برنامج آفاق

ترويض أم تربية؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.

إخواني وأخواتي:

أُحييكم بتحية الإسلام، فالسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من (آفاق).

حديثي إليكم اليوم عن الترويض والتربية، وسأبدأ بهذا التساؤل: ما السر ترون أيها الإخوة والأخوات في انسياق أُناس يبدون طبيعيين جداً أحياناً وعلى سبيل الفجاءة أو الفجأة بطريقة انبثاقية وراء دعوات مجنونة إلى القتل، التدمير، الإهلاك، والإفساد؟!

أكبر مظهر طبعاً يُشكِّل بُرهاناً على هذه الظاهرة العجيبة أو مجلىً لها الحروب، الحروب هذه الظاهرة المجنونة في تاريخ الإنسان، التي يُعبّأ لها طيف واسع من البشر المُتعلِّمين والجاهلين، الأغنياء والفقراء، الكبار والصغار، من شتى الأعراق، ومن شتى الخلفيات الفكرية والعقدية والأيديولوجية.

طبعاً تتقنَّع هذه الحروب مرة باسم الأيديولوجيا، مرة باسم الأوطان، ومرة باسم المبادئ والقيم، إلى غير ذلك، ويُعرِب نفر من العلماء في الحقيقة عن تعجبهم من أن بعض الناس في الحروب يُقاتِلون كما لو كانوا خصوماً شخصيين، مع أن الواقع أن الجُندي أو المُقاتِل إنما يُقاتِل أشخاصاً لم يسبق له أن مت إليهم بسبب من قبل، لا يعرفهم ولا يُعرِفونه، لكنه يُقاتِلهم بضراوة وبتوحش، كما لو كانوا خصوماً شخصيين، أي لخصومة شخصية، والحال أنها ليست شخصية.

لكن في المُقابِل تُبدي شريحة نحيفة أو شريحة يسيرة منزورة من البشر استثنائيةً بهذا الصدد، أي تُبدي استثناءً، حين تتأبى على مثل هذه الدعوات، حين تستعصي ولا تنصاع لمثل هذه الهواتف أو الهُتافات المُنفلِتة المجنونة، تحتفظ بوقارها، بمعقوليتها، وبإنسانيتها، حتى آخر لحظة، لماذا؟ مع أنهم مثلنا، من بني البشر!

هل المسألة تجد أصلها وجذرها في الطبيعة؟ أهي الطبيعة الإنسانيية البشرية؟ أهي أصالة الشر؟ أهي أصالة الكراهية؟ أهي أصالة التوحش، العنف، والرغبة في التدمير في الإنسان؟ أهي غرائز تعمل في الإنسان كما تعمل الغرائز في الحيوان؟ أم أن المسألة تجد جذرها وأصلها في التربية والثقافة، في التعبئة، وفي التنشئة – التشنئة الاجتماعية -؟

مسألة ليس من السهل أن يُغامِر أي دارس أو باحث أو عالم بقطع وجزم الجواب فيها، مثل هذا الجزم حتماً سيكون نوعاً من التعجل، إن لم يكن ضرباً من الغرور، لكنني مبدئياً مُستلهِماً الآية الكريمة وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ۩ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ۩ سأقترح تفسيراً مبدئياً، لكن قبل أن أقترح هذا التفسير يطيب لي أن أُذكِّر بموقع هذه الآية اللافت في هذه السورة العجيبة الجميلة، أعني سورة الشمس، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ۩ وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا ۩ وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا ۩ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ۩ وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا ۩ وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا ۩، الله – تبارك وتعالى – يُقسِم بأشياء مُعرَّفة، ومعنى كونها مُعرَّفة أي أنها ناجزة، تامة التكوين، مفهومة الهُوية، مُحدَّدة أركان هذه الهُوية، وَالشَّمْسِ ۩… وَالْقَمَرِ ۩… وَالنَّهَارِ ۩… وَاللَّيْلِ ۩… وَالسَّمَاءِ ۩… وَالْأَرْضِ ۩… إلى أن يقول – تبارك وتعالى – وَنَفْسٍ ۩… لم يقل والنفس وما سوَّاها، قال وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ۩، تركها مُنكَّرة، وَنَفْسٍ ۩… كأنه يُشير – سُبحانه وتعالى – إلى أن هذه النفس ليست ناجزة بعد، وهذا ضرب من التأويل الفلسفي – إن جاز التعبير – لهذه الآية الجليلة، كأنه يُشير إلى أن هذه النفس ليست ناجزة بعد، أهي لفتة وجودية؟ وأعني بقولي وجودية الإشارة إلى الفلسفة الوجودية، التي من أعلامها سورين كيركيجور Søren Kierkegaard، غابريل مارسيل Gabriel Marcel، جان بول سارتر Jean-Paul Sartre، مارتن هايدغر Martin Heidegger، نيقولا بيرديائيف Nikolai Berdyaev الروسي، وكثيرون، هذه الفلسفة الوجودية، وفي الحقيقة هي ليست فلسفة واحدة، هي فلسفات، هي وجوديات بعدد هؤلاء الفلاسفة، كلٌ له منظوره، كلٌ لهم مفهومه، وكلٌ له نظريته الخاصة.

لكن ثمة شيئ تقريباً مُشترَك بين كل هذه الفلسفات الوجودية، وهو أن الوجود سابق على الماهية، الـــ Existence سابق على الــ Essence كما يقولون، الوجود سابق على الماهية! وطبعاً هذه فكرة من حيث هي تُعارِض المنظور الديني على طول الخط، لأن الإنسان في الحقيقة يتبع الإله الخالق المُصوِّر المُدبِّر المُقدِّر، لا إله إلا هو! سابق العلم والتقدير بكل شؤون الإنسان، لكن العلم بحد ذاته لا يعني يا إخواني الشطب أو الإلغاء لدور الإنسان وإرادة الإنسان واختيارات الإنسان.

ومن هنا موقع هذه الآية الاستثنائية، آية وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ۩ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ۩، هذه الآية لا يُمكِن أن يُقال إنها تلتفت إلى معنى وجودي على النحو الذي شرحت لكم وهو الذي يقطع بأن الوجود – كل وجود إنساني – سابق على الماهية – كل ماهية إنسانية – أبداً، وفي نفس الوقت فإن الآية تُضيف شيئاً جديداً يصدم وعينا التقليدي القار، وعي الناجزية، أن كل شيئ ناجز، مُجرَّد فقط انكشاف وتكشف، كما قيل شؤون يُبديها ولا يَبتديها، الآية أعمق من هذا.

الآية تقول الإنسان نصف ناجز، وربما أقل من نصف ناجز، ناجز وغير ناجز، يقف على تُخم بين الوجود والماهية، ليس مُحدَّد الماهية تماماً، وليس محض الوجود تماماً، كأن شطره هنا وشطره هناك، وهذا ليس الإنسان الذي نعرفه، ليس أنا، وليس أنت، هذه بَذرة الإنسان، هذا جنين الإنسان – إخواني وأخواتي -، بَذرة الإنسان أو جنين الإنسان، مشروع الإنسان أو مُخطَّط الإنسان، لكن ليس على النحو الهندسي، التخطيط على النحو الهندسي تماماً يلتئم بفكرة شؤون يُبديها ولا يَبتديها، لكن وَنَفْسٍ – بالتنكير – وَمَا سَوَّاهَا ۩ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ۩، إذن أصالة الخير وأصالة الشر، الإنسان يتمتَّع بالأصالتين معاً، بأصالة الخير وبأصالة الشر.

ومن هنا أقترح – والله تبارك وتعالى أعلم – أن كل النظريات التي ذهبت إلى توكيد أصالة الشر في الإنسان أخطأت على الأقل نصف الحقيقة، وكل النظريات التي ذهبت لتُؤكِّد أصالة الخير في الإنسان أيضاً أخطأت النصف الآخر من الحقيقة، الإنسان يتمتَّع بالأصالتين، إذن له لياقة واستعداد أن يكون ذلك الكائن الشرير الهدّام المُنحرِف، وأيضاً له أصالة أن يكون ذلك الإنسان البنّاء المُتعالي المُتسامي المُنجِز الإيجابي، الذي يُضيف ولا يسلب، الذي ينبي ولا يُهدِّم، الذي يُعمِّر ولا يُخرِّب، والذي ينتمي إلى الإيجابي وليس إلى السالب أو السلبي، لديه الأصالتان.

ومن هنا يُمكِن أيضاً أن نُفسِّر ذلكم التفاوت البعيد والبعيد جداً بين أفراد النوع الإنساني، التفاوت بين أفراد أي نوع محدود جداً، بإزاء التفاوت البعيد جداً بين أفراد النوع الإنساني، أعني بهذا أنك لو أردت أن تُقارِن بين فردين من أفراد السباع – مثلاً – لما وقعت على كبير فرق ولما عُدت بكبير طائل، فروق يسيرة جداً، مورفولوجية، ظاهرية، شكلية، مثل هذا كبير، هذا صغير، هذا سمين، هذا نحيف، هذا أسرع، وهذا أبطأ قليلاً، أشياء بسيطة جداً! أما الفروق بين آحاد النوع الإنساني فهي من التفاوت ومن الكبر ومن الضخامة بحيث تُصدِّع الإنسان وتسبق الخيال.

بعض أفراد هذا النوع التحقوا تقريباً بعالم الملائكة، أوشكوا أن يكونوا ملائكة وليسوا بملائكة، لغلبة الخير عليهم، لغلبة الإيجابية، البراءة، الطهارة، والبنائية، على أمزجتهم وأرواحهم ونفوسهم، وبعض أفراد هذا النوع – والعياذ بالله – انحطوا وتحضضوا بحيث كانوا شراً من الشياطين والعفاريت والمردة – والعياذ بالله -، وربما صاروا أساتيذ للشياطين كما قال صاحب المقامات:

وَكُنْتُ امْرَأً مِنْ جُنْدِ إِبْلِيسَ فَارْتَقَى               بِيَ الدَّهْرُ حَتَّى صَارَ إِبْلِيسُ مِنْ جُنْدِي.

فَلَوْ مَاتَ قَبْلِي كُنْتُ أُحْسِنُ بَعْدَهُ                         طَرَائِقَ فِسْقٍ لَيْسَ يُحْسِنُهَا بَعْدِي.

هكذا بعض الناس يُمكِن أن يعمل أستاذاً أو مُدرِّساً للأبالسة – والعياذ بالله -، وبعضهم يُمكِن أن يكون نديماً للأملاك في الصفيح الأعلى، ما سر هذا التفاوت البعيد؟!

سر هذا التفاوت البعيد في هذه الثانوية الاستعدادية، وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ۩ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ۩، إذن أصالة الخير وأصالة الشر معاً، أعتقد هنا يكمن المفتاح، مفتاح حل هذا اللُغز الكبير، وفعلاً هو لُغز، لُغز كبير ومُحيِّر ومُستغلِق، كيف؟ أين يكمن هذا المفتاح؟ في ماذا؟ لابد أن نصوغ هذا بعبارة واضحة ومفهومة.

هكذا نصوغه – إخواني وأخواتي -: الطبيعة الإنسانية يُمكِن أن تستجيب للتنشئة وللتثقيف وللتعليم بمزايا مخصوصة بحيث يلتحق الإنسان بالملأ الأعلى، يُمكِن! لدينا هذا الاستعداد، ويُمكِن بثقافة أُخرى وتعليم آخر وتدريب آخر وتنشئة وتعبئة أُخرى أن ينحط الإنسان ويتحضض بحيث يلتحق بالشياطين أو بالحيوانات والبهائم، الإنسان لديه اللياقتان.

إذن المسألة يا إخواني ليست طبيعةً محضاً وليست ثقافةً محضاً، المسألة مزيجٌ من الاثنين، طبيعة ثانوية وثقافات ثانوية مُتفاوِتة، ثقافات سالبة وثقافات موجبة، ثقافات بنّاءة وثقافات هدّامة، ثقافات إنسانية وثقافات إبليسية، وثقافات عُلوية وثقافات هابطة أرضية، هكذا! هذا هو.

إذا وضح هذا لدينا – بفضل الله تبارك وتعالى – فسأنتقل إلى نُقطة أُخرى في هذا البحث، وهي ما الفرق بين ترويض الحيوان وبين تربية الإنسان؟ وهذا السؤال يكون له ما بعده، ربما سيصدمنا الجواب صدمة تهزنا وتؤلمنا، تجرح نرجسيتنا، تجرح تقديرنا لذواتنا وحُبنا لأناواتنا – إن جاز التعبير -.

إخواني وأخواتي:

ما يُميِّز الإنسان من الحيوان ابتداءً وأصالةً هو أن الحيوانات مُجهَّزة بعدد كبير من الغرائز، خلاف الإنسان المُجهَّز بعدد يسير جداً من الغرائز، تقريباً أقل الحيوانات غرائز هو الإنسان.

سأُوضِّح هذا ولكن بعد أن أستأذنكم في الذهاب إلى هذا الفاصل، فكونوا معي، بارك الله فيكم.

أهلاً وسهلاً بكم أحبتي، إخواني وأخواتي، من جديد.

إذن الإنسان هو أقل الحيوانات تقريباً غرائز، ولذلك – إخواني وأخواتي – يُمكِن لأي منا أن يأخذ هُريرة أو قطة صغيرة من أسرتها الصغيرة، يحرمها ويحرمها من رعاية أمها لها، بحيث تعيش بينه في الأسرة الإنسانية، وهذه الهُريرة قد تكون في الأسبوع الثالث من عمرها أو الرابع، أي في الشهر الأول، لن تجد أي صعوبة في أن تنشأ كهرة، وتستجيب لكل غرائزها كهرة، وتعيش كهرة تامة كاملة، لأنها مُزوَّدة بمجموعة كبيرة أو بدستة من الغرائز، تُمكِّنها من هذا الاستقلال المُبكِّر.

ومن هنا كان أطول الحيوانات طفولةً هو الطفل الإنساني، الحيوانات منها ما يستقل عن أمهاتها وآبائها بعد زمن يسير جداً، أما الطفل الإنساني فله طفولة مُستطيلة مُسهَبة مُمتَدة، الطفولة المُبكِّرة من السنة الأولى – من سنة الميلاد أو من لحظة الميلاد – إلى السنة الخامسة، هكذا اصطلح علماء النفس والتربية، الطفولة المُتأخِّرة من السنة الخامسة إلى السنة الثانية عشرة، تقريباً اثنتا عشرة سنة والإنسان لا يزال طفلاً، يحتاج إلى الرعاية، إلى التعليم، إلى التهذيب، وإلى التنشئة، لا يستقل تماماً بنفسه، لماذا – إخواني وأخواتي -؟ لأنه ليس مُسلَّحاً وليس مُزوَّداً مُموَّلاً بالعدد الكافي من الغرائز، التي تجعله يتعاطى مع الحياة ويُباشِرها وحده دون هذه الرعاية المُمتَدة.

ومن هنا فعلاً كما قال الفيلسوف الكبير أرسطو Aristotle الإنسان كائن – هو يقول حيوان – اجتماعي، حيوان اجتماعي أو كائن اجتماعي، من الصعب أن يتحدَّد خارج المُجتمَع، من الصعب أن يتحدَّد وأن يبرز خارج المُجتمَع، لكن هذا أيضاً ربما يُشكِّل جُزءاً من مأساة الإنسان، الجُزء الذي يتمثَّل في كون الإنسان محكوماً بالمُجتمَع، بمعنى آخر ضحيةً لهذا المُجتمَع، محكوماً بعادات هذا المُجتمَع، بثقافة هذا المُجتمَع، بمقبولات هذا المُجتمَع، وبكل ما عليه هذا المُجتمَع، سيكون هذا المُجتمَع قدره، فهو صنيعة هذا القدر، صنيعة هذا المُجتمَع.

والآن – وهذا لا يخص المُسلِمين، هذا يعم البشر جميعاً في كل عصر وزمان ومصر وفي كل آن وأين – كل المُجتمَعات تقريباً تُمارِس نوعاً من الترويض للأفراد وليس التربية الحقيقية، كتب مرة الفيلسوف الإنجليزي الشهير برتراند راسل Bertrand Russell على عادته في استخدام السخرية، لكن السخرية المُعلِّمة والسخرية الذكية، كتب مرة يقول لا يُولَد الناس أغبياء، ولكن جُهلاء، أي يُولَدون جُهلاء، لكن التربية والتعليم تجعلهم بعد ذلك أغبياء.

طبعاً فرق كبير بين الجهل والغباء، وبلا شك أن الإنسان يُولَد جاهلاً، وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا ۩، عدم العلم يُساوي الجهل، يُرادِف الجهل، نُولضد جُهلاء، لكن لسنا أغبياء، فعلاً لسنا أغبياء، الغباء شيئ آخر، الغباء يأتي بالتعليم وبعد التعليم، أي التعليم هو شرط بروز الغباء، كيف؟

هذا هو طبعاً، أنت تُعلِّم اثنين، يستجيب أحدهما برهافة، بيقظة، وبسرعة، والآخر لا يستجيب، فلا يتعلَّم، فنحكم عليه بالغباء، أنه غبي، لا يستطيع أن يتفاعل بشكل جيد، هذا هو الغباء!

فراسل Russell يقول الناس يُولَدون جُهلاء، لكن التعليم هو ما يجعلهم أغبياء، لماذا؟ كأنه يستوحي أيضاً الإنجليزي السابق عليه، لكن هو عاصره فترة ما، وهو الكاتب والمُفكِّر والناقد الأدبي الكبير غلبرت كايث تشيسترتون Gilbert Keith Chesterton، تشيسترتون Chesterton يقول يا لله، لِمَ هذا العالم – يعني عالمنا – مليء بالأطفال العباقرة وبالكبار الأغبياء أو الحمقي؟!

يُريد أن يقول تشيسترتون Chesterton كل طفل تقريباً عبقري، باستثناء طبعاً الذي يُولَدون مُعاقين عقلياً وذهنياً، لكن كل طفل من حيث هو ومن حيث أتى عبقري، ما معنى عبقري هنا؟ لديه اللياقة، لديه استعداد أن يكون عبقرياً، يتفتَّح على كل المعاني، يتداول مع كل الأفكار والنظريات والمناهج والمنظورات، قادر!

بدليل أنك يُمكِن افتراضاً أن تأخذ هذا الطفل وتضعه في أي بيئة أُخرى، فيتشكَّل بها ويتكيَّف بها، ويُمكِن أن تضعه في بيئة أُخرى، فيتكيَّف بها، يكون هنا ذكياً ولامعاً، وهناك غبياً جداً وقاتماً مُنطفئاً، مُمكِن جداً، وهو الإنسان نفسه، افتراضاً وتخيلياً هذا بلا شك صحيح إلى حد بعيد.

لماذا يحصل هذا؟ لأن المُجتمَعات – كما قلت لكم – بكلمة لا تود ذلك، يبدو أنه ليس من صالحها، ولا أدري لماذا، نحن نتحدَّث عن المُجتمَع، والمُجتمَع في نهاية المطاف شخصية اعتبارية، كأنه شخصية حقيقية، لكي نكون أكثر تحديداً لابد أن نُعرِب عن مقصودنا.

هناك قوى مُعيَّنة في المُجتمَع، سُلطات مُعيَّنة في المُجتمَع، وأطراف مُعيَّنة في المُجتمَع، مرة قد تكون الكهنوت الديني والقوى السياسية بالذات – إخواني وأخواتي -، وأحياناً القوى أو الجهات التعليمية والتربوية في المُجتمَع، من مصلحتها – وتعمد إلى هذا وتتقصَّد إليه – أن تُروِّض الناس، لا أن تربيهم.

ما الفرق إذن بين الترويض والتربية؟ هذا هو المحور الرئيس لحديث اليوم – إخواني وأخواتي -، الترويض يتعامل مع الغرائز، بكلمة واحدة يُمكِن أن نقول الترويض هو إدارة – أي Management – الغرائز، لذلك الترويض للحيوانات، كم تجرحنا هذه الكلمة: يُقال لك ترويض العقل! لا يُقال ترويض العقل الإنساني أو ترويض البشر، لا! لسنا حيوانات، هذا يختص بالحيوانات، الترويض يتعلَّق ويتعاطى مع الغرائز، أما التربية فهي إدارة العقل، هي إدارة العقل وتنمية العقل، تنمية وتزكية العقل الإنساني، أيضاً مع ضبط الغرزي.

في نهاية المطاف لا يُمكِن أن ينمو هذا العقل إن لم ينضبط الجُزء الغرزي فينا، وكما قلنا الجُزء الأنحف الأصغر والأقل – بفضل الله تبارك وتعالى -، لكن ما لم ينضبط الغرزي فينا لا يُمكِن أن تنبثق الحضارة والمدينة.

ولذلك أنا أختار تعريفاً للحضارة من سنين بعيدة، الحضارة هي ضبط الغرزي فينا، لكن ليس مُجرَّد ترويض الغرزي، ضبط الغرزي! بماذا ينضبط الغرزي؟ بتنمية العقلي، أو بتنمية العقل فينا، بإدارة العقل، وبتزكية العقل، يُمكِن أن ينضبط الغرزي.

ولعلكم سمعتم مرة أن الإنسان يُمكِن أن يرتقي إلى أُفق سامق جداً وبعيد جداً، حين تُصبِح حتى عواطفه، حتى أمياله النفسية، وأهواؤه، مُنضبِطة بأحكامه العقلية وبقناعاته العقلية، عجيب! هذه حالة نادرة جداً، يتمتَّع بها أفراد حُكماء من البشر، حتى في حُبهم، في كُرههم، وفي سائر قراراتهم ومواقفهم، ينضبطون بالعقل وبالحُكم العقلي، وإليه الإشارة لا يُؤمِن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به، وهذا هو العقل الشرعي هنا، وهو عقل يُسعِد الإنسان، ويُبرِّره، ويُطهِّره، ويُرقِّيه بلا شك، حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به، وأُنموذجك هنا وقدوتك هو خير عباد الله، رسول وحبيب الحق وسيد الخلق – صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً -.

إذن ضبط الأهوائي، ضبط الوجداني الانفعالي، فضلاً عن الغرزي، بالعقل! وهذا أُفق سامق جداً، إذن هذا الفرق بين التربية والترويض، والنتيجة ستختلف إلى حد بعيد يا إخواني، وهي تابعة للمقصود، المقصود من ترويض الغريزة وإدارة الغريزة في ذوات الغرائز – أي في الحيوانات – ما هو؟ التحكم، التحكم والسيطرة، ومزيد من التحكم ومزيد من السيطرة، لكن المقصود في التربية مُختلِف تماماً، عكس التحكم وعكس السيطرة، وهو الاستقلال.

كل تربية لا تتأدى إلى ولا تُؤدي إلى أن يكون هذا المُربى أو أن يكون موضوع التربية مُستقِلاً وقادراً على مُباشَرة الحياة باستقلال شيئاً فشيئاً تربية فاسدة وفاشلة، أعتقد الآن وضح لكم أننا تقريباً لا نكاد نعرف التربية إلا قليلاً، لأننا نُريدها بحيث تُحقِّق الضبط والسيطرة، ومزيد من الضبط ومزيد من السيطرة، هذا الترويض وليس التربية!

لذلك أيضاً من النتائج والثمار ومن اللوازم والتدعيمات في الترويض يا إخواني الرتابة والتكرارية، وكما قال ماركس Marx مرة ما الفرق بين أدنى مُهندِس أو أغبى مُهندِس إنساني وبين أذكى نحلة؟ الفرق أن النحلة تصنع ما تصنع مُنذ ملايين السنين بالطريقة ذاتها، رتابة وتكرارية! لا يُوجَد إبداع، ولا تُوجَد إضافة، يُوجَد إنجاز، لكنه إنجاز غير إبداعي، إنجاز غير ابتكاري، إنجاز لا يُضيف شيئاً جديداً، إنجاز مكرور، وإنجاز مُبرمَج – إن جاز التعبير -، لكن المُهندِس أو أدنى مُهندِس إنساني أو أغبى مُهندِس إنساني يُمكِن أن يُعطينا كل مرة مُخطَّطاً جديداً، يُمكِن أن يقترح عليك عشرين مُخطَّطاً لبيتك الذي تنتوي أن تبنيه، بيت الأحلام، بيت الزوجية! أو ثلاثين حتى، أو كم تُريد، لكي يفوز بالمُناقَصة، هذا هو الفرق.

لذلك يا إخواني في الترويض رتابة، جمود، تكرارية، اجترار، سلبية، ومُراوحة في المكان، في التربية إضافة، إنجاز، ابتكار، خطو للأمام، حركة وتحريك، إنماء وتزكية للحياة، ودعم للمشروع الإنساني، في الترويض المسألة قابلة للقياس إلى حد بعيد، وقابلة للتنبؤ، في التربية المسألة غير قابلة للقياس، إلى حد بعيد غير قابلة للقياس، وغير قابلة إلى حد بعيد أيضاً للتنبؤ، لماذا؟ لأنك مع الإبداع، مع الإنجاز، مع الابتكار دائماً، ومع عالم من الحرية وعالم من الطلاقة، هذه هي التربية.

والآن سيقفز أحدكم إلى النتيجة ليقول لو كنا فعلاً نتلقى التربية الصحيحة ونتربى – لو كنا ببساطة نتربى – لما كنا سلسي القياد لكل تحشيد ولكل تجييش، لما كنا موضوعات تستجيب للهواتف المجنونة، بالاشتعال، بالثوران، بالقتل، وبالتهديم، حتى لأقرب الناس إلينا، نُمارِس الجريمة في حق أقرب الناس إلينا! سيقول أحدكم كيف؟ ما معنى هذا الكلام؟ يضح هذا في الحروب الأهلية، حين تشب نيران حرب أهلية سيُفجَع كلٌ منا في نفسه، حين يجد نفسه وقد انتهى قاتلاً مُجرِماً لجاره، الذي جاوره أحسن ما يكون الجوار عشرين أو ثلاثين سنة، لماذا؟ فقط لأن الجار مُختلِف، كأنني اكتشفت الآن بعد ثلاثين سنة أن هذا الجار – مثلاً – ليس مُسلِماً، أو أنه مُسلِم لكنه ليس على طريقتي، ليس من طائفتي، ليس على مذهبي، وليس على مِزاجي، هذا بعد ثلاثين سنة، والآن حل قتله، يا للعار! يا للعار! يا للحيوان المُروَّض! هذا حيوان، هذا ليس إنساناً، الإنسان لا يتصرَّف على هذا النحو.

لذلك – كما قلت لكم – الشريحة النحيفة من البشر التي تُبدي تأبياً واستعصاءً وتمرداً على هذا النمط المُروَّض أو الترويضي هم أُناس استثنائيون، مُلتزِمون بماذا؟ مُلتزِمون بالمعنى، طريقهم الإبداع والوعي بالذات، كما الاحترام للآخر، في النهاية مُلتزِمون بالإنساني.

الفيلسوف الفرنسي الشهير مونتسكيو Montesquieu يكتب مرة يقول لو أنني اكتشفت شيئاً يُمكِن أن يُفيد بلدي فرنسا لكن يُضِر بالعالم فسأُخفيه، لن أُظهِره! لماذا؟ يقول لأنني وإن كنت فرنسياً فأنا فرنسي بالصُدفة، بالتقدير هكذا! ولكنني إنسان بالضرورة، الأصالة لكوني إنساناً، قبل أن أكون فرنسياً، ماذا يُضيف إلىّ كوني فرنسياً – مثلاً -؟ يُضيف، لكن شيئاً بسيطاً جداً، لا يُمكِن أن يأفن ويجتاح إنسانيتي، هذا أنا أصالةً، أنني إنسان، انظروا إلى هذه، فهذه كلمة عظيمة جداً، مَن منا الآن قادر على أن يقول مثلها؟! بالعكس، كما قلت لكم نحن مُستعِدون أن نذبح أقرب الناس إلينا، لدينا لياقة واستعداد أن نذبح أقرب الناس إلينا في لحظة مجنونة، هذه اللحظة ستُثبِت لنا أننا لم نترب، لم نكتشف أنفسنا، لم نبن ذواتنا، نحن رُوِّضنا يا إخواني، نحن رُوِّضنا!

تعرفون الترويض، ونتيجته – كما قلت لكم – التحكم والضبط ومزيد منهما والقياس والتنبؤية أو القابلية للتنبؤية، هذا الترويض لا يسمح لكم بمُقارَفة الخطأ، ليس حُباً في الفضيلة، لكن حرصاً على مزيد من التحكم والضبط يا إخواني، صدِّقوني الدين لم يأت بهذا المنطق، بالعكس! القرآن مليء طافح من أوله إلى آخره بما يُذكِّرنا بأننا خليقة ضعيفة، وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا ۩، خليقة هشة، يُمكِن أن نُخطئ ونُخطئ كثيراً، لا بأس! الله يقول لا بأس، أعلم أنكم ستُخطئون، لكن لا تُصِروا، وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ۩ أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ۩، أعلم هذا – الله يقول -.

في صحيح مُسلِم من حديث أبي هُريرة يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – والذي نفسي بيده لو لم تُذنِبوا فتستغفروا لذهب الله بكم ولجاء بأُناس غيركم يُذنِبون فيستغفرون فيغفر لهم، النبي يُقسِم على هذا، لكن انتبهوا، فرق كبير بين ما نقصده وبين أن نقع في الخطأ ونحن نعلم أنه خطأ، أهذا يقع؟ يقع، يقع طبعاً، على الأقل يقع من باب الضعف، ضعفنا يخذلنا، أو بالأحرى قوتنا تخذلنا، قوتنا الضعيفة هذه تخذلنا فنقع، وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا ۩.

أعجبني ما ذكره المرحوم مُصطفى محمود – رحمة الله تعالى عليه – بل الرائع مُصطفى محمود عن صديق عمره الفنّان الكبير محمد عبد الوهّاب – رحمة الله تعالى عليه -، ماذا ذكر؟ ماذا ذكر الكاتب والفيلسوف والمُثقَّف الكبير عن الفنّان العظيم؟

كونوا معنا بعد هذا الفاصل، لكي نسمع ماذا كان منهما وبينهما.

أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم إخواني وأخواتي من جديد.

المرحوم مُصطفى محمود يُحدِّث عن صديق عمره الفنّان الكبير محمد عبد الوهّاب أنه كان يتصل به وأحياناً يستمر الاتصال ست ساعات، قال ويبكي، يبكي بكاءً مُراً طويلاً، ويقول لي يا مُصطفى هل تظن أنه سيغفر لي – تبارك وتعالى -؟ ويبكي، فيُؤكِّد له الدكتور مُصطفى محمود – رحمه الله – أن الله – تبارك وتعالى – لا يتعاجزه ذنب أن يغفره، ولِمَ لا؟! يقول له لقد كنت شاباً – يعترف له، هذا جُزء من أدب الاعتراف ومن روحية الاعتراف -، وهو خلقني هكذا، وأنا ضعيف، ضعيف أمام الجمال وأمام الروعة، هذه طبيعتي كإنسان، أنا ضعيف، كنت أضعف، وكنت أُخطئ، وأنا الآن نادم أشد الندم، هل سيغفر لي يا مُصطفى؟ ويبكي، وبعد مُنتصَف الليل يكون أحياناً الاتصال.

طبعاً بعون الله – تبارك وتعالى – الله يغفر، ولِمَ لا؟! وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ ۩، لذهب الله بكم ولجاء بقوم غيركم يُذنِبون فيستغفرون فيغفر لهم، لكن طريقة الترويض تُحاوِل أن تُفهِمنا أنه ليس من حقنا أن نُخطئ، ويا ويلنا إن أخطأنا! وطبعاً الترويض والتحكم يختلف حتى في حق الذكر عنه في حق الأُنثى، الأُنثى بالذات يُطلَب مزيد تحكم عليها وفي شخصيتها وفي كيانها ومزيد ضبط لها؟

عليّ شريعتي – رحمه الله – المُفكِّر الشهيد يقول أنا أُشفِق كثيراً على البنات وعلى النساء، لأن إحداهن إذا أخطأت مرةً فالمسكينة لا تستطيع أن تُعفّي على خطئها بأن تُرسِل لحيتها، أما الرجال ففقط يكتفون بإرسال اللحية بعد ذلك، ليُصبِحوا قدّيسين وأولياء في نظر المُجتمَع، وينسى المُجتمَع هناتهم وأخطاءهم، أما الأُنثى فلا، للأسف هذا المُجتمَع لا يُربي، هذا المُجتمَع يُريد أن يُروِّض، ولأهداف تسلطية وسُلطوية مُعيَّنة، لا تخفى علينا.

حتى خطأ الاجتهاد غير مسموح به، ليس فقط خطأ السلوك، وإنما خطأ اجتهاد الرأي، غير مسموح به في المُجتمَعات حين تنغلق وتجمد وتتكلَّس، تُعتقَل يا إخواني ويتوقَّف نماؤها، يُنزَف منها ماء الحياة والنماء، ممنوع! مع أننا أبناء دين يقول صاحبه – عليه الصلاة وأفضل السلام – إن الحاكم إذا اجتهد فأصاب كان له أجران، وإذا اجتهد فأخطأ كان له أجر واحد، أين مثل هذا الدين الذي يقول لك اجتهد إن كنت تتوفَّر على آلية الاجتهاد وإن كنت ذا لياقة للاجتهاد، وأنت مأجور في كلتا حالتيك أصبت أو أخطأت، مرة بأجرين وأُخرى بأجر واحد؟! شيئ غريب! أما المُجتمَع المُتكلِّس فليس كذلك، هو أصلاً لا يفتح باب الاجتهاد لأحد، لا يُحِب أحد أن يجتهد، يُحِب لكل أحد أن يجتر وأن يُكرِّر، هي الرتابة والمُراوَحة في المكان، لماذا؟ حتى يتحقَّق الضبط والتحكم والقابلية على التنبؤ أو القابلية للتنبؤ، حتى نعرف، كل شيئ لابد أن يكون معروفاً ومحسوباً بدقة، ماذا سيقول؟ بماذا سيُفتي؟ وبماذا سيُقرِّر؟ لكن يختلف الأمر إن اجتهد وكان مُبدِعاً ومُبتكِراً وحراً وخرج عن السائد على المألوف، لا يُمكِن ضبطه، لا يُمكِن التنبؤ، إذن هذا مُتمرِّد، إذن لابد أن يُلعَن.

تماماً كما حكى لنا الفيلسوف اليوناني الكبير سقراط Socrates عن الرجل الذي خرج من الكهف، أي كهف أفلاطون Plato كما تعرفون، فالحكاية كلها لسقراط Socrates، ويحكيها أفلاطون Plato في الجُزء السابع من الجمهورية، أطول مُحاوَرات أفلاطون Plato! خرج هذا الرجل من المخرج العُلوي ورأى حقائق الأشياء، في حين كان هو وزملاؤه من قبل يرون فقط ظلالها، فعاد إليهم وأخبرهم، لكن لم يُصدِّقوه، وأبوا أن يُصدِّقوه، وانتهى به الأمر قتيلاً بأيدي زملائه وإخوانه.

ولذلك يُعقِّب سقراط Socrates بالقول إذا أردت أن ترى النور وأنت في الظلام كظلام أصحاب الكهف هؤلاء الذين لا يرون من الحقائق إلا ظلالها فإن عليك أن تتحوَّل بكُليتك، كما خرج هذا الذي طلب ونال الحقيقة، أي بمعنى أنك لا يُمكِن أن تكتفي بإرسال عينيك، تُبرِز عينيك من محجريهما وتُرسِلهما لكي تريا عنك ولك، لا يُمكِن! لابد أن تتحرَّك بكُليتك، ثم يستتلي قائلاً وهكذا مَن يطلب الحقيقة، عليه أن يتوجَّه بروحه كلها إليها، أي إلى الحقيقة، لابد أن تحتشد النفس كل النفس لطلب الحقيقة، ليس مُجرَّد التمني البعيد الذاوي الضعيف الظلالي، هكذا!

إذن لا حق لنا في الاجتهاد، لا حق لنا في الخطأ يا إخواني، لا خطأ السلوك ولا خطأ الرأي، مع أن التربية الصحيحة تُعلِّم وتقوم على التعليم، أن الخطأ أسلوب جيد ومُمتاز، اختباري وخبراتي من أساليب التعليم، والإنسان حين يتعلَّم من خطئه أو كما نقول يدفع من كيسه لا ينسى ما تعلَّمه، في حين أنه لو تعلَّم من كيس غيره قد ينسى، لكن نحن لا نُشجِّع على ارتكاب الأخطاء، انتبهوا! هذه ليست دعوة إلى مُقارَفة الأخطاء والخطايا، لأن ثمة فرقاً بين مَن أخطأ خطأً وبين مَن أخطأ عمداً وعلماً، كيف أخطأ خطأً إذن؟ هناك مَن يُواقِع الخطأ على سبيل الخطأ أو على سبيل الضعف الإنساني، فهذا مُرشَّح للإقلاع والنزوع، ومُرشَّح للمغفرة الإلهية، أما مَن يُقارِف الخطأ على سبيل العمد والعلم وهو يعلم أنه خطأ فشأنه مُختلِف، هذا المسكين مُرشَّح للعنة، ومُرشَّح أن يعلق في فخ الخطأ، لماذا؟ لأنه ليفعل هذا وهو مُدرِك تماماً أن هذا الخطأ خطأ، فإن كان مُدرِكاً فهذا معناه أن طبيعته الإنسانية فسدت، أن مخزونه من التقوى – فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ۩ – قد نضب تقريباً، وأصبح مغلوباً لمخزونه أو ذخيرته أو رصيده من الفجور – والعياذ بالله -، هذا سقط في الاختبار، إذن فرق بين هذا وبين هذا.

لذلك هذا يُفضي بي الآن إلى أن أتحدَّث عن أدب الاعتراف، تقريباً نحن العرب وربما المُسلِمين في العموم ليس لدينا هذا الأدب، مع أن له أصولاً قويةً في ديننا، في شرعنا، في نصوصنا المُقدَّسة! الغربيون عندهم هذا بشكل فائض – إن جاز التعبير -، من أيام القدّيس أوغسطين، أي سانت أوغسطين Saint Augustine، مروراً بميشيل دي مونتين Michel de Montaigne، جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau، جان جينيه Jean Genet، أندريه جيد André Gide، وأوسكار وايلد Oscar Wilde، كثيرون كتبوا واعترفوا وذكروا مخازيهم ومباذلهم ومُغامَراتهم.

روسو Rousseau ذكر أنه ضحى بأبنائه كلهم، أودعهم في ملجأ للُقطاء، لكي لا يشغلوه عن إبداعه وعن فكره، واعترف! قال هذا أنا وهذه هي حياتي، قال في النهاية أنا إنسان لست شريفاً، اعترف بأنه كان يعيش على كد النساء وعلى عرق النساء، اعترف بأن صديقه العزيز حين دهمه المرض وأقعده وجعله في أمس الحاجة إلى دعم صديقه جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau تخلى عنه فجأة، اعترف بكل هذا، اعترف بأشياء غريبة جداً الرجل!

نحن فعلنا العكس حين اعترف نجيب محفوظ في شكل رمزي في ثلاثيته تحت اسم كمال عبد الجوّاد، وفعلاً كان هو نجيب محفوظ، هو قال أنا لست مدعواً إلى أن أكتب سيرتي الذاتية، لأنني فعلت من خلال شخوصي في رواياتي وفي قصصي، تقريباً لم ينج الرجل، أصبح مسخرة.

لويس عوض اعترف بأشياء، اعترف بعُقمه على الأقل الوراثي، سعد زغلول مرة اعترف، مرة ذكر أنه مارس القمار مرات، فأصبحت فضيحة مُمتَدة، لا مقطوعة ولا ممنوعة! لماذا يا إخواني؟ ليس لأننا فضلاء، ليس لأننا مبرأون، ليس لأننا مبرأون من هذه المخازي، كثيرون منا يرتكبون هذه المخازي وأفظع وأخزى منها، لكن لأننا لم نتعلَّم على الصدق وعلى الوضوح وعلى مُباشَرة الأشياء كما هي، تعلَّمنا على التزييف وعلى الكذب، لماذا؟ لأننا نتاج ترويض، لسنا نتاج تربية، لم نتعلَّم أن الخطأ مشروع، يُمكِن أن نقع في الخطأ يا إخواني، وأن نتعلَّم منه، هذا من حيث الأصل، مشروع قدراً، وليس مشروعاً شرعاً، مكتوب علينا! وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا ۩، كما قال النبي إن ابن آدم مكتوب عليه حظه من الزنا، مُدرِك ذلك لا محالة، فالعينان تزنيان، اليد تزني، الفم يزني وزناه القُبل، القلب يزني، يهوى ويتمنى، لكن الفرج يُصدِّق ذلك أو يُكذِّبه، والعياذ بالله من الفواحش، لكن هذا قدر الإنسان، هذا قدر الإنسان وضعفه، لكننا لم نترب على هذا المنطق أبداً، تربينا على التقنيع، تقنيع حقائقنا وتزييف حقائقنا، وكأننا قدّيسون، وكأننا الأنبياء أو الملائكة ذواتها، ولسنا كذلك بأي حال من الأحوال.

لذلك هذا الأدب ليس لدينا، أي أدب الاعتراف، ولا نحترمه، مع أنه كثير جداً – كما قلت – في ديننا، وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ۩، عمر قال يا رسول الله هلكت، قال ما أهلكك يا عمر؟ قال واقعت أهلي، واقعت أهلي في ليل رمضان، وكان في بداية التشريع إذا أفطر أحدهم ودخل العشاء فلا يجوز له بعد ذلك – خاصة إذا نام طبعاً وقام – أن يأتي أهله ولا أن يأكل ولا أن يشرب، فعمر واقع أهله، واعترف بهذا، قال يا رسول الله حولت رحلي في رواية أُخرى، هناك حديث الذي واقع أهله في رمضان وجاء يعترف أمام الصحابة، وهناك حديث أبي اليسر، والحديث المُخرَّج في الصحيح.

أبو اليسر هذا باختصار كان يبيع تمراً، وجاءته امرأة، قال لها إن عندي في داخل الدار تمراً أجود منه، قال إن عندي تمراً أجود منه فدخلت، قال فقبَّلتها يا رسول الله، نلت منها قُبلة، فالنبي أحزنه هذا وأغضبه، قال أخلَّفت غازياً في أهله بمثل هذا؟! عمر قال له لو تُبت وسترت على نفسك لكان خيراً لك، طبعاً وقال هذا لأبي بكر في رواية، فقال له لو سترت على نفسك، لو تُبت وسترت على نفسك لكان خيراً لك، وعمر قال نفس الشيئ، لو تُبت وسترت على نفسك لكان خيراً لك، إذن النبي قال أخلَّفت غازياً في أهله بمثل هذا؟! أي يا أبا اليسر، ثم صلى النبي – قال – صلاة العصر، فنزل قول الحق – تبارك وتعالى – وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ ۩، فدعا به فتلاها عليه، فاستبشر الرجل، في رواية فقال المُسلِمون يا رسول الله أهذا له – أي لأبي اليسر – خاصة أم للمُسلِمين عامة؟ فقال بل للمُسلِمين عامة.

اعتراف! هذا أدب الاعتراف، مثل هذه الأدبيات لدينا، الآن ربما أنتم تتفطَّنون وتقولون عجيب فعلاً، هذه كلها وقائع اعتراف، كل هذه وقائع اعتراف! وبين يدي مَن؟ وفي أي مُجتمَع؟ في أطهر مُجتمَع، في أطهر حقبة من حقب التاريخ البشري، في العهد السعيد، أي عهد رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -، ومن أصحابه، ويعترفون بين يديه وبين أصحابه أيضاً الكبار الكرام، هذا أدب اعتراف، لكن لم نتعوَّد على هذا.

تساءلوا معي بالله عليكم إخواني وأخواتي: ماذا لو بدأنا نُمارِس بشكل ضعيف وبشكل بدائي أدب الاعتراف الآن – مثلاً -؟ فيخرج علينا شيخ أو عالم أو سياسي أو مُفكِّر أو صحافي كبير ليعترف، تخيَّلوا شيخاً يخرج في فضائية، يقول للناس أعترف لكم أنني خُنتكم حين أفتيتكم بالفتوى الفلانية، لماذا؟ لأنني خضعت لنزوتي، أُغريت بمبلغ كبير من المال، فخُنتكم، عجيب! ماذا سيحدث؟ بعض الناس يقول سيفقد الناس الثقة في كل علماء الدين، لا! غير صحيح، بالعكس، هذا غير صحيح، الآن الناس في حالة حيرة وبلبلة يا إخواني، وليس لديهم هذه الثقة الواعية والثقة العاقلة، الآن الثقة التي لكثير من الناس في علمائهم هي الثقة المجنونة، الثقة غير العاقلة، الثقة التي تُرشِّحهم أن يصيروا في أي لحظة مُجرِمين وقتلة، اقتل يقتل، فجِّر يُفجِّر، وكفِّر يُكفِّر!

لا نُريد مثل هذه الثقة العمياء، أي ثقة الترويض، هذه ثقة بهيمية وثقة مُتوحِّشة، نُريد الثقة العاقلة والثقة الواعية بذاتها والثقة الواعية بموثوقها أو موضوع ثقتها، كيف يكون هذا؟ هذا يُساهِم فيه أدب الاعتراف، هل تعرفون ماذا يحصل؟ أنا أقول لكم ببساطة لو حصل هذا وبدأ يتكرَّر ويتوارد مرة فمرة هذا سيُلزِمنا بالآتي، سيُلزِم الجمهور، سيُلزِم الأتباع، وسيُلزِم عموم الناس، أن يتكئوا على أنفسهم وأن يستخدموا عقولهم، سيقولون لن نُسلِس ولن نُسلِم قيادنا أو مقادتنا لأي عالم كان، سنسمع لهذا ونسمع لهذا ونسمع لذاك، لكن سنستخدم عقولنا، والنبي أرادنا أن نكون كذلك.

في حديث أبي ثعلبة الخُشني وهو أيضاً حديث وابصة بن معبد قال جئت تسأل عن البر والإثم، ثم جمع أصابعه وجعل ينكت بهن في صدره، يقول له البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في صدرك، وتردَّد، وكرهت أن يطلع عليه الناس، استفتك قلبك وإن أفتاك الناس، وفي رواية وإن أفتاك المُفتون، وأفتوك وأفتوك، استفت قلبك! إنها الثقة بالإنسان يا إخواني، إنها الثقة بالضمير، إنها الثقة بالفطرة، إنها الثقة بالإيمان يشع في الداخل ويُؤتي أثماره ويفعل فعله، الإيمان يشتغل، ثقة بك! النبي يُريد أن تكون واثقاً من نفسك وبفطرتك.

لكن نحن – أقول لكم – نُروَّض، ولا أقول نُربى، نُروَّض بطريقة بحيث أننا نخون ضمائرنا، نخون قناعاتنا، نخون عقولنا، ونخون حاستنا، حاستنا الفنية الجمالية، وأيضاً قوانا العقلية، ذائقتنا، نخون كل هذا! كيف؟ كيف نخون حاستنا حتى الجمالية أو الذائقية؟ نفعل هذا مع الشيئ الذي يروعنا، هناك شيئ يروع، جميل! نشعر بأنه جميل، بأنه طيب، بأنه مُحبَّب، نرتاح إليه، تقشعر أبداننا منه أحياناً، سواء كان وصلة موسيقية أو طريقة في الإنشاد أو فكرة جديدة أو تحليلاً، أي شيئ يروع، لأنه جميل، لكن نخون هذه الذائقة حين نقول لا، هذا شيئ مُنكَر، هذا شيئ باطل، هذا ضد الدين، هذه زندقة، وهذا خروج على السائد، ونخون هنا الضمير!

أخطر شيئ أن تخون حاستك وضميرك، هل تعرف لماذا؟ لأنك حين تُغلِق عينيك مُحال أن ترى شيئاً، وحين تُغلِق عين البصيرة مُحال أن تفهم شيئاً، قال – عز من قائل – وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ۩، لماذا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۩؟ لأنهم خانوا ذائقتهم، خانوا حاستهم الباطنية، أدركوا لأول وهلة أنه الحق أمامهم بلا امتراء، بلا امتراء! لكنهم قالوا مُشايعةً للمُجتمَع، مُشايَعةً للنمط وللسائد، ومُتابَعة للهوى والمصلحة، قالوا باطل، إنه باطل الأباطيل، قبض الريح، لا شيئ!

ولذلك كتب بعضهم يقول مَن خان قناعته مرة قد لا يتمكَّن بعد ذلك من أن يرى الأمور كما هي، وفعلاً هذا القول مأخوذ من كتاب الله، قد لا يتمكَّن بعد ذلك من أن يرى الأمور كما هي، قال – عز من قائل – أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى ۩، هنا الخيانة أيضاً، نفتري، نخون الضمير، نخون الرسالة، ونخون الأمانة، أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى ۩، وفرض المُحال ليس بمُحال، ماذا لو أنه – وحاشاه، عليه السلام – افْتَرَى ۩؟ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ۩، انظر إلى هذا، قال يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ ۩، كما قال هناك وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ۩.

إياكم إخواني وأخواتي أن تخونوا قناعاتكم، أن تخونوا ضمائركم، وأن تخونوا حاستكم، تعلمون… أنتم تخونون إنسانيتكم، تخونون أناواتكم.

سل نفسكَ أخي، سلي نفسكِ أختي: كم هي الأشياء التي يُمكِن أن تُقايض بثمن في حياتك؟ ما هي الأشياء وكم هي الأشياء التي يُمكِن أن تُقايض بثمن – أي يُدفَع ثمن قُبالها فتبيعها أو تُعطيها أو تتنازل عنها -؟ أقول لك كلما كثرت هذه الأشياء كلما تدنيت إنسانياً، كلما أوشكت أن تُصبِح – والعياذ بالله -… الشيئ الآخر! والعكس كلما قلت هذه الأشياء التي يُمكِن أن تُقايض بثمن، كلما زادت هذه الأشياء – يُمكِن أن أبيع هذا وهذا وهذا وهذا – كلما علمت أنني لست إنساناً، أنني اقتربت من المرحلة التي تضمحل فيها إنسانيتي، والعكس كلما قلت هذه الأشياء، ليس عندي ما يُمكِن أن أُقايضه بثمن، كرامتي لا تُقايض بثمن، قناعاتي لا تُقايض بثمن، وكذلك إيماني، شرفي، عزة نفسي، وصدقي، إلى آخره! لا تُقايض بثمن، هذه أشياء كثيرة غير قابلة أن تُقايض بثمن، هذه غير قابلة أن تُقايض بثمن، أما حين تُصبِح قابلة لأن تُقايض بثمن فلست إنساناً، لست إنساناً، أنا شيئ من الأشياء، يُباع ويُشترى، يُفكَّك، يُباع بالمُفرَّق وبالقطاعي، مرة أبيع أمانتي، مرة أبيع شرفي، مرة أبيع حسي ووجداني، مرة أبيع عقيدتي، مرة أبيع عزة نفسي، ومرة أبيع ولائي وإخلاصي لوطني أو لديني أو لقومي أو لأي شيئ، عجيب! أنا أبيع نفسي بالقطاعي، لا يُمكِن هذا.

ولذلك أنا أقول لكم – وهذه كلمة خطيرة، واحتملوها مني، وإن أخطأت فيها فلعل الله تبارك وتعالى يغفر لي أو عسى الله أن يغفر لي – قطعاً الإنسان سينتهي في يوم من الأيام إلى أن يتخلى عن تدين – لا أقول عن دين، والمقصود هنا ضرب من الدين، التدين هو ضرب من الدين، ليس الدين في ذاته، في كماله، وفي براءته ونقائه، إنما ضرب من الدين، هو تدينه، سيتخلى عن هذا، وحظه من الدين هو تدينه على فكرة، لا يُوجَد غير هذا، حظه من الدين هو ما قد حصل، أي تدينه – علَّمه أن يخون ذاته.

سينتهي به المطاف ربما أن يتخلى عن تدين علَّمه أن يخون ذاته، سيكفر به، لأن هذا التدين أبهظه، أثقله، أتعبه، وآده، فلم يعد يحتمل، ولذلك على فكرة كما يُقال دائماً التطرف عمره قصير، التشدد عمره قصير، هل تعرفون لماذا؟ لأن هؤلاء المُتطرِّفين والمُتشدِّدين والمُتزمِّتين دينياً – الذين أحالوا الحياة كلها إلى لائحة من المُحرَّمات: هذا حرام، وهذا حرام، وهذا حرام، وهذا حرام، وهذا مُنكَر، وهذا ممنوع، وهذا كذا، وهذا كذا، وأحالوا البشر تقريباً إلى موضوعات للكراهية والأحقاد والانتقام والسباب والإقذاع والشتائم والدعاء باللعن والطرد وكذا، شيئ فظيع، عجيب جداً هذا التزمت يا إخواني وهذا التنطع – خانوا إنسانيتهم، كل هؤلاء في نهاية المطاف سيكتشفون أن هذا التدين خان إنسانيتهم، وبه خانوا إنسانيتهم، وخانوا أناواتهم، سيتخلون عنه، وربما في لحظة واحدة ينتقل أحدهم من أقصى اليمين مُتديِّناً مُتزمِّتاً إلى أقصى اليسار مُلحِداً مُتزمِّتاً مُتطرِّفاً.

نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يحفظ علينا إيماننا، وأن يحفظ علينا صدقنا وبراءتنا وشفّافيتنا، وأن يختم لنا بخير عمل، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

وإلى أن ألقاكم في حلقة جديدة أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: