيد. وساوس إبليس! يُزخرِف للناس، فضلاً عن النفس الأمّارة بالسوء، لأنها مُلهَمة بالفجور أيضاً، أي لو اختفى إبليس، لا يختفي الشر، وهذا معروف، جميل جداً!

قال لك ماذا لو قال لا، أنا توقفت عن هذا، توقفت عن شغل الإغواء والوسوسة، أُريد أن أقعد في بيتي هكذا، لكي أنزوي مع زوجتي وأولادي وأحفاد أحفاد أحفادي – لأنه مُعمَّر طبعاً إلى يوم الدين، هو مُعمَّر إلى يوم الدين ومُنظَر، أي هذا اللعين -، وسوف نُفسِد الخُطة الإلهية؟ هذه شُبهة، لِمَ لا؟ فرض المُحال ليس بمُحال.

وطبعاً الجواب الآن من أي عالم مُسلِم في العقيدة، وهو عالم معياري – أي Standard -، سيتمثل في أنه سيقول لك لا، هذا مُستحيل، ليس مُستحيلاً لذاته، أي ليس مُستحيلاً عقلياً، هذا مُستحيل لغيره. وما هو الغير؟ خبر الله الذي لا يتخلَّف، هل يُمكِن أن يكذب خبر الله – أستغفر الله العظيم -؟ مُستحيل. الله إذا قال قولاً، فهو الصدق نفسه، الصدق عينه وذاته وروحه. الله قال له ماذا؟ قال له أنت ملعون إلى يوم الدين. ملعون هذا إلى يوم الدين، أي هذا معناه أنه لن يتوب، مثلما قال تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ۩ مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ۩ سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ۩، فعرفنا أن أبا لهب لن يتوب، ولم يتب، وكان يقدر أبو لهب على أن يتوب، نعم، عنده نفس الفُرصة! سوف تقول هذا معناه أنه مُجبَر. وبالتالي ستكون ناقضت قاعدتك، أنت قلت إبليس مُختار وأبو لهب مُختار.

نحن نقول لك لا، هذه ليس لها علاقة بالجبر، هذه القضية ليس لها علاقة بالجبر بالمرة، ولا حُجة للجبر، لأن الله حين أخبر أنه لن يتوب، لم يُخبِر بناء على أساس أن الله سيمنعه من التوبة رُغماً عنه، بل أخبر بناء على علمه المُحيط السابق لكل شيئ، أنه باختياره لن يفعل. فعلم الله كاشف على فكرة، والعلم صفة كاشفة، تتعلَّق بالأشياء على ما هي عليه، فإذا علم الله الشيئ قبل أن يقع، لن يكون معناه هذا أنه أحاله جبرياً، بل يعلمه بصفته. فالشيئ الذي يقع باختيار، يعلمه الله بهذه الصفة، أنه يقع باختيار. والشيئ الذي يقع بجبر، يعلمه الله بهذه الصفة، أنه يقع بجبر، فعلم الله يتعلَّق بماذا؟ بهذه الصفة. فهذا هو، وهذا العقل المنطقي، فالحكاية ليست حكاية (فهلوة)، فالأمور واضحة، ولكن لا علينا من هذا الآن، لا علينا منه!

نرجع أيضاً، ونقول ماذا؟ نقول هذه الشُبهة مُؤسَّسة على شُبهة أُخرى لم يلتفت إليها صاحبها. وهل تعرفون ما هي؟ وهي شُبهة كتابية، أي Biblical، تنتمي إلى الأدبيات الكتابية، التوراة والإنجيل، وشروح التوراة والإنجيل، وأيضاً إلى الميثولوجيا Mythology اليونانية أو إلى الميثولوجيا Mythology الإغريقية، وهي أن الصراع في الوجود إنما هو بين الله من جهة وإبليس من جهة أُخرى. وهذا كلام فارغ، في التصور القرآني هذا كلام فارغ! إبليس لا هو ند لله، ولا يُصارِع الله، ولا يتحدى الله، ولا يقدر، ولا يُوجَد مثل هذا الكلام أصلاً. إبليس عدو ومُصارِع ومُتحدٍ ومُضِل، لمَن؟ للإنسان.

الصراع في الكون بين مَن؟ بين الإنسان والشيطان. ليس بين الرحمن والشيطان! هل تعرفون لماذا؟ طبعاً لأن من الأصل لا تُوجَد إمكانية لهذا، ولو حصل وكان التحدي والصراع والمعركة بين الله وبين الشيطان، لاستسلم الشيطان من أول الطريق. لماذا؟ بسبب قضية الساقين والريح. لأن مُغالِب الغلّاب مغلوب. لن يكسب مع الله ولا جولة، ولا خُطوة، ولا طرفة عين. أم أنه يقدر؟ أي هل يقدر أحد على أن يكسب مع الله جولة واحدة؟ هذا مُستحيل. ولذلك سييأس من أول أيامه، ويقول له استسلمت، لا أقدر يا رب. أليس كذلك؟ ولكن هذا الصرع ليس مع الله، هو عادى الذين كسب ويكسب معهم كل حين وكل لحظة، ما رأيكم؟ وهم مَن؟ نحن (الغلابة). قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ ۩، اتركني فقط، أعطني المُهلة، أعطني النظرة، أَنظِرْنِي ۩، أعطني النظرة، وأنا سأُريك ماذا سأفعل فيهم. فقال له الله أعطيناك هذا. لكي تتم المحنة والابتلاء، لِيَبْلُوَكُمْ ۩. فذهب اللعين ووسوس، فهو لم يُعطه سُلطاناً علينا، سُلطانه فقط الزخرفة والوسوسة، وهذا ليس لإبليس صاحب آدم فقط، بل وللأبالسة فينا أيضاً، قال – تبارك وتعالى – شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ ۩، بدأ بالإنس أم بالجن؟ بالإنس. فهم أخبث من الجن، يا ليت كان الذين سُلطوا علينا فقط إبليس وأذنابه، والله لو كان هذا ما حصل، لاسترحنا كثيرا. ولكن المُسلَّط عليك شياطين الإنس بالإعلام والتلفزيون Television والمُسلسَلات والأفلام والتقارير الكاذبة والنظريات الفلسفية والنفسية والعلمية وتزييف الأديان وسب الأديان ورب الأديان و… و… و… هلكوك! بشر مثلك مثلهم، ويدرس الواحد منهم أربعين سنة لكي يُكفِّرك، وهو يترك علمه وأهله وكذا، ويشتغل دائماً على مدار الأربع والعشرين ساعة، ليجعلك تُلحِد مثله، لكي يستريح، أن هناك إلحاداً كثيراً، فالله قال شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ۩، وبدأ بشياطين ماذا؟ الإنس. هل هذا واضح يا إخواني.

فعلى كل حال نحن نقول إبليس معركته ليست مع الرحمن، وإنما معنا نحن. الصراع معنا، وليس مع رب العالمين. مَن يقوم لله؟ فاسكت يا رجل! وإنما المعركة معنا، وهو يكسب. قال – عز من قائل – وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ۩، لا إله إلا الله! الخبيث – قال – ربح جولات كثيرة جداً جداً أمام ابن آدم. فبما أنه يربح يا رب، لماذا تُمهِل أنت هذه الخليقة؟ اطو بساطها. قال لك لا، أنا أهتم بمَن يشكرني ويعرفني ويعرف جلالي، ولو كان واحداً فقط، هذا يزن الأرض ومَن عليها – اللهم اجعلنا منهم -. وهو واحد!

ولذلك صح عن رسول الله أن الله – تبارك وتعالى – يُرسِل النبي الرسول إلى قوم، فلا يظفر منهم إلا بماذا؟ إلا بواحد. وهناك طبعاً أنبياء لا يظفرون بأحد، يُبعَث النبي وليس معه أحد، يقول يا ربي النتيجة صفر، أي Zero! لم يستجب لي أي واحد. وهناك نبي يقول له استجاب لي واحد، وهو هذا.

فالله يعلم أنه إذا أرسل هذا النبي، سيستجيب له واحد، ويقول هو يستأهل، يستأهل أن نُرسِل له نبياً كاملاً. واحد من عباد الله! انظر إلى المحبة الإلهية، حُب جارف من الله لنا، حُب جارف لنجاتنا، أن ننجو، ألا نهلك، هل هذا واضح؟ أن نحظى بنعمته ورحمته – لا إله إلا هو -. فهذه الشُبهة مبنية على هذا الأساس – انتبه – تماماً، أن الصراع مع الرحمن! ولكن الصراع ليس مع الرحمن.

سوف تقول لي أنت لم تُجب. ولكنني أجبت، فهل تعرف لماذا؟ بما أنه يكسب باستمرار، يكسب باستمرار، هل هو مُستعِد أن يتخلى عن مكاسبه؟ أي فرضيتك بأنه قد يتوب من حيث العقل ليست مُستحيلة، طبعاً هذا مُمكِن، ولكن بحسب الواقع وبحسب ما نعلمه من الواقع ومن أنفسنا ومن أبالسة البشر بصراحة هذا مُستحيل، مُستحيل واقعيا، أي هذا مُستحيل عادياً، وليس عقلياً.

باختصار – أريد أن أقولها هكذا، لا تُوجَد مُشكِلة – اليوم هناك إسرائيل، تلك الدولة التي احتلت بلادنا وأرضنا وأجرمت في حقنا، والعالم كله يعرف هذا، و(على عينك يا تاجر) كما يقول العرب العوام. (على عينك يا تاجر)! تُوجَد أرض مُحتَلة، في الضفة – مثلاً – وفي القدس، من سبع وستين، مُحتَلة! اسمها مُحتَلة، وفي الشِرعة الدولية وفي العالم كله يقولون لك إنها مُحتلَة، قضموها قضماً بالمُستوطَنات المُغتصَبات، اغتصب والعالم ساكت، مُغتصَبات… مُغتصَبات… مُغتصَبات… شيئ جنوني! ويقولون لك نحن نُريد السلام، ولكن الفلسطينيون مُتفرِّقون ملاعين وخبثاء، تُوجَد حكومة هنا وتُوجَد حكومة هنا، ولكن نحن نُريد السلام!

هل أنتم تُريدون السلام؟ واضح – ما شاء الله – أنكم تُريدون السلام، أنتم تُريدون السلام بشكل كبير! أنتم جماعة لصوص، تُواصِلون السرقة واللصوصية على مدار الأربع والعشرين ساعة!

سؤالي، هل يُمكِن لإسرائيل وليس لإبليس – أي قوة الشر العظمى، الذي تُعد إسرائيل جُزءاً من مُبتدعاته، ما شاء الله – أن تأتي في لحظة صفاء نفسي هكذا وصفاء ضمير، لكي تقول لا إله إلا الله، نحن ظلمنا هكذا، وما إلى ذلك، فخلونا نعطيهم كل حقوقهم، وهي فلسطين التاريخية كلها طبعاً، ثم نطلع ونرجع من حيث أتينا، لكي يستريح الضمير؟ بالله عليك هل هذا يُمكِن أن يرد – هكذا كمثال فقط – بنسبة واحد على المليار؟ هل يُوجَد مثل هذا؟

(ملحوظة)
قال بعض الحضور مُجيباً: لا.

أكمل فضيلة الدكتور كلامه قائلاً: هل يُمكِن أن يرد هذا بنسبة واحد على المليار، وحالة العرب هي حالة العرب اليوم، وحالة الفلسطينين التي هي أسوأ من حالة العرب هي حالة الفلسطينيين، وحالة إسرائيل هي حالة نتنياهو Netanyahu؟ هل يُمكِن أن تعملها إسرائيل؟

(ملحوظة)
قال بعض الحضور مُجيباً: مُستحيل.

أكمل فضيلة الدكتور كلامه قائلاً: هل ستقول لا، انتهى الأمر؟ فهل تُريد أن يعمل هذا إبليس؟

(ملحوظة)
قال بعض الحضور مُجيباً: مُستحيل.

أكمل فضيلة الدكتور كلامه قائلاً: ثم جئت تدّعي أنك أتيت لي بشُبهة هكذا وأفحمتني وحيرتني!

أنت تقول إبليس قد يتوب، قد يتوقف عن الشغل، قد يُصبِح (فاضي أشغال) – أي عاطلاً -، فماذا سوف تفعلون يا مُتدينون؟ كيف سيحل ربك هذه؟ يا سلام! هل أنت تظن أنك أعجزت الله هكذا؟ أنت لم تُعجزنا نحن يا أخي، فتح الله عليك وفتح الله علينا وهدانا إلى سواء السبيل. آمين يا رب.

اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً وفقهاً ورشداً. اهدِنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت.

اللهم جنِّبنا الفتن، ما ظهر منها وما بطن. واهدِنا لما اختُلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي مَن تشاء إلى صراط مُستقيم.

نسألك فعل الخيرات، وترك المُنكَرات، وحُب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بعبادك فتنة، فاقبضنا إليك غير مفتونين، ولا خزايا، ولا نادمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ۩، حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة.

 

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

فيينا 19/7/2019

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: