الوسطية ومعالم الرشد الحضاري في الثقافة الاسلامية

audio

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، يا رب لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مُبارَكاً فيه كما تُحِب وترضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا نظير له ولا مثال له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله وصفوته من خلقه.

اللهم اجعل شرائف صلواتك ونوامي بركاتك ورأفة تحننك على عبدك ونبيك النبي الأمين الكريم وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩، اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً.

أما بعد، إخواني وأخواتي:

أُحييكم بتحية الإسلام، فالسلام عليكم جميعاً ورحمة الله تعالى وبركاته، وأود في البداية أن أشكر لإخواني القائمين على هذا المسجد المُبارَك، والله – سُبحانه وتعالى – أسأل أن يُبارِك في جهودهم وأن يُعظِّمها حتى ينتهي بهم إلى ما أراد لهم من خير للإسلام والمُسلِمين في هذه البلاد، ثم من وراء هذا أسأل الله – تبارك وتعالى – ألا يُؤاخِذني بما يقولون وأن يغفر لي ما لا يعلمون وأن يجعلني خيراً مما يظنون.

في الحقيقة ما تفضَّل به أخي الشيخ الحبيب مُصطفى شنديد هو من حُسن ظنه، وحظ المُبالَغة فيه أكثر من الواقع، ولكن أسأل الله – تبارك وتعالى – أن يتجاوز عنا وأن يجعلنا عند حُسن ظن عباده الصالحين.

إخواني وأخواتي:

في الحقيقة موضوع المُحاضَرة عن الوسطية ومعالم الرشد الحضاري في الإسلام، وهذا الموضوع لم أحتشد له، وفي الحقيقة أنا اخترت موضوعاً مُختلِفاً عن الوسطية والعالمية، وفُوجئت قبل الصلاة بأن هذا الموضوع الذي نُدِبت للحديث فيه، فأسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُعينني وأن يخرج مني بعض ما يُمكِن أن يكون فيه شيئٌ من فائدة.

قد يسأل سائل ابتداءً ما علاقة الأديان من حيث أتت بقضية الحضارة؟ ما علاقة الأديان بقضية الحضارة؟ وهل لا زال للأديان وجود وفاعلية ومُشارَكة في مثل هاته القضايا الكُبرى التي تدور عليها جهود الأمم الراقية والشعوب المُتحضِّرة؟ للجواب عن هذا السؤال أود أن أقول إن القرن الذي نعيش فيه – وهو القرن الحادي والعشرون – يُؤكِّد بأكثر من وجه وبأكثر من طريقة أنه سيكون قرن الروح، أنتم هنا في فرنسا والوزير والأديب الفرنسي الشهير أندريه مالرو André Malraux أطلق عبارة بلغت الآفاق، قال القرن الحادي والعشرون سيكون قرن الدين وإلا لن يكون، وهذا عجيب!

وعالم النفس الإنساني من القوة الثالثة ابراهام ماسلو Abraham Maslow الأمريكي قال في القرن العشرين إلى حدٍ ما كان يُعَد شاذاً مَن يتديَّن، مَن ينزع منزعاً دينياً، قال وأنا أجزم أنه في القرن الحادي والعشرين سيُعَد شاذاً وخارجاً عن السائد والشائع مَن لا ينزع منزعاً دينياً.

طبعاً صعود الأصوليات كما يُقال – الأصوليات المسيحية واليهودية والهندوسية وإلى حدٍ ما الإسلامية أيضاً – يُؤكِّد صحة هذه المقولات، لكن لماذا؟ لماذا أيها الإخوة انتهينا بعد مشوار طويل – إنه مشوار الحداثة كما يُقال هنا على الأقل في السياق الغربي – إلى تأكيد عودة الدين بشكل أو بآخر؟

يذكر الباحثون والمُفكِّرون الإخصائيون جُملة أسباب، في رأس هذه الأسباب فقدان المعنى وغياب اليقين، Meaningless يقولون، فقدان المعنى وغياب اليقين! وقد تضافرت عوامل شتى لتنتهي بهم إلى هذه النهاية البئيسة، من ضمنها العلموية، النزعة العلموية! ليس بمعنى تقدير العلم واعتباره وإنما بمعنى عد العلم المرجعية النهائية والوحيدة لكل فهم ولكل إدراك، ولذلك كان ينبغي على القيم الدينية والقيم الأخلاقية أن تتراجع وأن تتوارى بعيداً، وأصبحنا نشهد ما يُعرَف بالحيادية الأخلاقية Amoralism، الحيادية الأخلاقية بمعنى أن الذي يحترم نفسه كعالم وكباحث رصين وجاد يقول لست أتكلَّم في هذه القضايا فليست ذات موضوع أصلاً، لماذا؟ لأنها لا تخضع للمنهج العلمي الإمبريقي التجريبي، فأصبحت غير ذات موضوع، لكن هل هي في الحقيقة غير ذات موضوع؟ هل يُمكِن أن يُقال إن القيم الأخلاقية والقيم الروحية أو الدينية بعامة غير ذات موضوع؟

الفيلسوف الألماني النقدي الشهير إيمانويل كانط Immanuel Kant يقول أمران كلما فكَّرت فيهما ملكا علىّ جوانب نفسي: سعة الكون والفضاء – أي الكوزموس Cosmos -، والضمير الإنساني، الملكة واللياقة التي يُفرِّق بها الإنسان بين الحق والباطل، بين ما ينبغي وما لا ينبغي!

واضح أن كانط Kant بطريقة أو بأُخرى أيضاً انتهى إلى الأصول الدينية للضمير الإنساني، من المعروف عنه في فلسفته النقدية أنه أعلن عجز العقل الإنساني عن إقامة برهان عقلي محض على وجود الذات الإلهية، لكنه عاد فالتف ليقول إن الضمير الإنساني يُقيم ويُجرِّد أعظم برهان على ضرورة وجود الذات الإلهية، وأكثر من هذا على ضرورة الآخرة والحساب والدينونة، لابد أن يكون هناك عالم آخر يُقتَص فيه للمظلوم من الظالم، ويُنتصَف فيه للمهضوم من الذي هضمه حقه وبخسه ما ينبغي له، هذا مُلخَّص فلسفة كانط Kant!

إذن كانط Kant بطريقة أو بأُخرى – أيها الإخوة والأخوات – يقول بالأصل الديني للأخلاق، ولذلك يتساءلون هل يُمكِن أن تقوم أخلاق على غيرما أساس من الدين؟ والجواب باختصار دون الدخول في متاهات الفلسفة والتنظيرات مُستحيل، لا يُمكِن! كل أساس لكل أخلاق بما هي لابد أن يكون دينياً، ولذلك تفقد الحياة معناها وتفقد جدواها وتفقد مغزاها ودلالاتها الحقيقية اللائقة بإنسانية الإنسان إذا نئينا عن الدين وجفوناه ودخلنا معه في حالة مُصارَعة وفي حالة مُغاصَبة كما حدث للأسف في سياق الحداثة الغربية، هذا من جهة!

إذن العلموية أولاً، من ضمن العلموية صعود النظريات الهائلة التي هزت التصور السائد لدى الإنسان أو لدى بني البشر عن الكون والوجود، بل أكثر من هذا إنها هزت ما يُعرَف بأساس الحس المُشترَك أو العقل السليم أو الفهم السليم لدى الناس، أي الــ Common sense، اهتز هذا اهتزازاً حقيقياً، وأعني نسبية ألبرت أينشتاين Albert Einstein العامة والخاصة وبعد ذلك ميكانيكا الكم بروادها المشهورين، هذه هزت حتى أساس العقل السليم لدى الإنسان، طبعاً وقطعت إلى حد ما نسبياً أيضاً مع الموروث النيوتني – موروث العلم الميكانيكي – الذي أخذ دور الدين في التعليل ودور الدين في التفسير، إلى حد بعيد جداً أصاب العلماء بالغرور وانتفاخ الرأس كما يُقال، الآن قطعنا مع هذا الموروث إلى حد بعيد.

الدراسات الأنثروبولوجية أيضاً هي التي أفقدت الناس اليقين، من المعروف هنا في سياق التاريخ الغربي – أيها الإخوة والأخوات – أن الناس كانوا أكثر تديناً وأكثر تمسكاً بأهداب الدين وأذياله حين كانوا مُنعزِلين جغرافياً، يقول مُؤرِّخو تطور العقل والفكر الغربي وحين خرج أوائل الرحالة إلى الشرق الأقصى – بالذات إلى الصين – عادوا مصدومين وعادوا حيارى مدهوشين، وبدأ التشكيك في جدوى المسيحية، لماذا؟ لأنهم كانوا يظنون أنه لا خلاص خارج الكنيسة ولا صيغة خلاصية خارج المسيحية والحضارة إنما هي مسيحية من حيث الأصل، وجدوا هناك حضارةً عمرها زُهاء خمسة آلاف سنة، فلسفة في العيش، فلسفة في القيم والأخلاق والمسالك تُدعى الكونفوشيوسية، لم يسمعوا حتى باسم المسيح! لا تعترف به شعوب أُخرى لا من قريب ولا بعيد، هذا أيضاً أورث البشر أو أورث البشرية الهائلة غياب المعنى، غياب الدلالة، أي الدلالة، ما يُعرَف بالنسبية! الآن هنا يزعقون ويصيحون بنسبية كل شيئ، لا شيئ مُطلَقاً، هناك نسبية تجتاح كل شيئ في جميع الميادين، هذا أيضاً سبب!

الفلسفة التحليلية اللُغوية التي تصدَّرها لودفيغ فيتغنشتاين Ludwig Wittgenstein النمساوي اعتبرت أن كل ما ينتهي إليه الإنسان من أبنية إدراكية للمُجتمَع وللذات وللعالم وللوجود إنما هي لُعبة لُغوية، مرجعها دائماً انحصاري وذاتي، لا مرجع مُشترَكاً بين هذه الألعاب اللُغوية، ولذلك تتعدَّد الحقيقة بتعدد الألعاب اللُغوية، إذن لا حقيقة واحدة، إذن فقدنا المرجعية.

حتى لا أُطيل عليكم أُحِب أن أقول هذه النهاية التي انتهى إليها مشوار الحداثة وهي ما صار يُوصَف ويُعرَف بما بعد الحداثة – Postmodernism – أو مذهب أو أصالة ما بعد الحداثة كانت نتيجة طبيعية وتواصلية للعقل الحداثي، العقل الذي أراد أن يبرأ من الدين، من أوهاق الدين، ومن أبهاظ الدين تماماً وبالكُلية، ونجح إلى حدٍ ما، لم يستطع أن ينجح نهائياً، لم يُحصِّل النهاية العُظمى، لكنه نجح إلى حد بعيد أن يتخفَّف من هذا الدين، وكانت النتيجة أن العقل نفسه فقد الثقة بذاته كمرجعية، فصرنا الآن نسمع في جميع التخصصات – في الآداب والفنون، في النقد، في العلوم، وفي فلسفة العلوم، مثل فلسفة كارل بوبر Karl Popper ومنهج التزييف أو قابلية التزييف – ما يُؤكِّد أنه ما من نظرية علمية يُمكِن أن نقطع بأنها صحيحة لمُجرَّد أنها تعمل، أي It works، لا يُمكِن أبداً، قد تكون هي الباطل نفسه مع أنها تعمل الآن، حتى على مُستوى فلسفة العلم فقدنا الثقة تماماً، فكان أول ما ينبغي على هذه البشرية التائهة أن تعود لتعتصم به وتلتجئ إليه في استرداد المعنى السليب وفي استرداد المعنى الغائب هو ماذا؟ الدين، مرة أُخرى الدين! الدين الذي يُشكِّل منبع المُفارِق، يُشكِّل مُؤشِّر المُطلَق، أي Index المُطلَق، الدين وليس غير الدين!

أكثر من هذا أن درس الحداثة الأكبر ربما يُمكِن تكثيفة وتركيزه في جُملة واحدة، طبعاً الفيلسوف ما بعد الحداثي الأول – هو الأب الأول الرئيس لما بعد الحداثيين جميعاً – نيتشه Nietzsche الألماني، نيتشه Nietzsche كان يقول الإله – والعياذ بالله، اللهم غفراً، نعوذ بالله من زلات اللسان وزلقات الجنان – مات، ولم يبق إلا ظلاله، وعلينا أن ننشط الآن لمحو هذه الظلال.

تعرفون أنا أُسمي هذا النجاح في الإخفاق الكبير، لو نجح الفكر الغربي والسعي الغربي في تحقيق الإخفاق الكبير ولو نجح في الفشل الكبير – الفشل الأعظم والفشل الأكبر كان سيكون مُتجسِّداً في محو ظلال الإله – لعنى هذا وعداً بالكارثة على البشرية أو على الأقل على هذا الغرب بشقيه الأوروبي والأمريكي وعداً بالكارثة المُحقَّقة.

طبعاً لسنا ننسى ولا يُمكِن للتاريخ أن ينسى أو يتناسى أو يغفل أو يتغافل أن القرن العشرين كما دعاه مُستشار الأمن القومي في عهد الرئيس كارتر Carter هو القرن المليوني للمذابح، قرن المذابح المليونية! يقولون تسعون مليوناً، مجموع ضحايا القرن العشرين بلغ أو ناهز المائتي مليون، شيئ لا يُصدَّق! لم يحدث مثل هذا في تاريخ الدُنى، أي إن عمل جنكيز خان Genghis Khan يُعتبَر بلُغة بعضهم المجازية هو عمل حرفي أو عمل صانع يدوي غير مُتمهِّر وغير مُتمرِّس، جنكيز خان Genghis Khan كان يُقيم أهرامات من جماجم الضحايا، أهرامات! بخمسة آلاف جمجمة تُقيم هرماً مُفظِعاً راهباً، لكن مائتا مليون يسقطون ضحايا؟ ضحايا الحداثة!

لو ترون كيف أكل هذا الغرب نفسه؟ كيف صرع نفسه؟ كيف ذبح نفسه؟ كيف أمعن في الانتقام من ذاته؟ شيئ عجيب! هذا هو عقل الحداثة حين تواصل طبيعياً مع نفسه بعيداً عن المُطلَق، مُكتفياً بمقولة تطبيع الإنسان، أن الإنسان مُجرَّد كائن طبيعي غير مُتعالٍ، الإنسان ليس له طبيعة حقيقية، ليس له فطرة، ينفون أن هناك فطرة لله فطر الناس عليها وأنه لا تبديل لها، ينفون هذا ويقولون الإنسان له تاريخ لكن ليس له طبيعة، النهاية كانت قرن المذابح المليونية!

بالمُناسَبة أفتح حاصرتين أو مُزدوَجين لأُسجِّل إنصافاً للإسلام وأمة الإسلام ونحن منهم فتقبَّلنا اللهم منهم أحياءً وأمواتاً: (لسنا المسئولين عن وقوع هؤلاء الضحايا، كنا من هؤلاء الضحايا، في حرب الاستقلال الجزائري من أربعة وخمسين إلى اثنين وستين فقط القوات الجوية الفرنسية – ونحن نعيش في فرنسا – قامت باجتراح خطيئة تدمير ثمانية آلاف قرية، فقط القوات الجوية الفرنسية دمَّرت ثمانية آلاف قرية من عند آخرها في حرب الاستقلال، فيكتور هوجو Victor Hugo صاحب البؤساء والذي يتحدَّث عن البؤساء حدَّثنا كيف كان الجنود الفرنسيون في الجزائر يتقاذفون الصبيان، يقذف أحدهم بصبي صغير ويتلقاه الآخر بأسنة الرماح، يتلقاه بسنان رمحه! يتحدَّث فيكتور هوجو Victor Hugo عن هذا، ومع ذلك فيكتور هوجو Victor Hugo نفسه سجَّل تاريخه اللامُنصِف أو غير المُنصِف اتهامه المُعتسِف للإسلام بأنه دين الإرهاب، دين الدم، ودين العدوانية، هكذا! شيئ عجيب، نحن ضحايا هذا، ريتشارد بيك Richard Beck وكان نائب رئيس لجنة شكَّلتها حكومة الرئيس الأمريكي السابق رونالد ريجان Ronald Reagan بخصوص الإرهاب ومُحارَبة الإرهاب – كان هذا نائب رئيس هذه اللجنة – يقول من بين ستة تعريفات للإرهاب لم يُمكِن أن نعتمد تعريفاً واحداً، بيك Beck يقول! لماذا؟ قال بالقراءة المُتفحِّصة والمُتمعِّنة لهاته التعريفات الستة وجدنا أن الولايات المُتحِدة لا يُمكِن أن تنجو من أن تُوصَم بوصمة الإرهاب تحت طائلة اعتماد أي تعريف من هاته التعريفات، وفق التعريفات الستة ستخرج دولة إرهابية، هذا ريتشارد بيك Richard Beck، هذا ليس كلام إسلاميين أو كلام صحفيين، كلام رجل مُختَص من المطبخ نفسه، يتحدَّث من المطبخ نفسه! أما المُسلِمون فالثابت عملياً وإحصائياً أنهم من أبعد خلق الله عن الإرهاب، طبعاً هذا لا يعني أنهم لم يتورَّطوا في أعمال إرهابية، للأسف تورَّطوا وكانت أعظم إساءة للإسلام والمُسلِمين، للأسف قدَّموها للآخرين، لا أعرف على طبق من ذهب أو من فضة ولا أدري تبرَّعوا بها لوجه مَن؟ قطعاً لوجه الشيطان حصراً وأكيد للأسف الشديد، ومع ذلك نبقى أبعد الأمم عن الإرهاب وعن الدموية، في خُطبة الجُمعة – وأستمحيكم فأنا لا أُحِب أن أُكرِّر نفسي – ذكرت استناداً إلى المصادر الموثوقة أن صفحة الوثنية التي صارعت الإسلام الحنيف قد طُويت بأقل الخسائر، ومضى الإسلام والسلام معاً مُتحابين في أمان الله – تبارك وتعالى – إلى حيث شاء الله في الزمان والمكان بثمن زهيد وعدد منزور جداً، سبعون مُشرِكاً في بدر، بضعة عشر مُشرِكاً في أُحد، ثلاثة في الخندق، عشرة يوم فتح مكة، وأقل من ذلك يوم هوازن “حُنين”، وطُويت صفحة الشرك، ثم يُقال محمد دموي، محمد نبي السيف! هل سمعتم بمثل هذه التكلفة على مدى التاريخ الإنساني؟ أبداً، أنا شخصياً لم أقرأ ولم أسمع بمثل هذه التكلفة التي لا تكاد تُذكَر، في حين أن حروب الكتاب المُقدَّسة وخاصة العهد القديم بالعد والحصي تنتهي بنا إلى اثنين مليون وسبعمائة وخمسين ألف ضحية من أجل تثبيت كلام الله، من أجل الحُكم على العالم!

قد يسأل سائل هل للإسلام دور الآن ما دامت هناك صحوة ورجعة عالمية؟ أي على مُستوى العالم كله، على مُستوى الكوكب، يتحدَّثون عن العولمة، هذه العولمة الحقيقة الآن، عولمة الدين! اللاهوتي والفيلسوف المُنصِف هانس كونج Hans Küng السويسري – هذا الرجل بالمُناسَبة يعترف بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأن القرآن كتاب من عند الله محفوظ، ليس لمحمد فيه شيئ، وهو على نصرانيته، شيئ عجيب! لَيْسُواْ سَوَاء ۩، هذا من هؤلاء المُستثنين، وأسأل الله أن يختم بخير خاتمة – يقول سلام العالم مُستحيل بغير السلام بين الأديان، علينا كمُسلِمين يا إخواني وأخواتي – وأخص بالخطاب وبالتنويه إخواني العلماء والدُعاة – أن نتحسَّس قبل أن نضطلع بعظم وغِلظ المُهِمة والمسئولية التي تُلقيها اللحظة التاريخية على عواتقنا، هناك مَن هو مُهتاج ومُتوتِّر الأعصاب، الذي يبدو أنه للأسف سياسياً انتهى إلى جماعات أشبه بالعصابات تقوده، القيادات التاريخية المُخضرَمة حتى على مُستوى الدول الكُبرى وقيادات الشيوخ الذين حنَّكتهم الأيام لم نعد نشهد لها وجهاً، لم نعد نشهد لها حضوراً، الآن نشهد شيئاً أشبه بالعصابات تُدير هذا العالم، أنتم تُتابِعون طبعاً محنة هذا الأسترالي المسكين صاحب ويكليكس WikiLeaks، التسريب السريع! حين يُطالِب ذلكم الكندي على أعلى مُستوى باغتيال الرجل في الإعلام – خاصة في التلفزيون Television – يُؤكِّد هذا أن العالم إلا قليلاً محكوم بعصابات، ليس محكوماً بنُظم ولا بعقول ولا بحكمة، وإنما بعصابات! هذا مُؤشِّر خطير جداً جداً على ما يُمكِن أن يصير إليه مُستقبَل هذا العالم المُهتاج الذي تنقصه الحكمة، بل حتى أزعم أنه ربما تنقصه حتى المعرفة، إذا أردنا أن نُحارِب التعصب وإذا أردنا أن نُحارِب الكراهة أو التكاره أو الكراهية المُتبادَلة فعلينا أن نُحارِب الجهل والتزييف أولاً، لابد أن نُحارِب الجهل والتزييف! والمسألة للأسف الشديد أحياناً لا تقف عند حدود الجهل والتزييف، لأن المسافة بين الحقيقة وبين الواقع فاصلة بمقدار المصالح ما هي، وهذه المصالح نهمة لا تشبع، لا تشبع وتقول هل من مزيد؟ لذلك تتباعد الفاصلة وتتناهى إلى غير نهاية ملحوظة بين الحقائق وبين الوقائع، وهذه مأساة! مأساة مُحيِّرة لهذا الركب البشري المسكين، فأقول حتى أُغلِق الحاصرتين نحن من أبعد خلق الله – تبارك وتعالى – أن نكون بطبعنا أو بديننا إرهابيين، يُراد لنا أن نُصوَّر أننا بنيوياً Structurally نحن إرهابيون، نحن عنيفون، نحن مُتعطِّشون، بالعكس! لا يُمكِن، لا يُمكِن للمُسلِم الذي يتلو كل يوم عشرات المرات في فرض صلاته وسُنتها وتطوعها الرحمن الرحيم، الرحمن الرحيم، الرحمن الرحيم، الرحمن الرحيم أن يكون إرهابياً، حتى بالإيحاء الذاتي Self-suggestion المُسلِم سوف يُصبِح كائناً رحمانياً من تلقائه وهو كذلك، هو كذلك! يميل تلقائياً إلى قدر من التراحم غير معروف لدى الآخرين، واضح جداً! عبر التاريخ هذا حدث، عبر تاريخنا بفضل الله – تبارك وتعالى – هذا ما حدث، أقل الضحايا ضحايا الفتوحات كما يُقال، بعضهم يقول الغزوات، اليوم أنا كنت أتحدَّث مع إخواني وأحبابي من العلماء أيضاً والأوداء، وقلت لهم لا أدري لماذا نحرص أحياناً على الإساءة إلى أنفسنا؟ لماذا نحرص على الإساءة إلى أنفسنا؟ لماذا تُسمى خُطوات رسول الله – عليه السلام وآله وأصحابه أجمعين – في الدفاع عن النفس والذب عن الحياض والمِلة بالغزوات؟ يقولون غزوة الخندق، كيف يُقال غزوة الخندق؟ مَن الذي غزا مَن؟ شيئ غريب وغير مفهوم، غزوة! هل هذه غزوة؟ أربعة وعشرون ألفاً من المُشرِكين والكفرة المُتألِّبين جاءوا لكي يستئصلوا الإسلام من شأفته ويُبيدوا خضراءه، ثم قيل هذه غزوة، غزوة الخندق! وكذلك مع أُحد، غزوة أُحد! مَن الذي غزا مَن؟ هل نحن الذين غزونا المُشرِكين في أُحد؟ يقولون غزوة! كل شيئ غزوة، غير صحيح! هذا ليس غزواً، هذا دفاع مشروع ومعقول ومقبول وشرعي عن النفس وعن المبدأ وعن العقيدة وعن الحق في الحياة والحق في الاعتقاد، لكن نُصِر على ذلك، وأُغلِق الحاصرتين).

أعود الآن، إذن الأخ المُوفَّق الذي اختار العنوان كان مُوفَّقاً إلى حد بعيد، يتحدَّث عن دور الإسلام ووسطية الإسلام في الرشد الحضاري، لكن ما معنى الرشد؟ ما مُقتضيات الرشد؟

الرشد يُنافي ولا يُجامِع أول ما يُنافي الإكراه، ولستم تجدون أمةً ولا نظاماً قيمياً أو نسقاً قيمياً ولا ديناً أو مِلةً سماويةً تُؤمِن بنفي الإكراه كالإسلام، قال – تبارك وتعالى – لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ ۩، لأن الرشد يُنافي الإكراه، لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۩، لماذا الإكراه؟ وسيان أكان ما في الآية نهياً أو كان خبراً في معنى النهي، لأنه يؤول إلى النهي كما قال السادة المُفسِّرون، لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۩، وهذا الذي نستروح إليه، أنه نفيٌ لكنه يؤول إلى معنى النهي بوجه من الوجوه أيضاً طبعاً بلا شك، وإلا لا يكون للمعنى الخبري التقريري أي دلالة، لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ ۩، والأمة كانت أكثر من راشدة، أمتنا المرحومة المُصطفوية كانت أكثر من راشدة وأكثر من لمّاحة وأكثر من يقظانة حين سمت خلافة الأربعة أو الخمسة الراشدين – خامسهم هو الحسن بن عليّ، رضيَ الله تعالى عنهم أجمعين – بالخلافة الراشدة، الخلفاء الراشدون! ولما جاء مُعاوية سلبته هذا اللقب، لأنه لم يأت عن بيعة حقيقية، بيعة اختيار وطواعية وسماح من الأمة، إنما جاء باللَّتَيَّا وَالَّتِي وبطرق أُخرى، وبعد ذلك للأسف أُفِن كثير من رشد هذه الأمة، لذلك حتى الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية يقول كان مُعاوية يقول أنا آخر الخلفاء وأول الملوك، كان يقول أنا ملك، صحيح! وعاش ومات ملكاً الرجل، أما الراشدون فكانوا راشدين، لماذا؟ لأنهم أتوا عن رضا الأمة وعن مشورتها بلا إكراه وبلا تعتعة وبلا إزعاج، لذلك كانوا راشدين، كيف أدركت الأمة هذا؟

ولذلك يثور سؤال الآن من تلقائه، هل نحن راشدون الآن؟ هل هذه الأمة تعيش رشدها؟ يوم تختار الأوصياء عليها والقائمين على أمورها سيعود إليها رشدها وستقتعد مكانتها اللائقة بها تحت الشمس إن شاء الله تبارك وتعالى، عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا ۩، نحن لسنا نيأس ونرى أن بيننا وبين هذه المرحلة ما يُخبِّئه القدر ولعله لا يكون مُتمادياً بإذن الله تبارك وتعالى، لأن الأمة طال شوقها إلى هذا الرشد.

إذن الرشد يُنافي الإكراه، الرشد يُنافي الوصاية، حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ ۩، إذا بلغ الإنسان سن الرشد رُفِعَت عنه الوصاية، ووجب أن يُدفَع إليه ماله يتصرَّف فيه على ما يُحِب ويشتهي ضمن القيود العامة والخاصة المعروفة في شرع الله تبارك وتعالى، انتبهوا! إذا تحدَّثنا عن الرشد الإسلامي ضمن سياق المعنى التحضيري أو التمديني فلابد أن نُدرِك أننا أيضاً ينقصنا الكثير من الرشد، لماذا؟ انظروا حتى إلى الفكر الإسلامي، قطع شطراً لا بأس به من جهاده واجتهاده وهو يُحاوِل مرة أن يقول الإسلام دين الاشتراكية، وطلعت علينا كُتب باسم اشتراكية الإسلام، والإسلام والاشتراكية! طبعاً لم يُؤيِّد كل العلماء وكل المُفكِّرين هذه النزعة، بعضهم تصدى لها، وبعضهم لمآرب ولأُخرى قال أقرب الإسلام إلى الرأسمالية، في الحقيقة الإسلام ليس اشتراكياً وليس رأسمالياً، إنه نسيج وحده، إنه شيئ مُختلِف، شيئ مُختلِف تماماً، انتبهوا! اليوم ربما يُعتبَر أقصى الآمال لدى المُسلِم ولدى المُسلِمة أن يعيش في عالمه العربي في نظام ديمقراطي، أنا أقول لكم لا، ما ينبغي أن يكون هذا أقصى آمالنا، لأن هذه النُظم الديمقراطية – وهي بلا شك وإحقاقاً للحق أفضل بكثير من النُظم الطاغية الآخذة بخناق الشعوب والأفراد، أفضل بكثير! لكن هذه حُجة من نوع المُغالَطة Fallacy، نوع من المُغالَطة أنني أفضل لأنني لست في سوء إبليس، في نهاية المطاف أنت مُتأبلِس بطريقة أو بأُخرى – وهذه الديمقراطية أيضاً فيها جوانب مُعتِمة وهي هشة.

ريجيس دوبريه Régis Debray الفرنسي يقول هشة أكثر مما نظن، الديمقراطية هذه هشة أكثر مما نظن! الآن هي مُعرَّضة للزوال، يُمكِن أن تزول في عقد من السنين، وننتهي إلى ما يُعرَف بعهد إقطاعي جديد، إلى عهد جديد من الإقطاع أو الإقطاعية Feudalism، يُمكِن أن يحدث هذا! هذه الديمقراطية – تفكَّروا يا إخواني – هي التي تسمح لمُدير بنك Bank أن يكون مُرتَّبه الشهري نصف مليون يورو، ولطبيب مُختَص قضى عشرين سنة في الدراسة والاختصاص وتجريب ما تعلَّم – ويكون رئيس أطباء – ألا يزيد وألا يربو مُرتَّبه على أربعة آلاف يورو، عالم كبير هذا ونابغة! أما العامل المسكين والمُوظَّف العادي فيحصل على ألف يورو.

(ملحوظة) قال أحد الحضور في مصر أربعمائة جنية، فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم تفضَّل، تقسيم ثمانية كم؟ الناتج هو خمسون يورو للأسف الشديد! في حين أن مُدير بنك Bank – أيها الإخوة والأخوات – يحصل على نصف مليون يورو شهرياً، مُدير شركة سيمنز Siemens في ألمانية يحصل على حوالي سبعمائة وثمانين ألف يورو شهرياً، شيئ لا يُصدَّق! طبعاً البرلماني يُجوِّز هذا، هذا مُشرَعن! ويقول هذه ديمقراطية.

ثروات العالم – أيها الإخوة والأخوات – يستأثر بها عشرون في المائة، يتركَّزون في الشطر الغربي أو في العالم الغربي عبر ضفتي الأطلسي، عشرون في المائة! ومن العشرين في المائة أقل من اثنين في المائة يحتازون ويتغوَّلون الكم الأعظم من هذه الثروات، شيئ غريب!

أمريكا الآن فيها زُهاء أربعين مليوناً أمريكي تحت خط الفقر، هذه أمريكا ولكم أن تتخيَّلوا هذا، أربعون مليوناً تحت خط الفقر، لماذا؟ لأن هناك العشرات يمتلكون عشرات المليارت، هناك مَن يمتلك عشرين ملياراً، أي عشرين ألف مليون، بالأمريكي يُسمونه البليون Billion، هناك مَن يمتلك عشرين بليوناً Billion أو خمسين بليوناً Billion أو ستين بليوناً Billion، أرقام فلكية لا تكاد تُصدَّق! ثم يقولون ديمقراطية وحرية!

شركات عُظمى تُساهِم في تقصير عمر الكوكب كما يُقال، ليس فقط في توسيع ثقب الأوزون Ozone وإنما في تقصير عمر كوكبنا، في جعل الحياة مُستحيلة عليه للأجيال، بمعنى اغتيال مُستقبَل الأجيال القادمة، شركات تفعل هذا! ثم يأتي الكونجرس Congress أو يأتي البرلمان في هذه الدولة أو تلك ليقول هناك اشترافات، هناك مُخالَفات شاقة جداً وقاسية، على هذه الشركات التي تربح في اليوم بالملايين – تربح عشرين أو ثلاثين أو أربعين أو خمسين أو مائة مليون في اليوم – أن تدفع ضريبة لتلويث البيئة، كم؟ بحد أقصى تدفع عشرين ألف دولار، طبعاً سندفع هذا، سندفع هذا كل يوم وسوف نبقى نُلوِّث البيئة، ويقولون هذه ديمقراطية وهذه برلمانات!

يبدو أن هناك أوضاعاً غير مُتكافئة، ليس بين الشعوب والحضارات وبين القارات وإنما داخل الشعب الواحد، حتى هنا في السياق الغربي تُوجَد أوضاع غير مُتكافئة بمعنى حقيقي لعدم التكافؤ، ويُراد لهذه اللاتكافئية أن تمتد وأن تستمر، انتبهوا! والله أنا أقول لكم سيختلف الأمر يوم ترون الفكر الإسلامي يُبدِع نماذج خاصة – نماذجه الذاتية في الحُكم، في السياسة، في الاقتصاد، في الاجتماع، وأكثر من ذلك في مناهج العلوم – ويُقدِّمها لتعكس رحمانية هذا الدين، هناك كلمة واحدة يُمكِن أن يأرِز إليها وأن ينضوي تحت لوائها ويتفيأ ظلها كل تشريع وكل اجتهاد إسلامي في الأصول والفروع، وهي كلمة معيارية، تُشكِّل معياراً للاجتهاد، ترجمة الرحمانية! وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ۩، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا ۩، هذا استثناء من أعم الأحوال كما يقول النُحاة، استثناء من أعم الأحوال! سواء كان المعنى وما أرسلناك لحال أو إلا حال كونك رحمةً فتأخذ الكلمة موقع الصفة، تُصبِح صفة لرسول الله، أي أنت رحمة، يشهد له قوله إنما أنا رحمة مُهداة، من عموم الأحوال! أو من عموم الأزمان، وسواء كان الاستثناء من عموم الأزمان أيضاً فالأمر قريب، قريب من قريب، وما أرسلناك في زمن أو في وقت إلا في زمن كونك رحمةً، هذا أيضاً قريب! لذلك كل تشريع وكل اجتهاد لابد بطريقة ما أن يُترجِم رحمانية هذه الشريعة، وبالمُناسَبة هذه ذروة المقاصد، يتحدَّثون الآن عن فقه المقاصد والتجديد المقاصدي والترجيح المقاصدي، وأنا أقول لكم يُمكِن أن يُكثَّف جوهر المقاصد والاجتهاد المقاصدي في هذه الكلمة المعيارية، فقط في هذه الكلمة المعيارية! عليه في النهاية أن يُترجِم رحمانية هذه الشريعة الخاتمة.

اليوم استمعنا في الخُطبة إلى القسيس واللاهوتي الذي يقول بحق السماء مَن الذي يشك أن هذه الرحمة وهذا التسامح ليس من عند الله؟ كأنه يقول أنا أُؤمِن – انظروا إلى هذا القسيس الألماني الكبير الذي كان شاهد عيان على حرب دمياط سنة ستمائة وثماني عشر هجرياً مع الملك الكامل الأيوبي – وأُقِر بأن هذه الأمة نبت الله، هذه الأمة أخرجها الله يقول، أمة محمد هذه أخرجها الله، كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ۩، خير الناس للناس!

أيها الإخوة:

إذا أردنا أن نكون راشدين فعلينا أن نتخفَّف من أوهاق وصاية الآخر علينا، الفيلسوف المصري الفارع القامة المرحوم زكي نجيب محمود – رحمه الله وغفر له – كتب يوماً في كتابه القديم شروق من الغرب لو جاء اليوم الذي أحلم فيه ببلادي لحلمت أننا يجب أن نأكل كما يأكلون ونلبس كما يلبسون ونمشي كما يمشون لكي نُفكِّر كما يُفكِّرون، نهاية المُراد من رب العباد! أن تُصبِح نُسخة كربونية أمينة من الغربي، تأكل أكله، تشرب شُربه – وتشرب من شِربه أيضاً، من نفس المصدر والمنبع والمعين -، وتلبس كما يلبس، لكي تنجح (ربما) – وطبعاً حتماً لن تنجح، فأقول لكي تنجح (ربما) بين قوسين – لتُفكِّر كما يُفكِّر، لكن الرجل الذي كان صادقاً مع نفسه وأمته بعد زُهاء قرن كتب مقالة بعنوان توبة قلم، أعلن فيها ندمه الباكي على هذه الكلمة الجريئة الوقاح، الكلمة التي أساء فيها لنفسه ولأمته ولمواريث هذه الأمة المرحومة، لا! أدرك أننا أكثر مجادة وأكثر عراقة وأكثر قيمة وأكثر قدرة على العطاء والتجديد من أن نكون نُسخة كربونية مُشوَّهة من الغرب الكامل Perfect، لا يُمكِن أبداً، أدرك هذا وكتب مقالة توبة قلم، فعاد الرجل يزدرد تراثه الإسلامي ازدراد العجلان على حد تعبيره، يزدرد تراثه الإسلامي ازدراد العجلان!

سأل سؤالاً، ما هو الشرط الرئيس والمُقتضى العتيد للإبداع؟ لكي نُبدِع! الغرب يُبدِع على الأقل في التقنيات وفي العلوم الطبيعية وغيرها، يُبدِع! لكن نحن لا نُبدِع ولا نُقدِّم شيئاً، نعترف بهذا! لا نكاد نُبدِع نحن، نحن نجتر! إما نجتر الأسلاف وإما نجتر هؤلاء الآخرين، لكن ليس لدينا إبداع حقيقي يُشكِّل إضافة حقيقية جادة تفقأ العيون، إضافة فاقعة! لكن ما الشرط العتيد للإبداع، هل تعرفون ما هو؟ الاستقلال.

لا يُمكِن أن تُبدِع وأنت عاجز عن رؤية ذاتك، أي ما يُسمى هنا باللُغة الغربية بالاغتراب أو الاستلاب، أي الــ Alienation، المُصطلَح الهيجلي الماركسي الفيورباخي، كلهم تحدَّثوا عنه! وطبعاً هذا الآن مُصطلَح كبير جداً ومحوري في علوم الاجتماع كلها، الاغتراب! حين تغترب عن نفسك وتُسلَب عن ذلك يغدو وجودك وجوداً مرآوياً، لا وجود حقيقاً لك، لكن ما تعكسه المرآة للأسف ليس صورتك وإنما صورة الآخر، تذهب تنظر في هذه المرآة ولا تجد نفسك، تجد الآخر! حالة من الشيزوفرينيا Schizophrenia ربما أو تشظى الشخصية – هناك تشظية Fragmentation – مُزعِجة ومُخيفة جداً، مُرعِبة! تخيَّل أنك أخذت المرآة ونظرت فإذا بشخص آخر لوناً وشِكلةً وهيئةً وسحنةً، قطعاً سيُداخِلك من الفزع والرُعب الشيئ الذي يُقلقِل أركانك، هذا ما يفعله هؤلاء الذين فقدوا أصالتهم، إذا أرادوا أن يُحلِّلوا تراثهم المُتعلِّق بكتاب ربهم وسُنة نبيهم فطبعاً يُعامِلونه للأسف الشديد على أنه تراث كسائر التراث، كقصائد أبي نواس – الحسن بن هانئ – وتراث أبي حيان والجاحظ والغزّالي وابن تيمية، تراث! لكن يُوجَد فرق كبير، على كل حال هذا في خانة تراث، وهم يتوسَّلون المناهج الغربية، مرة المنهج البنيوي، ومرة المنهج التفكيكي ما بعد الحداثي، ومرة المنهج النقدي، ومرة المنهج النقدي الثقافي – إدوارد سعيد وفوكو  Foucault -، إلى آخره! شيئ غريب جداً، ينظرون إلى تراثهم، فهل تظنونهم أيها الإخوة أنهم يرونه حقاً؟ إنهم لا يرونه بأعينهم، إنهم يُحاوِلون أن يروه كما يراه الآخر، الآخر أعجز من أن يرى هذا التراث، لا يستطيع! إنه تراث مُختلِف، سياق مُختلِف، وروح مُختلِفة.

تخيَّل أنك الآن – مثلاً – تقف في الشعب الفلسطيني – مثلاً – وتُريد أن تحفز هممهم على الجهاد والنضال، وتُخاطِبهم بخطاب مونتين Montaigne أو موليير Molière – مثلاً – أو شاتوبريان Chateaubriand – نحن هنا في فرنسا – أو بخطاب الآباء المُؤسِّسين في أمريكا مثل جيفرسون Jefferson وحزبه وعُصبته، هل ستُحرِّك فيهم شيئاً؟ مُستحيل! لكن شيخ بسيط مُتواضِع أقرب إلى الأُمية يأتي ويقول رب وامُعتصماه انطلقت فيتحرَّكون، هذا ينتمي إلى مُعجَمهم، المُعجَم ليس مُجرَّد أوراق وصحائف وكلمات ومواد تُعالَج صرفياً ونحوياً وإعرابياً أبداً، المُعجَم ثقافة وكينونة مُمتَدة في الزمن، في الروح، في ذات الأمة، وفي وجود الأمة المُمتَد والمُستمِر، هذا هو!

إذن لا يُمكِن أن ترى نفسك بعيون الآخر، فإذا لم تر نفسك بالله طبعاً لن تفهمها، إذا لم تفهم ذاتك فكيف يُمكِن أن تُقدِّم علاجاً لها فضلاً عن أن تدّعي أنك قادر على أن تُبدِع صيغاً شفائية وعلاجية ودوائية للعالمين كما يقول بعض الناس؟ يستحيل، هذا مُستحيل!

لذلك علينا أن نعود أيها الإخوة إلى نوع من الاستقلال، إلى نوع من الثقة بالنفس، لا أكتمكم حديثاً أن مَن يتعانى ويُكابِد تعاطي درس الفكر الغربي – مثلاً – بمدارسه وفلسفاته وتنظيراته المُختلِفة – وهي كثيرة جداً جداً ومُرهِقة إلى حيث تحسبون – في البداية قد يُغَر عن حقيقة هذا الرُكام الهائل من الفكر، يُغَر! وقد يحسب أو يُقدِّر أن من وراء هذه الأهرامات الكبيرة عقلاً مُهندِساً ودقيقاً ويُصيب الحقيقة بطريقة حدسية – بضربات صائبة هكذا – وأننا خلو من هذا التوفيق الإلهي، لكن بعد أن يتمادى وترسخ قدمه يشعر أن من وراء كل هذاا الرُكام منطقاً فاسداً وعقلاً تائهاً غير مُترابِط.

سأضرب لكم مثلاً واحداً، جان بول سارتر Jean-Paul Sartre – صاحب الوجود والعدم وهو فرنسي أيضاً ونحن في فرنسا – استطاع أن ينقض الفلسفة الماركسية بجُملة واحدة، في رأيي كان مُصيباً تماماً، قال إذا كان بول فاليري Paul Valéry هو بول فاليري Paul Valéry لأنه ينتمي إلى الطبقة البرجوازية فلماذا ليس كل برجوازي بول فاليري Paul Valéry؟ انتهت الماركسية بضربة واحدة، صحيح!

أنا سأفعل هذا من باب المُقاصة الفكرية أيضاً مع جان بول سارتر Jean-Paul Sartre، كتابه الذي ترجمه المرحوم عبد الرحمن بدوي – غفر الله له ورحمه الله لأنه آب إلى الإسلام أوبةً نسأل الله أن تكون مُتقبَّلة – الوجود والعدم، في ترجمة بدوي يُناهِز ألف صفحة، أنا سأنقضه بجُملة واحدة كما فعل سارتر Sartre مع ماركس Marx وتراث الماركسيين بجُملة واحدة، سارتر Sartre يقول الوجود أولاً – الوجود الهيولاني – وبعد ذلك تأتي الماهية بتخليقك أنت، أنت الذي تخلق ماهيتك، لا قدر ولا تقدير إلهي، لا تُوجَد خُطة مُفارِقة، إلحاد! هذه فلسفة إلحادية، كتابه كله في الإلحاد، توسَّل الأدب والفن والمسرح وما إلى ذلك لكي يُدافِع عنه، وغرَّر أجيالاً في الشرق والغرب، أنا سأقول له أنت رفضت أن تسأل سؤال ما أنا؟ واستعضت عنه بسؤال مَن أنا؟ وأنا سأقول لك يستحيل أن تُجيب عن سؤال مَن أنا؟ إذا لن تعرف ما أنا؟ هذا هو، يستحيل!

طبعاً مشوار الحداثة الآن كله يُؤكِّد صحة هذا النقض أو التنقيض الفكري، إذا لم تعرف ما أنت؟ لا يُمكِن أن تعرف مَن أنت؟ سوف تظل غارقاً في صيرورة تبحث عن هوية قارة، عن المعنى! المعنى الذي غاب ولم يعد إلى الآن، وهذا ما حدث لحضارة كاملة، انتبهوا! ليس لشخص وليس لفيلسوف، لذلك جان بول سارتر Jean-Paul Sartre نفسه ماذا فعل بشهادة المرحوم رشدي فكّار رحمة الله عليه؟ المُفكِّر المُسلِم المصري العملاق – كان عضو مجمع الخالدين في فرنسا وكان صديقاً شخصياً لسارتر Sartre – قال أنا أشهد عليه ويشهد المُقرَّبون أنه وهو  يُحتضَر – حين كان في السياق وفي النزع – صرخ بأعلى صوته: القسيس، القسيس! ودُعيَ له بالقسيس، فجاء وصلى من أجله في آخر لحظة، سارتر Sartre إذن شطب بالقلم الأحمر على كل تراثه الإلحادي، لأنه ظل هارباً من سؤال ما أنا؟ سؤال ما أنت؟ لا يُمكِن أن يُجيب عنه حقاً وبرشد كامل وتام إلا الدين، الصيغة الإلهية! الأنسنة خارج صيغة الإيمان مُستحيلة، لا أنسنة خارح الإيمان، حتى أكثر من ذلك لا عقل خارج الإيمان، لا سُلطان على العقل إلا للعقل، هكذا نادى هؤلاء! إذن لا دين ولا شرع، ما يُسميه ميشيل فوكو Michel Foucault إرادة القوة، الإنسان الغربي يُعاني من هذا النموذج الذي استبد به وسطا عليه، إرادة القوة! لا يُريد أن يُؤمِن أن هناك سُلطةً ما تفوقه ويُمكِن أن تُملي عليه أشياء بذاتها، ممنوع هذا! لذلك لا سُلطان على العقل إلا للعقل.

هل بقيَ العقل مُعتصِماً بهذا الاعتداد بالنفس؟ أبداً، هناك ما يُعرَف بمُسلَّمة اللاتمامية أو مُسلَّمة عدم الاكتمال Incompleteness theorems، وهي للرياضي العالمي – النمساوي طبعاً – كورت غودل Kurt Gödel، غودل Gödel باختصار – أُلخِّص لكم هذه المُسلَّمة الرياضية بشكل واضح جداً وبسيط – قال كل نظام – System – أو نسق رياضي إما أن يكون في نهاية المطاف مُتناقِضاً وإما إن فيه مُسلَّمات غير قابلة للبرهنة، ولذلك تسقط الثقة حتى من الرياضيات، وهي العلم الوحيد التحليلي التحصيلي اليقيني بطبيعته.

(ملحوظة) سأل أحد الحضور مَن القائل؟ فأجاب الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم قائلاً كورت غودل Kurt Gödel، هذه مُسلَّمة عدم الاكتمال لغودل Gödel، طبعاً هو أثبت هذا رياضياً، في الرياضيات Mathematics! كل نظام رياضي قد يتناقض، إذا أردت أن تهرب من التناقع فستقع في شيئ آخر، لابد أن تُسلِّم بأسس – Foundations – مُسلَّمات غير مُبرهَنة وغير قابلة للبرهنة، هكذا! مفروضات فقط، إذن هناك فجوة، تُوجَد فجوة مُعيَّنة هناك، هذا العقل! هذا العقل الذي يُريد أن يتألَّه وأن يُصبِح مُكتفياً بذاته، للأسف فقد الثقة حتى بذاته.

في فرنسا وقف في أول القرن العشرين في مُؤتمَر للرياضيين – علماء الرياضيات Mathematics – الرياضي الألماني ديفيد هيلبرت David Hilbert العظيم ليقول بقيَت هناك ثلاث وعشرون مسألة رياضية لم تُحَل عبر العصور، هل سنكون مسعودين بحلها في قابل الأيام وفي قريبها؟ قال نعم، وأكَّد قائلاً يجب أن نعرف وسنعرف، قال Wir müssen wissen, wir werden wissen، أي يجب أن نعرف وسنعرف.

بعده بسنوات ضئيلة جداً وقف الرياضي وعلماء الفيزياء النظري الشهيد جداً فولفغانغ باولي Wolfgang Pauli يقول لن نعرف، غير صحيح! لن نعرف، ستبقى أشياء مُغلَقة، صندوق العجائب غير قابل للفتح، (ملحوظة) سأل أحد الحضور مَن القائل؟ فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم فولفغانغ باولي Wolfgang Pauli ، أحد علماء الفيزياء النظريين، هذا فولفغانغ باولي Wolfgang Pauli وهو أيضاً نمساوي، قال لن نعرف، العقل اهتز الآن إذن، حتى المُسلَّمات أصبحت مهزوزة!

يقولون الطرح الديني الماورائي الميتافزيقي الإعجازي – الذي يتحدَّث عن المُعجِزات – يُناقِض العقل، لا نُريد أن نُقيِّد العقل بالدين، لأنه يُناقِضه! أبو حامد الغزّالي – قدَّس الله سره الكريم – في أكثر من كتاب وببساطة الفقيه الأصولي المُتكلِّم الفيلسوف – مع أنه كان عدواً للفلسفة – حل المُشكِلة، قال هناك مُستويان، هناك مُستوى ما يُناقِض العقل وهذا مرفوض – قطعاً مرفوض في التفكير الديني كما في التفكير الفلسفي والمنطقي – وهناك مُستوى ما هو فوق العقل وهذا لا يتناقض مع العقل، لأنه لا يسير في عُرض العقل، إنما في مُستوى أعلى، أسلوب آخر في الإدراك!

الآن كل الدراسات الباراسيكولوجية ماذا تقول؟ بالمُناسَبة الباراسيكولوجيا Parapsychology تُوشِك أن تُصبِح علماً مُحترَماً، علماً بأنها ظلت لعقود يتغاضون عنها ويدّعون أنها علم زائف Pseudoscience، الآن استُخدِمت طرائق العلم التجريبي المُحترَمة، وغامر بعض العلماء الكبار بسُمعتهم ومثابتهم العلمية، وكانت النتيجة على غير ما يتوقَّعون، هذه العلوم الباراسيكولوجية فعلاً لها أُسس تُبرَّر تجريبياً، ويبدو أن هناك مُكوِّناً ما في الإنسان – النفس أو الروح – يعمل خارج قوانين الطبيعة تماماً.

لأضرب لكم مثالاً بسيطاً، لدينا قانون التربيع العكسي في فيزياء نيوتن Newton، بين كل جسمين قوة تجاذب تتناسب طردياً مع كُتلتيهما وعكسياً مع مُربَّع البُعد بينهما، هذا ما يُعرَف بقانون التربيع العكسي، أليس كذلك؟ هذا يعمل بهذا الشكل دائماً في إطار الماديات، لكن قوة التخاطر عن بُعد Telepathy – مثل قصة سارية بن زنيم وسيدنا عمر الفاروق رضيَ الله عنه وأرضاه – ثابت في التجارب الباراسيكولوجية أنها تعمل ضد هذا القانون، إذا كانا الشخصان مُتقارِبين قوة التخاطر تكون ضعيفة، إذا تباعدا تُصبِح أقوى، إذن عالم النفس في الروح يعمل بقوانين تُضاد قوانين عالم المادة، شيئ مُحيِّر، شيئ مُذهِل!

لي خُطبة قبل أسابيع عن موضوع التزامن، ذكرت فيها أشياء مُدهِشة – طبعاً توسَّلتها من مراجع غربية – وأكثر من مُعجِبة، وطبعاً كان فارس الميدان لعقود هو المُحلِّل والعالم النفسي الشهير كارل غوستاف يونغ Carl Gustav Jung الذي كان في البداية تَلميذاً لسيغموند فرويد Sigmund Freud ثم تمرَّد عليه، كارل يونغ Carl Jung بعد أن ثبت لديه بشكل فاقع أن هناك قوةً أو قدرةً – على حد تعبيره – تُدير هذا الكون – ولا تُديره اعتسافاً أو اعتباطاً، إنما تُديره وفق خُطة مرسومة أزلية، كل شيئ يأخذ موقعه العتيد وفق ما تُقرِّر هذه الخُطة، هذه التزامنية! هذا ما يُفسِّر لنا ما يُعرَف بالأحداث المُتزامِنة التي تتقف لكل واحد منا، هذا كان موضوع الخُطبة – قال في النهاية أنا لن أعبأ مُنذ اليوم بسُمعتي العلمية، ليسمني العلماء مُخرِّفاً، ليسموني  غير علمي، وإلى آخره! لست أعبأ لأن هذا فرض نفسه علىّ، موجود! هذه البطانة الباطنية للعالم موجودة، طبعاً القرآن يُلخِّص أيضاً هذه العلاقة المُتكامِلة بمُصطلَح الغيب والشهادة، إنهما مُتضافِران، الوجود لُحمته غيب، وسداه الشهادة، ولك أن تعكس، هذا هو! نسيج الوجود هكذا من خيطين: خيط الغيب وخيط الشهادة، يتناسجان وتنتج شبكة الوجود.

أحد علماء الفلك والفيزياء الأمريكان المشاهير يقول انتهت بنا الفيزياء بعد ألوف السنين إلى هذه النتيجة، لقد ظللنا – أي بقينا – كفيزيائيين نكشط طبقات عن وجه الله، والآن كأننا نتخايل وجهه أمامنا، صار العلم المادي كأنه يُريك الله رأي العين، لا تستطيع أن تُنكِر وأن تدّعي أن العلم يحمل على الإلحاد، غير صحيح! غير صحيح بالمرة، وطبعاً هذا يُبرهَن بنظريات وحقائق كثيرة جداً.

إذن لابد أن نستعيد ثقتنا بأنفسنا، ثقتنا بموروثنا، بكتابنا، وسُنة نبينا عليه الصلاة وأفضل السلام، علينا أن نُحاوِل أن نرفع أبنية جديدة في عالم الفكر، في عالم المناهج، وفي عالم النماذج مُستنِدين إلى الكتاب والسُنة، وهذا يسير! ليس صعباً لكن لابد له من عرق ولابد له من تعب ولابد له من مُواصَلة الجهد والاجتهاد لعقود من السنين، صدِّقوني! ليس هناك عالماً أثَّر في العالم بضربة حظ هكذا، سواء في الشرق أو الغرب، كل هؤلاء تعبوا على أنفسهم كثيراً، وكانوا أُصلاء، لذلك تركوا بصمةً وأثراً لا ينمحي، غير قابل للانمحاء ربما حتى في المدى المنظور على عشرات القرون، ونحن أيضاً – بإذن الله – مُرصَدون لمثل هذا المُهِم العظيم، لمثل هذا الشرف الجسيم، أن نُعطي البشرية نماذج جديدة ومناهج جديدة، لكن لابد أن نستقل وأن نكون أُصلاء، هذا معنى الرشد!

بعد ذلك – درس التاريخ – هل فعلناها؟ فعلناها وبجدارة، اليوم كنت أُحدِّث إخواني العلماء وإخواني المُخلِصين، قلت لهم عطاء الحضارة الإسلامية للغرب أكثر بكثير مما يُقِرون وأكثر بكثير مما نعرف، لكن نحن ربما لا نعرف وهم لا يعترفون، وتبقى الحقيقة مُخبأة مدسوسة، إنهم يدسونها خشية العار، خشية افتضاح العنصرية والمركزية، أكثر بكثير مما نظن! وحدَّثتهم بقصة رئيس وزراء بولندا حين زار دمشق الشام أيام الأسد الكبير، قال له الرئيس حافظ الأسد يا سيادة رئيس الوزراء أنا أُريد أن أعتب عليكم في مسألة، قال ما هي؟ قال له النظام الكوني الجديد الذي أتى به نيكولاس كوبرنيكوس Nicolaus Copernicus لمَن؟ هو المعروف بالــ Heliocentric system، أي النظام الذي تتمركز فيه الشمس في مركز العالم، طبعاً هي الآن ليست مركز العالم ولا مركز العوالم، لكن هكذا ظن نيكولاس كوبرنيكوس Nicolaus Copernicus، طبعاً هذه الثورة الكوبرنيكية، الآن يقولون ثورة كوبرنيكية – مثلاً – في الاقتصاد، ثورة كوبرنيكية في البيولوجيا Biology، ثورة كوبرنيكية في الفيزياء Physics، كوبرنيكية نسبة إلى كوبرنيكوس Copernicus، شيئ كبير! من آباء العلم الكبار – الأربعة الكبار – في الغرب، قال له هذه النظرية لمَن؟ قال لكوبرنيكوس Copernicus، العالم كله يعرف هذا، قال الأسد لكن الذي نعرفه نحن وأنتم تعرفونها أنها ليست لكوبرنيكوس Copernicus، كوبرنيكوس Copernicus سرقها، إنها لأبي الحسن بن الشاطر، كان مُؤذِّناً في مسجد هذا، كان يُؤذِّن في أحد مساجد دمشق الشام المُبارَكة ويصنع الساعات، وكان عالماً بالفرائض والمواريث، عالم كبير وعنده فتوحات إلهية، قال له أبو الحسن بن الشاطر هو الذي تحدَّث عن هذا النظام، وهو الصورة الضديدة أو المُقابِلة للنظام البطلمي – نظام بطليموس Ptolemy – الذي يرى أن الأرض هي مركز الكون، هذا الــ Geocentric system، غير صحيح! فهناك الـ Heliocentric system، وهذا أيضاً غير صحيح، فنكَّث البولندي رأسه خجلاً وقال نعم هذا صحيح، يعرفون هذا وثابت لديهم، نحن فعلنا هذا بفضل الله تبارك وتعالى.

جاليليو جاليلي Galileo Galilei بعد ذلك، تيخو براهي Tycho Brahe، يوهانس كيبلر Johannes Kepler الألماني، وليوناردو دافنشي Leonardo da Vinci المُهندِس والفنان والنحات وصحاب الخيال العلمي الخصيب، هؤلاء للأسف الشديد وبحسب شهادة جماعة من المُؤرِّخين الألمان – مُؤرِّخي العلوم – كانوا مُجرَّد لصوص، سطوا على التراث الإسلامي الذي بقيَ في العتمة وفي ظُلمات أبقية الكنائس لما يزيد عن مائتي سنة تقريباً، ثم أُخرِج هذا ونُسِب إليهم على أنه من إبداعاتهم الأصيلة، تراث مسروق!

جابر بن حيان، أتعلمون بحسب تاريخ العلم كم كتاب خط هذا الرجل؟ هذا في القرن الثاني الهجري، شيئ لا يكاد يُصدَّق! وفي الكيمياء فقط، في علوم الكيمياء وما يتعلَّق بها هذا الرجل خط ألف وسبعمائة كتاب، شيئ لا يكاد يُصدَّق! لا يُفهَم إلا بأنه عون إلهي وفتح رباني، مدد إلهي صمداني، ألف وسبعمائة كتاب!

جابر بن حيان هو أول مَن أشار إلى قوة الربط الذرية، أي الــ Binding energy، التي هي طبعاً أساس تفجير طاقة الذرة، وقال – بالنص والفص قال – في قلب كل ذرة – هو طبعاً لم يتحدَّث عن الذرة بمعنى الــ Atom، يقصد الشيئ البسيط جداً كالهباء – قوة، لو أمكن تحريرها لأحرقت بغداد، كيف فهم هذا؟ هذه عبقرية العقل المُسلِم.

البهائي العاملي أديب نعرفه عبر المخلاة وعبر الكشكول، أليس كذلك؟ قرأنا المخلاة وقرأنا الكشكول للبهائي العاملي، ما لا نعرفه عنه أن الرجل كان فيزيائياً مُبرِّزاً وأنه في أحد مساجد أصفهان استطاع أن يُحقِّق الصيغة التي لا تزال الفيزياء الغربية إلى الآن تُعلِن عجزها عن تحقيقها، الطاقة الخالدة! هناك طاقة خالدة كحركة خالدة أو إنارة خالدة، تستمر مُتواصِلة من غير تغذية، مُستحيل! طبعاً جاليليو جاليلي Galileo Galilei عُنيَ كثيراً بهذه الفكرة ثم سلَّم ورفع الراية البيضاء، إلى اليوم قالوا هذا مُستحيل، البهائي العاملي في هذا المسجد اصطنع أضواءً تُضيء ليل نهار دون أن تطفئ ودون أن تُمَد بأي شيئ، هذا غير مفهوم كيف.

السباع التي كانت في أحد مساجد قرطبة خمسة، وهي تقذف الماء بشكل مُستمِر، المُهندِسون الغربيون أتلفوها لكي يعرفوا سر هذه الحركة الدائمة ولم يعرفوا إلى اليوم، هذا العقل المُسلِم، عقل مُبدِع وعقل أصيل، لا يعرف الحدود، لكن للأسف تقريباً الذين بنوا أول مرصد إسلامي هم الذين هدموه، نحن الذين بنينا أول مرصد، ولما سُئل بانيه لِمَ بنيت هذا؟ – أترقب أنت؟ هل أنت بوّاب السماء؟ هل أنت حارس السماء؟ – قال استجابةً لأمر الله، لأنه أمر أن ننظر في ملكوت السماوات والأرض، ننظر نظر فكر وذكر، ثم جاء أواخر العثمانيين وهدموا آخر مرصد، هدموه لأنه – قالوا – تنجيم والتنجيم حرام، لم يُفرِّقوا حتى على مُستوى المُصطلَح بين الــ Astrology والــ Astronomy، الــ Astrology حرام، لكن الــ Astronomy هو الفلك، علم الفلك هذا! لكنهم لم يُفرِّقوا، كله عندهم Astrology فهدموه!  الآن الأمة تتراجع، الآن لا يُريدون أن يفتوا باعتماد الفهم الفلكي على الأقل لتوحيد بدايات الشهور، للأسف الشديد هذا وضعنا!

نعود أيها الإخوة، إذن نتحدَّث عن الرشد الحضاري، الوسطية والرشد الحضاري! هل ترونني سأتحدَّث عن الوسطية بعد أن تحدَّث إخواني العلماء والدُعاة الأفاضل وقد أفادوا وأجادوا؟ لكن أُحِب أن أقول الوسطية كمضمون، كمشمولات، وكمُحتوى بلا شك صحيحة تماماً، الحقل الدلالي – كما يقول علماء الــ Semantics – للوسطية بهذا المعنى تدخل فيه كلمات مُتعاضِدة وكلمات مُتنافِرة كثيرة، مثل كلمة التيسير في مُقابِل التعسير، نفي الحرج، النهي عن الغلو في الدين، الأمر بالعدل مع الناس، والأمر بالقسط، إلى آخر هذا! هذا حقل دلالي واسع جداً جداً وكله يدخل في حقل الوسطية دلالياً، لكن ماذا عن الوسطية المذكورة بالذات في آية البقرة؟ وحتى لا أنسى من المُثير واللافت جداً أنه في سورة البقرة التي تبلغ عدة آياتها مائتين وست وثمانين آية تتوسَّط آية الوسطية هذه السورة، فهي الآية المائة والسادسة والأربعون، شيئ عجيب! هل هذا مُجرَّد اتفاق ومُجرَّد مُصادَفة سعيدة؟ مُستحيل! كل شيئ في مكانه، مائتان وست وثمانون آية سورة البقرة في جُملتها، جميل! آية الوسطية هي الآية – وافتحوا المُصحَف – المائة والسادسة والأربعون، تماماً! كأن الله يُريد أن يقول لنا فعلاً جوهر الوسطية ألا تتطرَّف لأن التناهي غلط، أن تقف موقفاً بين الإفراط والتفريط، هذا جوهر الوسطية، وهذا هو المعنى الذي وُضِع عليه كما يقول العلماء – يقولون وُضِع عليه أو بإزائه، أحسن من وُضِع له – اللفظ، أي لفظ الوَسَط والوَسْط، فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا ۩، فوسطن جمع الأعداء أو جمع العدى الخيول، هذا التوسط، أقول هذه الآية لا تتحدَّث عن الوسطية كما يستروح إليها علماء العصر ومُفكِّروه، لا! تتحدَّث عنها بمعنى آخر، الرسول فسَّرها في حديث أبي سعيد وغيره وهو في البخاري وغير البخاري، رضوان الله على الجميع، قال والوسط العدل، أمة عدول! الآية تقول بجُملة واحدة هذه الأمة شهادتها غير مجروحة، شهادتها مقبولة! هذه الأمة تشهد على الأمم، والعجيب أنها جعلت لهذه الأمة الاستبداد بالشهادة على الأمم دون الحُكم، نحن لا نحكم لكن نشهد، لأن الحكم لله، لسنا أمة الإكراه، نتحدَّث عن الرشد الحضاري، لسنا أمة الإكراه! الله – تبارك وتعالى – يقول وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ۩ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۩.

إِلَى الدَّيَّانِ يَوْمَ الدِّيْنِ نَمْضِي                           وعند الله تجتمعُ الخصومُ.

الله – عز وجل – يقضي ويفصل بين هؤلاء بحُكمه يوم الدينونة، يوم القيامة! ليس لهذه الأمة أن تفصل في قضايا الناس على هذا النحو وأن تُنمِّط العالم وأن تُعولِمه الآن، فرق بين العالمية والعولمة، لا نُريد أن نُعولِم العالم، لا نُريد أن نُنمِّطه، نُريد فقط أن نعرض ما لدينا، فمَن شاء اهتدى وتضوّأ بأضوائنا ومَن شاء مضى إلى سبيله ولا حرج، هذا شأن الأمة الراشدة!

قلنا الرشد لا يُجامِع الإكراه، لا يُجامِع الإكراه من أول الطريق، هذا هو، لذلك تأتي الشهادة! فقط نحن نشهد، وهذه الوسطية – وسطية الشهادة – تقتضي ماذا؟ تقتضي أولاً العلم، على مثل الشمس فاشهد، وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ۩، وهذا يقتضي الرجوع والعود الدائم إلى الكتاب الكريم، مُلخَّص الحديث الصحيح أن نوحاً – عليه السلام – يُسأل – هذا في الصحيح – يوم القيامة هل بلَّغت قومك؟ يقول نعم يا رب قد بلَّغتهم، فيُسألون هل بلَّغكم نوح؟ فيقولون ما بلَّغنا، ما جاءنا من نذير، يكذبون! فيُسقَط في يد نوح، مَن يشهد لك يا نوح؟ يقول أمة محمد، أمة محمد تشهد لي، هذا هو طبعاً! يشهد لنوح ابن خمس سنوات، يقرأ القرآن أو يستمع إليه بوعي فيشهد، طبعاً نوح هذا قال الله عنه وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ۩، أعرف هذا – يقول هذا طبيعي – وسأشهد، تُندَب هذه الأمة للشهادة فتُؤديها على وجهها، ويقبل رب العالمين في موقف الفصل العظيم شهادة هذه الأمة، لماذا؟ لأن محمداً يشهد أيضاً لهم وعليهم، أنهم عدول!

إذن نحن نشهد بفضل ما بين أيدينا من الكتاب، من العلم الإلهي المحفوظ! الآن لم يبق على وجه الأرض كلمةٌ تتعزَّى بالانتساب إلى السماء لم تطلها يد التحريف ولم تغتلها يد التزيد والنقصان والتزييف إلا هاته الكلمات المُبارَكات، القرآن الكريم! لذلك نحن مُستبِدون بالشهادة، شهدنا بالأمس وسنشهد إلى يوم الدين بإذن الله تبارك وتعالى، ونحن عدول بتعديل رب العالمين لنا، وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ۩، لسنا موتورين، لا نشعر بأن لنا ثأراً لابد أن نأخذه من الآخرين، لسنا كذلك! نحن أمة الصفح، أمة العفو، أمة الصفح الجميل كنا وسنظل – بإذن الله – كذلك، لسنا موتورين مع أحدٍ من الناس، ولا نرجو إلا الخير للناس وللناس جميعاً، للبشرية قاطبةً طراً، هذه رسالتنا وهذا منهجنا!

الشهادة تقتضي الحضور، لا شهادة لغائب، الشهادة لها مرجعية، المرجعية محفوظة، لكن لها مُقتضيات أُخرى حتى تُؤدى على وجهها، أن تشهد على ما تخبر، على ما تعيش، شهادة معيشة نابضة! ولذلك نحن منقوصو الحظ هنا، علينا أن نشهد على العوالم بعد أن نُبرهِن أننا نعرف ما لدى الآخرين، نعرف ما يُعاني منه الآخرون، نقول لهم بعبارة بسيطة ما عندكم عندنا، وما عندنا ليس عندكم، قد آن لكم أن تسمعوا، لكن علينا أن نُبرهِن هذا، أن ما عندكم عندنا! إن لم تُبرهِن لهم هذا اغتال إنصافهم الغرور، سوف يقول لك أحدهم ومَن أنت حتى تأتي وتدعوني وتُبلِّغني؟ مَن أنت؟ ما الذي لديك؟ لا! لدي الكثير، صحيح ليس لدي طائرات، ليس لدي سُفن فضائية، ليس لدي قنابل هيدروجينية، وليس لدي تقنيات عالية وعالية جداً كالتي لدى الآخرين، لكن ما العلاقة بين هذا وبين الرؤية الكونية؟ نحن نُسميها باللُغة الإسلامية العقيدة، ويُسمونها هم الرؤية الكونية، بالمُصطلَح الألماني Weltanschauung، أي تصور العالم، بالإنجليزية الصورة الكُبرى، أي الــ Big picture، الصورة الكُبرى! الــ Worldview، أي تصور العالم، ما العلاقة؟ يُمكِن أن يكون مركبك أحسن من مركبي ومنزلك أرفه من منزلي وطعامك ألين من طعامي، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن اعتقادك خيرٌ من اعتقادي، أبداً أبداً! لا علاقة بين هذا وهذا، أليس كذلك؟ لكن حتى نستأصل هذه المعذرة أو هذه التعلة التي يعتل بها هؤلاء علينا مرة أُخرى أن تكون لنا اليد العُليا، واليد العُليا خيرٌ من اليد السُفلى وابدأ بمَن تعول، علينا أن نبدأ بأنفسنا، أن نُنمي طاقاتنا، أن نستخرج كظائم الأمم والشعوب والبلاد التي جعلها الله أغنى بلاد الله تبارك وتعالى، أعني بلاد العرب والمُسلِمين، حتى قيل إن فقر المُسلِمين فقر يمشي على أرض من ذهب، للأسف الشديد! أغنى البلاد وأفقر الشعوب، أعظم العقائد وأكثر التخبط والتيه، إلى متى هذه الحيرة؟ إلى متى هذا الضلال والتنكب؟ إلى متى؟ فعلينا أن تكون لنا اليد العُليا، نُساهِم مع هذا العالم في تحسين الحياة، في مُبارَكتها، وفي دعمها حتى علمياً وتقنياً.

أذكر دائماً بمرارة قصة للبروفيسور Professor وعالم الفيزياء النظرية المُسلِم الشهير أحمد عبد السلام رحمه الله تعالى، يقول أحمد عبد السلام في كتابه رؤى وأفكار كنت مرة مع أحد حملة جائزة نوبل Nobel في العلوم – عالم أوروبي كبير – فأنحيت عليه باللائمة، قلت له يا بروفيسور Professor أنتم مُنحازَون جداً ضدنا كمُسلِمين، لستم مُنصِفين معنا، قال بروفيسور Professor سلام سأقول لك شيئاً، قلت تفضَّل! قال بربك قل لي في القرن الحاضر هذا – في القرن العشرون الجاري – بكم دواء في الصيدلية العالمية ساهمتم؟ كم دواء اخترعتم؟ أُريد أن أفهم! قال فأخجلني، تقريباً لا دواء! لم نخترع دواءً واحداً، هم مئات ألوف الأدوية يخترعونها، نحن لم نخترع شيئاً، طبعاً لم يسأله كم نظرية عُظمى في الفيزياء – مثلاً – أو الكيمياء وضعتموها؟ هذا بعيد قليلاً عنا، لكن كم دواء اخترعتم؟ مسألة بسيطة هذه! قال له هذا هو الحاصل! لماذا أنت تطمع في احترامنا – أن نحترمك وأن نُبجِّلكم – إذن؟ ما الذي قدَّمتوه؟ هذا منطق الناس يا إخواني، النبي قال اليد العُليا خيرٌ من اليد السُفلى، هذا يحدث حين يراك مُتسوِّلاً تتكفَّف العلم والتقنية.

رحمة الله على شيخنا المُوفَّق – الشيخ محمد الغزّالي – وأعلى الله مقامه في دار التهاني، بفصاحته التي لا نظير لها وصدقه التقوائي العجيب يقول إني لأحسب أن هذه الأمة لو قيل لها ارجعوا من حيث أتيتم لم يجدوا ما يأكلون ولا ما يلبسون ولا ما يركبون، يضيعون كالأيتام على مأدبة النيام، لا نُريد أن نُعطيكم شيئاً! حتى السجّادة التي نُصلي عليها لرب العالمين كُتِب عليها صنع في الصين – Made in China – وما إلى ذلك، ما هذا؟ شيئ مُخجِل! ولا نشعر بالخجل ولا بالعار من هذا، بالعكس! قد نُعوِّض الشعور بالنقص بانتفاخ كاذب، انتفاخ سرطاني مرضي، هذا انتفاخ مرضي! علينا أيضاً في هذه الناحية أن نكون صادقين مع أنفسنا، أتحدَّث عن الرشد الحضاري، في الرشد الحضاري لابد أن نتشارك مع الآخرين في تثمير وفي تكثير ومُبارَكة أيضاً منتوجات الحضارة، وبعد ذلك نُقدِّم لهم ما لدينا من تصور كوني، من رؤية كونية، ومن عقيدة إسلامية صافية وواضحة بفضل الله تبارك وتعالى.

إتش. جي. ويلز H. G. Wells صاحب آلة الزمان والرجل الخفي وصاحب معالم تاريخ الإنسانية، انظروا إلى الفخر والمجد! يقول كان المُسلِمون إذا دخلوا بلداً لم تسر فيه المدنية – قال لم تسر، أي لم تمش – إنما كانت تقفز قفزاً.

العلّامة المُؤرِّخ الدمشقي شاكر مُصطفى يقول لقد بنى المُسلِمون سبعين حاضرة، بنوا سبعين مدينة حاضرة، من مُدن الحواضر وليس مُدن الأطراف، بنوا سبعين! عمر بن الخطّاب الذي نعرف عنه أكثر ما نعرف الدرة والعدل – درته وعدله – وما إلى ذلك، لكن لا نعرف أنه اختط سبع مُدن في الإسلام، حتى لُقِّب بأبي المُدن في الإسلام، أبو المُدن في الإسلام هو عمر بن الخطاب، تخيَّلوا! تخيَّلوا القدرة الأسطورية للإسلام في صناعة ليس الحدث وإنما في صناعة الرجال، كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ۩، هذا عمر بن الخطاب الذي كان يصنع صنمه من عجوة ثم يأكله إذا جاع، تخيَّلوا! هذا الرجل المُصارِع الذي كان يُعاقِر الخمر صباح مساء، هذا الرجل بعد ذلك يُصبِح خليفة يحكم في سبع عشرة دولة، ويبني سبع حواضر، يختط سبع حواضر! ما هذه العبقرية؟ من أين أتت؟ من أي جامعة تخرَّج؟ أنا أقول لكم من القرآن الكريم، تخرَّج من جامعة القرآن الكريم، فهمت الإسلام على نحو مُختلِف ربما تماماً على ما نفهمه نحن، رضوان الله تعالى عليه، في هذه النُقطة أيضاً لابد أن نكون صادقين مع ذاتنا ومع الآخرين، وأن نُحاوِل – إن شاء الله – استنئاف المسيرة والإقلاع الحضاري حتى نُساهِم في هذه المسيرة التمدينية.

في النهاية أُريد أن أقول العالم – كما قلت – يتجه اتجاهاً روحياً، أمامنا مُهِمة عظيمة جداً وفُرصة – هي ليست مُهِمة فقط، هي فُرصة – أيضاً، هناك تحديات بلا شك – تحديات كُبرى – لكن كما يقول المثل الصيني التحديات تُشكِّل فُرصاً أيضاً، نحن سننظر إلى هذه التحديات على أنها أيضاً فُرص، فُرص تتراكم أماماً، فُرصة ومُهِمة إذن! هي فُرصة ومُهِمة عظيمة وجسيمة.

العالم يبدو أنه يتجه – كما قلنا – اتجاهاً روحياً، المُستشرِق والدارس الشهير مونتغمري واتMontgomery Watt يقول العالم ينحو منحى التوحيد الديني، سيُصبِح هناك دين واحد! بلا شك – قال – سيشهد في داخله اختلافات، يقول كاختلافات المذاهب السُنية الأربعة داخل الإسلام نفسه، لكن في نهاية المطاف سيكون عالماً تقريباً بعقيدة واحدة، هذا شيئ جميل جداً، طبعاً رجل عبقري هو، دارس كبير! كأنه يُؤكِّد ما قاله الرسول، أن لن تزول الأيام ولن تذهب الأيام حتى يعم هذا الإسلام العظيم بلاد الله، واسع أرض الله، أربعة أسقاع المعمورة بإذن الله تعالى، ولن يبقى بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل كما في حديث أحمد وغير أحمد، هذا وعد مفعول بإذن الله تبارك وتعالى، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ۩.

اللافت أن يقول وات Watt يقول أما ما يظنه أكثر المسيحيين أن المسيحية ستكون هي دين المُستقبَل فليس هناك ظن أبعد من اليقين من هذا الظن، قال المسيحية – بالعكس – قد تكون آخر دين يصلح أن يكون دين المُستقبَل، لماذا؟ وهو مسيحي، من أصل هولندي طبعاً، هو إنجليزي من أصل هولندي! قال لأن المسيحية أثبتت عبر عصورها وإلى الساعة أنها ضعيفة أمام التمييز العنصري، لا تستطيع أن تُساوي حتى بين أتباعها، تآكلتها العنصرية البغيضة، قال على العكس من الإسلام!

في الخمس وأربعين المُؤرِّخ الأمريكي الشهير أرنولد توينبي Arnold Toynbee جاء إلى القاهرة، وألقى مُحاضَرة شهيرة ومُدوِّية، مُؤرِّخ عظيم وفيلسوف! صاحب A Study of History، قال هناك ثلاث مُشكِلات في العالم الغربي لن تجد حلاً لها في الإسلام، تخيَّل! تخيَّل أنت مُؤرِّخاً درس تقريباً سبعاً وعشرين حضارة في ثنتين وأربعين سنة -على مدى ثنتين وأربعين سنة هذا يقرأ الحضارات والتواريخ، أعني  أرنولد توينبي Arnold Toynbee، شيئ عجيب! دماغ هائل – وبعد كل هذا المشوار من الدرس التاريخي قال هناك ثلاث مُشكِلات في العالم الغربي لن تجد حلاً لها في الإسلام، أولاً – المُشكِلة الأولى وهي الأكثر عواصة – التفرقة العنصرية، الإسلام يُقدِّم لها حلاً، الإسلام وحده! وفعلاً فعل هذا عبر التاريخ، ولا يزال يفعله إلى اليوم بفضل الله تبارك وتعالى.

الإمام عليّ يقول عن سلمان الفارسي – ليس عربياً قحاً وإنما هو أعجمي، العرب يُطلِقون كلمة الأعجمي بالذات على الفارسي، بالذات يُطلِقون هذا – مَن لكم بمثل لُقمان الحكيم؟ أُوتيَ العلم الأول والعلم الآخر وهو منا أهلَ البيت، منصوبة على الاختصاص!

صُهيب سابق الروم، سلمان سابق الفرس، بلال سابق الحبشة، عمر بن الخطاب – فاروق الإسلام والخليفة المُمجَّد – يقول أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا، مَن سيدك المُعتَق هذا أو العتيق؟ بلال بن رباح – يقول – سيدنا، بلال سيدنا! بلال العبد الحبشي الأسود – يقول عمر – سيدنا، عجيب! فتوينبي Toynbee كان مُحِقاً تماماً، الإسلام ليس فيه مُشكِلة مع الألوان والأجناس أبداً على الإطلاق.

ثانياً قال والمُشكِلة الاجتماعية التي تتجلى في الأُسرة، هناك مُشكِلة الأُسرة، ضياع الأسرة! قال الحل في الإسلام، ثالثاً مُشكِلة إدمان الكحول والمُخدِّرات، مُشكِلة الكفر والهروب من العقل والوعي – حلها في الإسلام، في دين العقل ودين الوعي ودين الحضور! دين عُروة بن الزُبير الذي أبى أن يُعطى المُرقِّد، دين ابن عباس أيضاً الذي أبى أن يُعطى المُرقِّد – أي البنج – لئلا يفتر لسانه عن ذكر الله ولو لحظة، ولو لرُبع ساعة! قال لا، دين حضور! حضور الضمير وحضور الوعي.

ينتهي مونتغمري وات Montgomery Watt إلى نفس النهاية تقريباً، يقول والإسلام عنده القدرة على العطاء، هناك بعض الأشياء – قال – نلفت إليها، أن الإسلام بقوة حُججه وثقته الكاملة بنفسه قد يعمى عن مُلاحَظة بعض ما لدى الآخرين من مسائل إيجابية، طبعاً للثقة بالنفس، صحيح! هو يعرف هذا، لكنه يعود فيقول ومع ذلك يبقى الإسلام الدين الأول الذي سيُشكِّل هيكل دين المُستقبَل، المُخطَّط العام لدين المُستقبَل هو الإسلام، فيعتمد على الإسلام!

إذن الإسلام هو دين المُستقبَل، هو دين الغد بإذن الله تبارك وتعالى، لكن هذا حُلم كما قال الإمام البنا رحمة الله عليه مرةً، قال هذا حُلم ويُريد يُوسف ليُحقِّقه، أين يُوسف هذه الأحلام؟ أسأل الله أن يجعلني وإياكم يُوسف هذه الأحلام والآمال.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله، وعذراً على الإطالة

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

تعليق 1

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: