إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

 

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ :

وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ۩ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ ۩ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ۩ قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ۩ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاء وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ ۩ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ ۩ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ۩ قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ۩ 

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
زمناً راغداً عشناه في صبانا وفي شبابنا وهو زمن الحلم أن نرث الأرض بالخير وبالرسالة الخاتمة وأن نصير أساتيذ الدُنيا ومُعلِّمي الهُدى وناشري الرحمة وباسطي يد الندى، ومرت الأيام وكرت السنون وتبخَّر الحلم بل تباعد عنا بعيداً بعيداً حتى صار الحلم الأمل حلماً كابوساً أو من أضغاث الأحلام فلا يكاد أحد يُصدِّق به لكي يحلمه مرة أُخرى، ماذا الذي حصل؟!

الفرصة التي كانت مُتاحة لهذه الأمة قبل أربعين أو خمسين سنة لم تعد مُتاحة في هذه الأيام، العداوة للأعداء أصبحت أبهظ والمهام أصبحت أشق، لماذا؟!

سأكتفي بسبب واحد كبير وعام وهو لأن هذا العالم في حالة سيولة، لقد فُتِحَ على بعضه البعض، لم يعد فضاؤنا المُجتمَعي والثقافي خالصاً لثقافتنا وروحنا ومبادئنا بل تزحمه ثقافات أُخرى وتزحمه مباديء ومفاهيم ورؤى أُخرى مُختلِفة للحياة وللوجود وللإنسان في عصر الإنترنت Internet وفي عصر الفضائيات وفي عصر التواصل العظيم فلم يعد أحد بمنجاة من التأثيرات العاتية لرياح العولمة الثقافية والاقتصادية والسياسية وإلى آخر هذه الجوانب المعروفة لكم ولكن جميعاً وجمعاوات، لكن قبل خمسين سنة تقريباً كان فضاؤنا شبه خالص لنا وللأسف لم نُحقِّق شيئاً كبيراً ولم نُفلِح أن نبني مُجتمَعاً جديداً، أعنى إنساناً جديداً في رؤانا الدينية وطروحاتنا الثقافية، فأين يكمن الخلل؟!

 حصل ما حصل ووقع ما وقع من جهة لأن ما يدّعون الحداثة والعصرنة ومُواكَبة العصر في روحه واتجاهاته ورؤاه لم يكونوا جادين ولا صادقين مع أمتهم ولا مع أنفسهم، إنهم كانوا ولا يزالون مُجرَّد مُتسوِّلين، شحّاذي أفكار وفلسفات ومناهج، لم يُبدِعوا شيئاً وإنما اكتفوا بالترديد وبالالتصاق الأمين بما قال الآخر ولما ظن الآخر ولما رسم الآخر، وهذا الآخر في حقبة مُنصرِمة كان مُنتشئاً بالدعوة وبالتبشير بالمعنى الهيوماني للإنسان وللمُجتمَع وللحضارة، فقام هؤلاء المُردِّدون يُردِّدون ويُلحِّنون نفس الأغنية بالمعنى الهيوماني للإنسان ولمُجتمَع الإنسان، ونحَّى هذا الغرب في حقبة أُخرى، حقبة ما بعد الحداثة أو الحداثة الفائقة – Super – وانتهى المعنى الهيوماني، انتهى بالكامل وصار مسخرة، فصار هؤلاء المُردِّدون وقد انتهوا من هذا المعنى يسخرون منه ويُردِّدون تقليعاً جديداً.

وطبعاً هناك همٌ مُشترَك بين المُثقَّفين في عالم العروبة والمُدافِعين عن الإسلام وهم الإبداع، لكن لا يُوجَد إبداع، ليس هناك ثمة مُثقَّف مسلم أو عربي يُبدِع حقيقةً، ومن ثم فالإبداع الحقيقي في عالم الفكر ومناهجه غير موجود وطبيعي أن يكون غير موجود ، وطبعاً مَن ظن أنه موجود هذا لا يعرف الإبداع ولا يعرف شيئاً عن الفكر لا يقع، هو شخص واهم يُسلّي نفسه بالأحلام والأوهام، ولكن الذي يعرف جيداً يعرف أنه لا إبداع، منطقي وطبيعي جداً ومفهوم ومُبرَّر ألا يكون ثمة إبداع، لأنك لا يُمكِن أن تُبدِع من خارج شروطك وخارج ظروفك، هذا مُستحيل ومن ثم لابد أن تُبدِع حيث أنت ومن حيث أنت، أما هذه الحيثية التي تتعلَّق بمكاننا وتموقعنا فهى غير واضحة لنا، أعني غير واضحة لهذا التيار المُردِّد الببغاوي فهم لا ينظرون مَن هم أصلاً ولا أين هم، لأنهم ينظرون ولا يملكون للأسف – وهكذا فعلوا بأنفسهم – إلا أن ينظروا إلى أنفسهم بعيون الآخر ومن خلال الآخر، ينظرون بفكر الآخر ومناهجه وآلياته ووسائله، وبالتالي لن يروا أنفسهم، لأن الآخر يراك كما يُريد أن يراك، فحتى الآخر لا يُحِب ولا يود أن يراك كما أنت، وحين يراك كما أنت ويرى فيك ما يُعجِب يُخفيه تماماً ويدسه ثم يُنتِجك على ما يُحِب، أي أنها عملية إعادة إنتاج!
الراحل الكبير إدوارد سعيد في كتابه العظيم الذي شق عالم الفكر ما قبله وما بعده بكتابه الاستشراق كانت الرؤية العامة لديه التي تحكم هذا الكتاب هى ما لخَّصت لكم الآن في جُملة “الغرب أعاد إنتاج الشرق”، فليس صحيحاً دائماً أن الغرب لا يفهم الشرق تماماً، بالعكس عنده القدرة أن يفهمه إلى حد مقبول ولكنه لا يستسلم إلى هذا الفهم الموضوعي أو القريب من الموضوعية، إنه يدسه ويُخبئه ثم يُنتِج صورةً تُنتِج رؤية مُختلِفة في شيطنة وتبخيس هذا الشرق حقه ومقامه

وفي هذا الصدد يُمكِن أن أقتبس الكتاب السياسي الإنجليزي ماكولي Macaulay الذي اقتبسته مرة وسأقتبسه مرةً أُخرى حيث قال الرجل في خطابه الذي توجَّه به إلى البرلمان الإنجليزي في بريطانيا سنة ألف وتسعمائة وخمس وثلاثين “لقد طوفت أو طوَّفت بالهند شرقاً وغرباً، طولاً وعرضاً، لم تقع عيني على رجل يتسوَّل – فالهند لم يكن فيها مُتسوِّلون كما ترون اليوم، بعد النعمة الإنجليزية طبعاً أصبحوا فعلاً مُتسوِّلين – ولم أُشاهِد رجل يسرق، لقد رأيت بلداً عظيم الثراء يتصف سُكانه بدرجة عالية من الأخلاقية – شعب عنده أخلاق وبناء أخلاقي – وبدرجة عالية من الرقي”، فهو شعب مُتدمدِّن عنده حضار وعلوم وفلسفات وطب وهندسة، هو شعب عظيم وأثره عظيم بلا شك، ولا تنسوا أن ثلث حضارة المسلمين في الهند، ثلث التاريخ الإسلامي في الهند علماً بأن هذا التاريخ نجهله ولا نكاد نعرف عنه شيئاً.

قبل أيام فرغت إم بي سي دراما MBC Drama  من عرض المُسلسَل المُدبَلَج في عمان الأردن وهو مسلسل راني بادميني  Rani Padmini، هذا إسم شخصية أسطورية وهى حقيقية ولكن أُسطِرَت، تمت أسطرتها في تاريخ الهند، وهى ترقى إلى القرن الثالث عشر، هذه هى الشخصية الملائكية في المُسلسَل، أما الشخصية الإبليسية فهى شخصية كلجي، هم أسموه كلجي  لكن هو إسمه خِلجي أو خَلجي أي بحرف الخاء وليس بالكاف، المُهِم أن المقصود هو السُلطان كلجي لكنهم لم يقولوا لنا أن إسمه السُلطان علاء الدين محمد، لم يحدث هذا في المُسلسَل مرة واحدة وأنا أفهم هذا من المُخرِج والمُنتِج والمُمثِّلين الهندوس أن يفعلوا هذا، طبيعي أن يفعلوا هذا لأنهم يُريدون أن يُمعِنوا في تمجيد عناصر هويتهم بنفي الآخر وأبلسته، فهكذا تفعل الشعوب والحضارات عموماً ومن ثم كان هذا يُفعَل باستمرار، ولكن أن نُدبّلِج نحن هذا المُسلسَل وهو مُؤثِّر جداً ومُخرِجه من أشهر مُخرِجي هووليود Hollywood على الإطلاق فهو رجل ناجح تماماً ولكنه يعرض مُسلسَله في بيئة العرب والمسلمين ليقول لهم أن الذي مثَّل دور إبليس في تاريخ حقبة مُعيَّنة من تاريخ الهند رجل مسلم وهو زير نساء قاتل ولا تعرف الرحمة إلى قلبه سبيلاً أو طريقاً، وهكذا صوَّره المُسلسَل على أنه زير نساء وعلى أنه قاتل مُحترِف ومُجرِم وغدَّار.

وحين نعود إلى تاريخ علاء الدين خلجي هذا فإذا به من أعظم سلاطين المسلمين في الهند على الإطلاق وعلى يديه تم فتح مُعظم شبه القارة الهندية، هو هذا الرجل الذي حكم زُهاء عشرين سنة علماً بأنه خاض أربع وثمانين معركة كُبرى مُظفَّرة لصالحه ولم يُهزَم مرةً واحدة، فكان رجلاً مُؤيَّداً !

العلَّامة الندوي – أبو الحسن الندوي – في كتابه نُزهة الخواطر وهو تاريخ الهند في ثمانية أجزاء – رحمة الله عليه – يُسميه كما سماه الصين والهند بالرجل المُؤيَّد، فهو مُؤيَّد من الله تبارك وتعالى، والعجيب أن المصادر الإسلامية – أعني بعضها – ومُعظم المصادر الغربية تُؤكِّد أن الرجل كان مثلياً، كان مُصاباً بالشذوذ وراغباً عن النساء، فلا علاقة له بالنساء ولكن كيف صُوِّرَ على أنه زير نساء بالمُطلَق ولذلك يفتح البلاد  ويذبح العباد من أجل أن يفوز بامرأة جميلة مثل بادميني  Padmini  هذه لأنه أحرق تشيتور Chittūr من عند آخرها وسطا بأميرها ورد التحية بأسوأ منها؟!

وهكذا يُزوَّر تاريخنا الذي نشهده فيُوشِك أن يكون تاريخنا الإسلامي العربي أيضاً مجهولاً لنا، يتم تزويره دون أن نشعر تماماً كما لا يشعر مُعظم مُتابِعي المُسلسَل الرائع جداً راني بادميني  Rani Padmini، لأننا لا نشعر بهذه الحيل وبهذا التزوير!
ونعود إلى ماكولي Macaulay حيث يقول “حتى أنني مُوقِن بأن هزيمتنا لهذا البلد مُستحيلة”، أي لأنك في الهند مُستحيل أن تفعل هذا، فهذا شعب قوي وعنده تراث وعنده روح ورؤية في الحياة فيستحيل أن تهزمه، تستطيع أن تذبح فيه ولكن لا تستطيع أن تهزمه، وهذه المُناسَبة طيبة لتستمعوا إلى العهد الاستعماري لتعرفوا كيف يُفكِّر قبل مائة وخمسين سنة وإلى الآن وإلى ألف سنة في المُستقبَل، نفس العقلية التي لا تتغيَّر، فهذه هى عقلية إمبريالي وعقلية الذبَّاح السلَّاب النهَّاب غير الوهَّاب، ومن هنا قال ماكولي Macaulay “هناك وسيلة واحدة لكي نُخضِع هذا الشعب بكسر عموده الفَقْرِي أو الفِقْرِي – عموده الفَقْرِي لابد أن نكسره – الذي يتمثَّل في روحه وثقافته”، لأن ثقافة عظيمة جداً جداً جداً وعميقة، ثم قال “إذا نجحنا في إقناع الهنود أن ما عندنا أحسن مما عندهم وأن ما عندهم سيء لا يُساوي شيئاً سنكون نجحنا في تحويلهم إلى شعبٍ تمت الهيمنة عليه”، تماماً كما هو مُقتنِع الآن مُعظم المسلمين – ولا أقول مُعظَم العلمانيين بل مُعظَم المسلمين – ومن بينهم طائفة كبيرة من المُتدينين والمشائخ الذين يقتنعون بهذا أيضاً بالضبط، فتفكيرهم أصبح تفكيراً على نحو آخر دون أن يدروا ودون أن يعرفوا كيف تم ذلك، لا يعرفون لأن ليس لديهم قدرة تحليلية أن يفهموا ما الذي حدث، تسمَّم تفكير الواحد منهم وتسمَّمت  روحه دون أن يفهم أصلاً كيف تم ذلك، وهو يظن أنه شيئاً طبيعياً لأنه لا يشعر بمُسمّميته وأنه مُسمَّم الروح والفكر، لا يشعر بهذا ولذلك يعيش حالة من الاغتراب في الدين نفسه – في الدين وليس عن الدين – فهو متُدين ومُغترِب، وهذا يحتاج إلى مُحاضَرة أو خُطبة بحيالها، لكن على كل حال ماكولي Macaulay قال “لابد من أن نضرب العمود الفِقْرِي المُتمثِّل في روح هذا الشعب وثقافته بأن نُفهِمهم أن ما عندهم لا يُساوي شيئاً وأن ما عندنا هو النموذج وهو المُثال الذي يُحتذَى ويُهتدَى به، فإذا تم لنا ذلك سيِّرناهم إلى ما نُريد، أي إلى شعبٍ تمت الهيمنة عليه بضربة واحدة وينتهي كل شيئ”، علماً بأن هذا الشيئ نجح، وأكثر ما نجح مع الأمة العربية ولا يزال ناجحاً، ولذلك بدهي ومنطقي ومُبرَّر أنك لن تفهم ذاتك، لن ترى واقعك، لن تُدرِك شروطك وظروفك إذا ما أصررت على النظر إليها من خلال عيون الآخر، من خلال دماغ الآخر، من خلال فكر الآخر، وبالتالي النتيجة الحتمية هى أنك لن تفهم واقعك ولن تعي ذاتك، والنتيجة الأكثر تحتماً أنك ستعجز وستفشل أبداً إذا كانت هذه طريقتك في تحريك وتغيير هذا الواقع، ومن ثم سيستحيل تغيير الواقع لأن كيف تُغيِّر واقعاً أنت لم تفهمه أصلاً بل فهمته بالطريقة المعكوسة المنكوصة؟!

وبالتالي كل مُساهَمة في التغيير ستصب في نقيضها، ولذلك نحن نرى أن الانهيار يتواجد في الأمة العربية والانحطاط يزداد يوماً فيوماً، فلا نسير نحو أُفق مفتوح بل تُحاصِرنا الآفاق المسدودة من كل جهة ومن كل جانب، علماً بأننا نقول هذا لأننا نُحِب أن نكون صريحين ونُحِب أن ندع عن أنفسنا الأوهام الكاذبة الخادعة التي لا تُحلِّل تحليلاً ولا تفهم فهماً، وكذلك الحال مع النبؤات الساذجة أيضاً، فإذا سألت أحد هؤلاء المُتنبّئين الكذبة عن مصدره في هذا الكلام سيقول لك أنه يتحدَّث من قلبه عن ربي ومن ثم يقول هذا الكلام لأنه يشعر بهذا، وهذا كله كلام فارغ، هذه العقلية غير علمية وغير مقبولة أن تبت في قضايانا أو حتى ترسم لنا آفاقاً مُخادِعة، وهذا الذي حدث من جهة هؤلاء الببغاويين ومن جهة الأصوليين أو ما يُسمّى بالأصوليين وهم المسلمون أو الإسلاميون الذين عموا عن العصر ولم يُحِبوا أن يعيشوا عصرهم، لم يُحِبوا أن يروه كما هو وعن نظرة موضوعية، لم يُؤمِنوا بهذا ولم يُحِبوا هذا ويظنون أن العالم كله توقَّف عند فترة زمنية مُعيَّنة، وبالمُناسَبة روّاد القرن في نهاية التاريخ ليس هيجل Hegel وليس فوكوياما Fukuyama وإنما الإسلاميون، العقل الإسلامي المُعاصِر هو الرائد الحقيقي، فحتى في العصور الوسطى كانوا يُفكِّرون بهذه العقلية ويقولون أنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح بها أولها، وهذه العبارة نفسها فيها حق وفيها باطل كثير، والحق القليل الذي فيها إذا تم تفصيله لم نكد نتفق على شيئ بل نضيع في التفاصيل، وهذا يحتاج إلى شرح لأنهم يُخادِعوننا بهذا، فهذا نوع من الخداع ونوع من الاستيهام الفارغ الفاضي حقيقةً، وينظنون أن هؤلاء الرواد قاموا بنهاية التاريخ وانتهى كل شيئ وأن المشروع الذي أنجزه أصحاب رسول الله والتابعون والسلف الصالح هو الذي ينبغي أن يتكرَّر باستمرار، وهذا غير صحيح فهذا المشروع ليس بمثابة سُنة لله في الخلق ومن ثم لن يتكرَّر لأن الأمور تتغيَّر والشروط تتغيَّر والظروف تتغيَّر، وبالتالي منظورنا ووجهة نظرنا  للنص الإلهي – أي للقرآن الكريم – تتغيَّر ولابد أن تتغيَّر، فإن لم تتغيَّر فهى كارثة لأن الثابت فيها قليل جداً وماعدا ذلك مُتغيِّر، وهذه الأمورمن لعنة الفكر الغربي أيضاً ومن هنا سأُفضي إلى المحور الثالث من حديثي على عجل الآن بما يتناسب مع الوقت الضيق للخُطبة، فبعض الناس يتساءل: ما المُشكِلة في أن تسود الثقافة المعولمة Global Culture؟!

في الحقيقة هى ليست Global، وإنما هى   American Culture أي هى صيغة مُحدَّدة وهى صيغة الثقافة الأمريكية التي تخاف منها أوروبا وتخاف منها فرنسا من عشرين ومن ثلاثين سنة حيث أن فرنسا تضع يدها على قلبها وتدق ناقوس الخطر ليل نهار وتقول “نحن في خطر، الثقافة الفرنسية في خطر، فالمُشكِلة لا تتعلَّق بالهمبرجر Hamburger والماكدونالز McDonald’s ومثل هذه الأشياء فقط، بل تتعلَّق بكل شيئ مثل الأفلام والمُسلسَلات والثقافة واللغة ونمط الحياة ونمط التفكير لأن الأمريكي يغزونا في عقر دارنا”، إذن فرنسيون ليل نهار يصرخون لكن الأمة العربية واثقة من نفسها – ما شاء الله – بحُجة أن لديها ثقافة قوية وهى ليس لديها شيئ، ومع ذلك هى واثقة من نفسها وفاتحة كل الأبواب، أما  غاندي Gandhi فقال “في يوم من الأيام سأفتح أربعة جهات بيتي على رياح ثقافات العالم – أي سأفتح نوافذي  من الجهات الأربعة – مُستعصِماً في نفس الوقت بموقفي بحيث لا تقتلعني هذه الرياح من مكاني”، أي أنه يُريد أن يقول “نعم سأفتح وسأنفتح ولكن لا أُريد لرياح الثقافات أن تقتلع بيتي من جذوره”، لكن نحن لا نفهم حتى هذا، نحن نفتح ولا بيت لنا ولا أساس الآن، نحن مفتوحون بالكامل، نحن باب ولكن بلا رَّزَّة – كما قلت مرة – وبلا أسكفة ومن ثم هذا ليس باباً، هذا أُفق عدمي يُعيد إنتاج العدم وعقلية عدمية وأوضاع عدمية ويُعيد إنتاج أُناس معدومين لا حياة لهم ولا وجوداً حقيقاً لهم، فباب بلا أسكفة يعني الفضاء العدمي وبالتالي لابد أن يكون هناك رَّزَّة تسمح بأن يُفتَح قليلاً ويُفتَح كثيراً ثم يُعاد غلقه في اللحظة المُناسَبة لأن هذا هو المطلوب، أما هذا الفتح الكامل فهذه عدمية يُنادي بها العدميون لدينا من جهات وفئات وألوان شتى مُختلِفة، لكن نحن لا نُريد هذا، ونُريد أن نبقى مُستعصِمين أيضاً بجذورنا لأن لدينا جذور ولدينا ثوابت العالم وضمير العالم ينتظرها، شروط اللحظة – شروط لحظة الأزمة الكونية – تنتظرها ، ولكن – كما قلت في الخُطبة السابقة – نحن لا نشعر بهذا، لكن ما الذي يحصل إن غابت هذه الأمة؟!

هلك العالم – القرآن يقول قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ۩- وذهبت الدنيا.

البشرية تعيش في سُخطة وفي لعنة حقيقية، ولكننا نضحك على أنفسنا بأشياء هى مساخر – وسأُوضِّح لكم هذا – حيث يقول الواحد منهم: ما المُشكِلة في أن تسود الثقافة الأمريكية؟!

وطبعاً الثقافة الأمريكية هى ثقافة العولمة والليبرالية الجديدة، لكن طبعاً مُعظم هؤلاء لا يعرف ماهى الليبرالية الكلاسيكية حتى يعرف الليبرالية الجديدة – New Liberalism – فهو لا يعرف لا هذه ولا هذه، وحين تذهب إلى جوهر هذه العقيدة الجديدة – هذا بمثابة عقيدة أودين جديد – فتُسائل وتتساءل عن شيئ جديد لديهم عن العدالة أوعن المُساواة سيقولون لك ليس لدينا لأن العدالة والمُساواة انتهت مع العقل التنويري ومع أحلام الثورة الفرنسية والعقل الهيوماني وبالتالي اليوم يُوجَد حرية لأننا ضحّينا بالعدالة في سبيلها، علماً بأنني لا أقول هذا من عندي ولكن الذي يقوله هم مُعظم مُنظِّري الليبرالية الجديدة، وهناك فئة قليلة وجدتها من بينهم يرفضون هذا ويُحاوِلون أن يستعصموا ببقايا أمل العدالة والمُساواة الذي يهفو إليه الضمير البشري، لكن مُعظمه لا يُحِب هذا ولا يُريد هذا ويعتبره كلاماً فارغاً ومن هنا يتحدَّث لك عن الحُرية والحُرية المُطلَقة، وعن حُريات الفرد المُطلَقة إزاء الحد الأدنى من الدولة، وهذا كله كلام فارغ وكذب لأن هذا لم يكن وهو غير كائن أصلاً، فالدولة في حدها الأقصى أو في حد قصوائي لها مُتغوِّلة إلى حد مُخيف ولكن بنعومة.
بنعومة.

قلت مرة وسأقول وسأظل أقول – هذا مطلب من المسلمين ومطلب من غير المسلمين – أن مَن أراد أن يبذل وعداً لنفسه وللدُنيا عليه أن يُؤسِّسه على أشياء صحيحة، ومن بين هذه الأسس الصحيحة الرجيحة ليس الحق في المعرفة وليس الحق في العلم وليس الحق في التعبير فقط – علماً بأن كل هذه الحقوق نُؤكِّدها – ولكن الحق في معرفة الحق، الحق في معرفة الحقائق، لكن هذا يُعتبَر ممنوعاً الآن إلى حد كبير لوجود اعتبارات كثيرة مثل اعتبار الأمن القومي، فبإسم الأمن القومي يتم الكذب ليس على العالم وعلى الشعب ذاته وإنما على الأمة في أمريكا وفي أوروبا وفي العالم العربي وفي كل مكان، فهى أمة من السخالان ومن النعاج بما فيها الأكاديميون الكبار والصحفيون والكتّاب والفلاسفة الذين يُضحَك عليهم ومن ثم يُحلِّلون الأكاذيب ويظلون يُفلسِفون الأكاذيب لأنهم مساكين، أما السياسي المُحنَّك الخبيث الذي يخلق الحدث ويُديره – كما قلت مرة في هذا المقام – فيقف يضحك عليهم وعلى ثقافتهم الفارغة ويقول “فلاسفة ومُثقَّفون ولكن لا يفهمون شيئاً، هم مُجرَّد سخلان ونعاج وأغنام صدَّقوا الكذبة وبدأوا يُفلّسِفونها” لأن هذه فعلاً كذبة ومن ثم ما بُنيَ على باطل فهو باطل!

لكن انظروا إلى الهدي الإسلامي، فإذا تعلَّق الأمر بحقوق الأفراد أو بحقوق الجماعات أو بحقوق الأقليات أو بحقوق الأمة أو بحقوق الشعب أو بحقوق الناس أو بالعدل والظلم بشكل عام فلا ضمانة لأحد أن يُستَر، لا عصمة لأحد ألا يُكشَف وحتى لو كان محمداً – صلى الله عليه وسلم – بذاته، فالرسول حين أخطأ في حق أحد الرعية وهو ليس مسلماً بل هو رجل يهودي من أقلية دينية كانت في المدينة المُنوَّرة قال له لن أسترك بل سأكشف الستر عنك وسأُثرِّب عليك فعلى الدُنيا كلها أن تسمع، وهذا شيئ عجيب لكن هذا هو الدين الذي ما عاد المسلمون حتى يفهمونه بل – كما قلت – يُردِّدون ببغاوية أفكاراً تأتيهم من الشرق ومن الغرب، أو بالأحري يُردِّدون ما يأتيهم من الغرب لأننا لا نعرف الشرق في الحقيقة على الرغم من أن الشرق أقرب إلينا في أشياء أكثر من الغرب ولكن الغرب أيضاً أقرب في أشياء اُخرى، وهذا يحتاج إلى تفصيل لكن بشكل عام الشرق أقرب إلينا بكثير في الرؤية مع الكون ومع الطبيعة، الهندوس والبوذيون والجينيون والزِنْ والكونفوشيوسيون والطاويون وكل هؤلاء أقرب إلينا تماماً، لأن الرؤية لديهم تقوم على التواصل مع الكون والطبيعة وعلى التآلف والتجانس والتناغم، وهذا المنطق قرآني، أما الرؤية الغربية فتقوم على القهر والتحدي والاستجابة بالقهر والغزو والتخريب وليس التعمير، وهذه هى نفس الرؤية الاستعمارية ومن ثم يتعاملون مع الطبيعة كما تعاملوا مع الأمم الأُخرى بنفس المنطق لا يختلف ولا يتفاوت، فهناك أطراف تُدمَّر وتُنهَب وتُذبَح لكن هناك مركز ينتفخ طبعاً، فأعلى مُستويات الأرستقراطية والغنى المجنون الفاحش والبذخ الفارغ كان على حساب مئات ملايين من الناس تم الهيمنة عليها وامتصاص دمائها وأخذ نواتج عرقها وثرواتها وإفقار مُستقبَلها ومن ثم سد الأُفق أمام أجيال لمئات السنين كما حدث من أربعمائة سنة وإلى اليوم وسيظل يحدث إلى ما يشاء الله، فكذلك كان الشيئ نفسه في  التعامل مع الطبيعة ومع المجال الحيوي لكوكبنا – كوكب الأرض – لأنهم يقولون “علينا نحن كشعب وكدولة أن تتمتّع، أما الطبيعة فلتدق رأسها في ألف حائط، فليس لنا علاقة بالطبيعة والبيئة والأوزون Ozone لأن هذا كله يُعَد كلاماً فارغاً ومن ثم نحن لا نُريد أن نُوقِّع على أي شيئ يُلزِمنا بخلاف ما نُريد، من حقنا أن نُفسِد هذه الطبيعة على أن نعيش لاذين ملذوذين مُمتَّعين”، وبالمُناسَبة أُريد أن أقول أن أحد أركان الليبرالية الجديدة هو ركن المُتعة واللذة – المذهب الهيدوني Hedonism – كأسس من ضمن أُسسها الثمانية، فاقرأوا أسسها الثمانية وستجدوا أن من بين هذه الأُسس هو أساس اللذة، ولذلك يقولون أن العدالة والمُساواة ضُحّيَ بهم لصالح الحُرية الفردية المُطلَقة، ولا حرية أصلاً فهذا كذب!

وأعود إلى الحق في معرفة الحق، وليس الحق في المعرفة الكاذبة وفي معرفة الزيف، وإنما الحق في معرفة الحق، فالذي وقع في يوم من الأيام أن محمداً بن عبد الله – خاتم الأنبياء والمُرسَلين – صدَّق كلام جماعة من أصحابه من الأنصار في نسب وعزو سرقة درع إلى رجل يهودي، والنبي صدَّق هذا ودافع عنهم ومن ثم أُلصِقَت التُهمَة باليهودي – علماً بأنني ذكرت هذه الواقعة ربما عشر مرات ولكنني لن أمل من تردادها – فأنزل الله إحدى عشرة آية في صفحة كاملة وكُشِف الستر عن خطأ رسول الله،  والرسول لم يتعمَّد الخطأ أبداً فهو مشى مع الحق الذي يراه، وإن كان أخطأ خطأً نسبياً فسيكون هذا الخطأ في عدم تدقيقه، قال الله إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً ۩، أي لا تُخاصِم عن الخونة، فالله سمّى هؤلاء الأنصار بالخونة لأنهم خانوا أنفسهم بالسرقة وخانوا ضميرهم بنسبة خيانتهم إلى واحد يهودي بريء، ومن ثم لا يجوز يا محمد أن تُخاصِم وأن تُدافِع عنهم، ثم قال الله وَاسْتَغْفِرِ اللّهَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً  ۩ وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً ۩، إلى آخر هذا السياق المُدمدِم الراعد الرهيب الذي يُؤكِّد أنه لا عصمة لأحد، لكن الآن يتم التطويح بدول وذبح مئات الألوف من الناس وسرقة ثرواتهم ونفطهم بسبب جريمة ما، ولعل هؤلاء الذين ينتمون إلى الإطار الحضاري الواسع الذي يُسمى بالإسلام وبالحضارة إسلامية لم يكن لهم أدنى علاقة بما حدث، وإلى الآن ممنوع أن يُفتَح ملف هذا، ممنوع أن يُفتَح ملفه فتحاً حقيقياً لأن على الدُنيا أن تمضغ وأن تعرف الكذب هذا والهُراء إلى ما شاء الله، ويا سيدي ربما يكون ما حدث حقيقة ونحن نُريد أن نعرف هذا ولكن بعد التحقيق الحقيقي، فتكون هناك لجنة دولية عالمية ويكون من المعني في التحقيق بها أفراد من المظلومين الذين وقعت عليهم المظلمة من الأفغانستان ومن العراق، ونأتي بأحرار هؤلاء وأحرار هؤلاء أيضاً لكي يُحقِّقوا فضلاً عن أُناس من كل شعوب العالم، فيأتون – مثلاً – من اليابان ومن الهند ومن الصين ومن أوروبا ليُحقِّقوا في هذه المسألة لأننا نُريد أن نعرف ما الذي حدث، فلا يُمكِن أن تُذبَح أمة وحضارة ودين وتاريخ ونبقى كالبُله – أي مثل البُلاهاء – نُردِّد “نحن فعلنا كذا فنحن نستحق”، فما الذي يحصل؟!

هذا شيئ غريب جداً، ولذلك أنا أقول  لهؤلاء الذين يُريدون أن يُعمِّموا هذا الفكر أن هناك مُشِكلة كبيرة جداً في هذا المنطق على الرغم من أنهم يقولون أنه لا مُشكِلة لديهم مع الـ Global Culture هذه أو بالأحرى مع الـAmerican Global Culture  ومن ثم تُصبِح هذه الحضارة حضارة العالم وثقافة العالم كله وليذهب الإسلام وتذهب الكونفوشيوسية ويذهب أي شيئ آخر إلى حيث أراد الله، ولكنني سأكون صريحاً معكم لأن المُشكِلة كبيرة جداً، فما الذي يحدث الآن – مثلاً – في كثير من دول أوروبا مثل فرنسا وبلجيكا وسويسرا وأماكن أُخرى كثيرة؟!

لماذا يضيقون بشيئ إسمه حجاب أو نقاب وهو مظهر جميل من مظاهر التنوع الثقافي والحضاري طالما تعوَّد عليه المسلمون في تاريخهم، فهم تعوَّدوا على أديان وعلى لغات وعلى ثقافات وهو شيئ طبيعي جداً عندنا بل أقل من طبيعي – والله – ومن ثم لا تقشعر أبداننا منه أبداً ولا نتقنّفَذ منه – أي نُصبِح كالقنفذ – كما يقول التوانسة؟!

هذا شيئ طبيعي فلماذا يضيقون به؟!

وسأكون صريحاً معكم كما لم أكن من قبل وسأقول أن السبب إما لأنهم فعلاً يضيقون به أو لأنهم لا يضيقون به ويستسخِفونه ويستهزِلونه ولا يستسمِنونه ولكنهم يعلمون أن الأمر لا ينبغي أن يستمر على هذه الوتيرة لأن المُستقبَل في خطر، وسأكون واضحاً معكم تماماً وأقول لكم أن الاحتمال الثاني عندي هو الأرجح فهم ليسوا سذّجاً وليسوا بسطاء ومن هنا يقولون “إن استمر الأمر على هذه الوتيرة سيُصبِح المسلمون بعد ثلاثين أوأربعين سنة أكثرية وستفقد أوروبا هويتها الدينية، سيُصبِح الحجاب في كل مكان وستُصبِح المساجد في كل مكان، وستُصبِح كلمة الله أكبر في كل مكان، وهذا لا نقبل به”، فهم يقولون هذا رغم أن هذا هو السير الطبيعي للأمور، فلو تكاثر وتناسل الأقباط في مصر – مثلاً – بعشرة أضعاف مُعدَّل تناسل المسلمين هذا سيكون أمراً عادياً بالنسبة لنا وسنقبل النتيجة رغماً عنا، فهذا شيئ طبيعي ولن نصنع أي شيئ للحد منه، ولا أعتقد أن العقل المصري المسلم – لا عقل الحكومة ولا عقل الشعب أبداً – سيُفكِّر يوماً أو لحظة في وضع خُطط لتفريغ مصر من الأقباط أو لإجراء إجراءات أُخرى لا أدري كيف تكون ولكنها ربما تكون هى الأكثر من كارثية لمنع أو للحيلولة دون تحقّق هذه النتيجة، بالعكس هذا منطق الله فالكثير يكثر والقليل يقل  ولا مُشكِلة في هذا، لكن لديهم يُوجَد مُشكِلة ويقولون هذا غير مقبول ولذلك من الآن لابد أن نعمل على الحد منه، علماً بأن الحكاية لا تتعلَّق بالحقد وإنما بوجود نمط تفكير مُعيَّن وعقلية مُعيَّنة وأُطر في التفكير مُعيَّنة، ففي  الغرب هنا يرون أنه لا مُشكِلة في تتعوّلَم، وهذا لا يجب أن يحدث في كل شيئ لأن الأشياء الطيبة موجودة في أجزاء مُعيَّنة وليست في كل شيئ، ومن ثم لو تعوّلَم كل شيئ كما يُريدون أن يتعوّلَم لكان ذلك بمثابة كارثة على الدنيا كلها، كارثة عليهم وعلينا – والله العظيم – وعلى مُستقبَل البشرية وعلى المسار البشري، لأن نمط التفكير الموجود هو نمط التفكير العضوي، فالغربيون يُؤمِنون بالعام وليس بالخاص حتى وإن أنكر بعض الناس هذا، الغربيون يُؤمِنون بالعام ولا يُؤمِنون بالخاص، هم يتشدَّقون بالخصوصيات إلى أمتار فقط أما الذي يرسم الأُفق البعيد هو العام، أولاً كيف يُمكِن أن تطير مقولة نهاية التاريخ مثلاً؟!

هذه ليست مقولة مُبتدَعة، فهى ليست بدعاً في القول أبداً لأن ماركس Marx قال بها بطريقة أو بأُخرى وهيجل Hegel قال بها وأوجست كونت Auguste Comte قال بها والإغريق بطريقة مُعيَّنة قالوا بها والرومان قالوا بها طبعاً، وإلا من أين أتينا بمُصطلَح الباكس Pax هذا؟!

فالفكر الغربي يُؤمِن بالعام وليس بالخاص ولذلك يرى أن الخاص عرضي، ومن ثم في الدرس العلمي الرصين الموضوعي لابد أن يُستبعَد لصالح تثبيت العام، وكارل ماركس Karl Marx – مثلاً – قال “البشرية أو الدنيا كلها أو المسار البشري بدأ بالمشاعية – أي بالشيوعية – البدائية وانتقل بعد ذلك إلى العبودية، والعبودية أسلمت إلى الإقطاع، والإقطاع أسلم إلى الرأسمالية، والرأسمالية ستُسلِم إلى الاشتراكية، والاشتراكية ستُختَم بالخاتمة السعيدة وهى الشيوعية، لأن هذا قانون عام”، وهذا غير صحيح، ومن ثم لما قيل له أن آسيا  لا يصدق عليها هذا القانون لأن هذا لا يصدق على الصين ولا الهند ولا اليابان فضلاً عن العالم العربي الذي لم يُدخِله في الحساب أصلاً حكَّ رأسه بذكاء الغربي  الحاذق – Clever – طبعاً وقال ” نحن الـ West وهم الـ Rest أي البقية – وكأننا نحن البقية بمعنى الذيل Tail، فالغرب هو كل شيئ أما نحن فبمثابة البقية التي تُمثِّل ذيلاً بسيطاً – لكن هؤلاء البقية يُفسِّرهم نموذج آخر وهو النمط الآسيوي للإنتاج الهيدرويني المائي”، علماً بأن النمط الآسيوي للإنتاج يفشل في أكثر دول العالم العربي الصحراوية ومن ثم هذا كلام فارغ، فنحن لم نعرف يوماً النمط الآسيوي للإنتاج، وفي أوروبا الشرقية قفزت بولندا نكوصاً، أي أنها عملت نكوصاً – عملت Regressions –  من الإقطاع – Feudalism – إلى نظام الأقنان – القنانة – وهو نظام تقريباً يُعادِل النظام العبودي، إذن هى تراجعت ولم تتقدَّم ومن ثم حدث قانون ماركس Marx بالعكس، أي عُكِس القانون الماركسي ومن هنا قال أن هذه مُشكِلة أيضاً، وفي نهاية المطاف كان ينبغي أن نُسلِّم بأن هذا القانون الماركسي لتطوّر البشرية فقط يصدق -وينطبق على غرب ووسط أوروبا، لكن إلى الآن الماركسيون الكبار الجلداء يقولون “هذا قانون كوني وهذا أساس في فكر ما يُعرَف بالاشتراكية العلمية”،وهذا غير صحيح، فأين العلمية في هذا؟!

ومع ذلك يدّعون أنهم يضعون القانون العام للدُنيا وللكون وللحياة وللإنسان من حيث أتى، وهذا غير صحيح فلا يُوجَد عمومية أبداً بل أن القانون غارق في الخصوصية، وحتى على مُستوى القارة العجوز – أوروبا – هو غارق في الخصوصية، ومع ذلك نجد أن أوجست كونت Auguste Comte  “البشرية ترقَّت من الدين إلى الـ Metaphysics وانتهت بالمرحلة الزهرية الوضعية العلمية” وهى المرحلة الوضعية التي كان سعيداً أنه يعيش فيها ومنها هنا جاء إسم فلسفته “الفلسفة الوضعية”، لكن هذاغير صحيح فإلى الآن هناك مُجتمَعات تخضع لنمط التفكير الديني الذي كان قبل حتى الميتافيزيقي، وهناك مُجتمَعات أُخرى تخضع للتفكير الميتافيزيقي ، فضلاً عن وجود مُجتمَعات كثيرة تتجاور فيها الأنماط الثلاثة، فأين هذا التطوّر الذي تحدَّث عنه وأين مساره؟!

ومع ذلك يقول لك أنه قانون عام وانتهى كل شيئ!

وانتبهوا !

المرحوم عبد الوهاب المسيري – طيَّب الله ثراه وذكره – قال أنك تستطيع أن تختبر هذا الوحدة العضوية للغربي حتى مفهوم المُتحف ال Museum، علماً بأن إيمان الغربي يتصف بالوحدة العضوية وهو إيمان مُخيف، ومن ثم علينا أن ننتبه إلى أن هذا الإيمان هو الذي يُنتِج النازية وقد أنتجها، ويُنتِج الفاشية وقد أنتجها، ويُنتِج فرانك Frank وستالين Stalin وقد أنتجهم، ويُنتِج بقية هذه الجماعة من أمثال موسوليني Mussolini وهتلر Hitler وقد أنتجهم، وسيُنتِج آخرين أيضاً وذلك بسبب الوحدة العضوية – Organic Unity – التي تُعَد شيئاً مُخيفاً، فهذا وعد بالدمار ووعد بالهلاك ووعد بالتنميط، فما هى العولمة إلا تنميط لأن  لا مكان إلا لصياغة واحدة فقط، حيث يُوجَد لونان أحدهما مقبول والآخر مرفوض ومن ثم لابد أن يُمحى ليبقى لونٌ واحد، وفي النهاية سيختفي حتى مفهوم اللون لأن مع وجود لون واحد لن يغدو اللون لوناً، ومن ثم دخلنا أيضاً في العدمية .

تحدَّ الدكتور المسيري عن العضوية الغربية في مفهوم المُتحف – Museum – فالمُتحَف الغربي مُتحَفاً عضوياً ومن ثم يعكس فكرة عضوية، حيث يُوجَد مكان واحد مُغلَق بجدران أربعة وكل شيئ يُوجَد فيه، لكن الشرق لا يتقبَّل هذا، لكن الفكر الغربي يُؤمِن بهذه العضوية ويقول أنها كالشجرة أو كالحيوان الذي إذا قطعت أي جزء منه لن يتسنى له بعد ذلك البقاء والحياة لأنه سيموت ومن ثم نحن نُؤمِن بالتوحيد القائم على الوحدة العضوية، لكن هذا عكس الرؤية الإسلامية القرآنية تماماً، فهذه ليست رؤية الإسلاميين وإنما رؤية القرآن الذي يُعلِّمنا شيئاً واحداً وهو أنه لا يُؤمِن بالوحدة إلا في حق الله، ومَن قرأ القرآن من أوله إلى آخره وكرَّ عليه – أي فيلسوف وأي مُفكِّر شرقي أو غربي – بهذه النتيجة، فالواحد هو الله وحدهـ، لكن الأنبياء مُتعدِّدون والشرئع مُتعدِّدات وكذلك الأنساك والمناسك – لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ ۩ – ومن ثم فالطرق كثيرة والسُبل كثيرة والألوان كثيرة والأذواق واللغات والأشياء كثيرة لأن كل شيئ مُتعدِّد، فالله قال في القرآن وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ۩ أي أن استبقاء هذا التعدّد يُعَد مُراداً لله، فالله هو الذي يُريد هذا، ومن ثم مجنون  مَن يظن أنه سيُنمِّط العالم حتى بالتوحيد الإسلامي، فلن يتنمَّط العالم لأن هذا كذب، ولذلك علينا أن نُعيد حتى التفكير في وهم بعض الإسلاميين المُتعلِّق بأن العالم سيأتيه يوم ويُصبِح كله مُوحِّداً، هذا كذب حتى وإن نُسِبَ إلى الرسول وكلام فارغ لأن الله يقول وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ۩ومع ذلك أنت تقول لي أن العالم سيُصبِّح مُوحِّداً، هذا كله كذب وكلام فارغ ومن ثم عليك أن تُرمي هذه الأحاديث لأن الله يقول وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ۩، أي أنهم سوف يظلون هكذا، فهذا هو القرآن وهذا وعد بالغنى وبالثراء وبالرحمة وبالعطاء،ولذلك انتبهوا إلى الآيات التي بدأت بها خُطبتي فهى آيات عجيبة، وأنا في طريقي إليكم – بفضل الله تبارك وتعالى – لاح لي الناظم الذي ينتظم هذا السياق الذي خُتِمَت به سورة الأنبياء، وعلينا أن ننتبه إلى أن إسمها سورة الأنبياء كأن الله يقول أن هذا هو مقصد الرسالات، فالله قال وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً

 لِلْعَالَمِينَ ۩ ولكن بعد أن قال وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ۩، ولكن قد يسأل أحدكم عن نوعية الوراثة أهى دينية أم أُخروية، ولكي أُوفِّر عليكم الجهد سأقول أن الآية عامة ولم تتقيَّد بشيئ، ولذلك لا يجوز تخصيصها بإحدى الوراثتين، فلتعم الوراثتين كلتيهما ولا بأس في هذا، الوراثة الدنيوية أيضاً للصالحين الذين صلحت رؤيتهم الكونية – العقيدة – وصلح عملهم، فهم يعملون الصالحات ويستعمرون الأرض، ولكن هذا لابد أن يُكثَّف أيضاً ضمن إطار أوسع، فيَوجَد رؤية أوسع من الرؤية الكونية والرؤية العُمرانية وهى الرحمة، ومن هنا الله قال وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ۩، ولكن هل هذه الرحمة لها استناد خارجي أم يُمكِن للعقل الهيوماني التنويري أن يُولِّدها كما زعموا؟!

لا يُمكِن أن يُولِّدها بل ولَّد نقيضها، ولكن إثبات هذا فلسفياً يحتاج أيضاً إلى نقاش طويل وجدال ومُحاجة.

إذن القرآن يقول لا يُمكِن أبداً إنتاج رؤية كونية ورؤية عُمرانية صالحة وواعدة إلا على أساس رؤية رحمانية، أي رؤية رحمة، والرحمة لا تستند إلى ذاتها – علماً بأنه لا يُوجَد قيمة تستند إلى ذاتها لأن هذا مُستحيل فلسفياً، لكن هذا الموضوع مُعقَّد – بل لابد أن تستند إلى خارج، في الطرح الإسلامي في سورة الأنبياء هذا الخارج هو الله ووحدانية الله ولذلك قال قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ۩، فهذا سياق عجيب، ويُمكِن أن يُقرأ هذا السياق أو يُمكِن أن تقرأ الثلاث آيات من هذه الزاوية وهى زاوية فلسفة العُمران والإصلاح ومن ثم نخرج بنظرية مُذهِلة مُخيفة وهى التي إلى الآن لا يزال التاريخ يُثبِت أنها هى النظرية والرؤية الصحيحة ولا ينبغي أن يكون صحيحاً إلا هذه الرؤية، وبالتالي كل وعد خارج هذه الرؤية هو – والله العظيم – وعد بالدمار ووعد بالكارثة ووعد بأن يعيش واحد ويفنى مليون ومن ثم يستمر الموضوع على هذا، علماً بأن هذا ما يحصل وهو أمر عادي ومقبول جداً بالنسبة لهم، ولذلك على هؤلاء أن يتريّثوا فليس عليهم أن يكونوا خفيفين غير رزينين فيُطلِقوا الكلام على عواهنه، لابد أن نُفكِّر وأن يُحاج بعضنا بعضاً بجدية وبشعور بالمسئولية حتى عند إطلاق الأفكار والرؤى والطروحات والمُحاجات.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن  محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله تعالى – عليه – وعلى آله وأصحابه وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.

أما بعد أيها الإخوة:

فقط لأُكمِل الفكرة عن هذا المُتحَف الغربي لابد أن أُشير إلى أن المُتحَف الذي أبدعته العقلية والروح والرؤية الشرقية يختلف عن نظيره الغربي، فيجد خير تمثيل وتجسيد له في مُتحَف العاصمة نيامي Niamey بالنيجر المسلمة – غالبيتها مسلمة – فهو مُتحَف عجيب جداً ويقع على أكثر من تلة في وسط العاصمة، فيُوجَد جناح  لكل الملابس الخاصة بكل الشعوب والعرقيات والإثنيات في النيجر وجناح للمأكولات وجناح للأثاث وجناح للأشجار المُقدَّسة ذات الدلالة التي تعني شيئاً لبعض الشعوب الوثنية، ولك أن تتخيَّل هذا المُتحَف المُوزَّع على تلال كثيرة ومحكوم بوحدة تناغم المُتنوِّع في إطار وحدة الوطن – مثلاً – أو الثقافة العامة، ولكنه ليس محكوماً بوحدة عضوية ولذلك لا تحده جُدران أربعة فهذا ليس شرطاً، ومن هنا لك أن تتخيَّل هذه الرؤية العجيبة التي لديهم، أما التفكير الغربي فهو إلى الآن عاجز عن أن يُفكِّر بهذه الطريقة التي لم يُجرِّبها لأنها لم تدخل في اعتباره، لكن التفكير الشرقي يُفكِّر على هذا النحو لأن عنده القدرة على هذا.

فهل نحن المسلمون واعدون بإفراز وإنتاج مثل هذه الرؤى في عمقها وفي خصوبتها وفي وعدها وذلك حينما تُشكِّل وعداً حقيقياً ووعداً مُسالِماً رحيماً يُعطي بلسماً شافياً ربما لهذه البشرية المكدودة المُتعَبة المظلوم أكثرها والمسحوق أكثرها؟!

 عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا ۩،اللهم آمين.

(17/12/2010)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: