الجزء الثاني من محاضرة لفضيلة الدكتور عدنان إبراهيم
بعنوان تجديد علم الكلام الإسلامي
ألقاها عام 2011 في أكاديمية إعداد القادة 4

 

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومَن والاه، ربنا افتح علينا بالحق وأنت خير الفاتحين.

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، إخواني وأخواتي:

نعود إلى المُحاضَرة التي أرجو ألا تكون مُرهِقة ومُمِلة “تجديد علم الكلام”، في الحقيقة في الفاصلة أو الوقفة – Pause – بين طرفي المُحاضَرة وقع السؤال عن مسائل كثيرة، يبدو أنني سأُضطَر إلى تناولها وتضمينها في الجُزء الثاني من المُحاضَرة لحراجتها أو لتشكيلها أهمية خاصة ربما لدى بعض الإخوة والأخوات.

أبدأ بنُقطة أيضاً هي من مسائل الكلام التي تقبل التجديد، تقبل التجديد لكن من حيثية مادة البُرهان أو مضمونات أو مضامين أو مشمولات البرهان، عموماً إخواني وأخواتي يُمكِن أن تُصنَّف البراهين والأدلة التي يُستدَل بها على وجود البارئ – سُبحانه وتعالى – إلى ثلاثة أقسام، طبعاً يُمكِن أن تقرأ أنت آلاف الصحائف في البراهين على وجود الله، ويأتون بمئات الأمثلة، لكن كل هذه الأمثلة من الصحيح أن تُصنَّف ضمن هذا التصنيف الثلاثي، يُعاد تسييقها – من السياق – ضمن التصنيف الثلاثي.

هناك برهان الفطرة، وهو البرهان الذي جنح إليه كثير من علماء السلف، ومن أشهرهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، استروح جداً لهذا البرهان ودعمه وأيَّده ونوَّره بوجوه من التنوير – رحمة الله تعالى عليه – في أكثر كُتبه، برهان الفطرة! وبرهان الفطرة وقعت الإشارة إليه في قول الحق – سُبحانه وتعالى – فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۩، ومعنى الفطرة في هذه الآية على ما أوضح العلّامة المُفسِّر الطاهر بن عاشور – رحمة الله تعالى عليه – خلق الإنسان على هيئة وبكيفية يكون معها قابلاً للتوحيد، يقبل توحيد الله تبارك وتعالى! وربما نزيد على كلام العلّامة ابن عاشور رحمة الله عليه، ليس مُجرَّد القابلية واللياقة، بل الشغف والشوق والتوجه، هناك توجه إلى الإيمان، توجه إلى الغيب، يجد تمظهرات كثيرة له في ميادين مُختلِفة.

من الأشياء التي يُمكِن أن يُشار إليها في هذا الباب – مثلاً – جواب سؤال سر عشق الإنسان للمجازات، لماذا نعشق المجاز؟ والمجاز لُغة فنية، أسلوب فني! لو تكلَّم إنسان بلُغة مجازية يُثير فينا نشوة ولذة أكثر مما يتكلَّم بلُغة تقريرية واضحة، لُغة علمية مثلاً، لماذا؟ والجواب عن هذا السؤال له علاقة بسؤال الفضولية في بني آدم، الإنسان كائن فضولي، الطفل أكبر كائن فضولي، لأنه كائن عبقري، لم يتقولب في قوالب الثقافة والأعراف والتقاليد، لم يعرف الحلال والحرام والواجب والذي ينبغي والذي لا ينبغي، إذا تُرِك وحده فإنك تجده مُحِباً للتلصص والتجسس والتحسس والاستماع وكشف كل شيئ وفتح كل باب والبحث عن كل مُخبأ، أليس كذلك؟ والاستماع لكل كلمة، إلى آخره! هذه طبيعة الإنسان، هذا يُنوِّر لنا المقام، نحن نُحِب المجاز لأننا دائماً نعشق ويلذنا البعيد الماورائي الذي يختفي خلف الأفق، وهذا تفسير جديد بالمُناسَبة، الصوفية وأهل الأذواق والعارفون لم يستطيعوا أن يُميِّزوا بدقة سر تأثرهم بالإنشاد، وإن لم يكن حتى في الرقائق الربانية، قد يكون في التشبيب! قد يكون في التشبيب وفي النسيب مثلاً، قد يكون في بكاء الدار والأطلال، لكن هذا كان يُحرِّك فيهم اللواعج والأذواق والمواجيد الإلهية، لماذا؟ وليس كلاماً مُباشِراً في الله، في الحق، في المُطلَق، لا إله إلا هو! لماذا؟ نفس العلاقة، لأنه دائماً يُشير إلى ما هناك، إلى الماوراء، لماذا يلذ الإنسان – أيها الإخوة والأخوات – منظر الأفق؟ لماذا يُحِب الإنسان – وخاصة الفنان صاحب الحس الفني والذائقة الجمالية – أن يقف أمام أُفق عريض مُنفسِح مُنداح بعيد وأحياناً مُمحَّض بلا رسوب وبلا تضاريس إلا ما يكون خطاً لا نهاية له؟ لماذا يُحِب الإنسان هذا ويعشقه جداً؟ لأن هذا الأُفق البعيد يُشير أيضاً إلى ما وراءه، هذا هو الشوق إلى الله تبارك وتعالى، هذا بعض تمظهراته مثلاً، العشق في الله، الفطرة! وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ۩، الآية من سورة الأعراف، آية واضحة جداً في فطرية التوحيد والتأله، أليس كذلك؟ الإقرار بالله تبارك وتعالى، الإقرار بالحق رباً وإلهاً، آية الذر! اسمها آية الميثاق أو آية الذر من سورة الأعراف.

ألبرت أينشتاين Albert Einstein في كتابه The World As I See It – أو Mein Weltbild بالألمانية، Mein Weltbild أي تصوري للعالم، أو العالم كما أراه، هكذا تُرجِم بالإنجليزية – ماذا يقول؟ يقول الطريقة المُعتادة في عرض الدين والإلهيات طريقة فاشلة، هذا فحوى قوله، فاشلة! وغير جديرة أن تدل على الله وأن تُعرِّف به، لذلك علينا أن نستبدل بها – ماذا؟ – اعتماد العلم والفن، غريب! تفكير عميق، في مُنتهى العمق، اعتماد العلم والفن في إثارة الحس الديني لدى الإنسان والاحتفاظ به، هذا مُهِم في إثارة الحس الديني، وهذا يُمكِن أن يُشكِّل مدداً ورافداً جديداً من روافد علم الكلام مثلاً، عجيب! هل نعتمد الفن والعلم؟ هل مُمكِن أن نعتمد مُنجَزات الفن والعلم؟ نعم مُمكِن، في إيقاظ الحس الديني لدى الإنسان، يُمكِن هذا!

حدَّثتكم قُبيل قليل – مثلاً – عن موضوع الأُفق المُرتبِط بالذوق الجمالي وبالحس الجمالي عند الإنسان وكيف يُمكِن أن يدل على الله، وهذا غير بعيد، انتبهوا! هذا هو منطوق القرآن الكريم، القرآن الكريم يتحدَّث عن البراهين الآيوية، البرهان الآيوي! ما هي البراهين الآيوية؟ وفِي كلِّ شيئٍ لَهُ آيةٌ، وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ ۩، وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ۩، إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۩، ما معنى الآيات؟ قالوا الآية هي العلامة، وما معنى العلامة؟ ما لا تدل على نفسها بمقدار ما تدل على ما وراءها، لذلك هي علامة، أليس كذلك؟ قد يقول قائل بيني وبين فلان علامة، هذه العلامة تقتضي كذا وكذا، إن أبرزت العلامة أعطيتك الألف الدينار، والعلامة لا علاقة لها بالألف الدينار، العلامة – مثلاً نفترض – وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۩، أو العلامة – مثلاً – كوالالمبور، حين تقول لي كوالالمبور أُعطيك الألف الدينار، علامة! قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً ۩، عجيب! ما علاقة هذا بذاك؟ هذه آية، هو طلب آية، زكريا طلب آية، طلب علامة، على ماذا؟ على أن الله مُنجِزه ما وعد، الله وعده بيحيى، سنُعطيك غُلاماً حصوراً اسمه يحيى، جميل! من شدة الشغف والوله بهذا الغُلام وقد علت سنه ووهن عظم وشاب رأسه قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً ۩، أعطني آية حتى أطمئن، قال له آيتك ثلاثة أيام بلياليها لن تستطيع أن تُكلِّم الناس ومن غير خرس، لست بأخرس، لا تزال لديك قدرة النطق، لكنك لن تستطيع أن تُكلِّمهم، ستعتريك حُبسة، ولن تستطيع أن تتواصل مع الناس إلا عبر الإشارات، الوحي السريع! فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ۩، الوحي هو الحركة السريعة، يقولون وحي التقضي، الزمان وحي التقضي! أي سريع التقضي، وهناك البيت الذي يقول:

فَأوحَى إِلَيْهَا الطرفُ أنَّي أحبّهَا                          فأثَّر ذَاكَ الوَحيُ في وَجنَاتِهَا.

هذه علامة! ما علاقة هذه العلامة – أنني أُصاب بحُبسة، يُحبَس لساني – بكون الله سيُنجِزني ما وعدني؟ وهو أن يُعطيه أو يهبه يحيى عليه السلام، هذه علامة! هذا معنى العلامة، علماً بأن هذا التعريف السيميائي الجديد للعلامة، في السيميائيات – السيميولوجيا Semiology – هذه هي العلامة، لماذا الضوء الأحمر معناه قف والأخضر اعبر جُز؟ علامة، أليس كذلك؟ يُمكِن أن ينعكس الأمر، لكن – انتبهوا – العلامات والآيات في كتاب الله – تبارك وتعالى – التي تُشير إلى مداليلها في الكون – أي العلامات والآيات في الكتاب التدويني مداليلها الآيات في الكتاب التكويني – ليست على هذا النحو، أعمق! كما تدل الظاهرة على سببها والمعلول على علته فإن مداليل هذه الآيات تدل على مُبدِعها تبارك وتعالى، لا على مُجرَّد وجوده، بل على جُملة من أسمائه وصفاته، وأنه حكيم، وأنه قدير، وأنه مُدبِّر، وأنه رزّاق، وأنه مُعتنٍ بخلقه، وأنه لطيف، وأنه… وأنه… وأنه… هذا يُسمى البرهان الآيوي، كما قال أبو العتاهية:

وفِي كلِّ شيءٍ لَهُ آية ٌ                                          تَدُلّ على أنّهُ واحِدُ.

تَدُلّ على أنّهُ واحِدُ أو الواحِدُ وهو أبلغ، تَدُلّ على أنّهُ الواحِدُ، أي وحده دون سواه، لا إله إلا هو، برهان الفطرة!

إذن حين ننظر إلى الأُفق أو إلى أي مظهر تكويني جميل أو جليل هذا مُباشَرةً يُشكِّل معبراً لنا إلى الله تبارك وتعالى، لذلك ألبرت أينشتاين Albert Einstein يقترح أن نعتمد العلم والفن لإيثارة الإحساس الديني، غريب! إن شاء الله في مُحاضَرتي عن فلسفة الجمال سأعود إلى بسط القول في هذا الموضوع بالذات، علاقة الحس وتنمية الحس الجمالي بالحس الروحاني المعنوي، وهذا موجود حقاً!

بول سيزان Paul Cézanne – الرسام الشهير جداً على مُستوى العالم – مكث خمس سنوات – إخواني وأخواتي – وهو يرسم لوحة غروب الشمس، المشهد القرآني الذي أقسم الله – تبارك وتعالى – به، وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ۩ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ۩، عَسْعَسَ ۩ بمعنى أقبل وبمعنى أدبر، أنا مُستروِح في هذا الموضع إلى أنه بمعنى الليل أقبل، والصبح أقبل أيضاً، لأسباب خاصة! المُهِم مكث خمس سنوات، وعندنا سورة الفلق، هذا هو! نفس الشيئ، وبعد خمس سنوات أتى الوكلاء – وكلاء الإنتاج – والصحافيون، يُريدون أن يأخذوا هذه اللوحة إلى المعرض، فأذن لهم، بعد خمس سنوات! وبعد أن حملوها قال لحظة، اكشفوا النقاب عنها، لأُلقي نظرة أخيرة، فألقى نظرة هكذا ثم قال لا، أعيدوها! إن خمس سنوات ليست كافية لتصوير لحظة غروب واحدة، هذه طريق الفنان! يسألون ما الدليل على وجود الله؟ انتبهوا! هذا السؤال لا يسأله إنسان يحتفظ بطهارة الفطرة، ولا يسأله فيلسوف بعقل عملاق، ولا يسأله فنان بذائقة فنية نابضة يقظة، لكن يسأله إنسان اختلطت عليه الأمور، لا هو فيلسوف، لا هو فنان، ولا هو فطري بريء، المسكين اختلطت عنده الأمور والأوراق، لابد أن يُعيد ترتيب أموره، لكن من حقه أن يسأل، هذا هو الحاصل، برهان الفطرة!

ويليام جيمس William James إخواني واخواتي – الفيلسوف الأمريكي، أحد أعمدة البراجماتية أو الفلسفة الوسلية البراجماتية، وهو مُؤسِّس علم النفس التجريبي بالمُناسَبة، كتابه المشهور جداً علم النفس التجريبي، وهو مُؤسِّسه – أنفق ثلاثين سنة من عمره في دراسة موضوع واحد،  وهو الحاسة الدينية، وعنده كتاب عظيم جداً اسمه ألوان – أي تشكيلات Varieties – من الخبرة الدينية، قال فيه إني لعلى يقين من أن القلب وحده هو مصدر كل شعور ديني، القلب قال، الفطرة، الإنسان بما هو هكذا، ليست الفلسفة، ليس الفكر، وليس العلم، الإنسان!

إرنست رينان Ernest Renan عاش في القرن التاسع عشر، ورينان Renan كان – إخواني وأخواتي – راهباً كاثوليكياً، ثم انتهى به الأمر إلى الإلحاد وإنكار ألوهية المسيح وإنكار المسيحية داخله، لكنه تأثَّر بالإسلام، مع أنه سب الإسلام في مواطن من كُتبه، لكنه تأثَّر بالإسلام جداً، المُهِم أرنست رينان Ernest Renan يقول قد يضمحل فينا حرية استعمال العقل أو النشاط العلمي أو التصنيعي التعميري وسائر اللياقات البشرية، شيئ واحد من المُستحيل أن يختفي وأن يضمحل فينا نحن البشر، بني آم! ما هو؟ قال الشوق الروحاني الديني، قال وفي هذا ردٌ على أولئك الماديين الذين يبغون أن يحبسونا في وهلة الطين الزلجة، قال مُستحيل! الحس الديني عبر العصور واكب الإنسان، في كل عصوره! ربما يخبت، ربما يعتل، وربما ينضب قليلاً، لكنه لا يختفي، موجود! لا يزال موجوداً على الدوام، لماذا؟ الأصل الفطري، يُوجَد شيئ في الفطرة هنا!

ستيفن واينبرج Steven Weinberg – الحائز على نوبل Nobel في سنة أربع وثمانين في الفيزياء النظرية مُقاسَمةً مع البروفيسور Professor أحمد عبد السلام رحمة الله تعالى عليه، وهو يهودي مُلحِد، من كبار علماء الفيزياء في العالم، إلى الآن لا يزال حياً – قال مرةً إني لأشعر بمزيد الغيظ والحنق على العلماء الطبيعيين، قال على زملائي، علماء الفيزياء هؤلاء، يغتاظ منهم جداً، لماذا؟ قال فيما هم يُظهِرون لا مُبالاتهم بالدين فإن مُعظَمهم على الإطلاق أكثر اهتماماً بالدين من العوام، طبعاً لأنها ظاهرة فطرية، يتظاهرون بأنهم غير مُهتَمين، لماذا؟ لأن المُجتمَع العلمي – الدوواين العلمية والمِزاج العلمي – المادي في العصر الحديث يجفو الدين ويُزري بأهله، لكنهم من وراء وراء – يقول Weinberg – مُهتَمون جداً بالدين، يقول أكثر من العوام يا أخي، مُهتَمون طبعاً!

أينشتاين Einstein كم اهتم بالدين! كثيراً جداً، لا يزال يُبديء ويُعيد في حديث الإيمان والربوبية وما إلى ذلك باستمرار، مُهتَم! لا يستطيع إلا أن يهتم، حتى الملاحدة منهم مُهتَمون، أليس كذلك؟ أنا أقول لكم الآن – وقد قلت هذا مرة – مَن مِن العلماء الآن أو المُفكِّرين مُهتَم – مثلاً – حالياً بنظرية الأثير في الفيزياء؟ انتهى! انتهى الاهتمام بها مُنذ تجربة ميكلسون Michelson ومورلي Morley، هذه التجربة في الفيزياء أنهت وجود شيئ اسمه الأثير، انتهى! لا يُوجَد شيئ تقول إن اسمه الأثير، الآن لا نجد أحداً يُعيد بعث نظرية الأثير أو يتباكى عليها، تماماً كما لا يتباكى أحد على الغول والعنقاء، كلام فارغ، أساطير! لكن لماذا موضوع الله بالذات دائماً يُبدأ فيه ويُعاد؟ حتى من جهة النفي! أليس كذلك؟ تجد فيلسوفاً كبيراً يُنفِق من حياته شطرها أو أكثر من شطرها، ليُثبِت للناس أن الله غير موجود، لماذا؟ اترك الموضوع كله ولا تهتم به! لا يستطيع إلا أن يهتم، لأن القضية لها جذور فطرية، القضية تفرض نفسها عليك سلباً وإيجاباً.

انتبهوا، أحياناً إلحاد كثير من الملاحدة في الله تبارك وتعالى – ألحدوا في الله، يُقال ألحدوا في الله وألحدوا بالله، قال تعالى وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ۩، إذن يُقال ألحدوا في الله – يُعتبَر دليلاً من أدلة الإيمان، لماذا؟ لأن المسائل – إخواني وأخواتي – تنقسم إلى قسمين، المسائل عموماً تنقسم إلى قسمين! القسم الأول مسائل يتفق الناس في تصويرها، لكنهم يختلفون في حلولها، كمسائل الرياضة، الرياضيات – مثلاً – والحساب، أليس كذلك؟ مهما كانت المسألة مُعقَّدة نتفق على تصويرها، أين يأتي الاختلاف؟ في حلها، ومن أي رُتبة؟ لكن هناك مسائل ثانية، وما نحن فيه مسألة الله – عز وجل – والدين بشكل عام من القسم الثاني، مسائل مناط الصعوبة فيها تصويرها، لا حلها، كالمسائل الدينية، وفي رأسها مسألة وجود الله وصفات الله، لا إله إلا هو! وما ينبغي له وما لا ينبغي له، هذه يقع اختلاف شديد جداً جداً في تصويرها، أليس كذلك؟ وبالتالي طبعاً يكون الاختلاف بعد ذلك أكثر سعةً وأكثر اشتباكاً في حلول لمسائل مُتعدِّدة، لا لمسألة واحدة، لأنها لا تغدو مسألة واحدة بعد ذلك، تغدو مسائل مُتعدِّدة، أنا أقول لكم كل إلحاد – مثلاً – في الله – تبارك وتعالى – على أنه المسيح إلحاد يخدم التوحيد، أليس كذلك؟ إلحاد يخدم الحق، لأن هذا كفر بطُغيان، فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ ۩، لابد في البداية أن نُطهِّر أذهاننا وأن نسمو بأفكارنا عن كل هذه البواطيل أو الأباطيل، لكي تُصبِح آذاننا لائقة ومُستعِدة ومُهيأة لاستقبال الحق الصرف مثلاً، وإلا لا يتأتى لنا ذلك، فحتى تناول المسألة سلبياً يُؤكِّد فطرية المسألة.

ويليام جيمس William James في كتابه المذكور أيضاً أكَّد بحماس أن مُعظَم بواعثنا ذات أصول ماورائية، قال بغض النظر عن القدر الذي يُعزى إلى الطبيعة من بواعثنا ورغباتنا فإن مُعظَم هذه البواعث – إلى كم تقدر أن تُبالِغ وتقول إن هذه رغبات ودوافع طبيعية؟ يقول ويليام جيمس William James أنا أقول لك لا – والرغبات ذات أصول ماورائية، هذه ترجمة فلسفية من ويليام جيمس William James لقوله تعالى وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ۩، ترجمة لآية الذر، لماذا نشعر دائماً بهذا الدافع الماورائي؟ لقضية الفطرة، هذه قضية الفطرة!

على كل حال الكلام طويل، الجميل – إذا أردنا أن نُضيف إضافة – أن نقف على كلام العلماء والفلاسفة والباحثين الكبار في الشرق والغرب الذي يُمكِن أن يُشكِّل دعماً وتنويراً لمقام الحديث في البرهان الفطري، جميل! نوع من التجديد على الأقل فيما يُنوِّر هذا البرهان.

النوع الثاني من البراهين يا إخواني البراهين العلمية شبه الفلسفية، هذا ما شرحته في الاستراحة لإخواني وأخواتي على عجل، أُحِب أن أقول لا يُوجَد شيئ اسمه برهان علمي على وجود الله تبارك وتعالى، غير صحيح! أو برهان علمي على العقيدة مثلاً، غير صحيح! العلم لا علاقة له بهذه الأشياء بطريق المُباشَرة، كأن تقول لي العلم أثبت وجود الله، مُستحيل! العلم يبحث في ماذا؟ انتبه، حين نقول العلم – ليس أيضاً بالمُصطلَح القروسطي الإسلامي والمسيحي، لا! العلم بمعنى الــ Science – نعني العلم الذي يبحث في الموجودات الطبيعية وما له علاقة بعالم الطبيعة.

طبعاً العلم كان يُظَن أنه يبحث في ارتباط المعلولات بعللها، أي الظواهر بأسبابها، الــ Cause and effect، السبب والمُسبَّب، السبب والظاهرة! بعد ذلك – وهذا جُزء من فلسفة العلم – تبيَّن ووضح أنه لا يبحث في العلل بالمعنى الفلسفي للعلل، وأقول بين قوسين حتى نفهم الأشياء بطريقة منهجة (العلة لها تناولان: تناول فلسفي وتناول غير فلسفي لدى العلماء والمناطقة، العلة الفلسفية تقتضي المُقارَنة الزمانية، لا فاصل بين المعلولين، أي بين العلة ومعلولها، لا فاصل! إذا وُجِدَ فاصل فهي عند الفلاسفة ليست علة، وإنما تُسمى المُعِد أو المُقدِّمة، فالوالد – مثلاً – ليس علة لولده، إنما ماذا؟ مُعِد أو مُقدِّمة، ليس علة! العلة لابد أن تكون مُقارِنة، لا فاصلة زمانية بين المعلولين، أي بين العلة ومعلولها، لكن العلماء يتكلَّمون عن العلة بمعنى أوسع، وبالأحرى مع وجود الفاصلة كلامهم أكثر، كلامهم أكثر مع وجود الفاصلة).

على كل حال العلم يبحث في الموجودات الطبيعية باعتبار العلية، الربط بين العلل ومعلولاتها، الأسباب والظواهر! تبيَّن الآن أن العلم يقصر حتى عن هذه الرُتبة، وإنما يبحث في العوامل وليس في العلل، أي الــ Factors، هذه عوامل! لذلك العلم يقول أنا أكتفي بماذا؟ بالوصف، أكتفي بالوصف! لا أُقدِّم تعليلاً بمعنى فلسفي مُعمَّق، لكن أنا أُقدِّم أوصافاً، ولذلك – مثلاً – العالم يقول لك أنا أُقرِّر أن الماء يتجمَّد عن درجة صفر فما دون، ويذوب فوق الصفر، أُقرِّر هذا! لماذا كان الأمر على هذا النحو؟ لا أدري، كلما قدَّم تفسيراً وضح أنه مُجرَّد وصف، إلى أن يُسلِّم، يقول لك أنا أصف فقط الموجود، أُحاوِل أن أصف، لكن لا أملك تفسيراً علمياً.

على كل حال الآن حقائق العلم أو نظريات العلم المُختلِفة لا يُمكِن أن يُدعى فيها أنها تُثبِت وجود الله، مُستحيل! لكن نستطيع أن نتسلَّح بها للبرهنة على وجود الله، ومن هنا نقول البراهين العلمية بخصوص القضايا الدينية هي من نوع براهين علمية شبه فلسفية، احفظوا هذا، هكذا نُسميها! البراهين العلمية شبه الفلسفية، ليست علمية بحتاً وليست فلسفية محضاً، إنما هي علمية وبعد ذلك تُقارَب من زاوية فلسفية، وسأُوضِّح هذا!

نحن حين نتحدَّث عن البرهان العلمي على وجود الله – تبارك وتعالى – مثلاً نتحدَّث في العادة عن ثلاثة أمور، أي براهين أو أدلة، الدليل الأول دليل الاختراع، وقد تناوله ابن رشد وأسهب فيه وجوَّد، الدليل الثاني دليل النظم، أي الإحكام والتقدير، Design argument، والدليل الأخير دليل الهداية، ثلاثة أدلة! قبل أن أشرح على السريع أُحِب فقط أن أشير إلى أن الإمام العلّامة الفخر الرازي – رحمه الله تعالى – قد انفرد من بين العلماء والمُتكلِّمين والمُفسِّرين من عصره إلى اليوم بالفصل بين دليلي النظم والهداية، وهو فصل ذكي جداً ويُوافِق ما في القرآن الكريم، هذا من فضل الله، الله يدخر لبعض عباده  ما يخصهم به دون سائر العباد، الفخر الرازي الله أعطاه هذا الشرف وهذه الدقة – سُبحان الله – العلمية والفلسفية، إلى الآن العلماء يخلطون، يعتبرون أن برهان الهداية هو برهان النظم أو جُزء منه، وهذا غير صحيح، القرآن تحدَّث عن برهانين، والفخر الرازي التقط هذا الفصل والتمييز بدقة وذكاء بالغ، القرآن ماذا قال؟ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ۩ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ۩ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ۩، في طه قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ۩، الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ۩، واضح جداً الفصل، برهان النظم غير برهان الهداية، عجيب! وهذا له دلالة علمية وفلسفية عميقة جداً أيضاً، هذا لابد أن نُدخِله في الكلام الجديد وأن نُنوِّره أيضاً بالأمثلة والتفصيلات ليُعطي العلم متانة وقوة، كيف؟

أولاً ما الفرق بين قوله – تبارك وتعالى – أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ۩ وبين أن يكون خلقه وهداه بضربة واحدة؟ القرآن يقول ثُمَّ هَدَىٰ ۩، الخلق هذا يتبعه مُباشَرةً ويتلوه النظم والإحكام، لأنه لم يخلقه هكذا، وإنما خلقه مُحكَماً دقيقاً بنظام يشي بالحكمة ويدل على تمام الصنعة والتقدير، الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ۩، هذه الآية أكثر تفصيلاً، برهان الاختراع: الَّذِي خَلَقَ ۩، فَسَوَّى ۩: برهان ماذا؟ النظم، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ۩: برهان ماذا؟ الهداية، برهان الهداية!

هل تستطيع أن تقول بلُغة فلسفية – مثلاً – أنا صنعت مُثلَّثاً الآن من خشب أو رسمت مُثلَّثاً على ورق ثم جعلت زواياه قائمتين؟ مُستحيل! لا تستطيع أن تقول “ثم”، لماذا؟ لأن معنى كونك رسمت مُثلَّثاً أو صنعت مُثلَّثاً أنه بزوايا قائمتين، لا يُمكِن التفكيك بينهما، وإلا لا يكون مُثلَّثاً، لا يكون مُثلَّثاً إن كانت زواياه أقل أو أكثر، هل هذا واضح؟ فما معنى قول الله ثُمَّ هَدَىٰ ۩؟ معنى ذلك أن النظم شيئ والهداية شيئ آخر، إذ أمكن التفكيك بينهما، أليس كذلك؟ لا يُمكِن التفكيك بين رسمت مُثلَّثاً ثم جعلت زواياه قائمتين، لا يُمكِن التفكيك! لكن يُمكِن التفكيك بين خلق وسوّى وهدى، ثُمَّ هَدَىٰ ۩، هذا شيئ وهذا شيئ! ما الفرق؟ الفرق كالتالي:

برهان النظم – إخواني وأخواتي – من أقوى البراهين على وجود الله – تبارك وتعالى – في كل الثيولوجيا Theology عند اليهودية والمسيحية والإسلامية، معروف! هذا اسمه برهان النظم، وهو مشهور في كل علم الكلام لدى الأديان التوحيدية الثلاثة، برهان النظم يعتني بالبنية والهيكل، أي دراسة تشريح الإنسان ونُسج الإنسان –  الأناتومي Anatomy والهستولوجي Histology – ووظائف أعضاء الإنسان، كل هذا له علاقة بالنظم، تماماً كما تدرس بنية سيارة مُعيَّنة، تركيب سيارة مُعيَّنة، وهيكلية سيارة مُعيَّنة، هذا اسمه النظم! كذلك بنية الساعة وهيكليتها، هذا النظم، الهداية موضوع زائد على ذلك، الهداية لها علاقة ليس بالبنية والهيكل والتكوين، علاقة بالمسير، علاقة بالحركة، وعلاقة بالغائية وبالهدفية، طبعاً البنية أو الهيكلية بلا شك تُؤشِّر إلى الغاية، لكن الهداية ترجمة لهذه الغاية، ترجمة عملية محسوسة لهذه الغاية، ولا يزال الكلام غير واضح، لكننا سوف نرى كيف هذا الآن، انتبهوا!

كلما وجدنا أن تأملنا في البنية والهيكل بحد ذاته غير كافٍ في إفهامنا كيفية المسير نستنبط أننا إزاء هداية مُعطاة ومُفاضة، لكن ما الفرق إلى الآن؟ قلت لكم هذا دقيق، هذا الذي أُضيفه الآن من إضافاتي، حتى الفخر الرازي لم يقله ويُتنبَّه إليه إذا كان حسناً جداً، لماذا فكَّك الله بين النظم وبين الهداية؟ سأقول لكم لماذا والله أعلم، عنده العلم والحُكم، لكي يُبرهِن لنا – تبارك وتعالى – على أن شيئاً لا يقوم بذاته، أي Stands alone، لا يُوجَد شيئ يقوم وحده، حتى بمعونة البنية التي وهبه الله – تبارك وتعالى – وكيَّفه بها، حتى بهذا لا يقوم، بمعنى أنه يحتاج وبشكل مُستمِر إلى أمداد الله عز وجل.

ابن رشد له عبارة جميلة في تهافت التهافت، قال ماذا؟ قال لا يُمكِن تصوير علاقة الله بخلقه كعلاقة العمارة بعمّارها أو البناية ببانيها، مُستحيل! العلاقة ليست كذلك، الآن تأتي إلى البرجين الذين كانا هنا مثلاً، كانا إلى وقت قريب أعلى برجين في العالم، هنا في كوالالمبور! ترى البرجين ولا ترى المُهندِس ولا العمّار الذي عمَّر هذين البرجين، وهما فعلاً غير مُحتاجين الآن إلى هذا المُهندِس ولا إلى مَن عمَّرهما، وقد يكون مات وقضى مُنذ زمن، فليست علاقة الله بالكون على هذا النحو كما تصوَّر أرسطو Aristotle، شيخ ابن رشد! ابن رشد هنا خالفه فعلاً، أي المُحرِّك الذي لا يتحرَّك، بلُغة ويل ديورانت Will Durant خلق العالم وأدار له ظهره، أرسطو Aristotle لا يعترف بمفهوم العناية وبمفهوم التدبير، أي الربوبية عنده منقوصة، الربوبية عنده منقوصة جداً، أي عند  أرسطو Aristotle! ابن رشد قال لا، لكن العلاقة بين الكون وبين الله على نحو آخر، لأن هذه هي طبعاً الفجوة الأنطولوجية في فلسفة أرسطو Aristotle، أرسطو Aristotle حين تأخذ فلسفته هي كما هي تقع في مأزق، تتورَّط في ورطة كبيرة، هي الفجوة الوجودية الأنطولوجية بين الله وبين العالم، لم تعد هناك رابطة، لم يعد هناك ربط، يقول الله مشغول بالتأمل في ذاته العلية وليس له علاقة بشيئ، الكون هذا يُدير نفسه بنفسه كالساعة، هذا نموذج الساعة بالمُناسَبة الذي راق للثيولوجيين المسيحيين في العصور الوسطى وفي مطلع العصر الحديث أيضاً وإلى وقت ليس ببعيد، نيوتن كان يعتمد هذا التمثيل أو هذه الأمثولة، أمثولة الساعة! ابن رشد قال لا، علاقة الكون بالله هي كعلاقة المعلول بالعلة، لأن المعلول هنا مُتزامِن كما قلنا، انتبهوا! في الاصطلاح الفلسفي المعلولان لا فصل زمانياً بينهما، هذا في الاصطلاح الفلسفي الدقيق، هذا معنى العلة عند الفلاسفة، إذا هناك فصل فهذه ليست علة، هذه مُعِد أو مُقدِّمة، لذا قال كعلاقة المعلول بعلته، وكأنه يقول الله هو الروح السارية في الوجود، أي العقل الساري في الوجود بلُغة أكثر بساطة.

نعود إلى ما كنا فيه، التفكيك بين النظم والهداية إخواني وأخواتي جاء – والله تبارك وتعالى أعلم وأحكم – للدلالة والتأشير على أن شيئاً لا يقوم بحياله حتى ضمن النظم المُفاض عليه من الله، لا يستطيع! وسأضرب لكم مثالاً بسيطاً، كيف يُفكِّر الإنسان؟ كيف نُفكِّر؟ ماذا عن لياقة التفكير عندنا؟ كيف نشرع في التفكير؟ كيف نبدأ في التفكير؟ هذا سؤال قد يُعتبَر بسيطاً ولا جواب عنه، لا يُوجَد جواب عنه، لا يُوجَد جواب أبداً! واذهب واقرأ كل علم الفسيولوجيا Physiology، علم وظائف الأعضاء! أنت تتورَّط في وصف دقيق، هو وصف في النهاية! تصل إلى طريق مسدود، ولا تعرف كيف يتمتع الإنسان بانبثاق لياقة التفكير، غير مفهوم كيف يتم هذا! لكن دع عن هذا، فهناك ما هو أبسط منه وهو الإبصار، كيف نُبصِر؟ قد تقول لي هذا سهل جداً ودرسناه حتى في الإعدادية، ثم درسناه بعد ذلك في كلية الطب وفي مُقرَّرات الفسيولوجيا Physiology، لكن هذه ليست عملية سهلة، أصعب مما تخيَّل، لا يُوجَد عالم مُحترَم – على مُستوى طبعاً فريد أو من طراز أول في العلماء، أي علماء الفسيولوجيا Physiology – يقول لك أنا أفهم تماماً كيف نُبصِر.

بنفيلد Penfield ربما حدَّثتكم عنه مرة، بنفيلد Penfield حائز على جائزة نوبل Nobel في الفسيولوجيا Physiology، علم وظائف الأعضاء! حائز على نوبل Nobel، أي أكبر شيئ مُمكِن، وبنفيلد Penfield إلى أن مات كان يرفع الراية البيضاء ويقول أنا لا أفهم كيف نُبصِر، ولا يُوجَد مَن يدلنا على كيف نُبصِر، هذا هو طبعاً! ليس موضوع أن يأتي شعاع ويقع على الشبكية مُنعكِساً فتأخذه الأعصاب ويُترجَم في مكان في الدماغ، وما هو الدماغ؟ صندوق أسود دهني هكذا، “هطلاوي مهلباوي” كما يُقال، أسود مُعتِم تماماً! وهناك تُترجَم الأشياء إلى ألوان كما نرى الآن، كما أراكم وتروني، ألوان وحجوم وأشياء! الله يقول فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ۩ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ ۩، ويقول أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ۩ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ ۩، وليس هذا فحسب إخواني وأخواتي، في لحظات مُعيَّنة الله – عز وجل – يقول لك لا تظن للحظة من الزمن أنك فعلاً تُبصِر وتُدرِك ما تُبصِر بهذين المحجرين أبداً، أنت تُبصِر بي، بمدد نازل مني باستمرار، بدليل أنني لو قطعت هذا المدد أنت ستنظر ولن تُبصِر، وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ۩، ففكَّك القرآن مرة أُخرى بين النظر والبصر، أنت تنظر، لكن لا تُبصِر، لأنك لا تُبصِر إلا بي الله يقول، شيئ عجيب! هذا العلماء الكبار – من طراز أول – فهموه جيداً يا إخواني، فهموا أننا لا نفهم كيف نفهم، لا نفهم كيف نُبصِر، لا نفهم كيف نسمع، نصف! نصف خطوات في طريق كيف نفهم، خطوات فقط وصفية، هذه خطوات في طريق كيف نُبصِر، كيف نسمع، لكن الكيف الحقيقي لا نعرفه، لم نتوصَّل إلى الكيف، ولذلك هناك برهان الهداية، انتبهوا! هذه دقة القرآن العجيب، أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ۩، زوَّدني بجهاز الإبصار، لكن الذي يهديني إلى الإبصار ذاته واستثمار هذه اللياقة هو الله، لا إله إلا هو! ولو انقطع هذا المدد انتهى، مثل العقل، بعض الناس عنده هذا الدماغ وعنده هذه المُعدات، لا إله إلا الله، ما به الوجود وما منه الوجود، بلُغة الفلسفة ما به وجود الشيئ، عنده ما به وجود الشيئ لكن ليس عنده وجود ولا مضمون ولا مشمول هذا الشيئ، الله لم يُزوِّده به، لا إله إلا هو! لم يُعطه، لم يُنعِم عليه، لم يشأ لسبب أو لآخر طبعاً، عجيب! هذا هو، فإذن التفكيك بين النظم وبين الهداية جعله الله غاية أن نفهم أن لا شيئ يقوم وحده، حتى بما أعده الله لنا، لا! إذن هذا جاء لماذا؟ لتكريس قيومية الله على خلقه أجمعين، اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۩، فيعول! يقول علماء الصرف فيعول، من القيام أو القيمومة، وهو الذي يقوم به كل شيئ ولا يقوم هو بشيئ، بل هو قائم بذاته، لا إله إلا هو! يستغني عن كل شيئ ولا يستغني عنه شيئ، قيومية! هذا برهان ماذا؟ برهان الهداية.

أيها الإخوة:

علماء الحشرات – وأقول بين قوسين (هذا من أكبر ما وقعت عليه من تحديات نظرية التطور العضوي) – اكتشفوا حشرة ذات عين بسيطة التركيب جداً، لا تُقارَن بعين الإنسان في تعقيدها وتركبها، بسيطة جداً! إلا أنها أكفأ من عين الإنسان ثلاثمائة مرة، هذا ما لا يستطيع لا تشارلز داروين Charles Darwin ولا الآن سيئ الذكر ريتشارد دوكنز Richard Dawkins أن يفهمه فضلاً عن أن يُجيب عن التشغيب به أو التشبيه أو الإيراد عليه، يستحيل! لأن بحسب مبادئ هؤلاء التطوريين التعقيد المفروض أن يُكافئ الوظيفة، كلما علت الوظيفة أو دقت يكثر التعقيد، فكيف هذا إذن؟ بسيطة جداً جداً هذه العين، لكنها أكفأ من عين الإنسان ثلاثمائة مرة، الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ۩ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ۩، هذا له علاقة ببرهان الهداية، لأن الله أراد أن يهديها إلى شيئ مُعيَّن.

في برهان الهداية لابد أن نُعيد قراءة مُصطلَح الوحي كلامياً أو عقدياً، الوحي في القرآن الكريم مُصطلَح كوني تكويني، ليس فقط مُصطلَحاً تشريعياً، لا! هو مُصطلَح تكويني واسع جداً جداً، يُنتِج قوانين وعلاقات تُنظِّم الوجود من سُلطة إلهية مُطلَقة أعلوية، أولاً هناك وحي للملائكة، إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ۩، وحي لهذا العالم الذي يُسمى بلُغة الفلاسفة العالم المُجرَّد، عالم المُجرَّدات، الملائكة! أي عالم ليس من الكون والفساد، هكذا هم يظنون، ثانياً وحي للسماوات، وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ۩، عجيب! قال فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ۩، ليس في السماوات أمرهن، لا! كل سماء أُوحيَ فيها بأمرٍ ما، فهي تقوم وتستمد قوانينها ودساتيرها من هذا الأمر الوحياني، وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ۩، شيئ غريب! بعد ذلك عندنا وحي للأرض، وهذا ثالثاً، بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا ۩، عجيب! بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا ۩، رابعاً هناك وحي للعجماوات، المخلوقات الحية! وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ۩، وإذا أوحى إلى النحل فقطعاً أوحى إلى الذباب، إلى الفهود، إلى الأسود، وإلى سائر هذه المخلوقات، فهذا من باب التمثيل فقط،  أي ليس للنحل فقط، هذا تمثيل، هذا مثال واحد، وعليه قس! أي على هذا المثال، وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ۩، وهذا له علاقة بما ذكرته قُبيل قليل، كيف يُمكِن لكائن دقيق بسيط جداً جداً جداً أن يُنتِج أفعالاً غاية وآية في الدقة والحكمة وبداعة الصنعة؟ لأن هذا ليس من ذاته، وإنما بوحي الله تبارك وتعالى، العامة يقولون كلاماً له عمق فلسفي إذا تأمَّلناه وفكَّكناه، مثل يضع سره في أضعف خلقه، هذا مُمكِن وعادي، مُمكِن جداً! 

أكبر عدو للإنسان عبر التاريخ البعوضة، إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ۩، ما قتلته البعوضة من بني البشر يفوق عدداً كل ضحايا الحروب والزلازل والطوفانات وإلى غير ذلك، كل هذا في كفة والذين ماتوا بسبب البعوضة في كفة أُخرى، كلام علمي هذا، يضع سره في أضعف خلقه، قادر على ذلك، لا إله إلا هو! ما المُشكِلة؟ المسألة ليست بالأوزان وليست بالحجوم، أليس كذلك؟

دماغ النملة، ما قدر دماغ النملة؟ جُزء – جُزء بسيط جداً – من كريستالة ملح، ولكن هذه النملة تُبدي وتُترجِم أعمالاً ولياقات وهدايات عجيبة مُدهِشة إن لم تكن مُعجِزة، لماذا؟ بفضل ماذا؟ الوحي الإلهي، أليس كذلك؟ لا تقل لي عندها دماغ وجهاز عصبي وهو مُعقَّد جداً وما إلى ذلك، دماغ ماذا؟ وهي من أذكى ما يكون! عندها الاحتيال، عندها الدهاء، وعندها التماكر طبعاً، أنا سأُعطيكم مثالاً – هذا لا ينفك يُدهِشني – قرأته في كتاب @@44:20@ ل@@@، شيئ غريب! أحد علماء الــ Zoology – أي أحد علماء علم الحيوان – ذات مرة كان يمشي في غابة مطيرة فلاحظ وردة جميلة جداً، زهرة جميلة جداً! هذه الزهرة وسطها دائري بلون أحمر،  وإطارها الخارجي الوسيع العريض بلون أصفر، فمد يده لكي يلمسها ويشمها، فتناثرت بين يديه حشرات، وإذا بها مجموعة كبيرة جداً من الحشرات، انتظمن في شكل مُعيَّن فأعطى شكل هذه الوردة، كاموفلاج Camouflage! نوع من التمويه، والسؤال الذي حيَّر هذا العالم وحيَّرنا وسيُحيِّر كل صاحب فكر وذكر – إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ۩ – حتى مِمَن سمع هذه القصة هو هل هناك ثمة عقل جمعي حاكم على هذا العدد الكبير – ربما كن خمسمائة حشرة أو ألف حشرة صغيرة جداً – من الحشرات؟ هل هناك عقل جمعي نظَّم هاته الحشرات بهذا العدد الهائل لكي تصطف بطريقة هندسية مُعيَّنة فتُنتِج لنا في نهاية المطاف هذه الوردة الرائعة؟ غير معقول، شيئ غير مفهوم! أنا أقول لكم عدم مفهومية هذه الظاهرة المُحيِّرة تماماً يُعادِل عدم مفهومية ظاهرة التخصص في علم النُسج.

الذين قرأوا في الطب وقرأوا الهستولوجي Histology يعلمون أن هناك ظاهرة إلى الآن أيضاً غير مفهومة في علم الهستولوجي Histology، وهي ظاهرة التخصص، طبعاً أكيد أنتم أخذتم فكرة عن الاستنساخ Cloning، وأنتم تعرفون أن خلايا الإنسان البنائية الجسدية – Somatic cells – ما عدا كرات الدم الحمراء وما عدا المنويات والبوييضات عند المرأة – فيما عدا ذلك تقريباً – تحتوي على الجينوم Genome الكامل، أي على ستة وأربعين كروموسوماً Chromosome، أليس كذلك؟ جميل! والستة والأربعون كروموسوماً Chromosome يحتوون على ستة وثلاثين ألف جين Gene أو مُورِّث، العدد الدقيق الآن تقريباً هو هكذا، أقل من أربعين ألفاً، زُهاء ستة وثلاثين ألف جين Gene، كانوا قديماً يظنون أنه مائة ألف، وهذا غير صحيح، فكل المسؤول عن مورفولوجيا الإنسان وعضوية الإنسان هو ستة وثلاثون ألف من الجينات Genes، مُمتاز!

الآن كل خلية فيها الجينوم Genome كاملاً، يُوجَد كاملاً! لكن هذه الخلية في مرحلة من مراحل الانقسام ونمو الجنين تُؤثِر أو تشاء أو يُوحى إليها وهذا هو الأدق – الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ۩،  وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ ۩، أي الوحي الإلهي – أن تتخصَّص لتُصبِح خلية كبد مثلاً، أنت عليكِ أن تُصبِحي خلية جلدية، أنتِ عليكِ أن تُصبِحي خلية في القلب، أنت عليكِ أن تُصبِحي خلية في الكلية، وأنت عليكِ أن تُصبِحي خلية في كذا أو كذا، شيئ غريب! ثم تظهر لنا هذه البنية أو هذا النظم، العلماء إلى الآن لم يفهموا كيف يتم هذا التخصص، شيئ غير مفهوم! خلية تكون في موضع وتختار أن تتخصَّص في شيئ مُعيَّن، أُخرى في موضع آخر وتختار أن تتخصَّص في شيئ آخر، نفس الخلية ونفس التكوين ونفس اللياقات، وبعد ذلك ينشأ لدينا هذا الإنسان بكل هذا التكوين المُذهِل المُعجِز، سر التخصص غير مفهوم إلى الآن! إذن نحن أيضاً أمام برهان الهداية، هذا غير النظم، هذا شيئ أوسع من برهان النظم، المُهِم هناك أشياء كثيرة يُمكِن أن نضربها أمثلةً في هذا الباب، كثيرة جداً!

إذن لدينا – كما قلنا – البرهان العلمي شبه الفلسفي، حقائق علمية أو نظريات علمية لكن بذاتها لا يُمكِن أن تدل على قضايا دينية، إلا أن نُوجِّهها ونُعيد قراءتها ونُقارِبها مُقارَبة فلسفية، يُمكِن أن نستفيد منها، لذلك – مثلاً – العالم قد يكون عالماً يتحدَّث – نفترض – عن بنية مادة مُعيَّنة بشكل دقيق ومُمتاز وعلمي ومُتخصِّص، لكن لا يخطر على باله أن هذا له علاقة بموضوع الإيمان أو عدم الإيمان، يتكلَّم هكذا! فيأتي عالم آخر له عقلية فلسفية أو توجه روحاني ديني ويقول له هذا لابد أن يكون له دلالة، كيف هذا؟ يقول له، هذا النظم لابد أن يكون له دلالة، يقول له الدلالة دلالة على العلة الفاعلية، العلة الفاعلية هذه قد تكون مُسلسَلة في علل مادية إلى ما لانهاية، ما المُشكِلة؟ كما يقول الداروينيون هذه المسائل تتسلسل في علل فاعلية، هذه العلل في النهاية تستند وتدين بالشكر أو بالعرفان للصُدف المحضة في الزمان الطويل، في ملايين السنين! فيأتي العالم الفيلسوف ويقول له غير صحيح، بالمُحاسَبة الدقيقة الحسابية والاحتمالية عمر الأرض بل عمر الكون كله ونفسه غير كافٍ – بحساب الاحتمال – لنشوء خلية واحدة، خلية واحدة وليس بنية كاملة، ليس سلاسل من الخلق والأنواع، ملايين الأنواع! غير معقول، الأمر لابد أن يتعدى حتى التأكيد على وجود العلة الفاعلة أو الفاعلية إلى العلة الغائية، في النهاية سنستدل على ماذا؟ على وجود إله خالق مُدبِّر حكيم هادٍ، لا إله إلا هو! لكن بالتفصيل.

فإذن برهان الخلق أو الاختراع، برهان النظم، وبرهان الهداية، آخر شيئ لدينا البراهين الفلسفية، الفرق بين البرهان العلمي شبه الفلسفي والبرهان الفلسفي المحض أن البرهان الفلسفي يُمكِن أن يُؤديه الفيلسوف وهو على المريخ وليس على الأرض، وليس له علاقة لا بدراسة الكونيات ولا الطبيعيات ولا الحيوان ولا النبات  أبداً، لماذا؟ لأن أشهر البراهين الفلسفية على وجود الله – تبارك وتعالى – ثلاثة، برهان أرسطو Aristotle المعروف ببرهان المُحرِّك الذي لا يتحرَّك، على أنه ضعيف هذا البرهان، بالنسبة للبراهين الفلسفية من أضعف البراهين، ليس قوياً وناقص من جوانب، لست بصدد الآن أن أشرحه لكن هذا برهان مشهور، البرهان الثاني البرهان السيناوي، نسبة إلى ابن سينا، البرهان السيناوي! وهو الذي دعاه ابن سينا في الإشارات والتنبيهات ببرهان الصدّيقين، قال أنا أُسميه برهان الصدّيقين،  لأن غيري من الحكماء استدلوا بالعالم على الله، وأنا أستدل بالله على الله، قال – تبارك وتعالى – سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ۩، هذا برهان الحكماء الآخرين، هل هذا واضح؟ البرهان الآيوي، قال أما أنا فآخذ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ۩، فأنا أستدل به ولست أستدل عليه، طريقة قوية هذه! ولذلك سماه برهان الصدّيقين، هذه طريقة الصدّيقين! بِكَ عَرَفْتُكَ وَأنْتَ دَلَلْتَني عَلَيْكَ وَدَعَوْتَني إلَيْكَ، وَلَوْلا أنْتَ لَمْ أدْرِ ما أنْتَ، لعمري هل يكون شيئ أظهر منه – لا إله إلا هو – حتى يُستدَل به عليه وهو المُظهِر لكل شيئ؟ مُستحيل! قال هذا برهان الصدّيقين، ومُلخَّص هذا البرهان أنه محض افتكار أو تفكر أو تأمل في طبيعة الوجود والموجود فقط، فيتحصَّل لدينا أن الوجود إما أن يكون مُمتنِعاً، وهذا مُحال امتناعه، لماذا؟ لأنه لو كان مُمتنِعاً لما كان، والحال أنه كائن ونحن جُزء منه ونُفكِّر فيه، فذهب هذا القسم، وإما أن يكون مُمكِناً، ما معنى مُمكِن الوجود؟ مُمكِن الوجود هو الذي يستوي طرفاه، أي يستوي نسبته إلى الوجود ونسبته إلى العدم، بمعنى لو فرضنا وجوده لم يُوجِب هذا استحالة في العقل، أي تناقضاً، لو فرضنا عدمه وأنه لم يُخلَق ولم يُوجَد لم يُوجِب هذا أيضاً تناقضاً واستحالةً، هذا يُسمى المُمكِن، وإما أن يكون واجباً، لا يُمكِن تصور عدمه، قال بالتأمل وجدنا أن هذا الوجود هو قسم المُمكِن، والمُمكِن لابد له من مُوجِد أوجده ليس مُمكِناً، فهو واجب الوجود، هذا باختصار مُخِل جداً، طبعاً البرهان أعمق من هذا وأكثر تفصيلاً، ولسنا بصدد أيضاً شرحه، هذا – قال – اسمه برهان الصدّيقين!

رد عليه مُلا صدر الدين الشيرازي – الفيلسوف المُتعالي الشهير، صاحب الأسفار العقلية الأربعة في القرن الحادي عشر الهجري – وقال لا، ابن سينا لم يُصِب حين قال برهاني هذا برهان الصدّيقين، في نهاية المطاف هو استدل بالوجود على المُوجِد، هذا ليس برهان الصدّيقين، قال أنا عندي برهان الصدّيقين، وأتى بهذا البرهان وهو أكثر تعقيداً وأكثر إحكاماً من البرهان السيناوي، أيضاً لا نُحِب أن نشرحه، لأحد الفلاسفة الفرنسيين كتاب في أكثر من خمسمائة صفحة في برهان الصدّيقين، يشرح هذا البرهان، مُعقَّد جداً هذا البرهان وطويل وقوي!

طبعاً الأوروبيون يفتخرون بالبرهان الوجودي الذي أبدعه سانت أنسلم من كانتربري Saint Anselm of Canterbury في القرن الحادي عشر، وجاء بعد ذلك وبعثه ديكارت Descartes والديكارتيون مثل مالبرانش Malebranche، لايبنتز  Leibniz، وسبينوزا Spinoza، لكن نقضه كانط Kant، إيمانويل كانط Immanuel Kant نقضه، والحق مع كانط Kant، وبرهان أنسلم Anselm برهان مُتهافِت وضعيف، للأسف إلى الآن بعض الإسلاميين يحتج به، يحتج بهذا! يقول لك مُجرَّد تصورك للقوة الأعظم، للحق المُطلَق، وللوجود الكامل يُؤكِّد أنه موجود، كانط Kant بجُملة واحدة قال غير صحيح، تصور الشيئ لا يُعادِل وجوده قال، من أين أتيتم بهذا الكلام الفارغ؟ تصور الشيئ لا يُعادِل وجوده، بل يُمكِن التفكيك بين التصور وبين الوجود، وهذا صحيح! تبقى براهين الإسلاميين أقوى بكثير.

على كل حال إذا أردنا أن نكتب في علم الكلام الجديد سنرى أنفسنا مُضطَرين أن نُقارِع هذه البراهين الفلسفية، كما أيضاً أن نتنوَّر ونُنوِّر المقام بذكر القوي منها، إذا اتسق مع مُقدِّماتنا الدينية – إن شاء الله – وأيضاً مع قناعاتنا العقلية، حتى لا يفوت الوقت أُحِب الآن أن أضرب لكم أمثلة – مثلاً – عن طريقة عرض بعض الموضوعات في علم الكلام الجديد استناداً إلى حقائق العلم الحديث، هل يُمكِن ذلك؟ هذا مُمكِن، مُمكِن وأنسب إلى روح العصر، وهذه لُغة العصر! وأُقدِّم بين يدي ذلك بالقول إن الاستناد إلى حقائق العلم الحديث الذي أصبح للأسف يُشكِّل مرجعية شبه مُطلَقة لدى الناس غير صحيح، وفي الحقيقة العلم ما ينبغي أن يُشكِّل مرجعية مُطلَقة، هذا خطأ، خطأ كبير! مرجعية العلم أضعف من مرجعية العقل، بالمعنى الفلسفي للعقل، أضعف بكثير! وكما قلت في الجُزء الأول من المُحاضَرة حقائق العلم ترجيحية وليست ضرورية يقينية قطعية، كل ما يتعاطى مع العلم من حقائق هو كذلك، انتبهوا! بخلاف الحقائق العقلية، مثلاً مفهوم الاستحالة مفهوم عقلي، لا يُمكِن التشكيك فيه، هل يُمكِن أن تشكوا – مثلاً – في مفهوم أن الشيئ هو هو؟ مفهوم الهوية، مبدأ الهوية Identity principle! لا يُمكِن التشكيك في هذا، مُستحيل أن تشك فيه، لكن هل يُمكِن أن تُشكِّك في أن الماء يغلي عند مائة درجة مئوية؟ طبعاً مُمكِن، عادي! عقلي يتصوَّر هذا، وطبعاً ارفع الضغط الجوي وانظر، الأمر سيختل، وكذلك اخفض الضغط، والأمر سيختل، فالماء يغلي عند درجة مائة ضمن الضغط الجوي المعروف المُقرَّر، أليس كذلك؟ فيُمكِن التشكيك في هذه الحقيقة، هذه حقيقة وصفية، ليست حقيقة عقلية قطعية، والعلم يتعاطى مع هذه الحقائق، فكيف نجعله مرجعية نهائية؟ بعض الناس يقول العلم لم يُثبِت لي كذا وكذا، ومَن قال إن العلم منوط به ومعصوب بجبينه إثبات هذه الحقائق؟ بعد ذلك قدرة العلم – إخواني وأخواتي – ولياقات العلم هل هي في النفي والإثبات؟ المفروض مبدئياً أن تكون له صلاحيات في الإثبات، أما في النفي فعليه أن يلتزم الصمت، أليس كذلك؟ العلم يستطيع أن يدّعي ويقول لك أنا أُثبِت لك وجود كذا وكذا، مُمكِن! لا تُوجَد مُشكِلة، أنا أُثبِت لك – مثلاً – وجود كوكب جديد، وجود تابع جديد للكوكب الفلاني، أهلاً وسهلاً! لكن ليس من شأن العلم أن يقول لك أنا أنفي لك جزماً وجود حياة عاقلة في الكون، لا يستطيع! لا يستطيع لأن الكون إلى الآن أكبر من أن يخضع للتجربة العلمية، الكون هذا الذي بقطر سبعة وعشرين مليار سنة ضوئية لا تقل لي إنه تم مخوره ودراسته شبراً شبراً، مُستحيل!

فالنفي يا إخواني كما يُقال دائماً غير استنادي، النفي غير استنادي! لذلك مُهِمته أصعب إلى ما لانهاية، أما الإثبات فهو استنادي، الإثبات استنادي ومُهِمته سهلة، وهذا من لطف الله كما يقول المُعتزِلة، من لطف الله أن الله – عز وجل – إذا كلَّف عباده بشيئ يسَّر وكثَّر السُبل والحُجج والأدلة عليه، فالله كلَّفنا بإثباتات مُعيَّنة، وهذا سهل! أنت تُكلِّف نفسك الآن أو تدّعي أنك مرصود للنفي، لكنك لن تستطيع هذا، لأن النفي بطبيعته غير استنادي، دائماً لدي مثال أضربه، الآن أنتم هنا زُهاء مائة وخمسين مثلاً، بارككم الله وبارك فيكم، لو زعمت الآن – مثلاً – ألا أحد فيكم يحمل الجنسية – مثلاً – السويسرية – لا أحد أقول، لا أحد يحمل هذه الجنسية – وفحصت من المائة والخمسين مائة وتسع وأربعين هذا الفحص مع أنه شبه استقراء كامل لكن ينقصه واحد لا يُخوِّل لي أن أدّعي ألا أحد فيكم يحمل الجنسية السويسرية، لأن قد يكون رقم خمسون هو مَن يحملها، أفسد علىّ كل الخُطة، أليس كذلك؟ فهذا صعب، لكي أنفي لابد أن أستقري كل الآحاد وكل الأفراد، لكن لو زعمت أن واحداً فيكم يحمل الجنسية السويسرية، ثم وجدت مُباشَرةً أنه رقم اثنان، سوف أكتفي به، غير لازم أن أبحث في المائة والخمسين، أليس كذلك؟ أرأيتم؟ الإثبات استنادي، النفي لا استنادي، أي المُهِمتين أصعب وأشق؟ النفي، صعب جداً!

العلمويون الآن للأسف الشديد يُعطون العلمة صبغة مرجعية مُطلَقة في النفي والإثبات، وهذه نزعة فلسفية غير علمية، هذا ليس مسلك العلم، العلم لا يدّعي ذلك، العلم لا يدّعي ذلك لنفسه! وإنما هذه نزعة فلسفية تُشبِه أن تكون أيديولوجيا تخدم أهدافاً مُعيَّنة، كأن أصحابها يقولون على الوحي أن يسكت، على العقل أن يسكت، زعلى القلب والفطرة والجراح والحدس والذوق أن يسكت، على كل شيئ أن يسكت! ويتكلَّم العلم بأدواته، غير معقول! أي هذا نوع من الحماقة التي يتورَّط فيها أمثال هؤلاء في الشرق والغرب، بعض المُسلِمين والعرب يُقلِّدون هؤلاء.

هذه مُقدِّمة أحببت أن أذكرها بين يدي الحديث، وهناك مُقدِّمة ثانية إخواني، لو سألنا عن مفهوم الإمكان والاحتمالية، أي الإمكانين أوسع: الإمكان العقلي المحض أو الإمكان العلمي؟ الإمكان العقلي طبعاً، الإمكان العقلي أوسع بكثير، الإمكان العلمي دائماً أقل سعةً وأكثر محدوديةً، الإمكان العلمي أو الإمكان الفني التقني أوسع؟ العلمي، لأن جُزءاً منه نظري Theoretical، الإمكان الفني واقعي، انتهى! الآن علمياً هل يُمكِن الوصول إلى الكوكب الفلاني؟ يُمكِن، هل فنياً يُمكِن؟ غير مُمكِن، إلى الآن ليس عندنا تقنيات مُعيَّنة تكفل لنا أن نُسافِر – مثلاً – خمسين سنة ذهاباً؟ ليس عندنا، ليس عندنا تقنيات لهذا، لا ينفع! سفرنا إلى الآن يُمكِن أن يكون سنتين أو ثلاث – مثلاً نفترض – على الأكثر، ليس خمسين سنة، ليس مائة سنة، وليس ألف سنة، فنياً غير مُمكِن، علمياً مُمكِن، طبعاً المُمكِن العلمي دائماً هو مُمكِن عقلاً، انتبهوا! لكن ليس شرطا أن يكون المُمكِن عقلاً مُمكِناً علمياً، ليس شرطاً! مُمكِن لكن ليس بالضرورة، هذا مُهِم!

ولذلك نحن الآن نتعاطف مع الإمكان العلمي ومع تقريرنا أهمية وخطورة مثابة الإمكان العقلي، لماذا؟ هل تعرفون لماذا؟ لأن الإمكان العلمي أكثر أرجحية في المِزاج المُعاصِر، لا تُحيل على الإمكان العقلي، الإمكان العقلي واسع، باب الاحتمال واسع يقول العلماء، لكن الإمكان العلمي لأنه أضيق إذا كان حاصلاً فمعنى ذلك أن الأمر تقريباً قيد التحقق، أليس كذلك؟ قريب جداً، فهذا أكثر إقناعيةً، التسلح بالإمكان العلمي يكون أكثر إقناعيةً من العزو إلى الإمكان العقلي، لذلك على الكلامي الجديد أن يستند كثيراً إلى الحقائق والنظريات العلمية، جميل! ليس غلطاً أن نفعل هذا.

سأضرب لكم مثلاً أو مثلين، المثل الأول يتعلَّق بالله تبارك وتعالى، الحديث التقليدي عن الله – عز وجل – بخصوص تنزيهه وتقديسه في مُعظَم الأحيان يكتفي بالإحالة إلى النصوص، هذا واجب، لا كلام هنا، لكنه يكتفي بهذا، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ۩، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ۩، لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ۩، وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ۩، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ۩، إلى آخر هذه الأشياء، إذا جمعنا أو جمَّعنا هذه الآيات تحصَّل لدينا في النهاية تصور – بالضرورة تقريباً تصور – أن خصوصية الله – تبارك وتعالى – أنه مع كل شيئ لا بمُمازَجة، أليس كذلك؟ مع كل شيئ لا بمُمازَجة، وليس في شيئ لا بمُفارَقة، غريب! ما هذا الوجود يا أخي؟ ما هذا الوجود؟ لا إله إلا هو، أليس كذلك؟ لا يُقال كان في شيئ ليُقال إنه منه بائن، ولا يُقال هو في شيئ ليُقال هو فيه كائن، عجيب! بتعبير الأشاعرة وكما يقول أهل السُنة والجماعة الله – تبارك وتعالى – لا داخل العالم ولا خارج العالم، ولا هو أيضاً (لا داخل ولا خارج) باللُغة الجبرية، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۩، وكل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك، هذه عقيدة المُوحِّدين العارفين، أهل التأييد الإلهي والفتوح الربانية، وهذه عقيدتنا بفضل الله!

طبعاً يُوجَد نفر من المُسلِمين للأسف عندهم اعتقاد في الله محض ساذج، جد ساذج وبسيط ومُسطَّح، ويُشبِه أن يكون اعتقاداً أنثروبومورفياً، الأنثروبومورفيزم Anthropomorphism هي الأنسنة، أي إسقاط صفات الإنسان على الله، في النهاية يُصوِّر الله على أنه إنسان كبير ضخم!

@@1:4:55 في تاريخه لمسار الإلحاد الأوروبي قال الناس ألحدوا هنا في الغرب لأن الكنيسة أصرت على أن تُصوِّر الله إنساناً ضخماً بين عينيه خمسة آلاف فرسخ، في النهاية هو إنسان، أي هو بلا حدود في النهاية، الكون الآن ليس خمسة آلاف فرسخ وإنما سبعة وعشرون بليون Billion سنة ضوئية، أي أن هذا الإله باطل، انتهى! ولذا ألحدوا، وعندهم الحق أن يُلحِدوا، للأسف بعض الإسلاميين إلى اليوم باسم عقائد كذا وكذا يُريدون أن نعتقد في الله عقائد شبه تجسيمية، شبه تحديدية، عقائد بسيطة جداً جداً وساذجة، طفولية صبيانية! ليس هذا الله اذي عرَّف بنفسه في كتابه الكريم، لا إله إلا هو – أبداً والذي دل عليه نبيه المعصوم والصادق المصدوق صلوات ربي وتسليماته عليه وآله وأصحابه، ليس هذا! الآن أنا سأتوسَّل العلم ومفاهيم علمية حديثة لكي أُوضِّح لكم العقيدة الإسلامية في هذا الباب، وسوف ترون شيئاً – إن شاء الله – وتسمعون شيئاً ربما يلذ لكم أو يشوقكم بإذن الله تعالى.

دائماً أضرب مثلاً إخواني وأخواتي بمسألة الأبعاد، الأديب أبوت Abbott في القرن التاسع عشر وضع رواية مُلهِمة – ألهمت علماء الفيزياء – اسمها Flatland، أي الأرض المُسطَّحة، رواية لطيفة جداً جداً، تكلَّم فيها عن عالم من المخلوقات تعيش في بُعدين فقط، نحن الآن نعيش في كم بُعد؟ في ثلاثة، طبعاً وفقاً لألبرت أينشتاين Albert Einstein في أربعة، انتبهوا! أينشتاين Einstein قال لا، هناك أربعة أبعاد، والبُعد الرابع – The fourth dimension – هو الزمان، وسنعود بعد قليل إلى هذا، المثال الثاني عندي سيكون عن موضوع الزمان وعلاقة الله – تبارك وتعالى – بالدهر والزمان، إلى آخره! وسنرى أن هذا التصور يحل مُعضِلات، فقال هناك عالم ثنائي البُعد، مثل هذه الورقة الآن، أي نُقطة عليها أو أي مُربَّع أو أي مُثلَّث أو أي دائرة هي كائن أو موجود يعيش في عالم ببُعدين، أبوت Abbott تصور هذا العالم كالتالي: الدائرة الأكبر المخلوقات، وهذا بالطريقة الإغريقية طبعاً، أكمل المخلوقات هي الدائرة، أكمل الطرق والمسارات هي الدائرة، وبعد ذلك عندنا المُثلَّث وهو أنقص، هذا قد يكون شرطياً أو ضابطاً، المُربَّع محافظ البلدة، هذا أكمل قليلاً، الدائرة هي السُلطان أو الملك – King – الخاص بهم مثلاً، وهكذا! النُقطة هي الخادم الفقير أو ربما العبد، وهناك الخط وما إلى ذلك، قال هذه الكائنات، قصة طويلة عريضة! انتبهوا معي، الآن هذه الكائنات المُختلِفة إذا أردنا أن نجعلها ضمن مدينة أو بلد فنحدها بحدود أربعة، هي خطوط! لا يستطيع أي كائن منها أن يخرج من هذه الحدود، أي الجدران عندهم هي هذه الخطوط، أليس كذلك؟ هذه جدران يتحرَّكون ضمنها، لكن إذا وصلوا إليها لا يستطيعون خرقها، كما لا نستطيع نحن أن نخترق هذا الجدار الصُلب الثخين السميك، هم لا يستطيعون أن يخترقوا هذه الحدود، لأن عالمهم ثنائي الأبعاد، جميل وواضح هذا!

الآن تصوَّروا أن واحداً منا – من الكائنات ثلاثية الأبعاد، أنت أو هي – جاء – مثلاً – بأصبعه – يُقال بأُصْبُعه أو بأَصْبُعُه أو بإِصْبَعه، إلى آخره! لها ستة ألوان من الضبط – ووضعه – نفترض مثلاً – في فراغ هذه الدولة هكذا، طبعاً هم لن يروا البنان منه، ماذا سيرون هم؟ سيرون فقط دائرة صغيرة، وهو الجُزء الذي يُلامِس العالم ثنائي البُعد من أُصبعه، هكذا! سيرون رأساً صغيراً، سيقوولن من أين جاء هذا الملك؟ والملك عندهم هو الدائرة، عجيب! كيف أتى هذا؟ ليس عندهم مفهوم سقط من السماء، لأن لا تُوجَد سماء، لا يُوجَد بُعد ثالث، انتبه! حاول أن تكون كائناً ثنائي التفكير، المسألة صعبة جداً، خيال! فسيحتارون جداً ويضربون أخماسهم في أسداسهم، ما الذي حصل يا جماعة؟ لا يفهمون، أكيد عندهم إيمان بالله، وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ۩، سيقولون هذا بقدرة الله، مُعجِزة وخارقة! كيف؟ لا نعرف، جيد ألا يدّعي هذا الأصبع النبوة أو الإلهية وإلا سيُصدِّقونه بعد ذلك إذا ادّعى الهرطقة والتجديف، سيستغربون جداً.

الآن هناك ما هو أعجب من هذا، نفترض أن هذا المُربَّع يا إخواني فيه أجزاء ويتحرَّك بها، (ملحوظة) سأل أحدهم الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم عن رغبته في إحضار شيئ لإيصال الفكرة، فقال له لا، هذه أفكار بسيطة لا تحتاج إلى هذا، ثم استتلى قائلاً هذا المُربَّع فيه أجزاء في الداخل، لنفترض أن جُزءاً مُدوَّراً فيه يُمثِّل – نفترض – أحشاءه، وحدث له مغص أو حدث له ألم من أي نوع مثلاً، اضطراب ثنائي! جئت أنت بأُصبعك هذا ووضعت هذا الأصبع على أحشائه، سيُجَن جنونه، سيُستطار هو! سيقول يُوجَد شيئ يتحرَّك في داخلي، يُوجَد شيئ دخل في أحشائي دون أن يشق جلدي، طبعاً لأن هذا عنده مُستحيل، كيف هذا؟ أنت لكي تصل إلى أحشاء هذا المُربَّع لابد أن تفعل ماذا؟ لابد أن تشق الجلد، ما الجلد؟ أضلاعه، أليس كذلك؟ أنت لم تشق أضلاعه، أنت فعلت ماذا؟ دخلت عليه من فوق، لأنك في البُعد الثالث، تعيش في ثلاثة أبعاد، لكن هذا سيُجَن، سيقول الكرامة الإلهية، كرامة للعبد الصالح، الله أنقذه من المغص والوجع بمسألة إلهية غير مفهومة، إذا كانوا يدرسون السيرة عن نبي ثنائي الأبعاد – محمد – ولا يفهمون أنه ثلاثي الأبعاد فسيقولون والله بلغنا نحن أيضاً أن نبينا محمد شُق صدره، أكيد بنفس الطريقة الإعجازية هذه.

على كل حال بين قوسين أقول بحسب تصوري العلمي الذي أعتقده (إن النبي – نعم – استُخرِج قلبه وطُهِّر وأُخرِجت منه العلقة في نظري دون أن يُشَق شقاً حقيقياً، هذا الشق أكيد من أوهام الناس وتصوراتهم اضطرارياً، اضطروا أن يفهموا هذا، أنا الذي أعتقده بيني وبين الله أن هذا حصل دون أن يُشَق صدره، نعم استُخرِج القلب وأُخِذ دون أن يُشَق، بنفس الطريقة هذه، الأبعاد! لأن الملك ينتمي إلى عالم رباعي الأبعاد، يستطيع أن يفعل فيك هذا كما فعلته أنت في عالم ثنائي الأبعاد دون أن تشق صدر مَن هناك، انتبه! هذه نفس الطريقة، نفس الطريقة دخول الملك على رسول الله أو نزوله عليه دون أن يخرق السقف ودون أن يشق الحائط ودون أن يدخل من الباب، لأنه طبعاً من عالم رباعي، يأتي إليك فجأة، (ملحوظة) سألت إحدى الحاضرات عن الدليل، فقال لها الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم الدليل العلم والتصورات العلمية، انتبهي يا أختي، ثم تساءلت عن كيفية انتماء الملك إلى عالم رباعي الأبعاد، فقال له فضيلته سنقول هذا إن شاء الله، والجن أيضاً! والجن ينتمون إلى عالم رباعي الأبعاد، سنقول هذا، وطبعاً فكرة الأبعاد بهذا المُستوى فكرة علمية، انتبهي! لم تكن معروفة حتى لدى الفلاسفة ولا لدى المُفكِّرين، فكرة علمية مُعاصَرة إلى حد مُعيَّن أو مُحدَثة، فإذن هذا سيتم).

الآن – انتبهوا – الموجود ثلاثي الأبعاد لو أسقطناه بطريقة الظل – أسقطنا ظله، أي الــ Shadow الخاص به – على عالم ثنائي الأبعاد كيف سيكون شكل الظل؟ ثنائي الأبعاد، هل هذا واضح؟ الآن لو تخيَّلنا كائناً يعيش في عالم رباعي الأبعاد وأردنا أن نُسقِط ظله في عالمنا كيف سيكون شكل ظله؟ (ملحوظة) قال بعض الحضور ثلاثي الأبعاد، فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم أحسنتم، ثلاثي الأبعاد، وهو ظل! قال تعالى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ ۩، عجيب! ظل مُثلَّث، أي ظل بثلاثة أبعاد، وهو ظل، عجيب! إذن هو ظل ينتمي لموجودات تسكن في عالم رباعي، لأن ظل الكائن الثلاثي في عالمه يكون ثنائياً، أما أن يكون ظلاً ويكون ثلاثياً فهذا يعني أن الموجود لابد وأن يكون رباعي الأبعاد.

بهذه المسألة أيضاً يُمكِن أن نُضيء إضاءة جديدة قوله – تبارك وتعالى – في الأعراف إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ ۩، تواتر عن الصحابة وعن الصالحين في كل الأعصار من هذه الأمة المرحومة رؤية الجن، إمامنا أبو عبد الله الشافعي قال مَن ادّعى أنه رأى الجن أسقطت شهادته، والحق ليس مع إمامنا – رضوان الله تعالى عليه – أبداً، واستشهد بالآية وليس فيها موضعاً لما استشهد عليه، لماذا؟ الآية لا تقول إنه يراكم هو وقبيله وأنتم لا ترونهم، لو قالت هذا لتم له الاستدلال، لكن الآية أدق بكثير، طبعاً ما كان يُمكِن أن نفهم الآية بهذه الدقة في هذا العصر بالذات إلا في ضوء تصور الأبعاد هذا، هذا أنار المقام! الآية تقول مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ ۩، أي إذا بقيَ هذا الجني أو إذا بقيَ هذا المخلوق الشيطاني في عالمه الرباعي فمن المُستحيل أن تراه أنت، لكن هو يراك بسهولة، ويستطيع أن يلمسك وأن يلعب بحواشيك، كيف؟ يلعب بأشياء دون أن يخرقك، كما لعبت أنت بحواشي الثنائي دون أن تخرق جلده، عجيب! وتشعر بأشياء غريبة وتتخبَّط، لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ۩، يحصل هذا! لكن – انتبهوا – الآن لو أن هذا الجني أو الشيطان دخل في عالمك الثلاثي ماذا سيحدث؟ هم عندهم اللياقات هذه! كما قال سيدنا عمر في حديث ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، قال إنه لا ينبغي لأحد أن يزول – أي يتغيَّر – عن خلقته التي خلقه الله عليها، ولكنهم سحرة كسحرة الإنس، فإذا رأيتم شيئاً من ذلك فأذِّنوا، حتى يهربوا! إذن واضح أن هذا المخلوق الرباعي – الجن مثلاً – عنده لياقة أن يدخ في عالمك الثلاثي، فإذا داخل رأيته، تراه ويراك الآن، انتبهوا! القرآن لم ينف هذه الإمكانية، بل أشار إليها من طرف خفي حين قال مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ ۩، أي إذا بقيَ هو في الحيثية التي هو فيها الآن فسيكون من المُستحيل أن تراه، ستعجز! كما يعجز هذا الثنائي أن يرى الثلاثي، لأن الثلاثي ببُعد إضافي، العمق! وهذا غير مُتاح للثنائي، يستحيل هذا أن يراني، يستحيل! ونحن يستحيل أن نرى الرباعي الأبعاد، مُستحيل! لكن إذا نزل هو إلينا كما نزلنا نحن هنا فسيستطيع الإنسان أن يراه، وهذا الذي يُفسِّر رؤية أبي هُريرة لهم وقد سرقوا من تمر الصدقة، رؤية مُعاذ بن جبل، ورؤية عمر بن الخطاب، كيف هذا؟ هؤلاء الصحابة رأوا الجن ورووا عنهم قصصاً ومجاريات مشهورة، فضلاً عن إجماع الصالحين وتواتر الحكايات عنهم، طبعاً أنا أعرف مَن رأى الجن، رآهم حقيقةً! هذا موجود في كل زمان، وهذا شيئ جميل بالمُناسَبة.

المُثقَّف الجميل والرجل الفاضل مُصطفى محمود – رحمة الله عليه – التقى بهم، وأنا أعشق هذا الإنسان لما ألمسه فيه من روحانية، مُثقَّف من طراز رفيع وجيد، وفي نفس الوقت الرجل مُتروحِن، مُصطفى محمود جاءته فترة – هو لم يُلحِد، لم يُلحِد يوماً، لكنه شك – أخذته فيها الشكوك، رحلتي من الشك إلى الإيمان! لكنه لم يُلحِد يوماً، رحمة الله عليه، مُصطفى محمود اضطُر أن يدخل هذه التجربة، أراد دليلاً ملموساً، لم يقتنع بأشياء يقرأها ويسمعها، طبعاً كان ذكياً وقال لو ثبت وجود الجن – وبلا شك ينتمون إلى عالم الغيب – هذا سيُسهِّل علىّ الاعتقاد بسائر المسائل المُخبَر عنها في الشرع المُطهَّر، القرآن أخبر عن الجن، ولم يقل بطريقة محمد عبده جراثيم وميكروبات والكلام الفارغ هذا، لا! هذه مخلوقات يا أخي، تتكلَّم وتتزاوج وتتناسل بين بعضها البعض، موجودة! وأحياناً تظهر لنا، فمُصطفى محمود خاض هذه التجربة والتقى بهم، نعم التقى بهم! وقال بعد أن التقى بهم أثَّر ذلك علىّ من ناحية صحية، واعترته أمراض كثيرة! مُصطفى محمود عمل أكثر من خمس وعشرين عملية جراحية في جسمه، رحمة الله عليه، أثَّر فيه جداً هذا! لكن أكسبه يقيناً تاماً، رحمة الله عليه، صار المُثقَّف الذاكر، المُثقَّف العارف، وهذا جميل! اليوم – للأسف الوقت يمشي بسرعة – سنتحدَّث عن هذا، عن الإيمان كتجربة.

المُفكِّر الإسلامي الكبير محمد عمارة – مد الله في عمره – يقول أنا في الفترة التي كنت فيها يسارياً كنت يسارياً فقط باعتبار سياسي، لكنني ظللت مُحتفِظاً بعقيدتي الإسلامية الصافية، بسبب ماذا؟ يقول محمد عمارة، بسبب تجربة روحية خاصة – قال – أوقفتني على اليقين الكامل، وها هو حي يُرزَق محمد عمارة، يتحدَّث عن نفسه! وعلى كل حال أنا دائماً أدعو نفسي وإخواني وأخواتي إلى أن نجتهد حتى يحصل لكل منا تجربته ونُسخته الفريدة من التجربة الروحية التي تكشف عنه الغطاء بإذن الله تعالى، هذا ضروري!

لذا سُئل أحد الفلاسفة – فلاسفة الدين – ما هو في النهاية جوهر لُباب الدين؟ فقال التجربة الروحية الخاصة، إذا ما عندك هذه التجربة يبقى وضعك قلقاً، أليس كذلك؟ لذلك عادي اليوم أن تسمع عن مَن يشك وقد درس العلوم الشرعية، في الحقيقة لست الوحيد مَن سمع بهذا، قرأت هذا لكثيرين، يقولون حينما نخلو ببعض طلّاب العلوم الشرعية وبعض العلماء – وعلى بساط أحمدي كما يقول أحباؤنا المصريون، أي من غير تكلف، من غير خوف من العزل والعتب والملام – يُعرِبون عن شكوك عقدية في بعض المسائل، يقول لك هنا أشياء أشك فيها، وخاصة الذين يُفكِّرون ويقرأون كثيراً، يذهبون في الفكر! لذلك لابد أن يكون لكل منا تجربة روحية خاصة، وأن نعمل على ذلك، هذه التجربة لا تحصل بالتمني ولا بالكسل والدعة، تحصل بالعبادة، بالوله بالذكر، بعمل الصالحات، بتنقية الروح، بتنقية النفس، وسنعود إلى هذا في مُحاضَرة طريق العارفين ومنهاج العارفين بإذن الله تبارك وتعالى.

ونعود إلى موضوع الأبعاد، انتبهوا الآن، لم نصل إلى ما نُريد، الكلام ليس عن الملائكة والجن، الكلام عن رب العالمين، بطريق التقريب والتمثيل، يا إخواني الآن الذي يعيش في عالم ثلاثي له سُلطة وهيمنة حضورية على موجودات العالم الثنائي، عادي! ننال منهم ولا ينالون منا، نُدرِكهم ولا يُدرِكوننا، نتصرَّف فيهم ولا يتصرَّفون فينا، واضح! في العالم الرباعي لهم سُلطة، لكن بمقدار ماذا؟ ما يسمح به الله، ومن هنا الله لم يقل أنا لم أجعل للإنسان سُلطة على الجان، هل الله قال هذا؟ هل قرأتم هذا؟ هل تُوجَد آية تقول هذا؟ لا تُوجَد، لكن القرآن دائماً يُؤكِّد أنه لم يجعل للشياطين ولا لإبليس سُلطة علينا، سُلطة قهرية! لماذا؟ لأن الله لو لم يحل بينهم وبين ذلك لكان لهم ذلك علينا، يستطيعون هذا، عادي! يتصرَّفون فينا، ويُخربِطون كل حياتنا، دون أن نملك دفعاً عن أنفسنا، قال – تبارك وتعالى – في سورة الرعد لَهُ مُعَقِّبَاتٌ – أي لابن آدم – مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ۩، وروى أبو يعلى الموصلي – رحمة الله عليه – في مُسنَده الشهير عن الإمام عليّ – كرَّم الله وجهه – أنه قال ملائكةٌ يحفظون ابن آدم من بين يديه ومن خلفه، ولولاها لتخطفته الشياطين إرباً إرباً، لذلك الله لم يسمح لهم أن يتسلَّطوا علينا وأن يكون لهم هذا الحضور المُهيمن علينا بفضل الله، لكن الله لم ينف تسلطنا عليهم لأنه لا سبيل لنا عليهم، نحن في عالم ثلاثي، وهم في عالم أقوى يُسوِّغ لهم هذا التحكم على كل حال.

في الحديث الصحيح قال ما بعث الله نبياً في أمته إلا جعل له مُحدَّثين، قالوا ما مُحدَّثون يا رسول الله؟ قال تنطق الملائكة على ألسنتهم، حين يشاء الله ويأذن للملك الملك يتكلَّم بلسانك، يركب لسانك دون أن تدري، فتنطق بما لا تُريد، فيكون في نطقك الحق والتوفيق والرشاد بإذن الله، وهذا من تسلطهم عليك حضورياً، لهم اللياقة هذه، لكن بمقدار ما يأذن الله تبارك وتعالى، جيد!

الآن لو تخيَّلنا عالماً خماسي الأبعاد سيكون لعمّاره وقطّانه سُلطة حضور وهيمنة وتصرف في العالم الرباعي والثلاثي والثنائي، أليس كذلك؟ سُلطة الرباعي في الثلاثي والثنائي، سُلطة الثلاثي في الثنائي، جميل! وهكذا لنا أن نُسلسِل الأفكار.

الآن السؤال عن الله – تبارك وتعالى – الذي أبدع كل شيئ وخلق الوجود من لا شيئ، لا إله إلا هو! وواضح وبدهي بالنسبة لنا كمُوحِّدين أنه غير مُتمكِّن وغير مُتزمِّن، أليس كذلك؟ كيف يتمكَّن وهو الذي مكَّن المكان؟ وكيف يتزمَّن وهو الذي زمَّن الزمان؟ لا إله إلا هو، فالمكان من خلقه والزمان من خلقه، أليس كذلك؟ جميل جداً! معنى ذلك أن الله – تبارك وتعالى – فوق الأبعاد كلها، ماذا لو تخيَّلناه – ولله المثل الأعلى، وفرض المُحال ليس بمُحال، وفرض الكفر ليس بكفر، لكن هذا للتقريب والتمثيل – يقبع في البُعد الحادي عشر؟ ماذا لو قلنا إن مجموع الأبعاد الحاكمة في الوجود كلها من عرشه إلى فرشه عشرة – والله – تبارك وتعالى – يقبع في البُعد الحادي عشر؟ أستغفر الله، أعوذ بالله من زلات اللسان وزلقات الجنان، لكن هذا للتمثيل كما قلنا، قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ۩، فرض! هذا فرض المُحال وليس بمُحال، القضية الشرطية صادقة مع استحالة أحياناً وقوع مشروطها أيضاً، أليس كذلك؟ في علم المنطق القضية الشرطية تكون صادقة أحياناً مع أن المشروط مُستحيل، وهي صادقة! مثل هذه القضية، قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ۩، لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ۩، وهي قضية مُستحيلة، وقوع الشرط مُستحيل.

إذن نعود، لو افترضنا أن الله – أستغفر الله العظيم، أستغفر الله – يقبع في البُعد الحادي عشر ما معنى ذلك إذن؟ سيكون معناه له الحضور المُهيمن الكامل والتصرف والسُلطة المُطلَقة على كل عمّار وقطّان الأبعاد العشرة، عجيب! فكيف لو تصوَّرنا – وهذا العقل يُعطيه والعلم، أي تصور العلم – الله – تبارك وتعالى – الذي لا يتمكَّن في مكان ولا يُوجَد في بُعد؟ الآن بدأنا نفهم سر قوله تعالى وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ۩، وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ۩، مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِنْ ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ۩ في المُجادِلة، وطبعاً فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ۩، ومثل هذه الآيات كثير! أيضاً قول النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – إذا وقف أحدكم يُصلي مُستقبِلاً قبلته فلا يُبصِقن في قبلته فإن الله في قبلته، كما في البخاري، الله في قبلتك، عجيب! ما هذا؟ ليس هذا فحسب، النبي – عليه السلام – يقول اربعوا على أنفسكم – عند أبي موسى -، إن الذي تدعونه ليس أصم ولا غائباً، وإنه أقرب إلى أحدكم من حبل راحلته، أقرب والله! وهو أقرب من حبل الوريد طبعاً، وهذا في القرآن، في حديث الترمذي والذي نفسي بيده لو أدلى أحدكم بحبل إلى الأرض السابعة لوقع على الله، ما معنى هذا؟ كما قلنا هو في كل شيئ – لا إله إلا هو – لا بمُمازَجة، ولا في شيئ لا بمُفارَقة، كيف يُمكِن أن نُقرِّب هذا؟ هذه طريقة علمية مُبسَّطة ومُوحية، مُلهِمة! يُمكِن أن تُقرِّب هذا لعقول البشر، بغير هذه الطرق العلمية أو الطرق حتى الاستدلالية الفلسفية للأسف قد يتورَّط عقل كبير – لن أذكر أسماء من أسماء شيوخ الإسلام – في تصور أنسنة لله للأسف، أدخل في التجسيم، أدخل في التشبيه والتجسيم! وفعلاً لا يمتنع، للأسف لا يتمنع! تجد كلاماً لبعض كبار الأئمة يقول لك فيه نعم، الله – عز وجل – نحن نتوجَّه إليه ونرفع أيدينا إلى السماء، لا إله إلا الله! ما قصدك يا إمام ويا شيخ؟ ماذا تُريد أن تقول؟ هل تعني أن الله فعلاً فوق رؤوسنا هكذا؟ هل هو عالٍ علواً مكانياً؟ ما معنى المكان في حق الله؟ ليس شرفاً أصلاً لله أن تقول إنه عالٍ في المكان، لأنك مكَّنته في النهاية، أليس كذلك؟ جسَّمته! أنت تُريد أن تُجسِّمه وأنت تُنقِّص من قدره، لا إله إلا هو! وهو لم يُخبِر عن نفسه بهذا المعنى قط، لم يفعل هذا مرة، أوحى إلينا بالعكس تماماً، لا إله إلا هو! لكن هم خافوا من أن يتورَّطوا وأن يتغوَّروا في شُبهة الحلولية والوحدة كما فعل بعض الصوفية الجهلة، أليس كذلك؟ أو الزنادقة، أي زنادقة الصوفية، فقال لا، لابد أن يكون عالياً في المكان، وهذا غير صحيح يا أخي، أنت الآن حين تقول تعالى الله عما يقولون هل تُريد تعالى في المكان أو تعالى في الصفة والمكانة؟ طبعاً في الصفة والمكانة وما ينبغي له، تعالى الله! إذن سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ۩ ليس الأعلى في المكان، لا معنى للمكان في حقه، وإنما في المكانة وما ينبغي لجلاله، لا إله إلا هو! هذا معنى الأعلوية في حق الله عز وجل، فإذا لم تفهم هذا بشكل واضح ودقيق قد تتورَّط في ميول ونزعات تشبيهية وتجسيمية، وفي النهاية كما قال بعض شجعان الأئمة من أهل السُنة والجماعة أمثال هؤلاء لا يعبدون الرب الكامل – لا إله إلا هو – الجليل، إنما يعبدون وثناً يظنونه الله، للأسف! ليس هذا الله الذي دل وعرَّف بنفسه.

لكي نُوضِّح هذا المقام نأتي بالمثل الثاني، وهو المُتعلِّق بعلاقة الله بالزمان الآن، ليس بالفضاء والمكان والأبعاد وإنما بالزمان، سوف نرى هذا، وسوف يكون أجمل هذا بإذن الله، طبعاً هناك شُبهات كثيرة في هذا الموضوع وتُطرَح دائماً وخاصة في موضوع القضاء والقدر، أن الله – تبارك وتعالى – علم كل ما نفعله وما سوف نفعله وما نحن فاعلوه، وكتب هذا وقدَّره وزبره في لوح محفوظ، بعد ذلك تنشأ شُبهات، أين العدالة الإلهية؟ وإذا كان قدَّر علىّ وكتب كل شيئ فما حظي في المُخالَفة؟ هل أستطيع أن أُخالِف أو لا أستطيع؟ إذا كنت لا أستطيع فإذن أنا مجبور ومُسيَّر، فلماذا يُعذِّبني إذا أخطأت أو اجترمت أو اجترحت ما لا يرضاه؟ إلى آخر هذه الشُبهات التي لا معنى لها، سوف ترون أنها شُبهات تافهة تماماً، وناشئة عن ماذا؟ ناشئة وناجمة عن أنسنة الله، وتصوير الله – كما قلت – على أنه إنسان مُكبَّر، صورة مُكبَّرة من إنسان، وهو ليس كذلك، لا إله إلا هو! ما القضية؟ القضية تتعلَّق بالزمان، لو فككنا لُغز الزمان أو حاولنا واجتهدنا أن نفك شيئاً من ألغزية هذا اللُغز سنفهم – إن شاء الله – فهماً أكثر تنزيهاً لله وأكثر طمأنينة لأنفسنا – بإذن الله – وقلوبنا، أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ۩، وبالمُناسَبة هذا له علاقة ببرهان الفطرة، أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ۩، الآية تقول بصيغة حصرية القلب مخلوق بكيفية وهيئة بحيث لا يحصل له الطمأنينة إلا بشيئ واحد وهو ذكر الله، لا إله إلا هو! أي شيئ غير ذكر الله لا يحصل به الطمأنينة، أليس كذلك؟

في علم التسويق – ويُوجَد إخوة مُتخصِّصون هنا – يلعبون على هذا المبدأ، يقولون كل سلعة يشتريها الإنسان ولو عمل حتى على تحصيلها عشر سنوات سيملها، لنفترض – مثلاً – أن الأمر يتعلَّق بسيارة فارهة جداً جداً بثلاثمائة ألف يورو أو حتى بنصف مليون، قالوا نعرف أنه بعد فترة – ليست طويلة – سيملها، سيسأمها ويتشوَّف إلى شيئ آخر يبعث إليه الارتياح والبهجة والشعور بالسعادة، علماً بأن هذا إزاء كل شيئ، كل شيئ! الذي أكبر آماله أن يُحصِّل شهادة دكتوراة في العلم الفلاني بعد أن يُحصِّلها – أحياناً في نفس الليلة – وبعد أن يُهنأ وما إلى ذلك يجلس ويشعر بنوع من التعاسة، ويستغرب! يقول عجيب، لِمَ أنا تعيس؟ ينبغي أن أُجَن من الفرحة، لكنني لست بذلك المجنون، لا! هذا طبيعي، هذا يحدث مع كل البشر، لكن في الآخرة – مثلاً – هذا لا يحدث، قال تعالى كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا ۩ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا ۩، لا يُوجَد شيئ في الدنيا لا يبغي عنه الإنسان حولاً، كل شيئ لو وُضِعت فيه – والله – ستبغي عنه التحول، ستقول مللت، لا أُريده، لا أُريد هذا الشيئ، لو أعطيناك الآن أجمل ما تشتهي من بيوت الدنيا وقصورها وحورها وأنهارها الطيبة – إلى آخره – بعد فترة ستقول مللت من هذا الوضع يا أخي، هذا شيئ مُقرِف، أخرجوني إلى الصحراء الجرداء، أُحِب الصحراء وأُحِب كذا وكذا، نُخرِجك إلى الصحراء فتقول ما هذه الصحراء الميتة المُدوية؟ أرجعوني إلى الجنة الغناء، هذا الإنسان المسكين! 

یتمنى المرء في الصیف الشتاء          فإذا جاء الشتاء أنكره.

فھو لا یرضى بحال واحد                  قتل الإنسان ما أكفره.

لماذا؟ لأن الإنسان – كما قلت – مخلوق قلبه بهيئة لا يملأها إلا حب الله وذكر الله، لا إله إلا هو! برهان الفطرة هذا يا إخواني، هذا برهان الفطرة!

ونعود إلى موضوع الزمان، سأبدأ بمثال بسيط أو مثالين، ثم نُعمِّق الشرح قليلاً حتى نستوعب، وهذا المثال ضربته في خُطبة قبل يسيرة، لنتصوَّر رجلين أحدهما يجلس على سقف غرفة ما – فوق يجلس – ويُراقِب الشارع وما يمر فيه، وأخاً له أو صاحباً في داخل هذه الغرفة يُراقِب الشارع من خلال جاسوس – Spy – صغير أو عين سحرية صغيرة لا تسمح له برؤية أكثر من سيارة واحدة – مثلاً – أمامه، أي إلى مسافة ثلاثة أمتار أو أربعة أمتار على الأكثر، جميل! الآن هذا الشخص القابع في الغرفة ينظر، فلا يرى إلا سيارة واحدة، هي السيارة الحاضرة الآن التي تمر، في حال المرور! فإذا مرت صارت في اعتباره السيارة الماضية، التي مرت، تعقبها السيارة الثانية، وهو يتوقَّع أن هناك ثمة سيارةً ثالثةً ستأتي من رحم المُستقبَل، لأنه لم يرها إلى الآن، فصارت عنده السيارات ثلاثاً: سيارة ماضية، سيارة حاضرة، وسيارة تأتي في المُستقبَل، جميل! الآن أخوه أو صاحبه الذي يجلس مُقتعِداً مكانه فوق الغرفة يرى السيارات الثلاث في لحظة واحدة، كله عنده حاضر! لا يُوجَد حاضر ومُستقبَل وماضٍ، كله حاضر! لماذا؟ في نفس الحيز هم، سُبحان الله! لأن الشخص الذي يجلس فوق الغرفة مُتحرِّر أكثر من قيود المكان، فتحرره من قيود المكان جعله أكثر استيعاباً للحضور الزماني، إذن تُوجَد علاقة!

أينشتاين Einstein كان ذكياً طبعاً، حين عمل تحويلات لورانس Lorntz ورأى أن هناك تداخلاً في الأحداث – في الــ Events بلُغة الفيزياء – بين الزمان والمكان – قال في النهاية إن الوجود كله ليس ثلاثي الأبعاد، بل رباعي الأبعاد، الزمن يُشكِّل بُعده الرابع، ولا يُمكِن التفكيك، مُستحيل! هو هكذا دائماً، وبالمُناسَبة لكي نفهم بطريقة فلسفية ما معنى البُعد سنقول إن البُعد يا إخواني شيئ غير المُكوِّنات وغير الأجزاء، كيف؟ الآن حين نُريد أن نبحث عن حيوان مُعيَّن – مثلاً – سنجده، حين نُريد أن نبحث  عن آلة مُعيَّنة سنجدها، حين نُريد أن نبحث عن نجم أو عن كوكب سنجده، حين نُريد أن نبحث عن شيئ ما سنجده، هذا بحث عن أجزاء وعن موجودات عيانية خارجية، هل البحث عن المكان وعن الزمان على هذا النحو؟ مُستحيل! لو ظللت عمر المكان تبحث عن الزمان لن تجده، لن تقول قبضت عليه مُتلبِّساً بشيخوخة فلان أو بتشييخ فلان، أنا قبضت على الزمان، لا! لم تقبض عليه أبداً، لا يُبحَث عن الزمان بحثك عن الأجزاء والأشياء، لأنه ليس جُزءاً في الوجود، انتبه! ليس جُزءاً في الموجود – أي الزمان – أبداً، الزمان كالمكان بُعد، بُعد من الأبعاد حاكم على الموجودات، المكان في النهاية هل تستطيع أن تقبض عليه؟ هل تستطيع أن تقبض على المكان؟ مُستحيل! المكان مفهوم تجريدي مأخوذ ومُنتزَع من موضعة الأشياء إزاء بعضها البعض، أليس كذلك؟ إزاءا بعضها البعض!

لنفترض الآن مثلاً – سنفترض هذا وهو صعب جداً على العقل، مُرهِق جداً وغير مُمكِن – ألا شيئ – لا تقل لي حتى الهواء، لا هواء ولا ذرات ولا أجسام ولا جُسيمات، ولا شيئ – سينعدم مفهوم المكان، طبعاً ينعدم بالكامل! وحتى ينعدم مفهوم الزمان، هذا معنى كون الزمان والمكان بُعدين، ليسا أشياء وليسا أجزاء، فلا يُبحث عنهما بحثنا عن الأجزاء والأشياء، ومن هنا حماقة الملاحدة في كل العصور الذين يُريدون أن يلمسوا الله أو أن يروا الله تبارك وتعالى، لماذا؟ لأنهم يبحثون عن الله بحثهم عن الأشياء والأجزاء، وهذا غير صحيح! الله وجود يتعالى عن كل هذه المفاهيم، إذا كان المفاهيم البُعدية أو الأبعدية لا يُبحَث عنها على هذا النحو فكيف بالمفروض أن يكون هو رب الأشياء والأبعاد؟ لا إله إلا هو! إذن يُمكِن أن نبحث عنه لكن بطريقة عقلية، ليس بطريقة البحث في الأشياء الطبيعية، يقولون نحن لم نلمسه، أوجدونا الله حتى نُقِر به، هذه طريقة حمقاء جداً في التفكير! وإلا على هؤلاء أيضاً أن يُنكِروا وجود الزمان ووجود المكان ووجود كل المفاهيم العقلية التي أيضاً لا تُدرَك ولا يُبحَث عنها على نحو البحث عن الأشياء، مثل مفهوم العلية، مفهوم الضرورة والحتم، ومفهوم الاستحالة والوجوب والإمكان، أليس كذلك؟ كل هذه المفاهيم لا يُبحَث عنها بنحو البحث عن الأشياء والأجزاء أبدأً.

على كل حال نعود الآن، إذن هذا أول مثال وقد فهمناه، مثال ثانٍ يا إخواني، مثال ثانٍ له علاقة بالتزامنية أو الآنية، وهو المفهم الذي أنكره ألبرت أينشتاين Albert Einstein، لا يُوجَد شيئ اسمه تزامنية في الكون، مُستحيل! القضية نسبية بشكل تام، كيف؟ وما معنى التزامنية؟

نحن نعرف يا إخواني أننا نرى الأشياء بحسب الضوء الساقط منها على شبكية عيوننا، فإذا كانت الأشياء بعيدة عنا – نفترض – ثمان دقائق ضوية كالشمس فسوف نراها بعد ثمان دقائق، شمسنا تبتعد عنا مائة وخمسين مليون كيلو متر أو تسعين مليون ميل، يصلنا الضوء منها بعد كم؟ بعد ثمان دقائق، لأن الضوء يسير بسرعة ثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية، فهو يحتاج فعلاً إلى ثمان دقائق بالضبط تقريباً، فنحن حين نرى الشمس لا نراها في اللحظة التي هي فيها في واقعها، نرى صورتها قبل ثمان دقائق، مُستحيل وأنت على كوكب الأرض أن ترى الشمس الآن، لا يُمكِن أن يقول أحد أنا أرى الشمس الآن، مُستحيل! أنت لا تراها الآن في آناها، تراها في آنك أنت، أما هي فأنت تراها في آناها هي قبل ثمان دقائق، بتبسيط آخر حين تقف أمام البحر أو أمام الأُفق المُنداح أمامك وترى الشمس تتضيف بلُغة رسول الله للغرب أو تضْيف للغروب – بدأت تتدلى أو تدْلى للغروب، أليس كذلك؟ وتراها الآن لامست الأُفق – أنت ترى الشمس قبل ثمان دقائق، لذلك فجأة تراها سقطت في البحر، في أقل من لحظة! لأن هذه صورة، هذه صورة وهي ليست للشمس طبعاً الآن، هي صورة للشمس قبل ثمان دقائق، حين ينقطع الشعاع الخاص بها يختفي كل شيئ، فأنت لا ترى الشمس حين تغرب، تراها بعد غروبها بكم؟ (ملحوظة) قال بعض الحضور بحوالي ثمان دقائق، ثم استتلى الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم قائلاً ما سر أنك ترى العالم مُنير؟ طبعاً هو مُنير بالضوء الذي خرج منها ولا يزال يصل إلينا، جميل! هذا يعني لو كوكب أو نجم يبتعد عنا مليون سنة لن نراه، يا ويلتاه، يا حسرتاه! لن نستطيع أن نراه إذن، مُستحيل! نحن نرى صورته قبل كم؟ مليون سنة، تقول يا ربي أُريد أن أراه الآن، عندي رغبة في أن أراه الآن، لكن لن تستطيع، يستحيل! ولو بأي مُعجِزة، لا تستطيع، بالطريقة هذه لا تستطيع، إذا كنت ترى بنفس الطريقة البشرية العادية عبر الضوء فلن تستطيع.

الآن نأتي ونُضمِّن هذا المثال أشياء أُخرى، على كوكب الأرض حدثت حوادث مُعيَّنة، منها طوفان نوح، في بعض الأخبار أن الرسول – صلوات ربي وتسليماته عليه وآله وأصحابه وأتباعه – ليلة المعراج رأى حوادث كونية في الماضي، هناك أُناس قالوا أُعيد تمثيلها، لكن ما أُعيد تمثيلها، رآها هي نفسها بإذن الله، أنا أقولها هكذا وسوف نرى لماذا، ومن ذلكم رأى طوفان نوح النبي، رأى طوفان النوح! رأى الطوفان وهو يطوف ورأى الناس ورأى نوحاً، شيئ عجيب! رآه عليه السلام، وبعد ذلك رأى أُناساً في الجنة ورأى أُناساً في النار، رأى الغيب، رأى المُستقبَل، عجيب! ما الذي يحدث هذا؟ سوف نرى ما الذي يحدث.

الآن نفترض أن هذا الحدث هو طوفان نوح عليه السلام، جميل! هذا الحدث كيف يُمكِن لأي قاطن على كوكب قريب من الأرض – مثلاً – أن يراه؟ لو افترضنا أن هناك كوكباً يبتعد عن الأرض – نفترض مثلاً – كالقمر وهو تابع، تابع كوكب! أي يبتعد عنا بكم؟ بثانية وثلث الثانية، لأن القمر يبعد عن أربعمائة ألف كيلو متر، أي بعد ثانية وثلث الثانية يصل الضوء، فأكيد مَن على القمر لو كان عندهم مقراب أو تلسكوب Telescope سوف يرون حادث الطوفان بعد ثانية وثلث، أليس كذلك؟ سوف يرونه ثم ينقطع، انتهى! سوف يصير ماضياً، فهو ماضٍ عندهم وماضٍ عندنا، لكن لو هناك مَن يبتعد عن الأرض – ليس ثانية وثلث الثانية – وإنما مائة سنة بعد كم سوف يرى – لو عنده مقراب – طوفان نوح؟ بعد مائة سنة، ماذا لو هناك ثالث يبتعد عن الأرض عشرين ألف سنة ضوئية؟ (ملحوظة) قال بعض الحضور إنه سيرى الطوفان بعد عشرين ألف سنة ضوئية، ثم استتلى الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم حديثه قائلاً لنفترض الآن أن عمر نوح هو عشرون ألف سنة، وهذا يبتعد عشرين ألف سنة، انتبهوا! الآن هنا هل مضى على نوح عشرون ألف سنة؟ نقول نعم، نفترض إلى الآن فعلاً مضى عليه عشرون ألف سنة، رابع يجلس على كوكب ويبتعد عشرين ألف سنة ويوم، غداً إن شاء الله سوف يرى طوفان نوح، اليوم عشرون وغداً واحد وعشرون، سوف يرى غداً طوفان نوح، ليس اليوم وإنما غداً، سوف يضع التلسكوب Telescope وفعلاً لن يرى شيئاً اليوم، غداً سوف يرى الطوفان، وسوف يقول يا رب ما الذي يحدث في الأرض؟ ما هذا السخط الذي نزل عليهم؟ هذا الشيخ الجليل الطيب واضح أنه إنسان صالح، يضع أشياء وما إلى ذلك، ما الذي يحصل هذا؟ سوف يرى الطوفان، غداً سوف يراه، عادي!

سوف تقول لي عجيب، الآن – بعون الله – علماء الفلك هؤلاء وعلماء الفيزياء يُفكِّرون في آلة الزمان وعندهم أفكار وخيالات عجيبة، وهؤلاء لا يعجزون، جن! هناك مَن سماهم جن البشر، هناك مَن قال هم جن البشر، لكن هؤلاء علماء، ماذا لو نجح هؤلاء العلماء – ليس شرطاً في آلة الزمان، فهذا الكلام تهويمي قليلاً – في اصطناع تقنية السفر بين الكواكب والنجوم بالأبعاد؟ عندهم رغبة في اختراع شيئ لاختراق الأبعاد، ويكون أسرع من الضوء بما لا يعلمه إلا الله، ليس شرطاً أن يكون هذا بسرعة الضوء، لا! ومن ثم تدخل في تناقضات ومُفارَقات نسبية أينشتاين Einstein، لا! هذا بالأبعاد، فيُمكِن أن تنتقل من مكان إلى مكان آخر في جُزء أو في كسر من الثانية زمنياً، في كسر! مع أن المسافة بينهما في غير أنفاق الأبعاد هذه يُمكِن أن يعبرها الضوء في مليون سنة، وأنت تعبرها في كسر، وبالمُناسَبة أقول بين قوسين (هذا الذي تقريباً يُمكِن أن يُقال حصل مع النبي ليلة المعراج)، كل كلام العلماء ومنها العلّامة الشعراوي – رحمة الله عليه – عن نسبية أينشتاين Einstein غلط غلط غلط غلط، نسبية أينشتاين Einstein لا يُمكِن أن تُفسِّر لنا المعراج، هي ضد المعراج تماماً، بحسب أينشتاين Einstein كان النبي المفروض حين يرجع من هذه الرحلة الإلهية العُلوية يجد الأرض مُر عليها بلايين السنين، لكن الماء الذي توضأ به النبي كان لا يزال يسيل، والفراش الخاص به كان لا يزال دفيئاً، هذا عكس أينشتاين Einstein، انتبهوا! لا تقل لي أينشتاين Einstein – ألبرت أينشتاين Albert Einstein – قال كذا وكذا، أينشتاين Einstein لم يقل هذا، هذا عكس النسبية، لكن هذا يُمكِن أن يكون سفراً في الأبعاد، فالآن إذا أمكن لأي واحد منا إن شاء الله – وعسى أن يكون ذلك قريباً – أن يُسافِر بالبُعد – مثلاً – إلى كوكب يبتعد عنا – نفترض – مُدة عمر نوح فضلاً عن يومين زائدين، فبعد يومين من الآن – بعون الله – يضع التلسكوب Telescope ويظل قاعداً ليل نهار – بوّاب السماء، حارس السماء – ومن ثم سوف يرى طوفان نوح كما رآه النبي ليلة المعراج، شيئ عجيب! عجيب جداً، يا ربي! شيئ يُصيب بالجنون، هذا يعني ماذا إخواني وأخواتي؟ ما مفهوم الماضي والحاضر والمُستقبَل وكل هذه الغُمة الكبيرة؟ هذه أشياء نحن ألَّفناها ونُفصِّل فيها ونُصدِّقها، نظن أنها حتى حاكمة على الله، وكأن الماضي علينا هو ماضٍ على الله، حاشا لله! والمُستقبَل عندنا لابد وأن يكون مُستقبَلاً عند الله لكن الله اخترقه بعلمه، لا! ليس الموضوع هكذا أبداً أبداً، دعونا نُقرِّب هذا بمثال ألطف من هذا، انتبهوا!

(ملحوظة) رغب بعض الحضور في أن يبقى الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم يتحدَّث في نفس المثال، فقال فضيلته الآن عندنا في نفس مثال نوح شخص ابتعد عشرين ألف سنة، ومن ثم سوف يراه بعد عشرين ألف سنة، شخص ثانٍ ابتعد سنة، ومن ثم سوف يراه بعد سنة، شخص ثالث في الأرض، ومن ثم سوف يراه في وقته إذا كان في تلكم الحقبة والمكان، شخص رابع يتبعد مليون سنة، ومن ثم سوف يراه بعد مليون سنة، وشخص خامس يبتعد خمسة عشر بليون Billion سنة، تقريباً عند أطراف الكون! الكون قطره سبعة وعشرون بليون Billion سنة، نصف القطر ثلاثة عشر فاصل سبعة مليارات سنة، لكي نعرف القطر كله لابد أن نضرب نصف القطر في اثنين، فهناك شخص يبتعد – كما قلنا – خمسة عشر بليون Billion سنة أو حتى عشرين بليون Billion سنة، نفترض! هذا بعد عشرين بليون Billion سنة سوف يرى طوفان نوح، عجيب! هذا حدث واحد، ويُرى في لحظته أو بعد سنة أو مائة سنة أو بعد مليون أو بعد عشرة ملايين أو بعد عشرين بليوناً Billion، حدث واحد! فماذا لو افترضنا أن هناك قوة مُهيمنة أوسع من المكان كله؟ افترضوا هذا، كيف سترى الأحداث؟ حضورياً، كلها حضورياً! أليس كذلك؟ والأحداث بالنسبة للراصدين ضمن المنظومة الكونية هذه غير مُتزامِنة، في حقي يقع الآن، في حقه بعد سنة، في حق هذا بعد مليون، في حق ذاك بعد بليون Billion، في حق غيره بعد خمسة عشر بليون Billion، والقوة المُهيمنة على هذا والمُحيطة – بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ ۩، الله مُحيط، لا إله إلا هو – كل شيئ عندها حاضر، المُحيط هذا كل شيئ عنده حاضر، في الحضور! يُوجَد شيئ اسمه الحضور المُطلَق، انتبهوا! هذا الحضور المُطلَق.

أنا حين شرحت هذا للدكتور المسيري – رحمة الله عليه – في أول لقاء لي معه – وهذا كان سبب علاقتنا القوية جداً جداً إلى أن توفاه الله – عبَّر عن انفعال شديد جداً، وهو قبل ذلك كان يحكي عن مُعضِلات فلسفية عنده في وحدة الوجود والقضاء والقدر وما إلى ذلك، فقلت له يا أستاذنا عندي طريقة أُخرى، قال لي كيف؟ لم يكن يعرفني فشرحت له، قال لي هذا كلام خطير، خطير جداً، لا يُوجَد مثله، لا يُوجَد مثل هذا الكلام! هل هذا كلامك أنت؟ أُريد هذا الكلام، أُريد أن أقرأه، وصارت العلاقة قوية بيننا والحمد لله، يُقدِّم حلولاً ويحل مُعضِلات كبيرة في الفكر الإنساني والدين والفلسفة، تُحَل مُعضِلات كبيرة! أعتقد الآن ذهبت مسألة القضاء والقدر وكيف علم وكتب ونحن مُلزَمون وما إلى ذلك، القضية ليست على هذا النحو يا إخواني أبداً أبداً، القضية أطلق وأوسع من هذا بكثير، بكثير! فكل شيئ هو في حالة حضور مُطلَق عند الإله الكُلي القدرة، الكُلي العلم، والكُلي الإحاطة، لا إله إلا هو! أرأيتم؟ كل شيئ.

هذه الطريقة المُبسَّطة والعلمية يُمكِن أن يستوعبها طفل حتى في الإعدادية، يُمكِن فعلاً أن تُقرِّب بعض المُشكِلات وبعض المفاهيم المُعضِلة والصعبة والمُرهِقة في العقائد في ذهن الإنسان المُسلِم والمُسلِمة، فلا بأس أن نصطنع مثل هذه الطرق وهذه المُقارَبات المُستنِدة إلى فرضيات ونظريات وتصورات علمية، لا بأس! لا بأس لأنها تُقرِّب المعنى وتُغذي الخيال، أليس كذلك؟ وفي النهاية نُقرِّر مُطمئنين مُوقِنين الله وراء هذا وذلكم كله، نعم! وأكثر قدسية وأعظم تقديساً وسُبحانية من كل ما يخطر على بالنا، وما عرف الله إلا الله، وما عرف الله – أي حق المعرفة وتمام المعرفة – إلا الله، لكن نحن نعرفه على قدر ما يفتح لنا، حتى الأنبياء! حتى رسول الله وهو سيد العارفين وأولهم ورأسهم ما عرف الله المعرفة المُطلَقة ولا يستطيع وما ينبغي، لذلك هو يقول في حديث الشفاعة الطويل في الصحيحين فيفتح علىّ بمحامد لم يفتح بها على أحد من قبل، ولا على الرسول؟ نعم، النبي يوم القيامة يحدث له هذا التجلي، وهذا التجلي أعظم مما كان في الدنيا، تجليات الله تبارك وتعالى! وهناك تجليات جمالية وهناك تجليات جلالية، إن ربكم غضب اليوم غضباً لم يغضبه من قبل قط، ولا يستطيع لا آدم ولا نوح ولا إبراهيم ولا موسى ولا عيسى أن يُكلِّمه، لا إله إلا هو! فيقول محمد – صلوات ربي وتسليماته عليه – أنا لها، أنا لها. هذا تجلٍ بالجلال، لا إله إلا هو! بالغضب وبالقهر، شيئ مُخيف، تنقطع منه النياط، وهناك تجلٍ بالجمال، قيل يا رسول الله دعوت ربك فبماذا أجابك؟ قال أجابني بما لو اطلعتم عليه اطلاعاً لتركتم الصلاة، لن نذكر الحديث كله لأن عمر أراد ألا يُبلِّغ هذا الحديث، لأن الناس تتواكل، فهذا تجلٍ بالجمال، لا إله إلا هو! هذا تجلٍ بالجمال، على كل حال فيفتح عليه – عليه الصلاة وأفضل السلام – بمحامد لم يُفتَح بمثلها على أحد من قبل قط، وطبعاً هذا نوع من التعرف الجديد على عظمة الله تبارك وتعالى، فلو عاش البشر إلى أبد الآبدين لظلوا يُواصِلون التعرف على الله، إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ۩، شيئ لا يُبلَغ – كما قلت لكم – كمحطة جغرافية – حاشا لله – أبداً، ولا يُنتهى إليه عند حد، فليس دونه مُنتهى ولا وراءه مرمى، هو نهاية النهايات، الأول بلا أولية والآخر بلا آخرية، وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ۩، لا إله إلا هو!

تقريباً الوقت أوشك على الانتهاء، بقيَت ربع ساعة، بعض الأخوات وبعض الإخوة قالوا لدينا أسئلة ويُحِبون أن نتداول معها، لكن قبل الأسئلة اسمحوا لي في عشر دقائق أن أضرب أيضاً لكم أنموذجاً ثالثاً لكيفية تدعيم علم الكلام وتجديد بعض مسائله بالاستناد إلى حقائق العلم العصرية، وهذا – إن شاء الله – آخر أنموذج وأختم به المُحاضَرة، وهو ما يتعلَّق بنظرية الخلق المُستمِر في نظرية علم الكلام السُني، الأشاعرة والماتريدية ومن حُسن الحظ ابن رشد أيضاً سلَّم بهذا، سلَّم بنظرية الخلق المُتجدِّد أو الخلق المُستمِر، هذه النظرية برَّرها السادة الأشاعرة بما برَّر به المُعتزِلة الموضوع نفسه، وهو أن العرض لا يبقى آنين أو زمانين، العرض! شرحنا لكم الجوهر والعرض، العرض هو محمول الجوهر باستمرار، أعراض تتعلَّق بالحياة وقدرها، أعراض تتعلَّق بالطبيعة وصفاتها ونعوتها، جميل! والعرض لا يبقى زمانين، يفنى ثم يُحدِثه الله، ثم يُفنيه ثم يُحدِثه، وهكذا إلى أن يشاء الله، إن شاء – تبارك وتعالى – ألا يُجدِّد خلق الأعراض المحمولة لجوهر مُعيَّن هذا يعني في النهاية إفناء الجوهر ذاته، فيفنى وينتهي من الوجود، هكذا! هكذا يُحدِث الله إفناء الأشياء إذا أراد، لا إله إلا هو، جميل!

العرض إذن لا يبقى زمانين، من لوازم وتوال هذا المبدأ أو هذا الاعتقاد – إذا اعتقدنا بهذا يا إخواني – ماذا؟ من لوازمه وتواليه أن الأشياء لا تُخلَق مرة واحدة، بل تظل تُخلَق بشكل مُستمِر، فأنت الآن تُوجَد وتُعدَم، تُوجَد وتُعدَم باستمرار! طبعاً هذا الخلق المُتجدِّد سريعٌ جداً، لمحي! كما قال وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ۩، واسمحوا لي أيضاً بين قوسين أن أتكلَّم بخصوص هذه الآية سريعاً: (الله يقول أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ۩، لمح البصر الآن في الفيزياء يُساوي عُشر الثانية تقريباً، أو أقل بقليل من ذلك حتى، لكن عُشر الثانية لمح البصر، الله يقول أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ۩، هل هناك ما هو أقرب؟ طبعاً، هناك ما هو أقرب بكثير، أليس كذلك؟ الملي ثانية Millisecond، الميكرو ثانية Microsecond، والنانو ثانية Nanosecond، بعد ذلك عندنا حتى الفيمتو ثانية Femtosecond، واحد على عشرة أس خمسة عشر من الثانية، أحمد زويل! عندنا الأتو ثانية Attosecond، والزبتو ثانية Zeptosecond، وآخر شيئ عندنا واحد على عشرة أس ثلاثة وعشرين، وهناك مفهوم جديد أيضاً اسمه الكرونون Chronon، الكرونون Chronon كان في البداية عشرة أس ناقص ثلاثة وعشرين، بعد ذلك طوَّروه  وأصبح من المُمكِن أن يكون في النهاية عشرة أس ناقص ثلاثة وأربعين من الثانية، له علاقة بطول بلانك (Planck Length (ℓP، المُهِم هذا هو! لأن الكرونون Chronon هو ماذ؟ الوقت الذي يقتضيه الضوء في قطع البروتون Proton، أي قطر البروتون Proton، البروتون من رُتبة عشرة أس ناقص خمسة عشر متراً، عجيب! أي جُزء من ألف تريليون جُزء من المتر، هذا البروتون Proton! والضوء يمشي بسرعة ثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية، إذن متى سيقطع الضوء هذا؟ في كرونون Chronon، عشرة أس ناقص ثلاثة وعشرين من الثانية، تخيَّلوا! شيئ عجيب، قالوا لا، لا يزال هناك شيئ أصغر، وهو عشرة أس ناقص ثلاثة وأربعين، هذه أقل جُزئية “فتفوتة” زمانية تصوَّرها العقل الفيزيائي النظري، الكرونون Chronon من رُتبة عشرة أس ناقص ثلاثة وأربعين، هذا له ما يُدعِّمه تدعيماً جيداً في العقيدة، ما هو؟ يا جماعة نقول الإنسان استطاع أن يضع يده أو يضع عقله بالأحرى – أصابع عقله – على أحداث واقعة أو مُمكِنة الوقوع، الكرونون Chronon الذي هو عشرة أس ناقص ثلاثة وعشرين واقع فعلاً، هذا يحدث! الفوتون Photon يقطع البروتون Proton في هذا الزمن، عجيب! فوتون Photon يقطع بروتون Proton في كرونون Chronon، حلوة هذه ومسجوعة! فمعنى ذلك أن الله – تبارك وتعالى – هو الذي سمح بظهور هذه الأحداث العجيبة المُدهِشة التي تتم في كرونون Chronon ثانية، أليس كذلك؟ إذن في قدرته – في حيز القدرة – موجود ومُمكِن إحداث أحداث في أقل من هذا القدر أيضاً، لكن أكثر ما تصوَّره العقل الفيزيائي النظري هو الكرونون Chronon من رُتبة عشرة أس ناقص ثلاثة وأربعين من الثانية، طبعاً هذا عدم في النهاية، باللُغة العددية هذا عدم، كيف تقول لي جُزء من تريليون تريليون تريليون وبعد ذلك ربما هناك مليار من كذا وكذا؟ احسبها! اجمع اثني عشر مع اثني عشر مع اثني عشر، الناتج هو ست وثلاثون، إذن هناك ثلاث وأربعون، لأن حاصل جمع أربع وثلاث هو سبع، أي جُزء من عشرة ملايين تريليون تريليون تريليون جُزء من الثانية، يا حبيبي هل تتخيَّل هذا الرقم؟ هذا شيئ لا يُتخيَّل بالمُناسَبة، شيئ لا يُمكِن تخيّله، انظر إلى قول الله – صدق الله – إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ۩، قديماً كانوا يقولون كيف أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ۩؟ لكن الآن لمح البصر سرعة سلحفائية، لمح البصر سرعة إملالية، سرعة شلاء، مشلولة! ليست بشيئ هذه، لكن ما معنى ذلك؟ ما معنى أن الله – عز وجل – يُدير المملكة ويُدبِّر الأحداث في هذا الزمن؟ في نهاية المطاف معناه يُدبِّرها إذا شاء في لا زمن، ونحن قلنا هذا مُمكِن إذا دعَّمناه بنظرية حضور الأشياء كلها عند الله في لا زمن طبعاً).

ونعود إلى موضوع الخلق المُستمِر، قال كل شيئ يُخلَق يُفني، يُفنى يُخلَق، في لا زمن! تشعر بأنك موجود، أنت موجود! بالعكس إذا انقطع عنك المدد للحظة تغرق في بحر العدم، تعود إلى العدم الأول، هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا ۩، طبعاً لم يكن، عدم! تغرق في العدم لو انقطع عنك المدد في جُزء من الكرونون Chronon، أكيد تغرق في العدم مُباشَرةً، لا إله إلا الله! هذا هو، هذا هو الخلق المُستمِر.

سأعرض لكم شيئاً عجيباً، وركِّزوا معي فيه يا إخواني، في سورة الرعد الله – عز وجل – يقول في أواخرها لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ۩ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ۩، علم العقيدة الكلاسيكي التقليدي القروسطي معروف وسائد الآن عند الكل، من المُقرَّرات أن لكل شيئ أجل، لا يتقدَّم ولا يتأخَّر شيئ في الأعمار أو الأرزاق أو الأشياء، وهذا غير دقيق وغير صحيح لا قرآناً ولا سُنةً، القرآن هنا يقول يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ۩، طبعاً العقل الإسلامي تعاصت عليه هذه النظرية كما يُقال وتكاءدها، لأنها تضرب بعض مُسلَّماته، لأن الله – تبارك وتعالى – أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ۩، وفرغ من تقدير كل شيئ وأُجمِل الكتاب على ما فيه كما قال النبي في حديث الترمذي، أليس كذلك؟ انتهى! وفُرِغَ من أهل الجنة وأهل النار، انتهى! أُجمِل الكتاب، فكيف الآن تقول لي لا، يُوجَد شيئ يُمحى، يُوجَد شيئ يُثبَت، ويُوجَد شيئ كذا وكذا؟ ما القصة إذن؟ هل هذا هو البداء الشيعي؟ هذه نظرية غريبة عجيبة ومرفوضة طبعاً، ما القصة؟ هل علم الله قاصر؟ وهل يُوجَد تغير في الإرادة؟ لكن ليس هذا هو الموضوع، الموضوع أعقد من هذا بكثير، سوف نرى الآن كيف هذا، وأيضاً من منظور ديني ومن منظور فيزيائي، الموضوع أعقد من هذا!

قال تعالى في أول الأنعام ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ۩، عجيب! الآية تتحدَّث عن ماذا؟ أجلين، قَضَىٰ أَجَلًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ۩، لا إله إلا هو! في فاطر وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ ۩، يا الله، غريب! يُمكِن أن يُعمَّر الإنسان ويُمكِن أن يُنقَص من عمره، يقولون قصف الله عمره أو الله يقصف عمره، وفعلاً يُوجَد قصف للأعمار، انتبهوا! المُعتزِلة سموه الاخترام، لكن حدَّدوه بالقتل وما إلى ذلك، لو شخص قتل آخر أو سمَّمه – أي لم يمت بطريقة طبيعية – قالوا هذا مُخترَم، وهذا تفكير ساذج، يُقارِب الحقيقة لكنه ساذج، القرآن لا يزال أدق من هذا!

في الأحاديث النبوية الأمر على هذه الوتيرة من الوضوح، النبي قال مَن أراد أن يُبسَط له في رزقه وأن يُنسأ له – وفي رواية أُخرى بشكل واضح وأن يُؤخَّر له في أثره – في عمره – أو يُبارَك له في عمره – هناك ألفاظ وروايات – فليصل رحمه، عجيب! قال يُبارَك له في عمره، فهمنا هذه البركة، العمر هو هو لكن فيه بركة، لكن ماذا عن يُؤخَّر له أو يُنسأ له؟ النسيئة هي التأخير، هناك ما يُسمونه بربا النَساء أو ربا النسيئة، إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ ۩، أي التأخير، يُؤخَّر! النبي يقول هل تُحِب أن يُؤخَّر لك في عمرك؟ طبعاً – والله – أُحِب، كلنا نُحِب هذا! الإنسان لو عاش ألف سنة سيُريد سنة زائدة أيضاً، نُحِب الشيئ هذا! فالنبي ذكر هذا، في حديث صحَّحه الشيخ ابن تيمية – رحمة الله عليه، شيخ الإسلام – وابن القيم وكثيرون – حديث رواه ابن منده وغيره – قال رأيت الليلة عجباً، وذكر مرائي كثيرة، قريبة من عشرين! ورأيت شاباً جاءه ملك الموت ليقبض روحه، فجاءه بره بوالديه فأخَّر عنه ملك الموت، النبي يحكي هذا بشكل واضح!

بعد ذلك الدعاء والقضاء يعتلجان بين السماء والأرض، أيهما غلب غلب، عجيب! في حدث أحمد بسند حسن ولا يرد القضاء إلا الدعاء، لا يرد! كيف يُرَد القضاء؟ قال لك يُرَد يا أخي، النبي قال لك يُرَد، والله قال يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ ۩، ما مُشكِلتك أنت؟ هل تُريد أن تفرض عقيدة من عندك على الله ورسوله؟ خُذ عقيدتك من النصوص ثم ابدأ في التفكير بعد ذلك، لكن هذا لا يتسق مع مُسلَّمات أُخرى عندنا، هذه المُشكِلة! وسوف نرى كيف يكون الحل، أحاديث كثيرة في هذا الباب! الحافظ السيوطي عنده رسالة في ذلك، انتصر فيها لزيادة الأعمار ونقصها، قال نعم، النصوص مُستفيضة في هذا، الإمام الشوكاني انتصر لنفس العقيدة، الإمام السفاريني – السفاريني وليس الإسفراييني، هذا أشعري – صاحب الدرة المُضية له رسالة في هذا الموضوع، انتصر فيها لنفس العقيدة، أكثر من عالم وأكثر من إمام انتصروا لهذا الاعتقاد، لكنه غير سائد وغير شائع، أي العقائد المُقرَّرة لا تتعرَّض لهذا.

الماتريدية عندهم مفهوم المُعلَّق والمُبرَم، له علاقة بالمحو والإثبات، قالوا يكون – مثلاً – ضمن المُعلَّق أن فلاناً رزقه اليوم كذا وكذا ديناراً، لكن إن بر أرحامه وأهله، فإن لم يبرهم نُقِص إلى كذا وكذا، وإن العبد ليُحرَم الرزق بالذنب يُذنِبه، عجيب! نفس القضية، الحديث يصب في نفس المصب، العبد يُحرَم الرزق، هذا يعني أن الرزق مكتوب له، مكتوب! يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ ۩، محاه الله، لن نُعطيك إياه، ذهب عليك هذا، غريب! ما حكاية المحو والإثبات هذه؟ وما حكاية الخلق المُستمِر؟ هناك علاقة بينهما، بين المحو والإثبات يا إخواني وبين الخلق المُستمِر، أعرف أن الموضوع مُعقَّد، لكن أنا مُتأكِّد أن هذا الموضوع بالذات من أكثر الموضوعات التي تُشعِر المُؤمِن والمُؤمِنة بجلال الله وعظمة الله ونزاهة الله وسُبحانيته، لا إله إلا هو! فعلاً تبدأ تلمس بعين اليقين، أن الله ليس مُجرَّد صورة مُكبَّرة من الإنسان، لا! شيئ مُختلِف تماماً، الصورة السائدة عندنا بحسب العقيدة أيضاً هذه المُقرَّرة لدينا أن الله – تبارك وتعالى – يفعل هذا على نحو إنساني، علمه مُحيط، لا إله إلا هو! عرف الأشياء كلها، كتبها وفرغ منها، انتهى! بعد ذلك يقوم على إخراجها إلى ساحة الوجود وإلى أنوار الوجود – من كتم التقدير إلى أضواء الوجود – شيئاً فشيئاً وينتهي كل شيئ، لكن الأمر ليس كذلك، حاشا لله! الله أكثر خالقية وأعظم تدبيرية وفاعلية من أن يكون هذا مثاله، أعظم من هذا بكثير! قال لا، كيف؟ سأقول لكم شيئاً، إن صدق وصح – لننطلق من هذه المُسلَّمة أو المُصادَرة، نُسلِّمها الآن – أن الإنسان لديه هامش يتحرَّك فيه، فإن هذا الهامش يُمكِن أن يتسع به رزقه ويُمكِن أن يضيق بناء على اختياراته وانبعاثاته وأعماله ونواياه، ويُمكِن أن يطول عمره ويُمكِن أن يقصر هذا العمر بناء على ما ذُكِر أيضاً، هذه لها لوازم شديدة الاشتباك والتركيب، لماذا؟ انتبهوا!

الآن انظروا إلى مُحاضَرتي هذه، أنا أتيت لأُحاضِر فيكم، وأقول بين قوسين (لم أُحِب أن آتي)، لأنني لا أُحِب الحديث، لا أكذب عليكم، والله العظيم! لا أعرف لماذا، لا أجد نفسي – أُقسِم بالله الذي لا إله إلا هو – في أن أُحدِّث أحداً أو أُعلِّم أحداً، وليس عندي ما يُقال، هكذا أجد نفسي! يشهد الله علىّ في ذلك، والله العظيم! ولا أتحدَّث إلا مُرغَماً كأن القدر يسوقني، لكن لا أُحِب أن أُحاضِر ولا أتكلَّم، انتهيت إلى هذه الحالة، لكن لنفترض أنني لم آت، ستتغيَّر أشياء وأشياء في مصير كل واحد منكم ومنكن، أليس كذلك؟ كل واحد منكم ومنكن بغير ما سمع مني اليوم كان سيكون له تفكير في أشياء مُعيَّنة على نحو مُختلِف، بعد أن استمع أشياء مني – مثلاً – بغض النظر وافق عليها أو خالفها – إلى آخره – بمقدار المُوافَقة أو المُخالَفة سيختلف تفكيره وتعاطيه مع هذه الأمور، وليس هذا فحسب، الأمر لا يقف عنده ولا عندها، هذا أيضاً يتعلَّق به علائق مع كل مَن له علاقة بهم، من صديق، من زوج أو زوجة، من صاحب، من حبيب، من أخ، من معرفة، وإلى آخره! قصة كبيرة، وعلى قدر ما تكون علاقاته واسعة وفاعليته مُنداحة سيُؤثِّر، كأن يكون كاتباً أو داعية، كالأستاذ الدكتور طارق، يُخاطِب الملايين! فهذا سيُؤثِّر أيضاً في الملايين، بحسب ما تُنتِج هذه الأفكار من فواعل جديدة لديهم، وبعد ذلك كل واحد حين يسمع يتأثَّر، فالحكاية ليس لها نهاية، جميل جداً! 

ليس هذا فحسب، دعونا نأخذ مسألة أبسط من هذه، فالحكاية لا تتعلَّق بمُحاضَرة من مائة وخمسين فرد من الكرماء والكريمات، وإنما باختيار بسيط، أنا أمشي في هذا الشارع مد إلىّ أحدهم يديه، يستعطيني! هل أعطيه أو لا أعطيه؟ دعوني أعطيه، لن أكون بخيلاً وسأُعطيه عشر يوروات، أعطيته عشر يوروات! بالعشر يوروات استطاع أن يشتري الدواء المطلوب لابنته الصغيرة التي أشفت على الموت، أنقذناها بهذا السبب دون أن ندري من الموت، كبرت البنت، تزوَّجت البنت، خلَّفت البنت، ومَن خلَّفتهم خلَّفوا خلفاً، قصة طويلة يُمكِن أن تمشي معها، إذا لم نُعطه فالبنت ستموت ولن تتزوَّج، ومَن كان سيتزوَّجها تزوَّج غيرها، اختلف مصير الكون كله، أليس كذلك؟ كل شيئ سيختلف، عجيب! تعرفون بداية هذه الفكرة كيف أتت إلىّ؟ كنت في مكة المُشرَّفة – شرَّفها الله وكرَّمها وزادها مهابةً وبراً – وسُبحان الله وضعنا أمتعتنا قاصدين إلى المدينة المُنوَّرة، على مُنوِّرها ألف مليون تحية وسلام، وسُبحان الله في لحظة التفت – ليس مني – وأنا جالس هكذا أنتظر وإذا بهذا الخاطر يهجم علىّ هجوماً عنيفاً، له علاقة بالمحو والإثبات، وأنا كان لي خُطبة قديمة قبل خمس عشرة سنة في هذا الموضوع، لكن هذا الشيئ جديد تماماً، قال لي اختيارك أو اختيارها أو اختيار أي واحد في أي موضوع مهما كان بسيطاً بمُقتضاه الله – تبارك وتعالى – يُعيد ترتيب الحوادث في الوجود كله، لأنها طبعاً لابد وأن يُعاد ترتيبها، ولا تترتب من تلقائها، ولا مكان للصُدفة والاعتباط، انتبهوا! ولا مكان للفوضى Chaos وما إلى ذلك، لا! وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ۩، أليس كذلك؟ يُعيد! هو الذي يُعيد ترتيب الأشياء، سيقول لي أحدكم لكن لست أنا مَن يختار وحده، أيضاً هو يختار وهي تختار، وكل واحد عنده اختيارات مفتوحة، انتبهوا! مع كل اختيار مُمكِن حاصل يُعاد ترتيب الأشياء من جديد في كل الكون، في كل ما له علاقة! فحتى وجودنا في الأرض هنا له علاقة بالكون نفسه، كل حركة، كل نفس، وكل شيئ! مبدأ محفوظية الطاقة، فهذه الضربة التي ضربتها الآن على المنضدة تبقى محفوظة إلى أقاصي الكون، وطبعاً بنسبة كسرية، كذا كذا كذا كذا – إلى آخره – ثم بعد ذلك فاصلة، بطريقة فلكية! لكن هذا موجود، مبدأ محفوظية الطاقة Conservation of energy، كل شيئ يُؤثِّر في كل شيئ، كما يقول الألمان كل شيئ مُرتبِط بكل شيئ، عندهم هذه الكلمة! يقولون كل شيئ مُرتبِط بكل شيئ.

شبَّهت مرة يا إخواني الترابط الكوني هذا بشبكة، لكَ أن ولكِ أن تتخيَّل مدى تعقيد هذه الشبكة، بلايين بلايين بلايين الدوائر والأشكال الهندسية في هذه الشبكة، لكن كلها من خيط واحد، لو قُطِع الخيط في مكان واحد انهارت الشبكة كلها من عند آخرها، أليس كذلك؟ وكلما تم تغيير أي شكل في هذه الشبكة تم تغيير في الأشكال كلها في نفس اللحظة، شيئ مُذهِل! هذا معنى خلّاقية الله، لا إله إلا هو! هُوَ الْخَلَّاق الْعَلِيم ۩، ليس خلق الأشياء بــ كُن فَيَكُونُ ۩ ثم قعد وأصبح فارغ شغل، حاشا لله، حاشا لله! هذا معنى ربوبية الله، هذا معنى أنه لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۩ أبداً، لا إله إلا هو! وهذا معنى عناية الله ولطف الله بخلقه، هذا هو مُقتضى التدبير، جميل!

بعد ذلك – قبل بضع سنين – لأول مرة قرأت نظرية الــ Multiverse لإيفرت Everett، هذا عالم كبير وعقل ضخم، وهو رجل سكّير، ولأنه سكّير استهزأوا به وقالوا هذا مجنون، ما الكلام الفارغ هذا؟ طبعاً هو عالم في الفيزياء، وبالذات مُتخصِّص في فيزياء الكم، النظرية الأكثر عملقة في الفيزياء المُعاصِرة على الإطلاق! أكثر حتى من نسبية أينشتاين Einstein، هذا الرجل ماذا قال؟ طبعاً أنتم تعرفون أن في فيزياء الكم وميكانيكا الكم هناك مبدأ عدم التعيين – Uncertainty principle – الخاص بهايزنبرغ Heisenberg – فيرنر هايزنبيرغ Werner Heisenberg – والذي يقول فيه إذا نجحنا أن نُعيَّن موضع أو موضعية جُسيم مُعيَّن بنسبة يقينية فتكون قدرتنا على تعيين الزخم الخطي له صفراً، أي لا شيئ، والعكس صحيح! لا يُمكِن في نفس الوقت أن نفعل هذا، أينشتاين Einstein كان يرفض هذا، كان يرفض أكثر مبادئ ميكانيكا الكم! وكان عنده تفسير، تفسير أينشتاين Einstein هو تفسير بورن Born، أي التفسير الخاص بماكس بورن Max Born، من قبل هو أوحى به، كان يقول أصلاً فيزياء الكم هذه موجودة ومُصاغَة ومُبلوَرة لدراسة سلوك جُسيمات، مجموعة وليس جُسيماً واحداً! هذا تفسير أينشتاين Einstein، ومن هنا يأتي هذا النقص والثُغرة، أي الفجوة Gap!

هناك مدرسة كوبنهاجن Copenhagen التي زعيمها نيلز بور Niels Bohr، كان يقول لا، المسألة ليست على هذا النحو، باختصار كان يقول نحن العلماء لسنا مُجرَّد مُراقِبين أو مُشاهِدين، بالعكس! نحن مُؤلِّفون للملحمة الطبيعية، لملحمة العلم الطبيعي! مُؤلِّفون ومُخرِجون ومُمثِّلون على المسرح، أي لنا داخلية أو جنبة في خلق هذه الأحداث، إيفرت Everett مشى مع هذا الخط لآخره بمُبالَغة غريبة جداً وخيالية، ماذا قال إيفرت Everett؟ قال في العالم الكمومي أي حدث يبرز إلى الوجود هو مُجرَّد احتمال من مجموعة كثيرة جداً من الاحتمالات، كلها مُمكِنة ضمن سيطرة نفس القوانين الكمومية، لكن ليست ضرورية، كان يُمكِن أن تكون غيرها وغيرها وغيرها وغيرها، وفي كل مرة ستختلف صورة الوجود وصورة العالم، لذا سُميت هذه النظرية المُعقَّدة جداً والغريبة بنظرية العوالم المُتعدِّدة Multiverse theory، نظرية العوالم المُتعدِّدة! اتهمه العلماء وقالوا هذا الرجل يُخرِّف، هذا كلام فارغ، ما هذا؟ غير مُمكِن! وسُبحان الله قبل حوالي خمس عشرة سنة بدأ يُرَد إليه الاعتبار وأُعيد قراءة نظريته، وطبعاً الرجل أُحبط – علماً بأن هذه رسالته للدكتوراة – وأدمن على الخمر بعدها ثم مات بسبب التسمم الكحولي، هذا الرجل هو إيفرت Everett!

هذه النظرية أرى أنها لها علاقة بقضية الخلق المُستمِر والخلق المُتجدِّد والمحو والإثبات من جهة أُخرى تماماً، صيغة عصرية وصيغة فيزيائية تتواكب أو تتسق وتتواءم مع نظرية المحو والإثبات، وأظن الآن أخذتم فكرة عامة عن هذا الأمر، هذا يا إخواني يُمكِن أن يُشكِل عليه فقط موضوع واحد، ما هو؟ كيف الله – تبارك وتعالى – إذا اخترت أنت خياراً ما من جُملة اختيارات يُرتِّب عليه أوضاعاً جديدةً ويُعيد ترتيب كل شيئ في الوجود؟ وكان يُمكِن أن تختار خياراً آخر وما إلى ذلك، ومن ضمن ذلك يُعيد ترتيب عمرك، عمرك كان سبعين سنة، لكنه سيجعله إحدى وسبعين سنة، عمرك كان إحدى وسبعين سنة، لكنه سيجعله الآن خمس وسبعين سنة، علماً بأن هناك تجربة هامة في أمريكا مذكورة في كل كُتب علم النفس الحديثة المُعاصِرة، هذه التجربة استمرت لربع قرن على مجموعة من الناس، بعض ربع قرن وجدوا في حي مُعيَّن – في مدينة شيكاغو في حي مُعيَّن – أن الأشخاص الذين كانوا يتواصلون بطريقة جيدة مع جيرانهم وأرحامهم وأصدقائهم – سُبحان الله – أعمارهم أطول بشكل لافت من الأشخاص المُنكفئين المُنطويين على ذواتهم والذين لا تواصل إيجابياً لهم مع المُجتمَع والناس، ولذلك النبي قال ولا يزيد في العمر إلا البر، النبي ذكر هذا الكلام من غير هذه التجربة، بوحي سماوي! قال البر، والبر كما يقول العلماء كلمة جامعة للتوسع في كل أعمال الخير، وأعظم أعمال الخير فعلاً هو رحمة الناس والتواصل مع الناس وعون الناس، إلى آخره!

الذي يُشكِل على هذه النظرية – وبه أختم إن شاء الله – موضوع الزمان، والحل عندكم الآن، تقولون كيف؟ الله كان قد قدَّر هذا قبل خلق السماوات والأرض أزلاً، وكتبه في اللوح المحفوظ قبل خلق الأرض بخمسين ألف سنة كما في الصحيح، أما أنه يعلمه – تقدير العلم – فهذا أزلي، والكتابة قبل خلق الأرض بخمسين ألف سنة، فإذن كيف هذا؟ إذا علم هذا أزلاً وقدَّره فيما مضى فكيف الآن يختلف التقدير؟ أقول لكم كل هذا أُجيب عنه بأمثولة الزمان، هذا مُجرَّد تقريب لنا، والحديث بالأرقام – بخمسين ألف وألف ومائة وسنة وغداً واليوم وبعد غد – كله تقريب لنا لكي نفهم، لأننا لا نستطيع أن نفهم أي شيئ خارج بُعد الزمان كما فهم إيمانويل كانط Immanuel Kant، كانط Kant قال مقولة الزمان هي مقولة من ثنتي عشرة مقولة يتعاطى معها العقل الإنساني لكي يُدرِك الأشياء، وإلا بغيرها لا يُمكِن أن يقوم إدراك في العقل الإنساني، ارجعوا إلى فلسفة كانط Kant، وهذا صحيح في الجُملة، لكن عليه انتقادات مُعيَّنة من ناحية فلسفية، المُهِم إذا ثبت لنا أن الأشياء موجودة كلها لدى الله وفي علم الله حضورياً في لا زمن فإذن هذا الاعتراض يسقط من تلقائه، أليس كذلك؟ وتبقى نظرية المحو والإثبات صحيحة، وفي النهاية نكسب ماذا؟ ليس تصوراً زائداً لعظمة الله وتنزيهه، هذا حق، هذا حق وموجود! لكن نكسب مزيداً من حريةً الإنسان ومن مسئولية الإنسان، يبدو أننا الآن صرنا نُوضَع بإزاء مسئوليتنا، نحن إلى حد بعيد جداً نسهو عن ماذا؟ عن مصائرنا، وبالتالي عن كل ما نأتي وما نذر.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: