إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا وَعظيمنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ.

اللهم اجعل شرائف صلواتك، ونوامي بركاتك، ورأفة تحننك، على هذا النبي العربي الأمين الكريم وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ وعلينا وعليكم والمُسلِمين والمُسلِمات معهم أجمعين بفضله ومنّه.
عباد الله:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

أما بعد، إخواني وأخواتي:

فيقول الله – تبارك وتعالى – في كتابه العظيم، بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ۩ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ۩ قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ ۩ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ۩ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ ۩ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

إخواني وأخواتي:

روى الإمام أحمد والإمام النسائي – رضيَ الله تعالى عنهما -، من حديث النُعمان بن بشير – رضيَ الله عنهما وأرضاهما -، أن رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً، دائماً أبداً أبداً أبداً -، قال إن الله – تبارك وتعالى – إذا تجلى لشيء من خلقه، خشع.

إن الله – تبارك وتعالى – إذا تجلى لشيء من خلقه، خشع. لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۩، ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۩، قال مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۩.

إذن الجلاميد الصُم، الحجارة، الجبال، وكل ما خلق الله – تبارك وتعالى -، مهما كان صُلباً متيناً قوياً مُتماسِكاً، يخشع إذا تجلى الله – تبارك وتعالى – له، أو تجلى عليه، وهي أصعب وأشد.

وتجلياته – لا إله إلا هو – على أنحاء ثلاثة، أعظمها وأثقلها وأقهرها وأوجبها للخشوع والتطامن، تجليات الذات. كالذي تجلى – تبارك وتعالى – للجبل، فتدكدك. قال ابن عباس ما تجلى – تبارك وتعالى – للجبل – أي جبل موسى – إلا بقدر الخِنصَر. يُقال خِنصَر وخِنصِر، هذا هو الأُصبع الصغير. قال إلا بقدر الخِنصَر. والنبي وضَّح هذا، في حديث أحمد والترمذي، عن ثابت البُناني، عن أنس بن مالك – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين -، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – ما تجلى الله للجبل إلا هكذا. ووضع رأس إبهامه – أي طرف الإبهام – على أُنملة الخِنصَر. قال هكذا. إلا هكذا! حتى لم يقل هكذا وهو يضع رأس إبهامه بشكل أوسع على السبابة، أو هكذا وهو يضع رأس إبهامه بشكل أوسع على الوسطى، وإنما قال هكذا. ووضع رأس إبهامه على أُنملة الخِنصَر. شيء ضيق جداً، قال ابن عباس فصار الجبل تراباً. تدكدك بالكامل!

أن الله – تبارك وتعالى – إذن إذا تجلى لشيء من خلقه، خشع. فما بال هذه المُضغ اللحمية لا تخشع؟ ما بال هذه القلوب إذا قست، تصير أقصى من الجلاميد، من الصخر ومن الجبال؟ مُفارَقة عجيبة، مُفارَقة عجيبة وسر كبير لا بد أن نبحث فيه، سر كبير لا بد أن نبحث فيه.

إذن لله – تبارك وتعالى – يا إخواني واخواتي تجليات، وهي على أنحاء ثلاثة: تجليات ذاتية، وتجليات صفاتية، وتجليات صورية. وليس هذا المقام مقام التفصيل في هذه الأنواع، وإنما هي لمحات سريعة، لكي نُدلِف إلى الموضوع الرئيس، ونحن نُريد أن نتعاطى موضوعاً، نعود منه بخير، يعود علينا في دنيانا وأُخرانا، خير يعود علينا في ديننا – في صحة وسلامة قلوبنا – وتديننا – إن شاء الله تبارك وتعالى -. ونحن – بحمد الله – في شهر التجليات. لعل الله لا يتجلى يا إخواني وأخواتي بالقدر الذي يتجلى فيه بتطلاعاته ونظراته وتفقداته – لا إله إلا هو – الصمدانية الرضوانية الإكرامية الأقدسية الرحموتية، كما يفعل في شهر رمضان. لذلك مَن أدرك رمضان ولم يُغفَر له، لا غفر الله له، قل آمين يا محمد. قال آمين. لا غفر الله له. جبريل يقول لمحمد لا غفر الله لمَن أدرك رمضان، فلم يُغفَر له. لأن سوق المغفرة قائمة، أبواب المغفرة لا تُعَد ولا تُحصى، كل الدواعي والأسباب قائمة، لتحصل بها المغفرة. فمَن لم يُغفَر له، فهو من أشقى العباد – والعياذ بالله -، لأنه شقي فعلاً وهالك، نعوذ بالله من الشقاء، ونسأل الله تمام الإسعاد بتمام الإكرام والإفضال في الدارين، اللهم آمين.

هذا هو يا إخواني، إذن هذا شهر التجليات، وقد مضى ومن أسف ومع الحزن كله ثُلث الرحمة الأول. ثُلث الرحمة انقضى، وثُلث الرحمة كان ينبغي طبعاً – ونسأل الله أن نكون وُفقنا جميعاً، نحن وكل الصائمين والصائمات، إلى انتهاج هذه الخُطة – أن نتوسل به الرحمة، ثُلث الرحمة أكثر ما يُتوسل به إلى إصابة رحمة الله، ترك الذنوب والمعاصي، والتوبة منها جميعها طراً، لقوله – عليه الصلاة وأفضل السلام – في حديث الترمذي وغيره اللهم ارحمني بترك المعاصي أبداً ما أبقيتني.

كيف تعرف أنه رحمك؟ إذا ألهمك توبة صادقة، إذا كففت عن معاصي الرب – لا إله إلا هو -. إذا أخذت في الطاعة وابتعدت عن المعاصي، فأنت مرحوم – إن شاء الله تعالى -. فعيِّروا أنفسكم بهذا المعيار في شهر رمضان وقد مضى ثُلث الرحمة.

وإذا رحمنا – تبارك وتعالى – بترك الذنوب والإنابة والتوبة الصادقة منها جميعها – إن شاء الله تعالى -، غفر لنا، لأن مَن ترك وتاب حقاً، غُفر له. إذن نحن في الثُلث الثاني (ثُلث المغفرة).

ومَن غُفر له، إذن مرحوم ومغفور له، مُعفىً على آثاره. مُعفىً على آثاره! الآثار السيئة طبعاً، ما الذي يحصل؟ تبقى الجائزة. تبقى الجائزة وهي العتق، عتق الرقبة – إن شاء الله تعالى – من نار جهنم، والدخول إلى الرضوان والجنان – بإذن الله تعالى -. اللهم اجعلنا منهم بفضلك ومنّك.

روى الإمام أبو نصر المروزي – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – في كتابه العظيم قيام الليل – من أعظم، إن لم يكن أعظم، ما أُلِّف في هذا الباب، وهو كتاب حافل جليل كبير -، عن صاحب رسول الله فضالة بن عُبيد، عن أبي الدرداء – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين -، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – إن الله – تبارك وتعالى – يتنزَّل في ثلاث ساعات، يبقين من الليل. كل ليلة يتنزل في آخر ثلاث ساعات، وهذه ليست ساعات ميقاتية كالآن، أي ليست ستين دقيقة، لا! هذه أوقات، أي أقل من ستين دقيقة بكثير، هذه أقل! ولذلك قد يكون هذا في الثُلث الأخير من الليل، الثلاث الساعات في الثُلث الأخير من الليل – والله أعلم -، لأنه قال ثلاث ساعات. والنبي حين كان يقول الساعة، كان يُقلِّلها. أي الساعة ليست ستين دقيقة، فهذا اصطلاح حادث، ربما عشر دقائق، رُبع ساعة، وهكذا هي تقريباً، أي هذه هي الساعة الشرعية.

وطبعاً ما – في حديث آخر – من يوم ولا ليلة ولا ساعة، إلا لله فيها صدقة. اللهم تصدَّق علينا يا رب المُحسِنين، يا رب المُحسِنين وإنك تُحِب المُحسِنين. إلا لله فيها صدقة، يتصدَّق بها على عباده. كما قلنا وهذا وقت الصدقات، رمضان! نهارات رمضان وليالي رمضان، هذا وقت الصدقات، وقت النظرات والتجليات والاطلاعات والنفحات، وسنعود إلى النفحات بعد قليل – إن شاء الله تعالى -، فنحن الآن في نفحات رمضان، في الليل والنهار – بحمد الله تبارك وتعالى -، وخاصة بالأسحار، نعم.

إذن في الساعة الاولى – يقول عليه الصلاة وأفضل السلام – يفتح الذكر – لا إله إلا هو -. الذكر، كتاب عظيم، إلهي، فوق سماوي، مكتوب فيه المقادير والآجال والشؤونات والتدبير. يفتح الذكر، الذي لم يره غيره – لا إله إلا هو -. ولا ملك ولا جبريل ولا ميكال ولا أحد، الله فقط ينظر في هذا الذكر، في هذا الكتاب العظيم. يفتح الذكر، الذي لم يره غيره – لا إله إلا هو -، فيمحو ما شاء ويُثبِت وعنده أم الكتاب. قال – عز من قائل – لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ۩، في آخر الرعد لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ۩، يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ۩. اللهم إن كنت – كما كان يدعو عمر وابن مسعود، رضيَ الله تعالى عنهما، ودعا به العارفون والصالحون العظام الكبار – كتبتنا عندك أشقياء، فامح ذلك واكتبنا سعداء يا رب العالمين، بفضلك ومنّك.

ولذلك هذا يفتح باباً للتأميل عظيماً، يفتح للمُؤمِن باباً للتأميل – أي للأمل – في رحمة الله عظيماً. حتى إن كُتب أنك تهلك بمُصيبة، قل يا رب أنت تمحو ما تشاء وتُثبِت. إن كنت كتبت كذا أو كذا، فامحه بحقك، بقدسك، بنورك الذي ملأ أركان عرشك وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة. امح هذا، واكتب كذا وكذا. واستعن على هذا بالتوبة والعمل الصالح. لكي يُقبَل دعاؤك، لا بد أن تكون صالحاً. وإذا أراد أن يقبل منك – فهذه ألطاف الله، عز وجل -، يسَّر لك التوبة، ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۩، يتوب عليك أولاً، لتتوب، فتتوب. ثم يُيسِّر لك عملاً صالحاً، ثم يُلهِمك من الدعاء ما يستجيب له. قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ ۩، الفضل كله بيد الله، لا إله إلا الله! هو يُريد منك فقط النية، الخشوع والخضوع والتذلل والعبودية الحقة والنية، والنية! هو يفتح لك الأبواب وينهج لك الطريق، ويُسلِّكك خُطوة فخُطوة، حتى تسعد وتنجو – بإذن الله – وتُعتَق.

هذه هي القضية يا إخواني، هذه هي القضية! لا يُريد منا أكثر من هذه النية الصادقة، والنية الصادقة عليها براهين، عليها براهين! مَن صدقت نيته، صدق في ترك الذنب. وكما قال أبو سُليمان الدراني ليس البكاء بتعصير العيون. تتذكَّر زلتك، وتبدأ تبكي وتتباكى. قال ليس هذا البكاء. إذا أردت البكاء الحقيقي – أي بكاء الصالحين التائبين -، فليس البكاء بتعصير العيون، إنما البكاء بترك الأمر الذي تبكي من أجله. تبكي لأنك ترتكب معصية؟ اترك المعصية، هذا البكاء، وليس أن تبكي وأنت مُقيم عليها، تبكي وتعود عليها. فهذا كذب كله، اغترار هذا، والاغترار هو الجهل والتعويل على ما لا حقيقة له، هل هذا واضح؟

ولذلك قالوا – والقائل هو سيدنا ابن عطاء الله السكندري، قدَّس الله سره – الحزن على فقدان الطاعة مع عدم النهوض إليها، من الاغترار. بعض الناس يقول لك يا للخسارة! فاتني من قيام رمضان كذا وكذا، فاتني من قيام رمضان كذا وكذا. أي تخيَّلوا – مثلاً – أن مَن صلى العشاء جماعة في رمضان، كُتب له ليلة القدر. أي أن هذا أدرك ليلة القدر، ومع ذلك بعض الناس لا يفعل، لأن عنده تمثيلية أو عنده مُسلسَل، غير مُتفرِّغ، فضاعت عليه هذه، انتهى! ربما يُوفِّقه الله إلى ليلة القدر في ليلتها، وربما لا. ولكن كان عنده طريق مضمونة، وهي أن يأتي كل يوم لكي يُصلي العشاء في المسجد. المسجد بجانبك، وتُوجَد مساجد كثيرة هنا، في فيينا وحدها ربما هناك أربعون مسجداً، هذا بعيد عليك؟ هذا قريب، فاذهب وصل كل يوم. إذا كنت مريضاً، أي عنده سكر أو عندك مشاكل وما إلى ذلك، فافعل هذا في البيت على الأقل، على الأقل! جماعة البيت. لا تفوت صلاة العشاء في جماعة، مع زوجتك وأولادك أو بعض أولادك الحاضرين.

قال لك الحزن على فقدان الطاعة مع عدم النهوض إليها، من الاغترار. لا إله إلا الله! نعوذ بالله من الغرور والاغترار. والاغترار – كما قلت – التعويل على ما لا حقيقة له، أوهام! يتوهَّم أنه حزين، لأنه فقد الطاعة. أنت لست حزيناً، أنت تتوهَّم، لأنك لم تنهض إليها، أنت لم تنشط إلى هذه الطاعة أصلاً، وبعد أن فات وقتها تحزن!

يا إخواني من أكبر خصائص أهل الله – اللهم اجعلنا من أهلك وخاصتك -، ومن أكبر خصائص أولياء الله والعارفين – أهل الله، موصولي الأسباب بالسماء -، هل تعرفون ما هو؟ مُراعاة الأوقات. الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ۩. انظر، هذه للإلصاق، هذه الباء للإلصاق، ألصقوا استغفارهم بماذا؟ بوقت السحر. باستمرار، باستمرار، باستمرار، باستمرار! هذا إلصاق، إلصاق! لا يفوتهم السحر، لا يفوتهم، لا يُضيعون وقت السحر، لأي سبب من الأسباب، لأن هذا هام. في حديث عمرو بن عبسة – رضيَ الله عنه وأرضاه -، الذي أخرجه أحمد والنسائي، قال عمرو بن عبسة السلمي – الصحابي الجليل – قلت يا رسول الله، هل من ساعةٍ أقرب إلى الله – عز وجل – من أُخرى؟ أو قال – الراوي يقول – هل من ساعةٍ يُبتغى ذكرها؟

هل من ساعةٍ أقرب – أي هل ساعةُ أقرب، هذه الــ من زائدة – إلى الله من أُخرى؟ أو قال هل من ساعةٍ يُبتغى ذكرها؟ قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – نعم، أقرب ما يكون الرب – لا إله إلا هو – من عبده في جوف الليل الآخر. وقت السحر! فإن استطعت أن تكون مِمَن يذكر الله فيه – في هذا الجوف الآخر، في وقت السحر -، فكُن. لا إله إلا الله، لا إله إلا الله! الأمور واضحة – بحمد الله تبارك وتعالى -. أقرب ما يكون الرب من عبده في جوف الليل الآخر. وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد. في الحديث الصحيح! فأكثروا من الدعاء. يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام -، أي في السجود. حصل القربان، وشتان بين القربين! شتان بين القربين والقربتين! قُرب العبد ما هو؟ طاعة وتذلل وتعبد. نحن كيف نتقرَّب إلى الله؟ كيف نُصبِح أقرب إلى الله؟ لا نسير إليه سعياً على رجلين أبداً، الله ليس له جهة تحويه – لا إله إلا هو -، هو خالق الجهات والإضافات والزمان والمكان، إنما تسعى إليه وتكدح إليه بماذا؟ بالعمل الصالح والطاعة المُخلَصة – إن شاء الله تعالى -. وقربه هو منك، قرب ماذا؟ قرب إكرام وتقريب وإزلاف وإفضال وإنعام وإعطاء. كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ ۩، الطاعة، وَاقْتَرِب ۩، تقترب بالطاعة. فإذا اقتربت منه، اقترب منك. إن اقتربت منه شبراً، اقترب منك ذراعاً. إن أتيته تمشي، أتاك هرولةً. هكذا في الحديث الصحيح! يقترب منك، كيف يقترب منك؟ يرفع درجتك، يتجلى عليك. يتجلى عليك بالرحمة، بالكرم، بالفضل، بالأسرار، بالأنوار، بالرضوان، بالمعرفة، بالفهوم، لا إله إلا هو! أشياء عجيبة، هذه تُحف الرحمن – لا إله إلا هو -، هذا قربك وهذا قربه، وشتان بين القربين!

إذن يا إخواني في الساعة الأولى الله يفتح الذكر – لا إله إلا هو -، فيمحو ما يشاء ويُثبِت وعنده أم الكتاب. وأما في الثانية – يقول عليه الصلاة وأفضل السلام – فيطلع إلى جنة عدن، التي هي داره. فكيف هي داره إذن؟ هل الله يسكنها؟ أستغفر الله العظيم، هذا كفر، إضافة تشريف، داره أي داره التي خلقها للمُتقين من عباده، نُسبت إليه نسبة تشريف. نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا ۩، ما معنى نَاقَةَ اللَّهِ ۩ إذن؟ معروف طبعاً أنه لا يركبها ولا يحلبها، أستغفر الله العظيم، وإنما نسبها إليه نسبة تشريف، لأنها مخلوقة خلقاً خاصاً. بيت الله، ما معنى بيت الله إذن؟ المساجد بيوت الله. وهذا هو معناها، هذه إضافات تشريف كما يُسمونها. رجال الله، يقولون لك أولياء الله، رجال الله. ما معنى أنهم رجاله إذن؟ هل هم يُدافِعون عنه إذن؟ هل هم ينصرونه في معارك؟ ليس هذا، إضافات تشريف هذه، يُسمونها إضافات تشريف.

فيطلع إلى جنة عدن، التي هي داره، والتي لم ترها عين – يقول النبي -، ولم تسمع بها أذن، ولم تخطر على قلب بشر. شيء فوق الخيال! ثم يقول – لا إله إلا هو – مُخاطِباً إياها طوبى لمَن دخلك. يا الله، هنيئاً لمَن دخلك! الله يقول نفسه هذا، وهو خالق الجمال وخالق النعم، يقولى طوبى، هنيئاً، سُعدى، فوزاً، فلاحاً، لمَن دخلك. اللهم أدخلناها برحمتك يا أرحم الراحمين، ولا تحرمنا بسوء أعمالنا يا رب العالمين.

إذن هذه الساعة الثانية، أما الساعة الثالثة – وهذه أقرب ساعة من الفجر يا إخواني، أقرب ساعة من الفجر – فيطلع الله – تبارك وتعالى – على عباده. النائم ضاع عليه هذا، لأنه نائم، هذا لا يدري، وليس له علاقة، ميت هذا، نائم! عكس الجالس القائم القاعد يستغفر، يدعو، يقرأ القرآن، يُصلي، يبكي، يندم، ويطلب. روى الإمام أبو نُعيم في الحلية، ومن ثم مُختصِر الحلية أبو الفرج ابن الجوزي، في صفة الصفوة، عن نافع، مولى عبد الله بن عمر – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين -، أنه قال كان عبد الله يقوم الليل. هذا دائماً، عبد الله كان شاباً صغيراً، وكان لا يقوم الليل، يُصلي ويفعل كل شيء، وذات مرة رأى رؤيا صالحة عجيبة، فذكرتها أخته أم المُؤمِنين حفصة لرسول الله، فقال نِعم الرجل عبد الله. قال لها رجل صالح هذا ومُكاشف، روح طاهرة! أن يرى هذا الشيء، فمعناها أن هذا شيء عجيب. قال نِعم الرجل عبد الله، لو كان يقوم من الليل. النبي يعرف بنوره أنه لا يزال صغيراً، ولا يقوم الليل. فلم يدع عبد الله بن عمر قيام الليل، حتى لقيَ الله. من هذه الكلمة! رضيَ الله عنه وأرضاه، كان عابداً صادقاً مُتهجِّداً، مثل أبيه الفاروق.

المُهِم، يقول نافع كان عبد الله بن عمر يقوم الليل. ومعه نافع طبعاً، وكان يُحِب نافعاً جداً، هذا مولى، مولى وكان يُحِبه كثيراً، يعشقه لأنه يُحِب العلم، نافع يُحِب العلم والدين والصلاة، مثل سيده – ما شاء الله -، هنيئاً له، هنيئاً له بسيده! فقال يقول نافع – قال أبو نُعيم يقول نافع – فكان يقول لي أسحرنا يا نافع؟ أسحر، أي دخل في السحر، مثل أشرق. مُشرِقين، أي وقت دخولهم في ماذا؟ في وقت الشروق. هذا معنى مُشرِقين، مُصبِحين، مُمسين، ومُسحِرين. أسحرنا؟ أفعلنا؟ أي هل دخلنا في وقت السحر؟ أي هل دخل وقت السحر؟ فأقول لا. قال فيقوم إلى صلاته. يُكمِل ويُصلي قيام الليل، وواضح بحسب هذا المعنى أنه كان يُصلي قبل السحر بوقت طويل، أي لا يأتي في آخر نصف ساعة، يُصلي قبل ذلك بوقت طويل – ما شاء الله -. قال تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ ۩، انظر إلى التعبير القرآني العظيم، تَتَجَافَىٰ ۩. الله يقول عباد الله الصالحون، الذين أعددت لهم ما لا… وما لا… وما لا… هؤلاء بين جنوبهم وبين الفراش جفوة. هناك جفوة، هناك كره. جنوبهم تكره الفراش، وتُحِب القيام لله. هذا معنى تَتَجَافَىٰ ۩، من الجفوة، من الجفوة! تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا ۩، لا إله إلا الله.

وبالمُناسَبة مَن تعود أن يقوم الليل، سيصير نومه أقل بكثير، والعجيب – وجرِّبوا هذا – أن نشاطه سيصير أكثر بكثير. يُصبِح أكثر نشاطاً وأكثر قوةً وأكثر تركيزاً، والله وأكثر بهاءً في وجهه ونوره، من الذي ينام ثماني ساعات مُتواصِلة. فهذا المسكين ينام ساعة ونصف ثم يقوم، وحين ترى وجهه في الصباح، تجد أن فيه جمالاً وأن فيه نوراً وأن فيه نضارة وأن فيه شباباً، من ماذا هذا؟ هذا من قيام الليل. جرِّبوا هذا، جرِّب هذا في نفسك، وانظر، هل هذا صحيح أو غير صحيح؟ صحيح بنسبة مئة في المائة، ومُجرَّب هذا عبر القرون، شيء عجيب، شرف المُؤمِن قيامه بالليل.

أسحرنا يا نافع؟ أقول لا. فيقوم إلى صلاته. ثم يقول أسحرنا يا نافع؟ فأقول نعم. فيقعد. فيجعل يذكر ويستغفر. أرأيتم كيف يكون الوعي؟ هذا الوعي! فالقضية ليست أنه يُريد أن يحسب ركعات على الله، أنني ركعت ثماني ركعات ولا ثماني عشرة ركعة ولا ثمانين ركعة، ليست هذه القضية، القضية أن الرجل الصالح ابن وقته، والأوقات تتحكَّم فيه ولا يتحكَّم فيها. وفي الأثر الذي ذكرناه سابقاً، في خُطبة سابقة، ويرعون الظلال في النهار، كما يرعى الراعي الشفيق إبله. لأن لكل وقت هناك ماذا؟ هناك مزية. لكل وقت هناك مزية!

يقول ثوبان – مولى رسول الله، رضيَ الله عنه وأرضاه، وصلى الله على مولانا رسول الله وآله وسلم تسليماً كثيراً، دائماً أبداً أبداً -، يقول قالت عائشة يا رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً جميعاً، في يوم الجُمعة وفي رمضان أكثروا من الصلاة عليه – أراك تُصلي. تحرص على أن تُصلي في هذا الوقت. أي وقت؟ الوقت يا إخواني حين تزول الشمس عن كبد السماء، أي أول دخول وقت الظهر. الشمس حين تكون في كبد السماء تماماً، ممنوع الصلاة، أي حرام. إذا زالت وانحرفت درجة أو جُزء من درجة – هكذا مالت -، مُباشَرةً دخل وقت ماذا؟ الظهر. بزوال الشمس عن كبد السماء. والنبي كان يُصلي ماذا؟ النافلة. أربع ركعات في المشهور، وبعضهم قال لك لا، صلى ركعتين. هناك أحاديث في هذا الباب، وهي عن ماذا؟ عن سُنة الظهر. والنبي كان حريصاً عليها. قال نعم يا عائشة، ساعة تُفتَح فيها أبواب السماء، وينظر الله فيها  إلى عباده بالرحمة. ولذلك أنا حريص وأترقب الساعة هذه، أول ما تميل هكذا، أقوم مُباشَرةً، لكي أُصلي. لا يأتي لكي يُصلي الظهر قبل العصر بخمس دقائق، ثم يقول لك إنه يُصلي. لا! لأن هناك عطايا، هناك عطايا وهناك ثمار يا حبيبي.

وكما تعلمون الذي يدخل البُستان مع أول الداخلين، يأخذ ويملأ. والذي يدخل ليخترف في آخر الموسم، يُمكِن أن يجد بعض الثمار العجفاء العفصة ويُمكِن ألا يجد شيئاً. فكل شيء بحسابه! قال لها ساعة تُفتَح فيها أبواب السماء، وينظر الله فيها إلى عباده بالرحمة، فأُحِب أن أُصلي فيها، وهي صلاة لم يدعها آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى – صلوات الله عليهم -. قال لها الأنبياء كلهم كانوا يصلون في الساعة هذه، الله أوحى لي بهذا، وأنا أُريد أن أُصلي.

ولذلك وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً ۩، الليل يعقب النهار، والنهار يعقب الليل، ولكن ماذا؟ ليس دُفعةً. وإنما ماذا؟ تدريجاً. أي – كما قلنا – شروق الشمس، الضحاء، الضحاء الشديد، ارتفاع الشمس، تُصبِح في كبد السماء، تزول الشمس، ودخلنا في الزوال، كل شيء له وظيفة! وقت الضحاء له وظيفة، وقت الزوال له وظيفة، وهكذا! وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً ۩، لماذا؟ لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ۩. مَن يُحِب أن يقوم لكي يقول أوراده ويعرف أين يكون الدعاء وأن هنا الاستغفار وأن هنا الصلاة وأن هنا كذا، يتسنى له هذا بالأوقات، كل شيء له وقت، فالأوقات تتحكَّم في الصالحين، ولا يتحكَّمون هم فيها، ولذلك قال وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ ۩. وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ ۩! لا تُضع الأوقات، ونحن الآن في رمضان، وهذا كله وقت شريف، كله وقت شريف!

تعرفون بلغ من اجتهاد أسلافنا – رضوان الله عليهم – أنهم كانوا يستعدون له من رجب، وكانوا يقولون البذار في رجب. نبذر البذور في رجب، ونسقيها ونتعاهدها في شعبان، ثم بعد ذلك نتحصل ونقطف ونجتني الثمار في رمضان. لكي يكون رمضان مقبولاً، لا بد وأن تستعد له قبل شهرين إذن، كانوا هكذا، كانوا هكذا! وكانوا يستغفرون الله من تقصيرهم في رمضان، شهرين آخرين بعد رمضان. أي يقولون اغفر لنا، لأننا قصرنا. إذا قصرنا، إذا أخطأنا، إذا كانت هناك صغيرة، إذا نمنا، وإذا فعلنا، فيا رب… يا رب… يا رب… يا رب. يحرصون على رمضان، لأن رمضان هذا قد تبلغ به أنت في الثلاثين يوماً وليلة، ما لا تبلغه فعلاً في ثمانين سنة. خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ۩، ليلة واحدة خيرٌ من ثلاث وثمانين سنة. اللهم وفِّقنا إليها يا أرحم الراحمين.

إذن في الساعة الثالثة – يقول عليه الصلاة وأفضل السلام – يطلع الله – تبارك وتعالى – على عباده، فيقول هل من تائب، فأتوب عليه؟ هل من مُستغفِر، فأغفر له؟ شبهت هذا في درس التراويح لأحبابي – إخواني وأخواتي -، وقلت لهم هذا مثل رجل أبهظته الديون، كسرت ظهره الديون وحقوق العباد، فهو حليف المحاكم، كل يوم في المحاكم، وهو مطلوب في عشر أو في عشرين قضية. أُعلِن في يوم من الأيام من جهة مسؤولة قضائية، أن هلموا في هذا اليوم، ستُوضَع عنكم قضاياكم. أي هناك تصفير للقضايا، تبييض للصحائف. لا يمتنع عن الذهاب إلا أحمق أو مجنون، الكل يذهب! فهم يقولون لك تعال اليوم عند المحكمة، وسنُسامِحك في كل شيء. نحن سنغرم عنك لغرمائك كل شيء. المحكمة!

الله يعرض هذا كل ليلة علينا، يقول هل من تائب؟ أتُحِب أن تتوب؟ قم، وأنا سوف أتوب عليك. هل من مُستغفِر، فأغفر له؟ هل من سائل، فأُعطيه؟ وهل من داعٍ، فأُجيبه؟ ألفاظ كثيرة! وطبعاً أصل هذا المعنى في الصحيحين. هذا المعنى ثابت في الصحيحين، من حديث أكثر من صحابي، وثابت في السُنن والمسانيد، والألفاظ كثيرة ومُتقارِبة، تتحالف على معاني كلها ماذا؟ مُتصادِقة، لا مُتكاذِبة. حتى أنه ورد ألا من مُسترزِق، فأرزقه؟ ألا من مُستكشِف ضر، فأكشف عنه؟ هل من سقيم يستشفي، فيشفى؟ فهذا هو.

وفي صحيح مُسلِم مَن يُقرِضُ – مَن يُقرِضُ أو مَن يُقرِضْ، أي بحسب المعنى الذي أنت تُريده – غير عديم، ولا ظلوم؟ في السحر، الله يقول هذا في السحر. مَن يُقرِضُ غير عديم ولا ظلوم؟ لا إله إلا هو! الله غني، ليس مُعدماً، هو غني، المُلك بيده. في وقت السحر هذا، تجليات! وهذه كلها أوقات التجليات يا إخواني. ولذلك روى الإمام الطبراني – رحمة الله تعالى عليه في مُعجميه الكبير والأوسط -، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – إن لربكم في أيام دهركم نفحاتٍ. نفحاتٍ اسم إن مُؤخَّر طبعاً، بمعنى إن نفحاتٍ لربكم، لأن الخبر شبه جُملة. إن لربكم في أيام دهركم نفحاتٍ، ألا فتعرضوا لها. نعم! الاستغناء لا ينفع، الاستغناء لا يجدي نفعاً. الرجاء إذا لم يُقارنه عمل، فهو ماذا؟ أُمنية. يقول ابن عطاء الله هذا. يا رب كذا، عندي رجاء يا ربي. وماذا بعد؟ هناك عمل، اعمل واستعد. أليس كذلك؟

الذي يفرح بضيف عزيز، ويقول هذا ضيف عزيز جداً، حبيب إلى قلبي، هو ودود وأنا لم أره مُنذ كذا سنة. بالله عليكم هل تصدق دعواه في الفرح به والسرور بمجيئه ومقدمه، وهو جالس، حتى لا يخرج لاستقباله؟ يقول هو قاعد في البيت، إلى أن يأتي الضيف. فلتقم لكي لتستقبله على باب المدينة أو على باب القرية يا رجل، أو على باب الدار. ما الكذب هذا؟ فقال لك هناك الرجاء. قال لك نرجو رحمة الله، ونُريد أن يُعطينا الله، ونُريد أن يغفر لنا الله. ومن غير عمل! الرجاء إذا لم يُقارنه عمل، فهو ماذا؟ أُمنية. أماني! أماني وأوهام كلها، أنت تتمنى ولن ينفع هذا. وإن قوماً غرتهم الأماني، حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، قالوا كنا نُحسِن الظن بالله. كذبوا، لو أحسنوا الظن، لأحسنوا العمل.

إياكم والأماني! الأماني بضاعة النوكى. النوكى جمع الأنوك، وهو الأحمق. أي هذا نُسميه “الأهبل” بالعامية، هناك الأنوك، وجمعها النوكى، وهم الحمقى، قليلو العقول. قال لك الأماني رأس مال وبضاعة النوكى. هناك مَن يتمنى فقط! لا بد من العمل، تهيأ! لا بد وأن تتهيأ. قال لك النبي فأروا الله من أنفسكم خيراً. أروا الله! كما تُحاوِل أنت أن تتجمل أمام الناس بأنك وأنك، تجمَّل أمام الرب الجليل – لا إله إلا هو -. أره! أره نفسك، أره نفسك وأره كيف تتصدَّق صدقات واسعة جداً جداً، لم تخطر على بالك أصلاً، وكسرت حجاب الشُح عندك وجدار البُخل الذي كان يخيم عليك. اكسر هذا بالصدقات الكبيرة، وقل سأتاجر مع الله. لأن الله قال في حديث مُسلِم مَن يُقرِض غير عديم ولا ظلوم؟ الله لن يظلمني وسوف يُخلِف عليه، وهو ليس ماذا؟ ليس فقيراً. عنده خزائن ويُعوِّض، فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ۩. نعم! في رمضان أره كيف أن نومي سوف يُصبِح أقل – بإذن الله تعالى -، وسأقوم في جوف الليل يا رب. كل ليلة! بقدر ما تُيسِّر لي، وأدعو وأبتهل وأتوب وأُشهِدك على نية صادقة.

الآتي من أهم الأسباب لعمارة القلب يا إخواني، عمِّروا قلوبكم وأصلِحوها. يقول السيد إبراهيم الخوّاص – رضوان الله عليه، هذا من أعلام عارفي المُسلِمين في القرن الثالث، هذا ليس عليّاً الخوّاص، شيخ الإمام الشعراني، هذا في القرن العاشر، لا! إبراهيم الخوّاص، وهذا في القرن الثالث، رضوان الله عليه، من الأعلام الكبار، من الأعلام الأولياء والمُتكلِّمين في العرفان والمُنازَلات والواردات، كان شيئاً عجيباً، من أقران الجُنيد وأبي الحُسين النوري، رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين -، يقول عمارة القلب خمسة أشياء. ومن المُهِم جداً أن نسمع الكلام هذا من الكبار، الأساتذة! هؤلاء أساتذة الطريق، أساتذة الولاية. الواحد منهم يُعطيك دورة في الولاية، يقول لك كيف تُصبِح ولياً لله، من أهل رضوان الله – إن شاء الله -، ومن أهل الجنة والقُرب.

قال خمسة أشياء. ونحن نحتاجها – والله -، وأنا أولكم. قال أولاً تلاوة القرآن بالتدبر. ليس المُهِم كم ختمة انتهيت منها، لا! لا بد من التدبر. الإمام أحمد بن حنبل كان يحفظ ألف ألف حديث بأسانيدها، أي وبطروقها طبعاً، وفي الأخير يُمكِن ألا تكون النصوص كلها عشرين ألف نص، ولكن هناك طرق وطرق وطرق، فتصير مئة ألف أو تصير مليوناً. ورآه أحد تَلاميذه في آخر حياته، يحمل دفاتره دائماً، وكلما سمع بمُحدِّث أو بإمام جاء إلى البلاد، جرى إليه. يجري! وانظر إلى هذا الإمام الجليل، شيخ الإسلام، أكبر حافظ في عصره، والناس تعرف هذا، فقيل له يا إمام، أفمثل هذه السن؟ أنت شيخ الإسلام، أنت أكبر حافظ في الدنيا! يقول من المحبَرة إلى المقبُرة – وهي أفصح من المقَبرة، أي المقُبرة -. كان يقول من المحبَرة إلى المقُبرة. وكان يقول لعل الكلمة – انظر إلى هذا، انظر! انظر إلى الناس العارفين بالله – التي تكون فيها نجاتي لم أقع عليها بعد. الله! هؤلاء الناس فاهمون، اليوم ترى أن أقل واحد فينا، حين تسأله أكبر سؤال، يقول لك هذه سهلة يا أخي، سهلة جداً جداً. حين تقول له كيف نحيا؟ وكيف كذا؟ يقول لك اقرأ كتاب الله، واعمل بالسُنة، والتزم بالإسلام، وادع الله، و… الناس تقول كلاماً، تُوزِّع كلاماً، وهم يظنون أن الأمور تتعلَّق بالكلام. حين تقول له فإذن كيف نُصلِح أوضاع الأمة؟ يقول لك هذه سهلة جداً، نعود إلى الله – تبارك وتعالى -، ونتمسك بالدين، و… إلى آخره، يا رجل، يا رجل خل عنا، أهلكتمونا بهذا الجهل وبهذا التسرع، وكأنكم تفهمون كل شيء.

أحمد بن حنبل قال لك لعل الكلمة التي تكون فيها نجاتي لم أسمعها بعد، لم أقع عليها. وهو حافظ مليون حديث، وحافظ القرآن، وحافظ الدنيا كلها. هذا شيخ الإسلام – رضوان الله عليه -، وهو يعرف أن كل الأشياء هي أبواب وسُبل، يُمكِن ألا أكون سلكت سبيلي إلى الآن، يُمكِن ألا تُقبَل كل أعمالي هذه، يُمكِن أن تكون مدخولة ومدغولة، لأن الله لا يقبل إلا بشرط الإخلاص، والإخلاص عزيز.

عمر بن عبد العزيز بكى الدم، لم تبق هناك دموع، تهتكت عيناه، والدم صار ينزل منه، من خشية الله، ومعروف عمر، وكم مرة كان يصعق! في مُعظَم الليالي يصعق، يصعق صعق الخشية، من خشية الله. عمر بن عبد العزيز زوجته فاطمة كانت تبكي عليه، تبكي دائماً وتقول هذا سوف يهلك. وهلك فعلاً، في خلال سنتين ونصف هلك، وأهلكه بنو أُمية، سمموه – رضوان الله عليه – وهو الرجل الصالح. ماذا كان يقول؟ والله لو أعلم يقيناً أن الله قبِل مني صلاة ركعتين، لقرت عيني وسكن فؤادي. أي كنت سأرتاح. قال، سأرتاح! ومن أين، والإخلاص عزيز؟ ليس عندي ثقة – قال – في أن الله قبِل مني صلاة ركعتين. هذا مِمَن يبكي الليل؟ هذا مِمَن يقضي الليل كله قانتاً قائماً ساجداً راكعاً؟ فما الغرور هذا الذي أصابنا نحن بحسب هذا المعنى؟ ما هذا الغرور؟ الواحد فينا حين يُصلي ركعتين، يظن من نفسه أنه صار شيخ العارفين. حين يرى رؤيا هكذا أو حين يرى النبي مرة في المنام، يصير يتكبَّر على الناس، ويقول هؤلاء لا بد وأن يأتوا لكي يبوسوا الأعتاب عندي ويُقبِّلوا الأيادي، أنا شيخ الأولياء. مسكين ومغرور!

لذلك لما قيل لأحد الصالحين، قيل له يا فلان رأيتك وإياي في الجنة رُفقة المُصطفى. قال له اذهب. اذهب وغرِّر غيري – قال له -، أتيت لكي تُحدِّثني عن رؤى؟ نحن نُريد رؤى؟ نحن نُريد أعمالاً – قال له -، نُريد أحوالاً، نُريد قلوباً، نُريد إخباتاً وخضوعاً لله – لا إله إلا هو -، وليس رؤى وأوهاماً ورأيت ولم أر، هذا لا ينفع. القضية جد يا إخواني، القضية جد! فأروا الله من أنفسكم خيراً. أثبِت لله أنك ذلك العبد.

إذن نعود، إن لله في أيام دهركم نفحاتٍ، ألا فتعرضوا لها، فلعله أن تُصيبكم نفحة منها، لا تشقون بعدها أبداً. يُمكِن أن يكون هذا مقصد الإمام أحمد. لا أعرف – قال لك – أين. لأن من المُمكِن أن تأتي النفحة هذه مع حديث أو مع بيت شعر أو مع آية قرآنية أو مع شيء ليس عندي إلى الآن ولم يُحرِّك قلبي. حين تأتي، سأدخل – إن شاء الله – إلى طريق السعادة، أسعد وأُعتق من الغضب ومن نار جهنم – إن شاء الله تعالى -. يا سلام! شيء عجيب، وهذا الحديث أخرجه الإمام الحكيم الترمذي والإمام أبو نُعيم في الحلية وأبو بكر البيهقي في شُعب الإيمان، وهناك اطلبوا الخير دهركم كله – من حديث أبي هُريرة مرفوعاً، قال اطلبوا الخير دهركم كله -، وتعرضوا لنفحات الله، فإن لله في أيام دهركم نفحاتٍ، وسلوه – تبارك وتعالى – أن يستر عوراتكم ويُؤمِّن روعاتكم. أي هذا قريب من الأول، قريب من الأول! وهذا شيء عجيب وجميل. قال لك نفحة واحدة تُدرِك العبد، لا يشقى بعدها – إن شاء الله تعالى -.

والنفح من ماذا؟ من نفح الطيب. حين يُخرِج أحدهم قارورة طيب ويضع منها شيئاً، تفوح الرائحة. يُقال هذه نفحة، نفح الطيب! هذا نفح الطيب. كتاب المقري نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب. والنفحات العطرية الأورادية الزهورية يا إخواني تُريح ماذا؟ البدن، والنفس (النفس العادية). والنفحات الربانية تُريح ماذا؟ الروح. ترقى بالروح، تطير بها الروح إلى الله – تبارك وتعالى -.

هذه نفحات إلهية، تخيَّلوا! نفحة العطر العادي تُسَر بها النفس والبدن، والله هذا صحيح، وينتعش الإنسان، وحتى الحيوان والأطفال، فكيف بالنفحة الربانية؟ ماذا يحدث حين تأتيك نفحة إلهية؟ وشهر رمضان شهر النفحات، في لياليه بالذات وأيامه أو نهاراته، شهر النفحات هذا. قال لك فتعرَّضوا. لا تنم، ولا تقعد، اشتغل، اعمل، هيئ نفسك، لكي تتعرَّض لها، لأن الله غني عنك، وأنت الفقير إليه، أليس كذلك؟ والفقير هو الذي يذهب إلى باب الغني، يمد يده، يستكدي، يشحذ، يسأل. فالغني لا يأتي إليك، أنت مَن ينبغي أن يذهب إليه، أليس كذلك؟ وهو من كرمه قال لك أنا قصرت عليك تسعة أعشار الطريق، أنا بعثت لك الخير، قم أنت وابحث عنه، قم أنت وتعرض له. تعرض للخير، كما تُوجِّه الطبق الخاص بك، لكي تأتي بالقناة الفلانية أو العلانية. أنت تُوجِّه الطبق ناحية الجهة بدقة، بالدرجة! وكذلك لا بد وأن تُوجِّه طبق القلب. وكيف يحصل هذا التوجيه؟ ليس بالجسم، لا! هذا توجيه الروح، بالنوايا، بالتوبة، بالطاعة، بالبكاء على ما فات، بالإقبال على الله، وبالضراعة. وهكذا يحصل التوجيه، وهذا هو التعرض، ألا فتعرضوا لها، ألا فتعرضوا لها!

لا تدري، لعل بسبب هذه النفحة، يكون لله معك وفيك، شأن! يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ۩. هذه من أعجب الآيات القرآنية، وأختم بها هذه الخُطبة، من أعجب ما في كتاب الله! حتى أن السادة العلماء ذكروا عن أبي السعاداتهبة الله بن عليّ بن الشجري – رحمة الله تعالى عليه – الآتي، مع أنه كان من أئمة اللُغة والنحو وأيام العرب وأحوالها وأشعارها، إمام جليل! ولكنه كان من أهل الصلاح، في القرن السادس الهجري، وعلى ما أذكر تُوفيَ في خمسمائة واثنين وأربعين – رحمة الله عليه -. ابن الشجري كان ذات يوم في درسه، فعرض له سائل، لا يعرفه، لأول مرة يراه – أي هذا السائل -، قال له يا إمام، أسألك في مسألة. قال تفضَّل يا أخي. قال يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ۩. هذا يُسمونه اليوم الشأني أو الشؤوني. يُوجَد عندنا يوم المعارج بخمسين ألف سنة، ويُوجَد عندنا يوم الملائكة ويوم التدبر العادي بألف سنة، ويُوجَد عندنا الأيام العادية، ويُوجَد عندنا الأيام الشؤونية. الأيام الشؤونية أقل من لمح البصر، لأن أمر الله – تبارك وتعالى – كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ۩. واسمه يوم أيضاً، هذا يوم بخمسين ألف، وهذا يوم أقل من لمح البصر، وليس أربعاً وعشرين ساعة، كُلَّ يَوْمٍ ۩، كل لمحة، هو في شأن. فهذا اسمه اليوم الشؤوني يا إخواني.

ثم قال له ما شأنه؟ هو يقول كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ۩، ما شأنه؟ ما شأنه؟ فلم يحضره الجواب، سؤال صعب هذا، ما شأنه؟ لم يحضره الجواب، فأنظره إلى الغد، قال له غداً تأتيني يا أخي – إن شاء الله -، سأبحث وأُراجِع. فتركه، وعاد ابن الشجري إلى بيته مُهتمَاً، بات مهموماً، ولا يُوجَد جواب واضح، راجع التفاسير العادية ولم يجد جواباً. ثم نام، فعرض له سيد الكل – صلوات ربي وتسليماته عليه، دائماً أبداً أبداً، وآله – وقال له يا فلان الذي آتاك هو الخضر – هذا ليس سائلاً عادياً، هذا أبو العباس الخضر، هذا الخضر -، فإن آتاك من الغد، فقل له الجواب شؤونٌ يُبديها ولا يَبتديها – لأن عنده الذكر وعنده أم الكتاب. الله لا يُوجَد شيء يبدو له، لا يُوجَد شيء يبدو له، أي لم يكن يعرفه، وبعد ذلك عرفه، أو لم يكن يقدره أو يقضيه، وبعد ذلك قدره، لا! كله موجود، وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ۩، ولكن هذه يُظهِرها طبعاً، يُخرِجها من كتم العدم إلى أنوار الوجود. شؤون يُبديها، أي يُظهِرها، ولا يَبتديها -، يرفع أقواماً ويخفض آخرين. اللهم ارفعنا بذكرك. يرفع أقواماً ويخفض آخرين. ففرح الرجل وشكر الله.

في اليوم التالي انعقد المجلس. فلما أوشك أن ينتهي، جاء السائل. فقال له نعم أيها السائل، جوابك عندي. قال تفضَّل. قال له شؤون يُبديها ولا يَبتديها، يرفع أقواماً ويخفض آخرين. فقال السائل على رؤوس الناس صل على مَن علَّمك. الخضر – عليه السلام – قال له صل على مَن علَّمك. والعجيب أن هذا فعلاً وارد في حديث مُسنَد إلى رسول الله، من حديث أبي الدرداء – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين -، قال قال – صلى الله عليه وآله وسلم – وقرأ يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ۩، شأنه أن يغفر ذنباً، ويُفرِّج كرباً، ويُجيب داعياً، ويرفع أقواماً ويخفض آخرين.

فيُمكِن بنفحة يا أحبابي – يا إخواني وأخواتي -، بنفحة ربانية علوية من الله – تبارك وتعالى -، أن يكون له فينا شأن. بهذه النفحة شأنه أن يرفعك، فتُصبِح – بعون الله – من صفوة عباده الصالحين، من أعلام عباده الذاكرين العارفين، تُصبِح نجماً في سماء الولاية – إن شاء الله تعالى -.

اللهم أعطِنا ونوّلنا ذلك بفضلك ومنّك يا كريم، يا جواد، يا مُحسِن، يا مُفضِل، يا مُجمِل، يا رب العالمين.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

 

الخُطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

طبعاً يا إخواني لم نُجب عن السؤال؛ كيف تخشع الجلاميد، الصخور، الجبال، ولا يخشع كثير من قلوب العباد، وهي مضى ولحم؟ لعلنا نتعرَّض للجواب عن هذا السؤال في خُطبة أُخرى – بإذن الله تبارك وتعالى -، ولكن الجواب مُجمَلاً بكلمة كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ۩. الحاجب الأكبر الذي يحول بيننا وبين أن نخشع لتجليات الله وبين أن نستروح نفحات وبين أن نسعد باطلاعات ونظرات الله: ذنوبنا ونفوسنا. ذنوبنا ونفوسنا! فما المعنى المقصود بنفوسنا؟ العُجب، رؤية النفس، رؤية الذات – والعياذ بالله -. فهذه أكبر حجاب عن الله – تبارك وتعالى -، وتتناقض مع تواضع العبودية.

قبل أن ننتهي، وقد انتهينا – بفضل الله تبارك وتعالى -، أقول خطر لي أو عنّ لي أن أُقارِن بين الذي حصل للكليم – صلوات ربي وتسليماته عليه – حين صعق صعق الخشية بتجلي الله للجبل، وبين محمد – صلوات ربي وتسليماته عليه -، والذي أخبرنا عن هذا الصعق الله – عز وجل – في سورة الأعراف، والذي أخبرنا عن الثبات والاقتدار والاستعداد العجيب الذي لم يُسمَع ولم يُخلَق مثله الرب نفسه – لا إله إلا هو – الجليل في سورة النجم، إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ ۩، انظر إلى هذا، مَا يَغْشَىٰ ۩، قال السادة العلماء غشيَ سدرة المُنتهى وهي المُحيطة بالسبع السماوات. فلا تظنوا أن هذه الشجرة قد هذا المسجد. سدرة المُنتهى مُحيطة بالسماوات السبع، غشيها من أنوار الله – لا إله إلا هو -، وهذا وارد في الأحاديث الصحيحة. غشيها من أنوار الله، شيء لا يُقادر قدره، لا يعرفه إلا الرب – لا إله إلا هو -، وهو قال إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ ۩، شيء لا يُوصَف.

وما الذي حصل مع الحبيب – عليه الصلاة وأفضل السلام -؟ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ۩. بصر حديد، كاشف، قوي، نافذ، ثابت، راسخ. لم يصعق، ولم يعم، ولم يعش، ولم يحسر. لا إله إلا الله! الله يُرسِل إلينا رسائل من تحت، ومن وراء وراء. يقول قارنوا بين كليمي وبين حبيبي. وأين كليمي من حبيبي؟ أين؟ ولذلك هو إمام الأنبياء – صلوات ربي وتسليماته عليه -، مالك أزمة النبيين، وقائد لواء المُرسَلين أجمعين. جمل آخرهم على أولهم، عيسى إلى آدم، وآدم إلى عيسى، كلهم تحت لوائه يوم القيامة، يقول ولا فخر. الله تجلى هكذا للجبل، ولكن تجلى للسدرة بما لا يعلمه إلا هو، ومع ذلك محمد لم يصعق، وما زاغ بصره وما طغى، وما كذبه فؤاده ما رآه.

كثيرٌ من العارفين والأولياء والعلماء يقولون رأى ربه – لا إله إلا هو -. الوحيد الذي اتفق له هذا في الدنيا رسول الله. على مذهب أهل السُنة والجماعة الله يُرى – تبارك وتعالى – في الآخرة لعموم المُؤمِنين – اللهم اجعلنا منهم – وفي الدنيا فقط لرسول الله، ولكن – انتبهوا – رؤية ليس فيها إحاطة، لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ۩. لأن بعض الناس يقول لك كيف؟ لو رآه، لأحاط به! غير صحيح، وفيها دليلان: واحد من ابن عباس، وواحد من مولانا أبي شمس الدين، عيسى الكردي – قدَّس الله سره، وهو شيخ مُعاصِر، مُتوفى سنة ثنتي عشرة وألف وتسعمائة للميلاد، شيخ كبير،  من كبار العارفين -.

المُهِم، ابن عباس حين اعترض أحد وقال كيف وما إلى ذلك، قال له هل ترى السماء؟ قال نعم، أراها، هذه السماء. هل تُدرِكها؟ قال له، أي هل ترى أبعادها كلها؟ قال له لا. قال له هذا هو. أنت ترى ولا تُدرِك. قال له، ولذلك الله يُرى – بعون الله تعالى – رؤية لا يعلم حقيقتها إلا الله، ولا يُدرَك، لأنه لا حد له – تبارك وتعالى -.

أبو شمس الدين، عيسى الكردي – قدَّس الله سره الكريم، العلّامة الزاهد الكبير الفهّامة – قال الآتي، وكان ضليعاً بالذات في الولاية وفي علوم التوحيد، علم التوحيد! حتى أنه قال مرة لو كتبت في التوحيد، لرفعت الخلاف بين الأئمة. بين الأشعري والماتريدي وأحمد وكذا، يعرف هذا. الشيخ طاهر الجزائري، علّامة سوريا، قال له أرجوك افعل. يعلم أنه يستطيع، ولكنه لم يفعل، كأنه غير مأذون، شيء ما! فتوحات ربانية. قال لو كتبت فيه، لرفعت الخلاف بين الأئمة – بإذن الله تعالى -. الله فتح عليه بفتوحات كثيرة.

ماذا قال؟ قال كالغاطس تحت الماء، إن فتح عينيه، نظر فرأى في الماء، إلا أنه لا يرى… ماذا؟ لا يرى حدود الماء. مُستحيل! يرى البحر هو؟ يرى المُحيط؟ ولكنه يرى الماء، وأين حدود الماء؟ لا أحد يعرف. هل هذا واضح؟ فكذلك قد ترى ربك – لا إله إلا هو -، ولكن لا تُحيط به. فالمحذور مُرتفِع إذن، وهو الإحاطة والإدراك، وقد نفاها القرآن الكريم في سورة الأنعام.

اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً وفقهاً ورشداً. افتح علينا فتوح العارفين بك. اللهم دلنا على مَن يدلنا عليك، اللهم سلِّكنا مسالكهم، اللهم أعد علينا من بركاتهم، اللهم ارحمنا كما رحمتهم وأعطنا كما أعطيتهم.

زِدنا ولا تنقصنا، وأعطِنا ولا تحرمنا، وأكرِمنا ولا تُهنا، وارض عنا وأرضِنا يا رب العالمين. اللهم إنا نسألك رحمةً من عندك، تهدي بها قلوبنا، وتجمع بها أمورنا، وتلم بها شعثنا، وترد بها غائبنا، وتحفظ بها شاهدنا، وتزكي بها عملنا، وتُبيِّض بها نواصينا، وتُوحِّد بها كلمتنا يا رب العالمين.

اللهم لا تحرمنا خير ما عندك بشر ما عندنا إلهنا ومولانا رب العالمين. نسألك فعل الخيرات وترك المُنكَرات وحُب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بعبادك فتنة، فاقبضنا إليك غير مفتونين ولا خزايا ولا مُبدِّلين ولا مُتحيِّرين يا رب العالمين.

أجِرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اجعلنا نخشاك حتى كأنا نراك، وأسعِدنا بتقواك، ولا تُشقِنا بمعصيتك، وخِر لنا في قضائك، وبارك لنا في قدرتك، حتى لا نُحِب تعجيل ما أخَّرت ولا تأخير ما عجَّلت، واجعل غنانا في أنفسنا، ومتِّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أبقيتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على مَن ظلمنا.

اللهم أغننا بالافتقار إليك، ولا تُفقِرنا بالاستغناء عنك. اللهم أغننا بالافتقار إليك، ولا تُفقِرنا بالاستغناء عنك. اللهم أغننا بالافتقار إليك، ولا تُفقِرنا بالاستغناء عنك. نسألك حُبك، وحُب مَن أحبك، وحُب العمل الذي يُقرِّبنا إلى حُبك.

اللهم ما رزقتنا مما نُحِب، فاجعله قوة لنا فيما تُحِب، وما زويت عنا اللهم مما نُحِب، فاجعله فراغاً لنا فيما تُحِب. اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربونا صغاراً، اجزهم بالحسنات إحساناً وبالسيئات مغفرةً ورضواناً، واغفر اللهم للمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات، بفضلك ورحمتك، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات.

ارحمنا في رمضان، واغفر لنا ذنبنا كله، دقه وجله، قديمه وحديثه، ظاهره وخافيه، في شهر رمضان، وأعتق في رمضان رقابنا ورقاب آبائنا وأمهاتنا وأصولنا وفروعنا وإخواننا وأحبابنا والمُسلِمين والمُسلِمات أجمعين بفضلك ومنّك من نار جهنم، ووفِّقنا فيه لليلة القدر، وأجزل لنا فيها الأجر يا رب العالمين، إلهنا ومولانا رب العالمين. لا إله إلا أنت سُبحانك إنا كنا من الظالمين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من أفضاله يُعطِكم، وأقِم الصلاة.

 

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

فيينا 17/5/2019

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: