إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. مَن يهده الله، فلا مضل له. ومَن يُضلل، فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ولا نظير له، ولا مثال له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفوته من خلقه، وأمينه على وحيه، ونجيبه من عباده. صلى الله تعالى عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته المباركين الميامين، وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.

عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أحذركم وأحذر نفسي من عصيانه سبحانه ومخالفة أمره، لقوله جل من قائل مَّنْ عَمِلَ صَٰلِحًا فَلِنَفْسِهِۦ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّٰمٍۢ لِّلْعَبِيدِ *.

ثم أما بعد/

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات/

يقول الله عز وجل في كتابه الكريم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:

وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ * وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ * وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لّا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ * وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ *

صدق الله العظيم، وبلغ رسوله الكريم، ونحن على ذلكم من الشاهدين. اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين، اللهم آمين.

إخوتي وأخواتي/

قصة نبي الله، مضرب المثل في الصبر، أيوب – عليه وعلى أنبياء الله جميعا وآل كل صلوات الله وتسليماته -، قصة عجيبة من غير وجه! ومُلهمة من أكثر من ناحية وزاوية! وردت هذه القصة في كتاب الله تبارك وتعالى في موضعين اثنين، في موضعين اثنين قصته، ولا أعني اسمه، إنما القصة! في هذا الموضع الجليل، الذي سمعتم، من سورة الأنبياء، والموضع الثاني في سورة ص، وفيه إضافات! فيه إضافات وزيادات لم ترد في سورة الأنبياء، منها قوله تبارك وتعالى على لسان أيوب – عليه الصلاة وأفضل السلام – أَنِّى مَسَّنِىَ ٱلشَّيْطَٰنُ بِنُصْبٍۢ وَعَذَابٍ *، وأن الله أجابه فقال ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ *، يتفق الموضعان في قوله وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الأَلْبَابِ *، المعنى واحد، مع اختلاف في بعض الألفاظ! ثم – الزيادة الثالثة – قوله تبارك وتعالى وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ *.

على كل، قصة أيوب، كما سمعتم، لم ترد إلا في موضعين من كتاب الله. ولم يرد عن أيوب، على لسان رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا – فيما صح عنه وثبت، إلا حرف واحد، حديث واحد، لا ثاني له، وهو الحديث الصحيح الذي يقول فيه – عليه الصلاة وأفضل السلام – إن أيوب كان يغتسل عُريانا، فأرسل الله عليه، أو خر عليه في لفظ، جراد من ذهب، وفي رواية أُخرى رجل، أو رجل جراد! جماعة جراد، الرجل الجماعة، من ذهب! فجعل أيوب – عليه الصلاة وأفضل السلام – يحتثي في ثوبه من هذا الجراد.

هذه مُعجزة أو آية من آيات الله تبارك وتعالى! فناداه الله تبارك وتعالى أن يا أيوب ألم أكن أغنيتك عن هذا؟ قال بلى وعزتك، لكن ما بي غنى عن بركتك. بلى وعزتك، أغنيتني! لأن الله آتاه ما سمعتم! إذا كان هذا بعد البلية، والظاهر أنه بعد البلية، بعد المُعافاة من البلاء العظيم الذي حل بساحته، هذا الظاهر، والله أعلم! فالله تبارك وتعالى أغناه، بأن عوضه ضعف ما فقد، من المال والولد والأهلين؛ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ *، نعم! قال بلى وعزتك، ولكن ما بي غنى عن بركتك.

هذا الحديث الوحيد الذي صح عن رسول الله في أيوب. ولم يصح ما سوى ذلك، مما يرفعه بعض الصحابة، أو مما يرفعه بعض الرواة؛ لأن الراجح أن الصحابي لا يغلط ولا يفعل، كحديث أنس مثلا، الذي يُرفع إلى رسول الله، قال الحفاظ، منهم الحافظ ابن كثير – رحمة الله عليه – رفعه غريب جدا! رفعه إلى رسول الله غريب جدا! فالأرجح، الأصح، الأقوى، أنه موقوف على الصحابي – رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين -.

نعم، الصحابة وردت عنهم عدة آثار، جُملة آثار، عن أيوب، لدى التأمل فيها، مُعظمها ثابت في روايات أهل الكتاب، مُعظمها مأخوذ من روايات أهل الكتاب! بل بعضها مأخوذ من سفر أيوب، وهو أحد أسفار العهد القديم! أحد أسفار العهد القديم والذي يُرجح الدارسون للعهد القديم وتاريخه أنه كُتب وزُبر في القرن الخامس، قبل ميلاد السيح المسيح؛ لأن أيوب – عليه الصلاة وأفضل السلام – من نسل إسحاق، لكن لا من جهة يعقوب، وإنما من جهة عيصو، هو ابن إسحاق في نهاية المطاف، ابن إبراهيم – عليهم الصلوات والتسليمات جميعا -.

الذي نعرفه جميعا، أيها الإخوة والأخوات، ويعرفه العالم المُوحّد تقريبا، عالم الأديان الثلاثة، أن أيوب مثال يفتخر به المؤمنون ويستلهمونه في الصبر. هو مضرب الأمثال في الصبر على قضاء الله، على اختبار الله، على امتحان الله، على أقدار الله المؤلمة. أنا لا أُريد أن أتعرض لقصة أيوب، كما تعرضت لها الروايات الكثيرة في الأدبيات الإسلامية، هذه مُتاحة وموجودة في كُتب التفسير وفي كُتب الآثار والأحاديث أيضا، خاصة في كُتب التفسير، تحشر إلى ذلك الموضع من سورة الأنبياء وسورة ص، ما صح وما لم يصح مما ورد عن الصحابة، وعن مُسلمة أهل الكتاب، كوهب وغيره! فهذا يُطلب في مظانه، وهو مُتاح للجميع! إنما أُريد أن أُلقي نظرة على قضية أيوب، من زاوية سفره، المُسمى باسمه.

وهذا السفر، أيها الإخوة، يمتد على مدى تقريبا اثنين وأربعين إصحاحا. الإصحاح الأول منها فقط يتحدث عن بليته، بشكل عاجل ومُقتضب! ثم سائر الإصحاحات عن الآتي؛ كل سفر أيوب هو جولات ثلاث أو ثلاثة – يجوز نحويا، جولات ثلاث أو ثلاثة – من الحوار، بين أيوب – عليه الصلاة وأفضل السلام -، وثلاثة رجال مُسنين، من أهل الفضل، من أهل الاستقامة فيما يبدو، من أصحابه، يبدو أنهم من قدماء أصحابه! أتوا إليه؛ لكي يرثوا لحاله ويعزوه، لكي يرثوا لحاله ويعزوه في بليته ومُصابه! صفحات كثيرة، أكثر من أربعين إصحاحا فقط في هذه المُحاورات، مكتوبة بطريقة شعرية، ومُترجمة طبعا إلى العربية بطريقة تُشبه الشعر، لكنها ليست بشعر! واضح أنها مكتوبة بطريقة شعرية.

الذي يستوقف، أيها الإخوة، الناظر ومُنعم النظر في هذا السفر، طبيعة هذه الحوارات، والرسالة العقدية أو اللاهوتية كما يقولون من ورائها، وهي رسالة في غاية الأهمية، رسالة في غاية الأهمية وينبغي أن نقف نحن بدورنا عندها مليا؛ لأنها تخصنا، وتخص كل مُتدين، يهوديا كان أم مسيحيا أم مسلما، تخص كل مُتدين وكل مَن يُريد أن يقترب من الله أكثر، أن يفهم الله أكثر تبارك وتعالى، أن يفهم عن الله أعمق وأغور وأبعد وأدق وأصح، بقدر المُكنة، بقدر ما تتسع له الأطواق البشرية – إن جاز التعبير -.

النُقطة التي أُريد أن أقف عندها، وأُلخّص بها كل هذه الجولات الطويلة جدا، من المُساجلات والمُحاورات، بين هؤلاء الأربعة، وإن انضم إليهم في آخر السفر شخصية خامسة؛ أليهو، لكن لا نُريد أن نقف لديها. والسفر طبعا في نهاية المطاف، خُتم بالخاتمة القرآنية ذاتها؛ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ *، خُتم أيضا باقتضاب وبسرعة بخاتمة سعيدة! عوّض الله تبارك وتعالى أيوب، عوّضه من أهله وأولاده. هو فقد كل شيء! سبعة أبنائه الذكور، ثلاث بناته الإناث، كل ما كان يملك من مواشي وبهائم وأراض وعبيد وخدم وأموال، والأشد؛ الصحة.

كيف يعرض الكتاب المُقدس، أو سفر أيوب، هذه القضية؟ هنا يلتقي العرض بما ورد في سورة ص؛ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ *! لأن هذا السفر يذكر أن الرب – يُعبّر عنهم بلغتهم يهوه، هذا رب بني إسرائيل، رب العبرانيين – تبارك وتعالى باهى وفاخر باستقامة عبده أيوب، الذي يفعل الخيرات، ولا يحيد عن الخير والصلاح، مُستقيم تماما! استُفز الشيطان اللعين – لعائن الله مُتتابعة عليه -، وقال كلاما مُحصله وما الذي يُتوقع غير هذا؟ لا أُريد أن آتي بنص الألفاظ، لاعتبارات أيضا دينية؛ لأن الكتاب المُقدس، حين نقرأه نحن كمُسلمين، نُصدم! الكتاب المُقدس فيه تجرئة للأسف الشديد على التجديف، سواء على لسان حتى الأنبياء أنفسهم للأسف الشديد، أو أزواج الأنبياء، أو أتباع الأنبياء، أو الأبالسة، فيه جراءة غير طبيعية، على مقام الله، لا إله إلا هو! نحن لا نستطيع أن نقترب حتى من هذا، والحمد لله على نعمة التوحيد الخالص الواحدي الأحدي، وتسبيح الله وتنزيهه وتقديسه بما يليق بجلاله.

على كل حال، استُفز الشيطان اللعين، وقال كلاما مُحصله وما الذي يُتوقع غير هذا؛ أن يكون مُستقيما وتقيا وشكورا؟ لماذا؟ لأنه يعيش في رفاه، عيش رافه باذخ! زوجة، وأولاده كثيرون؛ أبناء وبنات، وأموال، وخدم، وحشم، وأراض مُتسعة مد البصر، وأموال لا تأكلها النار! لِمَ لا يكون راضيا وشاكرا للرب؟ الله تبارك وتعالى أعطى الشيطان إذنا أن يمد يده؛ ليأتي على هذه النعم. وفي ظرف أيام يسيرة، هلك أولاده، فقد زوجته، سُرق ماله، عاد إلى العُدم، لا شيء عنده! ظل بلا شيء!

طبعا في البداية يقول السفر إنه صُدم، مزق جُبته، حثى التراب على رأسه! لكن لسانه مُنضبط، هذا على حد قول نبينا – صلوات ربي وتسليماته عليه – إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، ولا نقول إلا ما يُرضي الرب، لا إله إلا هو! نعم، هو هذا. هو حزن، لا نقول جزع بالاصطلاح القرآني، لم يجزع بالاصطلاح القرآني، لكنه قال عُريانا من رحم أمي خرجت، وعُريانا أعود إلى باطن الله، الرب أعطى – هم يقولون يهوه -، والرب أخذ! لا اعتراض! سلم، نجح في الاختبار.

لا يزال أيوب موضع فخر، موضع مُباهاة. طبعا موضوع المُباهاة وارد في الأدبيات الإسلامية، أيضا هناك أخبار وآثار أن الله يُباهي بالصوّام، يُباهي بالصوّام! ونحن على مشارف حلول الشهر المُبارك الفضيل. نسأل الله أن يُحله علينا وعلى العالمين، وقد عاد إلى العالمين استقراره، وأن يُجنبنا ويُجنب العالمين ويلات ما قد ينشب من هذه الحرب الثالثة! يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ  *، يا رحمن، يا رحيم، امح هذا البلاء، واكتب استقرارا وأمنا للدنيا كلها، وجنبنا هذا الجنون وهذا الشر الكبير المُستطير، اللهم آمين. ليس لنا إلا الدعاء، ألظوا بيا رحمن، يا رحيم، وادعوا الله دائما، يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ  *، لا إله إلا هو! له الطلاقة الكاملة، له الطلاقة الكاملة في كل ما يُريد وفي كل ما يقضي ويُقدّر، لا إله إلا هو!

على كل حال، إذن نجح في الاختبار. إبليس لم يستسلم، جلد بجلد! قال الاختبارات لم تمسه في ذاته، لكن اسمح لي أن أمسه في صحته، في عافيته، وسوف ترى كيف ينقلب عليك – أستغفر الله – ويلعنك. يقول هذا والعياذ بالله! هذا موجود في الكتاب المُقدس، لعن الرب، أستغفر الله العظيم، شيء مُخيف مُرعب، ألفاظ تقشعر منها الأبدان! الله شأنه أعلى من ذلك بكثير، بصراحة! مرة أُخرى، الحمد لله على نعمة القرآن.

سمح الله لإبليس أن يمَد يده أو يمُد يده، فيمسه بهذا العذاب. وهكذا كان، أُصيب بمرض لا شفاء منه، من الأمراض المُستعصية النادرة! ضربه من مفرقه، إلى أخمصه! من رأسه، إلى أسفل قدميه! الكتاب المُقدس يعرض هذا المعرض بطريقة مُنفرة، وبطريقة مؤسية جدا جدا! تقرح بدنه بالكامل، تعفن بدنه. أخذ قطعة من فخار، يحك بها جلده. يبدو أنه نوع من الجرب أيضا، وربما اجتمع إليه الجذام، لا ندري! مرض غريب جدا! أُلقيَ في مكان فيه رماد؛ لأنهم بالرماد يُداوون هذه الأشياء، يرجون الشفاء منها، ولا شفاء!

اختبر أيوب – عليه السلام -، اختبر نوعين من البلاء، نوعين من الألم، من المُعاناة، من المرارة؛ المُعاناة الجسدية، بحيث أنه كان لا يستطيع أن ينام في الليل. ليله امتداد لنهاره، مُجرد كابوس مُتصل مُتجدد، شيء مُخيف! لكن المُعاناة يبدو التي أنها كانت أصعب على نفسه وأغور تأثيرا؛ مُعاناة وخبرة التخلي التام. حين تقرأ سفر أيوب، الرجل – عليه الصلاة وأفضل السلام – خبر تجربة التخلي المُطلق. كل أصدقائه تخلو عنه، قطعا ليس ضربة واحدة، شيئا فشيئا.

للأسف هذا حدث، ويحدث! طبيعة البشر! البشر، ما مدام المرء موفقا ومتفوقا عليهم؛ متفوقا عليهم في السُلطة، في المال، في النفوذ، في أي شيء! يحترمونه، يُظهرون له الحُب والاحترام والإجلال والتكرمة، على أننا نعلم جميعا، فنحن بشر، أن مُعظمهم من عند آخرهم، على الإطلاق! مُعظمهم؛ مُعظم هؤلاء، في بواطنهم يغارون منه، ويحسدونه، طبعا! وينقمون عليه. هؤلاء البشر! أين تجد مَن يفرح للآخرين الذين جاوزوه وتفوقوا عليه من هذه الحيثية؛ من حيثية أنهم يتجاوزونه؟ الإنسان أناني، الإنساني أناني وكفور ويدور حول نفسه، يعبد ذاته أكثر مما يعبد ربه، لا إله إلا هو!

فقط مَن يعبد ربه حقا، مَن عرف ربه حقا، هو الذي يرضى بأقدار الله، فيه وفي غيره، ولا يُنازع الله في أقداره، فلا يعرف هذه الدرجة الوقحة من الحسد، ثم من المُنافسة غير الشريفة، ثم من البغي، ثم من الشماتة، ثم من تمني الضُر والكارثة والنكبة للآخرين، لا! العارف لا يصل إلى هذه المواصل – بفضل الله تبارك وتعالى -، لكن أين هو العارف؟ عرفنا الله به، وأصلحنا الله بما أصلح به عباده الصالحين، صفوته وخلصانه من عباده.

على كل حال، هذا حدث ويحدث! حتى إذا ما أدار له الزمان ظهره كما يُقال، قلب له ظهر المجن، دار عليه الدهر، والدهر قُلب، والأيام دول! ظهرت الشماتة، وظهر الفرح؛ الفرح بالنكبة، والفرح بالكارثة! وظهرت التفسيرات، وفي رأسها التفسيرات الدينية واللاهوتية، للأسف – هذا ما أردته، وهذه خُطبة اليوم – مُعظمنا يفعل هذا، أحيانا دون أن يدري، أو في أكثر الأحايين دون أن ندري، انتبه! نُخرج مُباشرة التفسيرات العقدية الجاهزة؛ لكي نُفسر نكبات الآخرين؛ أمما وشعوبا وأفرادا، انتبهوا! هذا موضوع خُطبة اليوم، هذا موضوع خُطبة اليوم وله علاقة بجوهر جوهر الدين، باطن جوهر الدين! هو هذا، سوف نرى كيف.

المُهم، المُعاناة الثانية إذن مُعاناة التخلي المُطلق، وهي أصعب. الأقرباء فروا واحدا واحدا، تسللوا لواذا! كذلك الأصدقاء والمعارف، حتى الزوجة، زوجه! خلافا لما ورد في الروايات الإسلامية، عن صحابة وتابعين! النبي لم يتكلم أبدا. القرآن أشار إلى موقف زوجه بطريقة ليست واضحة تماما، يبدو أنها أتت شيئا أغضبه غضبا شرعيا، فحلف أن يضربها كما ورد في الروايات، القرآن لم يُفصل هذا! حلف أن يضربها مئة ضربة؛ مئة سوط، أو مئة جلدة، أو مئة ضربة!

القرآن العظيم يُعطينا إشارة خفية، أن هذه الزوجة – لذلك أنا منحاز إلى الروايات الإسلامية – في الجُملة كانت صالحة وكانت طيبة، ويبدو أنها لم تتخلى عنه، على عكس ما يذكر سفر أيوب، هذه الزوجة اتخذت موقفا إلحاديا تجديفيا كفريا! لما تمادى به المرض، لم يستجب له الله تبارك وتعالى، فيكشف ما به من ضُر وبلوى، قالت له كفى – أستغفر الله -، العن ربك، واترك كل هذا. هكذا قالت! هذا ما ذكرته لكم، تخيلوا! وهذه زوجة نبي! تأمره أن يلعن! أستغفر الله، ما هذا؟ هذا يهمنا أيضا في خُطبة اليوم، أو مُحاضرة اليوم، يهمنا جدا! لماذا؟

لأن الذين يبنون صورة الله تبارك وتعالى المُعتقدية كما أسميها – الصورة المُعتقدية لله – على كتاب، يتضمن مثل هذه الأشياء – انتبهوا -، لا بُد أنهم يحتازون لاهوتا، ثيولوجيا، علم عقيدة، يختلف عما لدينا، انتبهوا! وهذا يؤثر في الإنسان. مُهم أن نفهم هذا! سأعود إلى هذه النُقطة بطريقة شديدة الحراجة، في آخر الخُطبة – إن شاء الله -، إن لم أسه عنها.

على كل حال، قالت له افعل هذا، وانتهى كل شيء. فتخلت عنه! القرآن لا، يبدو أنه يُعطينا إشارة إلى أنها لم تتخلى. أتت أمرا أغضبه، بعض الرواة يقولون لدينا إن الشيطان عرض لها، وأوحى إليها، ووسوس إليها بأن شفاء أيوب، أن يأتي الشيء الفلاني. يبدو أنه كان شيئا مُحرما في شرعهم ودينهم. فقالت له افعل كذا، كذا، هذا شفاؤك. غضب غضبا، وقال إذا شفاني الله تبارك وتعالى، لأضربنك مئة جلدة، أو مئة سوط، أو مئة ضربة. يبدو أنها لم تتخلى عنه، وربما استغفرت لذنبها، وبقيت مُلازمة له، مواسية له في محنته، التي طالت.

لا سفر أيوب يذكر كم طالت بصراحة ولا القرآن، بالعكس! حين تقرأ سفر أيوب، يبدو أنها لم تطل ذلك الطول، أي لم تتماد تلك المُدة التي نحسب، أي هكذا تخرج بانطباع. في الروايات الإسلامية، الحافظ ابن حجر يقول الصح ما ورد في هذه، ما رواه ابن أبي حاتم، أنه مكث في البلاء ثلاث عشرة سنة. في روايات أُخرى، أكثر شُهرة من هذه الرواية، لكن لم يُصححها الحافظ، ثماني عشرة سنة. بعضهم بالغ وقال سبعين سنة. لأنه مكث في النعيم سبعين، فهو لم يدع إلا بعد أن غبر عليه في البلاء سبعون. وهذا فيه مُبالغة، ويبدو أنه أيضا مُستقى من روايات أهل الكتاب ومن سفر أيوب؛ لأن في الخاتمة السعيدة لسفر أيوب أنه بعد أن منّ الله عليه بالمُعافاة والشفاء، عاش مئة وأربعين سنة.

وطبعا العهد القديم كله، والكتاب المُقدس عموما، لم يكن تُرجم في تلك الحقبة. هو تُرجم تقريبا في عهد الرشيد لأول مرة، أول ترجمة! وهذه الروايات سابقة، فيبدو أنهم تتناهى إليهم بعض الآيات من الكتاب المُقدس، ولا يضعونها في مواضعها، سمعوا بالرقم مئة وأربعين، ظنوا أنه عاش جُملة حياته مئة وأربعين سنة، قسموها سبعين في النعيم، أي وسبعين في العافية، وسبعين في البلاء. على كل حال، الله أعلم! هذا لا نحتاج إليه، ولا يترتب عليه كبير أمر.

فأرشده الله تبارك وتعالى إلى حيلة. هذه الآية من سورة ص الأصل في تأصيل الحيل. تسمعون بالحيل الفقهية، التي توسع فيها السادة الأحناف، السادة الحنفية – حياهم الله وبياهم -، على كل حال ما لم يتوسع غيرهم، فهذا أصل في التأصيل للحيل الشرعية! وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا *، إثكالا! هذا قد يكون فيه مئة فرع، مجموعة! واضرب زوجك ضربة واحدة، تكون بمثابة مئة ضربة. انتهى! هذه حيلة. وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلا تَحْنَثْ *، لا تحنث في يمينك. فالله علمه كيف يخرج من يمينه غير حانث، وهذا يُشير إلي أن زوجه كانت صالحة، وأنها لم تتخلى عنه. سفر أيوب يقول إنها تخلت عنه، وجدفت، بل كفرت ذلك الكفر – والعياذ بالله -، وكفرت ذلك الكفر! هذا كان أصعب عليه كثيرا! على كل حال، هذه تقدمة.

في يوم من الأيام، يبدو أنه بعد أن طال به البلاء، سمع به أصحاب وأصدقاء قدماء له، وكانوا مُسنين، كما يقول شراح الكتاب المُقدس، كانوا مُسنين! ثلاثة؛ أليفاز التيماني، وبلدد الشوحي، وصوفر النعماني. هذه أسماؤهم كما وردت في سفر أيوب. جاءوا إليه؛ لكي يرثوا له، كما قلت لكم، هكذا يقول سفر أيوب، ويعزوه. وانظروا – ما شاء الله – كيف كانت التعزية! لم تكن تعزية في الحقيقة والواقع، بل كانت مُساءلة ومُحاكمة وإدانة، كانت مُساءلة ومُحاكمة وإدانة! حين تقرأ المُحاورات الثلاث أو الجولات الثلاث من المُساجلة، طبعا تخرج بانطباع أولي، وهو صحيح، أن أفضلهم كان أليفاز. أليفاز كان أفضل الثلاثة، وبدأ بداية معقولة نوعا ما، لكن مع كل جولة، كان يُشدد النبرة، ويُشدد الإدانة، ويُضيق الطوق على أيوب.

مُلخص هذه المُحاورات التي ملأت عشرات الصفحات، ويُمكن أن تقرأوها بأنفسكم، باختصار؛ يا أيوب، ما أصابك ما أصابك – الأولى النافية، والثانية موصولة. أي ما أصابك الذي، ما أصابك ما أصابك – إلا بسبب جُرمك وذنبك. أعلن التوبة، أقر يا رجل واعترف، والله تبارك وتعالى سيُكافئ توبتك بأن يُعافيك ويشفيك. انتهى كل شيء، هذا هو. عجيب! أي الذي أصابني كان عقابا على ذنوبي؟

أيوب، في سفر أيوب، وفي الأدبيات الإسلامية، كان رجلا شديد الورع فعلا، وشديد الاستقامة، حتى أنه كان يُضحي الأضاحي ويُقرب القرابين؛ تكفيرا عما عسى أن يكون بدر من أولاده في لهوهم، في لهوهم ولعبهم، في جانب الله تبارك وتعالى! وهو يخاف من هذا جدا، فيتصدق بالصدقات، ويُضحي، ويُقرب القرابين؛ تكفيرا وإرضاء لله تبارك وتعالى. أيوب لم يكن يطيب له العيش وحوله جوعى، وحوله عرايا، وحوله مُعدمون، أبدا. كان يُقاسم، وكان يُعطي، وكان يُواسي، باستمرار.

عندنا في الأدبيات الإسلامية، هذا الحديث الذي استجوده الحافظ ابن حجر وغيره، ولكن كما قلت لكم رفعه غريب جدا إلى رسول الله، هذا حديث أنس بن مالك. حديث أنس بن مالك، أنه لما طال البلاء بأيوب، جاءه أخوان له. هكذا يقول أخوان. لا ندري هل كانا أخوين شقيقين، أم أخوين في الدين – كانوا مُتواخين -؟ لا ندري. على كل حال، جاءه أخوان، الظاهر أنهما أخوان في الدم، أخوان له! وقالا له يا أيوب، ما حل بك ما حل، إلا بسبب ذنبك، بسبب تقصيرك وإجرامك في جنب الله، تُب إلى الله. هذه رواية مَن؟ أنس بن مالك. وواضح أنها مأخوذة من سفر أيوب، وقضية أليفاز وبلدد وصوفر. لذلك الحافظ ابن كثير، كعالم عظيم بالأسانيد والمتون، قال رفعه غريب جدا إلى رسول الله! هذا لا يُشبه أن يكون من كلام رسول الله. وفعلا هذه إسرائيليات! هذا مأخوذ من سفر أيوب، واضح! هذا مأخوذ من سفر أيوب.

على كل حال، إذا قرأتم الكتاب المُقدس بطوله، وهو طويل، كُتب في كتاب! سوف ترون كم أثر في الروايات الإسلامية! روايات كثيرة، تُروى، تُنسب إلى الصحابة، وأحيانا تُرفع إلى الرسول، وأصلها كتابي واضح. وجُملة منها طائلة لا تلتئم بالمُعتقد الإسلامي ولا بالتفسير الإسلامي القويم لأشياء كثيرة في الدين والحياة. فهذا لا بُد منه! فالإسرائيليات ليست فقط أن يُقال عن كعب الأحبار، عن وهب بن مُنبه، من مُسلمة أهل الكتاب، لا! الإسرائيليات لا بُد أن تُسبر وأن تُختبر وأن تُدرس بدراسة المتن نفسه، من أين أتى هذا المتن؟ من أين أتى هذا المعنى؟ إن لم نجده في صحيح وثابت الأحاديث بطريقة مُرجحة، ولا في ظاهر كتاب الله، فمن أين أتى؟ واضح أنه أتى من أهل الكتاب، من طرف أهل الكتاب. فلا بُد أن نكون حذرين، وأن نكون مُدققين.

على كل حال، فقال لهما كيف تقولان هذا؟ أنا؟ الله تبارك وتعالى يعلم – وهذا بالذات فعلا في سفر أيوب – أني كنت أرى الرجلين يتنازعان، فيذكران اسم الله – فيذكران اسم الله تبارك وتعالى، فربما ذكراه في غير محله. أي يحلفان، وربما كذب أحدهما، ربما بالغ -. قال فأذهب، فأُكفر عنهما. وهذا موجود في سفر أيوب. أذبح، وأقول يا ربي هذه كفارة عنهما. انظر، رجل مُستقيم، وطيب، ويُحب الناس، ولا يُحب أن يهلك الناس. وليس رجل مواعظ على فكرة، أيوب النبي ليس رجل مواعظ؛ لا تحلفوا باسم الله، الحلف باسم الله عظيم، اتقوا الله. لا، هو يعلم الناس ستسير على ما تسير عليه، لكن يذهب ليُكفر عنهم. لا إله إلا الله! هذا مذكور في سفر أيوب، لكن عن أولاده! أنه كان يفعل هذا عن أولاده. هنا عن أُناس أغراب أجانب منه.

على كل حال وهكذا، ولذلك تأثر جدا. في هذه اللحظة دعا ربه. ويبدو أنه، بحسب هذه الروايات، لم يدع ربه من قبل. في سفر أيوب دعاه كثيرا. يبدو أنه دعاه مُنذ البداية، والله لم يستجب إليه. هكذا! لا، في الأدبيات الإسلامية، وهذا الذي نُرجحه، أنه لم يدع بالمُعافاة والشفاء، إلا بأخرة، حين تمادى به الأمر جدا. بعض الروايات الإسلامية تقول السبب كان ماذا؟ ليست هذه المُحاورة الثلاثية، أو الثنائية في حديث أنس، وإنما لأنه حين تخلى عنه الكل، وزوجه كانت تعمل عند الناس في الخدمة – تخيل! زوجة أيوب، الذي عنده أراض، آلاف الفدادين، وآلاف الكذا. تعمل عند الناس في الخدمة -، بعد حين رفضت كل البيوتات أن تعمل زوجه لديها، لماذا؟ خشية العدوى. مرض مُعد، وبعد ذلك تنقلين لنا العدوى – هذا كوفيد Covid أيامهم -، فلا، لا تأتي. إذن من أين تأكل؟ ومن أين تُطعم هذا المسكين – عليه السلام -؟

فاضطرت – رضي الله عنها، إن صحت هذه الرواية – أن تقص ضفيرتها، وهذا من أثمن ما تمتلك المرأة. كان لها ضفيرتان عظيمتان ثخينتان، قصت إحداهما، بالفلوس! الناس يصلون شعرهم وشعر بناتهم بهذه الضفائر، الوصل! كان معروفا هذا. فباعتها، وجاءته بطعام طيب، ومدته بين يديه. من أين لك هذه؟ وهو يعلم أنها لم تعد تعمل. قالت الله يسره. أُناس تصدقه به علينا وما إلى ذلك. صدّق! في اليوم التالي، كيف تُطعمه؟ قصت الضفيرة الثانية، وأتته بطعام طيب. فاستحلفها بالله من أين لك هذا؟ شك. فكشفت القناع عن رأسها، أي الخمار، فإذا بشعرها مقصوص! فتأثر جدا – عليه السلام -، ورفع يديه إلى أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ *. أي انظر، هذا الإنسان العظيم، في نفسه تحمل، احتمل كل شيء! لكن يبلغ الأمر أن زوجتي تصل إلى هذه الحالة، وتبيع ضفيرتيها! قال له يا رب، لا.

سُبحان الله! أوحى الله إليه؛ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ *. قال له اضرب الأرض برجلك هكذا. ضرب، فنبع ماء، لا إله إلا الله! آية من آيات الله! هذه آية لأيوب! نبع ماء بارد طيب. قال له اشرب منه واغتسل. فشرب واغتسل، فعاد كأحسن ما يكون. طبعا في الوضع العادي، إن كانت المُعجزة تامة، فمن المُمكن إن يكون قد عاد في نفس اللحظة، هذا ليس على الله بعزيز، لكن الأقرب أن يكون عاد في أيام وأسابيع. الرواية تقول لا، عاد وقتيا. لا يُوجد شيء بعيد من قدرة الله! على كل حال، هذه مسألة هينة أيضا. حتى أنه حين خرج، لم تعرفه زوجه! يا عبد الله، أرأيت رجلا هنا مسكينا وما إلى ذلك؟ قال لها يا فلانة. كيف يعرف اسمها؟ المُهم، فوجئت أنه أيوب! لم تكد تعرفه! لم تعرفه! جميل، بجلده، بكل شيء، ما شاء الله! عاد كأحسن ما كان – عليه الصلاة وأفضل السلام -.

على كل حال، موضع العبرة، أيها الإخوة، وموضع البحث أيضا والتفريع وتشقيق الكلام وتشعيبه في هذه الخُطبة، هو دلالة هذه المُحاورة، في جولاتها الثلاث. الثلاثة أفهموه، كما قلت لكم، أن هذا بشؤم ذنبك. واقترحوا أنواعا أربعة من الذنوب؛ إما أنه حُب التسلط على الخلق؛ لأنه كان غنيا وعنده عبيد وعنده خدم. تُحب التسلط على الناس وقهر الناس! أما هم، فلا يتسلطون! هم الآن يقعون في التسلط المعنوي، وهو أبشع من التسلط المادي، دون أن يدروا! الغرور الديني! وإما أنه الفجور، وأستغفر الله العظيم، فجور ماذا؟ فجور! افهموها كما هي مفهومة، وإما أنه الفجور! وإما أنها الكبرياء، أنت ترى نفسك! وإما أنها النميمة، عجيب! تُفسد بين الناس.

لم يستسلم وناقشهم، وكان كلما ناقشهم، ردوا عليه بنبرة أعلى وأقسى! أي أنت رجل مُكابر، يبدو أنك قاسي القلب، عميتك بصيرتك، لا تُريد أن تُقر للرب – لا إله إلا هو – بالحق. أيوب هنا، أيها الإخوة، حين تدرسون سفره، كما درسه الفلاسفة واللاهوتيون، ومنهم بالذات باسكال Pascal؛ بليز باسكال Blaise Pascal الفرنسي! درسه بعُمق، وخرج منه بنتائج مُذهلة، باسكال Pascal له رسالة خاصة! المُهم، حين تدرسونه بعُمق، إخواني وأخواتي، ترون أن أيوب – عليه السلام -، وهو نبي في الحس الإسلامي، لم يفهم ما أصابه من بلاء على أنه عقوبة على ذنب. لم يفهم هذا إطلاقا؛ لأنه يعلم نفسه، ويعلم ذنوبه.

حتى بفرض أن هذه الذنوب صدرت منه، وهي ذنوب صغيرة، غير قاصدة، غير عامدة، من صغار الذنوب، ليس مما يُسميه الكتاب المُقدس الذنوب القاتلة، التي هي الكبائر عندنا، يُسمونها في اللُغة الكتابية ال Biblical، يُسمونها الذنوب القاتلة، لا! وإنما يعلم ذنوبه! ثم مهما بلغت هذه الذنوب التي ندت منه وبدرت منه، فمُستحيل أن تكون عقوبتها ماذا؟ ما حل به. العقاب الذي حل به، أو الألم الذي حل به، شيء يتجاوز العدل، ليس عدلا! غير مُمكن، أنني أتيت ذنبا، أيا كان، أُعاقب على هذا النحو الشديد، البالغ القسوة والشدة، في ليلي ونهاري، ماديا ومعنويا، مُستحيل! أدرك – عليه الصلاة وأفضل السلام -، وهو مُدرك، نبي! أدرك أن الذي حل به أمر لا ينتمي إلى القانون والشريعة، لا ينتمي إلى العالم الذي نعيش، بل هو من فعل الله – لا إله إلا هو – المُتحرر من القانون.

الله في نهاية المطاف لا يُحكم بأي قانون، ولا يُحكم بأي شرع، أليس كذلك؟ الله يفعل ما يُريد، لا إله إلا هو! ودائما له الحكمة والحُجة البالغة، دائما الحكمة في جانبه، بل هو كما يقول الذين حاولوا أن يقتربوا من حقيقة الحكمة الإلهية، حكمته تتجاوز الحكمة، Exceeding wise، تتجاوز! وهذا صحيح، لا بُد أن تتجاوز كل حكمة بشرية. كما قلنا ربما في خُطبة ريان وزعزعة الإيمان، لا يُمكن مُعادلة حكمة الله بماذا؟ بالحكمة المفهومة للإدراك البشري. هذا إلحاد على فكرة، هذا إلحاد! هذه تسوية الله بالإنسان! كفر، تلحيد الدين دون أن ندري! انس. ولذلك الآن نقول تتجاوز كل حكمة، وبالتالي تتجاوز كل فهم، لكنها أفعال قاصدة، وأفعال عامدة، وأفعال ترمي إلى شيء. وهو يفهم!

الشيء الجميل أن أيوب رُغم حدة المُحاورات، لم يستسلم، لم يؤمن بمنطقهم، تعرفون ما الذي حصل هنا؟ هنا الحس الكتابي (بالذات الحس الإسرائيلي اليهودي – لأن هذا العهد القديم -) مُباشرة يُعيد إنتاج أيوب على أنه مُهرطق، باللغة الإسلامية التالية زنديق! أنت زنديق! لماذا زنديق؟ لماذا مُهرطق؟ لأنه لا يُريد أن يستسلم للتحليل اللاهوتي المُتاح. هكذا ابتلاء لا يكون إلا عقوبة على ذنب، ولكن أنت تتستر وتركب رأسك وتُغلظ رقبتك ولا تُريد أن تعترف، فأنت مُهرطق، تُريد أن تشغب على سريان القانون، الذي وضعه الرب، والذي يرعاه الرب. وما أصابك، إن هو إلا مثال، مثال ومصداق، لرعاية الرب لقانونه.

تقول لي ما هذا التفسير؟ هذا ليس من عندي! الذين قرأوا اللاهوت اليهودي بالذات، يعلمون أن إلى هذه الحقبة، في القرن الخامس، قبل ميلاد المسيح، العقيدة اليهودية، كانت تُفسر الشر الأخلاقي – لأن هناك شرا وجوديا ميتافيزيقيا، وهذا موضوع ثاني، هناك شر طبيعي، لا! الشر الأخلاقي، ما يقع في المُجتمع البشري، ما يقع للبشر، أفرادا أو جماعات -على أنه عقاب! هذا الشر دائما يُفسر بماذا؟ بأنه عقاب على ذنب. هكذا! عندهم نموذج واحد فقط. نموذج الابتلاء والاختبار وما إلى ذلك، هذا غير وارد عندهم، أبدا! وإنما ماذا؟ العقاب. وهذا هو الشرع، وهذا القانون الرباني، ولا بُد أن ترضخ له.

واضح أن أيوب – هذا أهم شيء في سفر أيوب – لم يؤمن بهذا المنطق، ولذلك عُد ماذا؟ مُهرطقا. تماما كالمسيح من بعده، حين ذهب مع المنطق الذي أسس له أيوب إلى آخره. أيوب أسس لأي منطق؟ أسس لصورة مُعتقدية لله تبارك وتعالى تجعله أرحم وأوسع وألطف بعباده وبخلقه، من أن يكون راعي قانون الذنب والعقوبة. الله أوسع من هذا! القرآن الكريم يقول ماذا؟ وَمَآ أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَةٍۢ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍۢ *. القرآن يقول إنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ *. هذا العالم ليس موطنا للحساب والجزاء وتصفية الحسابات، لا! هذا للابتلاء والاختبار.

أيوب في مُحاورته مع الثلاثة، أتى باعتراضات واقعية، كلنا نلمسها يوميا! لو كان هذا العالم مسرحا لتنفيذ وإنفاذ قانون الله وعدالة الرب – لا إله إلا هو -، فما بالنا نرى الرخاء والرفه والبذخ والأمان والسعادة الظاهرية في جانب المُجرمين والقتلة والطواغيت والمُستعمرين والمُخربين، أما الأخيار والصُلحاء والطيبون، فهم ضحايا الأولين؟ أيوب أشار إلى هذا. زنديق، مُهرطق! تُريد أن تُشكك وأن تشغب بقانون العدالة الإلهية. لا، هو لا يُريد. في المنظور الإسلامي هو نبي، عندهم شيء ثان! في المنظور الإسلامي نبي، وهو لا يُريد، وإنما يُريد ماذا؟ أن يعمل Shifting، زحزحة، زحزحة مُعتقدية لصورة الله، للاعتقاد في الله. الله أكبر وألطف وأرق وأكثر شفقة وأوسع رحمة – لا إله إلا هو – بخلقه وعباده، من أن يكون ماذا؟ إله القانون وإله العقاب على النحو الذي تفهمون. أيوب لم يفهم هذا، وأراد أن يشق طريقا جديدا، طريقا جديدا أو جديدة.

في نهاية المطاف، ما الذي حصل؟ الرب تبارك وتعالى أوحى إلى أليفاز التيماني الآن حمي غضبي عليك. الآن تدخل الرب؛ الآن حمي غضبي عليك! لأنك وصاحبيك لم تقولا في الصواب، كما فعل عبدي أيوب. الله! شيء جميل! هذا أهم شيء في سفر أيوب. الله هنا، في القرن الخامس، قبل الميلاد؛ قبل ميلاد السيد المسيح، فعلا انحاز بشكل واضح إلى هذه الزحزحة، وطبعا هي تصحيح! قطعا الدين من أوله جوهر واحد، لكن كل الأديان للأسف الشديد ما لم تُحفظ حفظا إلهيا كما حدث مع القرآن، يجري عليها ماذا؟ إعادة إنتاج وتشويه بالزيادة والنُقصان والتحريف والتوظيف وسوء الاستخدام! مُصيبة! مُصيبة! إلى اليوم هذا يجري، لكن بشكل لا على مُستوى النص المحفوظ، إنما على ماذا؟ على مُستوى توظيف النص وتأويل النص وفهم النص. شيء رهيب! وتُبرر ألعن الجرائم وأبشع اللعنات، بمثل هذه المسالك اللعينة! لا نصفها بأقل من هذا.

على كل حال، لكن الله تبارك وتعالى أراد أن يُشايع التصور الجديد؛ أنا أكبر! وما هو الدرس الذي فهمه أيوب في نهاية المطاف؟ قال الآن رأتك عيناي. بشدة الألم وطول الألم وتماديه، استطاع أن يرى الرسالة. أيوب فهم، فهم كل شيء! تعرفون ماذا كانت الرسالة في نهاية المطاف بلُغة مفهومة؟ كانت أنك يجب أن تُعري روحك لي يا أيوب، وأن تعقد معي اتفاقا تاما بغير تردد وبغير اشتراط، على مُقاومة الشر، والعمل على تخفيفه، قدر الإمكان. لا يُمكن إبادة الشر، إفناء الشر، من العالم! لكن تخفيف الشر. عليك أن تحمل الألم، حتى وإن لم تكن سببا فيه. وعليك أن تُناضل في سبيل تخفيف أوجاع الناس، في مرائر الناس وبلايا الناس، حتى وإن لم تتسبب فيها أنت. فهم الرسالة، وجاءته العافية، وعوّضه الله تبارك وتعالى. أليفاز وصاحباه، لم يكونا مُستعدين أصلا لفهم الرسالة، على هذا النحو.

بصراحة، كما قلت لكم، المسيح سيأتي بعد خمسمائة سنة – عليه الصلاة وأفضل السلام -، وسوف يكون خطا خطوات في ساح بعيدة إلى الأمام، مع الصورة الجديدة، الصورة التي هي أقرب إلى رحمانية الرب، لا إله إلا هو! وفي الأمثولة الشهيرة جدا، وأمام الرابيين والأحبار والكهنة وسدنة القانون وسدنة الناموس – شريعة موسى، شرع موسى – قال مَن كان منكم بغير خطيئة، فليتقدم، فليرمها بحجر. وتراجعوا جميعا، افتُضحوا. وأنت يا امرأة لا تعودي ولا تفعلي الخطيئة مرة أخرى، اذهبي. ذهبت!

ماذا لقبوه؟ هل تعلموا منه الزحزحة في النموذج العقدي؟ أبدا. لقبوه عدو الناموس! عيسى عدو النامس، وأيوب هو المُهرطق الزنديق! هذا زنديق، وهذا عدو للناموس! لا هذا زنديق، ولا هذا عدو للناموس. كل ما هنالك أنكم علقتم في فخ ماذا؟ ظاهر الشريعة. تقولون هذا الكلام غير مفهوم، وخطير كلامك هذا! ما معنى علقوا في ظاهر الشريعة؟ أليس لدينا – بفضل الله – أن الدين طبقات؟ انظر الآن التنظير الإسلامي العجيب! حديث جبريل؛ ذاك جبريل، جاءكم يُعلمكم دينكم. أليس لدينا في نصوصنا وأصولنا الشرعية المرعية أن هذا الدين طبقات ورُتب؛ الإسلام، الإيمان، الإحسان؟ بلى. الإسلام، والإيمان، والإحسان! لا تتعارض ولا تتناكد ولا تتناقض، لكن ماذا؟ تتكامل، إن جاز التعبير تتعامق. التالي منها، يُعمّق ماذا؟ يُعمّق المنظور. الثالث منها أعمق الجميع. إذن إسلام، إيمان، إحسان!

يقول العارفون بالله، يقولون ماذا؟ شريعة، وطريقة، وحقيقة. باللُغة القرآنية؛ علم اليقين، عين اليقين، حق اليقين. موجود كله هذا، هذا ليس فلسفة! علم اليقين، غير ماذا؟ عين اليقين. لكن عين اليقين، أقوى من علم اليقين. ليس يقينك وليس تصديقك بوجود شيء ما، بمُجرد سماعه، كهو حين رؤيته، حين تراه! أكثر! لكن حين تخبر هذا الشيء، حين تخبر هذا الشيء بذاتك ونفسك، الآن تكون بلغت ماذا؟ حق اليقين.

ضربت لكم مرة مثلا بطفل صغير! الطفل يسمع بالموز، وأنه فاكهة من نعتها كيت وكيت وكيت، يسمع ويُصدّق، مُتواتر! كل الناس يتحدثون عن الموز، أكلوه، آباؤه وأعمامه وأجداده أكلوه، لكن هو لم يره، ولم يطعمه. حين يراه في التلفاز، أو يراه في الحقيقة؛ يؤتى بقرن موز، هذا هو الموز! الآن ينتقل من ماذا؟ من علم اليقين، إلى عين اليقين. حين يقشر هذه الموزة، ويبدأ يتلمظ بها، يتذوقها، يكون بلغ ماذا؟ حق اليقين.

زاوية ثانية للعارفين بالله، جميلة جدا جدا جدا! ولا تتعارض، لا تتنافي مع هذه الزاوية. يقولون ماذا؟ الشريعة؛ هذا لك، وهذا لي. الطريقة؛ ما لي هو لك. الحقيقة؛ لا لي، ولا لك. لا إله إلا الله! إذن لمَن؟ له، لا إله إلا هو! الله! سأختم بقصة، يبدو أنها رمزية، وإن تكن، إلا أنها بالغة الروعة، في الكشف عن هذا المعنى الجميل، لهذه الرُتب الطباقية، لهذه الرُتب الطباقية لدين الله تبارك وتعالى:

يُحكى أن أحد كبار الصالحين والأولياء والعلماء المُتشرعين أيضا المُتحققين، أتاه أحدهم، وقال له مولانا، أُريد منك في ساعة – ليس في عمر، في ساعة – أن تُعلمني ما الشريعة؟ ما الطريقة؟ ما الحقيقة؟ هز رأسه الشيخ، العارف بالله، الحكيم، في ساعة؟ في رُبع ساعة. لو تقول هذا لأحد الذين شدوا من الدين حروفا، يقول لك لا، أنت واهم، وأنت ضائع. لكي أُعلمك الشريعة وحدها، تحتاج عشرين سنة، على المذاهب الثمانية وبالأصول، انس يا رجل، انس! قال له لا، لا بأس. انتظر قليلا، صلوا جماعة، ثم انطلق به إلى السوق! حتى إذا رأيا رجلا في عمله، في مرمة عيشه، قال له هذا أتى ذنبا في شبابه، يستحق عليه الصفع، اصفعه، اذهب إليه واصفعه. استغرب هذا! أصفع رجلا ليس بيني وبينه خصومة؟ ذهب إليه، وصفعه. ما هو إلا أن صُفع الرجل البريء المسكين هذا، حتى رد هذه الصفعة بأقوى منها؛ خُذ يا حقير، يا كذا، يا مُعتد. فنظر الشيخ، فرأى الشيخ، فقال عفوا يا مولانا. اعتذر الرجل المصفوع؛ لأنه رأى الشيخ، مُوقّر في قومه! قال له لا بأس، لا بأس. لم يفهم هذا الذي صُفع، صَفع وصُفع، لم يفهم هذه القضية!

مشيا قليلا، خطوات، فرأيا رجلا ثانيا في رزقه، في محله، قال له هذا شرحه؛ أتى ذنبا كبيرا في شبابه، اذهب إليه، واصفعه. قال ما القصة هذه؟ ذهب إليه وصفعه. رفع يديه، قال حسبنا الله ونعم الوكيل، شكوتك إلى الله، شكوتك إلى الله. ولم يضربه! ثم مضيا قليلا، ولم يُطولا، فأتيا على قصاب، جزار! هذا أخطر شيء، أمامه الساطور هذا، في لحظة غضب تطير الأعناق عن أجسادها، ورجل كعب ضخم قوي، قال له له هذا شرحه، نفس الشيء؛ اذهب إليه، واصفعه. قال أشهد أن لا إله إلا الله، انتهى! يُمكن أن نستشهد الآن وينتهي الأمر في سبيل العلم. ذهب إليه، وصفعه. الجزار لم يفعل شيئا أبدا، أرسل يده، يضحك! قال له سلم لي على شيخك. حيه، بلغه التحية منه. والشيخ مُختف في زاوية! ظهر الشيخ، وهز رأسه.

هذا الذي صَفع وصُفع لم يفهم شيئا! قال له أما الأول، فهذه هي الشريعة. Tit for tat، واحدة بواحدة، وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا *. أليس هذا الشرع؟ هناك أُناس يُريدون الشرع، يُريدون أن يعيشوا بالشرع فقط، لا! الشرع ضيق، الشرع حتى مكان الأخلاقي فيه والروحاني ومكان النُضج والنمو بسيط ومحدود، وأتى لهذا! لا بُد في نهاية المطاف من ماذا؟ من شيء يضبط حركة الناس ويضبط الحقوق ويُحصنها من التغول والعدوان عليها. هذا الشرع، رُتبة! أهلا وسهلا، لكن هي الأدنى.

قال له أما الثاني – الذي قال شكوتك إلى الله، حسبنا الله ونعم الوكيل -، فهذه هي الطريقة. هذا لم يأخذ بحقه، وترك الأمر لصاحب الحق، على أنه يعلم ماذا؟ أن هذا حقه، وأنك دست على جانبه كما يُقال أو طرفه، وأنك ظلمت وبغيت. أما الثالث، فهو الذي يعرف كما قلنا لا لك ولا لي، قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۖ فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا *.

ما معنى هذا؟ هذه الحقيقة! قال له هذه هي الحقيقة! الحقيقة بكلمة، كما أُترجمها أنا، أن تُدرك محدوديتك، وأن تُدرك عجزك، محدودية فهمك، محدودية فقهك، محدودية وعيك، ومحدودية قدرتك، أيضا قدرتك! إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا *.

بعض الناس في ذروة ثورة الغضب، يغضب فيُجدف ويتحدى السماء، وربما سب ولعن وكفر، المسكين! الله قال له أنت مسكين، أنت مسكين وكونك كله مسكين! ليست الأرض هذه، التي هي ذرة غبار تائهة في الكون، وإنما كل العوالم، إلى جانب الله لا شيء، يُشبه أن تكون بطلانا محضا، لا إله إلا هو! في حديث أبي موسى الأشعري، عبد الله بن قيس، في صحيح مُسلم؛ حجابه النور، لو كشفه، لأحرقت سُبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه. وهل يغيب شيء عن بصر الله؟ حاشا لله. أي لاحترقت العوالم كلها، ولعاد كل شيء فناء. هذا هو رب العالمين، لا إله إلا هو! فأنت عاجز، ليس في الفهم والعلم والوعي، في القدرة أيضا.

ولعلكم تذكرون العبرة الجميلة التي اقتبستها من باسكال Pascal – اليوم ذكرت بليز باسكال Blaise Pascal -! باسكال Pascal قال مرة الآتي مُعلقا عن إبكتيتوس Epictetus، الفيلسوف الروماني المسيحي الرواقي، الذي ضرب أعظم الأمثال في الصبر والتضحية والطيبة والتسامح! يقول باسكال Pascal إبكتيتوس Epictetus الروماني كان يُمكن أن يكون في رأس القديسين – قديسا! أن يكون قديسا بين أكرم القديسين -، لكنه لا يستحق. أنا مع باسكال Pascal! لماذا؟ إبكتيتوس Epictetus مُغر، مُلهم! قال لك إبكتيتوس Epictetus أرسى قواعد فلسفته الرواقية، الأباثيا الإبكتيتوسية، على أسس شيطانية – الله! لماذا؟ كيف؟ -، فأنبتت وأنتجت نتائج إبليسية.

لماذا؟ إبكتيتوس Epictetus يأمرك بالصبر والتسامح والعفو وتحمل الأذى وتحمل الأقدار! نعم، نعم، لكن إبكتيتوس Epictetus كان يقول كل هذا لا بُد أن يكون مشروطا بكرامتك، بذاتيتك. إذا صرت إلى حالة من البلاء، من العذاب، من الاختبار، تُعادل المهانة، تُعادل المذلة، فعليك أن تُنهي حياتك بالانتحار. إبكتيتوس Epictetus أجاز الانتحار! انتحر، اقتل نفسك، انتحر! باسكال Pascal يقول هذا أساس شيطاني. لماذا؟ صحيح! لأنه في العُمق من فلسفة ومن أباثيا إبكتيتوس Epictetus أن الإنسان قادر أن يقتنص سعادته، وأن يبني كرامته، وحين يُعوزه ويُعجزه هذا، يُنهي حياته كريما بالانتحار. لا، أنت لست إلها؛ لكي تفعل. أنت في نهاية المطاف إنسان، كأيوب، وتجري عليك الأقدار. لذلك ألم يُقتل أنبياء؟ قُتلوا! أنبياء قُتلوا، قُطعت رؤوسهم، شيء غريب! أنت حين تُفكر في القضايا هذه، قد تتساءل كيف سمح الله بهذا؟ الله يسمح بهذا، هو الذي سمح بهذا!

ولذلك هناك خمسة من الرُسل، شأنهم مُختلف! الرُسل أصحاب الرسالات، لم يسمح الله بذلك في حقهم. ولذلك أغرق قوم نوح بالطوفان، دون أن يُمس نوح، أليس كذلك؟ إبراهيم أنجاه الله من النار. موسى؛ دُمر فرعون وجيشه وكثير من حضارته، لينجو موسى. عيسى؛ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ *. محمد؛ معروف. هذا شيء ثان! أصحاب رسالات هؤلاء. انتبهوا، هذا لكي تُفرقوا مَن الرسول الذي يُقتل ومَن الرسول الذي لا يُقتل! صاحب الرسالة، صاحب الكتاب، لا يُقتل، ولو جاء العالم كله! غير ذلك، يُمكن أن يُقتل. وقُتلوا أنبياء، وقُتل رُسل لله تبارك وتعالى. أنت في نهاية المطاف عليك أن تُسلّم أنك محدود القدرة، ومحدود الوعي والفهم. هذا مقام في الأخير العبد المربوب، بإزاء مقام الرب، لا إله إلا هو! المُتعالي.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه.

الحمد لله، الحمد لله الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ *. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليما كثيرا.

اللهم اهدنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت. علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما وفقها ورشدا، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أسرفنا وما أنت أعلم به منا وما جنينا على أنفسنا، أنت المُقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك.

اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربونا صغارا، اجزهم بالحسنات إحسانا، وبالسيئات مغفرة ورضوانا. اللهم لا تدع لنا في هذا اليوم الكريم ذنبا إلا غفرته، ولا هما إلا فرجته، ولا كربا إلا نفسته، ولا ميتا إلا رحمته، ولا مريضا إلا شفيته، ولا أسيرا إلا أطلقته، ولا غائبا إلا رددته، ولا حاجة لنا من حوائج الدنيا لنا فيها صلاح ولك فيها رضا إلا أعنت على قضائها بمنك وتيسيرك وفضلك، يا رب العالمين، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين. اغفر لنا ما كان منا في الزمان الأول.

اللهم يا رحمن، يا رحيم، نسألك بأسمائك الحُسنى وصفاتك العُلا وكلماتك التامة، التي لا يُجاوزها بر ولا فاجر، أن تدفع الوباء والغلاء والحرب والشر والضُر عن البشرية جمعاء. اللهم آمن الناس أجمعين، ونحن من بينهم، في أوطانهم وفي بلدانهم وفي أهليهم وفي أموالهم وفي كل ما خولتهم، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين. ارفع مقتك وغضبك عنا، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.

عباد الله/

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *، وأقم الصلاة.

فيينا (4/3/2022)

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: