روتانا خليجية…شبابها.. أدرى بشعابها.
تابعونا http://twitter.com/#!/Khalejiatv و http://www.facebook.com/khalejiatv

روتانا خليجية أقوى البرامج الحوارية والاجتماعية والفكرية والرياضية والكوميدية.. اليومية والاسبوعية، بالإضافة لأروع المسلسلات العربية والخليجية وأضخم الإنتاجات الغنائية تجدونها فقط.. على خليجية..

الترددات.

NileSat 104 Freq. (11,296 MHz) – H – SR: 27500 S/s – FEC 3/4
102 Freq. (10,775 MHz) – H – SR: 27500 S/s – FEC 3/4
Arabsat Freq. (11,843 MHz) – H – SR: 27500 S/s – FEC 3/4

 

برنامج آفاق

الهجرة أعماق ودلائل

 

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.

إخواني وأخواتي:

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، ها قد قُضيت مناسك الحج، وعاد الحجيج إلى بلادهم تحدوهم فرحة وأمل في أن يتقبَّل الله عنهم أحسن ما عملوا، شكر الله سعيهم، وتقبَّل عنهم أحسن ما عملوا، وتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة.

وها نحن – إخواني وأخواتي – أولاء نستقبل عاماً هجرياً جديداً، يُضاف إلى رصيد وعمر هذه الأمة المُحمَّدية المرحومة، ولعله – إخواني وأخواتي – لو اطلع باحث أو دارس غير مُسلِم على هذه الحقيقة لأول مرة، حقيقة أن المُسلِمين اختاروا أن يُؤرِّخوا بهجرة المُصطفى وأصحابه – صلى الله عليه، ورضيَ الله عن أصحابه -، لتساءل من فوره مُتعجِّباً ولِمَ بالهجرة؟ لِمَ اختاروا هذا الحدث؟ لِمَ لَمْ يختاروا أن يبدأوا تاريخهم – مثلاً – بحدث كميلاد نبيهم – عليه الصلاة وأفضل السلام – وأكثر من هذا: أو مبعث نبيهم، أي تنبئة الله لنبيهم، لحظة اتصال السماء بالأرض؟ أو لِمَ لَمْ يُؤرِّخوا – مثلاً – بالانتصار العظيم في يوم الفُرقان، أي بانتصار بدر؟ لِمَ لَمْ يُؤرِّخوا بفتح مكة – الفتح الأعظم -؟ وأخيراً لِمَ لَمْ يُؤرِّخوا بوفاة المُصطفى – عليه الصلاة وأفضل السلام -؟ لقد اختاروا أن يُؤرِّخوا بالهجرة، بهذا الحدث الكبير الهائل ذي الدلالات والأعماق.

في صحيح البخاري من حديث سهل بن سعد، يقول سهل بن سعد الساعدي – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، يقول ما عدوا – أي ما ابتدأوا تاريخهم – من بعث رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، أي لم يختاروا أن يُؤرِّخوا بمبعثه، فإذن الصحابة التفتوا إلى هذا، لم يكن ليغيب عنهم دلالات هذا الاختيار – إخواني وأخواتي -، يقول ما عدوا من مبعث رسول الله – عليه السلام -، ولا بوفاته – عليه الصلاة وأفضل السلام -، وإنما عدوا من مقدمه، من مقدمه المدينة المُنوَّرة – على مُنوِّرها ألف تحية وألف سلام -.

إذن الصحابة كانوا مُتفطِّنين إلى مغزى التأريخ بالهجرة، لكن لماذا – إخواني وأخواتي -؟ حتماً سيتساءل غير المُسلِم، وربما بقدر أقل المُسلِم الذي لم يقف على بعض الدلالات الهامة والأعماق القريبة والبعيدة لهذا الاختيار الصائب، وقبل أن نُجيب نُسارِع إلى القول ونحن من طرفنا حتماً سيأخذنا عجب وروعة، سنُراع للبصيرة النافذة للفاروق عمر – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، وهذه ليست بالأولى له ولا بالأخيرة، فكم له من أمثالها! البصيرة النافذة التي جعلته يختار هذا الاختيار، وسنعجب أيضاً لعظم توفيق الله – تبارك وتعالى – لهذا الرجل الكبير، الذي كم وكم له من يد بيضاء على الإسلام وأهله! فجزاه الله خير الجزاء.

لماذا سنعجب؟ لأننا بمُجرَّد أن نبدأ نستقري آيات كتاب الله – تبارك وتعالى – ونُفتِّش عنها سنجد أن القرآن الكريم لم يعرض لشأن الهجرة عرض تأريخ، ولن أقول لحدث الهجرة، لأنه من البادي أن الهجرة لم تكن حدثاً، حين نتحدَّث عن حدث فالحدث يكون فرداً، أي Event، حدث مُفرَد، معزول تقريباً، إنها مسيرة، الهجرة – إخواني وأخواتي – حسب وقائع السيرة النبوية وبوجه أخص حسب الآيات القرآنية مسيرة مُمتَدة، مسيرة مُمتَدة! لم تنقطع إلى الفتح، وبعد الفتح قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استُنفِرتم فانفروا، يُريد الهجرة إليه خصوصاً، وأما الهجرة بشكل عام فالهجرة لا تنقطع ما قوتل العدو كما في الحديث، فالهجرة لا تنقطع ما قوتل العدو، ولكن خصوص الهجرة إليه في مُهاجَره وفي مدينته التي نوَّرها – عليه الصلاة وأفضل السلام – قد انقطع وانتهى وانقضى بفتح مكة، وعظم أو مُعظَم الهجرة إنما كانت من مكة، وكانت من غيرها أيضاً، لكن مُعظَمها كان من مكة – شرَّفها الله وصانها ورفع قدرها -.

نجد أن القرآن الكريم – إخواني وأخواتي – لم يعرض لمسيرة الهجرة عرض تأريخ، بحيث يذكر الهجرة كحدث من الأحداث، ولو قد عرض لها على هذا النحو لتناولها مرةً ثم مضى، لكننا نُلفي الكتاب الأعز الأغر الأكرم – إخواني وأخواتي – لا يزال يُبدئ ويُعيد في شأن الهجرة وذكرها والتنويه بها والإشارة إليها، في سور طويلة وقصيرة، على مدى المرحلة المدنية بطولها، في سورة البقرة نجد التنويه بالهجرة، في سورة آل عمران نجد ذكر الهجرة والإشادة بها، في سورة النساء، في سورة الأنفال، وفي سورة التوبة، وانتبهوا! سورة التوبة – أحبتي، إخواني وأخواتي – من أواخر ما نزل من كتاب الله – تبارك وتعالى -، من أواخر ما نزل! هي السورة التي تُؤرِّخ لمعركة تبوك، أي العُسرة، وقد كانت في السنة التاسعة، قبل وفاته – عليه الصلاة وأفضل السلام – بزُهاء سنة، فالتوبة من أواخر ما نزل، ونجد هذا في سورة التوبة.

نجد – إخواني وأخواتي – ذكر الهجرة في سورة الحج، في سورة النور، في سورة العنكبوت، في سورة المُمتحِنة، وفي سورة الحشر، قال وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ۩، وقبلها قال لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ۩، هذا في سورة الحشر، والعجيب أننا نجد ذكراً أو نقع على ذكرٍ للهجرة حتى في سورة النحل، لماذا هو عجيب؟ لأن سورة النحل مكية، ولذلك قال جابر بن زيد وقتادة إن آيات النحل من الآية الحادية والأربعين التي تتحدَّث عن شأن الهجرة إلى آخر السورة مدنيات، هي آيات مدنية، أما أول السورة إلى هذا الموقع – أي إلى الحادية والأربعين من آيها – فهو مكي، عجيب! أي حتى هذه السورة التي أصلها مكي وشُرِع في إنزال أول آياتها أو أوائل آياتها في مكة المُكرَّمة أبى الله أن يُخليها من آيات تتحدَّث عن الهجرة، هذا هو شأن الهجرة، عجيب!

كأن القرآن يتحدَّث عنها – إخواني وأخواتي – على أنها قرين الإيمان، دائماً إيمان وهجرة، إيمان وهجرة وجهاد، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۩، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۩، غريب! كأنها قرين الإيمان، كما يتحدَّث ولا يزال يفتأ يتحدَّث عن الإيمان فإنه لا يزال يُذكِّر ويُذكِّر ويُذكِّر بالهجرة، الهجرة الهجرة الهجرة، شأنها عظيم – إخواني وأخواتي -، الهجرة شأنها عظيم بلا شك، هي تصديق للإيمان، هي بُرهان على الإيمان، تصديق للإيمان وبُرهان على الإيمان!

لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ – في الحشر – الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۩، إنها مسيرة نحو النصر، ليس النصر الذاتي، ليس النصر الذي يُهيء فُرصةً للتشفي، للانتقام، وللانتصاف للذات الفردية أبداً، إنما نصر المبدأ، وإعزاز الرسالة، هذا هو النصر، إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ۩… الآيات المعروفة للجميع وللكافة، النصر! القرآن يتحدَّث عن النصر، لقد كانت الهجرة بداية النصر وعنوان النصر وسكة النصر، سبيل النصر ومنهجه، هذا هو!

ولذلك ما خرجوا فراراً بأنفسهم، طلباً للنجاة أو المنجاة لأنفسهم، إنما خرجوا طلباً لينجو الدين، لينتصر الدين، ليعز الدين والمبدأ، وليعلو الحق على الباطل وظلماته، هكذا! ولذلك قال وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۩، بماذا وصفهم الله – تبارك وتعالى -؟ ما هو النيشان؟ ما هي الجائزة؟ أعظم نيشان، قال أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ۩، شيئ عجيب! ولذلك الهجرة تصديق للإيمان، أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ۩، وهذا قصر، لم يقل أولئك الصادقون، يقول أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ۩، نعم هو قصر ادعائي، هذا قصر ادعائي كما يقول علماء البيان، ولكنه قصر في نهاية المطاف، كأنه يقول هؤلاء هم الصادقون من بين الناس، كأنه لا صادق سواهم، إذا أردت أن تبحث عن الصادقين وتُفتِّش عن الصادقين فإنهم المُهاجِرون، انظر إلى المُهاجِرين، اذكر المُهاجِرين، ذكِّر بالمُهاجِرين، الله أكبر، شأن عظيم يا إخواني!

طبعاً أنا أعلم، أعلم أن هذا الكلام قد يتعاطى معه البعض وقد يتناوله على أنه إنشاء، هل تعرفون لماذا؟ لأننا ابتذلنا أيضاً الهجرة، ابتذلنا هذا المفهوم العظيم، هذه المسيرة المُمتَدة ابتذلناها، بالكلام الوعظي الذي يُردَّد ويُحفَظ، الكليشيهات! لا، الآن سنكتشف أن الهجرة فعلاً شأن عظيم، شيئ كبير، شرف باذخ، ولذلك استأهل أصحابها وذووها هذه الجائزة من الله – تبارك وتعالى -، أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ۩، كأنه لا صادق سواهم – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم -.

ولذلك تلمحاً منه – عليه الصلاة وأفضل السلام – لعظم موقع الهجرة وعظم خطرها ومثابتها وأهميتها حين ذهب يُعلِّمنا إلى وجوب تصحيح النية وتخليصها وتمحيضها مثَّل بمثال، وكان المثال هو الهجرة، وذلك في الحديث العظيم الذي كان من هدي كثير من علمائنا وفي مُقدَّمهم أبو عبد الله البخاري – رضوان الله عليه – أن يبدأوا مُصنَّفاتهم به، قال إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى، ثم المثال: فمَن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، لماذا الهجرة بالذات؟ لماذا لم يذكر أي شيئ آخر؟ لماذا لم يقل مَن كان جهاده؟ الهجرة أعظم جهاد، فلماذا لم يقل مَن كان جهاده؟ لماذا لم يقل مَن كانت صلاته؟ لماذا لم يقل مَن صدقاته وزكواته؟ لماذا لم يقل مَن كان صومه وحجه؟ لماذا الهجرة؟ لأنها الهجرة وكفى، الهجرة عنوان الإيمان، بُرهان الإيمان – إخواني وأخواتي -، فمَن كانت هجرته… الحديث الشريف!

لعظم موقعها سأله أحد أصحابه ويُدعى أبا فاطمة، كما أخرجه الإمام النسائي، قال له يا رسول الله حدِّثني بعمل أعمل به وأستقيم عليه، لا أتركه، قال عليك بالهجرة، فإنه لا مثيل لها، عجيب! لا مثيل لها، فالنبي يقطع بهذا، عليك بالهجرة، فإنه لا مثيل لها – إخواني وأخواتي -، ولذلك كان النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – أيضاً تنويهاً بالهجرة وتفهيماً لنا عظم مكانتها يرثي لأصحابه، لمَن مات منهم في البلد الذي هاجر منه، لا يود لأحد مِن أصحابه أن يموت هناك، وكان يبتهل إلى الله ألا يجعل هذا مصير أصحابه أو أحدهم، اللهم امض لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم، وسيأتيكم الحديث، لماذا؟ لأنه يعلم أن الذي هاجر قد ترك كل شيئ لله، ترك الضياع والعقارات والأملاك والدور والأنهار والأشجار والثمار وربما ترك أهله أيضاً، بعض المُهاجِرين لم يُسلِم أهلهم معهم، أزواجهم وأولادهم، بل كانوا عدواً لهم بنص كتاب الله، فتركوهم، تركوا حتى الأهلين والخلان والأحباب والأولاد، شيئ لا يكاد يُصدَّق يا إخواني، تركوه لله، فلم يعودوا إليه.

تركنا مساقط رؤوسنا، مراتع صبانا، مغاني شبابنا لله – تبارك وتعالى -، ولن نعود إليها، عجيب! لكي تبقى الهجرة محضاً لنا، لا يُنتقَص من أجرنا فيها شيئ، فالنبي كان يرثي لمَن مات مِن أصحابه في البلد التي أو الذي هاجر منه أو منها، لا يُحِب هذا أبداً، أنت هاجرت، تبقى مُهاجِراً، وتلقى الله مُهاجِراً.

ولذلك في الحديث الذي أخرجه البخاري ومُسلِم – رحمة الله تعالى عليهما – عن سعد بن أبي وقاص – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، قال أتاني رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – يزوروني بمكة في حجة الوداع من علة ألمت بي، وجع ألم بي، فدخل علىّ، فقلت له يا رسول الله قد ترى ما ألم بي من وجع، وإني رجل ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي.

قال وإني رجل ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي، وهذا معناه أن الوارث قليل، وأنا عندي مال كثير، وأنا أُريد أن أتسبَّب، أُريد أن أتسبَّب إلى حيازة مزيد أجر لي بعد أن أتولى وأُدبِر، وهو كان يظن أنه ربما يموت في هذه المرضة أو في هذه العلة، وجع شديد كان به – رضوان الله عليه -.

قلت أفتصدَّق بثُلثي مالي؟ قال لا، النبي نهاه أن يتصدَّق بثُلثي ماله، ويترك لابنته الثُلث، قلت أفتصدَّق بشطر مالي؟ والشطر هو النصف، أي بخمسين في المائة، قال لا، قلت فالثُلث يا رسول الله؟ قال الثُلث، والثُلث كثير، ولذلك هذا مُهِم لمَن أراد أن يُوصي، والوصية تكون بعد الموت، السُنة ألا يُجاوِز الثُلث، والثُلث كثير، حتى لا يُضِر بحقوق الورثة، قال الثُلث، والثُلث كثير أو كبير، ربما شك الراوي، هذا شك من أحد الرواة، قال الثُلث كثير أو قال الثُلث كبير، إنك أن تذر أهلك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالة يتكفَّفون الناس، أي يسألون الناس، يمدون أكفهم، يطلبون المال، يتكفَّفون، يشحذون، ويسألون، وإنك لا تعمل ولا تتصدَّق بصدقة تبتغي بها وجه الله – تبارك وتعالى – إلا أُجِرت فيها، حتى اللُقمة تضعها في في زوجتك، عجيب! لُقمة خُبز تأخذها وتُطعِمها لزوجتك، الله يكتب لك بها أجراً، ما أعظم هذا الدين! ما هذا التعليم – إخواني وإخواتي -! شيئ غريب، شيئ غريب جداً، إلى هذه الدرجة يحثنا على أن نتحبَّب إلى أزواجنا وإلى أولادنا، وأن نبرهم، وألا نُقتِّر عليهم، وأن نُعطيهم، ولذلك رفض من سعد أن يُجيز له التصدق بثُلثي ماله وبشطر ماله، وعلى مضض أجاز له أن يتصدَّق – أي أن يُوصي أو أن يتصدَّق – بثُلث ماله – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -.

في حديث جابر بن عبد الله الأنصاري – رضوان الله عنهما – جاءه مرة رجل ومعه هكذا كرة من ذهب أو حجر من ذهب، وقال يا رسول أصبت هذه من مَعدِن، معه كرة هكذا من ذهب، وقال يا رسول الله أصبت هذه من مَعدِن، والمَعدِن هو المكان الذي يُستخرَج منه الذهب أو الفضة، يُقال مَعدِن الشيئ، المَعدَن هو المَعدَن، أي الــ Metal، أي المَعدِن هو مكان الشيئ الذي يُستخرَج منه وأصله، قال يا رسول الله أصبت هذه من مَعدِن، فخُذها تصدَّق بها، فأخذها النبي ويبدو أنه غضب من هذا الشيئ، لماذا؟! هذه ثروة طائلة كبيرة، تأتي تتصدَّق بها كلها وتُخلي أهلك من كل شيئ؟! لأنه ذكر هذا، قال ما عندي غيري، ليس عندي إلا هذا الشيئ، أصبته وأنا أتصدَّق به كله.

يقول جابر بن عبد الله فالتفت عنه النبي، لم يود أن ينظر إليه، فأتاه من قِبل يمينه، وقال يا رسول الله أصبت هذه من مَعدِن، وليس عندي سواها، خُذها تصدَّق بها، فالتفت عنه النبي، فأتاه من قِبل جهته اليسار، فالتفت عنه، فأتاه من خلفه، يقول جابر فأخذها، فحذفه بها، النبي ضربه بها، فلو أصابته لعقرته، ربما كانت تقتله، ضربها النبي بعنف، ثم قال يأتي أحدكم بكل ماله، يقول يا رسول الله خُذ هذا تصدَّق به، ويدع أهله لا شيئ لهم! خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، هكذا! هذا تعليم النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام -، شيئ غريب.

الآن بعض الناس ربما يُغريهم آخرون باسم الدين بأن يتخلوا عن كل شيئ، يتخلى حتى عن أهله وعن أولاده باسم الدين وباسم الدعوة، وهذا غير صحيح، ابدأ بمَن تعول، كفى بالمرء إثماً أن يُضيِّع مَن يعول، لكن العجب لسعد بن أبي وقاص، والعجب منا ولنا، العجب له لأنه يتحيَّل أو يحتال بوجوه من الحيل ويتكلَّف ليأخذ إجازة وإذناً من رسول الله ليتصدَّق بثُلثي ماله أو بشطر ماله، شيئ غريب، ونحن – لا إله إلا الله، والله المُستعان على أحوالنا وعلى نفوسنا المريضة – نتحيَّل بكل حيلة حتى نُسقِط حق الله – تبارك وتعالى -، هناك الزكاة، كم من المُسلِمين الآن يُخرِج الزكاة كما هي؟ يتحيَّلون بحيل حتى لا يُخرِجوا زكوات أموالهم كاملة تامة، شيئ غريب! وهو يتحيَّل لكي يُنفِق مُعظَم ماله في سبيل الله، لأنه ذكي، لأنه عاقل، الإيمان عقل يا إخواني، بل الإيمان عقل بلا حدود، لأنه عاقل يمهد لنفسه، فَلأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ۩، يطلب لها الخير، يطلب لها الأجر عند الله والرفعة والمنزلة.

وعلى كل حال نعود إليه – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، قال فقلت يا رسول الله أُخلَّف بعد أصحابي؟ قال أُخلَّف بعد أصحابي؟ كأنه – أنا فهمت من هذا الآتي – فهم أن النبي بشَّره بطريقة ما أنه لن يموت في مرضه ذاك، وأنه ربما يُمَد له في الفُسحة ويطول عمره، فخشيَ من هذا، أي يموت أصحابي المُهاجِرون وأنا أبقى بعدهم! لا يُحِب هذا سعد، لا يُحِب، ويخاف من الفتنة ربما.

فقلت يا رسول أُخلَّف بعد أصحابي؟ قال إنك لن تُخلَّف فتعمل عملاً تبتغي به وجه الله – تبارك وتعالى – إلا أُجِرت فيه، وإنك لعلك أن تُخلَّف يا سعد، أي يطول بك عمرك، فتنفع أُناساً ويُضر بك آخرون، اللهم امض لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم، ولكن البائس سعد بن خولة، ما معنى هذا الكلام؟ النبي بعد أن قال له هذه الجُملة كأنه رفع يديه يدعو أو دعا من غير رفع، قال اللهم امض لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم، ولكن البائس سعد بن خولة.

يقول سعد بن أبي وقاص يرثي له أن مات بمكة، لماذا؟ لأن سعد بن خولة أحد المُهاجِرين، وهذا الرجل هاجر وشهد بدراً، أي هذا الصحابي الجليل – سعد بن خولة – شهد بدراً، ثم أتى إلى مكة في حجة الوداع، ومات فيها كما رجَّح الحافظ ابن حجر، مات في مكة! والنبي لم يُحِب له هذا، كان يُحِب له أن يموت في مُهاجَره في المدينة المُنوَّرة، لا يموت في المكان الذي هاجر منه، يقول هو بائس المسكين، يقول ولكن البائس سعد بن خولة، يرثي له أن مات بمكة، أما سعد بن أبي وقاص فقد صدَّق الله نبوءة نبيه، وعاش دهراً، مُدةً مُتمادية بعد رسول الله، لأنه تُوفي سنة خمس وخمسين للهجرة، فيكون عاش بعد أن قال له رسول الله ما قال نحواً من ثماني وأربعين سنة، أي مسافة كبيرة جداً، مُدة عظيمة جداً، وصدق الله، وصدق رسوله.

أيها الإخوة والأخوات:

لأن الهجرة أيضاً شأنها عظيم وخطير فإن الله – تبارك وتعالى – لم يتساهل ولم يقبل أعذار الذين اعتذروا عن الهجرة ونُصرة الدين بها لأسباب واهية أبداً، وأنزل فيهم نكيراً شديداً، من أخوف ما يكون، إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ ۩، لأن بعض أولئكم – إخواني وأخواتي – ساقهم المُشرِكون والكفّار في حروبهم ضد المُسلِمين، وبعضهم مات وهو يُحارِب، يُحارِب إخوانه، أهل مِلته ودينه، لماذا؟ لأنه مُستضعَف، مغلوب على أمره! إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ۩، ثم رفع الله وذكر عُذر فقط أصحاب الأعذار من المُستضعَفين حقاً، إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا ۩ فَأُولَٰئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ۩، هؤلاء الله رفع لهم عُذراً، رفع لهم عُذراً أو أقام لهم عُذراً، أما الأوائل فلا، لماذا لم تُهاجِروا؟!

ولذلك الله – تبارك وتعالى – قطع الولاية وقطع المُوالاة بين المُؤمِن المُهاجِر وبين المُسلِم الذي لم يُهاجِر وهو قادر على أن يُهاجِر، عجيب! إلا في أضيق حد، إذا تعلَّق الأمر بالحياة والموت على أيدي كفّار، وكفّار غير مُعاهَدين، كفّار ليس بيننا وبينهم ميثاق، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۩، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ۩، شيئ غريب! لماذا؟ لماذا قُطِعت هذه الولاية وهذه المُوالاة؟ قال مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا ۩، إذن الهجرة شيئ عظيم جداً، إنها عزيمة – أيها الإخوة والأخوات -، ليست رُخصة، ليست أمراً مندوباً، ليست أمراً بالاختيار، إنها عزيمة من عزمات الشرع، لماذا؟ ليُنصَر هذا الشرع، ليُنصَر هذا الدين، ليترسَّخ ويقوى، ليثبت في الحياة، ولينتصر في معركته على الباطل، على الأوهام والخُرافات، وعلى الشركيات والوثنيات، هذه الهجرة! كما قلت لكم إنها سكة النصر، وعنوان النصر، وأول النصر – بفضل الله تبارك وتعالى -.

ولأن الهجرة – إخواني وأخواتي – أمرها شديد، من أشد ما يكون، فنحتاج إلى قدر زائد من وراء المعرفة ومن وراء المعلومة، قدر زائد من الخيال، الخيال هو الذي يُتيح لنا فُرصة ألا نبتذل معنى الأشياء العظيمة والأشياء الكريمة، لكن ما معنى هذا الكلام؟

كونوا معي بعد هذا الفاصل، بارك الله فيكم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم إخواني وأخواتي.

إذن نحتاج إلى قدر زائد من وراء المعرفة والمعلومة، قدر من الخيال – أيها الإخوة والأخوات -، حتى لا نتورَّط في ابتذال الأحداث العظيمة والمفاهيم الكبيرة والقيم الجليلة، ومنها مسيرة الهجرة، وإن شئتم حدث الهجرة الجلل.

الهجرة – إخواني وأخواتي – بكتاب الله شيئ أصعب من القتل نفسه، أصعب من الموت، كيف؟! الله – تبارك وتعالى – يقول وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ ۩، أي يسجنوك، يضعونك في مَحبِس أو في مِحبَس، أَوْ يَقْتُلُوكَ ۩، وبلا شك القتل أشد وأشق وأصعب من الحبس، إذن هو تدرج من الشاق إلى الأشق، ومن الصعب إلى الأصعب، لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ ۩، ثم قال أَوْ يُخْرِجُوكَ ۩، إذن هو أشد، الإخراج أشد من القتل، والقتل أشد من الحبس، شيئ غريب بلا شك.

إخواني وأخواتي:

الإنسان يُقاتِل وإن قُتِل من أجل أن يدفع عن أهله، عن بيته، عن ماله، وعن ملكه، ومَن قُتِل دون ماله فهو شهيد، المُهاجِر ترك كل شيئ، تركه ملكه، وترك أهله، وترك بيته، وترك وطنه، من أجل ماذا؟ من أجل ماذا؟ لا يُمكِن أن يكون من أجل مكسب، أي مكسب بعد هذا الفقد كله وبعد هذا الترك كله لهاته المتروكات؟! لا يُوجَد مكسب، لا يُوجَد مكسب على المُستوى الشخصي أو على المُستوى المادي الدنيوي، لا يُوجَد مكسب! لكن من أجل شيئ أكبر من كل شيئ، إنه الإيمان، إنه الرسالة، من أجل ديني، من أجل إيماني، من أجل دين الله – تبارك وتعالى -، وفي نهاية المطاف هذا من أجل خير البشرية، من أجل خير العالمين، هؤلاء هم المُهاجِرون – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم -.

ولذلك – إخواني وأخواتي – ما من مُسلِم، ما من مُؤمِن، وما من مُهتدٍ يهتدي إلى هذا الحق إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها إلا وللمُهاجِرين منّة عليه وفضل عليه، هم الذين هيأوا وأوصلوا إلينا هذا الدين، بهجرتهم وبجهادهم – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم -، أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ۩.

ولا يقل عنهم كثيراً المُفلِحون الأنصار، لا يقلون كثيراً، إنهم يقتربون منهم، لأن الهجرة معنى بجناحين، لولا مَن هوجِر إليهم وهوجِر إلى بلدهم، ولولا ما أبدوا من محبة ومن تضحية ومن قوة إيثارية تُدنيهم من مرتبة المُهاجِرين، ما حصل كل هذا، هؤلاء ضحوا، وهؤلاء أيضاً ضحوا ما عندهم، وكله في سبيل الله، وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ ۩، قال يُحِبُّونَ ۩، انتبهوا! هذا الحُب.

أحد المُفكِّرين يُعرِّف الحُب، يقول الحُب هو الذي يجعلك تتحسَّس حاجات الآخرين، تستطيع أن تشعر بحاجات الآخرين، ومن ثم تعمل على تلبيتها، على توفيتها، على إنجاز هاته الحاجات، على سد خلة مَن تُحِب، هذا هو الحُب يا إخواني، ولذلك لا حُب بلا تضحية، ولا حُب بلا عطاء، الذي يُحِب ولا يُعطي هذا ليس مُحِباً، هذا يتوهَّم الحُب، يعيش الحُب وهماً أو دعوى وزعماً، الحُب ليس كذلك، والقرآن الكريم ذكر هذا، قال يُحِبُّونَ ۩، قال يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ ۩، المسألة فيها جانب بشري إنساني أيضاً، لم يقل يُحِبون – مثلاً – الدين فقط أو الإيمان، لا! يُحِبون هؤلاء المُهاجِرين، المسألة فيها جانب أخلاقي وجانب إنساني عاطفي رائع جداً، قال يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ ۩، نعم! ثم قال وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ۩، الله أكبر! هذه عظمة الأنصار – رضوان الله عليهم إلى يوم الدين -، وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ۩.

هذا الذي أبداه الأنصار – رضوان الله عليهم -، أهل دار الهجرة الذي أبدوه من الإيثار، من المحبة، من العطاء، ومن الغيرية، شيئ يفوق الوصف، شيئ أبو بكر الصدّيق أراد أن يجزيهم عليه وأن يُظهِر امتنانه أو بعض امتنانه بسببه، فقال لا أجد مثلاً لنا ولإخواننا من الأنصار إلا كما قال الغنوي لبني جعفر:

جَزَى اللَّهُ عَنَّا جَعْفَرًا حِينَ أَشْرَفَتْ                         بِنَا نَعْلُنَا فِي الْوَاطِئِينَ فَزَلَّتِ. 

أَبَوْا أَنْ يَمَلُّونَا وَلَوْ أَنَّ أُمَّنَا                                تُلاقِي الَّذِي يَلْقَونَ مِنَّا لَمَلَّتِ.

يقول:

أَبَوْا أَنْ يَمَلُّونَا وَلَوْ أَنَّ أُمَّنَا                                تُلاقِي الَّذِي يَلْقَونَ مِنَّا لَمَلَّتِ.

يقول لم يملونا، لم يكزوا، لم يبخلوا، لم يشحوا، ولم يستأثروا دوننا، حتى الأم لا تُعطي هذا العطاء، الأم لا تُعطي أولادها وأبناءها هذا العطاء الذي أعطاه الأنصار – رضوان الله عليهم -.

أيضاً نيشان آخر للأنصار، النبي يُمجِّدهم، يقول يكثرون عند الفزع، ويقلون عند الطمع، ومن هنا انتصر الدين يا إخواني، بالمُهاجِرين والأنصار! الدين دين المُهاجِرين ودين الأنصار – رضيَ الله عنهم جميعاً -، انتصر لا بالهجرة وحدها، ولا بالمُهاجِرين، ولكن بالمُهاجِرين وبالأنصار، ولولا الأنصار ما نجحت الهجرة، لكانت مسيرة فاشلة، لانتهت إلى لا شيئ، إلى هباء، إلى هواء! لكن الأنصار أكملوا مسيرة الهجرة، أعطوا الهجرة معناها – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم -، الذين يقلون عند الطمع!

ما معنى يقلون عند الطمع، ويكثرون عند الفزع؟ إنها مُعادَلة الحق والواجب – إخواني وأخواتي -، يُمكِن أن نتصوَّر ثلاث مُعادَلات: مُعادَلة شعب أو أمة مرن أبناؤها على أن يُطالِبوا بالحقوق أكثر مما يقومون بأداء واجباتهم، الحقوق قبل الواجبات، والحقوق أكثر من الواجبات، والنتيجة ما هي يا إخواني وأخواتي؟ أمة تتأخَّر، أمة تسير إلى الخلف، أمة تنحط وتهوي من حالق، هذه المُعادَلة خُذوها ولا تشكوا فيها، كل أمة تجدون أبناءها وبناتها يحرصون على أن يستوفوا حقوقهم ويُبالَغوا في استيعابها أكثر مما يصدعون ويُوفون بواجباتهم أمة فاشلة، أمة تتأخَّر، تسير إلى الوراء.

هناك مُطالَبة بالحقوق على مقدار وبمقدار أداء الواجبات، أنا أقول لكم هذه أمة جامدة، تُراوِح في مكانها، وعما قليل ستتأخَّر أو ستنحط، يُريد الحق بمقدار الواجب، فهو يُلبي نداء الواجب بمقدار ما يُعطى من حق، بالضبط! هذه أمة جامدة، أمة مشلولة، أمة مشلولة لا تستطيع حراكاً.

والآن إلى أمة المُهاجِرين والأنصار، خاصة الأنصار الآن! أمة تُقدِّم الواجبات على الحقوق، وتُعطي حق الواجب أكثر مما تُطالِب بنصيب الحق، أقول لكم هذه أمة تعدو إلى المجد سريعاً، أمة تتقدَّم.

ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية كيف استطاعت أن تهب من رقدتها بل تقوم من كبوتها – الكبوة الكارثية -؟ نهضت في ثلاث سنين فقط، وذلك من خمس وأربعين إلى ثماني وأربعين، فأذهلت العالم، هل تعرفون لماذا؟ فقط لأن المُوظَّف والعامل في ألمانيا كان يُعطي بضع ساعات يومياً من وقته مجاناً للوطن والدولة، كان يعمل مجاناً، فنهضت ألمانيا في ثلاث سنوات فقط، إذن أُناس أعطوا حق الواجب أكثر مما طالبوا بأنصباء الحق، قدَّموا الواجب على الحقوق، قدَّموا الواجب على الحقوق فتقدَّموا.

ولذلك هذا القرآن الكريم يبني وعياً بالتاريخ، القرآن – إخواني وأخواتي – يبني وعياً بالتاريخ، القرآن ليس كتاب تاريخ، إذا أردت أن تصل أو تتحصَّل على معلومات تاريخية عن الهجرة – مثلاً – فستجد أنها قليلة جداً جداً وشحيحة في كتاب الله، القرآن لا يُعنى بذكر الشخصيات، لا يُعنى بالأسماء والألقاب وسائر هذه الوجوه، لا يعتني بهذا، الأزمنة والأمكنة لا يُحدِّدها، لكن القرآن – أقول لكم إخواني وأخواتي – مُتفرِّد تماماً في كونه كتاباً يبني ويُنعِش وعياً بالتاريخ، يبني وعياً بالتاريخ، يُعلِّم مَن يتلوه حق تلاوته ومَن يتدبَّره حق تدبره، يُعلِّمه كيف يُصنَع التاريخ.

بعض الناس يصنعون الأحداث، بعض الناس يُفكِّرون في الأحداث، وبعض الناس لا يدرون ماذا يحدث، عالة على الحياة، موجودون بحساب الناقص، لا بحساب الزائد، إضافات ليس لها دور في الحياة – والعياذ بالله -، القرآن يُعلِّمك كيف تصنع الحدث، كيف تتقدَّم المسيرة، وكيف تصنع التاريخ، نعم! يُعلِّمك كيف تُغيِّر العالم.

الأمريكان يحتفون كثيراً ويتفاخرون بكلمة رالف والدو إمرسون Ralph Waldo Emerson، يقولون هذا الرجل العظيم قال لا تقفوا ساكنين، غيِّروا العالم، فإن الأسوياء والناجحين من قبلكم فعلوا ذلك، لا! لا نحتاج إلى مثل هذه العبارة، القرآن ملآن يا إخواني بمثل هذا المنطق، لكن بأعماق أجمل بكثير، وأغوار أبعد، هي التي ألهمت فيلسوف الإسلام وشاعر الإسلام في القرن العشرين محمد إقبال – رحمة الله تعالى عليه – الهندي، ألهمته أن يقول الآتي، انظر إلى العزة حتى وانظر إلى القدرة.

للأسف في يوم من الأيام توفيق الحكيم قال لك خطاب إلى الله، وهذا نوع من البيان الأدبي، فقامت الدنيا ولم تقعد عليه وكفَّروه، يا أخي هذا أديب، والأمر واسع، محمد إقبال وهو صاحب أسرار الذاتية – أي أسرار خودي – يعلم أن فلسفة الإسلام الحقيقية هي التي تبني مُؤمِناً قوياً، يرى نفسه صانعاً للقدر، وليس ضحيةً للأقدار.

محمد إقبال يقول قال لي ربي الآتي، ولم يُكفِّره أحد أبداً، هذا أدب وهو يفهم هذا، الله لم يُخاطِبه بشكل مُباشِر، ولم يُرسِل إليه جبريل، ولكن خاطبه من خلال كتابه العزيز طبعاً، أبوه كان أوصاه مرةً، قال له يا بُني اقرأ القرآن كأنما يُنزَّل عليك أنت، وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ۩، كل مَن بلغه كتاب الله هو مُخاطَب به أيضاً، وهذه غيَّرت حياة محمد إقبال، يقول قال لي الله – تبارك وتعالى – هل يُرضيك هذا العالم؟ قلت كلا يا ربي، لا يُرضيني، أنا غير راضٍ عن هذا العالم، قال حطِّمه ولا تُبال، حطِّم هذا العالم وأنشئ عالماً جديداً، أكثر خيريةً، أكثر جمالاً، أكثر شرفاً، أكثر حريةً، أكثر سلاماً، وأكثر مُصالَحةً مع الحق والمبدأ والقيمة والجمال والجلال، غيِّر هذا العالم، إقبال يقول هذا – رحمة الله تعالى عليه -، حطِّمه ولا تُبال.

إخواني وأخواتي: 

بمنطق القرآن الكريم وبالذات في موضوع الهجرة المُسلِم ليس حراً في أن يعيش حراً، أنت لست حراً أن تعيش حراً، قد يقول لي أحدكم كيف هذا؟ أنت لست حراً في هذا أبداً، أنت مُلزَم ومعزوم عليك أن تعيش حراً، أنت مُرصَد مُنتدَب لتُعلِّم الناس كيف تكون الحرية، وكيف يعيش المُؤمِن بحرية وبشرف، فأنت لست حراً أن تعيش حراً، لأنك لو كنت حراً في أن تعيش حراً لكنت حراً أيضاً أن تختار أن تكون عبداً، ولست كذلك.

ولذلك إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۩، يبدو أنهم فهموا أنهم أحرار أن يعيشوا مُستضعَفين، لنا الحق ولدينا رُخصة أن نعيش مُستضعَفين! قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚفَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ۩، لا! لست حراً أن تعيش حراً وبالتالي أن تكون عبداً أبداً، أنت ملزوز مُضطَر معزوم عليك ومُحتَّم عليك أن تعيش حراً كريماً، هذا هو.

ولذلك يوم القيامة يُحشَر الظالمون قسمان، وكم ذا ذُكِر هذا! كم ذا ذُكِر هذا في كُتب، في مُؤلَّفات، في خطابات، في خُطب، وفي كذا! لكن هذا مُهِم جداً، يُحشَر الظالمون يوم القيامة قسمان، الذين استذلوا الناس والذين قبلوا أن يكونوا أذلاء، الذين استَضعَفوا والذين استُضعِفوا، أي بعبارة بسيطة: الظالم والمظلوم، كلاهما يحُشَر ظالماً يوم القيامة، إذن فهمنا أن الظالم ظالم، والمظلوم كيف يُحشَر ظالماً؟ لأنه رضيَ بالظلم، سكت على الظلم، وهذا غير مقبول في شرع الله، وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ۩، إذن المُستضعَف والمُستكبِر، كلاهما ظالم، المُستكبِر ظالم، والمُستضعَف ظالم، ما ينبغي أن تُستضعَف أيها المُؤمِن، يجب أن تكون عزيزاً.

الجهاد، لماذا الجهاد في سبيل الله؟ الجهاد يا إخواني ليعيش الناس – ليس ليعيش المُسلِم وحده، وإنما ليعيش الناس – أعزاء، ليعيش الناس أحراراً، ما أعظم هذا الدين! نحن نُقاتِل، هل تعرفون من أجل ماذا؟ من أجل حتى حرية الكافرين، وهذا منطق القرآن الكريم ببساطة، نحن هاجرنا وجاهدنا وقاتلنا وعشنا ومتنا من أجل أن يعيش الناس أحراراً مُكرَّمين، من أجل أن يعيش الكافر حراً حتى في كفره، لأن الإسلام لا يُكرِه أحداً على الحق أبداً، لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۩، وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۩، تخيَّلوا! هذه وظيفة الجهاد، أن تُعطى حرية وفُرصة مُتكافئة للجميع ليعيشوا وفق مُعتقَداتهم.

وهذا بعض مغزى الهجرة – إخواني وأخواتي -، الهجرة شأنها صعب وصعب، أصعب مما نتخيَّل، لأنها اختبار الاختيار، اختر! ماذا تختار؟ إما الدين وإما الدنيا، إما الدين وإما الدار، إما الدين وإما القصر، إما الدين وإما الحساب البنكي – الملايين أو الملاييم -، إما الدين وإما الراحة والسكون والدعة والبذخ والترف، اختر! وفي نهاية المطاف عليك أن تفهم أنك تُساوي ما تختاره، إذا اخترت الدين فقيمتك من قيمة الدين، شرفك من شرف الدين – بإذن الله تعالى -، وأنت الأعز، وأنت الأعلى، وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ۩، الله – تبارك وتعالى – يقول هذا، إن اخترت الدنيا فأنت تُساوي ما اخترت، إذا اخترت نخلة فأنت تُساوي نخلة، إذا اخترت ملياراً فأنت تُساوي ملياراً، إذا اخترت مليماً فأنت تُساوي مليماً.

هناك كلمة لطيفة جداً قالتها إحدى المُمثِّلات الأمريكيات، قالت مرة ماذا؟ كلمة مُمتازة، قالت حين تفوز في سباق الجرذان، في نهاية المطاف أنت تبقى جرذاً، وربما جرذاً ميتاً، الدنيا لا تستأهل كل هذا العراك من أجلها، لكن الذي يستأهل هذا ويستأهل أن نُضحي بالنفس والنفيس وبكل شيئ من أجله هو الحق والدين، دين الله – تبارك وتعالى -، أما سباق الجرذان فلا، تقول حتى لو فُزت فيه أنت تبقى جرذاً، تقول If you win the rat race, you’re still a rat, and you may be a dead one، أي ويُمكِن أن تكون جرذاً ميتاً، لا! لا نُريد أن نعيش حياة البهائم وحياة الهمل.

قد رشَّحوك لأمرٍ إنْ فطِنتَ لهُ                       فاربأْ بنفسكَ أن ترعى مع الهَمَلِ.

لا نُريد أن نعيش كجرذان، نُريد أن نعيش كبشر، كُمؤمِنين، نُترجِم عن الإيمان، لكن انتبهوا، اختبار اختيار، إنه اختبار الاختيار، عليك أن تختار، ما أرحم الأقدار بنا حين تختار عنا وتختار لنا! 

تصوَّروا – إخواني وأخواتي – لو أن الله – تبارك وتعالى – أجرى مقاديره على هذا النحو: يأتيك القدر ويُخيِّرك، يقول لك اختر، لابد أن يموت أحد اثنين: أبوك أو ابنك، هذه فظيعة، يُمكِن أن يختار مُعظَم الناس أن يموت أبوه، لكن هذه فظيعة، سيرى نفسه هو الذي قتل أباه، أو اختر أن يموت ابنك هذا أو ابنك هذا، عجيب جداً.

من رحمة الأقدار أنها لا تجري على هذا النحو، الأقدار هي التي تحسم الأمر عنا، هي التي تختار لنا، الحمد لله، لكن انتبهوا، لكن هذه الأقدار أيضاً لا تخلينا وأنفسنا، تضعنا في امتحانات سهلة وصعبة وصعبة جداً أحياناً، وتُلزِمنا وتُوجِب علينا أن نختار، تقول الآن عليك أن تختار، عند هذه المرحلة وعند هذا المُنعطَف عليك أن تختار، وكما قلت لكم إما أن تختار هذا الشيئ من الدنيا، من حُطام الدنيا، ومن متاع الدنيا، وقد يكون حقيراً دينك، وإما أن تختار دينك، وإيمانك، في نهاية المطاف إما أن تختار الدنيا وإما أن تختار الآخرة، إما أن تختار الله – تبارك وتعالى – وإما أن تختار أي شيئ سواه، وكل شيئ سواه هو صفر، هو عدم إذن، عدم!

هذا درس الهجرة، هذا ما فهمه الصحابة بكل بساطة، ولذلك تركوا كل شيئ، ولم يلووا على شيئ، لم يلتفتوا إلى الوراء، لم يلتفتوا خلفهم إلى ما تركوا، لقد تركناه مرةً وإلى الأبد لله – تبارك وتعالى -، رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم.

أما نحن المساكين، نحن الفقراء، فقراء العقل والقلب، وفقراء السلوك والنهج، نحن الفقراء، نفشل في اختبارات من أتفه ما يكون، صدِّقوني! والقدر – كما قلت لكم – لا يُخلينا من هذه الاختبارات يومياً، تقريباً يومياً نخوض مثل هذه الاختبارات، وهناك اختبار أُحِب أن أُسميه اختبار فنجان القهوة، وهذا اسم من عندي هكذا، أي خطر لي أن أُسميه هكذا، اختبار فنجان القهوة!

ما هو اختبار فنجان القهوة؟ يدعوك أحدهم على مقهى أو في مطعم، يدعوك لتشرب معه أو لتحسو معه فنجان قهوة على حسابه، وخاصة إذا كنت من الذين يعشقون المال ويكزون عليه، هذا شيئ فظيع، سنُوفِّر فنجان قهوة! تدخل معه، يجري حديث الآن، يُريد أن يستمزج رأيك في القضية الفلانية، ما رأيك في المسألة الفلانية؟ مسألة عامة، تهم البلاد، تهم الأوطان، تهم الدين، مسألة سياسية أو فكرية أو علمية أو عقدية مُهِمة، ليست مسألة شخصية فردية عن زواج وطلاق أبداً، وأنت تعلم أن سائلك هذا الذي دعاك على فنجان قهوة يميل إلى الجهة الفلانية، رأيه هو كذا وكذا، وأنت لا تُريد أن يفوتك فنجان القهوة، ولا فُرصة أن تُدعى مرة ثانية وثالثة إلى فنجان قهوة، فأنت تُسمِعه ما يُحِب، تقول له الرأي كذا وكذا، على غير ما أنت مُقتنِع به! يا رجل رسبت في الامتحان مُباشَرةً.

هل تتخيَّلوا أن الذي يرسب في امتحان فنجان قهوة يُمكِن أن ينجح لو امتُحِن في امتحان هجرة؟ يستحيل يا إخواني، والله العظيم يستحيل، في امتحان هجرة! يترك كل شيئ، يترك كده وعرقه ومُنجَزاته – من ثلاثين أو أربعين أو خمسين سنة وهو يشتغل – لله، مُستحيل يا إخواني، هذا مُهِم حتى تفهموا ما هي الهجرة، لماذا القرآن يتحدَّث عن الهجرة باستمرار، حتى النهاية، وإلى النهاية؟ لأنها شيئ فظيع، شيئ كبير جداً، أكبر مما نتخيَّل يا إخواني والله، ابتذلناها – كما قلت لكم – بالمواعظ والكليشيهات المحفوظة.

نرسب، نفشل، نسقط، ونتهاوى في امتحان فنجان القهوة، ونفشل ونفشل ونفشل، وفشلنا الأعظم أننا لا نُدرِك أننا نفشل، لا نُدرِك أن هذا فشل، لا نحزن، ولا نرثي لأنفسنا، أننا سخفاء أوغاد إلى هذه الدرجة وإلى هذا الحد، نتلوَّن حربائياً، نحن لا وجود لنا حقيقياً بهذه الطريقة، هذا وجود مرآوي، المرآة لا تعكس نفسها يا إخواني، المرآة تعكس الأشياء، وأنت الآن كائن مرآوي، أنت تُسمِع كل أحد ما يُحِب أن يسمعه، تقول له ما يُحِب أن يُقال، أنت مرآة فقط، أنت إناء فارغ، إناء زجاجي فارغ بلا لون، تتلوَّن بلون السائل الذي يُوضَع فيك، إذن لا هُوية لك، لا شخصية لك، ولا شخصية عندك، لكن المُؤمِن صاحب شخصية.

في صحيح البخاري – إخواني وأخواتي – من حديث زيد بن عبد الله بن عمر – رضيَ الله تعالى عنهما، بل عنهم جميعاً، أي عن ثلاثتهم -، يقول زيد جاء أُناس إلى عبد الله بن عمر، وقالوا له يا أبا عبد الرحمن إنا نكون عند سُلطاننا وعند أمرائنا – أي أحياناً ندخل على السُلطان وعلى الأمراء – فنتكلَّم بكلام – أي نُسمِعهم كلاماً، أنتم وأنتم، والأحوال والأمور تسير بالشكل الفلاني -، فإذا خرجنا من عندهم تكلَّمنا بخلاف ما تكلَّمنا به عندهم، وانتبهوا إلى هذا، هذا ليس عند واحد صاحب فنجان قهوة، هذا عند سُلطان، عند رئيس أو عند ملك أو عند أمير أو عند مَن مثلهم، أي هذا شيئ كبير، حاكم مُتنفِّذ مُسلَّط، ويُمكِن أن يكون هناك بعض العُذر لهؤلاء الضعاف، قالوا لكن حين نخرج نتكلَّم بالحقيقة.

قال عبد الله بن عمر – رضيَ الله عنهما – كنا نعد هذا على عهد رسول الله من النفاق، الله أكبر، الله أكبر! ولذلك يا إخواني رسول الله علَّمهم وعلَّمنا من ورائهم ومعهم أيضاً، علَّمنا أنه لا ينبغي للمُؤمِن أن يُذِل نفسه، يا رسول الله وكيف يُذِل المُؤمِن نفسه؟ قال يرى أمراً لله فيه مقال – هذه شهادة لله يا أخي، قُم بالشهادة لله، قل عقيدتك، أي قل ضميرك كما نقول بالعامية، احك ضميرك لنا – فلا يقول فيه، يسكت! 

مارتن لوثر Martin Luther يقول ماذا؟ يقول المقاعد الأكثر سوءاً في قعر جهنم أرصدها الله للذين لم يتكلَّموا فقط بالباطل، بل للذين سكتوا عن أن يتكلَّموا بالحق، والمُسلِمون من قديم قالوا الساكت عن الحق شيطان أخرس، وهناك طبعاً شياطين مُتكلِّمة – والعياذ بالله -، هناك شياطين مُتكلِّمة!

فالمُهِم فلا يتكلَّم، يرى أمراً لله فيه مقال فلا يقول فيه، الله – تبارك وتعالى – يقول له يوم القيامة يا فلان لِمَ لَمْ تتكلَّم؟ لِمَ لَمْ تقل؟ فيقول يا ربي كنت أخشى الناس، خفت من الناس، فيقول له الله – تبارك وتعالى – فإياي كنت أحق أن تخشى، لماذا لم تتذكرني؟ لماذا هبت الناس ولم تهبني؟ لماذا راعيتهم ولم تُراعني؟ لماذا خشيتهم ولم تخشني؟ لماذا راقبتهم ولم ترقبني أو تُراقِبني؟ قال فإياي كنت أحق أن تخشى.

إذن يا إخواني – أحبابي وأخواتي في الله، هداني الله وإياكم، وأنار صدورنا بعرفانه ومعارفه الربانية – اختبار الاختيار اختبار صعب، يعرض لنا تقريباً كل يوم، علينا أن نتفطَّن له، وعلينا أيضاً أن تكون لنا رؤية حقيقية فيما نختار وكيف نختار ولماذا، انتبهوا!

قد تختار ويُكلِّفك هذا الاختيار شيئاً كبيراً طائلاً، لكن صدِّقني، صدِّقني بعد هذا الاختيار تكون نجحت في الاختبار، هل تعرف ماذا ستُعطى وبماذا ستُعوَّض ربانياً لقاء ما تخليت، لقاء ما قدَّمت، لقاء ما أعطيت، ولقاء ما فقدت؟ الله سيُعوِّضك من هذا الفقد، هل تعرف ماذا؟ المنظور، سيُعوِّضك بمنظور جديد، رؤية جديدة، وزاوية جديدة، تنظر بها لنفسك وللوجود وللحياة وللناس، شيئ غريب، هذا شيئ غريب وجميل جداً.

إياكَ وإياكِ أخي وأختي أن تظن وأن تظني أن المنظور شيئ تتلقاه مني أو من غيري بالمواعظ وبالكلام، المنظور لا يُلقن ولا يُتلقى، المنظور لا يُمكِن أن تقع عليه في كتاب وأن تدرسه، المنظور يُكتشَف، ثم يُختبَر ويُعاش، عليك أن تمشي في هذه السكة إذن، عليك أن تمشي في هذه السكة!

أسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُقيِّض لنا من الفهم والبصيرة والاستبصار ما يجعلنا دائماً من الظافرين والفائزين في اختبارات الحياة واختبارات الإيمان.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وإلى أن ألقاكم في حلقة أُخرى أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. 

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: