برنامج آفاق

اللحية

 

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.

أحبتي في الله، إخواني وأخواتي:

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، حديثي اليوم إليكم عن موضوع اللحية، إعفاء اللحية وحلق اللحية وتهذيب اللحية.

طبعاً بعض الناس قد يستغرب ويتعجب، ابتداءً يقول وهل هذا الموضوع من الموضوعات التي تستحق أن نتحدَّث عنها في حلقة أو حلقات مُتلفَزة؟ طبعاً هذا المُعترِض ربما لا دراية له بأن هناك من المُسلِمين مَن يُبالِغون ويُغالون ويتشددون جداً في قضية اللحية وما يتعلَّق بها، حتى أن منهم مَن يحكم بالفسق على المُسلِم المُكلَّف الذي يحلق لحيته، بل منهم مَن يُفتي بأن الصلاة خلفه غير جائزة، الصلاة باطلة خلف حليق اللحية، ومنهم مَن يعتبر دين أو تدين المُسلِمين بمقدار ما يُوفِّرون من لحاهم، فصاحب اللحية العظيمة الكثة الضخمة الطويلة في وهمهم وفي ظنهم هو أصدق تديناً وأعمق تديناً، هكذا يظنون للأسف الشديد!

إذن هذا الموضوع بلا شك يمس – إخواني وأخواتي – قضية طبيعة التدين، وهل هو تدين جوهري أم تدين ظاهري؟ لكن لابد أن نتكلَّم بطريقة علمية، تستند إلى الأدلة، عرض هذه الأدلة، مُحاكَمة هذه الأدلة، عرض لمواقف وآراء العلماء المُختلِفة أيضاً من هذه الأدلة، أدلة تتعلَّق بإعفاء اللحية، وفي المُقابِل هناك أدلة تتعلَّق بحُكم حلق اللحية، المسألة المُقابِلة أو المسألة المُضادة، مع أننا يُمكِن أن ننطلق من تصور عام – إخواني وأخواتي -، هذا التصور يقوم على أن حقيقة الإيمان – أيها الإخوة والأخوات – لا تتقوَّم أساساً وأصالةً بالمظاهر، المظاهر بلا شك قد يكون لها اعتبارها، لكن دائماً يأتي هذا الاعتبار ثانياً أو ثالثاً أو رابعاً، من البعيد جداً أن يأتي الاعتبار أولاً، الاعتبار الأولي ذو الأولوية والأولية هو لما في الباطن، كما قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – ألا إن التقوى ها هنا ثلاث مرات، ويُشير إلى قلبه – عليه الصلاة وأفضل السلام -.

في الحديث أيضاً المُخرَّج في الصحيحين وأخرجه من قبل الإمام مالك في موطئه من حديث أبي هُريرة – رضيَ الله تعالى عنهم – مرفوعاً، يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – الآتي، الحديث طويل وفي آخره إن الله لا ينظر إلى صوركم وأبدانكم أو أجسامكم، الصورة الظاهرية أياً كانت ليست بذلك الاعتبار، ليست بتلك المثابة، لكن ينظر إلى ماذا؟ إلى قلوبكم وأعمالكم، النظر إلى ما في القلب والنظر إلى العمل، أما الصور والهيئات والأشكال فهذه اعتبارها مُتأخِّر، ذكر الله – تبارك وتعالى – بخصوص المُنافِقين وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ۩، أجسام عظيمة، أجسام فخيمة، ولحى أيضاً كبيرة وجميلة، فالعرب كانوا يلتحون، لم يكن حلق اللحية معروفاً عند العرب، العرب كانوا يُوفِّرون أو يُعفون لحاهم.

أبو جهل (عدو الله ورسوله) كان له لحية، وفي صحيح البخاري في خبر مقتله كما تعلمون بعد أن اجتمع عليه ابنا عفراء قصده ابن مسعود وأخذ بلحيته، فواضح أن الرجل كان له لحية، فالعرب كانوا يُوفِّرون لحاهم، ونستطيع أن ننطلق من هذا المُنطلَق لنُؤكِّد أن العبرة دائماً ليست بتلك إذا تعلَّق الأمر بالظواهر، إنما العبرة بالبواطن، وكما قال حافظ المغرب الإمام الجليل ابن عبد البر – رحمة الله تعالى عليه – في كتابه التمهيد، قال والشعر والحلق لا يُغنيان يوم القيامة شيئاً، إنما المُجازاة بالنيات والأعمال، فرب ذي شعر لا خير فيه، ورب حليق رجلاً صالحاً، أي تجده رجلاً صالحاً، أو يكون رجلاً صالحاً، هذا ما قاله الحافظ ابن عبد البر – رحمة الله تعالى عليه -.

على كل حال هذه المُقدِّمة قد يسعد بها أُناس، قد يطمئن إليها أُناس، قد يرضى ويقنع بها أُناس، وينتهي الموضوع، لكن هناك من المُسلِمين مَن لا يقنع بهذا، يقول ماذا نفعل بالأدلة؟! فالنبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – أمرنا أو أمر المُسلِمين بأن يُعفوا وأن يُوفِّروا لحاهم، أن يتركوها فلا يحلقوها ولا يقصوها، والأمر كما تعلمون في رأي جماهير علماء الأصول – أصول الفقه – يقتضي الإيجاب، فالأمر للإيجاب، إذن إعفاء اللحية واجب، لكن أين قال هذا – عليه الصلاة وأفضل السلام -؟

أحاديث إعفاء اللحية أو الأمر بإعفاء اللحية كثيرة – أيها الإخوة والأخوات -، أحاديث كثيرة عن عدد من الصحابة، عن أبي هُريرة، عن ابن عمر، عن عائشة، عن ابن عباس، عن أبي أُمامة الباهلي، وعن كثيرين، لكن في الحقيقة لا يصح منها إلا ثلاثة، لا يصح منها إلا ثلاثة! أشهرها الحديث الذي أخرجه الشيخان وغيرهما، عن ابن عمر – رضيَ الله تعالى عنهما وأرضاهما -، أن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – قال خالفوا المُشرِكين، وفِّروا اللحى، وأحفوا الشوارب، قال وفِّروا اللحى، وأحفوا الشوارب! التوفير هو الإعفاء والترك، تُترَك حتى تعفو، تُترَك حتى يتوفَّر شعرها أو شعورها، فتُصبِح كبيرة، وأحفوا الشوارب، الإحفاء هو المُبالَغة في القص، قالوا هذا أمر من المعصوم – عليه الصلاة وأفضل السلام – بتوفير اللحى وإحفاء الشوارب.

وكان ابن عمر – رضيَ الله تعالى عنهما – إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته، فما فضل عن هذه القبضة قصه، إذن كان يأخذ منها، وهذا أيضاً دليل بحد ذاته على جواز تهذيب اللحية والأخذ منها، وهذا لا يتعارض مع أمره – عليه الصلاة وأفضل السلام – بإعفائها وتوفيرها، لماذا؟ لأن المقصود بإعفائها وتوفيرها تركها، أن تُترَك فلا تُحلَق، بحيث نصير حليقين بلا لحية، لكن أن يُؤخَذ من طولها ومن عرضها هذه مسألة أُخرى، هذه مسألة أُخرى لم يصح فيها عن رسول الله شيئ، ما ثبت فيها عن رسول الله شيئ، لكن ثبت عن الصحابة، جمهور الصحابة أجازوا – وفعلوا – الأخذ من اللحية، فيُؤخَذ من طولها ويُؤخَذ من عرضها وتُهذَّب.

إذن كان ابن عمر – رضيَ الله عنهما – إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته، فما فضل عن قبضته قصه أو أخذه، فما فضل – أي عن قبضته – أخذه – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين -، في حدث آخر أخرجه الإمام مُسلِم – هذا من أفراد مُسلِم، ولم يُخرِّجه البخاري، ولكن أخرجه مُسلِم وغيره، كالإمام أحمد في المُسنَد – يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – جزوا الشوارب، والجز هو القطع، وفي لفظ أحفوا، وسمعنا معنى الإحفاء، المُبالَغة في القص، نعم! وأعفوا اللحى، وفي لفظ أرخوا، الإرخاء الترك، وأعفوا أو أرخوا اللحى، وخالفوا المجوس.

في الحديث الأول عُلِّل الأمر بماذا؟ بمُخالَفة المُشرِكين، في هذا الحديث عُلِّل الأمر بمُخالَفة المجوس، ثمة حديث ثالث وهو الحديث الثالث والأخير، لم يُخرِّجه أحد من أصحاب الصحيحين، وإنما أخرجه الإمام أحمد في مُسنَده وغيره، من حديث أبي أُمامة الباهلي – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، أن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – قال قصوا سبالكم، قال قصوا سبالكم! السبال جمع سِبلة أو سَبلة، وهي طرف الشارب، مما يلتقي بمُقدَّم اللحية، هذا الطرف يُسمى السِبلة أو السَبلة، ويُجمَع على سبال، يُقال سَبلة الإناء، أي رأسه، وملأته حتى سَبلته، أي حتى الثمالة كما نقول، حتى الثمالة! إذن قصوا سبالكم، ووفِّروا عثانينكم، والعثنون هي اللحية، وخالفوا أهل الكتاب، عُلِّل الأمر هنا بماذا؟ بمُخالَفة أهل الكتاب.

إذن الأمر بإعفاء اللحى أو بتوفير اللحى أو بإرخاء اللحى وأيضاً بجز الشوارب – أي قص الشوارب أو إحفاء الشوارب – عُلِّل في هذه الأحاديث الثلاثة بمُخالَفة المُشرِكين مرة، وبمُخالَفة أهل الكتاب في حديث أبي أُمامة، وبمُخالَفة المجوس، فهذا يدل على أن الأمر مُعلَّل، وهذه مسألة مُهِمة جداً يا إخواني، الأمر بإعفاء اللحية وقص الشارب أمر مُعلَّل، ما معنى مُعلَّل؟ حتى لا ندخل في الأشياء الفنية نقول العلة باختصار معنى من المعاني ظاهر ومُنضبِط، الشارع يربط به الحُكم، أي يُعلِّل به الحُكم ويُدير عليه الحُكم، فيُقال في تعريفها بطريقة فنية هي لفظ ظاهر مُنضبِط، ناط الشارع الكريم به الحُكم، فيدور معه الحُكم وجوداً وعدماً، إذا وُجِد هذا المعنى – أي العلة – يُوجَد الحُكم، إذا عُدِم هذا المعنى – أي العلة – يُعدَم الحُكم، يختفي الحُكم! فالتعليل بما سمعتم يدل على أن الأمر هنا ليس تعبدياً، ما علاقة هذا؟

الأوامر الشرعية إما أن تكون تعبدية، وإما أن تكون مُعلَّلة، الأوامر المُعلَّلة تكون كما سمعتم قُبيل قليل مُعلَّلة بمعانٍ العقل يُدرِكها ويفهمها، لها وجه في العقل، مفهوم لماذا، لأجل المُخالَفة، لأجل أن نُخالِف المجوس وأهل الكتاب واليهود – مثلاً -، أُمِرنا بإعفاء اللحى وقص الشوارب، إذن هذه معقولة المعنى كما يقول علماء الأصول، وأما الأوامر التعبدية فتأتي غير مُعلَّلة في الأغلب على الإطلاق، بل كل اصطلاح العلماء أن التعبدي هو ما لم يُعلَّل، يُقال له تعبدي، وليس شرطاً أن يكون في خصوص أمر عبادي، لا! ليس شرطاً، لكن يُسمى التعبدي، لماذا؟ لأننا نُتعبَّد به دون أن نُدرِك علته.

إذن الحاصل أن الأوامر إما أن تكون تعبدية غير معقولة المعنى، لم يُعلِّلها الشارع بمعنى معقول، وإما أن تكون معقولة المعنى، أي مُعلَّلة، المُهِم إذن أنه في الأحكام المُعلَّلة بمعانٍ معقولة الحُكم وفق القاعدة يدور مع العلة وجوداً وعدماً، فماذا لو فرضنا – مثلاً – أن الذين أُمِرنا بمُخالَفتهم صاروا يُوفِّرون اللحى ويقصون الشارب؟ المفروض بحسب ظواهر النصوص ووفقاً للقاعدة الأصولية التي سمعتم من دوران الحُكم مع علته وجوداً وعدماً أننا نُخالِفهم الآن، فنحلق اللحى، لأنهم صاروا يُوفِّرونها ويُعفونها، المقصود هو ماذا؟ المُخالَفة، أن نتميَّز بشخصيتنا الإسلامية من بينهم، نتميَّز منهم، أي عنهم، بالعامية نقول عنهم، فهذه مسألة معقولة المعنى، نعم!

قد يقول بعض الناس الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – كانت له لحية، وكانت له لحية عظيمة طويلة تملأ ما بين المنكبين وعريضة – عليه الصلاة وأفضل السلام -، لحية عظيمة وجميلة جداً، فإذن ينبغي أن نُعفي اللحى كما أعفاها النبي، لا! كون النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – كان له لحية بالوصف الذي ذكرنا والوصف المذكور في كُتب السير والشمائل لا يدل بمُجرَّده على وجوب إعفاء اللحية، لماذا؟ لأن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – كان يُعفي لحيته وكانت له لحية قبل النبوة، مُذ نبتت لحيته كان له لحية، على سُنة العرب، ووفق المُتعارَف عليه عند العرب، عند عرب الجاهلية.

وكما قلت لكم هم كان لهم لحى، في بعض الآثار فرعون كان له لحية، وأن موسى وهو صغير أخذها… إلى آخره! أخرجه الإمام أحمد في مُسنَده وفي كتاب الزُهد له، فرعون كانت له لحية، العرب – كما قلت – من عاداتهم وأعرافهم أنهم يُعفون أو يُرخون لحاهم، في كتاب الله – تبارك وتعالى – موسى – عليه السلام – أخذ بحلية هارون، فهارون كانت له لحية، إذن موسى وهارون لهما لحية، وفرعون له لحية، هذه أشياء مُتعارَفة بين البشر، لم تكن ميزة دينية، قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي ۩، هارون يُخاطِب موسى أخاه – عليهما السلام – يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي ۩، فهذه لحى، اللحى موجودة إذن، عند الأنبياء، عند المُؤمِنين، عند الكافرين أيضاً، وعند الفراعنة، موجودة ومعروفة، النبي وافق قومه في إعفاء لحيته.

طبعاً لمُوافَقته – عليه الصلاة وأفضل السلام – لقومه دلالة، بلا شك أنها دلالة، أن هذا العُرف المعروف أو هذه العادة المُتبَعة عند العرب عادة حسنة، وعُرف مُستحسَن، لأن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – مُحال في حقه أن يُواطئهم على عُرف قبيح مذموم، فلو كان إعفاء اللحية شيئاً مذموماً لما فعله النبي، وحاشاه! لأنه لا يفعل إلا الأكمل، وإلا الأفضل، وإلا الأحسن والأجمل – عليه الصلاة وأفضل السلام -، فقصارى هذا الأمر أن إعفاء اللحية شيئ مُستحسَن، بدليل أن النبي وافق قومه فيه، لكن ما عدا ذلك وما وراء ذلك – هل هو شيئ واجب؟ هل هو شيئ مفروض وشيئ لازم؟ – هذه مسألة أُخرى.

الآن قد يقول بعض الناس النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – أمر، وأنت قلت القاعدة الأصولية تنص على أن الأمر للوجوب، للإيجاب! فإذا أمر إذن لابد أن نفعل، لابد أن نُعفي لحانا وأن نحف أو نجز أو نقص شواربنا وسبالنا، لا! الأمر أيضاً ليس بهذه البساطة، لأن الأمر قد تقوم قرينة أو قرائن تُخرِجه عن اقتضائه الوجوب إلى شيئ آخر، كالندب أو الإباحة، لا يُمكِن إلا هذا، أي الأمر يقتضي إما الوجوب وإما الندب وإما الإباحة بحسب القرائن، فإذا قال الله – تبارك وتعالى – وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ۩ لا يُمكِن أن يُقال الصيد واجب، ليس واجباً، هذا مُباح، لماذا؟ لأن هذا أمر، لكن هذا الأمر جاء بعد حظر، الله – تبارك وتعالى – حرَّم على المُحرِم بحج أو عمرة صيد البر، وأحل له صيد البحر، ثم عاد فقال – عز من قائل – وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ۩، فهذا أمر، فَاصْطَادُوا ۩، لكن جاء بعد ماذا؟ بعد حظر، أفاد الإباحة.

قضية الآن أعفوا اللحى، لماذا لا تُفيد الوجوب؟ كما قلنا لكم لأنها قضية معقولة المعنى، مُعلَّلة! مُعلَّلة بماذا؟ بمُخالَفة مَن ذُكِر، مُخالَفة اليهود، مُخالَفة المجوس، ومُخالَفة المُشرِكين، الآن السؤال وهو سؤال مُهِم، وهل مُخالَفة هؤلاء أمر لازم لنا أو واجب علينا ومفروض أم أمر مندوب مُستحَب لنا؟ هكذا ينبغي أن نُرتِّب تفكيرنا في المسألة، هل مُخالَفة هؤلاء مفروضة أم مندوبة؟ أي هل مُخالَفتهم مفروضة أم واجبة؟ بعض الناس يُسرِع، يقول لا، مفروضة! لأن النبي قال مَن تشبَّه بقوم فهو منهم، وفي بعض الأخبار حُشِر معهم يوم القيامة، هنا قال مَن تشبَّه بقوم فهو منهم، لا! في الحقيقة التشبه على درجات – إخواني وأخواتي -.

أولاً لابد أن نتساءل التشبه في ماذا؟ موضوع التشبه! أنت تتشبَّه بهم في ماذا؟ لأن هذا الموضوع إما أن يكون موضوعاً من مُختَصاتهم المِلية، أحد مُختَصاتهم الدينية، بمعنى أن مَن رآك تفعل هذا الفعل أو تظهر بهذا المظهر أو ذاك ظن أنك من الطائفة الفلانية، أنك يهودي أو نصراني أو مجوسي أو وثني مُشرِك – والعياذ بالله تبارك وتعالى -، ظن أنك أحد هؤلاء، لماذا؟ لأن هذا من مُختَصاتهم المِلية، من خصائصهم الدينية، معروف أنه لا يفعل هذا الفعل أو لا يلبس هذه اللبسة ولا يظهر في هذه الهيئة إلا مَن كان مِن الدين الفلاني، أي من أصحاب الدين الفلاني أو العلاني، وهذا مُهِم جداً!

وقد يكون التشبه في أمر يا إخواني لا معنى أصلاً للتشبه فيه، لماذا؟ لأنه أمر عام مُشترَك، يفعلونه هم ويفعله غيرهم، ويفعله غيرهم! بمعنى أنه ليس من خصائصهم المِلية، وطبعاً الموضوع حرج قليلاً وحسّاس، لماذا؟ مثلاً هناك أشياء نفعلها اليوم نحن، أول مَن اخترعها وافتجرها وابتكرها ليس المُسلِمون، أي ليس المُسلِمون أول مَن فعلها، وإنما غير المُسلِمين، مثلاً هذه اللبسة التي نلبسها، هذه ليست من لباس العرب، ليست من لباس المُسلِمين، لبسة – مثلاً – ابتدعها الأوروبيون أو الغربيون، لكن مرة أُخرى هل هذه اللبسة من علائمهم الدينية ومن سماتهم المِلية أم لباس للعموم؟ أي حتى هذا لباس غير لباس رجال الدين، لباس علماني، يُقال عندهم لباس علماني، لأن عندهم التقسيم دائماً إما أن يكون روحياً كهنوتياً دينياً، أي في السلك، في هذا السلك، وإما أن يكون خارجه، إن كان خارجه يُقال عنه العلماني، هذا لكي نفهم ما معنى كلمة علماني في هذا السياق، أي غير كهنوتي، ليس في السلك الديني، فهذا لباس العلمانيين، لباس الدنيويين، لباس الناس العاديين، ليست لباس رجال الدين.

مرة أُخرى ما حُكم أن نلبس هذه اللبسة؟ الذي نرتاح إليه هو الآتي، وعلى فكرة هذه ليست حكاية راحة وغير راحة، هذا الذي عليه الآن مُعظَم المُسلِمين في أقطاب الأرض، مُعظَمهم على الإطلاق يلبسون هذه اللبسة، ولا شيئ فيها، لماذا؟ لأنها ليست سمة دينية لهم، ليست من مُشخِّصاتهم المِلية أو الدينية، فإذن حتى الحديث عن التشبه ودرجات التشبه لابد أن يبدأ أولاً من تحقيق أو بتحقيق مسألة ماذا؟ موضوع التشبه، أتشبَّه في ماذا؟ ثم بعد ذلك لنتحدَّث عن أن هذه الصيغة – أي التشبه – صيغة تفعل، تدل على ماذا؟ على التكلف، يُقال تعلَّم، تحلَّم، تصبَّر، يتفعَّل، يتكلَّف، هذه الأشياء يتكلَّفها بمشقة أو بإرادة أو بقصد، لا تأتي على هينته، لا تأتي من تلقائها، وإنما تأتي بقصد وتكلف.

فالآن هل أنت تفعل الشيئ الذي يفعلونه أو تلبس – مثلاً – شيئاً يلبسونه عن قصد أن تفعله من أجل أنهم يفعلونه أم تفعله بقصد آخر – مثل لأنه يروقك، يُريحك، هو أريح لك، جميل في عينيك مثلاً، أو وظيفي سهل، إلى آخره -؟ أي الآن – مثلاً – من الصعب جداً أن نتخيَّل الجيوش المُعاصِرة أو أن نتخيَّل الجُندي المُعاصِر وهو يلبس – مثلاً – جلباباً، مُستحيل! هذا يعوق حركته، هذا اللباس غير مُناسِب الآن، غير مُناسِب بالمُطلَق – مثلاً – لخوض المعارك وللتدريبات العسكرية، لا يُمكِن فعل هذا بجلباب أو (بجلبية) – مثلاً -، هذا لا يُمكِن، وفعلاً أكثر لباس مُناسِب البنطال، مُناسِب جداً للحركة، لا يعوق الحركة!

فإذن في التشبه لابد أيضاً أن نُشير إلى معنى القصد، وطبعاً من البعيد جداً أن يقصد مُسلِم أن يأتي هذه الأشياء أو يسلك مسالك مُعيَّنة من أجل أن غير المُسلِمين يفعلونها، أي حُباً في مِلتهم أو حُباً في دينهم، هذا بعيد جداً جداً، لكن إن فعل أحد هذا محبةً في مِلتهم أو محبةً في دينهم – والعياذ بالله – فهذا بلا شك ينطبق عليه القول النبوي الكريم ويدخل تحت طائلته مَن تشبَّه بقوم فهو منهم، لكن لا يُؤخَذ على إطلاقه، التشبه في كل الموضوعات وفي كل المسائل أبداً، لابد أن نُحقِّق.

إذن بكلمة التشبه المذموم الأصل فيه أن يكون فيما هو من خصائصهم الدينية أو المِلية، وأن يتكلَّف هذا – والعياذ بالله تبارك وتعالى -، ونعود إلى موضوعنا الآن، مرة أُخرى هل مُخالَفة غير المُسلِمين واجبة علينا وبالتالي تكون مُوافَقتهم مُحرَّمة محظورة – والعياذ بالله -، أي من الآثام، من الأشياء التي تُوجِب سخط الله، وربما شيئاً أبعد من هذا؟ سوف نرى!

النبي مثلاً – عليه الصلاة وأفضل السلام- قال خالفوا اليهود، فإنهم لا يُصلون في نعالهم، والنبي صلى مرة في نعليه – عليه الصلاة وأفضل السلام -، وكان الصحابة يفعلون هذا، يجوز إذا كانت النعل جافة، أي الحذاء أو المداس إذا كان جافاً وطاهراً، وطبعاً لا يُمكِن أن يأتي أحدهم لكي يقول لي هذه سُنة ولابد أن نعمل هذا الآن في مساجد اليوم المفروشة بالموكيت والسجّاد، هذا لا يُمكِن! لكن مسجد النبي لم يكن مفروشاً لا بموكيت ولا بسجّاد، كان تراباً وحصى.

النبي يقول خالفوا اليهود، فإنهم لا يُصلون في نعالهم، والآن السؤال، لو أن إنساناً لم يُصل في نعله، ما حُكمه؟ نُجيب – إن شاء الله -، لكن بعد هذا الفاصل، فكونوا معنا، بارك الله فيكم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم إخواني وأخواتي.

إذن اليهود لا يُصلون في نعالهم، فخالفوهم، صلوا في نعالكم، لكن هل قال أحد من العلماء إن الصلاة في النعال مفروضة أو واجبة؟ طبعاً لا، مُستحيل! النبي أراد بهذا فقط أن يُبيِّن لنا – أيها الإخوة والأخوات – أن الصلاة في النعال مُباحة، وخاصة إذا دعت حاجة إليها، كأن يكون الإنسان مُسافِراً، وكما قلت لكم في مسجد – مثلاً – يكون حصى وتراباً أرضيته، وهو مستعجل، والنعل جافة أو النعلان جافتان، لا بأس أن يُصلي، هذا شيئ مُباح، لم يقل أحد من العلماء إنه شيئ واجب، لو كان واجباً الواجب يُقابِله – أي يُعارِضه – ماذا؟ الحرام، الواجب يُعارِضه الحرام، فيكون عدم الصلاة في النعال من المُحرَّم، لا! هذا غير صحيح أبداً، هذا مُستحيل، ولم يقل أحد بهذا، قُصارى الأمر أنه يُباح لنا هذا، وعلينا أن نعتقد بهذا، فنُصدِّق ونُؤمِن بأن الصلاة في النعلين الجافتين الطاهرتين مُباحة جائزة ولا شيئ فيها.

يبدو أن اليهود يُحرِّمون هذا أو يحظرون هذا، ففارقناهم، بهذا الاعتقاد أو بهذا الفهم فارقناهم، وأيضاً في الحديث المُخرَّج في الصحيحين يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – إن اليهود والنصارى لا يصبغون، فالخالفوهم، اصبغوا! صبغ ماذا؟ صبغ الشيب، تغيير الشيب الأبيض، وهم – النبي يقول – من عادتهم أو من دينهم أنهم لا يصبغون، أي شيبهم، أي شعرهم الأشيب، فأُمِرنا بالمُخالَفة، لكن نظرنا في الآثار الكثيرة ويُمكِن أن تقفوا على جُملة طائلة منها في مُصنَف ابن أبي شيبة – رحمة الله تعالى عليه -، نظرنا في الآثار الكثيرة عن الصحابة – رضوان الله تعالى عليهم -، ووجدنا بعض الصحابة كان يصبغ، ووجدنا منهم مَن لم يصبغ أصلاً، ووجدنا منهم مَن كان يصبغ ويترك الصباغ، أي يصبغ مرة ويترك مرة، ووجدنا منهم مَن صبغ الأسود، ومنهم مَن اجتنب الصبغ أو الصباغ الأسود، طرائق كثيرة! فدل هذا على أن هذا الأمر ليس للوجوب، لو كان واجباً ما وجدنا صاحباً – رضيَ الله عنهم – إلا وماذا؟ إلا وصبغ، لكن لما صبغ بعضهم وترك بعضهم ولما صبغ بعضهم مرة وترك مرة علمنا أن الأمر ليس للوجوب، للندب! هذا مُستحَب، هذا أمر مُستحَب، لكنه ليس واجباً.

فصل ما بين – النبي يقول – صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور، أي ما يُميِّز صيام المُسلِمين من صيام أهل الكتاب، ما هو؟ أكلة السحر، أكلة السحر أي السحور، طعام السحور! هل قال أحد بأن السحور أو التسحر واجب أو مفروض؟ لا، بل هو مندوب، إذن الذي يُقابِل المندوب ما هو؟ المكروه، فيكون عدم التسحر مكروهاً، يكون عدم التسحر مكروهاً! وقلنا هناك بالإباحة، فماذا يُقابِل الإباحة؟ لا يُوجَد شيئ، المُباح مُباح، إن فعلته أو تركته فلا شيئ عليك، هذا معنى المُباح، الواجب أو المفروض يُقابِله المُحرَّم، المُستحَب أو المندوب يُقابِله المكروه، وأما المُباح فيستوي طرفاه، أي فعلاً وتركاً، أي إن فعلت أو تركت، كله مُباح، هل هذا واضح؟

هذه الآثار أو هذه الأخبار – إخواني وأخواتي – تدل على أن مُخالَفتنا لغير المُسلِمين في الأصل ليست واجبة، ليست مفروضة، يُستحَب لنا أن نُخالِفهم، لكن لا يجب علينا، لا يُفرَض علينا أن نُخالِفهم في مثل هذه الأمور، هذا أصل المسألة، والله – تبارك وتعالى – أعلم.

إذن مُخالَفتهم مُستحَبة، وليست واجبة، يُمكِن أن يُستثنى – كما قلنا – التشبه بخصائصهم المِلية أو الدينية، وهذا باب خاص جداً، باب خاص جداً من المُخالَفة، وباب خاص جداً في التشبه، أنه يُحظَر أن تتشبَّه بهم فيما هو من خصائصهم المِلية أو الدينية، وأنا أقول وأزيد خاصة وإذا كان موضوع التشبه يتعلَّق بأمر عقدي، فمثلاً محظور بطريقة قطعية على المُسلِم أن يأتي بإشارة التثليث التي يأتي بها النصارى، لأن هذا يدخل لدينا في باب الشرك، لا يجوز للمُسلِم أن يأتي بهذه الإشارة، أي إشارة التثليث، ممنوع منعاً باتاً، لأن القضية عقدية الآن، القضية عقدية! دون هذا – مثلاً – أن يلبس لباساً كلباس أهل الكتاب، كلباس رجال الدين، محظوم ومُحرَّم، لكن قطعاً هو دون الأمر الأول، وهكذا! إذن هناك درجات وهناك فروقات بين رُتب هذه المسائل.

نعود مرة أُخرى إلى لحية رسول الله وإلى إعفائه – عليه الصلاة وأفضل السلام – لحيته مُوافَقةً لقومه، قلنا قُصارى هذا الأمر أنه فعل حسن، أن إعفاء اللحية أمر حسن بلا شك، لكن النبي استند على ماذا فيه؟ كما قلنا استند على مُوافَقة عُرف قومه فيما يجمل، رائده كان فيه ماذا؟ رائده كان مُوافَقة عُرف قومه فيما يجمل، هذا عُرف حسن، عُرف جيد، لماذا يُخالِفهم؟! وافقهم فيه، ولم يُخالِفهم فيه – عليه الصلاة وأفضل السلام -.

فأخذ بعض كبار العلماء من هذا وهو الإمام الأكبر محمود شلتوت – رحمة الله تعالى عليه -، أخذ من هذا وأمثاله أن السُنة في مثل هذه الأمور مُوافَقة العُرف، مُوافَقة العُرف! كأن النبي حين وافق قومه فأعفى لحيته كما أعفوا هم لحاهم، كأنه سن لنا أن السُنة في هذا الباب – باب الهيئات والألبسة والمظهر الخارجي – بالذات مُوافَقة عُرف القوم، عُرف الناس، عُرف الأمة أو الشعب كما يُقال، هذا الشيخ محمود شلتوت – رحمة الله تعالى عليه -، وله كلام جيد في كتابه المشهور الفتاوى، قال فيه والحق أن أمر اللباس والهيئات الشخصية ومنها حلق اللحية من العادات التي ينبغي – قال من العادات، فهذه ليست عبادة، وإنما عادة – المرء فيها على استحسان البيئة، على عُرف الناس الذين يعيش بيهم، فمَن درجت بيئته على استحسان شيئ منها كان عليه أن يُساير بيئته، وكان خروجه عما ألف الناس فيها شذوذاً عن البيئة، هذا ما قاله الإمام الأكبر في وقته الشيخ محمود شلتوت – طيَّب الله ثراه -، وهو كلام دقيق، مبني على ما ذكرت لكم، مبني على أن السُنة في هذا الباب وفي هذه الأمور بالذات مُتابَعة عُرف القوم، ما لم يصطدم هذا العُرف بأدلة أو بنصوص شرعية صحيحة أو بمقاصد شرعية كُلية، ما لم يصطدم بها! إذا كان لا يصطدم بها فلا بأس، لا تُوجَد مُشكِلة، قد يقول لي أحدكم لا، هو يصطدم، حلق اللحية الآن – مثلاً – أصبح عُرفاً معروفاً، مُعظَم المُسلِمين يحلقون لحاهم، مُعظَم المُسلِمين! والقلة منهم هم الذين يعفون لحاهم، فإذن حلق اللحية يصطدم مع ما ذكرت، لا! إذا قلنا إن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – وفَّر لحيته وأمرنا بتوفير اللحية مُستنِداً إلى مُوافَقة العُرف وأيضاً مُعلِّلاً للأمر بإعفاء اللحية أو اللحى بمُخالَفة مَن ذُكِر فالأمر ليس فيه كبير مُصادَمة إذن، ليس فيه كبير مُصادَمة! لسببين، السبب الأول أن إعفاء اللحية في عصرنا هذا كما ترون وتعلمون لم يعد ميزة فارقة للمُسلِم من غير المُسلِم، فرجال الدين النصارى يُعفون لحاهم، أحبار اليهود والرابيون يُعفون لحاهم، ونجد أيضاً بعض رموز الماركسية وفي رأسهم كارل ماركس Karl Marx المُؤسِّس وصديقه فريدريك إنجلز Friedrich Engels يُعفون لحاهم، ولهم لحى طويلة وكبيرة، جماعات من الملاحدة يُعفون لحاهم، لم تُصبِح ميزة، أي اللحية بحد ذاتها إذا رآها أحد لا يعرف إن كان حاملها مُسلِماً أو غير مُسلِم، يُمكِن أن يكون مُلحِداً، يُمكِن أن يكون يهودياً أو نصرانياً أو من أي مِلة أو من أي دين، ولما كثر في المُسلِمين حلق اللحية وأصبح عُرفاً معروفاً، فلو سايرهم أحد الناس لم نُثرِّب عليه، لم نُعظِّم النكير عليه وكأنه أتى باباً عظيماً من الإثم، ولم نقل إنه فعل أو أتى مُفسِّقاً والصلاة خلفه باطلة – والعياذ بالله -، كيف تكون باطلة؟ القاعدة أن مَن صحت صلاته لنفسه صحت صلاته بغيره، إذن يجب على هؤلاء أن يقولوا ليس الصلاة خلفه باطلة وإنما أن يقولوا أيضاً صلاته باطلة، وهذا لا يتجارأ عليه أحد، لم يتجارأ أحد على القول إن حليق اللحية صلاته باطلة، فإذا لم تُبطِل صلاته لنفسه صحت لغيره، كيف تتجارأ على أن تُبطِل صلاته في غيره أو بغيره إماماً؟ هذا لا يجوز، هذا من باب المُجازَفة.

بعضهم ينسب إلى الأئمة الأربعة الآتي، قال والأئمة الأربعة أو المذاهب الأربعة على حُرمة حلق اللحية، وهذا الكلام غير صحيح ومُجازَفة، وباختصار لأن الوقت ضيق وحتى لا نُطيل أو نُطوِّل نقول الآتي عن المذاهب الأربعة، جمهور المذاهب الأربعة – أي الشافعية أو المالكية في الأول والشافعية والحنابلة – على أن حلق الحلية مكروه، وليس مُحرَّماً، وهذا يُفهِم مُباشَرةً أن الجمهور على أن الأمر بإعفاء اللحية ليس للوجوب، وإنما للندب، للاستحباب، لأن الأمر بإعفاء اللحية في الأحاديث الصحيحة التي ذكرت لكم – حديث ابن عمر، حديث أبي هُريرة، وحديث أبي أُمامة الباهلي – ليس للوجوب، لو كان الأمر بإعفاء اللحية للوجوب أو الفرضية لكان حلق اللحية من باب المُحرَّمات، لكن الجمهور – المالكية والشافعية والحنابلة – ذهبوا إلى أن حلق اللحية من باب المكروهات، وصرَّح بعضهم بأن إعفاء اللحية من باب المندوب، فقط الأحناف أو فقط المذهب الحنفي أو السادة الحنفية هم الذين صرَّحوا بأن حلق اللحية من المُحرَّم، من باب المُحرَّمات، لماذا؟ قالوا لأنه مُثْلة، الإنسان يُمثِّل بنفسه، يُشوِّه خِلقته، قالوا لأنه مُثْلة، ولأنه تشبه بغير المُسلِمين، ولأنه أيضاً تشبه بالنساء، وتغيير لخلق الله، علَّلوا بهذه الأشياء، فقالوا ما كان هذا شأنه كان مُحرَّماً، ما كان هذا شأنه – أي أن يكون كذا وكذا وكذا وكذا – فهو من المُحرَّمات، لكن كما سمعتن الجمهور على أن حلق اللحية من المكروهات، لا من المُحرَّمات، وهذا شيئ مُهِم.

مرة أُخرى لا نتفق مع الذين حرَّموا حلق اللحية وغلَّظوا في التحريم، حتى جعله بعضهم – والعياذ بالله – أشد من الزنا، وهذه مُجازَفة، هذه مُجازَفة ونوع من التناهي في الغلو، نوع من التناهي في الغلو في هذه المسألة، ما هذا؟ الزنا – والعياذ بالله – من الفواحش، بل من أعظم الفواحش! كيف يُجعَل حلق اللحية أشد من الزنا؟! وقالوا حتى – والعياذ بالله – ومن الشذوذ الجنسي، أي السدومية أو ما يُعرَف باللواط، وهذا بلا شك غلط واضح بل فاضح.

احتجوا بماذا؟ احتجوا بأشياء، قالوا أولاً إعفاء اللحية من خصال الفطرة، إعفاء اللحية من خصال الفطرة والفطرة هي الإسلام، إذن هي فطرة الإسلام، إعفاء اللحية من خصال الفطرة، أي من خصال الإسلام، فيكون حلقها من باب المُخالَفة للإسلام، وهذا أمر عظيم، لا! هذا إجمال للقول، وفيه إبهام، وفيه أيضاً إغماض.

أولاً من جهة الدليل – أحبتي في الله، إخواني وأخواتي – لم يصح عن رسول الله أن إعفاء اللحية من خصال الفطرة، هذه واحدة، لم يصح! تُوجَد أخبار تُنسَب إليه، ولكنها ضعيفة، ليست صحيحة، الصحيح في خصال الفطرة – مثلاً – قص الأظافر، قص الشارب، الختان، فهذه أشياء ثبتت عن رسول الله، أما إعفاء اللحية فليس من الخصال، ليس من خصال الفطرة، لم يثبت عن رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -.

ثم السادة العلماء من قديم والأسلاف الصالحون اختلفوا في معنى الفطرة، فمنهم مَن قال هي الإسلام، ومنهم مَن قال السُنة، إذن هي من خصال السُنة، خصال مسنونة مُستحَبة، ومنهم مَن قال الإسلام، وعلى كل حال نحن نُوافِق أن الفطرة الأرجح أن يُراد بها الإسلام، وفي الحقيقة هناك معنى أدق، هناك معنى أدق من هذا، الفطرة هي خِلقة الإنسان، كونه مفطوراً مُهيَّأً، كونه مفطوراً مُهيَّأً – أي هُيء بفطرته وبخِلقته – لقبول الإيمان، لقبول الدين، وللبحث عن الحقيقة الدينية، فهذا هو المعنى الدقيق للفطرة، وأشار إليه العلّامة الشيخ المُفسِّر ابن عاشور – رحمة الله تعالى عليه -، لكن لو قلنا الفطرة هي الإسلام لا بأس، كما قال – تبارك وتعالى – فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۩، قالوا فالفطرة هي الدين.

وفي الحديث المُخرَّج في الصحيح من حديث أبي هُريرة مرفوعاً يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – كل مولود يُولَد على الفطرة، ثم أبواه يُهوِّدانه أو يُنصِّرانه أو يُمجِّسانه، كما تُنتِج البهيمة بهيمة جمعاء، هل ترى فيها من جدعاء؟ ثم تلا أبو هُريرة – رضيَ الله عنه – الآية الكريمة من سورة الروم، أي فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۩.

إذن خصال الفطرة هي خصال الإسلام، إذن لو وافقنا وقلنا إعفاء اللحية من خصال الفطرة – وهذا لم يثبت عن رسول الله في حديث صحيح مُعتمَد، لكن لو فقنا على هذا -سيكون هناك سؤال، وهو هل خصال الإسلام من الضروري أن تكون واجبة؟ هل من الضروري أن تكون خصالاً واجبةً؟ غير صحيح، بدليل أن ما صح من خصال الفطرة ليس كله واجباً، بل في الحقيقة مُعظَمه مُستحَبات، وليس واجبات، حتى الختان! قد يقول لي أحدكم حتى الختان؟ حتى الختان، منهم مَن قال بوجوبه، ومنهم مَن قال باستحبابه، ولم يُطبِقوا على وجوب الختان، إذن ليس معنى أن الشيئ الفلاني من خصال الإسلام أن يكون واجباً، وبالتالي يكون فعل ما يُعاكِسه أو يُعارِضه من باب المُحرَّم، فإذن هذا الدليل غير صحيح، لا يصح لهم أن يستدلوا بقضية خصال الفطرة.

استدلوا أيضاً – إخواني وأخواتي – بأن حلق اللحية تشبه بالنساء، إن في حلق اللحية – قالوا – تشبهاً بالنساء، وصح عن الصادق الأبر – عليه الصلاة وأفضل السلام – أنه لعن المُتشبِّهين من الرجال بالنساء والمُتشبِّهات من النساء بالرجال، وقالوا هذا أمر يُوجِب اللعن – والعياذ بالله -، كما صح عنه أنه لعن مَن لبس لبسة النساء من الرجال، الرجل الذي يلبس لباس المرأة ملعون، والمرأة التي تلبس لبسة الرجل ملعونة، فقالوا حلق اللحية تشبه بالنساء، وقد سمعتم أن فيه اللعن – والعياذ بالله تبارك وتعالى -.

أولاً التشبه بالنساء هل هو هكذا بالإطلاق أم أن هناك أشياء مخصوصة؟ قد سمعتم للتو أن النبي لعن مَن يلبس لبسة النساء، فهل يكون التشبه المنهي عنه بالنساء في حق الرجال هو في خصوص اللباس، فيُمنَع الرجل من التشبه بالنساء بأن يلبس لباسهن؟ هذه واحدة، هذا سؤال مشروع، ولابد أن نطرحه، أو يكون التشبه الممنوع – أي تشبه الرجال بالنساء – هو بمعنى التخنث – والعياذ بالله -، أي أن يأتي الرجل من الأفعال والأقوال والحركات ما يُوقِع في وهم مَن يراه أنه أُنثى، ويدخل في هذا – أي في الأفعال – أن يلبس أيضاً لباس النساء، ما يحمل أو يُوقِع في وهم مَن يراه لأول وهلة أنه أُنثى – والعياذ بالله -، بحيث إذا سمع طريقة كلامه يظن أنه امرأة، إذا رأى مشيته وهو يتغنج ويتكسر فيها – والعياذ بالله – يظن أنه امرأة، إذا رأى اللباس يظن أن مَن أمامه امرأة، هذا أرجح! هذا أرجح ولكن يُستثنى منه ما ليس للمرء فيه حيلة، بعض الرجال – هكذا قدره، اسمه القدر البيولوجي، يُسمونه قدره البيولوجي أو قدره الوراثي، وهذه مسألة هرمونية – يكون صوته رقيقاً جداً وناعماً كالنساء، فإذا تكلم ظُنَّ إنه امرأة، هذا لا يُقال إنه ملعون ومُتشبِّه، لا حيلة له به، لكن المحظور هو أن يتفعَّل هذا، كما قلنا التشبه فيه تفعل، فيه تكلف.

على كل حال حلق اللحية لم يعد من الأشياء التي تُلحِق الرجل بالمرأة، فإذا رأينا رجلاً حليقاً لم نظن لأي وهلة أنه امرأة أو أنه حتى يتشبَّه بالنساء، لأنه عم، أصبح عُرفاً عاماً، مُعظَم الرجال يحلقون لحاهم، وفيما عدا هذا هم يتصفون بكل خصائص الرجولية، وواضح أن الرجولية غالبة عليهم، فلا يُظَن أنهم من المُتشبِّهة أو المُتشبِّهين بالنساء لأجل حلق اللحية، فما ينبغي أن نُبالِغ في هذه المسألة.

احتجوا أيضاً بأن في حلق اللحية تمثيلاً، وقد نُهينا عن المُثْلة، المُثْلة أو المَثُلة، وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ ۩، المَثُلة أو المُثْلة هي التشويه، تشويه الخِلقة، وأصل هذه العبارة أو هذه الكلمة – أي المَثُلة أو المُثْلة – العقوبة التي تُنزَل بالمرء زجراً لغيره، أي كما نقول حتى يكون مثالاً لغيره، عقوبة زاجرة! ومنه أيضاً التمثيل بالجُثة، التمثيل بالميت، وقد نُهينا عن التمثيل بالموتى، التمثيل بالميت يكون بجدع أنفه – مثلاً -، أو بصلم آذانه، أو ببقر بطنه وجوفه، وهكذا! هذا هو التمثيل بالجُثة، فقالوا حلق اللحية تمثيل، فنحن منهيون عنه، صحيح أنه تمثيل، لكن في زمن دون زمن، وفي عُرف دون عُرف، فإذا كان قوم بعُرف مُعيَّن يرون أن في حلق اللحية تمثيلاً فنعم، لا يجوز للرجل أن يُمثِّل بنفسه، والعكس صحيح إذا كان عُرف القوم أنه ليس من باب المُثْلة وليس حتى من باب العقوبة، فورد عن بعض السلف الصالحين وهو مُصعَب بن الزُبير أنه كان أحياناً يعاقِب بماذا؟ بالحلق، إذا عاقب أحد مَن اجترح جُرماً أو جريرةً فإنه يأمر بحلق لحيته، تمثيل! يُمثِّل به، وهذا يسوءه، أي يسوء المحلوق، يسوءه جداً، وهو لا يُحِب أن تُحلَق لحيته، فهل هناك اليوم مَن يُعاقِب بحلق اللحية؟ أبداً، لا يُوجَد الشيئ هذا، الناس يحلقون لحاهم من تلقائهم، لم يعد هذا تمثيلاً، فموضوع التمثيل هذا موضوع مُتحرِّك أيضاً ومُتغيِّر، لم يعد يرى الناس أن في حلق اللحية تمثيلاً، والله – تبارك وتعالى – أعلم.

أخيراً ربما فيما تبقى من وقت أُحِب أن أجيب عن هذا السؤال، وهو هل يجوز أن يأخذ الإنسان – وذكرت هذا في البداية – من لحيته؟ هل يجوز أن يأخذ الإنسان من لحيته – من طولها، من عرضها، أن يُهذِّبها، وأن يُشذِّبها -؟ طبعاً بعض الناس يقول هذا السؤال الآن تقريباً لا موضع له، لا موضع له! لماذا؟ لأنه إذا تقرَّر وترجَّح أن إعفاء اللحية أصلاً من باب المندوب ومن باب المُستحَب – وهذا هو الأرجح في الحقيقة، إعفاء اللحية من باب المُستحَبات، ليس من قبيل الواجبات المفروضات – فمن المُؤكَّد أنه لا بأس، إذا ترجَّح هذا وتقرَّر هذا فمن المُؤكَّد أنه لا بأس! وقد يُعترَض على هذا الجواب بالقول لا، إذا أردت أن تأخذ بالمُستحَب فلتأخذ به كما ثبت بالدليل، فالمُستحَب لا تُعيِّنه أنت، إنما تُعيِّن حدوده الشريعة المُطهَّرة، فهل صح عن رسول الله في هذا الباب شيئ؟ لم يثبت عنه – عليه الصلاة وأفضل السلام – شيئ في هذا الموضوع بالذات، بمعنى ماذا؟ أنه نهى عن الأخذ من اللحية – عن تقصير اللحية وعن تهذيبها -، لم يصح عنه شيئ، أو أنه أباح هذا أو جوَّزه، فقال لا بأس، خُذوا، أي السُنة ساكتة، السُنة النبوية ساكتة عن هذا الموضوع تماماً، لكن الآثار عن الصحابة الأجلاء – رضوان الله عليهم – تتكلَّم وتنطق.

سمعتم في البداية الحديث الذي أخرجه الإمام مالك في الموطأ والبخاري ومُسلِم والترمذي وأبو داود وكثيرون، حديث ابن عمر في آخره وكان ابن عمر إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته، فما فضل منها أخذه، أي قصه، الإمام الشافعي وُصِفت لحيته – وصفها أحد تَلاميذه الذين عاشروه – بأنها كانت لحية تقريباً مثل القبضة، وكان يُهذِّبها ويُشذِّبها، وكانت حسنة وجميلة، فيبدو أن السلف الصالح من الصحابة والتابعين فممَن بعدهم تعارفوا هذا الشيئ، وكانوا يأخذون من لحاهم، فلو كان فيه محظور لما فعلوه ولما أتوه – رضيَ الله تعالى عنهم -.

ومن هنا لم يقل أحد من أهل العلم المُعتبَرين من الأسلاف الصالحين إن الأخذ من اللحية حرام أو محظور ولا يجوز، لم يقل أحد بهذا، وكيف يتجرأ على القول به وقد أخذ من لحاهم الصحابة أنفسهم أو جماعة من الصحابة – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم -؟ نعم! إذن الأخذ منها لا يُعارِض السُنة، بمعنى أنه لا يُعارِض الأمر بإعفائها وتوفيرها وتركها، لأن القصود بتوفيرها أو إعفائها ألا تُحلَق، لكن إن تُرِكت حتى صارت مثل قبضة أو أزيد أو كذا فلا بأس، هذه لحية مُعفاة ومتروكة.

نكتفي بهذا القول، وإلى أن ألقاكم في حلقة أُخرى أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: