برنامج آفاق

القيم الأخلاقية والوجودية

 

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.

أحبتي في الله، إخواني وأخواتي:

أُحييكم بتحية الإسلام، فالسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، قبل يومين في حوار جرى بيني وبين أحد أحبتي سألني، قال لي ما هي القيمة الأولى المُقدَّمة الرئيسة في التصور الإسلامي ضمن القيم الأخلاقية والوجودية؟ فقلت له العدل أو العدالة، قال عجيب! العدالة؟ قلت له العدالة، بحسب نصوص الكتاب العزيز يبدو أن العدل والقسط أو العدالة هي القيمة الأوفر حظاً لكي تتصدَّر قائمة القيم، فقد قال – سُبحانه وتعالى – في كتابه العزيز لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۩، إذن هذا هو هدف إنزال الشرائع وإرسال الرسل وتنبئة الأنبياء، أن يقوم الناس بالقسط، وإن شاء الله بُعيد قليل نُحاوِل أن نجتهد ونُقارِب الفرق بين العدل والقسط، ما الفرق بينهما؟ 

فالعدل أو العدالة – أحبتي في الله – قيمة رئيسة في التصور الإسلامي للحياة وللوجود، بل شاع على ألسنة المُسلِمين باختلاف طوائفهم ومذاهبهم أنه بالعدل قامت السماوات والأرض، ولعل هذا يقرب من قوله – تبارك وتعالى – وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ۩ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ ۩، فبالعدل قامت السماوات والأرض.

ومن عجائب وبدائع اللُغة العربية أنها استخدمت هذا اللفظ في المعنى الذي تفهمون، لفظ العدل ولفظ العدالة، استخدمت هذا اللفظ، ومن موارده ما يدل على الاتزان، وهو ضد الاختلال، فالعرب تقول اعتدل الميزان، اعتدلت كفتا الميزان، إذا تساويتا أو تساوتا، إذا تساوتا! اعتدلت كفتا الميزان أو اعتدل الميزان، حالة اتزان، وضدها الاختلال، وهذا قد يُؤخَذ منه معنى في مُنتهى اللطافة والدقة، وهو أن أصل ومنشأ كل الاختلالات في الاجتماع البشري هو غياب العدل، غياب العدل أو العدالة! إذا غاب العدل أو العدالة ينشأ الخلل، وتبرز صور ومظاهر كثيرة للاختلال في المُجتمَع البشري أو المُجتمَع الإنساني.

ولا جرم – إخواني وأخواتي – أن كان العدل وخاصة في عصرنا هذا من أكثر المفاهيم تداولاً في الدراسات الإنسانية والاجتماعية، العدل يبحثه فلاسفة السياسة، ما من فيلسوف سياسي إلا عُنيَ كثيراً بل لعل محور عنايته مفهوم العدل والعدالة، هذا يُذكِّرنا بالفيلسوف السياسي الأشهر ربما في النصف الثاني من القرن العشرين كله جون رولز John Rawls، صاحب الكتاب المشهور أيضاً على مُستوى العالم العدالة كإنصاف، هذا فيلسوف سياسي، طبعاً أفلاطون Plato في الجمهورية وقبل ذلك في المُحاوَرات – والجمهورية أصلاً مُحاوَرة، لكن هذا في غير هذه المُحاوَرة، في مُحاوَرات أُخرى وخاصة في الجمهورية – تكلَّم كلاماً مُسهَباً يعزوه طبعاً إلى سقراط Socrates أستاذه في العدل والعدالة والتعريفات المُمكِنة المُختلِفة والنقاشات حول ذلك، أما في علم الأخلاق فالعدل مبحث رئيس، العدل مبحث رئيس!

أرسطو Aristotle صوَّر الفضائل كلها على أن قوامها وجوهرها العدل، أي الاعتدال، وبالمعنى ذاته تحدَّث فلاسفة الأخلاق الإسلاميون، تحدَّثوا عن الفضيلة على أنها تمثيل للاعتدال بين طرفين، فهناك – مثلاً – الكرم، الكرم وسط بين طرفين مُتقابِلين، طرف البخل والكزازة وطرف الإسراف والإتلاف، فيأتي الكرم في الوسط، وهناك الشجاعة، وسط بين طرفين، اعتدال! الفضائل كلها اعتدال وعدل، عجيب! هذه فلسفة أخلاقية، فهناك الشجاعة، وسط بين طرفين، التهور والجُبن والرِعدة، بين التهور والجُبن تأتي الشجاعة، وسط بين طرفين، إلى آخر القائمة! فالأخلاق تُعنى كثيراً بمفهوم العدل، وهو مفهوم جوهري ومحوري في الدراسات الأخلاقية وفي الفلسفة الأخلاقية.

وجرت العادة كما تعلمون على تناول العدل والعدالة من زوايا مُختلِفة، طبعاً بعض الناس يقول ما الفرق بينهما؟ في الحقيقة هما شيئ واحد، نقول العدل أو العدالة، لكن بحسب الاستخدام بالذات في العصور الأخيرة صار مفهوم العدالة يُوحي بالعدالة القضائية، وبالعدالة القانونية، والعدل يُوحي بالعدل الأخلاقي، يُشير إلى الأخلاق، أما العدالة فتُشير إلى القانون، تُشير إلى القانون! وبلا شك دائرة الأخلاق أوسع من دائرة القانون، وأكثر شمولية وعمومية، فالقانون أكثر خصوصية، وأكثر حصرية أو انحصارية، هكذا يُمكِن أن يُقال، العدل يُشير إلى الأخلاق، والعدالة تُشير إلى القضاء والقانون، لكن في الحقيقة من حيث الوضع هما شيئ واحد، هذا اسم، عدل عدلاً، وعدالة، هذه اسم، وهذا مصدر.

على كل حال جرت العادة على تناول مفهوم العدل أو العدالة من زوايا مُختلِفة – إخواني وأخواتي -، فمثلاً يتحدَّثون عن العدالة أو العدل في حقل الحق، هذا قريب مما قلت قُبيل قليل، أي العدل القضائي، والعدل القانوني، ويتحدَّثون عن العدل أو العدالة في حقل أو في فضاء الخير، هذا قريب من العدل الأخلاقي، الذي يُشير إلى الأخلاق.

أيضاً يتحدَّثون عن العدالة التبادلية، وهنا لا ينحصر التبادل في التبادل الاقتصادي، يشمله ولكنه أوسع منه، يقولون عدالة تبادلية، وعدالة توزيعية، العدالة التبادلية تعني أنه يجب على كل شخص دخل في علاقة – في علاقة تبادل من أي نوع كان – أن يُؤدي إلى الطرف الآخر جميع حقوقه، غير منقوصة، لكن بصرف النظر أو بغض النظر عن خلفية الطرف الآخر الاجتماعية أو الطبقية، وحتى عن خصائصة الشخصية، بغض النظر هو من العرق الفلاني أو من العرق العلاني، هو مُسلِم أو غير مُسلِم، أسود أو أبيض، وقريب أو غريب، بغض النظر! قال – تبارك وتعالى – وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۩، شيئ عجيب! الله يقول لا يحملنكم كرهكم لأُناس على الظلم، والمقصود هنا بهؤلاء الناس تعرفون مَن؟ الكفّار، الكفّار المُحارِبون، الذين يُحارِبون الله ورسوله وجماعة المُسلِمين، الله يقول حتى هؤلاء وحتى في ساح الوغى – أي في المعركة – يجب أن تعدلوا معهم إذا اقتضى الأمر العدل، فلابد من العدل، حتى مع العدو البغيض المُخاصِم! وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۩، هذه العدالة التبادلية، هذه عدالة تبادلية، لا يُمكِن أن يُقال إن هذا غير مُسلِم فأنا أتغوَّل ماله أو أنا أتغوَّل حقوقه، بعض الناس يُفتي نفسه – والعياذ بالله -، يقول هذا غير مُسلِم، ليس من المُسلِمين، فيحل ماله لي! مَن قال لك هذا؟ من أين أتيت بهذا؟ هذا الذي شُوِّه به مُحيا الإسلام، هذا الذي أساء إلى سُمعة الإسلام والمُسلِمين، إِنَّا لِلَّهِ ۩.

فالعدالة التبادلية هي هذه، والعدالة التوزيعية – أحبتي في الله – تقضي بأن نُساوي بين البشر، بين الأطراف المُختلِفة، في توزيع المُكافآت والعقوبات، لا تُوجَد تفرقة، مَن يستحق شيئاً فليأخذه، بغض النظر أيضاً عن خلفياته، خلفيته الاجتماعية أو الدينية أو العرقية أو… إلى آخره! بغض النظر، يستحقه فليأخذه، إذن المعيار هو الاستحقاق، المعيار هو الاستحقاق وليس أي شيئ آخر وراء الاستحقاق، إذن بالاستحقاق تُوزَّع المُكافآت والعقوبات، لكن تبقى مسألة ربما فلسفية مُعمَّقة قليلاً، لكن يُمكِن أن نُبسِّطها، وهي مسألة أساس الاستحقاق، قد يقول قائل أنت ما أتيت بجديد، أنت تقول المعيار الاستحقاق، لكن هذا الاستحقاق مُؤسَّس على ماذا؟ مُؤسَّس على الآتي، للأسف بعض القوانين وبعض الفلسفات الاجتماعية والأخلاقية تُؤسِّس الاستحقاق على خلفيات، خلفيات عنصرية، لُغوية، عرقية، دينية، طائفية، ومذهبية، وهذا خطأ، في النهاية لا نصل إلى العدل، نصل إلى التمييز، ونصل إلى التفريق والظلم الواضح يا إخواني، الذي يصل أحياناً إلى حد شطب وتجاوز وانتهاك حقوق الآخرين، وعلى أساس من الاستحقاق! لأنهم لا يستحقون، لأن الاستحقاق لابد له ما يُبرِّره، وفي الحقيقة نحن مُقتنِعون ومُطمئنون إلى أن الاستحقاق لابد أن يُؤسَّس على شيئ أعمق منه، وهو المُساواة، لكن المُساواة مفهوم أيضاً مُشتجِر ومُشتبِك، بعد قليل سنخصه بالحديث – بإذن الله تبارك وتعالى -، ونرى العلاقة التي تربط بينه – أي بين المُساواة، بين هذا المفهوم – وبين مفهوم العدل أو العدالة.

طبعاً هناك العدالة الاجتماعية، العدالة السياسية، والعدالة الجنائية أو القضائية أو القانونية بشكل عام، في علم النفس أيضاً يُحدِّثنا علماء النفس عن ضرب من ضروب العدالة، تُسمى بالعدالة الباطنة أو الكامنة أو المُحايثة، أي الــ Immanent justice، العدالة المُحايثة أي الباطنة، ما معنى مُحايثة أو باطنة؟ أي هي موجودة في عُمق الإنسان وفي فطرته، لا تأتيه من خارج، لا تُفرَض عليه، موجودة فيه، مفطور عليها، يتحدَّثون عن هذه العدالة المُحايثة أو الكامنة لدى حديثهم عن الأطفال في سنواتهم الأولى، ومن بين هؤلاء الذين حدَّثونا هذا الحديث وأخبرونا هذا الخبر عالم النفس التطوري السويسري الشهير جداً جان بياجيه Jean Piaget، جان بياجيه Jean Piaget حدَّثنا فعلاً عن أن هذه العدالة الكامنة تكون كامنة في الأطفال مُنذ نعومة أظفارهم، وتظهر في لعب الأطفال، حين يلعب الأطفال بعضهم مع بعض، الطفل من السنوات الأولى إذا لاحظ – مثلاً – أن الطرف الآخر في اللُعبة يخدع أو يغش أو يأخذ ما ليس له يُظهِر امتعاضه، وقد يغضب، وقد يصيح، وقد يُقاطِع ويخرج من اللعب، لماذا؟ هو يشعر بأن الآخر تصرَّف فيما ليس له، تجاوز حده، انتهك القاعدة، غريب! من أين للطفل هذا الحس؟ هذا الذي يُسمى – أحبتي، إخواني وأخواتي – بالعدالة الكامنة، أو العدالة المُحايثة، أي أي الــ Immanent justice، عند الطفل هذه موجودة، سُبحان الله العظيم، شيئ غريب!

ثم يستطرد ويستتلي هؤلاء العلماء فيقولون وهذه العدالة الكامنة لدى الطفل مُهِمة جداً من حيث وظيفتها، ماذا تُؤدي هذه العدالة؟ تهدف إلى ماذا؟ ما هي الوظيفة التي تقوم بها هذه العدالة؟ قالوا إنها تقوم بوظيفة تكيفية، بالعدالة الكامنة الطفل يتمكَّن من أن يتكيَّف مع نظام المُجتمَع، مع أعراف المُجتمَع، ومع تقاليد المُجتمَع، وبالتالي يحدث الانضباط أو الضبط الاجتماعي، ينضبط مُجتمَعياً، يتقبَّل المفاهيم التي تُلقى إليه، يتقبَّل قواعد السلوك، قواعد السلوك في المُجتمَع! لماذا؟ لأنه يتعاطى مع المُجتمَع ومع الآخرين – كما قلنا لكم – وبطريقة تلقائية على أن العدالة شيئ يطبع الأشياء، الأشياء مطبوعة ذاتياً، كأنها صفة ذاتية للأشياء، كأنها صفة ذاتية لها! الطفل هكذا يفهم، أن العدالة صفة ذاتية للأشياء، فالذي يُسيء يُؤاخَذ، والذي يُحسِن يُكافأ، ولا يجوز لأحد أن يأخذ ما ليس له، لا يجوز لأحد أن يتعدى على حقوق الآخرين، الطفل يرى أن المُجتمَع يسير وفق هذه القاعدة، هو يفترض هذا، ويُحِب هذا، وفعلاً إذا كان المُجتمَع في العموم يُعطيه هذا الانطباع فهذا يُعينه على أن يتكيَّف بشكل إيجابي مع مُجتمَعه، وبالتالي يضبط سلوكه وإيقاعه وفق إيقاع المُجتمَع، يحدث الانضباط الاجتماعي، هذا ضرب لطيف من ضروب العدالة، لكن يُشير إلى الأصل الفطري للعدالة، وربما بعد قليل لدى حديثي معكم ولكم عن القانون الطبيعي قد نفهم العلاقة بين هذه العدالة الكامنة وبين القانون الطبيعي، يُوجَد نوع من الصلة بينهما، لكن في وقته – إن شاء الله تبارك وتعالى -.

أيضاً الفلاسفة من قديم – من أيام سقراط Socrates، من أيام سقراط Socrates وتَلميذه أفلاطون Plato، انتهاء بميشال فوكو Michel Foucault – تحدَّثوا عن العدالة على أنها منطق القوة، كيف؟ هناك بعض الناس هكذا، آثر أن ينظر إلى العدالة على أنها منطق القوة ومنطق الأقوياء، بمعنى أن الأشخاص الأكثر نفوذاً والأكثر قوةً وبالتالي الأكثر نجاحاً وبروزاً في المُجتمَع والأكثر هيمنةً يُقنِعون أنفسهم أولاً ثم يُقنِعون الآخرين بأن نجاحهم مُؤسَّس على ومُبرَّر بــ قواعد صحيحة وأسباب وجيهة عادلة وأخلاقية، نحن هنا ونحن هكذا لأسباب أخلاقية وعادلة، نحن نستحق الوضع الذي نحن فيه، نستحق السُلطة التي نأخذ بزمامها، نستحق الأموال التي احتزناها وجمَّعناها، مع أنهم قد لا يستحقون شيئاً من هذا، يُقنِعون أنفسهم بهذا تماماً، وللأسف يُقنِعون الآخرين، وفي أحايين كثيرة الآخرون يقتنعون بهذا، يقولون لكم هذا من حقهم، فالعدالة أصبحت هنا منطق القوي، وكأن لا تُوجَد عدالة بالمُطلَق هكذا، بالعكس! إنما العدالة مفهوم لتبرير سُلطان الأقوياء، لتبرير بروز وهيمنة الأقوياء، وطبعاً هذا منظور فيه نوع من الإجحاف أيضاً وفيه نوع من التطرف، مع أن له أصل، له أصل فعلاً! الأقوياء ينظرون أو منهم مَن ينظر هذه النظرة، ويرى أنه يستحق كل ما وصل إليه، بغض النظر عن الوسائل الخسيسة وغير النظيفة التي توسَّلها واصطنعها لكي يصل إلى ما وصل إليه.

على كل حال هذا منظور، وتسمعون ربما بالإمبراطور الروماني الشهير بمُدوَنته جستنيان Justinian، هناك مُدوَنة مشهورة وتُرجِمت وطُبِعت هنا في مصر اسمها مُدوَنة جستنيان Justinian، مُدوَنة قانونية! في هذه المُدوَنة القانونية ورد – أعتقد هذا في الباب الثاني – تعريف للعدالة، العدالة هي الرغبة الأكيدة والإرادة والعزم النافذ على توفية كل أحد ما يستحقه، أي بتعبير الإسلاميين وبتعبير فلاسفة المُسلِمين إعطاء كل ذي حق حقه، هذه هي العدالة، فالإسلاميون عموماً يرون أن العدالة وضع الشيئ في موضعه، وفعلاً الشيئ إذا وُضِع في موضعه اعتدل واستقامت الأمور، الرجل المُناسِب في المكان المُناسِب، الأجر المُناسِب للعمل الذي يقتضيه، وهلم جرا! تعتدل الأمور، هذا عدل، مَن يستحق الاحترام يُحترَم، مَن يستحق الامتهان يُمتهَن، مَن يستحق العلو والتنصيب يُنصَّب، مَن يستحق الخفض والرفض يُرفَض ويُخفَّض، كل شيئ في موضعه، هذا تعبير الإسلاميين، قالوا لكم هذا هو العدل.

وعلى أساس هذا المفهوم للعدل والعدالة – أحبتي في الله – نفى هؤلاء الإسلاميون – فلاسفة المُسلِمين واللاهوتيون أو علماء الكلام الإسلاميون نفوا الآتي، بعضهم طبعاً وليس كلهم – أو بالأحرى بعضهم نفوا حتى إمكان تصور الظلم من الله – تبارك وتعالى -، قالوا لكم على هذا الأساس الظلم مُستحيل في حق الله – تبارك وتعالى -، مهما فعل! لماذا؟ قالوا لكم في نهاية المطاف لأن الله – تبارك وتعالى – يتصرَّف فيما له، ونحن لله، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ۩، والمُلك كله من عرشه إلى فرشه لله، مصنوع لله، مخلوق له، مربوب له، فالله – تبارك وتعالى – يفعل ما يفعل وهو يتصرَّف في مُلكه، يتصرَّف فيما له، فإذن هو لا يظلم، ولكن نحن لنا مُلاحَظات على هذه الطريقة في الفهم والتأويل، لأن الله نفسه – مالك المُلك، لا إله إلا هو – هو الذي أخبرنا أنه حرَّم الظلم على نفسه، ونفى الظلم، فلو لم يكن هذا الظلم مُتصوَّراً لما كان لنفيه من معنى، مُمكِن!

ولذلك الظلم الذي نفاه الله – تبارك وتعالى – هو ماذا؟ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ۩، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩، لا إله إلا هو! وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ۩، هذا الظلم بحسب روح القرآن الكريم وبحسب أيضاً آياته هو ماذا؟ بحسب آياته هذا الظلم هو ماذا؟ هو أن يُثاب – مثلاً – المُسيء، وأن يُعاقَب المُحسِن، الله أفهمنا أن هذا ظلم، إذا إنسان أحسن واستقام ولم يفعل إلا الخير وإلا البر وإلا القسط وإلا المرحمة وفي نهاية المطاف الله قال نعم، أنا حر وأنا سأضعه في جهنم، أنا أتصرَّف في مُلكي، فهذا ظلم، الله أفهمنا أن هذا لو حصل يكون ظلماً، هذا ظلم، الله أمننا بإخباره أنه لا يظلم أحداً أنه لن يفعل هذا، وطبعاً هو قادر أن يفعل هذا، قادر أن يضع البشر كلهم حتى الأنبياء في جهنم، وحاشاه – لا إله إلا هو -، لماذا؟ لأنه حرَّم الظلم على نفسه، هذا هو الظلم الذي نرفضه والذي ننفيه عن الباري – تبارك وتعالى -، وهذه كانت استطرادة سريعة تعليقاً على قول هؤلاء.

على كل حال برتراند راسل Bertrand Russell – الفيلسوف الإنجليزي المشهور طبعاً – له تعريف لطيف للعدل أو العدالة، قال العدالة هي كل نظام ينخفض معه الاعتراض أو تنخفض معه الاعتراضات إلى الحد الأدنى، أي هذا التفاف حول معنى بسيط وبدهي، وكان يُمكِن أن يُعبِّر عنه بطريقة أوضح، فكأنه يقول العدالة هي النظام الأكثر إرضاءً للناس، هذا هو! بدل أن تقول العدالة هي النظام الذي ينخفض معه الاعتراض أو تنخفض معه الاعتراضات إلى الحد الأدنى كان يُمكِن أن تقول إنها النظام الذي يُحقِّق أعلى درجة من إرضاء الناس، وأيضاً كأنه عرَّف الماء بالماء، كأنه يقول العدالة هي العدالة، هل تعرفون لماذا؟ لأن العدالة فعلاً تُرضي الناس، والعدالة مطلب الناس جميعاً، كل إنسان بفطرته يطلب العدل، يطلب العدالة، وطبعاً استثني المُجرِمين، الاستثناءات في المُجرِمين طبعاً، المُجرِم لا يُحِب العدالة في حقه هو، يُحِبها في حق الآخرين، لكن لا يُحِب العدالة أن تجري عليه، لأنه سيأخذ جزاءه الوفاق، الذي يتفق مع عمله، لكن عموماً ومن حيث الأصل البشر يطمحون إلى العدالة، بل هناك ما هو ألطف وأعجب – إخواني وأخواتي -، مُعظَم القيم ومُعظَم الأشياء التي يُؤمِّل فيها البشر يطلبونها إلى حد مُعيَّن، وعند حد مُعيَّن تنتهي ويقولون Stop، لا نُريد أكثر من هذا، هذا سيُؤذينا، كالحرية – مثلاً -، الحرية قيمة عظيمة جداً، تغزَّل فيها أو تغزَّل بها الشعراء والأدباء والفلاسفة والأحرار والشعوب والأفراد والجماعات، ولكن الحرية إلى حد مُعيَّن، ثم بعد ذلك المُجتمَع نفسه يصيح، يقول لا، يجب أن تُقيَّد، لا تُوجَد حرية مُطلَقة، لكن هل سمعتم مرة أن البشر ينتهون بالعدل والعدالة إلى حد مُعيَّن ثم يقولون لا عدالة بعد ذلك، انتهى! يكفي، يكفي هذا القدر من العدالة؟ لم يحدث هذا أبداً أبداً، ليس هناك قدر كافٍ من العدالة، البشر يطمحون دائماً إلى مزيد من العدالة، وطبعاً هذا يُؤشِّر إلى معنى آخر بالتبع، يُؤشِّر إلى قصور الاجتماع البشري وقصور الإنسان عن أن يُحقِّق النهاية العُظمى من العدالة، وهذا صحيح بطبعه، هل تعرفون لماذا؟ لأسباب كثيرة، لأن الإنسان أولاً علمه محدود، علمه محدود! أول شيئ نبدأ بالعلم، علمه محدود، لا يعرف كل شيئ، ومن هنا من المُحال أن يُحقِّق النهاية العُظمى من العدالة، ولذلك نقول نحن كم في السجن من مظاليم! القاضي يقضي بعلمه، وعلمه قاصر، في نهاية المطاف قضاؤه بهذا العلم القاصر أدى إلى أن يُبرئ المُجرِم ويُدين البريء، يحدث هذا في كل الدول، في كل الثقافات، وفي كل الاجتماعات أو المُجتمَعات البشرية، يحدث دائماً!

هناك ما هو أكثر من هذا، النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – ماذا قال لنا؟ قال إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلىّ، أي تتقاضون إلىّ، أعمل قاضياً الآن بينكم، قال وإنكم تختصمون إلىّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحُجته من بعض، أي أبين وأعرب عنها، بعض الناس عنده لسان ذرب طلق، يستطيع أن يُقنِع الناس بحُجته، فيبدأ يتكلَّم بطريقة عاطفية أيضاً ومنطقية ويُرتِّب الحُجج ويصوغ البراهين بشكل مُقنِع، يخلب ألباب المُستمِعين ويستحوذ عليهم، النبي يعرف هذا، يقول ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحُجته من أخيه، فأقضي له بحق هو لأخيه، فمَن قضيت له بشيئ أو بحق هو لأخيه فإنما أقطع له قطعة من النار أو من نار، فإن شاء فليأخذ، وإن شاء فليدع، أو كما قال – عليه الصلاة وأفضل السلام -.

كونوا معنا بعد هذا الفاصل، بارك الله فيكم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم إخواني وأخواتي.

نعود إلى موضوعنا، موضوع العدل والعدالة، من الفلاسفة والمُفكِّرين مَن جنح إلى تعريف ومُقارَبة العدل على أنه ما ترضاه لنفسك وللآخرين على قدم سواء، بمعنى أنك تُحِب للآخرين ما تُحِب لنفسك، ما تكرهه لنفسك عليك أن تكرهه للآخرين أيضاً، قالوا هكذا يتحقَّق العدل، هذا هو جوهر العدل. 

على كل حال هذا المبدأ الذي ذكرت هو ما يُعرَف بالقاعدة الذهبية، ومن اللطيف أن مُعظَم ثقافات وأديان العالم نصت على هذه القاعدة بنصوص مُتشابِهة تماماً، فهو في الكونفوشيوسية، كونفوشيوس Confucius ذكر هذا، في البوذية هناك ما يدل على المعنى ذاته، وكذلك في اليهودية أو الديانة اليهودية، في الديانة المسيحية، وفي الإسلام، حتى يُحِب أحدكم لأخيه ما يُحِب لنفسه، وأيضاً قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – مَن سره أن يدخل الجنة ويُزحزَح عن النار فلتأته منيته وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وألا يُحِب أن يأتي إلى الناس ما لا يُحِب أن يُؤتى إليه، أي أن تكره أن تُعامِل الناس بما تكره أن تُعامَل به، وبالتالي أن تُحِب لهم أيضاً ما تُحِب لنفسك، نفس الشيئ! هذه القاعدة الذهبية.

الفيلسوف الألماني النقدي الكبير كانط Kant – نفس الشيئ – تحدَّث عن هذه القاعدة الذهبية، وقال هذه القاعدة الذهبية بطريقته الخاصة وهو يُعبِّر عنها تكون على النحو الآتي، حين أنت تحكم حُكماً أخلاقياً أو تُشرِّع لقاعدة أو قانون، تتصوَّر نفسك كأنك تُشرِّع للبشرية كلها بلا استثناء، لكل البشرية على قدم سواء، وأنت من بينها، سلباً وإيجاباً، في كل الأمور، هذه القاعدة الذهبية.

تحدَّثنا يا أحبتي حديثاً عابراً عن المُساواة، على أساس أنها قد تكون هي ما يُبرِّر الاستحقاق، فما العلاقة بين العدل والعدالة والمُساواة؟ أولاً ما هي المُساواة؟ أيضاً لن نخوض في تعريفات فلسفية كثيرة مُختلِفة، المُساواة – إخواني وأخواتي – باختصار هي ضد التفريق والتمييز، المُساواة التسوية، أن تُسوي بين الناس، أن تُسوي بين الفرقاء وبين الأعضاء في المُجتمَع، بلا تفريق! لأن التفريق دائماً والتمييز يأتي على أُسس، أُسس عرقية – كما قلنا – أو لُغوية أو دينية أو… أو… أو… إلى آخره، لا! هذه ينبغي أن تتأخَّر، لا يكون لها أي اعتبار، ونُسوي بين الناس، هذه المُساواة.

والمُساواة قيمة عظيمة وحلم كبير يُدغدِغ أفئدة البشر وأهواءهم، وتقريباً مُعظَم الدساتير في العالم تتصدَّر بهذه اللفظة وبهذا المفهوم، يتحدَّث عن المُساواة مُعظَمها، مُعظَم المواثيق والإعلانات العالمية لحقوق الإنسان تتصدَّر وتُصدَّر أيضاً بهذه اللفظة، يُولَد البشر مُتساوين – لا أقول (مُتساوون)، وإنما أقول (مُتساوين) أنها حال -، وهكذا! فالمُساواة شيئ كبير جداً.

وطبعاً هناك ضروب وصنوف من المُساواة، هناك المُساواة السياسية، التي تقتضي أيضاً التسوية بين الشركاء في الوطن، بين المُواطنين فيما يختص بالشأن العام، هذا هو الشأن السياسي، حق الترشيح، حق الانتخاب، حق إبداء الرأي، حق تكوين الجمعيات والأحزاب، وحق الاشتراك فيها، وإلى آخره! من غير اعتبار – كما قلت لكم – لأي خلفيات أُخرى، فقط هنا الحد هو أو المعيار هو المُواطَنة، كونه مُواطِناً هذا يكفي، ولا تمييز يستند إلى أي أشياء أُخرى، وهذا شيئ جميل جداً، تطور بشري هائل!

وأيضاً هناك المُساواة القضائية والقانونية، القانون يُسَن للجميع، ويُطبَّق على الجميع وعلى قدم سواء دون تمييز، يُطبَّق على الجميع على قدم سواء دون تمييز! وفي الحديث الصحيح كُلِّم – عليه الصلاة وأفضل السلام – في المرأة المخزومية – من بني مخزوم، إحدى كُبريات قبائل العرب -، أي أرادوا أن يتجاوز عنها النبي وربما لا تُقطَع يدها ونرى بتعويض، فغضب النبي غضباً شديداً، فاحمر وجهه وخرج يجر رداءه، وخطب في الناس، فكان مما قال إنما أهلك مَن كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه، وايم الله لو أن… (وذكر سيدة شريفة تعرفونها – عليها السلام -) سرقت لقطع محمد يدها، شيئ غريب، يا سلام! قانون على الجميع، هذه العدالة القانونية والقضائية، على الجميع بلا تمييز وبلا تفريق، لكن انتبهوا.

الذهاب مع فلسفة المُساواة إلى آخر الشوط وبالمُطلَق ودون أي تقييد قد يتعارض مع العدالة، لماذا؟ لأن البشر في الحقيقة يعيشون في عالم واقعي، نحن لا نعيش في عالم من النظريات، نحن نعيش في عالم واقعي، في عالم واقعي! الأمور فيه لا تكون على تمامها، لا تكون في حالة نقائية، لا تكون نقية مُجرَّدة، أبداً! فأين النقي في هذا الواقع الذي نعيشه؟ أين الشيئ المُجرَّد الخالص – أي الــ Pure -؟ لا يُوجَد هذا، البشر حين يُولَدون لا يُولَدون في ظروف مُتساوية، ولا يبدأون حيواتهم المُختلِفة أيضاً مُتساوين أبداً، يُوجَد تفريق، يُوجَد تفريق وتفريق صارخ أحياناً.

ولذلك يرى الفيلسوف الذي ذكرته لكم اليوم – أعني جون رولز John Rawls – صاحب فلسفة العدالة كإنصاف، يرى أنه أحياناً ينبغي على الدولة أن تتدخَّل، ينبغي على الدولة أن تتدخَّل لتصحيح هذه البداية الخاطئة، لأن الذهاب وتشغيل مبدأ المُساواة بالمُطلَق بغض النظر عن سائر المُتغيِّرات وبغض النظر عن كل الظروف والشروط سيتعارض – يقول رولز Rawls – في نهاية المطاف مع العدالة، فهذا لا يُمكِن، فإذن الأولوية للعدالة أو المُساواة؟ للعدالة، إذن العدالة تحكم على المُساواة وليس العكس، العدالة حاكمة على المُساواة وليس العكس.

هناك دارس فرنسي اسمه لويس ميو عنده كتاب اسمه المُدخَل لدراسة الشريعة الإسلامية، هذا المُفكِّر والباحث الفرنسي يقول من الفروق بين الشريعة الإسلامية وبين القانون الغربي – أي القانون الوضعي الغربي – أن القانون الوضعي الغربي إلى الآن تقريباً – هو يقول هذا – يُعنى بالمُساواة، يُشغِّل هذا المفهوم، ولكن – كما قلت لكم – بغض النظر عن مُتغيِّرات كثيرة، هو لا يُعنى بها، وفي النهاية يا أحبتي ما الذي يحصل؟ يحصل عدم مُساواة، يحصل إجحاف وظلم بيّن وصارخ وتفاوت رهيب جداً جداً، بسبب الانحياز التام للمُساواة، يقول في حين أن الشريعة الإسلامية جعلت مقصدها وهدفها العدالة، ليس فقط المُساواة، فهي مع المُساواة في حدود تحقيقها للعدالة، إذا أخلت المُساواة بمبدأ العدالة فالأولوية والتبدية والتفضيل للعدالة، لا للمُساواة، وهي مُلاحَظة ذكية ومُمتازة، ويحتاج تفصيلها إلى كلام كثير، لكن هذا القدر يكفي.

العلاقة أيضاً بين العدالة والقانون، نحن قلنا هناك عدالة قانونية، وعدالة قضائية، وواضح ما هي العلاقة، لكن ربما نتوسَّع الآن قليلاً، يُقال ومن قديم حيثما وُجِد المُجتمَع كان القانون، لا يُوجَد مُجتمَع بلا قانون، أي اجتماع بشري يحتاج إلى قانون، والقانون في أبسط معانيه قواعد تضبط السلوك والتعاطي والتعامل داخل المُجتمَع بين الفرقاء وبين الأفراد، هذا هو القانون في أبسط تعريفاته وأسهلها.

البشر مُنذ البداية أدركوا أن مصالحهم مُتضارِبة، أن أهواءهم أيضاً مُتخالِفة مُتغايرة، أدركوا حاجاتهم وضروراتهم المُلِحة وغير المُلِحة، في مُقابِل أيضاً محدودية الموارد، موارد الطبيعة والبيئة المُختلِفة، الكل يُريد أن يأخذ، لكن الموارد محدودة، والإيرادات والحاجات غير محدودة، فأدركوا أنه لابد أن يتنازل كل منهم – كل أفراد المُجتمَع – عن بعض حرياتهم، عن بعض أهوائهم، وعن بعض رغائبهم، لصالح أن يعيشوا عيشاً مُشترَكاً مُستقِراً وآمناً، وهذا جميل! لكن كيف يتم هذا؟ هذ بالضرورة يقتضي – كما قلت – وضع أو ابتكار أو افتجار قواعد للسلوك، ضابطة للسلوك وللتعاطي، وهكذا نشأ القانون.

ولذلك كان جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau يرى أن القانون هو مُجرَّد تعبير عن الإرادة العامة للجماعة السياسية، تعبير عن الإرادة العامة للجماعة السياسية! للجماعة، لجماعة البشر في مُجتمَع ما، هذا هو القانون، فما هي وظائف القانون؟ نحن أشرنا الآن إلى الوظيف العامة للقانون، لكن بالتفصيل وظائفه تختلف بحسب المنظور، عموماً لدينا مذهبان مشهوران: المذهب الفردي، أي النزعة الفردية، والمذهب الاشتراكي، أو المذهب الجماعي، وظائف القانون هنا غير وظائف القانون هناك، تختلف بحسب المدرسة وبحسب الأيديولوجيا.

المذهب الفردي – إخواني وأخواتي – طبعاً شهد انتعاشاً وربما نشأةً جديدةً في القرنين السابع عشر والثامن عشر في أوروبا، على أنه قديم، عرفته الشعوب القديمة بأقدار مُتفاوِتة، وربما أكثر مَن عرفه وأولاه أهمية خاصة الرومان، الرومان نزعوا نزوعاً فردياً، الفرد هو الأساس وهو المحور، وليس الجماعة، وليس الأمة، إنما الفرد! أي المصلحة الفردية مُقدَّمة على المصلحة العامة والجماعية، هذه النزعة الفردية، هذه هي النزعة الفردية!

كما قلت لكم في القرنين السابع عشر والثامن عشر وعلى خلفية انتعاش فكرة القانون الطبيعي – هذه الفكرة لابد أن أخصها أيضاً بحديث بُعيد قليل – انتعش المذهب الفردي من جديد، انتعش بشكل نسقي، أصبح فعلاً مذهباً، نزعة واضحة المعالم، وزاد في حظ نصره الثورة الفرنسية، فحقَّق مزيداً من النصر والانتعاش على يد وبفضل الثورة الفرنسية، التي أرادت فعلاً تحرير الأفراد أو تحرير الفرد من غشم وظلم السُلطة الطُغيانية المُهيمنة، وبعد ذلك تُوِّج هذا كله بإعلان حقوق الإنسان والمُواطِن.

نحن قلنا على خلفية القانون الطبيعي انتعش المذهب الفردي، الآن أُسلِفكم كلمة بسرعة قبل أن نُفيض في القانون الطبيعي، القانون الطبيعي باختصار يُمكِن أن يُعبَّر عنه بأنه قانون الله – تبارك وتعالى – غير المكتوب، غير القانون والشريعة، غير الشرائع الإلهية، لا! هذا القانون مرسوم أو مفطور عليه البشر، مرسوم على لوحة النفس، مكتوب على لوحة النفس، لم يُكتَب بالحبر والمداد، كما قلنا قُبيل قليل الطفل لديه شعور بهذه العدالة، شعور كامن – كما قلنا – بالعدالة الكامنة هذه، شعور باطني بهذه العدالة، وكذلك الفرد، الإنسان عموماً! لأن ما هو الإنسان؟ الإنسان هو طفل هذا الكون، وما الرجل إلا طفل يكبر، فمن طفولته هو ينطوي على هذا الاعتقاد، أن الكون مبني على أساس العدل، الاجتماع البشري لابد أن يُدار بالعدل، العدل قيمة أصلية، طبيعة للأشياء، تقريباً كأنها طبيعة للأشياء! 

وهذا يُذكِّرنا بنظرية الحُسن والقُبح العقليين عند المُعتزِلة، وأيضاً حين نتحدَّث عن القانون الطبيعي لابد أن نُشير – حتى لا أنسى – إلى الحُسن والقُبح العقليين عند المُعتزِلة من أهل الإسلام، فالقانون الطبيعي هو هذا باختصار يا إخواني، قانون الله غير المكتوب، فهذا القانون يستوحيه كل مُقنِّن، يستهدي به كل مُشرِّع.

النزعة الفردية أو المذهب الفردي يا إخواني – كما قلنا لكم – يُعطي أولوية للأفراد على الجماعات، وبالتالي أولوية للفرد على الحكومة أو الدولة، بمعنى أنه يُقلِّص مهام الدولة في الحدود الدنيا، الدولة ينبغي ألا تتغوَّل على الأفراد، مُهِمتها تقريباً في حفظ الأمن الداخلي والخارجي، هكذا! في القرنين السابع عشر والثامن عشر انتعشت النزعة الفردية، وطبعاً كما تعلمون النزعة الفردية هي التي أخذت شكلها الأكثر هيمنةً والأكثر بروزاً فيما يُعرَف بالليبرالية، الحرية، وهي حرية الأفراد بشكل رئيس، حرية الفرد بشكل رئيس! وخاصة الليبرالية الكلاسيكية، النُسخة الأولى من الليبرالية أو المذهب الحرية، الحرية الفردية.

هذه الحرية الكلاسيكية ترى أن الدولة ينبغي أن تقتصر مهامهما على الحفظ على الأمن في الداخل والأمن الخارجي، أي حراسة الحدود، ثم بعد ذلك حراسة حقوق الأفراد وإحاطتها بمُختلِف الضمانات، حتى لا تُنتهَك ولا تُتجاوَز ولا يُتغوَّل عليها، هذه وظيفة الدولة، ويُترَك كل شيئ بعد ذلك للأفراد، كل شيئ يُترَك للأفراد! وواضح طبعاً أن هذه النزعة الفردية كما أفرزت الليبرالية بل قامت عليها الليبرالية وهي جوهرها تلتقي أيضاً مع الرأسمالية، دعه يمر، دعه يعمل، هذا مبدأ الرأسمالية، الفرد! دعه يمر، دعه يعمل، واليد الخفية عند آدم سميث Adam Smith، عند آدم سميث Adam Smith اليد الخفية يد السوق التي تُنظِّم كل شيئ، فدع حرية كاملة لكل الأفراد، أن يتصرَّفوا اقتصادياً كما يرون مصلحتهم، في نهاية المطاف مصلحة الفرد – يقول سميث Smith – ستصب في مصلحة الجماعة، هكذا زعم وهكذا قال، جميل! ولذلك يا إخواني القانون لا يتدخَّل إلا أيضاً في الحد الأدنى، بما يضمن إعطاء كل ذي حق حقه، وهكذا! 

يُقابِل هذا النزعة الاشتراكية، أو النزعة الجماعية، التي تُبدي وتُفضل مصلحة المجموع على مصلحة الفرد، وفي أو وفق النزعة الاشتراكية أو الجماعية يختلف الأمر، مهام الدولة تنبسط وتمتد على مُعظَم الشؤون، وفيها تغول فعلاً على حريات الأفراد، لكن بزعم أن هذا لمصلحة الأفراد في نهاية المطاف، فمصلحة الجماعة أو مصلحة المجموع لابد أن تُترجِم نفسها في شكل مصلحة أو مصالح الأفراد المُستقِلين، هذه نزعة مُختلِفة تماماً، والقانون فيها أيضاً أكثر تدخلاً وأكثر هيمنةً، في نهاية المطاف السُلطة تجد نفسها في التحديد يا إخواني وليس في الإباحة، في التحديد وليس في الإباحة!

نأتي الآن كما وعدتكم لكي نتكلَّم عن فكرة القانون الطبيعي، القانون الطبيعي! يُمكِن أن يُقال القانون الفطري، لأنه في فطرة الإنسان، من أوائل الأغارقة الذين تكلَّموا عن القانون الفطري المسرحي الشهير سوفوكليس Sophocles، تكلَّم عنه ووصفه بأنه قانون الله غير المكتوب، ثم تحدَّث عنه كل مَن أتى بعده، جستنيان Justinian الذي حدَّثتكم عن مُدوَنته القانونية تحدَّث عنه أيضاً، وقال هذا القانون يفرض نفسه حتى على عالم الحيوان، حتى الحيوانات تسير بمُقتضى هذا القانون، كأن لديها حساً أخلاقياً بالعدل، هذا في مُدوَنة جستنيان Justinian، وأيضاً هو في الباب الثاني.

من آباء الكنيسة – وعموماً مُعظَم آباء الكنيسة تبنوا فكرة القانون الطبيعي، فكرة القانون الطبيعي تبنوها وأعطوها طابعاً أو ألبسوها لباساً لاهوتياً، مُقرِّبين بينها وبين مُقتضيات النظر الديني – توماس الأكويني Thomas Aquinas في العصور الوسطى، الفيلسوف والمُتكلِّم النصراني الكبير صاحب الخُلاصة اللاهوتية، تحدَّث عن أربعة ضروب من القانون: القانون الأزلي، القانون الطبيعي، القانون الإلهي، والقانون الإنساني.

القانون الأزلي – قال – بمُوجبه أو بمُقتضاه يحكم الله ويُدبِّر العوالم، هذا هو القانون الأزلي، كأنه يقول هو قانون الوجود، قانون الكون، أي الكوزموس Cosmos، القوانين الطبيعية الآن بلُغة العلم الحديث، أما القانون الطبيعي عنده فهو انعكاس للقانون الأزلي، أي انعكاس لحكمة الله – تبارك وتعالى – في خلقه، كيف؟ بالذات في الكائنات الحية، بما فيها الإنسان، وذلك من خلال نزوعها إلى الخير، ونفورها من الشر، هكذا زعم، قال هذا هو القانون الطبيعي.

القانون الإلهي يتمثَّل في الشرائع الإلهية، في الشريعة الإلهية المُوحاة، المُوحاة إلى الأنبياء والرُسل، وبقيَ بعد ذلك القانون الإنساني، قال الآتي عن القانون الإنساني، أي ما نُسميه اليوم القوانين الوضعية، وهي القوانين التي يضعها بنو الإنسان، أي البشر، المُجتمَعات البشرية، ويستهدون فيها جُزئياً وتفصيلياً بالقانون الطبيعي، هم يضعونها ولكن في الجُملة وفي الروح العامة يستهدون بماذا؟ يستهدون بالقانون الطبيعي، يستهدون بالقانون الطبيعي، لكن في الجُزئيات هم يُعرِبون عن إضافات كثيرة وعن تفصيلات وعن ابتكارات.

في العصر الحديث أيضاً رجل يُعتبَر من كبار القانونيين على الإطلاق، بل هو أبو القانون الدولي في أوروبا، وهو غروتيوس Grotius الهولندي، أعاد الاعتبار للقانون الطبيعي في القرن السابع عشر، كما قلت لكم السابع عشر والثامن عشر، على خلفية ماذا؟ على خلفية الحروب الطاحنة والأحداث الدامية المريرة التي طحنت أوروبا في تلكم الأعصار الغابرة، وخاصة الحروب الدينية.

والرجل فكَّر بعُمق، ووجد أن كل أمة وكل شعب له قانون، ومُتشبِّث بالقانون، ويرى أن هذا القانون هو الذي يُحقِّق المعدلة، ففكَّر غروتيوس Grotius في قانون يتجاوز كل هذه القوانين، أي قوانين الشعوب، قوانين الأمم والدول، ويحكم عليها جميعها، ويُحقِّق في نهاية المطاف العدالة المرغوبة، فوجد ضالته في فكرة القانون الطبيعي، فأصبح القانون الطبيعي كأنه قانون الشعوب، كل الشعوب، وبضربة واحدة.

ثم تحدَّث غروتيوس Grotius عن التفاصيل، وطالب بأشياء، مُستهدياً بالقانون الطبيعي، طالب بوجوب – مثلاً – احترام الوعد المقطوع والمُعطى، بوجوب العقاب أيضاً على المُسيء والثواب للمُحسِن، قال هذا هو، أي نستهدي بالقانون الطبيعي في هذه الأمور، وجوب احترام الملكية الفردية، وأيضاً لزوم أو وجوب تعويض الضرر مِمضن تسبَّب فيه، على كل حال غروتيوس Grotius كان هو – إخواني وأخواتي – أبا القانون الطبيعي، لكن الفضل يعود إلى فكرة القانون الطبيعي.

وأنا قلت لكم المُعتزِلة تقريباً قاربوا فكرة القانون الطبيعي، دون أن يُسموها بهذا الاسم، وفي الحقيقة الفكر الإسلامي الوسيط لم يعرف مُصطلَح القانون الطبيعي، لكن عرف فكرة ماذا؟ التحسين والتقبيح، التحسين والتقبيح العقليين، فالمُعتزِلة باختصار – وطبعاً هذه مسألة طويلة ومُسهَبة – نظروا إلى أن الأشياء فيها صفات ذاتية، يُمكِن للعقل مُستقِلاً حتى عن نور الوحي الإلهي، يُمكِن للعقل مُستقِلاً ومُنفرِداً أن يتعرَّف جوانب الحُسن والقُبح فيها، فيقول هذا حسن وهذا قبيح، ورتَّبوا على ذلك – أي المُعتزِلة – أن ما أدرك العقل حُسنه أوجب فعله، أمر به، مثل الأمر الشرعي، بحيث أن الله – تبارك وتعالى – يسأله عنه يوم القيامة، أي حتى لو يتم رسول ولم يُخبِر نبي بحُسن هذا الشيئ ووجوب إتيانه لكان العقل كافياً في هذا، وبلا شك هذا نوع من التطرف والمُغالاة في اعتبار العقل، وفي الجانب الآخر طبعاً العكس تماماً، العقل يُدرِك جانب الشر أو جانب الشرية أو جانب السوء والقُبح في الشيئ، وبالتالي يقضي العقل بوجوب الامتناع عنه، بوجوب مُجانَبته، وبحيث أن الله – تبارك وتعالى – لو لم ينه عن هذا لكان العقل كافياً، وستُسأل عن هذا يوم القيامة، هذا باختصار نظرية التحسين والتقبيح العقلي أو العقليين.

السادة الماتريدية الأحناف وافقوهم إلى نصف الطريق، ثم زايلوهم وخالفوهم، قالوا نعم، إن في الأشياء صفات ذاتية، والعقل يستقل بإدراكها، بإدراك الحسن منها وإدراك القبيح، لكن لا ينبني على هذا وجوب كالوجوب الشرعي بأن تفعل هذا وأن تترك هذا، قالوا لا، نختلف مع المُعتزِلة، بالنسبة للسادة الأشاعرة وهم المالكية والشافعية، هؤلاء على العكس تماماً والنقيض من المُعتزِلة، ماذا قالوا؟ قالوا لا صفات ذاتية في الأشياء تقضي بحُسنها أو قُبحها أبداً، إنما التحسين والتقبيح للشارع، فما قال الشارع الحكيم إنه حسن فهو حسن، ما قال إنه قبيح فهو قبيح، ولو فرضنا أن العقل زعم أن هذا الشيئ قبيح والشارع قال إنه مليح حسن فهو حسن، ولا عبرة بما يزعم العقل أنه أدركه، وهذه نظرة مُتطرِّفة ضد العقل، هذه النظرة الأشعرية حقيقةً مُتطرِّفة ضد العقل.

كنت أود أن أُحدِّثكم عن الفرق بين العدل والقسط في القرآن الكريم، الآيات طبعاً أعتقد أنها يسهل على كل واحد منكم ومنكن أن يصل إليها، آيات العدل في كتاب الله وآيات القسط كثيرة جداً جداً، لكن خطر لي – وهذا مُجرَّد اجتهاد، قد أكون مُخطئاً فيه، الله بريء منه ورسوله – الآتي، أعتقد – والله تبارك وتعالى أعلم – أن العدل أعم وأشمل من القسط والقسطاس يا إخواني، كيف؟ القسط والقسطاس يُوشِك أن يكون في مُعظَم موارده في كتاب الله – تبارك وتعالى – مُتعلِّقاً بالعدالة القانونية، ولذلك يقترن بالحُكم في أحيان كثيرة، أي الحُكم بالقسط، ويقترن بالميزان، وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ۩، الحُكم أو القضاء طبعاً يكون وفق أشياء مُحدَّدة، وفق قوانين مُقنَّنة، ويكون أيضاً وفق بيّنات وشهود أو اعترافات وإقرارات، أشياء شبه مُتميِّزة إلى حد بعيد يا إخواني، وكذلكم الوزن والميزان، معروف! قد يكون بالجرام Gram أو حتى قد يكون بالمليجرام Milligram في الأشياء الثمينة جداً، فهذا هو القسط.

أما العدل فيختلف، إذن القسط تقريباً كأنه العدالة القضائية، وأما العدل – هكذا في كتاب الله تبارك وتعالى – فكأنه العدل الأخلاقي، وهو أعم، وهذا العدل الأخلاقي يلتقي مع القانون الطبيعي أو القانون الذي يُسمى بالقانون الطبيعي، ويلتقي أيضاً مع ما يُعرَف بقواعد العدالة.

بكلمة أختم بها ما هي قواعد العدالة؟ قواعد العدالة في القوانين الوضعية يا إخواني حين يخلو القانون من نص بخصوص واقعة أو مسألة مُعيَّنة يُستهدى بعد ذلك بالعُرف، فإن خلا العُرف في بعض الدول الإسلامية يُستهدى بمبادئ الشريعة الإسلامية الهادية في هذا الموضوع، فإن لم يُوجَد ما يُمكِن أن يهدينا قالوا يصير القاضي إلى قواعد العدالة، إلى قواعد العدالة التي يحكم بها ويرتاح إليها ضميره، كل هذا له علاقة بالعدل الذي – كما قلنا – كأنه العدل الأخلاقي.

أدركنا الوقت، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وإلى أن ألقاكم في حلقة أُخرى أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: