روتانا خليجية…شبابها.. أدرى بشعابها.
تابعونا http://twitter.com/#!/Khalejiatv و http://www.facebook.com/khalejiatv

روتانا خليجية أقوى البرامج الحوارية والاجتماعية والفكرية والرياضية والكوميدية.. اليومية والاسبوعية، بالإضافة لأروع المسلسلات العربية والخليجية وأضخم الإنتاجات الغنائية تجدونها فقط.. على خليجية..

الترددات.

NileSat 104 Freq. (11,296 MHz) – H – SR: 27500 S/s – FEC 3/4
102 Freq. (10,775 MHz) – H – SR: 27500 S/s – FEC 3/4
Arabsat Freq. (11,843 MHz) – H – SR: 27500 S/s – FEC 3/4

 

برنامج آفاق

أنا أستهلك فأنا موجود

 

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومَن والاه.

إخواني وأخواتي:

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، لو قيل لنا إن رجلاً ما أو امرأةً خرج في سفرةٍ ستمتد إلى شهرين أو ثلاثة أشهر، لكن بدون دليل إرشادي، وبدون خُطة، وبدون خارطة يتعرَّف بها كيف يسلك سبيله، لرجَّحنا أن هذا الرجل مجنون أو مُعتَل عقلياً.

إخواني وأخواتي:

في الحقيقة مُعظَمنا ذلكم الرجل، كيف؟ لأننا نسير لخمسين أو ستين أو سبعين أو أكثر من السنوات دون أن نتوقَّف حقيقةً بصرامة وبحس من المسئولية الداخلية على الأقل لنتساءل ما هي خُطتنا في الحياة؟ ما هي القيم الحاكمة علينا في سلوكنا – فيما نأخذ وفيما نذر، فيما نسلك وفيما نتحاشى أن نسلك -؟ إنها الخُطة العامة للحياة، إنها القيم الهادية في الحياة، إنها الرؤية الوجودية أو الرؤية الكونية.

ما هي نوعية القيم التي ينبغي علينا أن نسترشد بها في حياتنا؟ سؤال كبير، وسؤال مُهِم – إخواني وأخواتي -، يتفرَّع من سؤال أكبر منه، وهو السؤال الذي يُصاغ عادةً في عبارة ما معنى الحياة؟ ما معنى الحياة؟ ما معنى حياتك أنت؟ ما معنى وما مغزى وجودك أنت؟ تسأل هذا السؤال، ثم بعد ذلك حين تُحدِّد هذا المعنى تبدأ تبحث تفصيلاً عن مجموعة، عن سلسلة، وعن منظومة من القيم، يُمكِن أن تكون وافيةً بتحقيق وإنجاز هذا المعنى وهذا المغزى من الحياة وإلى الحياة.

أقول هذا – إخواني وأخواتي – وأبدأ به لما يُلاحَظ في عصر التواصل الكبير والتواصل العظيم الذي غدت فيه البلاد بل غدت فيه الكرة الأرضية بالفعل أقل من قرية صغيرة، يتعارف ويتواجه ويتكاشف سكانها وقطانها، في هذا العالم الصغير أو في هذه القرية الكونية وبالذات في هذه الحقبة من حياة البشرية المُعاصِرة صار نمط مُعيَّن للحياة هو الأغلب وهو الأكثر سيادة، إنه نمط الحياة الأمريكية كما تعلمون.

هذا النمط الذي يغزو العالم كله بلا استثناء، غزا العالم العربي، غزا الدول الإسلامية، وغزا الهند والصين واليابان، تقريباً لم يستثن أحداً، لم يستثن بلداً ما، وهذا النمط أو هذا النموذج للعيش والحياة يقوم على فلسفة خطيرة، فلسفة خطيرة سطحية، ليست عميقة، ليست حقيقية وحقيقة بأن تكون فلسفة الحياة ذات المعنى.

طبعاً هذا النمط الأمريكي بالذات يُمثِّل الآن لا نقول الذروة، لكن ربما نهاية المدى، الذي ذهبت إليه الحداثة الغربية، تلكم الحداثة التي أخَّرت اعتبار القيم الجديرة بأن تُعتبَر وأن تُعَد القيم الحقيقية للحياة، القيم الحقيقية للوجود، لأنها في نهاية المطاف وفي التحليل الأخير حداثة مادية، تتنكَّر للروح، تتنكَّر للغيب، للأديان، لله، للرسالات، وللشرائع الإلهية، لا يستطيع أحد أن يُجادِل في هذا.

وزير الثقافة والفيلسوف والمُفكِّر الفرنسي الكبير مالرو Malraux يكتب يوماً حضارتنا هذه – يعني الحضارة الغربية – هي الحضارة الأولى في التاريخ، يقول الأولى! إذن هذا حدث غير مسبوق، وضعية غير مسبوقة في التاريخ الإنساني – إخواني وأخواتي -، هي الأولى في التاريخ التي حين تُواجَه بالسؤال ما هو معنى الحياة؟ فإنها لا تجد إجابة، غير معنية – إخواني وأخواتي – بأن تُجيب عن هذا السؤال، ما هو معنى الحياة؟ سؤال المعنى، سؤال الغاية، سؤال الهدف، وسؤال النهاية.

يقول مالرو Malraux وقد أخفقت كل المُحاوَلات في القرن العشرين التي تصدت للجواب عن هذا السؤال، لم تستطع أن تُقدِّم معنىً حقيقياً للحياة، معنىً يستأهل ويستحق أن يُعَد معنىً للحياة، فصرنا نعيش كما لاحظ الشاعر الأمريكي الشهير ت. س. إليوت T.S. Eliot صاحب الأرض اليباب، صرنا نعيش ونحن جوف، يقول نحن الرجال الجوف، The Hollow Men، نحن الرجال الجوف، نعيش بلا معنى، لا ننطوي على إدراك لمعنى، لا ننطلق في حياتنا ومسالكنا من إدراك لمعنى، وهذه حالة خطيرة يا إخواني وأخواتي.

لكن هل يُمكِن فعلاً أن يعيش الإنسان أو المرء بلا معنى بالإطلاق؟ لابد أن يستعيض بمعانٍ بينية، بمعانٍ عابرة، بمعانٍ اضمحلالية، وبمعانٍ انحطاطية، يُمكِن أن تُسكِّن هذا القلق والبحث الوجودي عن المعنى في نفسه إلى حين، تُسكِّنه إلى مرحلة أو شيئ من مرحلة، بضع مرحلة! ثم بعد ذلك سيخر هذا الإنسان، سيقع هذا الإنسان، وسيسقط هذا الإنسان مُتداعياً تحت ضربات العبثية، تحت وطأة وثقل اللامعنى، العدمية! العيش بعدمية في هذه الحياة الدُنيا.

الإنسان لا يحتمل هذا، الحيوانات لا تبحث عن المعنى، الكمبيوتر Computer – الحاسوب – والروبوتات Robots لا تبحث عن معنى، بعض المُفكِّرين الفلاسفة طرح سؤالاً، هل يُمكِن أن يُفكِّر الحاسوب بالنيابة عنا؟ وغامر بالجواب قائلاً يُمكِن في كل شيئ، إلا فيما يختص بالجواب عن سؤال معنى الحياة، لا يستطيع أن يُقدِّم إليك الحاسوب جواباً عن هذا السؤال، ما هو المعنى الذي يجب أن يكون للحياة أو الذي ينبغي أن يكون معنى حياتك؟ الحاسوب هنا عاجز تماماً، فالحواسيب والروبوتات Robots ليس لديها مُعاناة وقلق السؤال عن المعنى، سؤال المعنى! أي مُعاناة سؤال المعنى، الإنسان وحده هو المُرصَد والمُرشَّح وهو الواقع تحت ثقل – كما قلت لكم – عدمية وعبثية ألا يكون للحياة معنى، أو الفشل في إدراك المعنى الذي ليس بمعنى كما قال المهاتما غاندي Mahatma Gandhi، قال ما فائدة أن نُسرِع وأن نغذ السير إذا كنا نسلك في الخُطة الخاطئة؟ أي في الطريق الخطأ، في الطريق غير الصحيحة، لماذا نُسرِع؟ نحن نُسرِع إلى الدمار، نحن نُسرِع إلى دمارنا، هذه هي عبثية الحياة المُعاصِرة – إخواني وأخواتي -.

الفيلسوف المُسلِم المرحوم روجيه جاروي Roger Garaudy – رحمة الله تعالى عليه – يقول مرةً، يقول لو قُدِّر لأحد أجدادنا أن يُبعثوا من مراقدهم، فإنهم ربما لن يكونوا مُندهِشين جداً من التقدم العلمي والتقني الذي أصبنا منه حظوظاً بعيدةً وطائلة وكبيرة – أكيد سيتعجَّبون، لكن ليس كثيراً جداً -، إنما الذي سيأخذ بتلابيب دهشتهم، وسيبعثهم على العجب والاندهاش الكبير، هو الانقلاب في مواضع القيم، بحيث أن ما كان في الأطراف صار في المركز، وما كان في المركز آل إلى الأطراف، آل إلى أن يقتعد مكانته في الأطراف.

الآن القيم المركزية في حياة الناس في الحقيقة كان ينبغي وينبغي لا يزال أن تكون قيماً هامشية، مثل ماذا؟ مثل قيم الحساب البنكي، كم لدي من نقود في البنك Bank؟ نوعية السيارة التي أركب، نوعية الساعة التي أضعها في معصمي، نوعية الأقلام التي أكتب بها، حجم البيت الذي أسكنه أو الفيلا أو القصر، الأشياء التي أشتريها، كم حذاء لدي؟ كم بدلة لدي؟ كم… وكم… وكم… وكم… أشياء استهلاكية، كلها معانٍ استهلاكية، لا تمت إلى جوهر الإنسان، إلى باطن الإنسان، وإلى حقيقة الإنسان، بصلة حقيقية.

هناك مثل ألماني يقول مَن ينجح أن يدخل على الناس بلباسه، حتماً لن يخرج من عندهم إلا بأثر عقله، أنت قد تنجح أن تندمج في مجموعة من الناس، أنت تراها أرقى منك أو أنبل منك، تختدعهم باللباس، تُحاوِل أن تلبس مثلهم، وتنجح في هذا، تدخل بينهم، تندس بينهم – إن جاز التعبير، هذا الاندساس -، تندس بينهم بأثر ملابسك، لكن في نهاية المطاف أنت لن تخرج من بينهم إلا بأثر عقلك، سيُقيِّمونك، لكن أنا أقول حتى هذا المثل عليه استطرادات واستدراكات، لماذا؟ هذا إن كانوا هم أصلاً يتوفَّرون على إدراك حكمة للحياة ومعنى للحياة، أما إن كانوا مُستهلَكين مثلك بهذه القيم الاستهلاكية فإنهم لن يفطنوا إلى هذا، بالعكس! سيُقيِّمونك مُبتدأ وأثناء ومُنتهىً بلباسك وبسيارتك وبأموالك.

للأسف الشديد كنا إلى وقت قريب نحن العرب والمُسلِمين نتبجح ونفتخر ونزهو بأن لدينا رصيداً من القيم الروحية، ومن القيم الأخلاقية المعنوية، بخلاف الغرب المُستهلَك في القيم المادية وبالقيم المادية، الآن لم يعد الفرق كثيراً، للأسف هناك مثل عربي شائع، وربما تقريباً في كل الدول العربية، وهو مَن معه قرش يسوى قرشاً، ومَن معه عشرة يسوى عشرة، ومَن ليس معه لا يسوى شيئاً، شيئ غريب! هذا مثل مُخيف ومُرعِب يا إخواني، وربما حتى لا نجد لا نظيراً في الغرب بمثل هذا التكثيف المهين لإنسانية الإنسان، وطبعاً له نظائر كثيرة أكثر تخسياً وأكثر خبثاً وخديعةً أو خداعاً، ففي الغرب الأمريكي – مثلاً – هناك شركة بطاقات الائتمان الشهير American Express، هذه تُنتِج بطاقات ذات ألوان وذات رُتب ودرجات مُعيَّنة، هناك الفضية، هناك الذهبية، هناك البلاتينيوم Platinum، وآخر شيئ هناك الــ Platinum، أي الأسود، وبحسب لون البطاقة يُمكِن مُباشَرةً أن تُحدَّد هُويتك ورُتبتك الاجتماعية، عجيب! أي مَن أنت؟ وما أنت؟ بحسب هذه البطاقة، أي بحسب الــ Credit card، بطاقة الائتمان! إذا كنت تمتلك البطاقة السوداء فأنت من علية القوم، لأن هذه البطاقة لا يُسمَح بمنحها والتعاطي معها إلا لمَن يفوق دخلهم السنوي ثلاثمائة ألف دولار، رقم مُخيف! مَن دخلهم ثلاثمائة ألف فأزيد يُمكِن أن يُعطوا البطاقة السوداء، وإلا لا يُمكِن أن يحظوا بها، فالذي يمتلك البطاقة السوداء مُميَّز، أي مَن معه بطاقة سوداء يسوى بطاقة سوداء، هذا من صنف أو من طبقة ثلاثمائة ألف دولار في السنة، شيئ غريب!

للأسف صرنا هكذا، نحن الآن العرب والمُسلِمين بدأت هذه القيم تُؤثِّر علينا، وأنا أقول لكم حتى التعبير ببدأت تعبير قاصر وعاجز، لماذا؟ لأن هذه القيم في الحقيقة وبائية، أي Epidemic، قيم وبائية، تجتاح العالم كالوباء، بسرعة انقضاضية وانشطارية، تنفجر في كل مكان، بين الفقراء وبين الأغنياء وبين المُتعلِّمين وبين غير المُتعلِّمين وبين المُتدينين، الآن تجد شيئاً مُخيفاً جداً، حتى بين الدُعاة يُوجَد هذا، وسأكون واضحاً، هذا يُوجَد حتى بين الدُعاة المُسلِمين يا إخواني، يشترطون أشياء غريبة جداً جداً، حتى في مُمارَسة العمل الدعوي، كلها تقوم على الأمور المادية، يُولونها اعتباراً أولياً وأولوياً قبل غيرها، شيئ مُخيف جداً، هذا مُرعِب يا إخواني، ماذا ننتظر؟ كيف سيكون المُستقبَل؟ إلى أين نحن صائرون؟ إلى أين نحن ذاهبون؟ هذه القيم الاستهلاكية المُخيفة، التي لا علاقة لها بمعنى الحياة!

في القرن التاسع عشر يُلاحِظ الفيلسوف الاقتصادي الكبير كارل ماركس Karl Marx الآتي، أبو الماركسية يُلاحِظ أن القيم الإنسانية تحكمها علاقة عكسية – علاقة تعارض – بالقيم الشيئية، كلما علت قيم الأشياء هبطت قيمة الإنسان، وكلما ارتفعت قيمة الإنسان هبطت قيمة الأشياء، هذه هي العلاقة الحقيقية، فالآن طبعاً واضح جداً وبطريقة فاقعة وناصعة أن القيم التي تقتعد مكان الذروة هي قيم الأشياء، لا القيم الإنسانية، كالأمانة، كالعفة، كالصدق، كالإحساس بالمسئولية – إخواني -، كالإحساس بالقيم الإنسانية العامة، وكالالتزام – أي الــ Commitment -، أي ألتزم حيال الفقراء، حيال المساكين، حيال الأُميين، حيال المُضطهَدين، حيال المظلومين، وحيال المُستعمَرين، ألتزم بأشياء! لكن هذا تراجع جداً، لم يعد موجوداً، هذه القيم غير موجودة تقريباً، الكل يحرص على أن يُثمِّر وأن يستثمر وأن يُكثِّر حسابه المالي، أسهمه، رصيده، أصوله، ومُمتلكاته، وفي نفس الوقت أن يمُعِن في الاستهلاك.

ترى بعض الناس لديه أكثر من سيارة، وهو لا يحتاج إلا إلى سيارة واحدة، وكذلك لديه أكثر من بيت، مئات صنوف الملابس، ومئات الأحذية، شيئ غريب جداً! ويبذخون ويُسرِفون إسرافاً غير معقول، وآخرون يعيشون في الهم، يعيشون في العُدم، يعيشون في الفقر، مُترَبون ومُترَفون، مُعدِمون وواجدون – إخواني وأخواتي -، شيئ غريب!

ولذلك علينا أن نكون جادين، وأن نأخذ هذا الأمر بصرامة وبحس من المسئولية، كيف؟ أن ننتخب القيم التي ينبغي أن تُترجِم عن معنى الحياة كما نفهمه، وأنا أتحدَّث الآن بالذات عنا كمُسلِمين، ما هو معنى الحياة لدى المُسلِم؟ ما هي الرؤية الكونية الوجودية والصورة الكُبرى للوجود في ذهن المُسلِم وفي تصور المُسلِم وفي فهمه؟ بعد ذلك أن ننتخب من القيم ما يُمكِن أن يُترجِم هذا المعنى للحياة في واقعنا النفسي والاجتماعي، وطبعاً له تمظهرات ثقافية واقتصادية وسياسية حتى، تمظهرات شتى! وأن نُربي أنفسنا وأولادنا ومَن في ولايتنا على هذه القيم، لا أن نستهلكها لفظياً ووعظياً على المنابر.

للأسف نحن تعوَّدنا على هذا الاستهلاك الفارغ تماماً، تماماً! هذا شائع وسائد في عالمنا العربي – إخواني وأخواتي -، كربة المنزل أو كالسيدة التي تبدأ تتكلَّم عن الناس نصف ساعة وساعة وساعتين، لا تترك أحداً من شر لسانها، وبعد أن تكل وأن تمل وأن يعيى لسانها ماذا تقول؟ دع الخلق للخلق، ما لنا وما للناس؟ شيئ غريب! بعد ساعتين من الكلام في الناس تقول لك ما لنا وما للناس؟ أنت لم تتركي شيئاً من الناس، لم تتركي شيئاً، ثم تقول لك ما لنا وما للناس؟ دع الخلق للخالق! كلام مُبتذَل يا إخواني، هذه كليشيهات مُبتذَلة فقط، تُريد أن تُذكِّرنا بأننا نُمعِن في خداع أنفسنا، وفي خداع الآخرين، كما نُمعِن في الاستهزاء والاستخفاف بالمبادئ الكريمة، المبادئ الأخلاقية للحياة، مثل فعلاً أن تدع الناس لله – تبارك وتعالى -، ألا تُقرِّض أديم الناس، ألا تغتابهم، ألا تذكرهم إلا بأحسن ما تعلم منهم، كل هذا لا نلتزمه، ثم نقول دع الخلق للخلق، شيئ غريب جداً يا إخواني، لدينا هكذا ابتذال للقيم، لأن القيم تُستهلَك لفظياً، تُستهلَك وعظياً، ولا تُستعمَل وتُستثمَر تربوياً، أن نتربى عليها، فمثلاً الشخص الذي موَّله الله – تبارك وتعالى – وأتاه شيئاً من مال كيف يتعامل مع هذا المال؟ بأي منطق؟ بأي فلسفة؟ وكيف يُربي أولاده؟

إن كان يفتح أبواب خزائنه وكنوزه لأولاده فيُسرِفوا ما شاء الله السرف ويُتلِفوا ما شاء لهم التلف والترف – إخواني وأخواتي – على أنهم لا يهتمون بالذوين – بأقرب الناس رُحماً إليهم من قراباتهم، كأبناء عموماتهم، عماتهم، خالاتهم -، بأصدقائهم، بجيرانهم، وبمُعارفهم، ولا يُفكِّرون إلا في أنفسهم، فأنا أقول لكم هذا وضعهم على سكة العار والدمار، سكة العار والدمار في الدنيا والآخرة! الله – تبارك وتعالى – يقول اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ ۩، هذه حياتكم الدنيا، انتبهوا! لا تعيشوها كما يعيشها الكافر الضليل الجاهل الغرير، اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ۩، يقول الله – تبارك وتعالى – انتبهوا، انتخبوا فلسفتكم الصحيحة، الفلسفة الروحية المعنوية الأخلاقية الصحيحة، التي تهديكم في ظُلمات هذه الحياة، احملوا مشاعلكم، لا تُكسِّروا هذه المشاعل وتسيروا في الظلام، هذا الجانب الأناني يا إخواني للمال، الجانب الأناني لعقلية ونمط الاستهلاك.

الشاعر العربي كان يربأ بنفسه أن يعيش في هذه الوهدة الزرية، التي تُزري بإنسانيته وبآدميته، يقول:

وَحَسْبُكَ لُؤَماً أَنْ تَبِيتَ بِبِطْنَة                                   وَحَوْلَكَ أَكْبَادٌ تَحِنُّ إِلَى الْقِدِّ.

أي إلى اللحم المُجفَّف، القديد! وأنت تبيت مبطاناً مُتخَماً، وقد تقتلك التُخمة هذه، يقول هذا لؤم، لؤم في الإنسان، كزازة يد، شُح، وأنانية! هذه هي الأنانية، لا يشعر بأي التزام، وأعتقد أنكم جميعاً أو كل واحد منكم يعلم ويعرف وله صلة ربما بأناس يأبى أحدهم إلا أن يركب أحدث موديل Model – مرسيدس Mercedes وغير مرسيدس Mercedes – كل بضع سنين، أحدث موديل Model! مع أن من أقربائه، من إخوانه، من أخواته، من أصدقائه، ومن معارفه، مَن هو بحاجة إلى بضع مئات أو بعض آلاف من الدولارات أو كذا، لكنه لا يُفكِّر فيهم، هو عليه أن يركب أحدث موديل  Model، ويدفع خمسين وستين وسبعين ألف دولار أو يورو، شيئ غريب، ولا يُفكِّر في أقرب الناس إليه، في مَن لا يجدون ما يسترون به عوراتهم أو يُشبِعون به جوعاتهم، أو يُساهِم في ربما تهيئة مسكن لائق إلى حد ما بهم وبأولادهم، لا يُفكِّر! هو يُفكِّر في نفسه فقط، وهذا هو اللؤم، هذا هو اللؤم! والنبي يُعلِّمنا أن ذمة الله – تبارك وتعالى – تبرأ من أهل محلة أو من أهل عرصة يبيتون وفيهم جائع، إلا برئت منهم ذمة الله – تبارك وتعالى -.

النبي – عليه السلام – يقول هل أُخبِركم بشراركم؟ نعم يا رسول الله، أخبرنا، يقول مَن يأكل وحده، ويجلد عبده، ويمنع رفده، الأناني! الذي يدور حول نفسه، يتعبَّد في محراب ذاته، في محراب الأنا، أنا أنا أنا أنا! حتى يموت بغيضاً، طريداً من رحمة الله، مكروهاً لله ولعباد الله – تبارك وتعالى -، لا يأسف أحد على موته، لأن أحداً لم يشعر أصلاً بحياته، لأن أحداً لم يشعر بنعمة الله عليه، أنعم الله عليك، لكن أنت ما أشعرتنا بهذه النعمة، لم تُفكِّر إلا في نفسك، النبي يقول هذا شر عباد الله – تبارك وتعالى -.

وعلى فكرة عذاب هؤلاء ليس فقط ما أُرصِد لهم في الآخرة، لا! حتى في الدنيا هؤلاء بحسب أكثر من طبيب نفسي وأكثر من عالم نفسي، هؤلاء هم المُرصَدون لأمراض القلق والاكتئاب، نعم! يعيشون ينهشهم القلق، يُفنيهم ويُبئسهم الاكتئاب – الــ Depression -، لأنهم لا يُفكِّرون إلا في أنفسهم، ولا يعرفون معنى السعادة، وتعرفون أن أكثر من طبيب نفسي يصف الطريق الأقصر للسعادة في أن تُحاوِل أن تُسعِد غيرك، مهما حاولت أن تُسعِد غيرك انعكس هذا عليك بشكل مُباشِر، فتشعر بالسعادة.

للأسف نمط الحياة الأمريكي يُعلِّم الناس شيئاً مُختلِفاً، في دراسة مسحية على عدد كافٍ من الفتيات في الولايات المُتحِدة الأمريكية أعرب أكثر من ثلاثة وتسعين في المائة من هؤلاء الفتيات على أن الهواية المُحبَّبة والمُفضَّلة لهن – هذه مسلاتهن وملهاتهن – الــ Shopping، أي التسوق، التسوق! هذه طريق للسعادة، لكن هل يجدن السعادة؟ قطعاً لا، بالعكس! وهذا سيتحوَّل عما قليل إلى استهلاك مرضي، وسنُعرِّفه لكم، في حين أن خمسة في المائة فقط منهن أعربن عن أن الهواية المُفضَّلة وما يُنتِج ويأتي بالسعادة خدمة الآخرين، خمسة في المائة فقط! ونحن الآن نسير في الطريق ذاتها، في الطريق عينها، نظن أن السعادة في الــ Shopping هذا – أي التسوق – وإهلاك المال وإفناء المال في هذه الأشياء، ونحن لا نحتاجها أو لا نحتاج إلى مُعَظمها، الإعلام يخلق لنا حاجات مُزيَّفة، حاجات كاذبة، وحاجات وهمية يا إخواني، لا نحتاجها، يقول هذه طريق السعادة، لكنها ليست طريق السعادة، طريق الكآبة، هذه طريق الإحباط – الــ Frustration – وطريق الكآبة، بالضبط هي هذه الطريق، أن تدور حول نفسك، وأن تستهلك ما لديك، طلباً لمُتع وقتية مُعجَّلة أو عاجلة – إخواني وأخواتي -، للأسف نحن نستهدي بالنمط ذاته.

هناك عالم النفس الإنساني – القوة الثالثة كما كان يُدعى هذا الفرع من علم النفس أو هذا الضرب من علم النفس – أبراهام ماسلو Abraham Maslow، ماسلو Maslow جرَّب مرةً وعاش فترةً – ربما أسابيع – بين جماعة من الهنود الحُمر، وجدهم ينعمون بسعادة غريبة جداً، عندهم حالة من الرضا، حالة من السعادة، حالة من الغنى أو الاغتناء الداخلي، وحالة من الاكتفاء يا إخواني، ليس لديهم أمراض القلق، ولا الإحباط، ولا الاكتئاب، ولا ضغط الدم، ولا السكري، ولا الأمراض الوعائية، غريب! لماذا؟ اكتشف ماسلو Maslow السبب، قال لأنهم كل فترة وفترة وفي حفل مهيب يقومون بتوزيع كل ما لديهم من أمتعة ومن أشياء – حتى الملابس يا إخواني، إلا ما يبقى على أبدانهم، أي ما يستر أبدانهم – على الفقراء بينهم والمساكين والأرامل واليتامى، يُوزِّعون كل شيئ، خُذ هذا… وخُذ هذا… يقول بالذات شيخ القبيلة أو زعيم القبيلة، ولا يبقى عليه إلا الثوب الذي يستر عورته أو بدنه، قال وهم في مُنتهى السعادة، قال اكتشفت أن هذا هو سر السعادة، قال إنهم مُلتزِمون إزاء بعضهم البعض بمعنى تشاركي تُمليه الفطرة، هذا تعبير ماسلو Maslow، قال هذا في فطرة الإنسان، في فطرة الإنسان أن يُحِب أخاه الإنسان، كما قال أحد الشعراء في العالم الجديد وهو شاعر أمريكي، قال عبارة جميلة، قال يا صديقي الأطفال الصغار في المدارس يُحِبون بسهولة، يعرف أحدهم كيف يُحِب الآخرين بسهولة، قال أما الكره والعنف فيحتاج إلى تدريب وتمرين مُكلِّف، هذا مُكلِّف! لابد أن تتمرَّن عليه، لابد أن تُطوَّع له، وأن تُقولَب به، أما الحُب والمُشارَكة وأن تعيش مع الآخرين كإخوة في الإنسانية فهذا الإنسان ينبعث إليه بفطرته كما لاحظ ماسلو Maslow.

 أبراهام ماسلو Abraham Maslow سمى هؤلاء الذين يلتزمون براحة الآخرين، بإسعاد الآخرين، وبالوفاء باحتياجات الآخرين، سماهم أفراد تحقيق الذات، هذا يُسمونه Self-Esteem، أي تحقيق الذات، هؤلاء بالذات هم الذين ينجحون في تحقيق ذواتهم ويشعرون بذواتهم، لكن للأسف الشديد هذا المعنى وهذه الفلسفة لا تُشكِّل الفلسفة المُتصدِّرة، لا تُشكِّل الفلسفة الهادية للناس في عصرنا اليوم، لا في الشرق، ولا في الغرب، للأسف الشديد!

كونوا معنا إخواني وأخواتي، لكن بعد هذا الفاصل، بارك الله فيكم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم إخواني وأخواتي من جديد.

إذن نحن أمام مِزاج جديد، أمام نمط جديد، أمام عقلية جديدة، ليست مُؤهَّلة ولا قادرة على أن تُطيِّب حياتنا، أن تُطيِّب حياتنا أي أن تجعلها طيبةً، فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۩، بل هي قادرة بجدارة على أن تجعلها حياة انحطاط وبؤس وقلق وإحباط وكآبة، وهنا نستخدم الانحطاط بمعنى مُحدَّد، وهو المعنى الذي أشار إليه بعض الفلاسفة المُعاصِرين، حين يتفكَّك النسيج الاجتماعي، وحين يهتم كل بنفسه، دون المجموع، دون الآخرين، هذا هو الانحطاط!

ويُمكِن للمرء أن يزعم أننا – إخواني وأخواتي – أمام وبإزاء دين جديد، هذا دين من الأديان الزائفة، من الأديان الباطلة الموضوعة، إنه دين التملك ودين الاستهلاك، نتملك لنستهلك، دين الاستهلاك! دين له مبادؤه وتعاليمه – إن جاز التعبير -، ومن هذه التعاليم أن الشراء والتسوق علاج، هكذا يُعلِّمون المُراهِقين والمُراهِقات وحتى الكبار الراشدين والراشدات، Shopping is therapy، يقولون التسوق علاج، أهذا علاج؟ بالعكس! هو مصدر لأمراض فتّاكة.

للأسف انقضى عصر الحكمة، حين كان يُعلَّم الناس ويُعلِّمون أن أفضل ما في الحياة أو أفضل الأشياء في الحياة ليست هي الأشياء، هكذا كانوا يُعلِّمون! أن أفضل الأشياء في الحياة ليست هي الأشياء، بل هي أمور وراء الأشياء، إنها المعاني، إنها المعاني وليست الأشياء.

للأسف الآن يُعلِّمون أن الحياة الطيبة – أي الــ Good life، يقولون The good life، أي الحياة الطيبة الصالحة – ما هي؟ حياة السلع، The good life is the goods life، يقولون The goods life، أي بالــ S، هذه للإضافة، أي أن Good معناها السلعة أيضاً، وهذا شيئ غريب، وبالمُناسَبة هذا توافق عجيب جداً، الله – تبارك وتعالى – يُسمي الأشياء طيبات، وهم أيضاً يُسمونها طيبات، يقولون لك الــ Good والــ Goods، هي السلع، تُسمى بالأشياء الطيبة، لكن للأسف لم تعد طيبة، فالحياة الطيبة هي حياة السلع! وهذا عجيب جداً، هذا تسليع للإنسان، تسليع لفلسفة الحياة يا إخواني، إحالة كل شيئ إلى سلعة، ولذلك غير مُستغرَب ما يحدث الآن، كل شيئ فعلاً يُباع ويُشترى، بما فيه البدن الإنساني، بالذات جسد المرأة، جسد الفتاة، كل شيئ! في الدعاية وفي أشياء دون ذلك – والعياذ بالله – وأسوأ من ذلك وأقبح وأقذر من ذلك، كل شيئ! حتى حقوق المُواطن من التعليم والصحة أصبحت سلعاً أيضاً، وما ينبغي أن تكون، كل شيئ يُسلَّع، المعلومة تُسلَّع، المعلومة! الآن هناك الإعلام، والإعلام في شطره الأعظم هو إعلام سلعي، يهدف فقط إلى الاتجار والربح، وليس إلى خدمة الحياة ولا إلى إتاحة المعلومات الصحيحة.

ولذلك كما قلت لكم هذا دين جديد، له مبادؤه، وله معابده، ومعابده تتمثَّل بدرجة أولى في ماذا؟ في المولات Malls، يقول لكم المول Mall، كمول العرب، السوبر ماركيتات Supermarkets الضخمة، مُدن التسوق، أي الــ Shopping cities، مُدن التسوق! هذه معابد هذا الدين الجديد، وله وسائط تبشير ووسائل تبشير، ما هي؟ الصحف، المجلات، التلفزيون Television، الراديو Radio أو المذياع، والنت Net، كل الوسائل الإعلانية هي وسائل لهذا الدين الجديد، وسائل التبشير به، وله كهنة، له كهنة ونُسّاك يقومون عليه وسدنة، من بين هؤلاء الكهنة والسدنة – إخواني وأخواتي – علماء وباحثون ودارسون، يُسمون هناك في الغرب الأمريكي بالمجموعات المُتقدِّمة، أي الــ Front groups، المجموعات المُتقدِّمة!

هل تعرفون ما هي المجموعات المُتقدِّمة؟ إنها مُؤسَّسات علمية، ومعاهد للدرس، أو الدراسة والبحث والتقصي، وهي علمية أيضاً ومشهورة، هذه المعاهد تخرج علينا وتطلع علينا بنتائج دراسات مزعومة، الله أعلم بحقيقتها، هذه النتائج وفق ما تطلب ليس الجماهير وإنما الشركات المُموِّلة والمُموِّنة والداعمة، أي المُغذية، التي تُطعِمها، يُعطونهم الأموال، ويخرجون علينا بالنتائج، ولذلك انتبهوا، نحن الآن نعيش في عصر انفجار المعلومات، في عصر انفجار المعلومات وفي عصر التواصل العظيم مع النت Net وغير النت Net، ومع ذلك أكثر شيئ نفتقر إليه ونفتقده المعلومة الصحيحة، والمعلومة التي تُباشِر اهتماماتنا، التي تتعلَّق بشكل مُباشِر بما يعنينا بشكل مُباشِر، غير موجودة! 

لذلك أحد المُفكِّرين ألَّف كتاباً لافتاً، اسمه عصر المعلومة المُفتَقدة، أي The Age of Missing Information، عصر المعلومة الغائبة أو المعلومة المفقودة، ما هي هذه المعلومة المفقودة؟ المعلومة الصحيحة والمُهِمة والتي تتعلَّق بما يعنينا بشكل مُباشِر في حياتنا، ليست موجودة للأسف، يضخون معلومات غريبة عجيبة، معلومات دعائية فقط، لكي يُزيِّفوا حياتك ويُزيِّفوا فلسفة حياتك ونظرتك إلى الحياة، ثم تكتشف أيها المسكين، أيها المخدوع، أيها المضحكوك عليها والمُتآمر عليه وبه، أنك بعد ثلاثين أو أربعين سنة – يا للهول – قد عشت الحياة الغلط، انتبهوا! حذاري أن يكتشف أحدكم في وقت مُتأخِّر أنه عاش الحياة الخطأ أو عاش الحياة الغلط، حياة يُعادَل فيها بين الكينونة وبين التملك والاستهلاك، أنا أُساوي ما أملك، أنا أستهلك فأنا موجود، إياكم! هذه أخطأ وأسوأ حياة يُمكِن أن يعيشها الإنسان، لكن للأسف هم يعملون على أن يجعلوا هذه الحياة هي حياتنا، يبدأون بالأطفال الصغار المساكين، اغتيال البراءة! هذا ما يُمكِن أن ندعوه اغتيال براءة الطفولة.

هل تُصدِّقون أن البنات الصغار في الروضة أو في رياض الأطفال – أي من سن سنتين أو ثلاث سنوات – تُصنَّع لهن حمّالات صدر؟ وهل للطفلة صدر يُحمَل؟! حمّالات صدر لبنات في مرحلة رياض الأطفال، بنات من سنتين وثلاث سنين إلى خمس سنين وست سنين، شيئ لا يكاد يُصدَّق! يقصفون الأطفال أسبوعياً بزُهاء ثماني وأربعين ساعة من الدعايات الإعلانية، تُوجَّه إلى الأطفال، مُوجَّهة فقط إلى الأطفال، ثماني وأربعين ساعة! يُقصَفون بثماني وأربعين ساعة، بعض هذه الدعايات – إخواني وأخواتي – تأخذ شكل التحريض، تحريض الطفل على أبويه، نعم! عليك أن تضطره أو أن تضطر أباك وأمك إلى أن يشتري لك هذا الشيئ، لكي يُثبِت محبته لك، وإلا فإنه ليس أباً صالحاً وليست أماً حنوناً، غريب جداً! يُسمونه Pitting child against parents، هذا Pitting، أي تحريض، تحريض الطفل على والديه، غريب! لماذا؟ لأن الدراسات خرجت لتُفهِمهم – هكذا الدراسات تقول – الآتي، عليك أن تصطاد الأطفال، أي عليك أن تصطاد المُستهلِك حين يكون طفلاً، بدءاً من مرحلة الطفولة، وبالذات قبل أن يبلغ سن الثانية عشرة، لأنك لن تستطيع فعل هذا إذا بلغ الثانية عشرة، لماذا الثانية عشرة بالذات؟ يبدأ يرشد يا إخواني، يبدأ يتكوَّن عنده عقل اجتماعي صحيح وسليم بعد الثانية عشرة، وطبعاً هذا إذا تركناه، فإذا لم تنجح في اصطياده قبل الثانية عشرة يُوشِك ألا تُفِح في اصطياده بعد ذلك، هذا نفذ منك، نفذ هذا وانتهى الأمر، نجا المسكين، نجا هذا! شيئ غريب، يصطادون الأطفال، من أجل فقط ماذا؟ من أجل المال، من أجل التجارة، من أجل تعظيم أرباحهم، وهي بالمليارات، يُنفِقون مليارات على الدعاية للأطفال والمُغفَّلين والصغار، شيئ لا يكاد يُصدَّق، هذا العالم الذي نعيش فيه!

بالذات هذا العالم يُمكِن أن يكون مصداقاً لما قاله المسرحي الكبير ويليام شكسبير William Shakespeare في الملك لير King Lear، ماذا قال؟ قال هنا العالم الذي يحكم فيه المجانين العُميان، المجنون يحكم، لكن يحكم ماذا؟ العُميان، لذلك علينا أن نزداد عمىً لكي نُحكَم بمثل هذا الجنون، نستهلك كل شيئ – إخواني وأخواتي -، نستهلك حتى ما يُدمِّرنا، السجائر، الكوكايين، شتى أنواع المُخدِّرات والقاتلات والسموم، والمُركَّبات والمُنتَجات الكيميوية، في كل تسع ثوانٍ يُخلِّقون مُركَّباً كيميوياً جديداً، الفرد الأمريكي يستضيف – هكذا يقولون يستضيف، هو أيضاً مُضيف – في بدنه خمسمائة مادة كيموية مُخلَّقة ومُصنَّعة، ومن هنا تقريباً أربعون في المائة من البشر في ذلكم العالم أو تلكم العوالم مُصابون بالسرطان، مواد مُسرِطنة! 

هل ننسى في العقود الماضية كيف كان التلفزيون Television الغربي – بالذات الأمريكي – يبث الدعايات التي تُصوِّر الدي دي تي DDT يا إخواني على أنه إكسير Elixir الحياة؟ أنتم تعرفون هذا المُبيد المشهور للحشرات، هذا المُدمِّر والمُسرِطن، كانوا يبثون دعايات تُصوِّره على أنه إكسير Elixir الحياة وصديق الأسرة وحبيب الأسرة، إحدى تلكم الدعايات المُتلفَزة تُصوِّر أطفالاً يسبحون تحت رذاذ من مُبيد الحشرات هذا، أي الدي دي تي DDT، ينهل عليهم وهم يسبحون في الــ Pool في سعادة، كإكسير Elixir الحياة! فقط لكي يُستهلَك هذا المُركَّب المُدمِّر المُسرطِن يا إخواني، الذي أفسد الحياة النباتية والحيوانية، ومعروف ما هو هذا المُركَّب، فقط من أجل الربح، من أجل أن يربحوا!

هناك الإعلام – كما قلت لكم -، الإعلام بدل أن تكون رسالته التثقيف وإنعاش وعي الناس ورفع مُستوى الوعي عند الجمهور- خاصة عند المُستهلِك وعند الزبائن – أصبحت شيئاً آخر، يُقدِّمون لك التفاهات، التسطيحيات، والسخافات، أحدهم – أحد كهنة هؤلاء المُصدِّرين للتفاهات الإعلامية – يقول حين نُقدِّم برامج مُرتفِعة القيمة ومُرتفِعة المُستوى فإن الدخل يتراجع، الناس لا يُتابِعون الأشياء الجيدة، يقول لأنهم لا يُفكِّرون، وهو يعرف هذا، يقول لأنهم لا يُفكِّرون! إذن علينا أن نكف عن القيام بدور المُعلِّمين، لماذا نحن نلعب دور المُعلِّمين؟ لماذا نلعب دور وعاظ ومُدرِّسين للناس؟ لا، اتركوا الناس لكي يختاروا ما يُريدون، وهم يُريدون التفاهات، عجيب جداً!

بمثل هذا المنطق نحن لا ننتظر إلا التفاهات، ومزيداً من التفاهات والتفاهات والتفاهات، حتى آخر الشوط، إلى أبعد مدى، شيئ غريب، منطق عجيب يحكم هذه الحياة، فعلاً هذا العالم المجنون، الذي يحكم فيه المجانين العُميان كما قال شكسبير Shakespeare، فعلينا أن ننتبه.

أطنان! الطلّاب – طلّاب الجامعات في أمريكا – كل سنة يستهلكون أطناناً من المُخدِّرات والكوكايين يا إخواني، في ذلكم العالم في كل سنة يُنفَق نحو مائتي مليار على هدايا عيد الميلاد، وثمانمائة مليار على تسوق الأحذية والساعات، أرقام مهولة! لا تكاد تُصدَّق، مع أن يُمكِن إنقاذ مئات ملايين البشر في إفريقيا وغير إفريقيا ببضعة مليارات يا إخواني، فقط بضعة مليارات! أين الوحدة الإنسانية إذن؟ أين وحدة الآدمية؟ أين وحدة الكوكب؟ أين وحدة العائلة البشرية؟ هذه كلها طوباويات، كليشيهات هذه، دعايات، عناوين فارغة، ومثاليات، لا يُؤمِنون بها، مَن يُؤمِن بها؟! مَن عاد يتكلَّم بمثل هذه الرطانة وبمثل هذه اللُغة؟! ثمانمائة مليار على تسوق الأحذية والساعات! لكن كم يُنفِقون على التعليم العالي – أي التعليم الجامعي -؟ كم؟ أقل من خمسة وستين ملياراً، ولذلك في أمريكا يُوجَد خمسة وعشرون مليوناً من الأُميين، والعدد في ازدياد طبعاً، وأربعون في المائة من طلّاب الجامعات في الولايات المُتحِدة الأمريكية لا يُحسِنون أن يقرأوا قراءة صحيحة وجيدة، مُجرَّد قراءة، أي Reading، لا يُحسِنون! لأن خمسة وستين ملياراً فقط على التعليم الجامعي، وثمانمائة مليار على الأحذية – أكرمكم الله – وعلى الساعات، ومائتي مليار على هدايا الكريسماس Christmas أو عيد الميلاد، يُوجَد اختلال، هذا هو الاختلال العظيم – إخواني وأخواتي -، أقل من اثنين في المائة يستحوذون على نصيب سبعة وسبعين في المائة هناك من الأموال، أين تُنفَق هذه الأموال؟ طبعاً تعلمون.

إذن نحن نستهلك أيضاً ما يُدمِّرنا، نستهلك هذا بطريق مُباشِر، ثم نرى أنفسنا مُدمَّرين بطريق غير مُباشِر، بطريق التوالي، بطريق التبعات، على المُستوى النفسي، على المُستوى الاجتماعي، وحتى على المُستوى الاقتصادي، على المُستوى النفسي حدَّثناكم عن الإحباط والقلق وعن الكآبة وعن الانتحار، مما له مغزى خاص أن أعلى نسبة انتحار بين المُراهِقين في العالم هي في الولايات المُتحِدة الأمريكية، وفي الدول الاسكندنافية، وهي الدول التي فيها أعلى مُستويات دخل، أعلى نسبة انتحار بين المُراهِقين في العالم! لأن نمط الحياة هذا وهذه الفلسفة للحياة لم تُقدِّم لهم معنىً للحياة لكي يعيشوها، أصبحت الحياة جوفاء، لا تستحق أن تُعاش، ولذلك يُغادِرونها، ولذلك يُغادِرونها طواعيةً بالانتحار.

على المُستوى الأُسرى تسعون في المائة من حالات الطلاق في أمريكا هل تعرفون بسبب ماذا؟ بسبب المشاكل المالية، الناتجة عن الاقتراض وعن الديون وعن الإسراف في الاستهلاك والإنفاق، لذلك بعض الأذكياء هناك قال الآتي، بعض علماء الاقتصاد اقترح اقتراحاً وجيهاً، لكن مَن يأخذ به؟! لا أحد، يقول بدل أن نفرض ضرائب تصاعدية على الدخل علينا أن نفرض ضرائب تصاعدية على الاستهلاك، لكن ما من مُجيب، ما من أحد يسمع، بالعكس! الاستهلاك علينا أن نفرض هذه الضرائب التصاعدية عليه، ضرائب محسومة! لماذا؟ مزيد من الاستهلاك معناه مزيد من الإنتاج، مزيد من الإنتاج معناه مزيد من الدخل للكبار، للحيتان، وللقروش العظيمة، وهكذا في حلقة مجنونة، هذا على المُستوى الأسري!

على المُستوى الاقتصادي يُدمَّر الفرد يا إخواني، وهناك كلمة يقولونها، يقولون في أمريكا بطاقة الائتمان هذه لا يستطيع المرء أن يعيش بدونها، كما لا يستطيع أن يعيش بها، أي هم مُعتمِدون عليها، ولذلك يقولون My card is my life، بطاقتي حياتي، يقولون بطاقتي حياتي! لا يستطيع الواحد منهم أن يعيش بدونها، لكن هل يعيش بها؟ تُدمِّره! بطائقة الائتمان هذه تُدمِّره، لماذا؟ لأن مُتوسَّط ما يُحسَم من أموال المسكين فوائد على المُشتريات ببطاقات الائتمان المُختلِفة ثمانية عشر في المائة، ثمانية عشر في المائة فوائد! فوائد عالية جداً جداً جداً، ليست خمسة أو ستة أو سبعة أو عشرة، وإنما ثمانية عشر في المائة! هذه أغبى الصفقات وأفحش الصفقات، أفحش الصفقات للمُستفيدين، وأغبى الصفقات للمُستفاد منه، يقولون لكم لا نستطيع أن نعيش بدونها، ولا نستطيع أن نعيش بها.

ولذلك – إخواني واخواتي – مرةً أُخرى علينا أن نُعيد نظرتنا للحياة، وطبعاً هذا واضح، بعض الناس يقول لك أنت تُحدِّثني عن هذا، وأنا فقير وليس عندي شيئ، لا! هذا الحديث بدرجة أولى فعلاً لمَن يجد، وبدرجة ثانية أيضاً يُشكِّل تحذيراً لمَن ليس عنده شيئ إذا صار في يوم من الأيام عنده، وأيضاً الآن وهو ليس عنده ألا يقتل نفسه حسرةً على أنه غير قادر أن يُنافِس هؤلاء في مُشترياتهم، في عدد ما عندهم من أحذية ومن بدل ومن سيارات ومن أشياء، لا! أنت يُمكِن أن تعيش سعيداً بعُشر معشار هذه الأشياء، أنت لا تحتاج إلى مُعظَم هذه الأشياء، صدِّقني! لا يُمعِن في اقتناء هذه الأشياء بهذه الطريقة المرضية إلا مَن أُصيب بالاستهلاك المرضي.

وأنا وعدتكم أن أُعرِّف لكم الاستهلاك المرضي، كما يُعرَّف في الدراسات المُختَصة، ما هو الاستهلاك المرضي؟ الاستهلاك المرضي أن يزداد شعور الإنسان بالحاجة إلى الشراء، كأن هذه حالة استحواذية، هذا يُسمونه الاستحواذ في اللُغة النفسية، أي الــ Obsession، كأنه ملموس أو ملبوس، شيئ يسكنه ويفرض عليه رُغماً عنه أن يذهب كل يوم ليشتري، ويشتري هذا الشيئ، وعلى فكرة هو يشتريه ثم يُلقيه مُباشَرةً، وقد يدفع فيه مبالغ طائلة، يشتريه ثم يُلقيه، ثم يشتري غيره ثم يُلقيه، وهكذا! إتلاف، إسراف وإتلاف، إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ۩، هذا من الإتلاف، من السرف، ومن الترف – إخواني وأخواتي -.

إذن الاستهلاك المرضي أن يزداد الشعور بالحاجة إلى الشراء، في مُقابِل نقص الشعور بالإشباع، هناك زيادة في الشعور بالحاجة إلى الشراء، هل يُصاحِبه إذن زيادة في الشعور بالإشباع؟ أي هل هو أصبح Satisfied؟ هل أصبح مُشبَعاً ورضيَ؟ لا، ينقص الشعور بالإشباع، أي كلما ذاق جديداً طلب مزيداً، لا يشعر بالشبع، وطبعاً هذا نتيجة العقلية التي تُقولَب وتُصنَّع هناك في الغرب الأمريكي، هذا في الغرب الأوروبي عموماً وخاصة الأمريكي، عقلية بذِّر أكثر وستُريد أكثر، سترغب أكثر، وهذا عجيب، بذِّر! يقولون بذِّر، أي Waste، يقولون Waste More, Want More، اشتر أكثر، بذِّر أكثر، أسرف أكثر، وأنت سترغب، ستحتاج، وستُريد أن تشتري أكثر، وفعلاً هذا الذي يحصل، هذه الجُملة القصيرة بالذات تُعبِّر عن الاستهلاك المرضي، Waste More, Want More، هذا هو الاستهلاك المرضي!

قبل فترة – سُبحان الله – جلست إلى رجل أعمال مُسلِم عربي، وهو رجل فاضل حقيقةً، أعجبني فيه جداً ما سأقوله لكم، كان يُحدِّثني عن نفسه بين أولاده وذويه وبعض المُوظَّفين لديه ويقول لي الآتي، مع أنني أعرف عن هذا الرجل من قبل – من قبل أن ألتقيه، بارك الله فيه وفي أمثاله – أنه أنفق ما لا يعلمه إلا الله – تبارك وتعالى – في سبيل خدمة الأمة، في سبيل خدمة الدين، أي في سبيل التبشير بالدين الصحيح المُتوسِّط، ما لا يعلمه إلا الله! كثَّر الله في المُسلِمين من أمثاله، لكنه حدَّثني وقال لي أنا آلو على نفسي أن أبيت في أي فندق Hotel تكون فيه كُلفة المبيت عالية نسبياً، لا أود هذا، لا أُحِبه، وحكى لي قصة لطيفة، قال ذات ليلة نزلت في فندق Hotel في وقت مُتأخِّر، وبعد ذلك سألتهم – ربما بعد ساعة أو ساعتين – كم أجرة الليلة؟ فقالوا كذا وكذا، مبلغ هائل مُخيف! وطبعاً هذا فندق Hotel للنُخبة، أي ينزل فيه مَن يُحِبون أن يقولوا إننا هنا فانظروا إلينا، نحن ننزل في فندق Hotel الليلة فيه – مثلاً – بعشرين ألف دولار أو يورو، شيئ مُخيف، أي كفر بالنعمة، هذا كفر النعمة!

قال فقال لهم أخرجوني من هذا الفندق Hotel، لا يُمكِن أن أبيت هذه الليلة هنا، فقالوا له ولكن ما دفعته لن تسترجعه، قال لا بأس، حتى لو اضطررت أن أبيت على الرصيف، ولا أُريد أن أسترجع هذا، هذا قانونكم ولا بأس، لكن لن يراني الله – تبارك وتعالى – بت بهذا المبلغ في هذا الفندق Hotel، هكذا قال لي! لا أُريد أن يراني الله – تبارك وتعالى – بت بهذا المبلغ في هذا الفندق Hotel، يا ليت كل أغنياء المُسلِمين بهذه العقلية وبهذه الفلسفة في الحياة! هذه فلسفة رجل واعٍ بالحياة، هذا الرجل يتملَّك الأشياء ولا تتملَّكه الأشياء، ليس أجوف هذا الرجل، ليس أجوف يا إخواني، هذا مليء ومُغتنٍ بفلسفة دينية روحية صحيحة في الحياة وللحياة.

أرنولد توينبي Arnold Toynbee – المُؤرِّخ الإنجليزي الشهير، صاحب دراسة التاريخ – كتب مرةً يقول إن المقياس الذي نُعيِّر به الحضارة هو ماذا؟ ما الحضارة؟ هي ليست كثرة الأشياء المادية وليست كثرة التصنيع أبداً، قال المقياس الحقيقي الذي نُعيِّر به مُستوى أمة ما من الحضارة والرقي ما هو؟ قال هو قدرتها على تحويل الطاقة والاهتمام من الجانب المادي إلى الجانب الفني والثقافي والروحي، هذه أمة مُتحضِّرة، وكذلكم هذا هو الفرق بين شخص مُتحضِّر وشخص أجوف، أي Hollow man، رجل أجوف، ليس عنده شيئ، هذا يُمكِن ان يستخدم المادة، يستخدم النقود، يستخدم الدولار، ويستخدم الذهب، في ماذا؟ في تغذية وتلبية اهتمامات روحية، أخلاقية، ثقافية، أدبية، فنية، واجتماعية، هذا هو، هذا إنسان مُتحضِّر، هذا إنسان راقٍ، يتملَّك الأشياء ولا تتملَّكه، يُعمِل فيها فلسفته، يُعمِل فيها منظوره، ويتعالى عليها، هذا معنى أنه يتملَّكها، أنه يتعالى عليها، يُصرِّفها ولا تُصرِّفه، يستخدمها ولا تستخدمه.

لكن بعض الناس يعيش ويموت عبداً للمال، المال يستخدمه ويستعبده، ولذلك بعض المُفكِّرين الغربيين المُحدَثين سمى نمط الحياة السائد الآن، سماه الطريق الجديد للعبودية، سماه عبودية! وألَّف كتاباً عن الطريق الجديد للعبودية، هذه عبودية، ولذلك النبي يقول تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، هذه عبودية للدولار، عبودية لليورو، لا! أنا سأكون سيداً، لن أكون عبداً، سأُصرِّفه مُعمِلاً فيه فلسفتي ونظرتي الرؤيوية لنفسي وللحياة، ولذلك يا إخواني علينا أن نُفكِّر في هذا كثيراً.

ذات مرة كما روى الإمام مالك في الموطأ سيدنا عمر بن الخطاب – رضوان الله عليه – كان يمشي في الطريق، فرأى جابر بن عبد الله ومعه درهم، قال إلى أين يا جابر؟ قال يا أمير المُؤمِنين درهم معي، أُريد أن أشتري به لحماً لي ولأهلي، اشتهيناه، قرمنا إليه، يقول قرمنا إليه، طاقت نفوسنا للحم، نحتاج إلى اللحم الآن، فقال عمر مُستنكِراً كلما اشتهيت اشتريت؟ أي هل هذا هو المبدأ الذي عندك؟ هل أنت اشتهيته وتُريد أن تشتريه مُباشَرةً؟ أهذا هو؟ أتُوجَد تلبية مُباشَرةً ولا تُوجَد مسافة بين الشهوة وبين الفعل أو بين الشهوة وبين الاستجابة؟ 

قال كلما اشتهيت اشتريت؟ أما يستطيع أحدكم – قال عمر – أن يطوي بطنه أو قال بعض بطنه لجاره أو ابن عمه؟ حتى ولو نصف بطنه، اطو نصف بطنك، املأ نصفه واطو النصف الآخر، أما يستطيع أحدكم أن يطوي بطنه أو قال بعض بطنه لجاره أو ابن عمه؟ أين أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ ۩؟ وعلى فكرة بعض الناس قد يحتج ويقول هذه الآية في الكفّار، وفعلاً هي في الكفّار، وهي من سورة الأحقاف، هذه الآية في الكفّار، ليست في المُسلِمين، ولكن أنا أقول لكم حقيقةً – هذا خطر لي – يحسن الاستشهاد به، قد يقول لك أحدهم كيف؟ وأنا أقول لك كيف، في الحقيقة لأن هذه الآية تنعى على الكفّار فلسفتهم في الحياة، هم فهموا أن الحياة أكل وشرب وتمتع كالأنعام، يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ ۩، فطبيعي جداً أن المُسلِم لا يُمكِن أن يُوافِق على هذا، لا يُمكِن أن يُوافِق ولا يُمكِن أن يرضى أو يرتضي لنفسه أن يصدر في الحياة عن مثل هذا المنطق، منطق الكفّار، المنطق البهيمي، أن الحياة أكل وشرب ومُتعة ورياء اجتماعي فيما ألبس وفيما أركب وفيما آكل وفيما كذا فقط، أبداً! فالمُسلِم أيضاً مُخاطَب بطريق مُعيَّنة، فإذا هذه فلسفة الكفّار فلا ينبغي أن تكون فلسفة المُؤمِن، المُؤمِن ليس هكذا.

ولذلك لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، لا حسد إلا في اثنتين، ورجل آتاه الله مالاً فسلَّطه على هلكته في الحق، أنفقه في الحقوق يا إخواني! وفي نهاية المطاف أنا أقول لكَ أخي وأقول لكِ أختي المال هو مال الناس، مال المُجتمَع، لا يحق لأحد أن يقول هذا مالي أنا، لا! هو مالك الآن، لكنه أيضاً في الوقت ذاته مال المُجتمَع، قال الله – تعالى – وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ ۩، عجيب! مع أنها أموال السُفهاء، ومن هنا مبدأ الحجر، الرسول حجر على مُعاذ بن جبل، وهو عالم من علماء الصحابة، رجل كريم، وكان باسط اليد بالعطية، كان سمحاً ندياً، يُعطي… يُعطي… يُعطي… حتى أهلك ماله، وركبته ديون، فحجر النبي عليه، وعمر بن الخطاب حجر أيضاً على أُسيفع جهينة، وإن كان أبو حنيفة يرى أن الحجر لا يكون إلا لحق المُجتمَع فقط، ما يتعلَّق بالشأن العام، ولذلك أفتى أبو حنيفة بأنه يُحجَر على الطبيب الجاهل وعلى المُفتي الماجن وعلى المُكاري – أي المُقاوِل – المُفلِس، حفاظاً على حقوق الأديان والأبدان والأموال.

أدركنا الوقت، أسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُفقِّهنا في الدين وفي الحياة، وأن يُعلِّمنا كيف نعيش حياةً صحيحةً، لتكون حياةً طيبةً، لا نندم إذا اكتشفنا يوماً في وقت مُتأخِّر أنها كانت الحياة الغلط، وكانت الخيار الغلط.

وإلى أن ألقاكم في حلقة جديدة أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: