برنامج آفاق

المسلمون والعالم حرب أم سلام؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.

أعزائي المُشاهِدين والمُشاهِدات، إخواني وأخواتي:

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، في هذه الحلقة من (آفاق) سنفتح ملف مسألة شائكة، لا يزال النزاع يدور فيها بين الناس من أهل العلم والفضل إلى يوم الناس هذا، وهي مسألة العلاقة بين المُسلِمين وبين غير المُسلِمين، بين المُسلِمين وبين العالم، الأصل فيها – أي في هذه العلاقة – الحرب أم السلام؟!

في الحقيقة في هذه المسألة للسادة العلماء ثلاثة أقوال، فقد ذهبوا فيها مذاهب ثلاثة: المذهب الأول مذهب مَن رأى أن الأصل في العلاقة بين المُسلِمين وبين غير المُسلِمين الحرب، وهذا في الحقيقة مذهب جماهير العلماء، إنه مذهب الأئمة الأربعة، والإمام ابن حزم، ومُعظَم أتباع هؤلاء.

المذهب الثاني يُقابِله تماماً، ويرى أن الأصل في العلاقة بين المُسلِمين وبين غير المُسلِمين السلام، لا الحرب، وبه قال الإمام سُفيان الثوري، الإمام الأوزاعي – إمام أهل الشام في وقته -، والإمام ابن شُبرمة – رحمة الله تعالى عليهم -، ومن المُعاصِرين جمع وجم غفير، الإمام المُفتي محمد عبده، تَلميذه محمد رشيد رضا، شيخ الأزهر محمد الخضر حسين – رحمة الله تعالى -، الشيخ محمود شلتوت – شيخ الأزهر في وقته أيضاً -، العلّامة محمد عبد الله دراز، الشيخ عبد الوهّاب خلّاف، الشيخ الإمام محمد أبو زُهرة، الدكتور مصطفى السباعي، الشيخ محمد الغزّالي، الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، وهبة الزُحيلي، الدكتور محمد البهي، الشيخ سيد سابق، وكثيرون! جم غفير من المُعاصِرين ذهبوا هذا المذهب، أن الأصل في العلاقة بين المُسلِمين وبين غيرهم هو السلام، لا الحرب.

المذهب الثالث والأخير يُعزى إلى الإمام الأعظم أبي حنيفة – رحمة الله تعالى – وإلى بعض أئمة الزيدية، ويرى هذا المذهب ضرورة التمييز بين حالتين، فهناك حالة يكون فيها الكفّار أو أهل دار الحرب مُتاخِمين للمُسلِمين، أي بلا فاصل بين حدود الجماعتين، جماعة المُسلِمين وجماعة غير المُسلِمين، وقد ذهب هؤلاء المذكورون إلى أن الأصل في هذه الحالة الحرب، لا السلام، استناداً إلى ظاهر قوله – تبارك وتعالى – قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ۩ في آخر براءة أو التوبة، أما إذا كان هناك ثمة فاصل بين دار الإسلام وبين دار الكفر أو الحرب بشكل عام كصحراء مُترامية – مفازة – أو بحار مُستبحِرة وما إلى ذلك فالأصل يكون السلام، لا الحرب، إلا أن تقوم وتتوفَّر الدواعي المُلجئة إلى الحرب، كالعدوان – مثلاً – يبدأون به أعداؤنا من الكفّار، أو العوائق التي يضعونها أمام الدعوة والدُعاة، أو استضعاف طائفة من المُسلِمين وإنزال صنوف الأذى والاضطهاد بهم، فيجب الدفاع والذب عنهم.

هذه خُلاصة المذاهب والأقوال في هذه المسألة، يهمنا – إخواني وأخواتي – في هذه الحلقة أن نستعرض أدلة الفريق الأول، وهو في الحقيقة الفريق الذي ذهب إلى أن الأصل الحرب، لا السلام، وهو ما لا نستروح إليه مبدئياً، لكن لابد أن نستعرض أدلة هذا القول، ثم نُجيب عنها بما أجاب السادة العلماء، الذين يُمثِّلون المذهب الثاني.

استدل هذا الفريق الأول وهم جماهير العلماء بالآتي، وطبعاً بعض العلماء وقع في غلط، كالإمام محمد أبو زُهرة، وجل مَن لا يغلط ومَن لا يسهو، فادّعى أو زعم أن هذا المذهب مذهب الأقلين، مذهب قلة من العلماء، وفي الحقيقة في كل المُصنَّفات والكُتب الفقهية يلوح ويظهر بوضوح أنه مذهب جماهير العلماء، جماهير العلماء كما ذُكِر في أول هذه الحلقة.

احتجوا أولاً – إخواني وأخواتي – بآية السيف، وآية السيف آية وقع الاتفاق على اسمها، ولم يقع الاتفاق على مُسماها، هناك أقاويل كثيرة، أشهرها أربعة، إما أن تكون هي الآية الخامسة من سورة التوبة فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ۩، وإما أن تكون الآية التاسعة والعشرين قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ۩، في أهل الكتاب، وإما أن تكون الآية السادسة والثلاثين – الآية السادسة والثلاثين من سورة التوبة أيضاً أو براءة – إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ۩، وإما أن تكون الآية الحادية والأربعين أيضاً من سورة التوبة، وهي قوله – تبارك وتعالى – انفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ۩.

إذن لم يقع الاتفاق على آية السيف هذه، أي هذه الآيات؟! وإن كان الأشهر والأظهر أنها الآية الخامسة من سورة التوبة، التي تُؤذِن بحسب ظاهرها بأن الكفّار أو بأن المُشرِكين كل المُشرِكين بمُجرَّد انسلاخ المُهلة – الأشهر الحُرم – فهم مُعرَّضون للقتال والقتل من جماعة المُسلِمين في عهد الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام -.

هذا الدليل الأول، واستدلوا أيضاً بقوله – تبارك وتعالى – في سورة البقرة وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ۩ مُفسِّرين الفتنة هنا بأنها الشرك، فصار معنى الآية لديهم – أي لدى هؤلاء – أي قاتلوا الكفّار والمُشرِكين حتى ينمحي ويزول الشرك بالكُلية من العالم، من الدنيا، ومن على وجه الأرض، هكذا فهموها!

واحتجوا أيضاً بالآيات النواهي أو الناهيات عن مُوالاة الكفّار، كقوله – تبارك وتعالى – لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۩ في سورة آل عمران، وكقوله – تبارك وتعالى – يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ۩ في سورة المائدة، وكقوله – تبارك وتعالى – في أول المُمتحنة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ۩، آيات كثيرة تنهى المُسلِمين والمُؤمِنين عن مُوالاة الكافرين، قالوا فتدل على وجوب قتالهم.

ومن السُنة المُشرَّفة احتجوا بقول المعصوم – عليه الصلاة وأفضل السلام – فيما رواه الشيخان البخاري ومُسلِم من حديث ابن عمر مرفوعاً، وفيما رواه أيضاً الشيخان البخاري ومُسلِم وأهل السُنن من حديث أبي هُريرة مرفوعاً – رضوان الله عليهم أجمعين -، أُمِرت أن أُقاتِل الناس حتى يقولوا، وفي رواية حتى يشهدوا، حتى يقولوا لا إله إله إلا الله، أو حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويُقيموا الصلاة، ويُؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله.

قالوا هذا حديث واضح في أن الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – مأمور بقتال الناس كل الناس إلى هذه الغاية، أي حتى تتحقَّق هذه الغاية، وهي دخولهم في الإسلام.

كما احتجوا أيضاً بقوله – عليه الصلاة وأفضل السلام – فيما رواه الإمام أحمد في مُسنَده، بُعِثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يُعبَد الله وحده لا شريك له، وجُعِل رزقي تحت ظل رُمحي، وجُعِل أو وجُعِلت الذلة والصغار على مَن خالف أمري، قالوا وهو واضح في أنه مبعوث بالسيف حتى تتحقَّق العبودية لله وحده، حتى يُوحَّد الله وحده، لا إله إلا هو.

وأخيراً ادّعوا وزعموا أن جميع حروبه – عليه الصلاة وأفضل السلام – كانت حروب مُبادأة، أي حروب هجوم وعدوان، هو الذي بدأ فيها وبادر فيها، بادر بماذا؟ بالعدوان، بالعدوان على الكفّار والمُشرِكين.

هذه جُملة أدلة هؤلاء القوم – أي جماهير العلماء – فيما ذهبوا إليه، والآن ينبغي أن نُجيب عما استدلوا به بما أجاب به السادة العلماء عبر العصور، فنبدأ بآية السيف، لكن قبل أن نبدأ بها لابد أن نُنوِّر المقام بقاعدة لم يُعمِلها هؤلاء، لم يُعمِلها هذا الفريق، وهي القاعدة القاضية بحمل المُطلَق على المُقيَّد، ما معنى ذلك؟

هذا يعني – إخواني وأخواتي – أن ثمة آيات في كتاب الله – تبارك وتعالى – تأمر بظواهرها بقتال المُشرِكين أو بقتال الكافرين دون قيد أو شرط، ولذلك هي مُطلَقة عن ومن القيود، مُطلَقة من كل قيد! لكن في كتاب الله – تبارك وتعالى – العزيز آيات أُخر أو أُخرى تُفيد بظواهرها أنهم يُقاتَلون دفعاً لعدوانهم، دفعاً لعدوانهم وضرهم وأذيتهم، كقوله – تبارك وتعالى – وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا ۩، لماذا؟ لأنه قال إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ۩، علَّل الله – تبارك وتعالى – نهيه عن العدوان بعلة، المفروض والواضح أنها علة لا تزول، لأن الله قال إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ۩، أخبر عن ذاته العلية أنه لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ۩، ولا يُمكِن أن يُخبِر أنه لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ۩ ثم بعد ذلك نكتشف أنه صار يُحِب المُعتدين، لأن هذا تخلف في الخبر وهو ممنوع منه، ممنوع منه! لماذا؟ لأنه يقتضي – والعياذ بالله – نسبة… (لا أستطيع أن أتلفَّظ بها) إلى الله – تبارك وتعالى -، ولذلك هذه العلة المفروض أنها لا تزول.

القاعدة – إخواني وأخواتي – تقول إذا رأينا آيات مُطلَقة تتحدَّث عن موضوع أو تدور حول موضوع بعينه ثم رأينا آيات أُخرى تدور حول الموضوع ذاته مُقيَّدة بقيد فلابد أن نحمل المُطلَق على المُقيَّد، بمعنى أن هنا آية تأمر بقتال الكفّار بغير قيد أو شرط، لكن هناك آية أُخرى أو آيات لا تأذن بقتالهم إلا رداً لعدوانهم، فنحمل هذه على هذه، فنقول نعم، يُقاتَل كل كافر مُعتدٍ، بشرط أن يكون هو المُعتدي، البادئ بالعدوان، نحمل المُطلَق على المُقيَّد.

وطبعاً أنا أعرف وربما تعرفون أيضاً – خاصة طلّاب العلم – أن هناك خلافات واسعة بين علماء أصول الفقه في مسألة حمل المُطلَق على المُقيَّد، وهناك تفصيلات كثيرة طبعاً لا يتسع لها مثل هذا المقام، لا من حيث الزمان، ولا من حيث ربما طبيعة المُتلقين والمُشاهِدين غير المُتخصِّصين في هذه العلوم والفنون، ولكن باختصار اتفق السادة العلماء رُغم اختلافهم حول هذه القاعدة الشهيرة في علم أصول الفقه على أنه إذا اتحد الحُكم والسبب في الآيتين المُطلَقة والمُقيَّدة وجب قولاً واحداً حمل المُطلَق على المُقيَّد.

وهنا بلا شك واضح – إخواني وأخواتي – أن الحُكم مُتحِد، وهو وجوب قتال الكفّار، في المُقيَّدة الحُكم موجود، وجوب قتالهم! في المُطلَق أو المُطلَقة الحُكم موجود، لكن السبب ماذا عنه؟ ادّعى السلاميون وليس الحربيون، ادّعى السلاميون أن السبب هو العدوان، لكن مع ذلك ورُغم ذلك فإن الفريق الأول لم ير سائغاً أن يُحمَل المُطلَق على المُقيَّد في آيات القتال، لماذا؟ قالوا لأن المُقيَّد منها منسوخ، بمعنى أن حُكمه باطل، لا يُعمَل به، لا يُعمَل به بعد منسوخيته، لأنه منسوخ! والناسخ آية السيف، التي حدَّثتكم عنها وعن الخلاف فيها على سبيل العجل والسرعة، قالوا الناسخ هي آية السيف، نسخت الآيات اللاتي تأمر بالصفح والسلام والعفو والصبر، وهي آيات كثيرة، أي الآيات السلامية، آيات الليان، آيات المُصالَحة والعفو في كتاب الله – تبارك وتعالى -، كلها منسوخة!

وبلغ بها بعضهم كأبي بكر بن العربي – القاضي المالكي – مائة وأربع عشرة آية، عجيب! أي نُسِخ بآية واحدة لم يُتفَق على تعيينها تماماً كما وضح لكم مائة وأربع عشرة آية، هي الآيات التي حدَّثتكم عنها، والعجيب أن ابن العربي هذا – رحمة الله تعالى عليه – زعم أن آية السيف بعد ذلك صارت منسوخة بآية محمد أو آية القتال فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ۩، قال هذه الآية نسخت آية السيف، وهذا شيئ غريب، فصار الناسخ لمائة وأربع عشرة آية منسوخاً بدوره.

كونوا معنا إخواني وأخواتي، حتى نُتِم الحديث في هذه المسألة الشائكة، لكن بعد هذا الفاصل، بارك الله فيكم.

أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم إخواني وأخواتي من جديد.

حتى لا نُطوِّل – أيها الإخوة والأخوات – أُحِب فقط أن أقول مسألة النسخ قضية خلافية، قضية خلافية! وفيها خلاف مُحتدِم في الحقيقة، خاصة في هذا العصر، بين كبار العلماء، لكن نُحِب أن نُضيء المقام بكلمات سريعة عجلى.

أولاً ما من آية اتفق العلماء كل العلماء – أي من القائلين بالنسخ – على منسخويتها، بمعنى أنه ما من آية قال فيها بعض العلماء إنها منسوخها إلا واجهه وقابله علماء آخرون قالوا بأنها مُحكَمة، هذا مُهِم أن نُلاحِظه.

ثانياً لا يُوجَد لدينا أثر واحد صحيح عن رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – ينص فيه أن الآية الكذائية أو الفلانية منسوخة، لم يُصرِّح النبي مرة بمنسوخية آية واحدة من كتاب الله – تبارك وتعالى -، وهذه مسألة في غاية الأهمية.

ولكن لو أننا ضربنا صفحاً وليتاً عن قضية الخلاف في الناسخ والمنسوخ أو في النسخ بشكل عام فإن التأمل في آية السيف وفي سباقها ولحاقها وسياقها يُعطي شيئاً يشهد لموقف السلاميين، ولا يشهد لموقف الفريق الأول، وهو ما ورد في الآية الرابعة من سورة التوبة، هذا إن رجَّحنا مع الجماهير أن آية السيف هي الآية الخامسة من سورة التوبة فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ۩، إن رجَّحنا أنها هي هذه الآية الخامسة من سورة التوبة فهي مسبوقة بالآية الرابعة إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ۩، واضحة جداً إذن في أن الرسول غير مأمور بقتال كل المُشرِكين، هذا في الآية الرابعة، ثم الآية الخامسة آية السيف، ثم الآية التي تليها – الآية السادسة – وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ ۩، إذن هذا مُشرِك ولا يُقتَل بمُجرَّد أنه استجار، إذن ليست الآية على إطلاقها ولا أيضاً على عمومها، ولا عمومها! الآية السابعة كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ۩، شيئ غريب جداً!

لذلك يا إخواني واضح أن الْمُشْرِكِينَ ۩ هنا لفظ ليس على عمومه، هذا اللفظ ليس على عمومه! ويتأكَّد هذا بمعرفة سبب نزول طوالع أو مطالع سورة التوبة، لماذا نزلت هذه الآيات أصلاً؟ نزلت هذه الآيات كما اتفق أهل السير بسبب غدر قريش – وهم مُشرِكون طبعاً، كانوا لا يزالون على شركهم – بحلفاء رسول الله من خُزاعة، الذين كانوا لا يزالون على شركهم، فهذه الآيات جاءت كانتصار للمُشرِكين، كانتصار للمُشرِكين حلفاء الرسول، على أنهم كانوا لا يزالون على شركهم، فكيف يُقال إن الآية في كل مُشرِك من حيث أتى دون قيد أو شرط؟! هذا غير صحيح.

في الحقيقة هذه الآيات – طوالع سورة التوبة – تتحدَّث عن انبغاء أو وجوب قتال أئمة الكفر، الذين فصَّلت الآيات الكريمة من الآية الثامنة إلى الآية الثالثة عشرة أحوالهم وصفاتهم، ويُمكِن أن تعودوا إليها وأن تدرسوها بتأمل، لتقفوا على جلية الأمر.

هذا من حيث آية السيف – إخواني وأخواتي -، نأتي الآن إلى الآية التاسعة والعشرين من سورة التوبة، وقيل أيضاً هي من آيات السيف أو آية السيف، وهي الآية التي تأمر بقتال الكفّار من أهل الكتاب، قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ۩، قالوا هذه الآية واضحة في قتال هؤلاء لمُجرَّد كفرهم، لمُجرَّد شركهم، ولمُجرَّد ما نُعِتوا به في هذه الآية.

وفي الحقيقة نحن نرى – والله تبارك وتعالى وحده عنده العلم والحُكم – أنه لا مُستنَد لهم في هذه الآية، لماذا؟ لأن هذه الآية تجعل غاية قتال هؤلاء المنعوتين بالنعوت المذكورة فيها من أهل الكتاب ليس دخولهم الإسلام، وإنما إعطاء الجزية، إعطاء الجزية! فإن رضوا بأن يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ۩ كففنا عنهم.

إذن هذا واضح جداً يا إخواني، واضح جداً أنهم لا يُقاتَلون لكتابيتهم أو لكفرهم، لأنه لو وجب أن نُقاتِلهم لمُجرَّد أنهم أهل كتاب أو لأنهم كفرة لكان ينبغي أن تُجعَل غاية هذا القتال دخولهم في الإسلام، لابد أن يدخلوا الإسلام، فإن لم يدخلوا فما فائدة هذا القتال؟ لكن لما جعلت الآية غاية قتالهم أن يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ۩ التفتنا وتلمَّحنا إلى ما أرادت هذه الآية اللفت إليه وهو سبق العدوان من هؤلاء، سبق العدوان من هؤلاء!

أما وصفهم بهذه الأوصاف المذكورة في الآية فهو من باب تبيين الواقع كما قال العلّامة شيخ الأزهر في وقته الشيخ محمود شلتوت – عليه الرحمة والرضوان -، قال هذا من باب تبيين الواقع، الآية تصفهم بما هم عليه إغراءً بهم، إغراءً بهم لسبق عدوانهم أو مع سبق عدوانهم، والإشارة إلى سبق العدوان هي كامنة ومشمولة في قوله حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ۩.

والصَغَار كما فسَّره الإمام الشافعي – رحمة الله تعالى عليه – هو الرضوخ والرضا بحُكم الإسلام، أن تُجرى عليهم أحكام الإسلام والمِلة، ومنها – أي من هذه الأحكام – دفع الجزية، فهذه الآية تُؤذِن وتُشير وتُلمِّح من طرف ليس بذاك الخفاء إلى سبق العدوان من هؤلاء.

على أننا لو عُدنا إلى كُتب السيرة والتاريخ لعلمنا أن هذه الآية التاسعية والعشرين من سورة التوبة نزلت على خلفية سياسية وعسكرية طويلة، خلفية سياسية وعسكرية طويلة مُعقَّد ومُركَّبة، سنشرح بعض هذه الخلفية أو بعض عناصر هذه الخلفية على عجل.

النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – غضب جداً لما حل برجل كان عاملاً للرومان – أي البينزنطيين – على مدينة معان، وهي في الأردن الآن، اسمه فروة بن عمرو الجذامي، هذا الرجل أسلم، شرح الله صدره للإسلام فأسلم، فلما علم الروم بذلك استشاطوا غضباً، فألقوا عليه، فتنوه لكي يثنوه عن دينه الجديد، فلم يرتض أن يعود عن الإسلام – رحمة الله تعالى عليه -، فصلبوه على ماء في فلسطين يُدعى عفراء، صلبوه! ثم أصدر هرقل أمره بقتل كل مَن أسلم مِن أهل الشام، مما أغضب النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – وأحزنه جداً، إذن لا يُقال إن الروم أو البيزنظيين أو كفرة أهل الكتاب المذكورين في الآية لم يبدأوا بالعدوان وأنهم كانوا كافين، أبداً لم يكونوا كذلك، هذا في السنة السادسة.

في السنة السابعة النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – يُرسِل رجلاً رسولاً إلى ملك غسان، وغسان كانت في بلاد الشام، وكانوا حلفاء لبيزنطة، وهم نصارى، قبائل نصرانية كبيرة، من أكبر القبائل العربية، كانوا نصارى وكانوا حلفاء وعمّالاً أيضاً للروم البيزنطيين، فالنبي يُرسِل الحارث بن عُمير الأزدي رسولاً ومعه هدايا إلى ملك غسان، فيعرضون له، فيقتلونه، قتلوه ظلماً هكذا وعدواناً! ثم يُهدِّدون بالزحف، عبّأوا جيشاً كبيراً لجباً، وهدَّدوا بالزحف على مدينة رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -، يُريدون أن يجثتوا الإسلام من جذوره، وأن يقضوا عليه في دولته!

فما كان من النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – إلا أن عبَّأ بدوره جيشاً كبيراً، وجعل قيادته للصاحب الجليل الحِب زيد بن حارثة – رضوان الله عليه -، على أنه إن نال الشهادة خلفه في القيادة جعفر بن أبي طالب – رضوان الله تعالى عليه -، على أنه إن استُشهِد أيضاً – وكأن النبي نظر إلى الغيب من خلف ستر رقيق، حدس بهذا، أو أُوحي إليه ربما بما سيحصل، وهذا ما حصل فعلاً بهذا الترتيب – وأكرمه الله بالشهادة صارت القيادة إلى عبد الله بن رواحة، ورد أنه سُئل فإن استُشهِد ابن رواحة؟ قال يشتورون، هم يُؤمِّرون بعد ذلك قائداً لهم بحسب الشورى.

فما كان من هؤلاء الغساسنة وحلفائهم من الروم إلا أن اجتمعوا وتألَّبوا إلباً واحداً، وأنزلوا بالجيش المُسلِم هزيمة ماحقة في معركة مُؤتة، واستُشهِد فعلاً القادة الثلاثة، ونجا الجيش بفضل حنكة القائد الصاحب الجليل خالد بن الوليد، المُدرَّب والماهر جداً، فانسحب بالجيش، وإلا لربما أوتيَ عليه من عند آخره.

في السنة الثامنة للهجرة النبي – عليه السلام – يُرسِل جماعة صغيرة قوامها خمسة عشر رجلاً إلى الحدود الشرقية للأردن، للدعوة إلى الله – تبارك وتعالى -، لتبليغ الإسلام إلى الناس هناك، ولاستطلاع الأحوال، فيسطو بهم جماعة من النصارى الروم أو البيزنطيين، فيقتلونهم أيضاً، ولم يلذ بالفرار منهم إلا واحداً فقط، نجا بفضل الله – تبارك وتعالى -.

ولذلك من الغلط أن يُقال الآتي، وهذا الغلط وقع فيه مُفكِّر كبير، وهو المرحوم الراحل ظافر القاسمي في كتابه عن الجهاد والقتال في الإسلام، حين زعم أنه بقراءته للسيرة المُشرَّفة لم يقف على موقعة عسكرية بين المُسلِمين وبين النصارى في عهد رسول الله إلا ما كان في مؤتة، التي استُشهِد فيها زيد بن حارثة وجعفر وعبد الله بن رواحة، وهذا غير صحيح.

وفي المُقابِل المُؤرِّخ والمُفسِّر أيضاً والمُفكِّر الفلسطيني الشهير محمد عزة دروزة – رحمة الله تعالى عليه – ذكر أن هاته المواقع التي اتفقت بين المُسلِمين وبين النصارى في زمان رسول الله ثماني مواقع، ثماني مُواجَهات عسكرية! ثماني مُواجهَات عسكرية منها دومة الجندل، وذات السلاسل، ومنها مؤتة، وآخرها أيضاً تبوك أو العُسرة في السنة التاسعة في رجب.

طبعاً وسورة التوبة تُؤرِّخ بطريقة دقيقة أحياناً جداً لبعض مراحل هذه الغزوة الشهيرة، أي غزوة العُسرة أو غزوة تبوك – إخواني وأخواتي -، وطبعاً هي لم تقع، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ۩، وكان السبب فيها أن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – بلغه أن الروم يتحشَّدون، وأنهم جمعوا جيشاً قوامه أربعون ألف مُقاتِل، جمعوا جيشاً قوامه أربعون ألف مُقاتِل وأرادوا أن يسيروا إلى مدينة رسول الله، وبلغ النبي أنهم وصلوا إلى البلقاء، فما كان من رسول الله – عليه السلام – إلا أيضاً أن عبَّأ جيشاً لجباً، قوامه ثلاثون ألف مُقاتِل، منهم عشرة آلاف فارس.

في صحيح البخاري إشارة مُوحية ونافذة إلى هذه الظروف التي كانت تجري في ذلك الوقت العصيب، على كل حال هو حديث طويل إلى حد ما، أعني حديث إشاعة تطليق الرسول لأزواجه – رضوان الله عليهن -، وفيه أن صاحب عمر بن الخطاب – رضيَ الله تعالى عنهما – طرق بابه عشاءً طرقاً شديداً، فقام عمر فزعاً، وقال ما هناك؟ قال أمر عظيم، أمر عظيم حصل، فقال ماذا؟ حضرت غسان؟

قال حضرت غسان؟ لأن المُسلِمين كانوا مُهدَّدين بهؤلاء الغساسنة في كل لحظة من ليل أو نهار، هذا هو الحال الذي كان عليه المُسلِمون في تلكم الفترة العصيبة الحالكة، قال لا، طلَّق رسول الله أزواجه، إلى آخره! على كل حال أيضاً – إخواني وأخواتي – إذا كان الله – تبارك وتعالى – أنزل في سورة المُمتحنة لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ۩، وهذه الآية نازلة في عموم المُشرِكين والكافرين، فمن باب أولى أنه – تبارك وتعالى – لا ينهانا أن نبر وأن نُقسِط إلى أهل الكتاب، إذ هم إلينا أدنى وبنا أمس، هم بنا أمس من هؤلاء المُشرِكين، فكيف يُقال إن الآية التاسعة والعشرين من سورة التوبة تأمر بقتال كل كتابي أمراً مُطلَقاً من كل قيد وشرط؟! هذا غير صحيح، ولا يُمكِن أن يكون صحيحاً.

وأيضاً لو كان صحيحاً فكيف يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – فيما رواه أبو داود والإمام النسائي – رحمة الله تعالى عليهم – دعوا الحبشة ما ودعوكم؟! قال دعوا الحبشة ما ودعوكم، والحبشة كانت نصرانية كتابية، إذن لا يُقال إن الآية التاسعة والعشرين تأمر بقتال كل كتابي من حيث هو، اعتدى أو كف، هذا غير صحيح يا إخواني وأخواتي، والله – تبارك وتعالى – أعلم.

نأتي الآن إلى الآية السادسة والثلاثين من سورة التوبة إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ۩، قالوا وهذه واضحة في كونها تأمر المُسلِمين بقتال كل المُشرِكين من حيث أتوا دون قيد أو شرط، تقول وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۩.

وفي الحقيقة هذا الفهم الذي ذهبوا إليه ليس بمُتعيِّن، الآية لا تنص على هذا المعنى، ليست نصاً في هذا المعنى، لماذا – إخواني وأخواتي -؟ وَقَاتِلُواْ ۩، أي أيها المُسلِمون، أيها المُؤمِنون، الفاعل هنا هو هذا الضمير المُتصِل، أي واو الجماعة، وَقَاتِلُواْ ۩، واو الجماعة هي الفاعل، وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ ۩، الْمُشْرِكِينَ ۩ المفعول به، كَافَّةً ۩ هذه منصوبة على الحالية، منصوبة على أنها حال، لكن حال مِن مَن؟ هي حال مِن الفاعل أو مِن المفعول به؟ الوجهان صحيحان، والوجهان واردان، يُمكِن أن تكون حالاً من الفاعل، وهو واو الجماعة في وَقَاتِلُواْ ۩، أي وقاتلوا كافة، وقاتلوا أيها المُسلِمون كافةً المُشرِكين، ويصير معنى الآية وقاتلوا أيها المُسلِمون المُشرِكين وأنتم جميعٌ، وحدة واحدة، غير مُتفرِّقين، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ ۩، هذا هو المعنى، وفي المعنى أيضاً وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا ۩، في نفس المعنى! ولذلك اكتفى الإمام وشيخ المُفسِّرين أبو جعفر بن جرير الطبري بهذا القول، ولم يعرض لأي قول آخر، مع أن القول الآخر مُحتمَل ووارد، وأسند هذا إلى ابن عباس وإلى الإمام السُدى واكتفى به، كأنه لفرط ظهوره ورجحانه مُغنٍ عن ذكر غيره، ولذلك هو لم يذكر غيره.

إذن الذي رجَّحه الطبري منسوباً إلى ابن عباس والسُدي أن كَافَّةً ۩ حال من الفاعل، حال من الفاعل، لا من المفعول، فليس في الآية ما يُفيد أننا مُأمورون بقتال كل المُشرِكين، سالمونا أو حاربونا، غير صحيح، وإنما قُصارى ما في الآية على هذا التفسير قاتلوهم وأنت مُجتمِعون، غير مُتفرِّقين، حتى لا تفشلوا، حتى لا تكون عليكم الدبرة، حتى لا تنهزموا.

لكن قد يقول قائل ماذا لو كانت كَافَّةً ۩ منصوبة على الحالية من المفعول وليس من الفاعل – أي قاتلوا كل المُشرِكين، كافة المُشرِكين -؟ أيضاً لا بأس، هل تعرفون لماذا؟ لأن الله يقول وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۩، فهي من باب المُعامَلة بالمثل، على أنه من المعروف أن كل المُشرِكين لم يُقاتِلوا المُسلِمين، بعض المُشرِكين قاتلوا المُسلِمين، وبعض المُشرِكين وادعوا المُسلِمين وهادنوا المُسلِمين كخزاعة، وقد قدَّمت لكم سبب نزول سورة التوبة أو مطالع سورة التوبة، بسبب عدوان قريش على حلفاء النبي من خُزاعة.

إذن فعُلِم من هذا أن الْمُشْرِكِينَ ۩ هنا الذين بدأونا بالعدوان، الألف واللام في الْمُشْرِكِينَ ۩ إنما هي للعهد، أي الْمُشْرِكِينَ ۩ المعهودين، مَن هم المُشرِكون المعهودون الذين أُمِرنا بقتالهم؟! الذين بدأونا بالعدوان، الذين بدأونا بالعدوان وليس كل مُشرِك.

على كل حال الإمام المُفسِّر المُعاصِر محمد الطاهر بن عاشور له رأي جدير بالنظر حقيقةً، وهو رأي ينم عن تعمق وعن تدقيق، فلله دره! ابن عاشور رأى أن موقع الآية هو موقع الاحتراس، من ماذا؟ الاحتراس من ماذا؟ من الوقوع في توهم أو ظن أننا كمُسلِمين منهيون عن رد العدوان الواقع علينا من المُشرِكين إن وقع في الأشهر الحُرم، الآية هكذا تقول، هذه آية واحدة! إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ۩، هذه الأشهر الحُرم مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ۩ أي بالعدوان، بالعدوان على الناس في هاته الأشهر.

فهنا قد يقع في الوهم أو في الظن أننا أيضاً منهيون عن أن نرد عدواناً وقع علينا في الأشهر الحُرم، فمن باب الاحتراس جاءت الآية لكي تقول لا، إن اعتُدي عليكم فهو مُرخَّص أو مُرخَّص لكم أن تردوا هذا العدوان.

كونوا معنا أحبتي بعد هذا الفاصل، حتى نُكمِل نقاش أدلة الفريق الأول.

أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم إخواني وأخواتي.

إذن العلّامة الإمام ابن عاشور – رحمه الله تعالى – يرى أن موقع هذه الآية هو موقع الاحتراس من ظن ما ذكرت لكم، فهذه الآية كأنها جاءت لتقول يُؤذَن لكم معاشر المُسلِمين والمُؤمِنين أن تردوا العدوان في الأشهر الحُرم إن وقع عليكم، وهو تفسير في مُنتهى الجودة، لماذا؟ لأنه يلتئم بقوله – تبارك وتعالى – الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ۩، سُبحان الله! كأن الآية السادسة والثلاثين من سورة التوبة في معنى هذه الآية من سورة البقرة، والله – تبارك وتعالى – أعلم.

بقيَ الآن – إخواني وأخواتي – أن نُجيب عن استدلالهم بالآية الحادية والأربعين من سورة التوبة، وهي قوله – تبارك وتعالى – انفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ۩، قالوا خِفَافًا وَثِقَالاً ۩ أي شيباً وشباباً، أي صغاراً وكباراً، قالوا شيباً وشباباً، أصحاء ومرضى، لكن مرضاً لا يحول دون القتال، أي المرض المُقعِد أو الصعب وكذا، أغنياء وفقراء، سماناً – سمين ثخين – وخفافاً مهزولين، أي تقريباً على كل الأحوال والأنحاء ينبغي أن تنفروا وأن تُقاتِلوا، غريب!

نحن لا نرى في هذه الآية الجيلية موضعاً يُمكِن أن يُتشبَّث به فيما ذهبوا إليه، قُصارى ما يُمكِن أن تُعطيه هذه الآية الجليلة – الآية الحادية والأربعون من سورة التوبة – أن القتال حين يجب إنما يجب على هذا الوجه، بحيث لا يبقى مجال لاعتذار مُعتذِر، إلا الذين عذر الله في كتابه، من العجزة والعُمي وأصحاب العاهات أو المريض مرضاً يُقعِده عن النفير للجهاد، هؤلاء! فأين في الآية أننا نُقاتِل كل الناس ونبدأ الناس بالقتال وأن الأصل هو الحرب، لا السلام؟! هذا ليس في الآية، لا من قريب ولا من بعيد، إذن غاية ما في الآية أن القتال يجب حين يجب على هذا الوجه، بحيث لا يبقى عذر لمُعتذِر، والله – تبارك وتعالى – أعلم.

أيضاً من كتاب الله – تبارك وتعالى – احتجوا بآية الفتنة، وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ۩، فسَّروا الفتنة بالشرك، قالوا يجب أن تُقاتِلوا المُشرِكين والكفّار حتى ينمحي الشرك والكفر، ويزول بالكُلية من العالم، من الدنيا، وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ۩ وهو دين التوحيد، دين لا إله إلا الله، فلا دين إلا التوحيد، هكذا فهموا الآية! وهو فهم فيه موضع للتنقيد والنظر، لماذا؟

ما الفتنة أصلاً؟! دون أن نخوض في تعريف الفتنة لُغوياً وهو معروف على كل حال لمُعظَم الدارسين نقول باستقراء موارد هذه اللفظة في كتاب الله – تبارك وتعالى – خاصة التي تتحدَّث عن فتنة الكفّار للمُؤمِنين، فتنة المُشركِين للمُوحِّدين، هكذا! وفتنة المُجرِمين للمُحسِنين، يضح أن معنى الفتنة هي اختداع المُؤمِن وصده وثنيه عن إيمانه ودينه بوسائل مُتعدِّدة، منها التمويه والتضليل والاختداع والتزييف والكذب، ومنها الترهيب، ومنها صنوف الأذى والاضطهاد، وهذه أكثر الفتنة، هذه أكثر وسائل الفتنة، أعني صنوف الأذى والاضطهاد، هذه هي الفتنة في كتاب الله – تبارك وتعالى -.

إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ۩، ما معنى فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ۩؟ هكذا فتنوهم، صدوهم أو أرادوا أن يصدوهم وأن يُثنوهم عن دينهم بالاضطهاد، بالحريق! خدوا لهم الأخاديد، وأشعلوا فيها النيران، ثم حرَّقوهم فيها أحياء، هم وأزواجهم وقراباتهم وأولادهم، فهذه هي الفتنة، عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ ۩، قال وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ ۩، فرعون يفتن قوم موسى، هذه هي الفتنة يا إخواني، فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ۩، وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۩، وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ ۩، هذه هي الفتنة، فتنة الكافر للمُؤمِن، الله يتحدَّث عن المُؤمِنين الذين فُتِنوا في دينهم، لكنهم هاجروا وجاهدوا وصبروا.

في آية السحر من سورة البقرة وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ ۩، أي لا تترك دينك بهذه الفتنة، هذه هي! وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ۩، الفتنة عن الدين بالتعذيب والاضطهاد، وهكذا! فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۩، كما قلت لكم الصد عن الدين بأساليب منها الاختداع والتمويه والتضليل والتزييف والتدليس، فهذا منه، لكن أكثر ذلك أو أكثر الأساليب هي صنوف الاضطهاد والأذى.

لكن أود أن ألفت أيضاً إلى أن تفسير الفتنة بالشرك – يُقال لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ۩ بمعنى لا يكون شرك – ليس بالضرورة أن يدل على ما ذهبوا إليه، وهذا منسوب إلى ابن عباس وإلى جماعة من أفاضل التابعين، ليس بالضرورة أن يدل على ما ذهبوا إليه، لماذا؟ لأنه قد يكون من باب تسمية المُسبَّب باسم سببه، وهذا مجاز من المجازات العقلية، هذا ضرب من المجاز العقلي، أن يُسمى المُسبَّب أو الأثر باسم المُؤثِّر أو السبب.

إذن الآن وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ۩ أي حتى لا يكون شرك، الشرك هو المُسبَّب أو الأثر، تسبَّب عن ماذا؟ تسبَّب عن الفتنة، بمعنى الاضطهاد، بمعنى الاضطهاد في الدين، اضطهدوهم فكفَّروهم، اضهدوهم فأثنوهم أو فثنوهم عن دينهم، فهذا من باب تسمية المُسبَّب باسم سببه، وهذا مجاز عقلي.

هناك حديث عن عبد الله بن عمر – رضوان الله تعالى عليه – يُؤكِّد هذا، هناك حديث في البخاري – حديث صحيح – عن ابن عمر يُؤكِّد أن معنى الفتنة ما ذكرت لكم، جاءه رجلان أيام فتنة ابن الزُبير، فقالا له ألا تخرج وقد خرج الناس وأنت ابن عمر صاحب رسول الله ولك شأن وكذا وكذا؟! فقال لا، لا أخرج، أنا لا أخرج، لا أُشارِك في هذه الفتنة، فقالا له ما يمنعك؟ قال يمنعني أن الله – تبارك وتعالى – حرَّم علىّ دم أخي، لا أُحِب أن أتخوَّض في دماء المُسلِمين، فقالا له لكن ألم يقل الله – تبارك وتعالى – وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ۩؟ قال قد فعلنا، قد فعلنا على عهد رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً -، كانوا يفتنون المُؤمِنين – يتحدَّث عن المُشرِكين، يقول كانوا يفتنون المُؤمِنين -، فإما قتلوهم وإما يُعذِّبونهم، فقاتلنا حتى زال ذلك وانتشر الإسلام، وكان الإسلام قليلاً – يقول -، كان الإسلام قليلاً، وكان المُؤمِن يُفتَن في دينه، فإما قُتِل وإما عُذِّب المسكين، حتى زال ذلك وانتشر الإسلام.

هذا واضح من ابن عمر، أنه فهم الفتنة على النحو الذي شرحنا لكم – أيها الإخوة والأخوات -، أيضاً في قصة – وهذه في السيرة – أبي جندل بن سهيل بن عمر تعرفون الشرط الذي شرطت قريش على رسول الله ووافق عليه، أن مَن جاءه مِن قريش مُسلِماً رده إليهم، فاتفق أن جاء أبو جندل – رضوان الله عليه – بن سُهيل بن عمر وهو كاتب قريش، هذا كان مندوب قريش، كان مندوب قريش في الحُديبية، فجاء إلى المُسلِمين، فأبوه أصر إلا أن يُعيده معه، والنبي وافق عملاً بالعهد وعملاً بالشرط، فصرخ أبو جندل، قال تردونني إلى قريش أو إلى المُشرِكين يفتنونني عن ديني؟! فكيف يفتنونه إذن؟ بالتعذيب وبالاضطهاد، إلى آخر الحكاية.

الآثار كثيرة، الآثار كثيرة والأدلة التي تُؤيِّد هذا التفسير للفتنة، وعليه يصير معنى الآية وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ۩ أي حتى يزول الاضطهاد، اضطهاد المُوحِّدين، اضطهاد المُؤمِنين في دينهم، لأن الكفّار كانوا يُمارِسون هذا الاضطهاد البشع في حق المُؤمِنين والمُؤمِنات، إذن وجب أن يُقاتَل دفاعاً عن هؤلاء المُستضعَفين المُضطهَدين من عموم المُؤمِنين والمُؤمِنات، ويكون معنى وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ۩ هو ما ذكرنا، ليس بمعنى لا يكون على وجه الأرض إلا دين التوحيد ويزول الشرك بالكُلية، هذا غير صحيح! وإنما معنى وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ۩ إي يكون دين الشخص خالصاً مُخلَصاً لله – تبارك وتعالى -، ليس فيه مُداجاة ولا مُراءة ولا مُحاباة ولا خوف، أمان! تديَّن عن قناعة وفي أمان كامل – بإذن الله – وبإخلاص، كما قال – عز من قائل – فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ ۩ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ۩… في أول الزُمر، دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ۩، وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا ۩، هذا هو معنى أن يكون الدين لله، أي يكون الدين خالصاً لله – تبارك وتعالى -، ليس بمعنى أن يكون إلا دين التوحيد وينمحي الشرك، هذا خلاف سُنن الله الكونية، وخلاف سُنن الله القدرية – إخواني وأخواتي -، والله – تبارك وتعالى – أعلم.

نأتي الآن إلى الجواب عما احتجوا به من الآيات الناهية عن مُوالاة الكفّار، وذكرنا لكم طرفاً أو نمطاً منها، في الحقيقة لا مُلازَمة – إخواني وأخواتي – بين النهي عن مُوالاة الكفّار وبين وجوب قتالهم، نحن منهيون عن مُوالاتهم، لكننا لسنا مأمورين بقتالهم وإن كفوا عنا، غير صحيح! لا مُلازَمة بين الأمرين، لا مُلازَمة بين الأمرين وهذا واضح جداً، بدليل أن آية المُمتحنة أو آيتي المُمتحنة في قول مشهور للعلماء نزلتا بعد الآيات الناهية وليس قبل الآيات الناهية عن مُوالاة الكفّار، أي الآيات الناهية نزلت أو نزلن قبل آيتي المُمتحنة، لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ۩، وذكرت لكم هذه الآية.

إذن نحن غير منهيين أن نبر هؤلاء المُشرِكين إذا كفوا عنا، فوادعونا وسالمونا، غير منهيين أن نبرهم وأن نُقسِط إليهم، فسَّرها ابن العربي بأن نُعطيهم من أموالنا، بأن نُعطيهم من حِل أموالنا، نتألَّفهم هكذا، ونتحبَّب إليهم، حتى ربما تنشرح صدورهم للإسلام.

إذن ما معنى المُوالاة المنهي عنها حينئذٍ؟ إذا كان يُمكِن أن نبر الكفّار وأن نُقسِط إليهم فما معنى النهي عن مُوالاتهم؟ باختصار مِن أحسن مَن أجاب عن هذا السؤال الإمام الجليل الفخر الرازي في التفسير الكبير، قال هذه المُوالاة المنهي عنها هي على النحو الآتي، وطبعاً قال ذلك حين فسَّر قوله – تبارك وتعالى – لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۩ في سورة آل عمران، قال إما أن تكون بمعنى محبة هؤلاء الكفار، رضا بدينهم ومُعتقَدهم – والعياذ بالله -، وهذا منهي عنه ولا يقع من مُؤمِن لا يزال على إيمانه، لماذا؟ لأن الرضا بالكفر كفر، فمُستحيل – هذا مُستحيل – أن يقع هذا من مُؤمِن، وهذا منهي عنه تماماً، المُوالاة بهذا المعنى منهي عنها قولاً واحداً، وإما أن تكون هذه المُوالاة بمعنى المُعاشَرة والمُحاسَنة الدنيوية، عيشة حسنة جميلة بيننا وبينهم، وهذه غير منهي عنها بنص آية المُمتحنة، نحن مدعوون إلى برهم والإقساط إليهم والإحسان إليهم، وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ۩، لكل الناس، مُؤمِنهم وكافرهم، وإما – وهذه وسط بين القولين، قال الفخر الرازي – أن تكون هذه المُوالاة بمعنى ماذا؟ بمعنى نُصرة هؤلاء المُشرِكين أو هؤلاء الكافرين، ومُظاهَرتهم – بمعنى نُصرتهم، ومُظاهَرتهم أي ودعمهم وتعزيزهم – مع اعتقاد بُطلان دينهم، مع اعتقاد كُفرهم، لكن لماذا نُناصِرهم؟ لماذا نُظاهِرهم؟ ولماذا نواليهم؟ بسبب المحبة أو بسبب القرابة، وربما أيضاً – أنا أقول – بسبب المصالح، بسبب المصالح والسياسات، قال وهذا منهي عنه، بلا شك هذا منهى عنه، لماذا؟ لأنه قد يُطرِّق طريقاً إلى استحسان طريقتهم ودينهم، فيقع المُؤمِن أخيراً في الكفر، فهذا منهي عنه.

هذا القول الثالث هو الذي اقتصر عليه ورجَّحه الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري، قال هذه المُوالاة المنهي عنها، وبلا شك هذه منهي عنها، لكن يا إخواني المُوالاة بالمعنى الثاني غير منهي عنها، فمن أين أخذوا من الآيات الناهية عن مُوالاة الكفّار وجوب قتال هؤلاء الكفّار؟ اللهم إن هذا أخذ بعيد بعيد، مُناوَشة من وراء وراء، هذه من أضعف الاستدلالات.

بقيَ الآن – إخواني وأخواتي – أن نأتي إلى احتجاجهم بالأحاديث النبوية، هناك حديث أُمِرت أن أُقاتِل الناس، وطبعاً سنضرب الذكر صفحاً عما قال بعض علماء الحديث من قول يتعلَّق بإسناد هذا الحديث، على كل حال الحديث المُخرَّج – كما قلت لكم – في الصحيحين من رواية ابن عمر مرفوعاً، ومُخرَّج في الصحيحين وعند أصحاب السُنن من رواية أبي هُريرة – رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين -.

أُمِرت أن أُقاتِل الناس حتى يقولوا، أو يشهدوا، أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويُقيموا الصلاة، ويُؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله، هل في هذا الحديث يا إخواني ما يُفهِم وما يُؤخَذ منه أننا مأمورون بقتال كل الناس، كل الكفّار، كل غير المُسلِمين؟ لم يقل بهذا أحد من الأئمة الكبار، لماذا؟

أولاً لم يقل أحد من الأئمة الكبار – طبعاً استناداً إلى هذا الحديث لم يقل أحد من الأئمة الكبار الآتي – إن الناس هنا في أُمِرت أن أُقاتِل الناس على عمومها، أي تعم كل الناس، بدليل الآية التاسعة والعشرين من سورة التوبة، لأن الآية التاسعة والعشرين من سورة التوبة تأمر بقتال كتابيين – كما قلت لكم – مخصوصين، حتى لو جعلناها على عمومها يكون هذا إلى غاية، ما هي الغاية؟ قبول الجزية، أن نأخذ منهم الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ۩، الحديث ليس فيه هذه الغاية، الحديث جعل الغاية ماذا؟ الإسلام، وإلا فهو الموت، القتل! أُمِرت أن أُقاتِل الناس، وجعل الغاية هي الدخول في الإسلام، فإن لم يدخلوا إذن فهو القتل، فهو العرض على السيف، القتل في الميدان، القتل في الميدان بالقتال، الآية في التوبة تقول لا، هناك أخذ للجزية، إذن على الأقل أهل الكتاب غير ادخلين في الحديث، إذن أصبح العموم هنا ماذا؟ دخله التخصيص، دخله التخصيص وبهذا قال جماعة.

بعضهم قال آية التوبة نسخت الحديث، أي جعلوه من النسخ، وهذه على طريقة الأقدمين من الصحابة ومُتقدِّمي الأئمة، كانوا يُسمون التخصيص نسخاً، يُسمون التخصيص نسخاً، والتقييد أيضاً يُسمونه نسخاً، ويُسمون أشياء كثيرة نسخاً، لكن هذا مبحث آخر، ومنهم مَن قال الناس في الحديث ليس من باب العموم الذي دخله تخصيص، وإنما من باب العموم المخصوص أو الذي يُراد به خصوص، هذا من باب العموم الذي يُراد به خصوص، أصلاً يُراد به خصوص، أي حين نطق الشارع بالناس أراد بها أُناساً مخصوصين، لا كل الناس، مُنذ البداية!

ولذلك اختلفوا، فالإمام مالك – رحمة الله تعالى عليه – قال في أُمِرت أن أُقاتِل الناس الناس هنا هم كفّار قريش، لا كل الناس، وقال سائر الأئمة أو الأئمة الثلاثة، قالوا في أُمِرت أن أُقاتِل الناس الناس هم كفّار العرب، كفّار الجزيرة العربية، وليس كفّار العالم.

لذلك الإمام مالك – هذا مذهب مالك، مذهب الأوزاعي، مذهب ابن شُبرمة، مذهب سُفيان الثوري، ومذهب فقهاء الشام – أن الجزية يجوز أن تُؤخَذ من كل كافر عربياً كان أم عجمياً، أما مذهب الآخرين فقالوا لا تُؤخَذ من كل كافر، إنما تُؤخَذ من كفّار مخصوصين، ولهم تفصيلات في هذا.

على كل حال إذن قولاً واحداً الأئمة المتبوعون لم يقولوا إن الناس هنا على عمومها، لم يقولوا إن الناس على عمومها! إما أنها مخصوصة وإما أنها عام يُراد به خصوص أصلاً، هناك عام يُراد به خصوص، الناس الذين – مثلاً – بدأوكم بالقتال، الذين بدأوكم بالعدوان، الذين لا يزالون يُعادون المُجتمَع المُسلِم.

على كل حال شيخ الإسلام ابن تيمية له تحقيق في مُنتهى الحُسن والجمال بصدد هذا الحديث، بكلمة واحدة ماذا قال ابن تيمية؟ قال…
(ملحوظة هامة) انقطع الصوت وكذا الصورة، ثم عاد الأمر إلى ما كان عليه مع قول فضيلته: الغاية التي أُمِر النبي أن يُقاتِل مَن أُمِر بقتاله إليها، لا أن الحديث ينص على أنه مأمور بقتال كل الناس إلى هذه الغاية، أي الحديث إنما سيق لكي يُبيِّن ماذا؟ الغاية التي ينبغي أن يُقاتَل مَن يُؤمَر النبي بقتاله إليها، لا أن الحديث يأمر بقتال كل الناس إلى هذه الغاية.

وقد أوضح ابن تيمية – رحمة الله تعالى عليه – في كلام طويل وجميل ومُحقَّق ودقيق أن سيرة النبي ونصوص الشريعة تُكذِّب الفهم الثاني، أن النبي مأمور بقتال كل الناس إلى هذه الغاية، ومثله ذهب شيخ الإسلام ابن قيم الجوزية وهو تَلميذه – رحمة الله تعالى عليهما -، والإمام الأمير الصنعاني صاحب سُبل السلام، وكثيرون.

بقيت كلمة في حديث بُعِثت بين يدي الساعة بالسيف، هذا الحديث عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، وهذا الرجل ضعيف، قال فيه الإمام أحمد يروي المناكير، أحاديثه مناكير، على كل حال المتن نفسه فيه جُزء رواه البخاري في صحيحه، عجز هذا الحديث وهو وجُعِل رزقي تحت ظل رُمحي مذكور في البخاري، لكن تعليقاً، في كتاب الرماح، وعن ابن عمر، هكذا من غير إسناد، عُلِّق! حذف السند كله إلى ابن عمر، قال وعن ابن عمر وجُعِل رزقي – طبعاً مرفوعاً – تحت ظل رُمحي.

أما صدر الحديث وهو بُعِثت بين يدي الساعة بالسيف فهذا المتن قال فيه جماعة من العلماء إنه متن مُنكَر، مُخالِف لظواهر كتاب الله – تبارك وتعالى -، ظواهر كتاب الله أنه بُعِث رحمةً للعالمين، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ۩، بُعِث بالهُدى ودين الحق، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ ۩، بُعِث بالشفاء والموعظة، يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ ۩، بُعِث بهذه الأشياء، لم يُبعَث بالسيف – عليه الصلاة وأفضل السلام -.

على أن مِن العلماء مَن قال يُمكِن تأويل هذا المتن، يُمكِن تأويل هذا المتن بأن يُقال بُعِث بالسيف لكي يُقاتِل مَن يُقاتِله ويبدأه بالعدوان دفاعاً عن نفسه، إن كان كذلك فلا بأس، هذا مقبول إلى حد ما، على أن الحديث ضعيف كما حقَّق الشيخ شُعيب الأرناؤوطي، والإخوة معه حين حقَّقوا مُسنَد الإمام أحمد حكموا عليه بالضعف، وإن كان له قول مُتقدِّم في تحقيق كتاب زاد المعاد للشيخ ابن القيم.

للأسف ربما بقيت جُملة واحدة بخصوص حروب النبي، لكن بجُملة واحدة حروب النبي في تحقيق كبار المُحقِّقين لم تكن حروب عدوان، بل كانت حروب رد للعدوان، وهذا ما قال به شيخ العروبة أحمد زكي باشا – رحمة الله تعالى عليه -، الخضر حسين، وكثيرون من علماء العصر.

أكتفي بهذا القدر، وإلى أن ألقاكم في حلقة مُقبِلة أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: