إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ۩ وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ۩ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ۩ إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ۩ وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ۩ وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ۩ يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ۩ إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ۩ وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا ۩ وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ۩ وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ۩ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ۩

آمين، صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
أيها الإخوة الأفاضل، أيتها الأخوات الفاضلات:

هناك طريقة مُستطرَفة في تمكين الإنسان من مُوازَنة أولوياته وتقويم أعماله وتفضيلاته، إنها طريقة التوهم أو التخيل بأنك على فراش الموت، على ماذا ستندم؟ وعلى ماذا ستتحسر؟ قطعاً لن يندم واحدٌ منا على أنه لم يعمل ساعات أطول، وعلى أنه لم يستهلك البقية الباقية من حياته في العمل، في الإنجاز المادي، وفي مُراكَمة الثروة، لن يندم أحد على هذا، وحتماً سيندم كل أحد على أنه لم يُول أهله – زوجته، أولاده، أبناءه وبناته – وقتاً أطول، لم يجلس معهم ساعات أكثر، لم يمنحهم من عطفه، من رعياته، من اهتمامه، من حدبه، من عنوه قدراً وكماً أكبر، الكل سيندم على هذا، طبعاً هناك أشياء كثيرة أيضاً لن نندم عليها وأشياء أُخرى كثيرة سنندم عليها، نسأل الله أن يُجنِّبنا عاقبة الندامة.

المُهِم أيها الإخوة هذه مُقدِّمة بين يدي حديث أحببت له أن يكون عن علاقاتنا داخل الأسرة، علاقاتنا مع أزواجنا ومع أولادنا، وهذا الموضوع جدير أن يكون موضوع الساعة وموضوع كل ساعة، لأنه موضوع مُتجدِّد، وقد برهن الإنسان بامتياز على أنه للأسف في مُعظَم الحال أو في أغلبه كائن يفشل في أن يتعلَّم من الآخرين، فضلاً عن أن يتعلَّم من التاريخ، ويبدو أن على كل أحد أن يخوض مُغامَرة بل حماقة تكرار الأخطاء، بعض الناس يُكرِّر حماقة تكرار أخطائه هو، ويعجز أن يُبلوِر قدرةً أو منظوراً يتجاوز فيه أخطاءه وذاته القديمة، يعيش ويموت هكذا، يكون قد حطَّم نفسه وساهم بامتياز أيضاً في تحطيم أكثر الذين حوله للأسف الشديد.

يقول المُؤرِّخ الإنجليزي الكبير أرنولد توينبي Arnold Toynbee يُمكِن أن نُلخِّص درس التاريخ في جُملة واحدة: لا شيئ يفشل مثل النجاح، عجيب أن يقول هذا هذا المُؤرِّخ الكبير الذي درس سبعاً وعشرين حضارة في أكثر من أربعين سنة، كلام له وزنه، لا شيئ يفشل مثل النجاح، هل النجاح أيها الإخوة امتياز؟ هل النجاح امتياز لطائفة قليلة جداً من البشر؟ ستقولون لي لا، هذا غير صحيح، ستقولون هذا غير صحيح! هناك الكثير من الناجحين، نجحوا في شؤون علمية، فكرية، سياسية، عسكرية، واجتماعية، نعم ولكن في شؤون مُفرَدة، وليس معنى أن تنجح في شأن ما – وليكن مثلاً شأناً علمياً حتى تتحصَّل على جائزة نوبل Nobel في هذا الميدان – أنك ناجح في كل شيئ، أنت نجحت في هذا بامتياز، وربما في نفس الوقت وفي مُعظَم الحال فشلت ورسبت بامتياز في ميادين أُخرى كثيرة، لعل في مُقدَّمتها الأسرة، العلاقة الزوجية! كثير جداً من هؤلاء النوبليين مُطلَّقون.

أينشتاين Einstein كان أكبر فاشل في حياته الأسرية، فشل مع زوجاته وفشل مع أبنائه، ألمعنا إلى هذا من قبل، برتراند راسل Bertrand Russell فاشل بل من أكبر الفشلة مع أنه من أكثر الذين تحدَّثوا عن السعادة وعن النجاح، فليس معنى أن تنجح في ميدان أنك ناجح في كل شيئ، الناجحون الحقيقيون ليس دأبهم – لا يدأبون – أن يُركِّزوا على النقاط التي تقرَّر فيها امتيازهم ونجاحهم، هذا معروف! لكنهم دائماً يُركِّزون على نقاط ضعفهم، مُشكِلة بعض هؤلاء أيضاً أنهم يُركِّزون في مرحلة الإعداد والمُنافَسة، حتى إذا اقتعدوا مكانتهم وحقَّقوا غايتهم آضوا مثل الناس العاديين، حمقى أيضاً! يُركِّزون على نقاط قوتهم ويُغفِلون نقاط ضعفهم.

ما أحببت أن أقوله – مثلاً – رجل يستعد لمُسابَقة محلية أو إقليمية أو حتى عالمية، مثل مُصطفى حسنين مثلاً، هذا البطل الكبير، زاده الله، قطعاً هو لا يُركِّز في أيام استعداده على نقاط قوته، هذه مُقرَّرة، انتهى! يُركِّز على نقاط ضعفه، لأن هذه النقاط بالذات هي التي ستشطب على نقاط قوته، وسيخرج مُباشَرةً فاشلاً، لذلك المُقرَّر مُقرَّر، إنما يُركِّز على نقاط الضعف، مَن يُريد أن يخوض مُسابَقة فكرية – مثلاً – يفعل نفس الشيئ، لا يُركِّز على نقاط تفوقه، وإنما على نقاط ضعفه، مَن يُريد أن يدخل امتحاناً – يلتحق بامتحان – لا يُركِّز على ما يُجوِّد، وإنما على ما لا يُحسِن، هذا هو الناجح الحقيقي، صاحب الاستراتيجية القاهرة وليست المقهورة كما يقول علماء الإدارة، هذا هو وليس الأول، لكن أكثرنا اعتاد أن يُركِّز وأن يستهلك نفسه وغيره في تقرير حقائق امتيازه في نقاط بأعيانها، عرفنا هذا! لكن عليك أن تلتفت كثيراً وأن نستثمر البقية الباقية من الفُرص في تقوية نقاط الضعف أو تلافيها بحسب نوعية الضعف المشكي منه، هذه واحدة!

أُريد أيضاً كمُقدِّمة أن أقول مثل هذه الأفكار لن يُفيد منها كل مَن لم يُطوِّر مهارة الوعي بالذات، علماً بأنها أقل المهارات نمواً لدى البشر، لو عملنا اختباراً سنعلم هذا، وقد قام بهذا علماء النفس مئات المرات إن لم يكن آلاف المرات، ودائماً تكون النتيجة أن البشر جميعاً أضعف ما يكونون في هذه النُقطة بالذات، الوعي بالذات! ما معنى الوعي بالذات؟ الوعي بالذات يعني أن تُحاوِل أن تتجاوز ذاتك، كيف أتجاوز ذاتي؟ أن أتجاوز إطاري المعهود المُصطنَع في التفكير، كل إنسان منا له إطار في التفكير، إطار في المُعتقَدات، وإطار في السلوكات والتعاملات، تعوَّد عليه، اكتسبه بمرور الأيام، يُسمونه بالألمانية Paradigma، بالإنجليزية Paradigm، هذا الــ Paradigm عليك أن تُحاوِل أن تتجاوزه.
طبعاً لن تتجاوزه من خلاله، وإنما من شيئ أوسع منه، أي أن تُحدِث فراغاً وفاصلةً بينك وبين إطارك لتتأمل أولاً أفعالك، علماً بأن هذا يُعرَف في المنطق أو في المُصطلَح الديني بحساب النفس، فالصورة الفلسفية والسيكولوجية لمُحاسَبة النفس هي هذه، أن يكون لك ولديك وعي بذاتك، أن يكون لك لحظات استبصار ناجمة عن لحظات تركيزية مُكثَّفة من تحليل الذات، بإنشاء الفاصلة هذه ومُحاوَلة مُراقَبة أفعالي، ثم إذا أردت أن أُقوِّم هذه الأفعال فلابد أن أُراقِب وأن أُحاكِم دوافعها وحوافزها، حقيقة هذه الدوافع! أحياناً الإنسان يُقسِم أعظم وربما أصدق الأقسام على صحة نيته، وهو صادق في حدود الشعور، لكنه في ما وراء الشعور غير صادق بالمرة، لأنه ليس مُستبصِراً بذاته، أحياناً ينقم أحدنا على نفسه، لِمَ أنا مُتناقِض إلى هذه الدرجة؟ مشاعري مُتناقِضة، مشاعري ليست مُتناقِضة إزاء حالة واحدة، أي Ambivalence، لا! هذا معروف، وإنما مُتناقِضة بطريقة أُخرى، مصداق للتناقض المنطقي! لاحظنا هذا ونُلاحِظه يومياً حتى في الناضجين، في الراشدين، وفي مَن دخلوا في العقد الرابع والخامس والسادس من أعمارهم، يكون له اليوم موقف – مثلاً – من قضية مُعيَّنة أو من فلان الفلاني، موقف مُؤسِّس على الإعجاب والمديح والإطراء والإشادة، غداً – نعم في يوم واحد، وهذا حصل عدة مرات، أنا أرقب هذا – يختلف الموقف بالكُلية، يُصبِح هذا القدّيس إبليساً، كيف هذا؟ كيف؟ لأن هذا الشخص غير واعٍ بذاته، الشخص الجاهز لإصدار الأحكام السلبية والإيجابية وإشهاد الله عليها غير واعٍ بذاته، هذه مُشكِلته! المسكين صادق لكنه غير واعٍ بذاته، كيف؟ إلى الآن الأمر لم يضح، سنُوضِّحه أكثر.

حين تكون واعياً بذاتك – تُقوِّم وتُحاكِم أفعالك ودوافعك وحوافزك وبأكثر من طريقة وبأكثر من مُقارَبة لكي تصل إلى درجة مقبولة من الشفّافية مع النفس – ما الذي يحصل؟ تبرأ من حيلة خطيرة جداً جداً، كلنا تقريباً مُصابٌ بها، حيلة الإسقاط! الذي لا يستطيع أن يُحقِّق هذا يتعامل مع الكون ومع المُجتمَع ومع العلائق على أساس إسقاط ذاته على كل مَن وما حوله، فيرى كل ما ومَن حوله مِن خلال ذاته، وهذه حالة نرجسية بلا شك، هذه حالة نرجسية وتمركزية حول الذات، فالناس عنده طيبون أو خبيثون بحسب الموقف الراهن منه، اليوم طيبون وغداً خبيثون، اختلف موقفهم منه! لا يستطيع أن يُحاسِب نفسه لحظة، أن وضعه أيضاً اختلف، شخصيته اختلفت، موقفه اختلفت، والناس بدهي أن يختلفوا، لا! هم خبيثون، هم غير جديرين حتى بالثقة، هم ملاعين، هم ليسوا طيبين، هم مُعقَّدون، هم مفصومون، هم مرضى، هم مُختَلون، وهكذا! في الحقيقة هو غير الطبيعي، هو الجاهل بذاته، هو الجاهل بنفسه، ولذلك من قديم – من أيام سقراط Socrates – قالوا هذا، سقراط Socratesعنده عبارته المشهورة التي كُتِبت على واجهة معبد دلفي Delphi: اعرف نفسك، يقولونها اعرف نفسك بنفسك، لكن غير ضروري هذا الحشو، اعرف نفسك، مُهِم جداً أن تعرف نفسك، مَن عرف نفسه عرف ربه لها تفسيراً – لكن لا نستطيع أن نذكره الآن – في مُنتهى العمق والطرافة، لكن ما نذكره اليوم سيُمهِّد لفهم هذا التفسير، لكنه عميق جداً جداً وغير مسبوق.

الآن تُسقِط نفسك على ما ومَن حولك، ما النتيجة؟ انتبه! هذه النتيجة معهودة فينا وهي كارثية، ستُحاسِب نفسك من خلال دوافعك، ودائماً أنت بريء، دوافعك نزيهة، دوافعك طيبة، وكما قلت تُشهِد وتُقسِم عليها بالله تبارك وتعالى، وستُحاسِب الآخرين أبداً ليس من خلال دوافعهم وإنما من خلال أفعالهم، يا ما شاء الله على العدل! الآخرون يُحاسَبون من خلال أفعالهم، وأنت تُحاسَب من خلال دوافعك، ما هذه الفوضى؟ ما هذا الظلم؟ وما هذا الحيف؟ انتبه! هذا يُؤشِّر إلى عدم الوعي بالذات، إلى شخصية غير مُكتمِلة، غير ناضجة، وبالمُختصَر غير واعية بنفسها.

أما الشخصية التي اصطنعت هذه الفاصلة وأدمنت أن تصطنع هذه الفاصلة لكي تكون على مبعدة وتقتحم عقبة النرجسية والإسقاط وتُقوِّم أفعالها ودوافعها وحوافزها وبنوع من الصدق والشفّافية قريب من الموضوعية الحقيقية وإن كان إلى حد ما فإنها شخصية يُمكِن أن تُؤدي الدور المُعاكِس تماماً، تُحاسِب نفسها من خلال مواقفها وتُحاسِب الآخرين بافتراض دوافع طيبة لهم، وهذا أيضاً موجود وحاضر في تراثنا الديني، يقول العارفون ماذا؟ انتبهوا! هذه الآن الصيغة الصوفية العرفانية لهذا الكلام السيكولوجي والفلسفي العميق ربما على بعضنا، ماذا يقول العارفون؟ إذا عاملت نفسك فتشرَّع، بمعنى ماذا؟ لا تتكلَّم عن الدوافع، تكلَّم عن المواقف والأفعال، عن الوقائع! يقولون تشرَّع، شريعة! وإذا عاملت الخلق فتحقَّق، أي حاول أن تكتسب بقدرك، بقدر نُضجك، وبقدر وعيك بذاتك منظوراً إلهياً، حاول أن تفترض لهم الافتراضات الطيبة، حاول أن تتقمص حالات ضعفهم، هشاشتهم، مراراتهم، عقدهم ربما، مشروطياتهم كما نقول دائماً، وظروفهم المُختلِفة عن ظروفك والتي ربما ألجأتهم أن يكونوا بهذا الضعف، بهذه الهشاشة، بهذا الحرص، بهذا الطمع، بهذا… بهذا… وبهذا…

أمس كنت أقول لأحد إخواني الآتي، هناك رجل وعلى مرأى من الناس يجتهد في إحراجك وفي تحقيرك وفي تسويد وجهك، وأنت تستطيع ببساطة أن ترد عليه بجُملة واحدة، لأنه مثابة لما يُحرِج ولما يُسوِّد الوجه، لكنك لن تفعل، لأنك أكبر وأنضج، بالعكس! هو يُحاوِل أن يُسيء إليك وأنت ترحمه، تقول المسكين يُحاوِل أن يُنفِّس بطريقة خاطئة عن مشاكله التي نعرفها جيداً، لن نكون أعواناً لنفسه ولشيطانه ولزمنه عليه، بالعكس! سنرحمه وسنُعطيه الآن راهناً ما يُحِب، لعله يتزن قليلاً، إنه – هذا المسكين – جدير بدموعنا وليس بضرباتنا، لكن هذا لا يفهمه إلا مَن نضج، إلا مَن نضج حقيقةً!

رجل أراد أن يشتري سيارة، وهي السيارة الأولى في حياته، طبعاً فرحته به كُبرى وفرحة أُسرته، لكن أحد أصدقائه الأثيرين لم يُكلِّف خاطره أن يُبارِك له سيارته مع عائلته – مثلاً – في الأيام الأولى، تأخَّر عليه جداً، حتى ذهبت بهجة الجديد، وأوشك الجديد أن يكون قديماً، وتدور الأيام دورتها، ويُفكِّر هذا الآخر – ويبدو أنه غير ناضج بما فيه الكفاية – أن يشتري سيارةً، وهي ليست الأولى في حياته، ويُصِر على الآخر أن يحضر برنامج التحضير لشراء السيارة قبل أن تُشترى، هو وذووه! ويُلبي الآخر مُباشَرةً، من باب الشفقة ومُراعاة الحالة النفسية لهذا الذي لم ينضج، انظروا الفرق بين البشر، فرق كبير! طبعاً هذا حصل وتم دون أن يعي الأول المسكين أياً من ذلك، الأمور عنده طبيعية، عنده نمط مُعيَّن، وهو غير واعٍ بذاته، مسألة خطيرة جداً جداً!

أنا أود دائماً وأُحِب لنفسي ولإخواني – والله العظيم – أن نسمع هذا، وأتحسَّر! أقول هنيئاً للأجيال التي تلتنا والتي لديها فُرصة أن تستمع هذا الكلام وأن تقرأه وأن تُعمِّق خبراتها وحياتها بمثل هذه المفاهيم، أما نحن فلعل ما بقيَ من بقية في أعمارنا تكون ظرفاً للاستدراك، لماذا؟ لأننا حقيقةً كشعوب عربية وربما مُسلِمة بشكل عام للأسف نفتقر إلى العمق وإلى النُضج، نحن سطحيون إلى درجة مُحزِنة، هذا الذي تقرَّر عندي حقاً، سطحيون إلى درجة مُحزِنة! المفروض على الأقل من علماء الدين الكبار أن يكونوا أبعد الناس غوراً وأعمق الناس عمقاً ما تعلَّق الأمر بقضية الإنسان والمُجتمَع والعلائق، لكنهم أبعد خلق الله من ذلك، وسوف ترون اليوم هذا! في خُطبتي اليوم – مثلاً – سنُبلوِر فلسفات مُعيَّنة، للإثم، للخطيئة، وللتوبة، هي غير مطروقة، بل وغير مُحبَّذة ومُتعاطَف معها في التراث الديني – حتى المُعاصِر – بالمرة، مع أنها حقائق قرآنية صُلبة.

المُهِم حتى لا نُطوِّل بالمُقدِّمات نأتي الآن إلى موضوعنا، والبداية ستكون مع المُفاضَلة بين أسلوبين أيضاً، أسلوب كيف نتصرَّف؟ وأسلوب كيف نُفكِّر؟ وسأسألكم سؤالاً يا أحبابي، هل تظنون أننا مُتعاطِفون أكثر مع الأسلوب الأول أو الثاني؟ واضح أننا أهل الأسلوب الأول، نحن أصحاب الفتوى، وعقلية الفتوى، واستجداء الجواب، وتحميل الآخرين همومنا ومشاكلنا، نحن دائماً – حتى حين تنجم مُشكِلة لنا – مُباشَرةً أول ما نُهرَع إليه كيف نتصرَّف؟ ماذا نفعل في هذه الحالة؟ هذه الزوجة المُشاكِسة العنيدة الخيتعور الكذا والكذا ماذا أفعل بها؟ لقد عيل صبري معها، أأطلقها أم أستبقيها؟ ويسأل المُفتي، ويسأل أصدقاءه، ويسأل أباه وأمه، ويسأل ذويه ومعارفه! والخيارت محدودة جداً، يُطلِّق أو يستبقي؟ إذا طلَّقت فسيكون هذا خراب بيت كما يُقال، وإذا استبقيت فسيكون هناك نكد وغم مُتواصِل عليك وعليها طبعاً، الطريقة فاشلة من الأول! هذا الولد المُراهِق الملعون الذي اختلف طبيعي أن يختلف، لأنه لم يعد ذاك الصبي الغِر، صار مُراهِقاً، انتبه! بدأ يُصبِح رجلاً حقيقياً، إذا أردنا أن نُفلسِف كلمة توينبي Toynbee – لا شيئ يفشل مثل النجاح، درس التاريخ كله في كلمة واحدة: لا شيئ يفشل مثل النجاح – بحسب نظرية توينبي Toynbee  نفسه في التحدي والاستجابة في نشوء وفشل نشوء الحضارات فسنقول النجاح هو أن تنجح دائماً فرداً أو أسرةً أو مُجتمَعاً أو حضارةً في أن تُنتِج استجابةً تتلاءم وتتواءم مع التحدي كماً وكيفاً، نجحت! ستنشأ الحضارة، ستسقر الأسرة، ستنضج شخصيتك، ستتكامل ذاتيتك، نجحت! طبعاً وإذا فشلت فستفشل، لكن السؤال المُهِم الآن: ولكن هل إذا اختلف التحدي وأصررت أنت على أن تُبلوِر نفس الاستجابة ستنجح أم ستفشل؟ طبعاً ستفشل، ولذلك نفشل نحن، نظن أننا نجحنا مع أبنائنا وبناتنا وهم في سن الصغر، طبعاً بطريقة ما كلنا تقريباً ناجح، كلنا ذلك الناجح! لكن عند المُراهَقة وعند بدء تفتح الملكات الحقيقية العميقة والغرزية للشخصية – لا نتكلَّم عن الجنس وحده، هذا جانب من جوانب كثيرة جداً جداً، لكن نحن همنا كله هنا، كله في هذه النُقطة بالذات، فشلنا ونجحنا في هذه النُقطة، وهذا غير صحيح، هذا ابتسار واختزال مُخِل جداً – تختلف التحديات، وهنا تختلف بعيداً وكثيراً، لكننا نُصِر على بلورة نفس الاستجابات، فنحن الفشلة، سنفشل وسنُحمِّل الزمان والمُجتمَع والبيئة والعادات والتقاليد والتلفزيون Television والفيديو Video والناس والقضاء والقدر… و… و… كل شيئ سنُحمِّله المسئولية، أما نحن فبرءاء، حاولنا اجتهدنا ولكن لم ننجح، طبعاً لأننا لم نُحاوِل بالطريقة الصحيحة، ولا بالجهد اللازم، ولم نُتابِع! نحن نظن أننا حاولنا، وفي الحقيقة نحن لم نُحاوِل، نحن اعتبطنا، نحن تعسَّفنا، فالفشل بنا جدير، من هنا يأتي الفشل، انتبهوا! من هنا يأتي الفشل.

فنحن أصحاب أو مزاج عقلية كيف نتصرَّف؟ تسأل الطبيب كيف أتصرَّف؟ أنا مُوافِق ومعك، لأنه من الصعب أن يكون لكل منا طبه ونظرياته الطبية والعلاجية، صعب! هنا مقبول أن تتحرَّك بعقلية كيف أتصرَّف؟ ليس عندنا أي مُشكِلة، وتلتزم حتى بالدوزنة التي يكتبها الطبيب بدقة مُتناهية، ليس عندنا مُشكِلة! لكن في مجالات أُخرى أنت تسأل الآباء والأمهات والمعارف والمشايخ والمُفتين والقُضاة والأساتيذ والمُعلِّمين – تسأل كل مَن حولك – كيف أتصرَّف؟ وهذا غير صحيح، هذه مسألة مذهبية، ستحتاج دائماً إلى فتوى، فتوى في الاجتماع، فتوى في الدين، وفتوى في كل شيئ! ستحتاج إلى فتوى مُستمِرة.

طبعاً ألا تظن، ألا تعتقد، وألا تتوقَّع أنك في هذه الحالة لم تحل مُشكِلتك؟ أنت تتوسَّل مَن يحل هذه المُشكِلة لك، هذا هو طبعاً! وهل يستطيع هذا الأجنبي عنك وعن أسرتك وعن بيئتك وعن كل المشروطيات المُعقَّدة جداً والتي أنت بها أعلم على الأقل – هكذا المفروض أن يكون الحال أو الأمر – أن يحل مُشكِلنك أحسن منك؟ تسأله كيف أحل؟ ماذا أفعل؟ غير صحيح! الصحيح أن ننطلق من عقلية مِزاج كيف نُفكِّر؟ ستقول لي هذا صعب وصعب جداً، طبعاً هذا صعب وصعب جداً، ويضعك أمام مسئوليات جمة، في رأسها أن تُنمي مهارة الوعي بذاتك، هذه واحدة، أن تتغيَّر أنت أولاً أيها الأب، أن تتغيَّر أنت أولاً! أيتها الأم أن تتغيري أنتِ أيضاً أولاً، بدل أن تُحاوِل تغيير الآخر أو تغيير الموقف غيِّر ذاتك، ربما العيب كله منك! ألست أنت الذي ساهمت أكبر المُساهَمة في تشكيل هذه الشخصية العنيدة المُشاكِسة التي لا تُصغي، لا تسمع، لا تلتزم بالأوامر، والتي لها أخطاؤها وخطاياها و… و… و…؟ أنت! أنت أكبر المُساهِمين، أنت المسؤول، هناك مُساهَمات لأطراف أُخرى، لكن أنت الأكبر إن لم تكن أكبر المُساهِمين فتحمَّل مسئوليتك، انتبه! تحمَّل مسئوليتك، عليك أن تُنمي ملكة الوعي بالذات، وطبعاً كل جُملة من هذه الأشياء تحتاج إلى مُحاضَرات، وليس أن تُكثَّف كلها في خُطبة، لكن هذه مُجرَّد إلماعات، هذه واحدة!

ثانياً أن نتخذ أو نصطنع المبدأ المُشار إليه قُبيل قليل، أن تكون البداءة منا نحن، إذا أردت دائماً كما أدمنت على أن تُحمِّل الكون كله المسئولية – صدَّقني – فالمُشكِلة ستبقى باقية وستتكرَّر بدرجات أشد وأخطر، إذا رجعت لتُحمِّل نفسك المسئولية فهذا يعني أنك بدأت تضع أول خُطوة في الطريق الصحيح في سبيل حل المُشكِلة، وستحلها مهما كانت صعبة! الأفكار التي أقولها اليوم – وهي قليل من كثير – حاولت أن أُطبِّقها وهمياً، ما يُعرَف بالتجربة الذهنية في علم الفيزياء، حاولت أن أعمل وأن أصطنع تجارب ذهنية، وتملَّكني حدس قوي جداً جداً، أنها ستنجح، كما نجحت في حالات كثيرة، ستنجح في حالة نموذجية مُخيفة وقعت، أنا رأيت أنها ستنجح بإذن الله تعالى، لكن علينا أن نُتقِن هذه الأساليب، أن يكون لدينا الجسارة والجراءة أن نتعمَّقها وأن نفهمها، هذه الأساليب!

إذا أردنا أن نبدأ بعقلية ومِزاجية كيف نُفكِّر؟ فأول ما ينبغي أن نُفكِّر فيه هو إعادة النظر في الموقف من معنى التربية، حين كنت صغيراً ثم شاباً – ويبدو أنني كنت شاباً غِراً أيضاً كغيري – كنت أنظر إلى أب حازم وأم حازمة نجحا في تخريج أولاد – أبناء وبنات – مُستقيمين، مُريحين، غير مُتعِبين، نجحوا في اجتياز الامتحانات وتحصيل الشهادات العُليا وبناء أسر مُستقِرة أيضاً، على أنهم أوفوا على الغاية في تحقيق الأهداف التربوية، أعتقد أن أكثر من تسعين في المائة منكم الآن ومنا جميعاً ينظر نفس النظرة، لكن حين كبرت ونضجت المسألة اتخذت وجوهاً أُخرى، وصارت خاضعة لمُحاكَمة جديدة، وصرت أتساءل: جيد، نجحوا هذا النجاح الموصوف، لكن إلى أي حد نجح هؤلاء الحزمة أو الحازمون في ترك أولادهم يخبرون الحياة بأعمق معانيها – بحلوها ومُرها – وأن تكون لهم أخطاؤهم التي تلد صواباتهم أيضاً كما كانت لنا نحن – الآباء والأمهات – أخطاؤنا التي تعلَّمنا منها؟ إلى أي حد؟ إلى أي حد تعمَّق هؤلاء المُستقيمون؟ وبالمُناسَبة مفهوم الاستقامة لدينا مُشوَّش تماماً وهو غير ديني، غير قرآني! وسوف يأتيكم الآن مفهوم الاستقامة قرآنياً، عكس ما نتوقَّع، مفهوم الاستقامة لدى كل علماء ديننا ولدينا هو مفهوم خطي، بمعنى أن الصراط المُستقيم صراط حقيقي، وكم وكم أقول تخدعنا المجازات! ليس العيب عيب مَن أتى بالمجاز، العيب عيب المُسطَّح ذو البُعد الواحد الذي يذهب مع المجاز إلى آخر شوطه، فإذا المجاز ينقلب إلى حقيقة وتضيع الحقيقة، انتبهوا! وسأقول هذا حتى أُوضِّح، لأن هذا مُعقِّد جداً، لابد أن أُوضِّح هذا!

مفهوم التقوى – مثلاً – بلا شك هو مفهوم يُحدِّد المُستقيمين، المُستقيم لابد أن يكون من المُتقين، وإن لم يكن من أئمة المُتقين، على كلٍ من المُتقين، مفهوم التقوى عندنا يبدو أنه يُشارِف ويُتاخِم مفهوم العصمة، إنسان بلا ذنوب وبلا أخطاء، وإن كانت فلتكن أصغر الصغائر، وإن وقعت فلينزع عنها حالاً، غير صحيح! القرآن يرى أن ارتكاب الفواحش نفسه لا يُخالِف مفهوم التقوى، بشرط طبعاً، عجيب! أين هذا؟ سوف نرى، سوف نرى هكذا إذا عُدنا إلى القرآن، الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۩… إلى أن يقول وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً ۩، إذن تاريخ حياة المُتقي – الــ History الخاص بالمُتقي – ليس تاريخ المعصوم، انتبهوا! بالعكس هو تاريخ فيه لطخات، فيه فواحش، ربما فيه زنا، فيه شرب خمر، فيه سرقة، فيه رشوة، فيه ربا، فيه مشاكل! وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً ۩.

أنا أعلم الآن أن المثالي منكم يُغرِق في المبادئ الأخلاقية إلى درجة تُعميه عن طبيعته، أعني عن الطبيعة البشرية، بعضنا يفعل هذا، وبعضنا يُزيِّف دور مَن يفعل هذا، يُحاوِل أن يُفهِم الناس أنه مُستغرَق في المبادئ الأخلاقية إلى هذه الدرجة التي تُعميه عن أخص خصائص الطبيعة البشرية، في حين أنه مُلطَّخ بالذنوب، في السر وليس في العلن، هذا نفاق، انتبهوا! مفهوم التدين عنده مضروب في جذوره، غير صحيح! هذا غير صحيح بالمرة، ولذلك سُئل العارف بالله – شيخ الطائفتين، شيخ العارفين في وقته، وشيخ علماء الشريعة – أبو القاسم الجُنيد هل يزني العارف؟ وهذا سؤال عجيب وجسور، هل يزني العارف؟ هل يزني؟ فسكت الشيخ الكبير – قدَّس الله سره – ثم قال وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا ۩، عجيب! طبعاً ستفهمونها أو يفهمها بعضنا من زاوية ماذا؟ أنه إن كُتِب عليه هذا الشيئ فسيقع فيه، لكن هذا غير صحيح، هو يُريد إفهامنا أنه من لن يُشطَب من ديوان العارفين، أنا أفهمها من زاوية أنه قد يقع فيه ولن يُشطَب من ديوان العارفين، بتوبة صادقة يعود ويقتعد أيضاً مكانته في زُمرة العارفين، الله أكبر يا أخي! ما هذا الدين؟

المثالي لن يُعجِبه منطق القرآني، لا أقول منطقي، هذا منطق كتاب الله، وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً ۩، في وصف مَن؟ في وصف المُتقين، في تحديد المُتقين! وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ۩ أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ۩، عجيب جداً، ليس هذا فقط!

أيها الإخوة:

مُصطلَح المُصطفى والمُصطفَين – أي مُصطلَح الاصطفاء – يُعادِل في أذهاننا بحسب ثقافتنا الدينية السائدة ماذا؟ النبوة، أليس كذلك؟ الرسالة، أليس كذلك؟ لكن هذا غير صحيح، بحسب القرآن الكريم يُعادِلكم جميعاً، مُحسِنكم ومُسيئكم! يا معشر المُوحِّدين – حيا الله هذه الوجوه – أنتم جميعاً مُصطَفون، مُصطفَون! وهذا سؤال تحدٍ، انتبهوا!  ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۩، مَن هم يا رب؟ مَن هم؟ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ۩، مُصطفى لكنه ظالم لنفسه، ومن المُصطفَين! فَمِنْهُمْ مِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ۩، يجتزئ ويكتفي بالفروض دون أن يُمعِن في التزلف إلى الله بماذا؟ بنوافل الطاعات، هذا هو المُقتصِد، طبعاً الظالم لنفسه – بالعكس – هو المُفرِّط في الطاعات والمُحتقِب للآثام، كُبريات وصُغريات! لكنه مُؤمِن، وهو من أهل الكتاب، ليس اليهود والنصارى، وإنما نحن! الذين أورثنا الله الكتاب، من أهل الكتاب! سنفهم ما معنى أنه ورث الكتاب، هذا هو مربط الفرس كما يُقال، فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ۩، وبدأ به، والعجيب أنه بدأ به، الله أكبر! لأن أكثر هذه الأمة هم من الذين ظلموا أنفسهم، لكنهم – بعون الله – في النهاية ناجون، انتبهوا! ناجون بمعنى أو بآخر، فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ۩، الآية من سورة فاطر، كيف؟ كما قلت هذا سؤال تحدٍ، كيف؟ كيف نكون من المُصطفَين ومنا وفينا الظلمة لأنفسهم؟ هل تعرفون لماذا؟ لأن الاصطفاء والتقوى والاستقامة والعبودية لا تعني التزام خط أو مسار واحد لا يحيد عنه المرء، كذب على الطبيعة البشرية! لن نستطيع ذلك، مَن نحن؟ نحن طين وماء ونفحة ربانية، لن نستطيع! لم نُعَد، لم نُهيأ، ولم نُخلَق لكي نكون ذلك، إذن لكنا ملائكة، بالمُناسَبة فكَّرت في هذا الموضوع، أنا أرى أن الملائكة لا تُوصَف بأنها لا كملة ولا تتكامل، هي الملائكة وحسب، أما نحن فنحن الذين نتكامل.

الله – تبارك وتعالى – يُريد أن يُفهِمنا – هذا هو سر الآية، مفتاح الآية، ولغز الآية – أن مَن كان عنده الرؤية – ما معنى الرؤية؟ – التي تُحدِّد له الهدف والغاية وهو مُؤمِن ومُنشرِح الصدر يكون على خير، والمسكين عنده إرادة ونية، ظروفه مُعقَّدة كثيراً ونحن نعرف هذا، عنده إرادة أن يُحقِّق الغاية وأن يصل إليها، يسمو إلى هذا لكنه يقوم مرة ويعثر مرات، يتقدَّم خُطوة ويتأخَّر ربما أُخرى، أو يتقدَّم خُطوتين ويتأخَّر خُطوة، في نهاية المطاف هو صاحب رؤية، وعلى هذا الأساس يبدو أن المجاز في وصف الصراط بأنه صراط مُستقيم لا يصح أن يُفهَم على أنه توجه مساري أبداً، فالمجاز مرتان، في أنه صراط – الطريق إلى الله صراط – وأنه مُستقيم، لا يصح أن يُفهَم على أنه توجه مساري أبداً، بل هو مُجرَّد توجه، كيف هو تُوجه؟ ما الفرق بين المسار والتوجه؟ جميل!

أنت الآن تنطلق من بيتك وتقود سيارتك من فيينا إلى أي مدينة أُخرى مثل غراتس Graz أو لينتس Linz، أي مدينة! هل تأخذ مساراً واحداً بشكل يتعامد على أفق المدينة؟ مُستحيل، بالعكس! أنت تأخذ مرة ذات اليمين ومرات ذات الشمال ومرات تعلو ومرة تهبط ومرة كذا! لكن أنت توجهك صحيح أو غير صحيح؟ (ملحوظة) قال أحد الحضور صحيح، فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم نعم، الــ TomTom هذا أو الـــ Navigation system يقول توجهك صحيح، أنت في كل ساعة أو في كل دقيقة تقترب من غراتس Graz، مهما انحرفت هكذا أو هكذا أنت توجهك سليم، هذا معنى ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۩، توجههم سليم! لذلك قد يكون أحدهم عارفاً أو تقياً ويأتي فاحشة، لكن ماذا؟ يخزه ضميره، يعيش مشاعر القلق، مشاعر الأرق، لا يطيب له نوم ولا طعام ولا شراب، يسفح الدمع المغزار، يُسارِع ويُبادِر بالتوبة، قد يتأخَّر وتُقبَل هذه التوبة، ويفرح بها الملأ الأعلى ويُسَر بها رب العالمين، يفرح بها – لا إله إلا هو – فرحاً عظيماً جداً، وهكذا يغدو هذا الخطأ الفاحش وتغدو الفاحشة سبيلاً للوصول، لقد سحرناها بدل أن تسحرنا واعتقلناها بدل أن تعتقلنا، لقد ألقينا عليها من ماذا؟ من كيمياء إيماننا بالتغيير، من كيمياء بالله وبأنفسنا، أننا قادرون أن نتغيَّر! من سحر التوجه السليم، ومن سحر الرؤية الإلهية السليمة التي تقود الحياة، فإذا بهذه الخطيئة تعود لتخدمنا، كما قال مولانا ابن عطاء الله رب سيئة أورثت ذلاً وانكساراً خيرٌ – أي عند الله – من حسنة أورثت عُجباً واستكباراً، تعمل خيراً ثم تذهب إلى جهنم، وتعمل شراً ثم تذهب إلى الجنة، كيف؟ بالعواقب.

ما أُحِب أن أقوله هو الآتي، انتبهوا! ولذلك نحن لم نُعَد لكي نكون أولئكم الجامدين، لا أقول الكملة، لأنهم ليسوا كملة، إنما أعدنا الله وهيأنا لكي نتكامل، الله – عز وجل – بحكمته وبرحمته الواسعة يعلم أننا لا نتكامل بطريق الصح وحده، إنما بطريق الصح – أي الصحيح – الحق وبطريق الصحيح الخارج المُتولِّد من رحم الخطأ، صدِّقوني الصحيح الذي أعطاه الأب الحازم والأم الحازمة لأولادهم فلم يحيدوا وفهموا الاستقامة على أنها مسار وليس توجهاً أفقدهم عمق الحياة وعمق التجربة وعمق الشخصية وعمق الذاتية، بل وقوة الذاتية، انظروا إلى كل مَن يُزعَم أنهم مُستقيمون لم يحيدوا، تروا فيهم ضعفاً غير طبييعي في الشخصية، أليس كذلك؟ مثل الخجل، يخجل أن يتكلَّم، يخجل أن يُناكِص، يخجل أن يُبادِر، يخجل أن يُمانِع، يخجل أن يعتذر، ما هذا؟ ما هذه الشخصية؟ لكنها مُستقيمة، لا يقطع فرضاً، لم يرتكب المسكين أي ذنب، ماذا قدَّم للحياة هذا؟ ماذا زاد الحياة عمقاً؟ لا شيئ، هذا إنسان ميكانيكي، هذه آلة! هذه آلة بُرمِجت، هذه آلة وُضِعت على سكة حديدية، هذا خطأ المُربي غير الناضج، وضع أولاده على سكته الحديدية هو، لكن اختلفت حتى هذه السكك وأنت لا تدري، إلى أين ستذهب بهم هذه السكة؟ إلى أين؟ إلى صورة مُشوَّهة منك أنت، وأنت مُشوَّه من أبيك، غير صحيح! أنا أقول من حق الإنسان أن تكون له أخطاؤه، لأنه مُعَد لذلك، هذا ليس إغراءً بالخطأ وليس دعوةً إلى الغلط، لكنه دعوة إلى ألا يُحطِّمنا الغلط إذا غلطنا، دعوة إلى ألا نُحطِّم أولادنا إذا غلطوا أو أخطأوا، حصل! من حقهم أن يُخطئوا، انتهى، ليست هذه نهاية الدنيا، لا تتحطَّم أنت، لا تُستنزَف أنت، لأن ابنك أو ابنتك أخطأ مهما كان هذا الخطأ، حتى ولو بارتكاب فاحشة، لا تيأس ولا تجعله ييأس، لا تُلزِمه أن ييأس ويكفر بنفسه أبداً.

أنا أقول لكم حقيقة يومية، نحن بالذات الراشدين الكبار ألا نُخطئ؟ كلنا ذلكم الخطّاء، أخطأنا كثيراً ولا نزال نُخطئ، أعرف هذا وتعرفون هذا، أليس كذلك؟ هل خشيَ أحدكم أو أحدنا على نفسه يوماً أن يُحطِّمه الخطأ، أن يكون خطأ بلا عودة؟ لا، دائماً يُخطئ ويعلم أن هذا الخطأ لن يُحطِّمه، ويؤوب إلى التوبة، كلما ضعف طبعاً يُخطئ ثم يؤوب إلى التوبة، ويعلم أنه لن يُحطِّمه لأن التوجه عنده سليم، أليس كذلك؟ النبي – صلى الله عليه وسلم – قال مثل المُؤمِن كمثل الفرس المربوط بآخيته، الآخية أو الأخية هي الوتد لكن يكون في الحائط، إن كان في الأرض سُميَ وتداً، إن كان في الحائط سُمي آخية، فالفرس المربوط بآخيته ماذا يفعل أو ماذا تفعل؟ تجول أقصى اليمين ثم أقصى اليسار، لكن الوجهة مضبوطة والمكان مُحدَّد، انتهى! والمُؤمِن كذلك، يجول أقصى اليمين وأقصى اليسار ثم يعود، لأن التوجه السليم، أين الضلال؟ وأين الكارثة؟ حين لا يكون التوجه موجوداً، هنا المُصيبة، هنا التحطم الحقيقي للشخصية، هنا تقويض أركان شخصية الإنسان، الإيمان يُعطينا – بفضل الله – التوجه السليم، ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۩، حتى الظالم هو من المُصطفَين من عباد الله، لأن عنده الكتاب، يقرأ الكتاب ويسمعه في التلفزيون Television وفي الراديو Radio، يسمعه من الناس، يسمع آيات الكتاب! من الصعب أن يكون ذلكم الضال ضلالاً بعيداً ومُبيناً إن شاء الله، لا! هو يضل ضلالاً نسبياً ومرحلياً، ما دام التوجه سليم سيصل، لكن هذا سيصل إلى لينتس Linz بعد ساعتين وهذا سيصل بعد عشرين ساعة، لكن سيصل، سيصل! وهذا هو جوهر مذهب أهل السُنة والجماعة، كل مُوحِّد عنده أسس الاعتقاد السليم سيكون في النهاية من الناجين، وهذا صحيح، وهذا تقتضيه رحمة الله، وفق هذه الفلسفة التي شرحنا وذكرنا!
نحن لم نخش ولا نزال لا نخشى على أنفسنا أن تُحطِّمنا أخطاؤنا، لِمَ نستفظع أخطاء أولادنا ونشعر أن الولد – وبالذات البنت – لو أخطأ فقد تحطَّم بالكُلية؟ لِمَ؟ هل تعرفون لماذا؟ لأننا فشلنا فعلاً أن نُقنِع أنفسنا بأننا نجحنا في تخريج أولاد – أبناء وبنات – مُستقِلين، عندهم نقاط ارتكاز ذاتية، ينطلقون من قناعاتهم الذاتية المُبرَّرة، وأحياناً عبر تجربة الخطأ والصواب، لم نفعل هذا! مُنذ البداية حميناهم عن كل شيئ، منعناهم من كل شيئ، وظننا أن هذه هي التربية، هل فهمتم؟ نخاف عليهم من الصورة، من الكلمة، من الهمزة، من النُكتة، من الصاحب، من الشارع، ومن كل شيئ! لم ننجح، كبروا وهم شعروا بفراغهم وبأنهم هُو، فراغ سحيق، فشعروا بالنقمة علينا، على هذا الأب وعلى هذه الأم!

وبالمُناسَبة نحن نُمارِس أحياناً – أقول أحياناً – أبشع درجات الأنانية حين نزعم أننا نُحِب أولادنا ونعمل على مصلحتهم ونُحاوِل فهمهم وهم لا يفهموننا، ونحن في الحقيقة أنانيون! تعرفون نتلمَّح ماذا؟ لا نتلمَّح أن يكونوا – كما قلت – شخصيات مُكتمِلة مُعمَّقة لها وجهتها ومراكز ثقلها ولها تجاربها ولها أخطاؤها ولها صواباتها، لا! هذا لا يهمنا، ممنوع أن يكون لهم مكانة، ممنوع! هكذا قضاء وقدر، ولكن كل ما يهمنا ونتلمَّحه أن نفوز باستحسان الناس إذا رأوا مُستوى أولادنا التعليمي والفكري والسلوكي والديني، الولد يُصلي والبنت مُحجَّبة وكل شيئ على ما يُرام، أربعة وعشرون قيراطاً! نحن نُرائي بهم، هؤلاء المساكين استغللناهم، انتبهوا! هم وسيلة لإشباع أنانيتنا دون أن ندري، ولذلك نجعلهم بالمُناسَبة موضع فخر، وهذا يُؤذيهم نفسياً!

حين كنت صغيراً كنت لا أُحِب لا من أستاذي ولا من والدي ولا من مشايخي أن يطروني أمام الناس، كنت أشعر بحرج شديد، ولا أُحِب هذا! هل تعرفون كيف؟ حين كبرت حللت هذا الشعور وإذا به شعور كل الأطفال، هذا الشعور يُعطيك انطباع أنك شيئ يُتحدَّث عنك، أليس كذلك؟ ليس من حقك أن تتحدَّث عني كشيئ، مثل سيارتك! سيارتي مُمتازة، موديل Model 2007، كم سلندر Cylinder، كم حصان، وكم حمار! لا تفعل هذا، هذا ولد، هذه شخصية مُستقِلة، هذه ذاتية مُنفصِلة، لا تتحدَّث عنه باستمرار بهذه الطريقة، تحدَّث في غيبته، وانتق كلماتك وانتبه إلى أسلوبك جيداً جيداً، هو أذكى مما تخيَّل.

قبل أيام حدَّثتني سيدة، قالت لي يا سيدي أنا مُحتارة جداً، أنا أُحِب ابنتي إلى حد الوله، لكنها تصدمني كل حين وآخر بقولها أكرهك، قلت لها كم عمرها؟ قالت زُهاء عشر سنوات، قلت طبيعي! سأقول لك شيئاً واصدقيني، قالت تفضَّل، قلت لها حُبك لابنتك حُب مشروط، قالت لم أفهم، طبعاً لم تفهم! هذه أفكار غير سائدة لدينا وغير معروفة أصلاً، ولن تُفهِم بسرعة هذه الأفكار بالمُناسَبة، قلت لها حُبك لابنتك حُب مشروط، ولذلك هو يُساهِم في تدميرها وفي تقويض شخصيتها دون أن تدري، قالت كيف؟ قلت لها طبعاً ابنتك إذا أحسنت في الدراسة، في الالتزام، في السمع والإصاخة، في تنظيف البيت، وفي تنظيف غُرفتها فإنها طبعاً تأخذ أحسن الجوائز، القُبل والضم والعناق والإطراء، أليس كذلك؟ قالت طبعاً، قلت وإذا أساءت فإنك تدعين عليها، خلَّصنا الله منك، أنتِ كذا وكذا يا مُشاكِسة، لعنك الله يا بعيدة، ركبك قرد، كالعرب! مُتخلِّفون، والله تخلف هذا، والله العظيم! هذا تدير للشخصية، قالت هذا يحصل يومياً، قلت طبعاً، والنتيجة يا مسكينة أن هذه البنت أصبحت غير آمنة، لا تشعر بالأمان، طبعاً هي لا تعرف هل هي محبوبة أو مكروهة، في ساعة يُقال لعنك الله، ركبك قرد، وخمسون ألف شيئ، وفي ساعة تضمنيها، البنت لا تشعر بالأمان، مهما حاولت أن تضميها وأن تُقبِّليها لا تُصدِّق هي هذا، لأن المسكينة تشعر أنها ليست محبوبة لأنها فلانة، ليست محبوبة لذاتها، المحبوب سلوك مُعيَّن فيها! لكن الإنسان مُنتِج سلوك، هو مصنع سلوكات، والسلوكات تختلف!

طبعاً يأتيني مُتفلسِف لا يستطيع أن يصل إلى هذا العمق ليقول لي وهل الإنسان غير سلوكه؟ طبعاً يا سيدي غير سلوكه، الإنسان أكبر من سلوكه وأكبر من مجموع سلوكاته أيضاً، خليفة الله! هذا شيئ أكبر مما تخيَّل، حتى الطفل هذا! سيقول لي لا، كيف هذا؟ أنا أصلاً حين أبنى علاقة مع أي إنسان سواء كان زوجي أو زوجتي أو ابني أو ابنتي أو صديقي أو أستاذي أو شيخي – إلى آخره – أبنيها على السلوك، طبعاً لأنك ناقص، أنت لا تستطيع أن تُعطي حُباً غير مشروط، لأنك لم تُعطه، فاقد الشيئ لا يُعطيه، وسأُوضِّح هذا!

ما معنى هذا يا إخواني؟ معنى هذا أن ابنك هذا الآن الذي فعل فعلاً استوجب مقتك وغضبك ولعنتك بعد ساعة قادر على أن يفعل في نفس الصدد فعلاً يُناقِضه تماماً، أليس كذلك؟ هل ابنك هو السلوك الأول؟ لا، لأنه فعل نقيضه، هل ابنك هو السلوك الثاني؟ لا، لأنه فعل نقيضه، ما ابنك؟ هو شيئ غير هذا وغير هذا، لكنه مُؤهَّل وبالقدرة الكامنة – القدرة الكامنة وليس القدرة الفعلية – قادر على أن يُنتِج كل هذه الضروب من السلوكات، وقادر أن يُعزِّز وأنت تُعينه وعلى أن يُعزِّز سلوكاً منها أو آخر، يُسمونه التعزيز في علم النفس، قادر! أنت قادر على أن تُعينه على أن يُعزِّز السلوك الحسن وعلى أن يجتث السلوك السيء، فإذن هو أكبر من سلوكه، وبالتالي سأتصرف جيداً إذا أخطأ ابني أو ابنتي، حتى المُراهِق إذا أخطأ بأي طريقة سأفعل هذا، لكن الخطأ عندنا نحن العرب ليس على هذا النحو، ودعونا نكون صريحين، أنا أُحِب أن أُقدِّم رسالة هنا، ولا أُحِب أن إتفلسف ولا أن يُقال تكلَّم بكلام جميل، والله لا أُحِب هذا، ليس هذا هدفي، هدفي أن أكتسب وأن أُكسبِكم أو أُساعِد في إكسابنا وأن نتعلَّم جميعاً سويةً كيفيات عملية في مُواجَهة الحقائق والوقائع والمشاكل، حتى لا نُحطِّم أنفسنا ونُحطِّم أولادنا في هذه الديار، الوضع مُخيف هنا! طبعاً في بلادنا أيضاً مُخيف، لكن ما يحصل أننا ننجح لتظاهر القوى الاجتماعية على جميع المُستويات على قمع شخصية الناشئ المسكين، يُقمَع – وكما قلنا – يكون هو المُستقيم، لكن المُستقيم الغِر البسيط، بعمق اثنين سنتيمتر نفسياً واجتماعياً وفكرياً وفلسفياً، ليس عنده خبرة حياة، تعرفون أحياناً أتحسَّر على الفكر العربي نفسه والإسلامي، أتمنى أن أقرأ لمُفكِّر عربي الآن أو إسلامي عبارات يصح أن تكون استشهادات، أي Zitaten مثلا! عبارات تُقال هكذا للعالم، لكن لا أجد، لابد أن أقول هذا لأكون صريحاً معكم،وأنتم تعرفون هذا، لأن لا عمق حقيقياً لدينا، لا عمق حقيقياً! سخافة وتسطيح وتبسيط لكل الأمور يا أخي، لكل الأمور! باستدعاء نصوص وأبيات شعر وحكم يظنون أنهم فهموا الحياة، وفي الحقيقة يُساهِمون في تحطيم الحياة والأحياء دون أن يدروا وإن حسنت نواياهم!

قالت لي يا سيدي هذا ما يحصل معي بالضبط، قلت جرِّبي أن تُعطي أولادك حُباً غير مشروط، إذا أحسن ابني فسأضمه وأعتنقه وأقول له أُحِبك، برافو Bravo، استمر يا ابني، وفَّقك الله، وإذا أساء في الدراسة وما إلى ذلك فسأقول له يا ابني أتمنى لك التوفيق في المرة القادمة، أُحِبك يا ابني، وأضمه أيضاً، وأقول له أنت تستطيع أن تتحصَّل على أحسن من هذا، وأنا أعرف هذا وأنت تعرف هذا، لعل شغلتك الألعاب أو التلفزيون Television أو الأصدقاء، لكن ستكون في المرة الثانية أحسن، وقُبلة! هذا الطفل – صدِّقوني – لا أقول سيدفع ثمناً لكنه سيُكافئ هذه الثقة وهذا الحُب غير المشروط، بماذا؟ بالإنجاز في المرة القادمة، أو الثالثة أو الرابعة، شبَّهها ستيفن كوفي Stephen Covey – صاحب الكُتب التي تُوزَّع بالملايين في شؤون التنمية البشرية وتنمية الطاقات الذاتية – بشجرة البامبو Bamboo أو البامبوس Bamboos الصينية، ما أحسن هذا التشبيه! قال هذه الشجرة العجائبية تُوضَع بذرتها في الأرض وتُتعاهَد بالرعاية والسقي والتسميد أربع سنين، أربع سنوات! دون أن يخرج شيئ باستثناء بُرعم صغير يخرج من البصلة، بُرعم صغير جداً، أربع سنين! ولكن في السنة الخامسة يا أحبابي تبسق هذه الشجرة لتبلغ ثلاثين متراً في عنان السماء، في سنة واحدة!

فاعمل واعمل بطريقة صحيحة وفكِّر بكيفية سليمة وتصرَّف وفق ما تُفكِّر وستأتي سنتك الخامسة، الرسالة واضحة! ستأتي سنتك الخامسة مع زوجك، مع نفسك، مع أصدقائك، ومع أولادك، فكِّر بهذه الطريقة! لابد من هذا الحُب غير المشروط.

من أروع ما يتوسَّله علماء النفس لإيضاح الحُب المشروط وغير المشروط قصة المُجند الأمريكي المسكين البائس – يبدو أنه عاش بائساً ومات بائساً – الذي خاص غمار حروب عدة وقُدِّر له دائماً أن يعود منها سليماً مُعافىً، حتى إذا كانت آخر هذه الحروب قُصِفت الطائرة التي يستقلها ففقد إحدى يديه وإحدى ساقيه وإحدى عينيه أيضاً، ودخل المشفى يُعالَج علاجاً طويلاً وأُجريت له عمليات جراحية، فاتصل أهله أو هو اتصل بهم فقالوا هل صحيح ما سمعناه أنه حدث معك كذا وكذا؟ نحن مزعورون ونحن حزانى! قال أبداً، أنا سليم مُعافى، لم أُصب بسوء، لم يمسسني بسوء، ولكن لي صديق، هو أعز الناس علىّ هنا، وليس له مُساعِد أو مُعين أو مُواسٍ إلا أنا، قالوا ما له؟ قال فقد إحدى يديه وإحدى ساقيه وإحدى عينيه، هل تسمحون لي باصطحابه معي إلى البيت لكي أرعاه وترعوه معي؟ قالوا أما أنت فأنت ابننا وحبيبنا وعلى الرحب والسعة، أما هو فنعتذر عن استقباله، قال حسنٌ، إلى المُلتقى!

أغلق السماعة وأخذ مُسدَّسه وأنهى حياته، لأنه علم إذن أنه حين كان محبوباً كان محبوباً لأنه عائل، لأنه يُساهِم مادياً، لأنه مُكتمِل جسمياً، أما الآن هذه الأسرة ليس عندها القدرة العاطفية ولا النفسية أن تتقبَّل حالة كالتي وصف، وفي الحقيقة هو كان يصف ذاته كما سمعتم، أخذ الطريق مُختصَراً وأنهى حياته، لا مكان له في عالم لم يتعلَّم الحُب غير المشروط!

نحن بالذات لم نتعلَّم الحُب غير المشروط، أبداً لم نتعلَّمه، أبداً لم نسمع به، في المدرسة كنا نُعاني من هذا، الكابوس الذي كان يعتادني في المدرسة هو كابوس إنهاء عُطلة صيفية وبدء يوم جديد في المدرسة، مع أنني كنت من الأوائل، وهذا كابوسي! المدرسة كابوس، لماذا؟ لأن الأستاذ حين تُجوِّد في الإجابة يأمر الجميع بالتصفيق، صفِّقوا له! وأحياناً يحتضنك أو يضع يده على كتفك، يُربِّت عليك، وحين تُخطئ يا أخي – أنا أتعلَّم لأنني طفل – يصفعك مُباشَرةً على وجهك – والصفع على الوجه ممنوع – أو يضربك بالمسطرة أو بالخيرزانة أو بأي شيئ، قلت لأحد إخواني فقال لي يا ليت كان الأمر على هذا النحو، قال لدينا كان يقول صفِّقوا، وإذا أخطأت يقول لهم دِّقوا الأرض بأرجلكم وبنعالكم، أي يا حمار، أكرمكم الله، الحمار الحمار! ما هذا؟ ما هذه التربية؟ أين الحُب؟ أين التشجيع؟ كلام فارغ، ويتحدَّثون عن التشجيع! تشجيع ماذا؟ هذا ليس تشجيعاً، هذا تحطيم، كله تحطيم! تشجيعك تحطيم وعقابك تحطيم يا مُحطَّم، لأنك مُحطَّم ومُهشَّش، يقولون مُدرِّس تربية وتعليم، لم يترب ولم يتعلَّم، لم يفقه شيئاً هذا، في أمة لم تفقه شيئاً الآن للأسف الشديد، وفي البيت نفس الشيئ، كقصة هذه السيدة المسكينة المُتيَّمة بابنتها، والتي ابنتها أكثر صدقاً حين تقول لها لا، أنتِ تكرهينني، لا تُحِبينني، ليس هكذا الحُب!

بما أننا في الأسرة فهذا يُوجَد حتى في حديث الأزواج والزوجات، يقول نعم أخذتها، يوم أخذتها كنت أُحِبها جداً، كذب الأبعد! لماذا؟ في الحقيقة أنت لم تُحِبها، وأنت لا تعرف معنى الحُب يا أبعد، أنت ربما حُبك له مدخل جنسي، أحببت صدرها الناهد وقوامها الخمصان ووجهها المُنضَّر وشعرها المُرسَل المُهفهَف، هذا ما أحببته! أنت لا تعرف كيف تُحِب الإنسان لذاته، لمُقوِّمات شخصيته الثابتة، التي – كما قلنا في خُطبة قريبة – تنضج كلما مر الزمن ولا تبهت بحمد الله تبارك وتعالى، الزمن يُعطِب الثمرة ويُعفِّنها، إلا الإنسان! الإنسان الذي يتكامل بالزمن، حتى وإن أصبح ثمانينياً أو تسعينياً، يزداد جمالاً، لكن جمال الباطن، ليس جمال الجلد والتجاعيد، يزداد جمالاً ورواءً وحكمةً ونضارةً وعظمةً وألقاً، قال في البداية أحببتها، وماذا بعد؟ نثرت لك بطنها، أربعة، خمسة، وستة ما شاء الله، فرحت بهم وباهيت، رفعت رأسك! الفحل الذي لا يُجدَع أنفه، ما شاء الله! وبعد ذلك شعرت أنني لم أعد أُحِبها، هذا ينطلق – انتبهوا فنحن لازلنا الآن في مسألة كيف نُفكِّر؟ وليس كيف نتصرَّف؟ – من كيف نتصرَّف؟ هذا المسكين يخضع لمِزاج كيف نتصرَّف؟ والمُشكِلة الآن عنده كيف أتصرَّف مع امرأة كففت عن حُبها وعندي ستة منها وأُريد أن أُطلِّقها بغير مشاكل؟ بغير مشاكل! يُحِب أن يُطلِّقها وأن يأخذ التركة والأموال والبيت وكل شيئ، ولا يأسى عليها أن تعود إلى حيث ألقت بلا شيئ، أين الإنسانية فيك؟ أين الأخلاقية في هذا الموقف؟ هل هذا صحيح؟ يقول لك هذا موقف شرعي يا أخي، هل هذا موقف شرعي؟ أهكذا يُفهَم الشرع؟ لا كان هذا الشرع الذي يفهمه أمثال هؤلاء الأقزام، هؤلاء سيُكفِّرون الناس بشرع الله، انتبهوا!

والله سيدة – أُقسِم بالله – جعلتني واسطتها في قضيتها، جاءتني في الساعة الحادية عشرة ليلاً، تستنجد بي وبزوجي، وأنا أقمت لها عذراً، ولم أنظر إليها نظرة ريبة، لأنها سيدة مُحترَمة وجزلة ورصينة ومُتعلِّمة وأكاديمية، قالت لي يا سيدي أنا جئت لكي أطرح سؤالاً، وثقتي بك وافرة، قلت لها تفضَّلي، قالت هل الدين بخصوص هذه القضايا الزوجية هو كذا وكذا؟ قلت أبداً، قالت الحمد لله، أنقذتني من الكفر، كان بينها وبين نفسها تحدٍ، إذا كان هذا الدين فسأكفر بها، فطرتها تقول لها لا يُمكِن أن يكون هذا الدين، وإذا كان هذا دين محمد فإذن هذا الدين كذب، صادقة ومعها الحق، قالت لي يقول لي دائماً هذا هو الشرع وسأُخضِعك للشرع، قلت لها يكذب على الشرع، ويأخذ من الشرع كيف شاء ويُشوِّهه لكي يُبرِّر نزواته وشهواته وشخصيته المُلتاثة، والتي تحتاج إلى علاج يا إخواني، ليس عنده أدنى درجات الوعي بالذات، شيئ يضع العقل – كما يقولون – في الكف، شيئ عجيب يا إخواني! فالحمد لله، قالت أنقذتني من الكفر، السلام عليكم، وعادت في الساعة الحادية عشرة ليلاً، مآسي حقيقية!

فهذا سؤاله الآن، كيف أتصرَّف؟ طبعاً كيف يُحطِّم الآخر دون أن يناله أذى؟ ما شاء الله على مُستوى الإنسانية والأخلاق! كيف عشت مع هذه السيدة عشرين سنة؟ ماذا أفادك الزواج؟ كيف كانت العلاقة الزوجية أصلاً؟ ألم تنضج في هذه العشرين سنة؟ كيف كنت أباً؟ كيف ادّعيت أنك كنت أباً ولم تنضج إنسانياً؟ ولذلك أنت أب فاشل، قطعاً أنت أب فاشل، قطعاً أولادك فاشلون، أنت لم تنضج، لم تعرف كيف تنضج للأسف.

أما صاحب عقلية كيف نُفكِّر؟ فهذا سينظر إلى المسألة من زاوية مُختلِفة بالمرة، الأول – صاحب عقلية كيف نتصرَّف الآن مع الزوجة التي ما عاد يُحِبها؟ يظن أن الحُب مشاعر، ستقولون وهل هو غير ذاك؟ طبعاً، جوهر الحُب ليس مشاعر فقط، هذه تمظهرات الحُب يا إخواني، جوهره وحقيقته وفلسفته ليست مشاعر، طبعاً الأفلام العربية بالذات – ما شاء الله، لا حياها الله ولا حيا مُخرِجيها – كلها وحتى أفلام هوليوود Hollywood تُفهِمنا أن الحُب مشاعر، تُوجَد فجأة وتختفي فجأة، طبعاً لأنها مشاعر قد تتولَّد مثل عود الثقاب – النار – وتختفي فجأة، كنت أُحِبها وكف كل شيئ فلننفصل وليكن ما يكون، الحُب عند مَن يفهمه هو السلوك، وإذا كان سلوكاً فهو مسبوق بإرادة، والإرادة تعني ماذا؟ الاختيار، أختار أن أُحِب، ولست مُجبَراً على ذلك، أنا الذي اخترت هذا الطريق، أنا الذي اخترت هذه السيدة، اخترت أن أُحِبها، ولذلك لابد أن أسلك لتعزيز خياري، أليس كذلك؟ تماماً كما اخترت وأحببت الطب أو الهندسة أو الفلسفة ودرست، لابد أن تسلك وأن تقرأ قراءات إضافية كثيرة في الفلسفة أو الطب أو الهندسة لكي تُعزِّز ماذا؟ حُبك للطب – مثلاً – يا حبيبي وإن لم تتخرَّج من كُلية الطب، كذاك العربي الذي كان معنا في يوغوسلافيا وحُدِّثنا عنه، أنه الآن في السنة الخامسة عشرة يدرس الهندسة المدنية، قلنا لمُحدِّثنا هل هو خريج Absolvent؟ فقال لا، في السنة الثانية، في أولها! قلنا له ماذا يفعل هذا الشاب الذي سيتخرج في السبعين من عمره بإذن الله؟ لماذا؟ قال سألته فقال أُحِبها يا رجل، يُحِب الهندسة المدنية! ومن الحُب ما قتل، يُحِبها خمسة عشرة سنة، ولا يزال في أول السنة الثانية، يُحِبها! على كل حال هو أصدق التزاماً في حُبه من هؤلاء الأزواج الفاشلين، الحُب سلوك، مسبوق بخيار إرادي، لابد أن تتصرَّف بما يُعزِّز خيارك أنت وليس خيارها هي، أنت الذي أحببتها! وهي أيضاً بادلتك خياراً بخيار، أليس كذلك؟ لم يفرضها عليك أحد، أنت الذي اخترتها ودفعت فيها دم قلبك كما تقول، فتصرَّف! سوف تقول لي يا سيدي دع هذه الفلسفة المُتعِبة، أنا الآن لا أشعر بحُبها، ماذا أفعل؟ أقول لك تبن فلسفتنا، الحُب سلوك، اسلك الآن بناءً على اختيار مُتجدِّد، أنا أنظر إلى زوجتي وأرى أنها ضحت بحياتها معي، نثرت لي ثمار بطنها، أليس كذلك؟ زوجتي هي موضع سري وعيبتي، وهي أم أولادي، حُبي لأولادي يقتضيني أيضاً أن أُعظِّم حُبي لزوجتي، يبدو في نهاية المطاف مهما طرت، مهما عششت، ومهما فررت لن أجد أبهج ولا أسعد من أسرتي ومن بيتي، من هذا العش الذي مكثنا فيه عشرين سنة، سأسلك بناءً على هذه الخواطر والأفكار، وستعود وأنت في مُنتهى التعب، لتطرق الباب، انتبه وحاذر حين يُفتَح لك أن تسأل ماذا طبختم؟ ماذا أعددتم؟ يا أبا بطن، أول ما يسأل عنه هو الطبخ، يا أخي أنت تخذلها، ربما المسكينة لم تطبخ، ربما هي مريضة، عندها ألم، عندها صداع، ربما ابنك مريض وكانت معه المُستشفى، فأنت الآن خذلتها، ستقول لك لم نعده، ومن ثم ستحدث مُشكِلة، وهذه طبعاً مشروطية، أنت لن تستحسن ولن تُطري ولن تُعبِّر عن مشاعر الحُب إلا إذا طبخت، فالحكاية والقضية تتعلَّق بالطبائخ، وهذا لا يصح، انتبه! هذا كلام علمي، أول ما تدخل قل السلام عليكم، كم أنا مُشتاق إليكم! بالعامية طبعاً، لن نقول هذا بالفُصحى، لكن قل هذا بالعامية، انتبه! لا تفعل مثلي وإلا سيُقال أبونا أُصيب بالهبل، الشيخ أصابه بالهبل، كم أنا مُشتاق إليكم يا أبنائي الأحبة! سوف يقولون لقد عاد من بروفة تمثيل، بالعكس! قل أين أنتم يا أحبابي ويا أولادي؟ أين أمكم؟ أين أم فلان؟ والله اشتقنا لكم يا جماعة، قُبلة على كل واحد، إياك سواء كنت أنت الداخل أو المدخول عليك أن تسأل عما فعلوه، لا تسأل ماذا فعلتم؟ ماذا أنجزتم؟ ماذا كان في الامتحانات؟ ماذا كان في الشغل Arbeiten؟ ماذا فعلتم في الكذا والكذا؟ لا تسأل عن هذا، انتبه! هذا يجعلك أباً مكروه الحضور ومكروه الظهور نفسياً، دائماً اسأل كيف حالكم؟ وقل كم أنتم جميلون اليوم! كم كذا وكذا! كم أنا مُشتاق إليكم! فقط، واكتف بهذا، وقُبلة على جبين كل واحد أو خد كل واحد، واجلس! وكل شيئ يأتي في وقته، سؤال ماذا طبختي؟ لابد منه، وإلا تفقد أيضاً أشياء وتحدث مشاكل، لكن في سياق آخر، حين تقول لك هل يا أبا فلان أضع لك الطبيخ؟ هل أُجهِّز لك المائدة؟ قل ماذا طبختي؟ ثم قل ما شاء الله، أنتظر هذا، الآن هذا مُمتاز، وليس حين تفتح الباب، فلعلها لم تطبخ، الأول يُؤكِّد المشروطية، أن كل شيئ مشروط والحُب مشروط، الطريقة الثانية تُؤكِّد اللامشروطية، سواء طبختم أو لم تطبخوا، نجحتم أو لم تنجحوا، وامُتحِنتم أو لم تُمتحنوا، كل هذا مقبول وأنتم أبنائي في نهاية المطاف.

هل فكَّرتم – وأختم بهذا، لكن للأسف لازلنا في بداية الموضوع، لعلنا نُتابِع – يا أحبابي وأخواتي في قصة نوح وفي قصة لوط؟ لوط – مثلاً – كان مع زوجته، أليس كذلك؟  الزوجة الكفور والكافرة، الكافرة بالله والكفور بنعمة الزوجية، والكافرة بنبي الله لوط وهو زوجها، والتي تُفشي أسراره وتبث خبره وتُثني سره، أليس كذلك؟ ومع ذلك العجيب جداً – وهذا ما لم يلتفت إليه المُفسِّرون – أن لوطاً لم يفصم علاقته به وظل زوجاً وفياً لها حتى القارعة التي أصابتها، بل ظل حريصاً كما تقول الروايات على ألا تهلك، لكن الله قال له إِلَّا امْرَأَتَكَ ۩، وستهلك! وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ ۩، قال ستلتفت وستهلك، وقال لها لا تلتفتي، فإنك إن تلتفتي تهلكي، لم تُصدِّقه لأنها كفور، فالتفتت فانتهت، ما هذا المنطق الذي كان يتمتع به لوط حتى يكتفي بامرأة كهذه وحتى يفي بهذا؟ يبدو أن سر الزواج وعهد الزواج أكبر وأقدس مما نتخيَّل يا إخواني، ويبدو أن نضج هؤلاء الشخصيات – الأنبياء – أكبر مما نتخيَّل، انظروا إلى لوط، وكذلك نوح – نفس الشيئ – مع زوجه ومع ابنه الكافر، ويبكيه في آخر لحظة، إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ۩، هل تعرفون لماذا؟ لأن الحقيقة أننا نُحِب أولادنا وأهلينا حُباً غير مشروط، في الباطن! ونفشل للأسف أن نسلك وفق هذه الحقيقة الغرزية وأن نُعبِّر عنها، كيف؟ طبعاً مثل الأب الذي يقول لك كنت أضربه وقلبي يتقطَّع، طبعاً لأنه يُحِبه، يقول لك كنت أدعو عليه وقلبي يقول لا أمين ويتقطَّع، إذن المسكين يعيش في مُشاكَسة وجدانية، في الداخل يُحِبه حُباً غير مشروط حتى وإن عصاه، حتى وإن أخطأ، حتى وإن زلت ابنته وفعلت ما فعلت، يُحِبها! يا حبيبي أنا نصيحتي لك: أبرز لها هذا الحُب غير المشروط، في البداية ستمتحن صدقك، ستقول هذا يكذب علىّ، يستدرجني، يُريد مني كذا، إذا صدقت أمامها في الامتحان واجتزته فسوف تُبدِّل موقفها بالكُلية معك، ما رأيك؟ النصيحة هذه ذهبية وخطيرة جداً جداً، لكن ابنك أو ابنتك سيمتحن صدقك، هل أنت صادق فعلاً في إيلائه وفي منحه هذا الحُب غير المشروط، حتى وإن أخطأ، حتى وإن كسَّر رأيك ولم يدخل الكُلية التي تُحِب؟ دخل كُلية أُخرى لكي يصير موسيقاراً، يُريد أن يصير Musikant، يُريد أن يصير Musiker أو Musikant، مُمزِّك! أنت تُريد منه أن يُصبِح طبيباً قد الدنيا لكي تتباهى به في مصر أو في فلسطين أو في تونس، قد الدنيا! لكن هو لا يُريد هذا، يُريد أن يُصبِح Musikant، مُمزِّك، لن يُصبِح كما أردت، المُهِم دعه، هذا من حقه، إذا فعلت هذا ونجحت فربما يعود عن قراره وعن قناعة هذه المرة، فيدرس ربما – ربما وربما لا – ما تُريد، وليفعلها، هو حر! في النهاية من حقهم أن يستفيدوا من أخطائهم، تقول لا، أنا لا أُريد له أن يُكرِّر أخطائي، أنا أُحِب له أن يتعلَّم من أخطائي، وأيضاً لم تُصِب، تقريباً مُستحيل أن يتعلَّم من أخطائك، أكثر ما يتعلَّمه يتعلَّم من أخطائه، أفدح الأشياء ثمناً هي التي تأتي بلا ثمن، كل القيم والمبادئ والأشياء التي نُهبَها ونُعطاها عفواً وسماحةً – صدِّقوني – تكون ضعيفة الأثر فينا، كل ما نستخلصه بأنفسنا وعبر المُعاناة يكون عظيم الأثر فينا.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله الطيبين صحابته الميامين وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلَّم تسليماً كثيراً.

اللهم اهدنا واهد بنا، وأصلِحنا وأصلِح بنا، اللهم اجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، هُداةً مُهتدين، غير ضالين ولا مُضِلين، سلماً لأوليائك وعدواً لأعدائك، نُحِب بحُبك مَن أحبك ونُعادي بعداوتك مَن خالفك.

اللهم إنا نسألك أن تهب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعيننا، اللهم اجعلنا جميعاً من أئمة المُتقين، بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين.

أسعِدنا في الدنيا والآخرة، نحن وأهلينا وذوينا وإخواننا وأخواتنا، برحمتك يا أرحم الراحمين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه يزِدكم، وسلوه من فضله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

 

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

فيينا 22/6/2007

 

ملحوظة هامة: نود أن نعلم حضراتكم أن فضيلته عقد محاضرة بعد هذه الخطبة، تحمل العنوان نفسه.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: