إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيه، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ ۩ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ۩ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ۩ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ۩ وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ۩ وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ ۩ وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ ۩ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
انتهى عهد القرابين، تقريب البشر ضحايا على مذابح الآلهة الزائفة انتهى منذ أمد بحمد الله – تبارك وتعالى – فلا يجوز أن تُضحَّى حياة إنسان بإسم الإيمان أو بإسم الكفران، قال الله فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۩ وقال أيضاً وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ۩، والظلم هنا في أظهر التفاسير بمعنى الشرك، أي أن الشرك ليس سبباً في هذا الهلاك، وهذا قول الله – تبارك وتعالى – وليس قول فقيه ولا اجتهاد إمام، هذا نصُ كتاب الله تبارك وتعالى، وطبعاً هنا استخدم النص بالمعنى اللغوي وليس بالمعنى الأصولي لأن الآية تحتمل وجهاً آخر من وجوه التفسير كما هو معلوم، لكن النص هنا بالمعنى اللغوي لا بالمعنى الأصولي، فهذا نصُ كلام الله تبارك وتعالى وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ ۩ فالظلم هنا هو الشرك، وهذه سُنة الله في الخلق، لذلك قال لإبراهيم – عليه وعلى نبينا الصلوات والتسليمات – في القرآن الكريم قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ۩، فالكفار يعيشون تحت نفس السماء التي تُظلِّل المُؤمِنين، وكما قال عيسى – عليه السلام – أيضاً “والغيث ينهمر على الفجار انهماره على الأبرار”، أي أنه لا يُميِّز ديار الأبرار فيتقصدها من ديار الأشرار التي يجفوها، الغيث ينهمر على هؤلاء وهؤلاء مرةً واحدة، فهذا هو قانون السماء ولكنه ليس الذي يُراعيه الفقهاء، فقهاء الأديان المُختلِفة والشرائع المُتباينة لهم طريقة أخرى في التفكير ولهم طريقة أخرى في التعاطي مع هذه المسائل.
في يوم من الأيام كتب المُفكِّر الإنجليزي المُتحرِّر وداعم الثورات الأمريكية والفرنسية توماس بين Thomas Paine في كتابه الشهير حقوق الإنسان “لو أن رجلاً تقدَّم إلى البرلمان بمشروع قانون لكي يُصوَّت عليه ليقترح فيه على الرب – أستغفر الله العظيم ولكنه هكذا كتب – ألا يقبل عباده اليهود أو عباده الترك – يقصد المسلمين، هم يُسمون المسلمين بالسراسنة وبالترك لأنهم يظنون أن كل المسلمين كانوا تركاً – حيث يجب أن يرفضهم من ملكوته ومن هذه الدنيا ويجب أن يُفنيهم لأنهم غير مقبولين في الحياة أو تقدَّم بمشروع قانون يقترح على الله أن يقبلهم – أي اقبل أيها الرب عبادك الذين خلقتهم في هذه الحياة من اليهود ومن الترك، علماً بأنه ذكر اليهود والترك خصيصاً لأنهم كانوا مبغوضين جداً، فاليهود كانوا مبغوضين بغضة المسلمين هنا في أوروبا إلى وقت قريب، وتوماس بين Thomas Paine كتب هذا الكلام في أواخر القرن الثامن عشر ، لأنه مات في أول التاسع عشر في ألف وثمانمائة وتسعة – لروَّع الناس بهذا التجديف”، أي أن الناس سيرون أن هذا الأمر أمرٌ فظيعٌ جداً بل هو تجديف وهرطقة وزندقة وكفر، وسيعترضون على قول هذا ولكن المُفكِّر الذكي والذكي جداً والمُتحرِّر قال مُعلِّقاً “وحين إذن سيكشف التسامح في الشأن الديني عن وجهه الحقيقي بلا قناع”، علماً بأن توماس بين Thomas Paine كان لا يُؤمن بالتسامح بل كان يرى أن التسامح تلفيق وتقنيع، وحتى يكون المعنى أوضح لابد أن نذكر أن كلمة تسامح Tolerance تقنيع لضديده في ذهن الناس، فالناس يظنون أن هناك التسامح واللاتسامح أو التسامح والتعصب – Tolerance and Intolerance – ولكنه قال “هما شيئٌ واحد، التسامح تقنيعٌ – أي إلباس قناع – للتعصب، فليس اللاتسامح ضديد ونقيض التسامح بل بالعكس هما وجهان لعملة واحدة”، فهذا الرجل كان مُتحرِّراً جداً وذكياً، ولكن كيف يكون التسامح وجهاً لعملة وجهها الآخر هو اللاتسامح أو التعصب؟!
قال “لأن أحدهما يزعم لنفسه حق منع حرية الضمير”، أي أنا أمنعك بإسم التعصب وبإسم اللاتسامح – Intolerance – أن تُفكِّر وأن تعتقد بما تُريد وبما تختار بحريتك وبملء حريتك، فهذا ممنوع ولكن لا يستطيع هذا في الحقيقة إلا الله تبارك وتعالى، الله وحده له سُلطة على القلوب وعلى البواطن، ومع ذلك الله – تبارك وتعالى – شاء أن يُخلّي بيننا وبين بواطننا وشاء أن يتركنا أحراراً فنكفر به – والعياذ بالله – ثم نُرزَق ونعيش ولكن الحساب في الآخرة وقد يُعجَّل بعضه في الدنيا لحكمة عند الله تبارك وتعالى، ولكن البشر لا يُريدون هذه الخُطة التي ارتضاها الله لنفسه وهو كُلي القدرة – لا إله إلا هو – وكُلي العلم والخيرية والحكمة، ولكن يُريدون أن يتقمصوا دوراً الله – تبارك وتعالى – نزَّه نفسه عنه وهذا ظلم، فمن الظلم أن أكون مسئولاً ثم تُسلَب حريتي، إذن ما الذي يُبرِّر حتى مسئوليتي أمام الله؟!
إذا كنت سأكون مسئولاً إذن لابد أن أكون حراً حتى إزاء الله تبارك وتعالى، والله هو الذي قال هذا، قال الله في الحديث القدسي “إني حرَّمت الظلم على نفسي”، ولذلك من الظلم أن أسلبك حريتك ثم أُحاسِبك، هذا ظلمٌ بيّن صارخ فاقع!
هذه طريقة الله رب العالمين العدل – لا إله إلا هو – ولكنها ليست طريقة الأئمة والفقهاء في الأديان، ليست طريقة اللاهوتيين الثيولوجيين في الأديان كلها للأسف الشديد.
بعد أن قال توماس بين Thomas Paine “أحدهما يزعم لنفسه حق منع حرية الضمير” قال “والآخر – أي المُتعصِّب – يزعم لنفسه حق منح حرية الضمير”، أي أن أحدهما يرى أن له الحق في منع حرية الضمير – أي حرية الاعتقاد وحرية الباطن وحرية الاختيار – والآخر يرى ويزعم لنفسه حق منح هذه الحريات كأنه يقول أنا سأتسامح وأُعطيك، وهذا غير صحيح يا سيدي، فأنت لا تستطيع أن تُعطيني شيئاً لأن الله هو أعطاني هذا، والمفروض ألا يُسلَب ما أعطاه الله – تبارك وتعالى – بإسم أي شريع أو تقنين أو بإسم أي شيئ، ومن هنا قال توماس بين Thomas Paine ” كلاهما – والعياذ بالله – طغيان Despotism”، فهذا طغيان وهذا طغيان، الذي يزعم حق المنع كالذي يزعم حق المنح وبالتالي كلاهما طاغية، وهذا تفكير عجيب وفي مُنتهى الروعة، هذا يدل على روعة التفكير الإنساني.
الفيلسوف الألماني والعالم والأديب والشاعر الكبير جوته Goethe يكتب قائلاً “التسامح بمعناه الحرفي إهانة”، لأنه من الجذر Tolerate بمعنى يتحمل، أي أنني أتحمل بمشقة أو أتحمل بصعوبة، فالتسامح هذا يأتي بمعنى التحمل، وبالتالي إذا أُخِذَ التسامح بمعناه الحرفي فهو شيئٌ لابد أن يكون مؤقتاً وأن نتجاوزه وإلا فأن تتسامح معي معناها أنك تُهينني، فأنا أتحملك وأنت ضاغط على أعصابي حتى أتحمَّل خلافك لي وعقيدتك المشنوءة وإيمانك المغموز ومذهبك الباطل، ومن هنا قال جوته Goethe “التسامح بهذا المعنى إهانة”.
هؤلاء هم الناس الأحرار، وهؤلاء البشرية تدين لأمثالهم وأمثال أفكارهم بالعرفان وبالفضل ولا تدين للطواغيت والاضطهاديين والإقصائيين والتكفيريين والتفجيريين الذين يرون جريمةً أن تُدافِع عن حريات البشر.
بالأمس اتصل بي أحد إخواني المُفكِّرين وهو الدكتور رائد السمهوري وقال لي “وقعت في محنة قبل أشهر وفقدت وظيفتي وفُصِلت من وزارة الأوقاف” وإلى آخره، وحينما سألته عن السبب قال لي “سُئلت عن حد الردة فقلت أن في ترجيحي لا يُوجَد شيئ إسمه حد الردة وإن كان هذا عكس رأي الجماهير لكنني لست مع هذا الحد ولدي بعض المُبرِّرات التي ذكرتها تفصيلاً، فقيل لي إذن أنت تُدافِع عن المُرتَّدين”، وهذا شيئ عجيب، فما هذا المنطق الذي هو لا منطق أرسطي ولا منطق غير أرسطي ولا أي شيئ أصلاً؟!
فعل لو قلت – مثلاً – أن الذي يسرق مالاً في شُبهة لا تُقطَع يده أكون قد برَّرت السرقة وأكون بذلك قد قلت أن هذا الفعل يُعَد فعلاً طيباً؟!
نحن نقول أن الذي يكفر لا يُقتل فلا يُوجَد حد شرعي يُفيد بأنه يُقتَل، ولكن هذا لا يعني أن الكفر يُعَد شيئاً جميلاً ولا يعني أننا نُساعِد المُرتَّدين ونفرح بهم وننتشي بهم وندعمهم، بالعكس لا يُوجَد مُفكِّر مسلم أو عالم مسلم أو مُثقَّف مسلم إلا وهو يرجو من الخير للناس مثل ما وُفِّقَ وأُرشِد إليه بفضل الله تبارك وتعالى، ولكنهم قالوا له “أنت رجل مُتعصِب وتُدافِع عن المُرتَّدين”، وهذا شيئ غريب جداً جداً جداً، فأي منطق هذا يا أخي؟!
أنت إذا قلت بحد الردة سيعني ذلك أنك ذهبت إلى أقصى الشوط في تقرير وفي تأكيد وتعزيز عقاب أقصوي ما من سبيل إلى استدراكه واستثنائه، فحين تقطع الرأس سينتهي كل شيئ ولا سبيل للاستدراك، فلا يُمكِن أن تقول “آسف – Sorry – وسنُعيد المياه إلى مجاريها”، هذا لا يُمكِن فالإنسان انتهى لأنك أعدمته حياته بهذا العقاب الأقصوي، هذا أقصى عقاب مُمكِن أن يُنزَل ببشر، مع أنه لو عاش كما لا حظ الأذكياء من كل الطوائف والأديانات – أعني المُتحرِّرين – لكانت فرصة أن يهتدي يوماً من الأيام قائمة، ولكنك حين تقول “اقتله الآن لأنه مُرتَّد” يعني أنك قذفت به إلى جهنم وفق طريقتك طبعاً.
الآن كم وكم – ياما وياما بالعامية المصرية – يُوجَد من مُفكِّري الإسلام الكبار الذين كانوا ملاحدة ولكنهم اهتدوا وأصبحوا من كبار مُفكِّري الإسلام، علماً بأنني لن أذكرهم حتى لا تتشوَّه صورتهم عند العامة حيث أن بعض العامة قد يستنكر أن العالم الفلاني كان ماركسياً، فيُوجَد عدد الآن من ألمع مُفكِّري المسلمين وخاصة في مصر كانوا بالأمس البعيد والقريب ماركسيين وملاحدة، ولكنهم لم يكونوا – الحمد لله – في دولة تُطبِّق حد الردة فعاشوا واهتدوا بفضل القراءة والبحث والدرس والنقاش وصاروا الآن من المُنافِحين المُدافِعين عن حمى الإسلام، ولكن لو عاشوا في دولة تُطبِّق حدة الردة وفق طريقة مَن يُنادي بها لانتهى كل شيئ لأن هذا يُعَد عقاباً أقصوياً ومن ثم لا يُستدرَك ولا يُستأنف.
وبالمُناسَبة لابد أن أقول أن اللااستئنافية – إن جاز التعبير – هى طريقة كل الجامدين وطريقة كل المُتعصِبين اللامُتسامِحين حيث يُغلِق القوس بسرعة ولا يستأنف، فأي فكرة عند الواحد منهم غير قابلة للاستئناف وأي تقرير غير قابل للاستئناف، فيقول هو هذا وفقط كما لو كان مُنزَلاً، لكن هذا يعتصب صلاحيات الله ويتكلّم كأنه هو رب العالمين حيث أنه امتلك الحقيقة بضربة واحدة مرة وإلى الأبد، ولذلك هو غير مُستعِد أن يسمع ما لديك وغير مُستعِد أن يدخل في نقاش مُتكافيء حقيقي معك، ولكنه مُستعِد أن يُؤلّب وأن يُثير عجاجة وأن يُشوِّه وأن يأفك وأن يبهت وأن يكذب وأن يُصوِّر الأمور على غير حقيقتها بالمرة في سبيل أن يكسب جولةً هى في نهاية المطاف خاسرة عند كل العقلاء والنبلاء من البشر. ماذا يُريد توماس بين Thomas Paine من عبارته الجميلة الرائعة التي تروع حقيقةً ولا تُروِّع؟!
يُريد أن يقول: ينبغي علينا ألا نذهب في الادّعاء والتأله إلى حد يُخرِجنا من زاعمين الإيمان بالله إلى وثنيين حقيقيين، الله لا يرضى لنفسه هذا ولم يفعل هذا فلماذا أنتم تدعون ذلك لأنفسكم؟!
الله لا يشاء لا قدراً ولا شرعاً أن يفعل هذا، فالله لم يشأ شرعاً هذا فلم يأمر به ولم يشأ قدراً هذا – كما قلنا لكم – لأن اليهود يعيشون في مملكته مع المسلمين طبعاً ومع غير اليهود والمسلمين، فالكل يعيش لأن الله لا يستأصل أمة بظلم ماداموا مُصلِحين، ولكن الله يستأصل الحضارات والمدنيات حينما يكون هناك ظلم وتعادي وتباغي، لذلك الكلمة الذهبية التي قالها غير واحد من علماء المسلمين وإن اشتُهِرَت على لسان شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمة الله عليه – تُفيد بأن الله – تبارك وتعالى – يُقيم الدولة العادلة ولو كانت كافرة ويُقوِّض الدولة المُؤمِنة إذا كانت ظالمة،
فكونك تُصلّي أو تُرسِل لحية لا يُمثِّل ضمانة لك فتسمح لنفسك أن تحكم في الناس، علماً بأنني أقول دائماً أنني لا يهمني أن لك لحية أو أنك ترتدي دشداشة وأنت تحكمني ولكن الذي يهمني ماذا تُقدِّم لي أنت كرئيس كحاكم، فماذا تُقدِّم لي يا أخي؟!
هل محوت الأمية وأوجدت فرصاً للعيش الكريم وبسطت ومددت رواق الحريات للجميع وعلى قدم السواء وأنشأت دولة حديثة بالمعنى الذي يطمح إليه الإنسان في هذا العصر الحديث؟!
هذا الذي يهمني، فلا يهمني أن لحيتك طويلة أو أنك تُصلّي إماماً الجُمع والجماعات وتحفظ كتاب الله، فماذا يعنيني من هذا؟!
حتى هو يحفظ كتاب الله لا يُعَد مُبرِّراً لأن يحكم الناس، ومن ثم علينا أن ننتبه أن المُبرِّر لا يكون هكذا بل ينبغي أن يكون العدل، الله يقول لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ ۩ لأن الهدف والمقصد الأول والرئيس والأساسي من الدين هو لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ ۩ – الله أكبر – وليس لقتل الناس أو تذبيح الناس، وإنما للعدل علماً بأن العدل لا يكون مع أنفسنا فقط وإنما مع الجميع، فالعدل يكون مع العدو كالصديق، العجيب أن القرآن – علماً بأنه لفت إلى هذا أكثر من مرة وهو لافت أصلاً بذاته – في أكثر من موضع وفي غير ما موردٍ يقرن التقوى بعمل حربي إزاء العدو، فيُشير إلى ويُغري بالعدل والقسط مع العدو المُشرِك الكافر الوثني، وهذا شيئ عجيب جداً، فدين الله جمع العدل والقسط مع التقوى، لذلك نحن ننطوي على إيمان عميق بهذا الدين – بفضل الله تبارك وتعالى – ونُدرِك أنه نجاتنا وعصمتنا لأنه فعلاً واضح أنه دين رباني وواضح أن هذا الهدي – وخاصة في العصور الوسطى – لا يكون إلا هدي رب العالمين ورب الناس جميعاً، فهوليس هدي شيخ قبيلة وليس هدي فيلسوف محلي – Lokal – مثل أفلاطون Plato أو أرسطو Aristotle فيرى الحقوق كلها لليوناني الأصيل ، أما البرابرة والآخرون فليس لهم حق ومن ثم يُؤكِّد الاستعباد ويُبرِّر المُعامَلة السوء الفاحشة لهؤلاء العبيد، هو ليس كذلك لأن هذه ليست فلسفة وهو ليس فيلسوفاً، إنه رب العالمين – لا إله إلا هو – ورب الخلق جميعاً، هو ربهم ومُدبِّرهم ورزاقهم – لا إله إلا هو – لأنه هو الله عز وجل، ومن هنا يأتي إيماننا.
على كل حال عهد القرابين البشرية انتهى – بفضل الله – سواء بإسم الإيمان أو بإسم الكفران، ويبدو – للأسف الشديد – رغم أننا كأمة مسلمة أو كأمة إسلامية تقريباً كنا رائدين وسبَّاقين وعلى مُستوى كوني عالمي في تقرير هذه الحقائق وإتاحة فضاء للعيش وفقها إلا أننا تراجعنا الآن، لكن قديماً في الفضاء الإسلامي عاش الوثني إلى جانب المسلم المُوحِّد وعاش الكتابي سواء اليهودي أو النصراني وعاش المجوسي الثانوي المانوي، عاش كل هؤلاء آمنين سالمين موفورين، وكل تجاوز على حقوقهم وعلى حرياتهم وعلى أمنهم لم يكن بإسم الدين ولكن كان خروجاً على أمر الدين وهديه، فعلينا أن ننتبه إلى هذا لأن يجب أن نفهم هذا جيداً، وقد وقعت تجاوزات في حق الأمة ذاتها وفي حق أمثالنا وفي حق المُوحِّدين وفي حق الصادقين من أنباء هذه الأمة بلغت إلى حد الكوارث والمذابح، ولكن هذه لم تقع بإسم الدين وإنما وقعت بالخروج على هدي الدين، وإلا فرسولنا – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً – يقول “ألا مَن ظلم مُعاهَداً – رجل مُعاهَد أياً كان – أو انتقصه أو كلَّفه فوق طاقته – لم يقل مَن قتله لأن هذه جريمة كُبرى تستوجب نار جهنم والعياذ بالله حيث قال الله مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ۩ – فأنا حجيجه يوم القيامة”، أي أن خصمك يوم القيامة هو الرسول محمد وليس هذا المُعاهَد اليهودي أو النصراني أو المجوسي أو الوثني، فالرسول قال “أنا خصمك يوم القيامة، فإياك أن تُحاوِل أن تختبيء خلفي وتقول لي أنك فعلت هذا بإسم السُنة والدين، أنا بريءٌ منك لأنك كذَّاب وأنت بريء من هديي، فلا يجب أن تظلم هؤلاء وإن كانوا ليسوا علي ديننا، أنا علَّمتك أن يُعطوا ذمة الله ورسوله وألا يُخفَروا هذه الذمة أبداً لا في قليل ولا في كثير، فإن لم ترضخ لهذا وإن لم تبخع له فأنت تُعارِض سُنتي وتستنكف عن هديي ومع ذلك تأتي وتتكلَّم بإسم هديي وتقول أن هذا هو هدي محمد وهو ليس كذلك”، وهذا شيئ عجيب جداً.
الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – يقول لأحد الصحابة غير المشاهير وهو أبو الفَغْوَاء الخُزَاعي – تعال يا أبا الفَغْوَاء – علماً بأن الذي يروي هذا الحديث هو ابن أبي الفَغْوَاء، ويرويه أحمد في مسنده وأبو داود الطيالسي – خُذ هذا المال – دفع إليه مالاً كثيراً – فقال: لمَن يا رسول الله؟!
أي هل هذا المال لفقراء المسلمين أو لفقراء أهل الذمة؟!
قال الرسول “اذهب به إلى أبي سفيان في مكة – أي إلى كهف النفاق والكفر وسادن الوثنية وعدو رسول الله رغم كفره وشركه لأن قريش في حاجة وفي خصاصة حيث مروا بسنة عجفاء والناس في جهد – وقل له أن يُفرِّقه في فقراء قريش”، فما أرحمك وما أوصلك يا رسول الله وأنت تُفرِّق هذه الأموال في الوثنيين، هذا هو محمد، فهل علمتم مَن هو محمد؟!
هناك وجه غير واضح حتى للمسلمين بالقدر الكافي لرسول الله لأن هذه المنابر أدمنت على أن تتحدَّث عن الضحوك القتَّال وعن الغزوات فحتى حين كنا نُغزى كنا نُسمى هذه الواقعة بالغزوة، فتجد الواحد منهم يقول لك “غزوات رسول الله” ونحن أصلاً الذين غُزينا في عدوان سافر علينا، فتجد مَن يقول لك “غزوة الخندق” ونحن – والله- في الخندق لم نغز أحداً بل هم الذين جاءوا وأحدقوا بنا وأرادوا أن يستأصلوا شأفة الإسلام وأهله في المدينة، ومع ذلك يقولون لك “غزوة الخندق” لأننا نفرح بهذا ونُكثِّر من هذه الأشياء ونعتبر أن كل هذه الوقائع غزوات حتى لو بُدئنا واعتُديَ علينا كأننا نُريد أن نقول أننا الأقوى، وهذا منطقي إمبراطوري وليس منطقاً دينياً روحانياً أو منطقاً إنسانياً، ولكن للأسف هذه هى عقلية المسلمين، ومن ثم نحن أخذنا هذا الوجه لرسول الله، أما الوجه الحقيقي الذي ينعكس ويعكس ويُترجِم قول الله إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ۩ لسنا على دراية حقيقية به، فحديث الطيالسي والإمام أحمد – وهو طويل وفيه لطائف – لم تسمعون به كثيراً بل أن بعضكم يسمع هذا لأول مرة في حياته وأنا أعرف هذا جيداً، قال الرسول “خُذ يا أبا الفَغْوَاء – علماً بأن إسم هذا الصحابي غير معروف لنا أيضاً – ادفعه لأبي سفيان ليُفرِّقه في فقراء قريش” لأنهم يمرون بشدة أو بحاجة، وهناك قصة نتجاوز عنها لأنها ليست مُهِمة ولكن فيها آية لرسول الله تُثبِت نبوته وأنه يصدر عن الغيب، يصل أبو الفَغْوَاء إلى أبي سفيان يقول له “خُذ”، فيقول له: مِن مَن؟!
فيقول “مِن محمد”، فيقول أبو سفيان مدهوشاً “مَن أبر من هذا ولا أوصل”، وهذه لغة قوية فهو يتساءل مَن أبر من هذا وأواصل؟!
ثم يستتلي قائلاً “نَّا نُجَاهِدُهُ وَنَطْلُبُ دَمَهُ، وَهُوَ يَبْعَثُ إِلَيْنَا بِالصِّلاتِ يَبَرُّنَا بِهَا”، أي أننا نطلب رأسه وحياته لكن هو يبرنا بهذه الصلات، فهذا الرجل دمَّرنا بتسامحه ودمَّرنا بكرمه وبطبيته وبإنسانيته وبرحمانيته، مَن أبر من هذا ولا أوصل؟!
هذا هو محمد، فكم مرة ذكرت لكم أن الصحيح الرجيح هو أن كفار قريش دخلوا الإسلام عن طواعية في حين أننا عُلِّمنا أنه لم يكن أمام كفار قريش خيار إلا الإسلام أو السيف، فمن نصف قرن ونحن نسمع هذا،على الأقل جيلنا يسمع هذا ولكن هذا غير صحيح، فوالله هذه أكبر أكذوبة ومع ذلك تكتبها الكتب رغم أنها غير دقيقة وغير صحيحة علمياً، ولكم أن تتخيَّلوا هذا، وأول دليل على كذب هذا الكلام هو ما سمعناه أيضاً مليون مرة ولكننا لم نفهمه على وجهه وهو أن النبي كان يُنادي مُناديه حين دخلوا مكة قائلاً “مَن أغلق عليه داره فهو آمن، مَن دخل المسجد – أي الحرام شرَّفه الله وأعلى مثابته – فهو آمن، ومَن دخل دار أبي سفيان فهو آمن”، فلم يشترط النبي عليهم دخول الإسلام لكي يُعطيهم الأمان، فلم يقل مَن أسلم ودخل داره فهو آمن أو مَن أسلم وآمن ودخل المسجد فهو آمن أو مَن دخل دار أبي سفيان وأسلم فهو آمن، هذا غير صحيح ولكنه قال “مَن أغلق عليه داره فهو آمن، مَن دخل المسجد فهو آمن، مَن دخل دار أبي سفيان فهو آمن”، وهذا كله يعني مَن كفَّ عنا – علماً بأن عدد الجيش كان عشرة آلاف – ولم يقم في وجهنا ولم يتصدَّ لنا فهو آمن حتى لو لم يُسلِم، فلا إسلام بالسيف لأن الله قال لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۩ ودعكم من هذا الكلام الفارغ المُتعلِّق بالناسخ والمنسوخ لأن هذا غير صحيح ولا يُوجَد في دين الله ما هو كذلك، بدليل ما ذكرته قبل أسابيع يسيرة، فصفوان بن أمية لم يُحِب أن يُسلِم يوم فتح مكة ولكنه بعد أسبوعين ذهب مع النبي يُقاتِل في حنين والنبي استعار منه أدراعه وأسلحته فقال له: غصباً يا محمد؟!
فقال النبي “بل عريةٌ مُسترَدة”، فقال له “خُذها”، وفي حنين وبعد حنين النبي أعطاه الكثير والكثير حتى قال “مازال يُعطيني حتى أسلمت”، وأنا قلت قديماً أن هذا أسلم على خراف ولكن هم عملوها قصة على الرغم من أنه أسلم على خراف طبعاً، لكن على كل حال الرجل أسلم والعبرة بما الذي ماذا صار إليه بعد إسلامه، أما لحظة الإسلام فكانت على خراف وهذا شيئ واضح يدل على سماحة رسول الله، فالرجل هذا قبل أن يُسلِم بأسبوعين لم يُقل له أحد تُعرَض على السيف أو تُسلِم، هذا غير صحيح لأن الرجل لم يُعرَض على السيف، فهذا هو رسول الله إذن، هل رأيتم تسامحاً وصفحاً وعظمة ورحمانية مثل هذه في التاريخ ؟!
زُهاء عشرين سنة يُحارِبون النبي ولم تلن لهم قناة ولم تنكسر لهم عزيمة قعساء في حق الإسلام والحق ولكن حين أمكن الله منهم قال لهم “اذهبوا فأنتم الطلقاء”،
ومع ذلك تجد مَن يقول لك “محمد كان دموياً” رغم أنه لم يشترط عليهم الإسلام بل أعطاهم الأمان دون إسلام وهذا الشيئ يجب أن ننتبه إلى جيداً، أما مَن يخون مِن اليهود كبني قريظة ويتألَّب على الإسلام فلابد أن يأخذ جزاءه العادل لأنه كان خائناً للوطن، فالمسألة ليست مسألة عقيدة ومع ذلك نحن نخلط كل شيئ ونُلبِسه لبوس العقيدة رغم وجود فرق – صدقوني – قرآنياً، فهناك مسائل تُقارَب سياسياً ووطنياً ومصلحياً – أي بسبب مصلحة الجماعة ومصلحة الأمة ومصلحة الدولة – وهناك مسائل أُخرى لها بُعدها العقدي الديني، فهذه المسائل النبي كان لا يتعاطى معها عقدياً، أي لا يفعل ذلك أبداً من أجل أنهم يهود أو أنهم نصارى أو أنهم حتى مُشرِكون ولكن من أجل كف عدوانهم ومن أجل كف خيانتهم سياسياً!
الله يقول عن مسلمين أسلموا وآمنوا ولم يُهاجِروا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ – أي إذا استُضعِفوا وعُذِبوا واضطُهِدوا – فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ۩، وهذا شيئ عجيب، فنعم وقع اضطهاد من أناس مُشرِكين وثنيين ولكن هناك علاقة تحكم بينكم وبينهم – أي هؤلاء الوثنين – بالمُوادَعة والمُعاقَدة والمُعاهَدة وبالتالي الله يقول كفوا عن نصر المسلمين في هذه الحالة، لأن هذه المسألة ليست دينية الآن وإنما مسألة سياسية، فالسياسة تقتضي هذا وبالتالي أنا لا يُمكِن أن أنصر أخي في كل الأحوال، فمثل هذه الحالة لا يُنصَر فيها المسلم لأنه لم يُهاجِر وبالتالي هو الذي عرَّض نفسه للاضطهاد وللاستضعاف فلا يُمكِن أن أفعل له شيئاً وهذا شيئ عجيب، أما لو كان يعيش في سُلطاني لنصرته طبعاً فهو مني وأنا منه، ولكن هو يعيش في سُلطانهم واضطهدوه وأنا محكوم بعلاقة بيني وبينهم حيث يُوجَد مُعاهَدة لابد أن أحترمها وأن أترك نُصرة هؤلاء المسلمين الذين لم يُهاجِروا، فهذا هو الإسلام وهذه هى الواقعية السياسية، فلا نُسميها براجماتية وإنما واقعية سياسية أو صوابية سياسية، فهكذا تُقاد وتُدار وتُساس الأمور، فهذه أبعاد جديدة في القرآن يجب أن نلتفت إليها.
روى الإمام حميد بن زنجويه – رحمة الله تعالى عليه – المُتوفى سنة إحدى وخمسين ومائتين في كتاب الأموال عن سعيد بن المسيب – رضيَ الله عنه – أنه قال “تصدَّق رسول الله على أهل بيتٍ من اليهود – في المدينة – بصدقة فهى تُجرى عليهم”، أي أنه يقول إلى اليوم نحن نُجري هذه الصدقة عليهم لأن النبي تصدَّق عليهم بها وهم غير مسلمين، فالنبي تصدَّق على غير المسلم المُسالِم الذي لم يُعادنا ولم يُبارزنا بحرب وبالتالي نحن نُحسِن إليه ما استطعنا، فلم لا نتصدَّق عليهم والله يقول في آيتي سورة المُمتحنة التي ذكرناها مئات المرات
لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ۩إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ۩؟!
نحن إذن غير منهيين عن البر والقسط مع هؤلاء الكفار أو الوثنيين أياً كانوا لأنهم من غير أهل ملتنا، لكن هم مُسالِمون ومُوادِعون ومُعاهَدون وبالتالي نحن نُحسِن إليهم.
روى أبو داود وغير أبي داود وابن جرير في تفسيره أن رجلاً سأل شيخ المُفسِّرين في التابعين وتلميذ ابن عباس مُجاهِد بن جبر قائلاً: إن رجلاً هو قريبٌ لي ولي عليه مال وهو مُشرِك، أفأدعه له؟!
أي هل أُسامحه وهو مُشرِك وقد يستعين بهذا المال في شركه وكفره وسكره؟!
فقال “نعم، وصله”، أي لا تُسامِحه فقط في المال بل وصله أيضاً، فإذا استطعت أن تصله وأن تُقدِّم له مُساعَدة في أي شيئ فلتفعل ولتُعطه الصلة.
وطبعاً هذه الفتوى من مُجاهِد بن جبر هى فتوى صحيحة ومُخرَّجة على ما في الصحيحين من حديث أسماء بنت أبي بكر – رضيَ الله تعالى عنهما – التي قالت: يا رسول الله إن أمي قَدِمَت وهى راغبة – أي أن أم أسماء قَدِمَت من مكة إلى المدينة راغبة في العطاء، أي أنها تأمل في بعض المال وهى لا تزال مُشرِكة – أفأصل أمي؟!
قال “نعم، صلي أمكِ يا أسماءُ”، وهذا شيئ غريب علماً بأن الحديث في الصحيحين، وفي صحيح البخاري يُوجَد حديث الأشعث بن قيس وهو رجل معروف وأسلم أيام رسول الله طبعاً ثم ارتَد مع المُرتَدين وله قصة طويلة وموقفه في غاية السوء من الإمام عليّ، لكن على كل حال هذا الرجل أسلم أيام الرسول ووقعت مُشكِلة بينه وبين يهودي، أي قضية – تُسمى حكومة بيسموها – نزاع، فقال النبي لليهودي “احلف”، فقال الأشعث “يا رسول الله إذن يحلف ويذهب مالي” ولكن هذا هو القضاء فأنزل الله تبارك وتعالى إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَٰئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ۩، فالقضاء للجميع ويُوجَد مُساواة وبالتالي لا تفريق بين مسلم صحابي وبين يهودي، هذا هو العدل الحقيقي وليس التسامح كما يقولون، فنحن ننطلق من قيمة ومن مقولة العدل أكثر حتى من انطلاقنا من مقولة الحق، ومن ثم علينا أن ننتبه إلى أننا لا ننطلق كثيراً من مقولة الحق، والآن سأفتح صفحة جديدة لكي أُعلِّق على هذه المسألة المُهِمة، وطبعاً نحن لا نُعنى كثيراً بالمُصطلَحات ولا نقول أن كلمة تسامح غير مُناسِبة فنحن نفهم ماذا نُريد بكلمة تسامح، فلو ذهبنا نتأمَّل ونُمعِن النظر في فلسفة التسامح الإسلامي لوجدنا أن في نهاية المطاف كلمة تسامح في المُعجَم الإسلامي وفي المُعجَم القرآني تعني ودع وترك الآخرين المُختلِفين موفورين شريطة ألا يُهدِّدونا تهديداً مُحتملاً راجحاً أو حقيقياً واقعاً، فهم متروكون لأن التنوع مُراد لله – تبارك وتعالى الذي قال في الآية التي صدَّرت بها الخُطبة وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ۩، والآن ابن عباس والحسن وعطاء والأعمش والإمام مالك وغيرهم وغيرهم قالوا القول الذي افتتح به ابن جرير تأويل هذه الآية وهو أن معنى وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ۩ أي للاختلاف خلقهم، لكي ليكون منهم كافر ومُؤمِن، فهذا هو المُراد وهذه سُنة ومسألة قدرية، وإلى هذا المعنى أشار توماس بين Thomas Paine حين قال أنك لا تستطيع أن تقترح على الله أنه أن يُنفي من مملكته المسلمين أو اليهود أو الوثنيين، فلا يُمكِن أن تفعل هذا لأن الله خلقهم ليختلفوا ولكي ليكون منهم اليهودي والنصراني والمسلم والبوذي والسيخي والثانوي وإلى آخره، فالله هو الذي يُريد هذا، ومن هنا القرآن الكريم يُحدِّثنا عن اختلاف الناس ورسل الله وأنبياؤه بين ظهرانيهم، والرسالة هى أن ما لم ينجح فيه الرسل مُحال أن ينجح غيرهم فيه، فالناس اختلفت والرُسل بين ظهرانيها ومن ثم من المُستحيل أن تُوحِّدها أنت الآن، فضلاً عن أنه اختلف أتباع الرسل من بعدهم في المِلة الواحدة على أنهم يتبعوهم وذلك – مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ۩ – لأن هذه هى طبيعة البشر!
نعود إلى فلسفة التسامح في المنظور الغربي وفلسفة التسامح في المنظور الإسلامي المُؤسَّس على النصوص القرآنية والنبوية الشريفة، في المنظور الغربي للأسف الشديد تقريباً المسألة حرجة جداً وقلقة غير واضحة إلى اليوم، ولذلك يُوجَد أحياناً طروحات مُتناقِضة مُتعارِضة، ولكن باختصار وبكلمة ما يُمكِن أن يُقال هو أنهم يرون مُبرِّر أو الأساس الذي يُشاد عليه بناء التسامح ويتأسَّس عليه مفهوم التسامح هو الحق، وما يُخارِجه من باطل يُوجِب التشكيك والترديد، فمعنى هذا أنني أتسامح لأنني لست على يقين مُطلَق مما أنا عليه، فلأنني لست على يقين في ديني أتسامح لأن هناك احتمال واحد في الألف أن تكون أنت المُصيب وأنا المُخطيء ولذلك لابد أن أتسامح، وهذا ما قرَّره فولتير Voltaire وكل الفلاسفة الغربيين تقريباً حيث ركَّزوا على مقولة “لأننا بشر نسبيون ضعفاء ومسعانا واجتهادنا دائماً قابلاً للخطأ – أي أنه يحتمل الخطأ والغلط – يجب أن نتسامح”، وفي القرن السادس عشر كتب الفرنسي المشهور ميشيل دي مونتين Michel de Montaigne أيام ديكارت Descartes في مقالاته “يا للهول إنهم يُقدِّرون حدوس – أي جمع حدس Intuition – المرء – يقصد المرء المُتدين طبعاً بالذات خاصة ولو كان البابا – بثمن باهظ جداً بحيث يحرقون البشر لمُخالَفتهم لحدوسهم”،
أي أنه يقول أنهم ليس عندهم حتى أي أدلة قطعية على ما هم عليه، ومع ذلك مَن خالف ما هم عليه : يُحرَق على الخازوق – Stake – في محارق محاكم التفتيش الثلاثة وهى الرومانية والوسطوية والإسبانية.
يأتي المُفكِّر الغربي الكبير رونالد سترومبرج Roland Stromberg في تاريخ الفكر الأوروبي الحديث ويقول “نعم إنها لفضيحة ولعار أن يُعرَض المرء على السيف أو يُحرَق بالنار من أجل مُخالَفته لحدوس الآخرين – أي أن هذا كله يتعلَّق بالظنون، فالإيمان هنا يكون بالتظني – ولكن المسألة تستحيل شيئاً آخراً مُختلِفاً تماماً إذا اعتقد هذا الذي يشوي الآخرين – يحرقهم – أن إيمانه ليس حدساً وأنه يُمثِّل تماماً كلمة الله”، أي أنه يقول أن هذا الوحي الإلهي من عند الله ومن ثم يتكلَّم بإسم الله، فالمسألة مُختلِفة تماماً إذن.
لذلك في الفكر الغربي إلى اليوم التسامح مشروطٌ بالشك فهو لا يُجامِع اليقين، ولذلك الموقف من الدين في جوهره مُكثَّفاً هو موقف تنكري وإزرائي، ففي داخل أي فيلسوف مُتسامِح عدم ارتياح مُطلَق لكلمة دين، لأن الدين يُمثِّل اليقين ويُذكِّر باليقين وبالتالي اليقين ينفي التسامح عنده.
كتب الفيلسوف الليبرالي الكبير والمشهور جون ستيوارت ميل John Stuart Mill في كتابه المشهور مقالة عن الحرية – On Liberty – يقول “من الطبيعي جداً ألا يتسامح المرء إزاء ما يأخذه بجد – أي أن المرء لا يتسامح في الأمور التي يهتم بها حقيقيةً مثل مسائل الإيمان والعقيدة Dogma – وقد تجد امرأً ما يتسامح مع طريقةَ أو بإزاء طريقة إدارة الكنيسة ولكنه لا يتسامح بالانشقاق إزاء العقيدة Dogma – أي أنه لا يُوجَد تسامح وإنما يُوجَد قتل وتكفير ومحارق – وقد تجد آخراً يتسامح مع كل الناس إلا مع البابويين وأنصار البابا، أي مع الـ Popery كما سماهم من قبل جون ميلتون John Miltonفي ال Areopagitica، حيث سماهم أنصار البابا ويقصد طبعاً الكاثوليكيين، فالبروتستانتي يتسامح مع الكل ولكنه لا يتسامح مع الكاثوليك ولا مع المُوحِّدين – Unitarians – مثل طائفة السوسينيين مثلاً، علماً بأن المُوحِّدين في أوروبا السوسينيين – نسبة إلى الإيطالي سوسون – تأثَّروا بالتوحيد الإسلامي ولذلك نادوا بتوحيد الله وأنكروا الثالوث المُقدَّس وقالوا “عيسى عبد الله ورسوله”، فلم يتسامح لا البروتستانت ولا الكاثوليك مع المُوحِّدين، وقد تجد ثالثاً يتسامح مع كل مَن يدين بدين سماوي ، ولكنه لا يذهب إلى ما هو أبعد من هذا، أي أن الدين لابد أن يكون سماوياً.
إذن معنى كلمة ميل Mill هنا أن التسامح لابد أن يكون مشروطاً بشيئ من الشك واللاقطعية واللايقينية، وبالتالي الأشياء الذي نقطع به ونحن مُوقِنون بها لا نتسامح فيها، وعلينا أن ننتبه إلى أن كل الغربيين تقريباً الكبار عندهم مثل هذه الرؤية، فويل ديورانت Will Durant في ثلاثة مواضع في أجزاء مُتباعَدة من كتابه العظيم قصة الحضارة كرَّر المعنى نفسه وقال “يُولَد التعصب مع انبثاق اليقين، وينتعش التسامح مع ضعف الإيمان”، أي أن التسامح يُوجَد في ظل الإيمان الضعيف لكن في ظل الإيمان الجدي اليقيني لا يُوجَد تسامح خاصة في قضية الإيمان، ولذلك يقول ميل Mill “المُلاحَظ أن التسامح لا يُوجَد ولا يسود إلا حيث يسود عدم الاكتراث الديني و اللامُبالاة الدينية Religious Indifference”، أي أن التسامح يُوجَد في ظل اللامُبالاة وعدم اهتمام بالدين والعكس صحيح فلا يُوجَد التسامح في ظل الاهتمام بالدين، ولذلك الموقف ضمنياً يُعَد موقفاً مُتنكِّراً للدين إذن حيث أنه يجعل نطاق الخيار محدوداً ديناً، فإما التسامح وإما الدين، فإن كنت تُريد تسامحاً فلا دين إذن، وإن كنت تُريد دين فعليك أن تُضحي بالتسامح، وهذه مُفارَقة كبيرة لأن الحياة يبدو أنها تُؤكِّد كل يوم بألف بُرهان أن الدين مطلب حيوي لكل أهل الأديان بل للبشر جميعاً، وفي نفس الوقت الحياة بغير تسامح حتى في ظل الدين تُعَد مُغامَرة غير مأمونة العواقب وستكون الحريات هى أول مَن يُجني عليه طبعاً، فالحريات تذهب وتُداس بالأقدام وتُوطأ في ظل حياة يُوجَد فيها الأديان ولكن بلا تسامح، وهذه مسألة خطيرة.
الناقد الأدبي والكاتب الصحفي الإنجليزي الشهير تشيسترتون Chesterton يقول “التسامح فضيلة رجل بلا يقين”، أي أن التسامح فضيلة Virtue – – ولكن لرجل بلا يقين، فالذي عنده يقين لا يتسامح.
نأتي الآن إلى تميز الإسلام، فالإسلام يُعَد شيئاً مُختلِفاً تماماً في هذا الصدد، ولقد أحصينا – بفضل الله – عشرات الآيات – إن لم يكن المئات – وصنَّفناها تصنيفاً منهجياً ولم نعثر على أية واحدة أبداً تُبرِّر التسامح أو تُؤسِّس له على أساس قلقلة الإيمان أو الشك والارتياب، بل القرآن واضح تماماً مع ذاته ومع أمته في أننا على حق، قال الله لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ۩ وقال أيضاً إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ۩ وقال في أول البقرة ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ ۩ فضلاً عن أنه قال إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا ۩ وقال أيضاً إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ۖ ۩، فنحن لدينا اعتقاد جازم أننا على حق لأن ديننا على حق، والنبي كان كذلك أيضاً فلا بأس في هذا، ولكن الأعجوبة الآن بمُقارَنة هذه الرؤية بالرؤية الغربية تكمن في كيف أمكن للقرآن وكيف أمكن للنبي وكيف أمكن للمسلمين أن يُبلّوِروا منظوراً تسامحياً أو مُتسامِحاً مع أنهم يعتقدون اعتقاداً جازماً بحقانية دينهم بل ويقطعون على غيب عقائدهم؟!
لأن القرآن يُعلِّمنا أنه لم ينطلق ولم يصدر في تبرير التسامح والدعوة إليه من مُنطلَق أنه التسامح لابد وأن يجتمع مع عدم اليقين، علماً بأنه لم يُسمه بهذا الإسم طبعاً ولم يقل التسامح، فهذا الاسم يُعَد إسماً حديثاً نسبياً نوعاً ما، لكنه على كل حال لم ينطلق ولم يصدر من مقولة الحق التي تُفيد بأن التسامح يكون موجوداً لأن الحق لم يُقطَع به – أي في وجود شيئ من الشك – ولكن إذا وُجِدَ اليقين الكامل فلا مجال للتسامح إذن، وهذا غير صحيح وبالتالي القرآن لم يقل هذا أبداً، هذا منطق فولتيري – نسبة إلى فولتير Voltaire – غربي وليس منطق القرآن، القرآن انطلق من مقولة القسط والعدل وليس من مقولة الحق، فالقرآن انطلق من العدل إذن ومن العدل ألا تُكلَّف النظر بعيناي أنا ولكن يجب أن تنظر بعينيك، من العدل ألا تُكلَّف الإدراك والوعي بذهني أنا وبمزاجي أنا وإنما بعقلك أنت وبذهنك أنت، من العدل ألا تكون مسؤولاً لا إزاء المُجتمَع ولا إزاء رب الناس – لا إله إلا هو – إلا إذا أُعطيت حريتك ووُفِرَت لك حريتك كاملةً موفورة، ولذلك القرآن دائماً يُغري باصطناع خُطة العدل هذه، فديننا يقول اتركوا الناس وما اختاروا لأن الله قال لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۩ وقال أيضاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ۩، فضلاً عن أنه قال أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ۩، فالنبي نوح – عليه السلام – يقول هذا غير معقول وغير مفهوم، فإذن هذه مسألة اختيار، أنت وما اخترت.
وبالمُناسَبة لابد أن نذكر أن أوسع المذاهب في موضوع الذمة – أي موضوع إعطاء ذمة الله والرسول لمَن ومَن الذي ينبغي أن يحوطه الإسلام بذمته إذا أُعطيها – هو مذهب الإمام مالك، وهو مذهب الأوزاعي ومذهب الثوري، ورجَّحه ابن تيمية ومن ورائه طبعاً ابن القيم – رحمة الله على الجميع – حيث أن الذمة تُعقَد لكل الكفار والوثنيين من العرب والعجم، ولكن قد يعترض البعض قائلاً ” هذا غير صحيح لأن النبي لم يقبل من كفار مكة الجزية ولكنه قبلها من اليهود والنصارى”، وهذا أجاب عنه هؤلاء العلماء الأفاضل حين قالوا أن السبب في ذلك هو أن الجزية يوم فتح مكة لم تكن مفروضة لأن الجزية فُرِضَت بعد ذلك، ولو كانت مفروضة لقبل منهم الجزية وبالتالي يبقوا على وثنيتهم، علماً بأن المسألة طويلة وفيها نقاشات كثيرة ولكن هؤلاء كل هؤلاء الذين ذكرت – أي مالك والأوزاعي والثوري وابن تيمية وابن القيم – وغيرهم من فقهاء العصر قالوا “الذمة تُعطى لكل كافر وثني”، فليس شرطاً أن يكون يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً مُلحَق بهم ولكن إلى أي كافر، فاليوم – مثلاً – الشيوعي يُعطى دون أي مُشكِلة، وهذه حريات غير عادية طبعاً لأن مقولة العدل – كما قلنا – هى الأساس، فالأساس هو مقولة العدل وبالتالي من العدل أن يُعطى الشخص حريته وألا يُكلَّف بشيئ غير مُلزِم له، لأن هذه المسائل التي وصفتها هى مسائل غير نيابية والمهام فيها غير تفويضية، فلا يُمكِن أن أُنيبك لكي تنظر عني وتُفكِّر عني، ولا يُمكِن أن تُفوّضني أن أُفكِّر عنك وأن أختار عنك في باب العقائد والآراء، فهذه المسائل تتعلَّق بقضايا غير تفويضية ومهام غير نيابية، ولذلك سيُبعَث كل أحد وسيأتي كما قال الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ۩، أي هو وما اختار!
إذن انفسح أفق التسامح لأن القرآن أسَّس للتسامح على أساس القسط والعدل وليس على أساس مقولة الحق وما يتخالجه من شوب الشك التي تُفيد بأن الإنسان يتساهل فقط إذا لم يستتم اليقين لديه وإذا لم يصل إلى مرحلة القطع، فهذا غير صحيح ومع ذلك الغربيون عندهم هذا إلى اليوم وهذا شيئ خطير جداً لأنه يتضمَّن دائماً الإنذار بالانهيار، أي ما يُسمى بنُقطة الانهيار، فأنا أتسامح معك وأتساهل ريثما يستتم يقيني لكن إذا تم يقيني تماماً وأنت لم تنحز إلىّ ولم تنتمي إلى دائرتي فسوف أستأصلك وسألغيك وسأشطب عليك بعد ذلك، فهذه إذن هى نُقطة الانهيار في المشروع التسامحي وهى نقطة خطيرة جداً ومُخيفة، لكن في الإسلام لا يُوجَد أي نُقطة انهيار لأن الإسلام بنى خُطة التسامح من البداية حتى النهاية على العدل، فالتسامح يُوجَد من البداية إلى النهاية وبالتالي أنت تعيش وتموت وأنت وثني ولا شأن لي بك، ليس لي عليك أكثر من التذكير والعظة والحوار لكن كما قال الله بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ۖ ۩
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.
إخواني وأخواتي:
للأسف مما يُلاحَظ أيضاً أن هذا المنظور أو هذه الرؤية الغربية هى ذات الرؤية التي يصدر عنها العوام في كل الثقافات والأديان، والمسلمون ليسوا استثناءً هنا وبالتالي العامي المسلم هو كخاص الغربي فضلاً عن أن يكون كعامي الغربيين، فالشيئ نفسه يتكرَّر لأن العامي المسلم يرى أنك إذا كنت على يقين من دينك فلا تسامح ولا تساهل لأن هذا هو أمر الله فضلاً عن وجود إشكالية الولاء والبراء، فهكذا يصوغها طبعاً بصيغ عامة رجراجة، ومن هنا تعصب العامة في كل الأديان والثقافات، والمسلمون العوام – كما قلت – ليسوا استثناءً وأُشدِّد على هذا مرة أُخرى، فالعامة ينظرون إلى المُتسامِحين والمُتساهِلين على أنهم رقيقوا الدين وضعاف الإيمان إن لم يكونوا مغموزي العقائد وأقرب إلى الزنادقة، ولذلك يُسيئون ظناً بكثرة المعرفة والثقافة ويقولون لك – مثلاً – عن أحدهم أنه تثقَّف حتى تزندَّق من كثرة القراءة والعلم وبالتالي هو كفر، وكل هذا فقط لأنه مُتسامِح، وكذلك يرون أن التسامح مع رفقاء الوطن يُعَد ضعفاً في الولاء وخيانةً، أي أنهم ينعتون التسامح هنا بالخيانة وهناك بالكفر والردة والزندقة، وهذا شيئ غريب، فنحن لا نستطيع أن نفهم هذا من العامي المسلم وإن كنا نستطيع أن نفهم مُبرِّر المُفكِّرين الغربيين مِمَن ذكرنا ومِمَن لم نذكر وذلك لأنهم فقط استقروا الواقع – أي استقروا واقعهم – واستقروا التاريخ، فالتاريخ عندهم يقول هكذا وبالتالي الدين لم تواته فرصة لديهم أن يتسلَّط وأن يتنفَّذ إلا كان إقصائياً إلغائياً، والمذابح طبعاً معروفة وتاريخ الحروب الدينية معروف في الغرب، فهم إذن انطلقوا من التاريخ و من الواقع الخاص بهم، ولكن العامي المسلم أو العامي بشكل عام ينطلق من ماذا؟!
أقترح بعض التفسيرات ولكن بشكل سريع لأن الوقت أوشك على الانتهاء، التفسير الأول هو الخوف، فالعامي ليس لديه قدرة المُحاجَجة والمُحاوَرة ولكنه يُريد أن يحتفظ بعقيدته أو بُدجماه – نسبة إلى Dogma – ويخشى كل ما يُمكِن أن يُزعزِعها، وبالتالي هو يرى أن النقاش فضلاً عن التساهل والتسامح والإغضاء عن المُخالِفين وإعطاءهم فرصة للكلام والتعبير والتبشير يُهدِّد ما لديه، إذن هذا التعصب ليس ناشئاً عن إيمان قوي بل عن ضغف الثقة بالنفس وعن الخوف فهو لا يقدر إلا أن يكون كذلك.
التفسير الآخر الذي سأختم به هو تفسير سوسيولوجي اجتماعي، فالعامي كأكثر الخاصة أيضاً – لكن هناك استثناء في الخواص بالذات، أي في المجانين – يُراهِن على دعم المُجتمَع له لأنه فرد عضوي فيه وبالتالي يُراهِن على تحقيق وحياطة مصالحه ومزاياه عبر التماثل والتطابق التام، فلابد أن يتطابق تماماً دين المُجتمَع ولغة المُجتمَع وعاداته وتقاليده العرقية، ولذلك كل ما يُشوِّه ويُنذِر بزعزعة هذه المُطابَقة فهو يُعاديه مُعاداة ضارية شرسة، ومن هنا يأتي تعصبه!
إذن هذا الموقف من العوام أيضاً في جوهره ليس دينياً، فليس قلبه أو وجدانه على الدين والعقيدة وإنما على مصالح تتستر بإسم الدين وبإسم الولاء للدين، فهذا هو الذي يحصل ولذلك الدين بالذات إذا تمأسَّس وحالف السُلطة السياسية سيُصبِح شيئاً مُخيفاً جداً وقد يتنكَّر للحقيقة التي هى في جوهرها حقيقية دينية روحية في سبيل الحقائق المصلحية إن جاز التعبير، وهذا ما يحدث دائماً!
نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُفقِّهنا في الدين وأن يُعلِّمنا التأويل وأن يفتح علينا فتوح العارفين.

انتهت الخُطبة بحمد الله

فيينا (5/10/2012)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

تعليقات 3

اترك رد

  • السلام عليكم ورحمة الله وبركاته لو تكرمتم علي اريد التواصل من الاخ الدكتور عدنان ابراهيم كيف بشكل مباشر لضروره خاصه ارجو الرد وشكرا جزيلا

  • أنا علي لبوز من الجزائر…السلام عليكم، دكتور من فضلكم متى ستعقد خطبة مباشرة تتكلم فيها عن الإيمان والحداثة. لقد شاهدت معظم خطبك وفيديوهاتك لكن دائما تشير إلى الموضوع بصفة كبيرة لكن نريد عن مشكلة العصر وفهمنا لديننا مع العلم بأن فهم الدين يتماشى مع فهمنا للغة العربية أرجوا أن تصلكم رسالتي وأتمنى أن يكون فيها ردك دكتور والسلام عليكم.

  • اخي الكريم تحيتا طيبتا من الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    نفع الله بماتقدمه وجعله في موزين حسناتك .نحبك في الله

%d مدونون معجبون بهذه: