روتانا خليجية…شبابها.. أدرى بشعابها.
تابعونا http://twitter.com/#!/Khalejiatv و http://www.facebook.com/khalejiatv

روتانا خليجية أقوى البرامج الحوارية والاجتماعية والفكرية والرياضية والكوميدية.. اليومية والاسبوعية، بالإضافة لأروع المسلسلات العربية والخليجية وأضخم الإنتاجات الغنائية تجدونها فقط.. على خليجية..

الترددات.

NileSat 104 Freq. (11,296 MHz) – H – SR: 27500 S/s – FEC 3/4
102 Freq. (10,775 MHz) – H – SR: 27500 S/s – FEC 3/4
Arabsat Freq. (11,843 MHz) – H – SR: 27500 S/s – FEC 3/4

برنامج آفاق

إنسانية الأوقاف في الإسلام

 

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.

إخواني واخواتي:

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، روى الإمام الطبري في تفسيره عند قوله – أي عند تفسير قوله تبارك وتعالى – كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ۩ بسنده عن قتادة بن دعامة السدوسي، قال – رحمة الله تعالى عليه – إن عمر بن الخطاب قال في حجة حجها وقد رأى من الناس رعة حسنة – رعة مثل عدة، من الوعد، فرعة من الورع، كتاب ابن قيم الجوزية عدة الصابرين، ورعة مثل عدة، ما معنى رعة؟ أي مظهر حسن وسمت حسن يدل على تدين وعلى أخذ حسن للدين، فرأى من الناس رعة حسنة – الآتي، قال – أي تلا – قول الله – تبارك وتعالى – كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۩، عمر تلا هذه الآية – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، ثم قال مُلتفِتاً إلى الناس يا أيها الناس مَن سره أن يكون من هذه الأمة فليُؤد شرط الله منها، فليُؤد شرط الله منها أي شرط الله الذي طلبه منها.

كما روى الإمام الطبري عن عطية وهو عطية العوفي، أنه قال في تأويل قوله – تبارك وتعالى – كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ۩، قال عطية خير الناس للناس، فعطية لم يفهم الآية على أن معناها أنتم كمُسلِمين بعنوان الإسلام وحده أو بعنوان كونكم مُسلِمين خير أمة من بين أمم الناس، وإنما فهم الآية على أنها أنتم خير الناس للناس، خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ۩، هكذا فهمها!

كما روى عن الحسن البِصري – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – أنه قال في تفسير هذه الآية قد كان ما تسمعون من الخير في هذه الأمة، هذه أمة خير، وخاصة جيل الصحابة – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين، وصلى الله وسلم وبارك وشرَّف وكرَّم على مُعلِّم الناس الخير -.

إخواني وأخواتي: 

حين نقول وننعته – عليه الصلاة وأفضل السلام – بأنه مُعلِّم الناس الخير – هو مُعلِّم الناس الخير والهُدى – فهذا في الحقيقة جُزء مما يستحقه – عليه الصلاة وأفضل السلام -، لأنه المُعلِّم الأكبر، المُعلِّم الأول، المُعلِّم الأروع لكل فنون الخير، كيف لا وقد فجَّر الخير ينابيع في نفوس أصحابه – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم – وصالحي أمته إلى يوم الدين؟!

إخواني وأخواتي:

هذا وإن من أوسع أبواب الخير التي ترجمت خيرية هذه الأمة وترجمت بها الأمة عن خيريتها باب الأوقاف، الأوقاف التي تسمعون عن دورها وإسهامها في صناعة الحضارة الإسلامية، يُمكِن أن يتلفَّت بعض الناس إلى الجانب المادي أو الاقتصادي من الأوقاف، وهذا له اعتباره، ولكن هناك الجانب الأخلاقي والإنساني، وهو جانب كما ستسمعون في تضاعيف هذه الحلقة بعون الله – تبارك وتعالى – أخّاذ، باب أخّاذ ومُعجِب، حقيقة يستدر الدموع أحياناً من المآقي، سوف نرى كم بلغ المُسلِمون من التلطف للتعبير عن نواحي إنسانية غائرة وغامضة وخفية لطيفة! قد لا يتنبَّه إليها مُعظَم الناس، إلا أنهم – رضيَ الله عنهم – تنبَّهوا إليها، وترجموها بأعمالهم، أي أعمال المبرات والخيرات.

لكن في البداية ما هو الوقف؟ حين نتحدَّث عن الأوقاف، ما هو الوقف؟ الوقف كما جرت عاجة السادة الفقهاء في تعريفه أنه حبس العين أو الرقبة، العين أي عين الشيئ المملوك، لنفترض أنها قطعة أرض – مثلاً -، أو بُستان، أو عين جارية، أو حتى كتاب يُوقَف على أهل العلم، أو بناء مُعيَّن كالمشفى وغيره، إلى آخره! حبس العين أو رقبة الشيئ أو عين الشيئ، بحيث لا تُملَك بعد ذلك لأحد ولا تُوهَب، لا تُباع ولا تُشترى ولا تُوهَب ولا تُورَث، حبس العين أو حبس الرقبة، وبعد ذلك تسبيل منافعها، التصدق بمنافعها على جهة مُعيَّنة، على جهة بر مُعيَّنة.

هذه الجهة – إخواني وأخواتي – قد تكون قرابات هذا الواقف، من أهله وقراباته وذراريه أو ذُريته، وهذا الوقف يُسمى الوقف الذُري، نسبة إلى الذُرية، يُسمى الوقف الذُري أو الوقف الأهلي، فإما وقف على ذُريته وإما وقف على قراباته وأهله بشكل عام.

وهناك وقف آخر وهو أكثر شيوعاً، الوقف الخيري، حيث يقف الواقف الشيئ الذي يُريد – أي العين الموقوفة، الشيئ الذي يُريد أن يقفه – على جهة لا يمت إليها ولا تمت إليه بسبب أو نسب، جهة عامة! كالذين يقفون أوقافاً – مثلاً – على الفقراء والمساكين، على المُحتاجين والمُعوزين، وعلى طلّاب العلم، يقفون أوقافاً على المساجد، يقفون أوقافاً على المرضى – مثلاً -، أي لمُعالَجة المرضى، وأوقافاً على – مثلاً – الحجّاج، مَن لا يستطيع أن يحج يُمكِّنوه من غلة ومن ريع هذه الأوقاف لكي يحج بيت الله الحرام، إلى آخر أنواع الأوقاف التي ربما سنذكر نمطاً ونماذج منها بإذن الله – تبارك وتعالى -.

هل الوقف مشروع؟ نعم، في رأي جماهير علماء الأمة وأئمتها الوقف مشروع، مشروع مشروعية ندب واستحباب، ليس مُجرَّد إباحة، نعم هناك مَن خالف، كالقاضي شُريح بن الحارث الكندي والإمام الكبير أبي حنيفة النُعمان – رضوان الله تعالى عنهما -، وعلى كل حال ربما نتطرَّق إلى بعض ما قالا، لكن جماهير علماء الأئمة من الصحابة والتابعين وأئمة الدين على مشروعية الوقف، مشروعية استحباب وندب.

وقد استدلوا بجُملة أدلة من الكتاب العزيز والسُنة المُطهَّرة – على صاحبها الصلوات والتسليمات -، فمن كتاب الله – تبارك وتعالى – استدلوا بقول الله – تبارك وتعالى – في آخر الحج وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ۩، وبلا شك أن الأوقاف من مصاديق بل المصاديق الكُبرى الجليلة الكريمة لفعل الخير، وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ۩، بل إن السادة الشافعية كانوا يحملون الصدقة الجارية على الأوقاف كما حكى الإمام عبد الكريم الرافعي – رحمة الله تعالى عليه -، وهو من كبار أئمة الشافعية -، عبد الكريم الرافعي قال طريقة الشافعية أنهم يحملون الصدقة الجارية على الأوقاف، ففي حديث أبي هُريرة في صحيح مُسلِم وغيره إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، ومنها صدقة جارية، قالوا الصدقة الجارية هي الوقف، كيف تكون جارية إلا أن تكون وقفاً؟ فعادتهم هذه، طريقة الشوافع أو الشافعية أنهم يحملون الصدقة الجارية في النصوص النبوية المُشرَّفة على الوقف، فهذا من أظهر ومن أوسع وأكرم أبواب الخير، وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ۩.

أيضاً استدلوا بقول الله – تبارك وتعالى – لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۩، وهذا أيضاً من باب إنفاق ما يُحِب الإنسان، هناك مَن يُحِب بُستاناً له، عنده حديقة – مثلاً – فيها كذا وكذا شجرة مُثمِرة، يُحِبها كثيراً، يُمكِن أن يُنفِق من غلتها ومن ريعها، يُمكِن أن يتصدَّق بأثمارها، ويُمكِن أن يقفها كلها على المُحتاجين أو في سبيل الله – تبارك وتعالى -، يقفها كلها! وهذا أفضل طبعاً، وأجره أجزل، ومثوبته أعظم عند الله – تبارك وتعالى -.

لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۩، وهذه الآية هي التي حفزت ودعت أبا طلحة الأنصاري كما ستسمعون بُعيد قليل، حفزته على أن يقف أحب ماله إليه – بُستان فيه نخل وفيه ماء طيب، وهو بيرحاء – على المُسلِمين، وبعد ذلك النبي أرشده أن تكون على قراباته وأهله وبني عمومته، وهكذا كان.

أيضاً قول الله – تبارك وتعالى – إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَىٰ أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا كَانَ ذَٰلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ۩، هذه الآية يُستدَل بها في العادة على مشروعية الوقف، أما من السُنة المُطهَّرة – على صاحبها الصلوات والتسليمات – فقد سمعتم أن الشافعية يحملون الصدقة الجارية على الأوقاف، فيُمكِن أن يُعَد هذا دليلاً برأسه أو دليلاً بحياله، استدلوا أيضاً بما أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، من رواية أو من حديث عبد الله بن عمر – رضيَ الله تعالى عنهما -، أن عمر بن الخطاب – رضوان الله تعالى عليه – أتى النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – بعد أن أصاب مالاً بخيبر، وهذا المال أرض، العرب تقول المال وتقصد به الإبل، تقصد به البقر، الشياه، والنعم، تقصد به البساتين، وتقصد به العقارات أو قطع الأراضي، كل هذا مال، يُقال كذا وكذا مال له – مثلاً – بالحجاز، ويُريدون أرضاً زراعيةً، يُريدون بُستاناً، يُريدون قطعة أرض، وهكذا! أو مال بمعنى مال من ذهب وفضة أيضاً، دراهم ودنانير، أو إبل وشياه ونعم، كل هذا يُسمى مالاً.

فأصاب مالاً بخيبر أي فأصاب أرضاً بخيبر، وفي بعض الروايات ما يُؤكِّد أن هذه الأرض مائة سهم، أصابها – رضوان الله تعالى عليه -، فأتى النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام -، وقال يا رسول الله إني أصبت أرضاً لم أُصب مالاً أحب إلىّ منه، أي هذا المال أحب المال الذي تأثلته أو تمولته أو امتلكته إلى نفسي، فأنا أُريد أن أتصدَّق، فكيف تأمرني يا رسول الله بها؟ ماذا أفعل؟ إذن هو أتى على نية وقد حسم أمره واتخذ قراره أن يطلب بها أجر الآخرة، يُؤاجِر بها، يُؤاجِر بها أي يُريد بها أجر الآخرة والجزاء عند الله – تبارك وتعالى -.

فقال له – عليه الصلاة وأفضل السلام – إن شئت حبست أصلها وتصدَّقت بها، ما معنى حبست أصلها وتصدَّقت بها؟ حبست الأرض بحيث لا تُملَك لأحد، تكون موقوفاً، هذا الأصل فيها، ولذلك يُقال لها الأحباس، في المغرب العربي إلى اليوم يقولون الأحباس، يُسمونها الأوقاف لدينا في المشرق، وهناك يُسمون أكثر شيئ الأحباس، ويعرفون أيضاً مُصطلَح الأوقاف ويستخدمونه، الأوقاف والأحباس نفس الشيئ، قال إن شئت حبست أصلها، أي الأرض نفسها لا تُباع، لا تُشترى، لا تُوهَب، ولا تُورَث، تبقى كما هي محبوسة موقوفة، ويُتصدَّق بما يخرج منها، سواء من غلتها أو من ثمارها وحتى من إيجارها، يُمكِن أن تُؤجَر أرض الوقف لمُدد مُعيَّنة، لمُدد مُعيَّنة! لا تُوجَد رُخصة مفتوحة في إيجار أرض الوقف، لكن هذه مسائل ودقائق فقهية موضعها آخر.

على كل حال قال إن شئت حبست أصلها وتصدَّقت بها، فتصدَّق بها عمر، أي وقفها، لم يُعطها لأحد، إنما جعلها – كما قلت لكم – على جهة أو جهات مُعيَّنة من جهات البر، هكذا وضَّح الحديث، قال فتصدَّق بها عمر على ألا يُباع أصلها ولا يُوهَب ولا يُورَث، الآن الجهة التي وقفها عليها – أي وقف هذه الأرض عليها – ما هي؟ قال في الفقراء والغرباء والرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل، لا جناح على مَن وليها أن يأكل منها بالمعروف، أو يُطعِم صديقاً، لا جُناح عليه أي لا بأس، لا جُناح عليه أن يطعم هو، وهذا يُسمونه ناظر الوقف، ناظر الوقف الذي يتولى إدارة – أي Management – هذا الوقف، لابد له من ناظر، يقوم على شؤونه وعلى مرمته، هذا والي الوقف أو مُتولي الوقف أو ناظر الوقف، يقول عمر لا جُناح عليه أن يأكل منها، أن يَطعَم منها، وأن يُطعِم منها، أن يُوكِل منها صديقاً، يُطعِم أصدقاءه ومعارفه وأحبابه، غير مُتأثِّل – وفي رواية غير مُتموِّل – منه، أي من هذا المال أو من هذا الوقف، ما معنى غير مُتأثِّل أو غير مُتموِّل؟ بمعنى ألا يأخذ مالاً لنفسه، يتملَّك شيئاً من هذا الوقف، ممنوع! لكن يستطيع أن يأكل كما يأكل الناس الآخرون، فما الفرق إذن؟

الفرق أن عمر جعلها في الفقراء والغرباء والرقاب وابن السبيل وفي سبيل الله، وهذا ليس منهم، ليس أحد مصاديقهم، وقد يكون إنساناً له أو لديه شيئ من مال، من مال طائل! فهو ليس فقيراً أو مسكيناً، أي ناظر الوقف، ولكن لأنه ناظر الوقف يجوز له هذا، وعمر أجاز له أن يأكل من الغلة ومن ثمار هذا الوقف، ولكن من غير أن يتأثَّل مالاً، أي يتملَّك شيئاً منه، ممنوع طبعاً، ويُعتبَر هذا خيانة لشرط الواقف.

هذا الحديث أخرجه البخاري، وأخرجه أيضاً الإمام مُسلِم وأصحاب السُنن – رحمة الله على الجميع -، وأيضاً – إخواني وأخواتي – ذكرت لكم إشارة إلى حديث أبي طلحة أو إلى قصة وحكاية أبي طلحة الأنصاري – رضيَ الله عنه وأرضاه -، هذا كان من مشاهير فُرسان الأنصار، النبي يقول عنه أبو طلحة كتيبة وحده، كان فارساً مقداماً شجاعاً مغوراً، وهو زوج أم أنس بن مالك، تزوَّجها أبو طلحة، وكان أنس ربيباً عنده، كان أنس ربيباً في حجر أبي طلحة – رضوان الله تعالى عنهما -، وعلى كل حال في الصحيح – في صحيح البخاري – من حديث أنس بن مالك – رضيَ الله تعالى عنه -، قال كان أبو طلحة أكثر أنصاري المدينة – أي أكثر الأنصار، أكثر أنصاري أهل المدينة، ماذا؟ – مالاً من نخل، أكثر واحد عنده نخل ونخيل هو أبو طلحة الأنصاري.

وكان أحب ماله إليه بيرحاء، هذا بُستان، اسمه هكذا بِيرُحاء أو بَيرُحاء، لماذا؟ فيه نخل كثير، وفيه عين طيبة الماء، غزيرة طيبة الماء، كان النبي يأتي فيدخل ويشرب منها، وبيرحاء هذه – أي هذا البُستان أو هذا الحائط – مُستقبِلة المسجد، قال مُستقبِلة المسجد، أي المسجد النبوي الشريف، جميل!

فلما نزل قول الله – تبارك وتعالى – لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۩ أتى أبو طلحة – رضيَ الله عنه – الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام -، وقال له يا رسول الله إني أكثر الأنصار نخلاً، وإن أحب مالي إلىّ بيرحاء، وقد جعلتها صدقةً لله – تبارك وتعالى -، فضعها حيث شئت، أو فيمَن شئت، ضعها في الفقراء أو في المساكين أو فيمَن تُريد، أنا تصدَّقت بها، فقال له – عليه الصلاة وأفضل السلام – بخٍ، أي يستحسن، يستحسن فعله ويمتدحه، قال بخٍ، ذلك مال رابح، قد سمعت ما قلت يا أبا طلحة، ولكن ضعها في أهلك وقرابتك، قال ضعها في أهلك وقرابتك، أي النبي أشار عليه أن يجعلها في الأقربين، قال أبو طلحة أفعل ذلك يا رسول الله، فجعلها في أقاربه وفي بني عمه – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -.

هذا الحديث – حديث أبي طلحة المُخرَّج في الصحيح – يُعتبَر أيضاً أصلاً من أصول الأدلة على مشروعية الوقف، أيضاً استدلوا بما رواه الإمام أبو بكر البيهقي الشافعي في كتابه السُنن الكُبرى، عن أم المُؤمِنين عائشة – رضيَ الله تعالى عنها وأرضاها -، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – جعل سبع حيطان له بالمدينة صدقةً على بني المُطلب وبني هاشم، وهذا أصل أيضاً في الوقف، النبي وقف هذه الحيطان على مَن ذكرت، وما معنى الحيطان يا إخواني وأخواتي؟ الحيطان جمع حائط، ومعناها البُستان الذي حاطه صاحبه بحائط، فهو محوط بحائط، لأن البُستان قد لا يكون محوطاً، قد يكون بلا حائط، قد يكون بلا حائط وهو بُستان، أشجار مزروعة في منطقة مُحدَّدة، لكن ليس لها سور يُحيط بها، فإن حيطت بسور سُميت حائطاً، أي بُستاناً أو حديقةً لها سور سُوِّرت به، فالنبي كان له سبعة حيطان، سبعة حيطان بالمدينة، وهذا مال! جعلها صدقة في بني المُطلب وبني هاشم، أي وقفها عليهم – عليه الصلاة وأفضل السلام -.

وقد وقف من الصحابة كثيرون، من أشهر الذين وقفوا أموالهم الإمام عمر، وعثمان، وعليّ، وابن عمر، وفاطمة بنت رسول الله، وطلحة، والزُبير، وكما قال جابر بن عبد الله – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم – ما بقيَ أحد من أصحاب رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – له مقدرة إلا وقف، أي واحد عنده قدرة أن يقف شيئاً كان يقفه، يتقرَّب به إلى الله – تبارك وتعالى -، هذه صدقة جارية! تخيَّلوا أن بعض السلاطين وبعض الأغنياء وبعض حتى ذوات اليسار من النساء وقفت شيئاً، وقفت – مثلاً – مدرسةً أو مسجداً أو وقفاً على مدرسة أو وقفاً على مسجد، واشتغل خمسمائة سنة أو ستمائة سنة، وبعضها اشتغلت ألف سنة، شيئ غريب! ألف سنة يُجرى عليه أجره عند الله – تبارك وتعالى -، فعلاً بخٍ بخٍ، ذلك مال رابح.

ولذلك الصحابة كانوا يُسارِعون ويحرصون على أن يقفوا شيئاً من أموالهم بل شيئاً طائلاً، والآن سيطرق مسامعكم شيئ مُحزِن، فعلاً مُبكٍ، كيف وقف عمر كل ما لديه؟ تقريباً وقف كل شيئ، لم يُبق لأهله شيئاً، وقف أمواله كلها في سبيل الله، الإمام عليّ – عليه السلام – نفس الشيئ، مات وما خلَّف إلا سبعمائة درهم، تقريباً مائة دينار، أي مائة وقليل، مائة دينار فقط! وماذا عن الأموال؟ كان عنده أموال، كان عنده أشياء قيمتها أو غلتها أربعة آلاف، هذه غلتها، تغل أربعة آلاف، أي أربعة آلاف دينار، كلها تصدَّق بها ووقفها لله – تبارك وتعالى -.

في الكتاب الجامع – جامع الأصول في أحاديث الرسول – للإمام ابن الأثير الجزري يقول لك باب صدقة الوقف، باب صدقة الوقف لأن الوقف بلا شك من الصدقات، من أجل الصدقات، لكنه كما سمعتم صدقة جارية، نعم!

اللافت – أيها الإخوة والأخوات – هو الآتي، وهذا من لطيف ما التفت إليه الإمام الشافعي ولفتنا إليه، الإمام أبو عبد الله الشافعي – رحمة الله تعالى عليه – في كتابه الموسوعي الأم قال لم يقف أحد من أهل الجاهلية، وهو عبَّر عنها بالحبس، قال لم يحبس أهل الجاهلية فيما علمنا داراً ولا أرضاً، أهل الجاهلية لم يعرفوا هذا الشيئ، أن يحبسوا أرضاً أو داراً أو مالاً، وإنما حبس أهل الإسلام، كأنه يُريد أن يقول هذا من خوالد المُسلِمين، وهذا من مُبتكَرات المُسلِمين، المُسلِمون هم الذين ابتكروا هذا.

وقد يقول قائل الآن في أوروبا وفي أمريكا موجود الوقف، وله أسماء تختلف من لُغة إلى لُغة أوروبية، موجود! وفعلاً هو موجود، هذا صحيح، ولكن تقريباً أول ما عُرِف الوقف في الغرب إنما عُرِف في بدايات القرن العشرين يا إخواني، تقريباً في ألف وتسعمائة وعشرة هكذا أو في هذا النحو، لكن المُسلِمون عرفوه من أول أيامهم في الفترة المدنية.

ولذلك – كما قلت لكم إخواني وأخواتي – صلى الله وسلم وبارك وشرَّف وكرَّم على مُعلِّم الناس الخير، من أين له هذا؟ من أين؟ وطبعاً عليكم دائماً أن تتساءلوا وأن تتخيَّلوا الآتي، تتخيَّلوا رجلاً بُعِث في أمة أُمية، في صحراء، تقريباً مُعظَم بلادهم صحراء، وهناك مُدن بسيطة كالمدينة المُنوَّرة، يتعاطون صناعة الزراعة في حدود أيضاً، في حدود! لا تُوجَد ثقافة، لا تُوجَد فلسفة، لا يُوجَد فكر عميق، ولا يُوجَد أي شيئ! من أين أتى بكل هذا المنهج وبكل هذا التشريع المُتكامِل العجيب المُعجِب المُدهِش؟! ما ترك باباً من أبواب الخير إلا فتحه – عليه الصلاة وأفضل السلام -، ولا سبيلاً إلا سلكها ودل على سلوكها، وكيف يكون سلوكها؟ على أحسن ما يكون السلوك، شيئ غريب! من أين؟! هذا هدي إلهي – إخواني وأخواتي -، هذه بصيرة ربانية، الله هو الذي بصَّره، وهو الذي هداه – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم -.

كما قلت لكم في إشارة سريعة الإمام أبو حنيفة والإمام القاضي شُريح بن الحارث الكندي منعا الوقف وأبطلاه، رأيا أن الوقف غير مشروع، واحتجا بأشياء، من بينها حديث ابن عباس، أنه لما أنزل الله – تبارك وتعالى – سورة النساء نهى النبي عن حبس الأموال بعد ذلك، قال لا حبس في الإسلام، بعد سورة النساء لا حبس، والمقصود ما هو؟ أبو حنيفة فهم أن المقصود هو أنه لا يُشرَع في دين الله – تبارك وتعالى – أن يُحبَس شيئ من مال المُتوفى عن أن يُقسَم بين الورثة والمُستحقين، قال والوقف هو حبس لشيئ من هذه الأموال، فهو غير مشروع.

على كل حال نُوقِش أبو حنيفة في فهمه للحديث، والحديث فُهِم على نحو آخر، كما نُوقِش أيضاً في صحة الحديث نفسه، والحديث ضعيف، على كل حال هذا رأي أبي حنيفة بحد ذاته، الإمام العظيم الكبير – رضوان الله عليه -، جمهور الحنفية أو جمهور السادة الحنفية سايروا الجمهور، وقالوا بمشروعية الوقف بحمد الله – تبارك وتعالى -.

أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الكُليني التَلميذ النجيب لأبي حنيفة كان يقول بقول شيخه، يمنع أيضاً الأحباس والأوقاف، وظل على ذلك مُدة مديدة، إلى زمان هارون الرشيد، وطبعاً الإمام أبو حنيفة تُوفيَ في زمان أبي جعفر المنصور، إلى أيام الرشيد كان أبو يوسف يقول أيضاً بعدم مشروعية الأحباس أو الأوقاف، حتى حج مع الرشيد مرةً، وربما تكون أول حجة حجها مع الرشيد، ورأى بعيني رأسه وقوف – أي أوقاف وأحباس – الصحابة في المدينة، وهي كثيرة، منها وقوف لعليّ، ومنها لعمر، ولطلحة، وللزُبير، فعاد عن قول إمامه، وصار يقول بمشروعية الأحباس أو مشروعية الأوقاف – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين -.

الآن نأتي نضرب نماذج لبعض الصحابة وبعض ما وقفوا من أوقاف – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم -، ونبدأ بالفاروق عمر – رضوان الله عليه -، أبو بكر لم يُخلِّف شيئاً ليُوقَف، لم يكن عنده شيئ ليُوقَف، تقريباً هو أنفق ماله كله في سبيل الله وفي سبيل رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -، ماذا خلَّفت لهم يا أبا بكر؟ قال خلَّفت لهم الله ورسوله – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، أما عمر – إخواني وأخواتي – ففعل الآتي، قد يقول قائل هل عمر حبَّس أو حبَس؟ هل عمر وقف أوقافاً؟ نعم، ما كان يتيسَّر له من مال مُباشَرةً يقفه في سبيل الله، في جهات أو على جهات مُعيَّنة يُحدِّدها – رضوان الله تعالى عليه -، عمر الذي لم يكد يشبع من الطعام المُحترَم، عمر الذي كان يلبس المُرقَّعة، سبع عشرة رُقعة – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -.

لكن كونوا معنا بعد هذا الفاصل، حتى نُطالِع شيئاً من خبر وقوف عمر، فبارك الله فيكم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم إخواني وأخواتي.

روى الإمام أبو داود السجستاني في كتاب السُنن له روايةً تُوضِّح كتاب عمر الذي وقف به أمواله – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، نحن مر بنا حديث عبد الله بن عمر، عن عمر، وكيف وقف خيبر، هذا في الصحيح أو في الصحيحين، ولكن هنا وقف خير وغير خيبر، أي تقريباً كل ما تموَّله من مال – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -.

نص هذا الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى عبد الله عمر بن الخطاب أمير المُؤمِنين، يُسمي نفسه عبد الله، يقول هذا ما أوصى عبد الله عمر بن الخطاب أمير المُؤمِنين، إن حدث به حدث أن ثمغاً وصرمة بن الأكوع والعبد الذي فيه والمائة السهم التي بخيبر ورقيقه الذي فيه والمائة – أي والمائة السهم – التي أطعمه محمد – صلى الله عليه وسلم – بالوادي، إذن هذه أمواله! هناك ثمغ وصرمة بن الأكوع، وهما مالان مشهوران له، وقفهما في المدينة المُنوَّرة، هكذا اسمهما، صرمة بن الأكوع وثمغ، وأيضاً له مائة سهم بخيبر، وفيها رقيق، أي عبد، عبد واحد على ما يبدو، وأيضاً هذا وقف لله، ومائة سهم أعطاه إياها رسول الله بالوادي، كل هذه الأموال تقريباً وقفها عمر بن الخطاب، وهي تقريباً كل أمواله.

تليه حفصة، جعل الناظر عليه والذي يتولاه ابنته أم المُؤمِنين حفصة – رضوان الله تعالى عليهما -، تليه حفصة ما عاشت، ثم يليه ذو الرأي من أهلها، يقول لا يُباع ولا يُشترى، يُنفِقه – أي الوالي، أي الناظر عليه، حفصة ومَن يليه مِن بعد حفصة -، يقول يُنفِقه، أي من السائل والمحروم وذوي القُربي، هذه هي الجهات التي وقف عمر أمواله عليها، ولا حرج على مَن وليه إن أكل أو آكل، إن أكل منه أو آكل أي أكل هو أو أطعم غيره من صديق أو معرفة، أو اشترى رقيقاً منه، لا حرج عليه أن يأخذ من غلته ليشتري رقيقاً، لماذا؟ يخدمون هذا الوقف، يعملون في هذا الوقف، يُصلِحون هذا الوقف، هؤلاء الرقيق من مال الوقف، وهذا يجوز، هذا شرط الواقف – رضيَ الله عنه وأرضاه -.

هذا ما كان من سيدنا عمر بن الخطاب، كذلك الإمام عليّ بن أبي طالب – عليه السلام، وكرَّم الله وجهه -، وقد كان معروفاً بالزُهد العظيم، مُتقلِّلاً من الدنيا، وكما قلت لكم مات ولم يُخلِّف – هذا نص كلام أبي محمد الحسن، ابنه الأكبر، عليه السلام – إلا سبعمائة درهم، قال لقد فقدتم اليوم أو فارقكم اليوم رجل لم يُخلِّف صفراء ولا بيضاء، إلا سبعمائة درهم، أراد أن يشتري بها رقيقاً أو خادماً لأهله، هذه كل تركة الإمام عليّ، سبعمائة درهم! فماذا عن أمواله؟ ماذا عن الأشياء التي أخذها من الغنائم؟ وماذا عن أي شيئ؟ كل هذه الأشياء جعلها وقفاً – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، وكرَّم الله وجهه -.

ولذلك كتب في كتاب – أي في كتاب الوقف -: هذا ما أمر به عبد الله عليّ بن أبي طالب أمير المُؤمِنين، وقضى في ماله، أني تصدَّقت بينبع وبوادي القُرى وأُذينة وراعة – هذه أموال له، أربعة أموال له – في سبيل الله – تبارك وتعالى – وذي الرحم القريب والبعيد، لا يُوهَب ولا يُورَث حياً أو ميتاً – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، هذا عليّ الذي قال لقد رأيتني وإني لأربط الحجر على بطني من الجوع، في يوم من الأيام كنت أرتبط حجراً على بطني، حتى أسكِّن ألم ومض وعض الجوع، وإن صدقتي اليوم لتبلغ أربعة آلاف دينار، كيف؟ ليست الصدقة بمعنى الصدقة التي يُخرِجها من ماله، أي زكاة المال، لا! وإنما يُريد الأوقاف التي وقفها.

يبدو أنه أراد أن غلاتها تبلغ ربما أربعة آلاف دينار في السنة، أو قيمتها، والله – تبارك وتعالى – أعلم ما المُراد، أي هل قيمة هذه الأوقاف أربعة آلاف دينار؟ والظاهر أنها أكثر من هذا، لأنها أموال كثيرة ومُتعدِّدة كما سمعتم، فربما يكون الأرجح أن غلات هذه الأموال التي وقفها تبلغ أربعة آلاف دينار في السنة – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -.

هناك قصة أوردها الإمام ابن حجر في الإصابة مُختصَرة، ولكن نحن نُورِدها لكم مُطوَّلة، فيها عبرة وقصة جميلة ولطيفة، وهي قصة عين أبي نيزر والبُغيبغة، مالان أيضاً وقفهما الإمام عليّ على الفقراء والمساكين وفي جهات البر لله – تبارك وتعالى -، مَن هو أبو نيزر هذا؟ أبو نيزر كما ترجمه الإمام شمس الدين الذهبي مُستدرِكاً هذا كان ابن النجاشي، ابن النجاشي! والمشهور أنه أسلم، أي النجاشي، وقد أتى النبي صغيراً، يبدو هذا بعد وفاة أبيه – رضوان الله تعالى عليه -، أتى النبي صغيراً، فجعله النبي في مؤنته، جعله مع أهله، وهو ولد صغير، وقد أسلم، أسلم صغيراً، فلما تُوفيَ – عليه الصلاة وأفضل السلام – صار أبو نيزر هذا وهو ابن النجاشي إلى مَن؟ إلى فاطمة – عليها السلام – في ولدها، أي صار مع الحسن والحُسين.

ولذلك أتت من هنا علاقة الإمام عليّ بأبي نيزر، يُحدِّثنا أبو نيزر هذا – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، يقول جاءني عليّ بن أبي طالب يوماً وإني بالضيعتين: ضيعة عين أبي نيزر وقد نُسِبت إليه، وضيعة البُغيبغة، مالان! أي عين أبي نيزر والبُغيبعة، نعم! جاءني فقال لي هل عندك يا أبا نيزر طعام؟ فقلت لا أرضاه لأمير المُؤمِنين، إذن هذه القصة متى كانت؟ في خلافة الإمام عليّ – عليه السلام -، لما كان خليفة، أمير المُؤمِنين، يحكم زُهاء عشر دول يا إخواني، ليس دولة واحدة، زُهاء عشر دول! قال عندي طعام، ولكن لا أرضاه لأمير المُؤمِنين، قرع من قرع الضيعة، أي قرع من هذه الضيعة، وربما قال من ضيعة أبي نيزر، إذن قرع من قرع الضيعة، طبخته بإهالة سنخة، والإهالة هي الدُهن المُذاب، دهن الإلية ربما أو كذا يُذاب، وسنخة أي مُتغيِّرة الريح، أي طعام رديء جداً هذا، قال قرع من قرع أبي نيزر، أو من قرع الضيعة، طبخته – أي أعددته – بإهالة سنخة، بدُهن مُذاب مُتغيِّر الريح، ريحه ليست طيبة.

فقال علىّ به، قال فأتتيه به، فقام إلى الربيع، والربيع جدول ماء صغير في الضيعة، فقام إلى الربيع، فغسل يديه، ثم جاء فجلس وأصاب منه شيئاً، أكل لُقيمات، وأصاب منه شيئاً، ثم قام إلى الربيع وأنقى يديه بالتراب، ثم أقبل علىّ وقال يا أبا نيزر أطهر الأنية الأكف، ثم حَسا حُساً من الماء بيديه، جمع حسوة، والحسوة هي الشربة التي تملأ الفم، أي فحَسا بكفيه بضع حسوات، قال ثم حَسا حُساً بيديه، ثم مسح بندى ذلك الماء على بطنه، وقال يا أبا نيزر مَن أدخله بطنه النار فأبعده الله، قال مَن أدخله بطنه النار فأبعده الله، أي يُريد أن يقول الدنيا لا تستأهل، والدنيا لا تستحق، لا تستحق لكي نأكل ونشرب وكذا أن نركب الحرام، وأن نعصي الله – تبارك وتعالى – ونأكل ما ليس لنا، أبداً! أمور تافهة، كأنه يقول ها قد كنت جائعاً، فأتيت وأكلت من هذا الطعام المُتواضِع، وانتهى كل شيئ! سددت جوعتي – عليه السلام -، وهو رجل حكيم، أُوتيَ العلم والحكمة الإمام عليّ، كيف لا وهو القائل كم من حاجة لنا قضيناها بتركها!

إذن يا أبا نيزر مَن أدخله بطنه النار فأبعده الله، أي لا يرحم الله هذا البعيد الذي بسبب بطنه يدخل النار، فيركب المُحرَّمات ويأكل ما أصله حرام – والعياذ بالله – أو ما كُسِب بحرام، ثم أخذ المعول فانحدر في العين، وجعل يضرب، فأبطأ عليه الماء، أبطأ عليه الماء أي لم يخرج الماء، فخرج وقد تفضج جبينه عرقاً، وقد تفضج جبينه عرقاً أي سال وتصبب عرقاً، فانتكف العرق بيديه، انتكف أي مسحه ونحاه، فانتكف العرق بيديه ثم أخذ المعول، وعاد إلى العين، فأقبل يضرب ضرباً، وجعل يُهمهِم، ومعنى يُهمهِم أي يتكلَّم بكلام يُسمَع ولا يُدرى محصوله، ماذا يقول؟ الله أعلم، وطبعاً الأرجح أنه يدعو، يدعو الله – تبارك وتعالى – أن يفتح عليه وأن يظهر الماء.

وجعل يُهمهِم، قال أبو نيزر فانثالت العين، أي تفجَّرت، مثل عُنق الجزور، مثل عُنق القعود، أي ولد الناقة، قال فانثالت العين، أي تفجَّرت، مثل عُنق الجزور، فخرج مُسرِعاً، مُباشَرةً أول ما انثال الماء خرج بشكل عنيف وقوي، يتدفَّق مغزاراً، فخرج الإمام – عليه السلام – وقال الآتي، قال مُباشَرةً أُشهِد الله – تبارك وتعالى – أنها صدقة، لا إله إلا الله! أي بدل أن يفرح بهذا المال أو بهذا الشيئ ويقول هذه لي وهذه في الضيعة وهذه مكسب جديد، مُباشَرةً فرح بها وقال أُشهِد الله أنها صدقة، خرج عنها مُباشَرةً لله – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، هكذا يا إخواني هو الطمع في الآخرة فعلاً، هذا هو الطمع في القُرب من الله، الطمع في الأجر وفي المثوبة، ليس الطمع في الدنيا فقط وأعراض الدنيا وحُطام الدنيا، نجمع ونمنع ونجمع ونمنع ثم نموت ونُدبِر ونترك كل شيئ لغيرنا، يتمتعون ونحن نُحاسَب ونُحاقَق، نسأل الله حُسن البصر في الدين.

قال أُشهِد الله أنها صدقة، علىّ بدواة وصحيفة يا أبا نيزر، قال فعجَّلت له بهما، فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما تصدَّق به عبد الله عليّ أمير المُؤمِنين، تصدَّق بالضيعتين المعروفتين بعين أبي نيزر والبُغيبغة على فقراء أهل المدينة وابن السبيل ليقي الله بهما وجهه حر النار يوم القيامة، لا تُباعان ولا تُوهبان، حتى يرثهما الله وهو خير الوارثين، إلا أن يحتاج إليهما الحسن أو الحُسين، فهما طِلق لهما، ليس لغيرهما، طِلق أي حلال، تصدَّق بهما كلتيهما – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، وسلام الله عليه -.

العجيب – إخواني وأخواتي – أنه بعد ذلك يروي لنا التاريخ أن الحُسين – أبا عبد الله الشهيد، عليه السلام – ركبه دين كبير، فحمل إليه مُعاوية بن أبي سُفيان مائتي ألف دينار، وبالله تفكَّروا، حمل إليه مائتي ألف دينار، والدينار كان دينار الذهب يا إخواني، أي مائتي ألف ذهبية، والدينار ستة دراهم فضية، مبلغ هائل! أي أكيد أن مائتي ألف دينار قد تُساوي اليوم مائتي مليون يورو أو أكثر، ربما أكثر حتى من هذا، مبلغ هائل جداً جداً، ومُعاوية كان يرغب في هذه الضيعة، يرغب في ضيعة عين أبي نيزر، فحمل له فيها مائتي ألف دينار، يستطيع أن يسد الحُسين دينه ويعيش بها دهراً هو وأهله وذُريته، فقال الحُسين – عليه السلام – لا أبيعها، قد تصدَّق بها أبي ليقي الله بها وجهه حر النار يوم القيامة، فلست بائعها بشيئ – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم -، وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ۩، هكذا يكون طلب الآخرة.

خالد بن الوليد – رضوان الله تعالى عليه – يا إخواني وأخواتي أيضاً احتبس أدراعاً له وأعتدةً – العُدة الحربية، الأعتدة والعتاد الحربي يا إخواني يكون آلة الحرب من سيوف ورماح وما إلى ذلك، ويكون أيضاً الركوبة، كالخيل أو ما إلى ذلك – في سبيل الله، احتبسها كلها في سبيل الله خالد بن الوليد، سيف الله المسلول – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -.

إخواني وأخواتي:

سنعجب لو ألقينا نظرة أو قرأنا فصلاً واحداً من فصول الحضارة الإسلامية التي ساهم الوقف أو ساهمت الأوقاف أعظم مُساهَمة في تشييدها وإمدادها واستمرارها، كالمساجد، المشافي، الأسبلة – جمع سبيل، وفيها المياه -، ودور العلم المُختلِفة، التي بدأت بشكل مُبسَّط، ثم انتهت إلى جامعات على مُستوى عالمي، يُطلَب فيها العلم من جميع أنحاء العالم، من أوروبا كانوا يسيرون ويركبون ويُسافِرون إليها، يقصدونها، أي دور العلم المُختلِفة، جامعات كبيرة جداً، وأحياناً سلاسل من الجامعات، كالسلاسل النظامية، نسبة إلى الوزير السلجوقي نظام المُلك، رحمة الله تعالى عليه، هناك المدارس النظامية، مثل نظامية بغداد، نظامية نيسابور، ونظامية كذا، جامعات على أرقى مُستوى، هذه أوقاف، أوقاف!

وبالمُناسَبة هناك نوع من الأوقاف لكن لا يعترف كثير من الفقهاء بكونه وقفاً، يقولون هذا ليس وقفاً، لا يتوفَّر على تلبية شروط الوقف الشرعي، يُسمى وقف الأرصاد، وقف الأرصاد يتعلَّق بأمير مُؤمِنين أو بخليفة أو بسُلطان يقف جُزءاً من المال  – من مال الأمة، من مال بيت المال – على جهات بر وخدمات عامة للأمة، قالوا أصلاً هو لا يملك هذا المال حتى يقفه، حتى يقفه أي حتى يُوقِفه، أصلاً هو لا يملك هذا المال حتى يقفه! ولذلك لا يُعتبَر هذا وقفاً حقيقياً، ولكنه أيضاً من أبواب الخير والبر وتدعيم المصالح العامة، يُقال أول مَن ابتكره هو نور الدين الشهيد، نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي – رضيَ الله تعالى عنهما وأرضاهما -.

أقول – إخواني وأخواتي – مَن يقرأ فصلاً واحداً من كتاب الحضارة الإسلامية فيما يتعلَّق بالأوقاف يأخذه العجب، العجب العاجب! لا يُقضى له عجب، أوقاف تفنن فيها المُسلِمون على أعجب ما يكون يا إخواني، وكما قلت لكم تحكي عن حس إنساني رفيع، تُترجِم حساً إنسانياً رفيعاً، حساً بالمسئولية، وحساً أيضاً – إخواني وأخواتي – بضعف الضعفاء، وبمحرومية المحرومين، حتى في أشياء تقريباً لا تكاد تخطر على بال، فمثلاً – أُسارِع لكم بضرب مثال – هناك قصر في دمشق يُدعى أو كان يُدعى بقصر الفقراء، وهذا وقف، وقف أرصاد هذا تقريباً، إلا أن يكون من مال نور الدين محمود، قصر الفقراء! ما حكاية قصر الفقراء هذا؟

نور الدين محمود خرج مرةً إلى مُتنزَّه في دمشق، فهذا المُتنزَّه تقريباً لا يرتاده إلا الأغنياء، أي الذوات، العلية، وأصحاب الهيئة، فعز عليه وكبر عليه أن الفقراء محرومون من أن يُمتِّعوا نفوسهم ونواظرهم بمثل هذه المشاهد الطبيعية، فبنى هذا القصر – قصر نُزهة حقيقةً، وفيه من كل شيئ، من صنوف الطيور ومن صنوف الأشجار المُثمِرة وغير المُثمِرة والأزاهير والأوراد ذات الرائحة الطيبة المُستلَذة – وسماه قصر الفقراء، وقف هذا على الفقراء، لكي يُشبِعوا الحاسة الجمالية عندهم، شيئ غريب! ما هذه الإنسانية؟ هل هذا قائد عسكري؟ وهل نور الدين محمود هذا؟ نعم، هذا نور الدين محمود، قصر للفقراء! حس جمالي عجيب وغريب يا إخواني.

لكن طبعاً من أوائل الأوقاف في حضارتنا الإسلامية المشافي، أي المُستشفيات، المشافي! أحمد بن طولون في مصر – صانها الله – أول مَن بنى مُستشفى أو مشفى وقفه على الفقراء والمساكين، يتطببون فيه ويُعالَجون، وسن فيه سُنة حميدة، يأتي الفقير يُسلِّم ألبسته، ويُلبَس ألبسة جديدة نظيفة نقية، وبعد ذلك يُجرى عليه يومياً الطعام والشراب والغذاء والدواء، وبعد أن ينتهي يُعاد إليه ملبوسه وأمتعته، وربما أعطوه مالاً يعود به إذا كان أتى من مكان بعيد، يعود به إلى أهله، هذا مُستشفى وقفه الأمير ابن طولون وهو أول مُستشفى في مصر موقوف – رحمة الله تعالى عليه -.

لكن أول ربما بيمارستان أو مشفى أو مُستشفى في الإسلام هو الذي هيَّأه وأمر ببنائه الوليد بن عبد الملك، المُتوفى سنة ست وتسعين للهجرة، الخليفة الأموي، وكان مُغرَماً بالعُمران، الوليد معروف بهذا، وهو الذي أمر طبعاً بتشييد الجامع الأموي العظيم الكبير، والموجود إلى اليوم، آية من آيات العُمران في تاريخ الحضارة الإسلامية، بل في تاريخ الدنيا، فأول بيمارستان في الإسلام هو الذي أمر – أي الوليد بن عبد الملك – بإنشائه، وهو نفس الشيئ، نفس الشيئ! هذا قبل ابن طولون بزُهاء تقريباً مائة وأربعين سنة، زُهاء مائة وأربعين سنة!

كان يهتم كثيراً الوليد بالمجذومين، أي المُصابين بمرض الجُذام، وهو مرض مُنفِّر ومُعدٍ وخطير، وفي الحديث فر من المجذوم فرارك من الأسد، كان يهتم بهم كثيراً، ويهتم بعلاجهم وغذائهم وأدويتهم وملابسهم، وينهى أن يتكففوا الناس أو أن يتسولوا شيئاً.

وعلى كل حال البيمارستانات أو المُستشفيات كثيرة جداً في التاريخ الإسلامي، لا تكاد تُعَد وتُحصى، من أشهرها البيمارستان النوري، الذي أقامه وقفاً لله – تبارك وتعالى – أيضاً نور الدين محمود، وقد أنشأ هذا البيمارستان في دمشق، وآخر أيضاً يُعرَف بالنوري في حلب الشهباء، كان مشفى كبيراً كما يُقال، يعمل به عشرات الأطباء، وظل المشفى النوري في دمشق يعمل يا إخواني إلى تقريباً ألف وثمانمائة وشيئ وتسعين، ربما إلى ألف وثمانمائة وتسع وتسعين، وهذا زُهاء سبعمائة وسبعين سنة،  زُهاء سبعمائة وسبعين سنة وأجر هذا المُستشفى يُجرى على الإمام الشهيد، الملك العظيم، السُلطان نور الدين محمود – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ۩.

هناك أيضاً البيمارستان العضدي، الذي أنشأه عضد الدولة ابن بويه في القرن الخامس الهجري، ويتحدَّثون أيضاً عن عجائب هذا البيمارستان ومَن كان فيه مِن الأطباء والكُتب أيضاً، ويعتاده طبعاً الفقراء والمساكين من المُسلِمين وغير المُسلِمين، وهذه لفتة أيضاً إنسانية رائعة، أن هذه المشافي ونحوها لم تكن قصراً أو وقفاً على المُسلِمين، بل كانت مشاعاً لكل المُحتاجين.

وطبعاً بعض هذه المشافي كان شرط الواقف أنه لا يرتادها ولا ينتفع بها الأغنياء، فقط هي للفقراء والمحاويج، إلا أن يكون – يكتب الواقف – بها دواء أو علاج لا يتوفَّر في غيرها، في هذه الحالة يجوز للغني أن يرتادها، وتُفتَح له الأبواب لكي يأخذ بحظه من العلاج والدواء، مسألة عجيبة جداً يا إخواني!

أيضاً اتسع نوع عجيب من أنواع الأوقاف في زمان صلاح الدين الأيوبي وهو تَلميذ نور الدين محمود، وقد أرَّخ المُؤرِّخ العظيم شيخ الإسلام وشيخ الإمام النووي أبو شامة، أرَّخ للدولتين في كتابه الماتع الحفيل الروضتين، أي كتاب الروضتين في تاريخ الدولتين، الدولة النورية والدولة الصلاحية، أرَّخ لهما في هذا الكتاب الكبير بأجزائه، على كل حال في أيام صلاح الدين الأيوبي نظراً لاتساع رُقعة الجهاد والقتال في سبيل الله واستخلاص المُقدَّسات والأراضي المُغتصَبة من طرف الصليبيين اتسع نوع عجيب من أنواع الأوقاف، أوقاف على فكاك الأسرى، الهدف منها افتكاك الأسرى، أسرى المُسلِمين من الرجال والنساء من الصليبيين، وصلاح الدين له أوقاف كثيرة في مصر وغير مصر على فكاك الأسرى، أي وقفها على فكاك الأسرى – رضوان الله تعالى عليه -.

ومما يذكره المُؤرِّخون أيضاً أن كاتبه – الكاتب الأول له وصاحب القلم الأول عنده وهو القاضي الفاضل البيساني من فلسطين، معروف القاضي الفاضل، مشهور بالقاضي الفاضل – فعل الآتي، وذلك لما أن أراد أن يحج – رضوان الله تعالى عليه – وكان له في مصر رِبع – أي أرض أو عقار كبير، وفيه طبعاً أشجار وفيه أشياء – وكان أحب المال إليه، يقول المُؤرِّخون فأتى إليه ونظر، قال اللهم إنك تعلم أن هذا الرِبع – أي هذا العقار – أحب مالي إلىّ، فإني أُشهِدك أني قد جعلته وقفاً على فكاك أسرى المُسلِمين، قال فإني أُشهِدك أني قد جعلته وقفاً على فكاك أسرى المُسلِمين، نسأل الله أن يتقبَّل منهم جميعاً ومنا بقبول حسن.

أيضاً – إخواني – من العجائب أن المُؤرِّخين يُحدِّثوننا عن الآتي، وهذه لفتة إنسانية من أروع ما يكون، يُحدِّثوننا عن وقف مُختلِف، حدَّثنا عنه في الحقيقة الرحّالة الكبير الشهير ابن بطوطة، ابن بطوطة حدَّثنا عن جماعة وجُملة من أوقاف المُسلِمين بدمشق، قال وهي كثيرة الأنواع، لا تكاد تُعَد لكثرة أنواعها، وقف على كذا وكذا، من ضمنها – غير المشافي ودور العلم وأوقاف على المساجد – أوقاف على الحجّاج، الذي لا يستطيع أن يحج يُمكَّن من الحج، فإن كان لا يستطيع أن يحج هو بنفسه أُعطيَ مَن يحج عنه الكُلفة والنفقة، حتى يُحَج عنه، أوقاف على الحجّاج! تحدَّث عنها ابن بطوطة.

أيضاً أوقاف – إخواني وأخواتي – على مَن؟ على البنات اللاتي لا يستطيع أهلهن أن يُزوِّجهن، من أجل الكُلفة والتجهيز وكذا وكذا، هذه أوقاف لتزويج هؤلاء، لفتات إنسانية رائعة جداً! لكن من أعجب ما تحدَّث عنه ابن بطوطة – رحمة الله تعالى عليه – أوقاف الأواني، يقول كنت أمشي في دمشق أو في شارع من شوارع دمشق فإذا الناس قد تحلقوا واجتمعوا على غُلام – على رقيق، على عبد – سقط من يده إناء فخاري، أي إناء من الفخار، هذا الإناء الفخاري يا إخواني – قال – يُسمونه الصحن، يكون عادةً من الصين ويُسمونه الصحن، فقال له أحدهم اجمع شقفه، أي اجمع الحتت، اجمع شقف الإناء، اجمع شقفه، واذهب بها إلى صاحب وقف الأواني، أو إلى صاحب أوقاف الأواني، فما القضية هذه؟!

هناك وقف يا إخواني اسمه وقف أو أوقاف الأواني، فيه من كل أنواع الأواني، من كل أنواع الأواني! فخارية وغير فخارية، فإذا كسر عبد أو أمة إناء لسيده أو سيدتها ذهب إليه، وهو طبعاً يخشى أن يعود إليه فيضربه أو يُؤنِّبه، إلى آخره! كما قال ابن بطوطة، قال لابد أن سيده يضربه أو يُؤنِّبه، ولابد أن ينكسر قلب هذا الرقيق المسكين، قلب هذا الغُلام، انظر إلى هذا، يُراعى هذا عند المُسلِمين، وابن بطوطة يفهمه ويُعرِب عنه، قال ينكسر قلبه، قلب رقيق، ليس قلب الزوج أو الزوجة أو الابن، وإنما قلب الرقيق، أي العبد المملوك، فماذا؟ يذهب بهذا الإناء المكسور إلى صاحب أوقاف الأواني، يُعطيه إياه، ويُعطيه إناءً بدلاً منه، فيعود إلى سيده به، نفس الوقف هذا كان أيام العثمانيين، وسموه وقف الفاخورة أو وقف الكاسورة، نفس الشيئ! أواني فخاري وغير فخارية، وهذه لفتات إنسانية رائعة.

في مراكش – في المغرب العربي – هناك وقف كان يُسمى وقف الدُقة، وقف الدُقة! وهذا غريب وعجيب أيضاً، وقف الدُقة موقوف على ماذا؟ موقوف لصالح النساء اللاتي تقع النفرة والوحشة والخلاف بينهن وبين أزواجهن، فربما طردها الزوج وربما ضيَّق عليها جداً وأهانها، هذا وقف لأمثال هؤلاء النسوة، تأتي إليه مُعزَّزة مُكرَّمة، وتُعطى طعاماً وشراباً ومبيتاً، وربما كما يقول المُؤرِّخون سُميَ بوقف الدُقة من باب أنه مأخوذ من الدق، أي الأخذ، من الأخذ على اليد، الضرب على اليد، من باب أنه مأخوذ من الدق على يد هذا الزوج الظالم المُسيء، الذي يُسيء العشرة ولا يُحسِنها، حتى يتأدَّب ويتعلَّم، تبقى هناك إلى أن يأتي هذا الزوج ويُصالِح زوجته، وأيضاً هذا الشيئ إنساني، أي هذه لفتة إنسانية رائعة.

وهناك أوقاف كثيرة، كان هناك – إخواني وأخواتي – أوقاف حتى على الحيوانات المريضة، ما رأيكم؟ أوقاف على الحيوانات المريضة لكي تُعالَج، أوقاف على القطط لكي تأكل وتشرب وتبيت، آخر شيئ – وقد أدركني الوقت للأسف الشديد – يا إخواني وأخواتي هو الآتي، كان هناك نوع من الوقف العجيب في المشافي، وهذا الوقف – وهو آخر وقف – لا يزال داخل وقف أو ضمن وقف، ما هو؟ هذا الوقف يقضي بترتيب وتوظيف مُوظَّفين في العادة يكونان اثنين، يكونان اثنين! ويزوران – أي هذان المُوظَّفان – ماذا؟ يزوران المشافي، ويقتربان من المريض، ويبدأن يتحدَّثان فيما بينهما حديثاً يتقصدان أن يسمعه، يتحدَّثان بصوت عالٍ بحيث يسمع المريض حديثاً يُوحي إليه بالشفاء، يُوحيان إليه بالحديث بالشفاء، مثلاً يقولان هذا المريض والله حالته حسنة، وجهه أحمر مُورِّد، وواضح أنه – إن شاء الله – يتماثل للشفاء، الحمد لله، شيئ غريب! نوع من الإيحاء بالشفاء للمرضى، وقف على هذا الموضوع.

أدركني الوقت، إلى أن ألقاكم إخواني وأخواتي في حلقة جديدة أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، فالسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: