إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – جل مجده – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ۩ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ ۩ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ۩ لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا لَّاصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ۩ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ۩ خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ ۩ إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، أحينا على ذلك وأمتنا على ذلك، فإن ذلك لا يُصار إليه ولا يُقدَر عليه إلا بفضلك ومنّك وتوفيقك، اللهم آمين.

إخواني وأخواتي:

فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ ۩، لماذا؟ لأن لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ۩، لا ينبغي أن يُخلَص الدين إلا لله، ففُرِّع على ذلك، وهذا منطقي سائغ تماماً، الأمر بوجوب إفراده – سُبحانه وتعالى وجل وعز – بإخلاص العبادة والدين، الدين كله له، لا إله إلا هو!

لكن ما هو الإخلاص الذي اختلفت العبارات في تعريفه والتقت على معناه قولاً واحداً؟ الإخلاص – أحبتي في الله – من التخليص، عمل خالص، أي مُخلَّص من الأشواب والأكدار وما يُخالِطه مما ليس من جنسه، فالإخلاص في أصل الاشتقاق من التخليص، تخليص ماذا؟ تخليص النية، لأن روح الأعمال النيات، النيات هي أرواح الأعمال.

قال مولانا ابن عطاء الله السكندري – رضوان الله تعالى عليه – الأعمال صورٌ قائمة، وأرواحها سر الإخلاص فيها. عملٌ بلا إخلاص مُجرَّد شبح، تابوت، جُثمان، صورة ميتة، صورة ميتة لا روح فيها، تدب فيها الروح، وتحيا الحياة الربانية العلوية بسر الإخلاص، والأعمال إنما تتأسَّس على النوايا، فإن صلحت النوايا، صلحت الأعمال وقُبِلت، وإن فسدت وشيبت هذه النوايا، فبالحري تكون الأعمال فاسدةً مشوبةً، لا يقبلها الله.

قال – عليه الصلاة وأفضل السلام وآله – يُؤتى بصُحف الأعمال يوم القيامة مُختَّمة – كل صحيفة بخاتمها، لئلا يُزاد فيها ولا يُنقَص منها، مُختَّمة -، فتُوضَع بين يدي الله – تبارك وتعالى -، فيقول لملائكته يا ملائكتي اقبلوا هذه، وضعوا هذه. هذه ارموها، لا نعبأ بها، وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا ۩، حتى وإن تكن أعمالاً صالحةً، كحج وعمرة وصدقة وصلاة وذكر وقيام وجهاد وما إلى ذلكم، الله يقول اقبلوا هذه، وضعوا هذه. فتقول الأملاك – عليها السلام – وعزتك وجلالك ما وجدنا فيها إلا خيراً. هذه صُحف أعمال خير، كلها خيور، كلها خيور، مبرات، وبركات! فيقول لم يُبتغ بها وجهي، ولا أقبل من العمل إلا ما ابتُغيَ به وجهي. وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ ۩، هنا تعظم الحسرات، ضيَّعوا أعمارهم، ضيَّعوا أوقاتهم، وضيَّعوا فُرصتهم الوحيدة، لا امتحان دوراً ثانياً في الدنيا، الامتحان واحد، عمر واحد، امتحان واحد، وفُرصة واحدة مُفرَدة، ولكنها طويلة مُمتَدة، بعمر الإنسان.

ولذلك وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ ۩، تعظم الحسرات، أعمال صورها صالحة طيبة، ولكنها مردودة، هباء عند الله منثور، لا قيمة لها، ولا مقبولية لها. لماذا؟ لم يُرد بها وجه الله – تبارك وتعالى -، لم تُعمَل لله. الناس قد تغتر بصور الأعمال، يغترون برجل يُكثِر الصلاة، ويُكثِر الصوم، ويُكثِر الصدقات، ويُكثِر الكلام في الدين، ويُكثِر الحج والعمرة وعمل الخير في الظاهر، الناس قد تغتر وتظن أنه من الصالحين، وقد يغتر هو حتى بنفسه، قد يسترسل مع وهمه ومع خداعه لنفسه، وأخدع ما يكون للنفس النفس، انتبهوا! ولذلك فعلاً كما قال العارفون بالله قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ ۩، قالوا أول ما يلينا وأدنى عدو إلينا نفوسنا. طبعاً أعظم عدو لك ولي – لنا جميعاً – نفسك التي بين جنبيك.

ألم تفتكروا مرة يا أحبتي – إخواني وأخواتي – في إبليس اللعين، المطرود من رحمة الله، المغضوب عليه إلى أبد الآبدين؟ مَن الذي أبلسه؟ مَن الذي أبلس إبليس؟ مَن الذي أضل إبليس؟ مَن الذي لبَّس على إبليس؟ مَن الذي أغوى إبليس؟ مَن الذي زيَّن ووسوَّس لإبليس؟ حتماً ليس إبليس آخر، ليس إبليس آخر، لا يُوجَد هذا، هو إبليس نفسه. إذن مَن الذي أبلسه؟ مَن الذي وسوَّس إليه؟ نفسه. الأنا، قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ۩، الأنا!

ولذلك أود أنا أُلخِّص تعريفات السادة العلماء والعارفين – رضيَ الله تعالى عنهم، وأعاد علينا من بركاتهم أجمعين – بعبارة وجيزة، جد وجيزة. الإخلاص هو تخليص النية من الأنانية. ليس الأنانية بمعنى الأثرة، لا! الأنانية نسبة إلى الأنا، من الأنا، تخليص النية من الأنانية، نية ماذا؟ نية العمل الذي يُبتغى به وجه الله.

قد يقول لي أحدكم هل هذا الموضوع يعم كل الأعمال؟ لا، الأصل فيه – أي موضوع الإخلاص – أنه في الأعمال التي يُبتغى بها وجه الله، أي عمل الآخرة، وفي حديث أُبي بن كعب – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، أخرجه الإمام احمد وابن حبان وغيرهما – قال – عليه الصلاة وأفضل السلام وآله – بشِّر هذه الامة بالسناء والرفعة في الدين والتمكين في الأرض ما لم يعملوا عمل الآخرة للدنيا. ما لم يعملوا عمل الآخرة للدنيا!

الصلاة والصوم والصدقات وأعمال المبرات التي يُتقرَّب بها إلى الله أعمال آخرة هذه كلها، أعمال آخرة! هذه ينبغي أن تُعمَل لله، ليس لأجل الناس، ليس لأجل أن نستبشر بالمحمدة عند الناس. ما أتقاه! ما أكثر صدقاته! ما أعبده! ما أجمل أنواره! ما أكبره! وما أعظم علمه! هذا كلام فارغ كله، كله كلام فارغ يا إخواني، مهلكة حقيقية، طريق الهلاك، طريق البوار والتبار.

فإن هم أو فمَن عمل منهم كذلك – أي عمل عمل الآخرة للدنيا -، لم يكن له في الآخرة من نصيب. النبي يقول، يقول هذا انتهى، انتهى أمره، انتهى! لأنك – وهذا حق – لم تعملها لله، أنت لم تعمل لله، ولم تعمل ابتغاء وجه الله وابتغاء مرضاة الله وابتغاء ما عند الله، عملتها لجل مرضاة الناس، لأجل المحمدة عند الناس، لأجل أن تأخذ أموال الناس، أن تأخذ منصباً وحيثيةً ومثابةً عند الناس، حصَّلت هذا كله أو بعضه أو شيئاً منه، انتهى كل شيئ، أخذت أجرك في الدنيا، ليس لك في الآخرة من نصيب.

الأخطر من هذا أن النبي أيضاً بطريق مفهوم المُخالَفة يُفهِمنا أن الأمة إذا شاع فيها عمل أعمال الآخرة – إتيان أعمال الآخرة – من أجل الدنيا، حصل لها ماذا؟ لم يرتفع أمرها، ولم يُمكَّن لها في الأرض، ولم تعز، بل هانت على الله، وأسقطها الله من عينه، وذلت، وخابت. كما هو حال الأمة اليوم، لا يستطيع أحد أن يقول لي اليوم الأمة المُسلِمة أعز أمة وأفضل أمة. مُستحيل مُستحيل مُستحيل! من أذل الأمم – حتى لا نكون غير دقيقين نقول من أذل الأمم – على وجه الأرض، أمة لا إله إلا الله، مسكينة! يتجرأ عليها الحالية والعاطلة، الحالية والعاطلة! أي مَن يسوى ومَن لا يسوى كما نقول بالعامية، الكل يتجرأ عليها، هناك حتى دويلات صغيرة عدوانية والغة فينا، ما عادت تهتم، تقول لا أهتم بكم، لا أهتم بالشعوب العربية، ولا أطلب حتى سلامهم، ولا أحترمهم. وتسمعون هذا على الفضائيات كل يوم والثاني، نُحقَّر تحقيراً ما بعده تحقير.

وهذا على أساس أن هناك صحوة وأن هناك ديناً وتديناً، أين التدين؟ أين التدين الحق؟ المنابر – وهذا في كل المنابر، ليس منابر المساجد فقط، كلها! في السوشيال ميديا Social Media، في الكُتب، وفي الصُحف، كلها – تصفية حسابات، والدين يُستخدَم فيها لتصفية الحسابات، لسب هذا، وتكفير هذا، ولعن هذا، والتشكيك في هذا، والنيل من عِرض هذا، والمُؤامَرة على هذا، والتآمر بهذا، والمكر بهذا. وباسم الدين! وقال الله وقال الرسول، وترى وجوهاً عجيبةً، وتسمع ألفاظاً نابية جداً جداً جداً، ووقيعة في أعراض الناس وسب للناس وبالأسماء، يُسمون بالأسماء رجالاً ونساءً، وباسم الدين! ويقول لك الواحد منهم كلمة حق هذه. كلمة حق! ما شاء الله، ما شاء الله، الحق الذي أذلنا، والذي فرَّقنا، والذي دمَّرنا، والذي كرَّه أولادنا حتى في الدين. إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ۩، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

مع أن الفرض ماذا؟ الفرض ماذا؟ أن هذا الدين لأهله، لأمته. هذا الدين يا إخواني – أرجو أن أكون مُصيباً في وضع هذا المعيار، فإن أخطأت، فمن نفسي وشيطاني، والله بريء منه ورسوله – ينبغي أن يُفهَم وأن يُسار على هديه وفي نهجه وأن يُعرَض للناس ويُبسَط لهم على نحو يُؤكِّد ويفي – ليس يُؤكِّد فقط، يُؤكِّد ويفي – بحاجة الذين يتوفَّرون على لياقات الاهتداء. وأنا أقول لكم بصراحة مُعظَم الناس تُريد هذا، مُعظَم الناس تُريد أن تهتدي، ولكن حيرى، الناس حيرى مُتهوِّكون، كلٌ له إمام، وكلٌ له منبر، وكلٌ له شيعة، وكلٌ له حزب، و: كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ۩، وكل واحد يُفهِم جماعته أننا فقط الناجون، والبقية هلكى، وربما هم كفّار أيضاً وخارجون من المِلة، اتبعني تسعد وتقطع إلى الله الطريق أشواطاً أشواطاً، سريعاً سريعاً. هكذا – والعياذ بالله -، في حين أن الفرض ليس كذلك، لا! الفرض أن يُفهَم الدين وأن يُعرَض ويُبسَط للناس بحيث يفي الحاكم والمحكوم، العالم والجاهل، الغني والفقير، الملك والسوقة، القريب والبعيد، والنسيب والغريب، والصغير والكبير، والذكر والأُنثى. لماذا؟ هل تعرفون لماذا؟ لأن دين الله للعالمين، لكل الناس.

فالحاكم هو حاكم، واتركني من معركة الحُكم ومعركة الكراسي، هذه معارك سياسية، لا تخلو منها أمم، ولا أمة محمد، حتى في جيل الصحابة، اتركنا من هذا، لا تفتح هذه الأبواب، لكن هذا الحاكم في الأخير يقول لك أنا مُسلِم. ويُصلي ويحج ويعتمر، إذن يحتاج الدين. لكن انتبهوا، ماذا لو عُرِض له الدين، وقيل هذا هو الدين الذي نفهمه ونُريد أن نُشيعه في العالمين، على نحو يُهدِّد حُكمه وسُلطانه؟ يُقال له أصلاً أنت كحاكم مشكوك في ذمتك ودينك، مشكوك في دينك! لعلك كافر، نحن نُريد الكرسي الذي تحتك، لكي نُصلِح شأن الناس. بالحري أنه لن يُحِب هذا العرض، ولن يطمئن إليه، ولن يستبشر به، وسيُناصِبه العداء، طبيعي، طبيعي وأنت الذي بدأت.

في حين أن عكس هذا يحصل لو رأى هذا الحاكم أن أهل الدين، علماء الدين، المُبشِّرين بالدين، يدعون إلى دين لا يُنازِعه سُلطانه، مَن يُريد أن يُنازِع، فليُنازِع باسم السياسة، وليس بالدين، الدين لم يأت لكي يُنازِع الناس سُلطانهم، الله ما بعث نبياً ولا محمداً لكي يُنازِع الناس سُلطانهم في الدنيا، بالعكس! النبي كان يبعث رُسله إلى الشعوب والقبائل، إلى الدول كما يُقال في جزيرة العرب، ويقول للواحد منهم أنت على مكانك، هذا دين الله، أسلِم، تُفلِح، تعز، وأنت على مكانك، لن أبعث أحد أصحابي لكي يأخذ الحُكم منك، كونه أقدم إسلاماً منك، أي وأعلم بالإسلام وشرائعه وشعائره. لا، هذا غير صحيح، أسلِم وكَن مكانك، فأنا لا أُريد منك شيئاً. انتبهوا، هذا هو، هذا دين الله، هذا دين الله – تبارك وتعالى -، يحتاجه هذا الحاكم، لأنه مُسلِم، ولا يزال يُصلي ويصوم ويحج ويعتمر ويدعم النشاطات الدينية (التقليدية)، وأقول هذه الكلمة بين قوسين، عادي طبعاً، قال دين تقليدي. وجوهر الدين هو هذا التقليد، أن الناس تعرف الله وتُخلِص له وتخشاه وتتقيه، ولا تستخدم الدين من أجل ماذا؟ أجندات وأهداف ضيقة، في جوهرها أهداف دنيوية، دنيوية! يُفهِمون الناس أنها ليست كذلك، أهداف دينية، لا! ليست دينية، هي دنيوية، صراع على الدنيا.

الإمام عليّ – عليه السلام، وكرَّم الله وجهه – من أول يوم ماذا سمى قضية الخلافة؟ (ونعتذر بين قوسين لإخواننا الشيعة)، لهم عقائدهم، لهم فهومهم، ولكن هذا ثبت عن الإمام عليّ، قال رضيه رسول الله – يعني أبا بكر الصدّيق، رضوان الله عليه – لديننا، أفلا نرضاه لدنيانا؟ سمى مسألة الحُكم ومَن يحكم ويقعد على الكرسي مسألة دنيا، هذه دنيا، وتُنظِّمها فلسفات وإجراءات وآليات دنيوية، قضية دنيوية هذه، ليس هذا الدين، والله ما بعث الأنبياء لكي يُعلِّمونا كيف نحكم أنفسنا إذن وكيف نعمل نظام حُكم، وقلت هذا مئة مرة، وأنا مُوقِن به – بفضل الله -، إلا أن يتبيَّن لي خطئي بيقين، هذا هو!

فهذا هو الدين الذي يحقرونه ويزرون عليه، يقولون لك هذا دين تقليدي. لا، غير صحيح، هذا نحتاجه، نحتاج الدين التقليدي، نحتاج أن نتعلَّم كيف نعبد الله حقاً، حين نُصلي نُصلي لله، حين نتكلَّم نتكلَّم لله، حين نقرأ القرآن نقرأ لله، حين نأتي المساجد نأتي المساجد التي قال الله وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ۩، هذا ليس فقط غير لائق، وإنما هو غير مقبول، إجرام في حق الله ورسوله والدين أن يُتخَذ المنبر – أي منبر المسجد، الذي هو منبر رسول الله في الأخير – من أجل دعوات ضيقة داخل الأمة الواسعة الواحدة، فمن الذين يجلسون عشرة يُوافِقونك، وعشرة يُخالِفونك، وعشرة مُتحيِّرون، لماذا أنت فرَّقت الناس؟ ولذلك وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ۩، أفرِغ عن منطق، أفرِغ بخطاب ديني يقبله كل مَن يجلس، يقول لك هذا مقبول، يُحدِّثنا في ماذا؟ في فروض الدين، في جوهر الدين، في لُب الدين. والكل مُحتاج إلى هذا، الحاكم والمحكوم، والعالم والجاهل، والكبير والصغير، والكل يحتاج هذا، الكل يُريد أن يصل إلى الله، الكل يُريد أن يصطلح مع الله، أليس كذلك؟ إلا مَن حرم الله، وهذا موجود طبعاً، هناك مُجرِمون، موجودون في كل أمة، ولكن الخير في وفي أمتي إلى يوم القيامة. وهذه الأمة في مجموعها مُبشَّرة بأشياء كثيرة مما صح عن رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -، ومَن قال هلك الناس، فهو أهلكهم. لا تقل لي مُعظَم الناس هلكى ومُعظَم الناس كذا. لا، هذا غير صحيح، مُعظَم الناس حيرى، والنبي قال هذا، وقال في حديث رواه الترمذي – حديث مُخيف، تقشعر له أبدان المُؤمِنين الصادقين – الآتي، وذلك حين أنبأنا عن أُناس يأتون في آخر الزمان، يبدو أنه زماننا هذا، وهذا واضح، قال يختلون الدنيا بالدين. يتغوَّلون الدنيا ويأخذونها بالدين، الدين أصبح ماذا؟ شركاً، فُخاً – أي هذا فخ وشرك -، يصيدون به، هو شبكة يصيدون به الدنيا، وهذه معناها أن الهدف والغرض ما هو؟ الدنيا. الدنيا! يعملون عمل الآخرة للدنيا. النبي قال، للدنيا! ليس لهم في الآخرة من نصيب، وفي الدنيا لا يُوجَد سناء، ولا تُوجَد رفعة بالدين، ولا يُوجَد تمكين في الأرض، هذا هو أيضاً. نحن الآن تماماً، في ذل وهوان وتفرقة، وأمة – سُبحان الله – يُعادي بعضها بعضاً، ويكره بعضها بعضاً، ويلعن بعضها بعضاً، وكأننا صرنا أهل النار! أهل النار هكذا، يلعن بعضهم بعضاً، أليس كذلك؟ ونحن أصبحنا هكذا، أمة يلعن بعضها بعضاً، يتبرأ بعضها من بعض، ليس لها يا إخواني أي عمل أو مشغلة إلا بعضها البعض، كل واحد يتكلَّم كلمتين، يبرز له عشرة، يسبون، يلعنون، يُشكِّكون، يُكفِّرون، وهكذا! وهو يرد و… ما شاء الله علينا، ما شاء الله علينا، نهدم! نحن أمة الآن أدمنت الهدم، نحن نتفانى ولا نتكامل، نحن نهدم ولا نبني يا إخواني، نُخرِّب ولا نُعمِّر، وباسم الدين، وباسم قال الله وقال رسول الله، شيئ عجيب، محنة!

ولذلك هناك أُناس في آخر الزمان يختلون الدنيا بالدين، ويلبسون للناس مسوك الضأن من اللين. حين تراه تجد أنه – ما شاء الله – يُظهِر الإخبات والتواضع، ويتكلَّم بنبرة واطئة خفيضة، كأنه إنسان رباني، إنسان مُخبِت، وهو ليس كذلك أبداً، لماذا؟ لكي يخدع الناس، أي أنا رجل صالح، وطبعاً يأخذ سمت ماذا؟ سمت رجال الدين، هذا لازم، لازم! لابد من لحية كبيرة، ولابد أن يضع شيئاً على رأسه، وأن يلبس لباساً مُعيَّناً، وأن يحمل لي عكازة، أي هذا لزوم الشغل، وبعضهم صرَّح بهذا، قيل له يا رجل أنت قبل أن تدخل إلى البرنامج كنت تلبس اللبس الأفرنجي! قال لزوم الشغل. والله العظيم! قال للطرف الآخر بشكل واضح هذا، والطرف الآخر كتبها في حياته، في نفس الأسبوع كتبها، قال قال لي لزوم الشغل. شغل! هذا شغل، بيزنس Business، هذا اسمه بينزنس Business، وهم يعلمون أنهم يُبزنِسون بالدين، بيزنس Business! لزوم الشغل، لكي نخدع الناس، كيف أطلع بالأفرنجي هذا؟ سوف يقول لك أفرنجي هذا وفيلسوف، لا، هذا غير صحيح، هذا الدين، لابد من لباس أهل الدين، ولكن الناس (غلابة)، الناس مساكين، يُريدون فقط أن يُصدِّقوا، ولا يعرفون يُصدِّقون مَن، فالناس حاروا.

فنرجع إذن، ويلبسون للناس مسوك الضأن من اللين، ألسنتهم أحلى من العسل – كلام فيه قال الله، قال رسوله، السلف الصالح، الأمة، العلماء، الأئمة، الهُدى، التُقى، الإخبات، الإنابة، التوكل، الدين، الآخرة، إلى آخره! كلام جميل كله، ومُفرَدات جميلة، ألسنتهم أحلى من العسل – وقلوبهم أمر من الصبر. في الداخل يُوجَد حقد وكره وغل وحسد، وتعلمون أنه يُنزِّل مقاطع ويُنزِّل أشياء وينزل كُتباً، يُكفِّر بها إخواناً له في الدين، إن كان بقيت أخوة، وأين الأُخوة هذه؟ أي أُخوة؟ يُكفِّر إخواناً له في الدين والمِلة، من أهل التوحيد، ومن الدُعاة إلى الله – تبارك وتعالى -، يُكفِّرهم، هل تظنون أن هذه غيرة على الدين، وغيرة على جناب التوحيد، وغيرة على سُنة المُصطفى؟ لا والله، كثير منهم – نحلف، لا والله، هذا غير صحيح أبداً – يفعل هذا حسداً، لأن هذا المُحارَب المسكين طار له شُهرة، طار له صيت، صار له أتباع، الناس يُتابِعونه، حتى وإن كان ماذا؟ عويلماً، وليس عالماً حقيقياً، يغار منه، لماذا له أتباع كُثر والناس تستمتع إليه؟ سأُحطِّمنه، هو يُريد أن يقول للناس لا تسمعوا إليه، اسمعوا إلىّ أنا، لا تُتابِعوه. يقول مَن يُتابِعه أكثر مِمَن يُتابِعني، واحسرتاه! لماذا؟ تابعوني أنا.

وعلى فكرة وتجد أيضاً أهل دين يتوسَّلون اللايكات Likes كما يقول الواحد منهم، يتوسَّل ويطلبها، هذه يعملها إنسان عادي، إما أنه يُدرِّب جيمناستيكس Gymnastics، أو يُدرِّب – لا أدري – تغذية، أي Nutrition، وما إلى ذلك، هذا يقول نعم، اعملوا لي لايك Like وقوموا بالاتصال وأرجوكم افعلوا كذا. لكن أنت عالم دين يا رجل، أنت عالم دين! اترك هذا الأمر لله، هذا الأمر لله، أنت حين تتكلَّم لابد وأن تتكلَّم لله، وإذا كلامك فيه بركة وفيه نور وفيه صدق، فاعلم أن الله سيُبلِغه أهله، مَن يستحقونه، والمُهيأون له، وغير المُهيئين لن يصلهم، لا! و: قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ ۩، هناك أُناس لا يطلبون هذا الكلام، هم لا يُريدونه، وحين يسمعونه يشمئزون، وقد قال الله لك هناك أُناس إذا سمعوا ذكر الله وحده اشمأزت قلوبهم، يشمئزون! وحين يسمعون أسماء الأصنام والأوثان يستبشرون، هو هذا، هناك أُناس هكذا، نعوذ بالله من الخذلان، نعوذ بالله من السلب بعد العطاء، من الخذلان بعد التوفيق، من الحور بعد الكور، من المنع بعد المنح. محنة كبيرة! ويظنون و: يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ۩، أيضاً هذا هو، يقول لك الواحد منهم لا، هذا غير صحيح، أنا وضعي جميل. عجيب!

إذن الباعث الحقيقي ليس الإخلاص لله، النية ليست مُخلَصة أبداً، أبداً! إرادة تحطيم هذا الذي برز مُنافِساً، أخذ الجهور، أو بالأحرى أخذ جُزءاً من الجمهور، الجمهور واسع، هناك أربعمائة مليون عربي، ومليار وسبعمائة مليون مُسلِم، الجمهور واسع، واسع! ولا أحد يأخذ رزق أحد، وكأنها القضية أصبحت قضية أرزاق، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ۩.

فنرجع للحديث، ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر، قال الله تعالى أبي يغترون؟ أم على يجترئون؟ فبي حلفت لأتيحن أولئك فتنة تدع الحليم فيهم حيران. ولا أعتقد أن هناك واحداً الآن غير مُوقِن أننا في حيرى عظيمة، حيرى! ما المخرج؟ إلى أين يا أمة محمد؟ ما الذي سيصير فينا؟ ونحن ذاهبون إلى أين؟ وما المخرج؟ وكيف نخرج من هذه البلايا والطامات والكوارث والمصائب والمرائر التي نحن فيها؟ لا أحد يفهم، ولا أحد يقدر على أن يقول لك الجواب عندي، لا أحد! إلا أن يكون مغروراً أو مجنوناً، لا أحد يعرف، وكأننا أهل هذا الوعيد الإلهي، يقول الله أو قال الله أبي يغترون؟

الآن تخيل لو جاء رئيس دولة وفعل الآتي، وطبعاً هذه دولة العالم الثالث، انتبه! وليست دولة أوروبية، هذه الدولة أنت تسب فيها الرئيس ويكون هذا عادياً، لا! هذه دولة عالم ثالثية طبعاً، بغض النظر عن أين هذا طبعاً، جاءك رئيس في دولة عالم ثالثية، وقال أنا الحاكم بأمره، وأنت رئيس حزب أيضاً، لست صحافياً أو كاتباً، أنت رئيس حزب كبير، حزب أساسي، وقال لك خُذ النصف مليون دولار، لكي تعملوا لي دعاية انتخابية. هذا للرئيس، الحاكم بأمره! وذهبت أنت وأخذت الفلوس هذه، ولتسع مرات تحكي عن نفسك، وأنا رئيس الحزب وحزبي مُمتاز وانتبهوا ونحن سنعمل ونحن سنسوي وأنا شخصياً كذا… مُباشَرةً سيسطو بك هذا الرئيس، سيقول لك تعال، تعال، تعال، تباً لك ولوالديك، ما الذي تفعله؟ أنت تأخذ أموالي وتأخذ إذني وباسمي تتكلَّم وتدعو إلى نفسك؟

على فكرة نحن في مُصيبة أكثر من هذه المُصيبة، نحن نستخدم هذه المنابر لكي ندعو لأنفسنا، لطوائفنا، لشيعنا، لأحزابنا، لتصنيفاتنا، وأحياناً لأشخاصنا. حين تذهب إلى الخُطبة تجد أنها كلها دفاعاً عن الشخص، يُدافِع عن نفسه، قالوا وأقول وقالوا عني ولا… مَن أنت يا أخي؟ قالوا عنك يا سيدي، قالوا، فلتدعهم إذن لكي يقولوا ما يقولون، ما الذي سيحصل؟ لن يموت الإسلام، إذا تحطَّمت حتى سُمعتك واسمك، فلن يموت الإسلام، الإسلام ليس معقوداً بك أنت بصراحة، وإذا كنت تعتقد غير هذا، فأنت رجل خالٍ من الإخلاص، أي أنت – ما شاء الله – مُنقِذ الإسلام، نبي الإسلام إذن، إذا تحطَّمت سُمعتك، فإن الإسلام سيضيع، إلى هذه الدرجة أنت مغرور؟ إلى هذه الدرجة أنت مُعجَب بنفسك – والعياذ بالله -؟ لا يا سيدي لا تخف، لا تخف.

انظر إلى عمر بن الخطاب – رضوان الله عليه – في كتابه الشهير في القضاء، الذي وجهه إلى أبي موسى الأشعري في الكوفة، كتاب عجيب! وقال فيه – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – ومَن خلصت نيته في الحق – أي في طلب الحق، إرادة الحق – ولو على نفسه، كفاه الله ما بينه وبين الناس. خل الناس تحكي، وخل الناس تُحارِب، وخل الناس تُشوِّه، وخل الناس تُدمِّر، ولن تُضر أبداً، إن كنت مُحِقاً ومن أهل الله ومن أهل الصدق، فوالله الذي لا إله إلا هو ليسوقن الله الصادقين مثلك في طلب الحق إلى بعض ما تقول، مما يعلم الله أن هدايتهم فيه أو في بعضه، لا تخف، لا تخف أبداً، لا تخف! إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ۩، إبراهيم جاء في زمان فيه شعوب – والعياذ بالله – وثنية، آمن له لوط ابن أخيه هارون، لوط واحد، وبقية الناس على الكفر، كفر ووثنيات، وحتى أبوه بحسب ظاهر القرآن الكريم – وإن ذهب قوم إلى أنه عمه، لكن هذا بحسب الظاهر على كل حال، والعم صنو الأب طبعاً – كافر، حتى أبوه في القرآن الكريم كافر، يعبد الأصنام، ومات على ذلك، ومات على ذلك! الله قال إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ۩، كيف هو أُمَّةً ۩؟ قال لك هو أمة. ووجهه إلى الوادي المُقدَّس الآن، مكة – حرسها الله وصانها -، وقال له ناد بالناس. قال له يا رب كيف أُنادي وهذا وادٍ ليس فيه أحد؟ قال له عليك النداء وعلىّ البلاغ يا إبراهيم؟ أنت ما علاقتك بهذا؟ قال له، أنت فقط ناد، ناد بقلب مُخلِص. هذا إبراهيم المُخبِت الخليل، فنادى، فلباه كل مُؤمِن صادق، وهم في أصلاب آبائهم إلى يوم الدين، ومَن سمع هذا النداء بعون الله مكتوب له أنه سيحج سيحج – بإذن الله -، وانظر إلى ما هو الآن، وجاء بعد ذلك موسى وجاء عيسى وجاء محمد وأنبياء الكتاب عموماً، وكلهم ماذا؟ من نسل إبراهيم، وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ۩، أُمَّةً ۩، رجل صادق، يعمل لله، يعمل لله وفقط، ليس عنده أي غرض ثانٍ، الله أحيا به دعوة التوحيد (كل هذه الدعوة) في شعوب وثنية، ولا تُوجَد مُشكِلة، لا تُوجَد، هذه هي، هذه القضية، هذه القضية بكل بساطة، فلا تخف إذن، لا تُشغِلنا بنفسك وبقضاياك ثم تُضيِّع الوقت وأنت تُدافِع عن نفسك وأنت تُعاوِد الحديث لكي تُرمِّم صورتك، هذا لا يهمنا، اتقوا الله في الأمة، اتقوا الله في الشباب والشابات، اتقوا الله في هذا الدين، تكلَّموا فيما يُجمِّع ولا يُفرِّق.

تكلَّم حديثاً لو سمعه أي مُسلِم لقال لك هذا على رأسي، مقبول، يدلني على الله هذا، يدلني على جوهر الدين، أُريده. هذا حديث يُرطِّب القلب، مقبول، حين يسمعه شيعي أو سُني أو زيدي أو إمامي أو أياً ما كان، يقبله. بصراحة أنا أقول لك لو تكلَّمت عن الإسلام كما أراده الله وكما أنزله الله، حين يسمعه يهودي أو مسيحي أو بوذي أو كونفوشيوسي أو حتى مُلحِد، فإنه يقول لك أحترم هذا الشيئ، فيه جانب إنساني، فيه جانب رحموتي، فيه جانب غير عادي، أخلاقي، فيه جانب راقٍ. هذا جوهر الدين، جوهر الدين! وإلا لا يكون للعالمين، كيف يكون للعالمين إلا بهذا؟ يكون هكذا بهذا المعنى يا إخواني، بهذا المعنى!

ولذلك نعود إلى قضيتنا، نحن اليوم يا أحبتي في الله – إخواني وأخواتي – لم نقصد إلى الحديث عن الإخلاص بالطريقة التي تعطاها العلماء المبرورون والوعاظ الصالحون – كثَّر الله في الأمة من أمثالهم -، وقد أجادوا ونفعوا وأحسنوا ما شاءوا، حين كتبوا وحبَّروا، وحين تكلَّموا واسترسلوا وخطبوا، هذا كلام جميل ومُهِم، وكلكم مدعوون إلى أن تقرأوا في هذا الباب الكثير الكثير، وهذا لكي تتحققوا على فكرة، وبعد ذلك سيكون هناك ليس مَن علم كمَن لم يعلم. انتبهوا! العلم مسئولية يا إخواني والله العظيم، مسئولية ومسئولية باهظة ثقيلة خطيرة.

انظر إلى ربك – تبارك وتعالى – حين يقول لك وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ۩، هذه في الشورى. وفي الأحقاف أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ۩، انظر إلى العلماء الكبار، بما فيهم ابن هشام – رحمة الله عليه -، هذا أبو محمد بن هشام صاحب مُغني اللبيب عن كُتب الأعاريب، العلّامة النحوي الذي ما سُمِع بمثله في زمنه – رحمة الله عليه -، ابن هشام قال لك هنا هذه الــ عَنْ ۩ لمُرادَفة من. أي بمعنى من، وهو الذي يقبل التوبة من عباده، الله – تبارك وتعالى – كان يُعجِزه أن يقول من؟ وهو الذي قال إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ۩، فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا ۩، أليس كذلك؟ مِنْ ۩، صحيح! ونحن لا نقول قَبِل الله عنه. نقول قَبِل الله منه. و: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ۩، لا! ربنا له غرض، انتبه، غرض واضح، قال لك أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا ۩، وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ۩، لم يقل من عباده، لم يقبل نتقبَّل منهم، وهذه الــ عَنْ ۩ هنا ليست كذلك، ليست لمُرادَفة من كما ذهب الجماهير، وحتى من النُحاة، أي وليس من المُفسِّرين فقط، وإنما من النُحاة أيضاً، مثل ابن هشام – رحمة الله عليه، وجزاهم الله خيراً -، لا! فيها معنى التجاوز، نتقبَّل مُتجاوِزين، يا الله، رحمة، رحيمية، وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ۩، رحيمية بالغة، رحيمية بالغة من الرحمن الرحيم – لا إله إلا هو -.

قال لك لأنني أعلم أن كثيراً من عبادي لهم نوايا صادقة، ولهم نوايا الأصل فيها الإخلاص، ويطلبون وجهي، ولكن لم يُفقَّهوا، لم يُعلَّموا، ولم يتعلَّموا دقائق الشرك الخفي والرياء، وخل العمل الصالح الذي يُفسِد عسل العمل الصالح، هذا لم يكن عندهم، أنا أحكي هذا يا إخواني حقيقةً وفي البال ما اتفق لي غير مرة، آخرها قبل أيام يسيرة، تجلس مع أُناس مُتعلِّمين، أعلى درجات العلم، أي يحملون دكتوراة في تخصاصتهم، إذا اقتصصت على الواحد منهم شيئاً يسيراً من حديث الإخلاص، حملق بعينيه، الله أكبر – يقول -، الأمر هو هكذا؟ ويستغرب، أقول لا إله إلا الله، مسكينة هذه الأمة، أنت يا رجل دكتور، وفي العقد الفلاني من عمرك، إلى اليوم لا تعرف ما هو الإخلاص، وأنك إذا عملت عملاً لله ينبغي أن يكون لله وليس لسواه؟ ونعوذ بالله – تبارك وتعالى – من عمل أردنا به وجه الله، فخالطه ما ليس له. نعوذ بالله من ذلك، لا يعرف المسكين، نعم! انظر إلى رحمانية الله، بل رحيمية الله بالمُؤمِنين، الله قال لك هؤلاء المساكين أنا أعرفهم، هؤلاء يطلبون الآخرة ويطلبون وجهي، ولكن شابوا أعمالهم الصالحة بشيئ من الرياء، بشيئ من التسميع، فرحوا بمدح الناس، أرادوا أحياناً مدح الناس، أرادوا الزُلفى عند الناس، ولكن أصل العمل لله، قال هؤلاء مساكين، جهلة، لا يعرفون، أتقبَّل أعمالهم هذه – انتبهوا – إذا غلب خيرها شرها، إذا مُعظَم العمل لله، وفيه شطر قدره عشرون أو ثلاثون في المئة ليس لله، فإنه قال لك أنا أقبله. يا الله! هذا شيئ تقشعر له الأبدان والله العظيم، وعلى فكرة هذا ليس كلام العبد الفقير الحقير، هذا رأي إمامنا أبي حامد الغزّالي، وطبعاً هو لم يتكلَّم عن حكاية الــ عَنْ ۩ والــ من هذه، ولكن تكلَّم في حُكم العمل الذي دخله الرياء، مقبول أو باطل مُحبَط؟ قال لك إن كان أصله الرياء، أي مُؤسَّس على الرياء، فإنه باطل قولاً واحداً، وصاحبه لا يستوجب المثوبة، بل يستوجب العقوبة والغضب من الله، مُشرِك هذا، هذا يعمل أعمالاً ليست لله من الأصل، أصلاً! هذه أعمال دينية وليست دنيوية، ولكي لأنسى أقول الآتي، لأن بعض الناس يقول لك وماذا عن الأعمال الدنيوية؟ ماذا عن لباسي، عن شربي، عن ركوبي، عن عملي، عن وظيفتي، عن تعلمي للعلوم الدنيوية؟ أقول لك كل أعمال الدنيا إذا خلت منها النية، فيا حسرةً! ليس لك فيها شيئ، ولكن كل أعمال الدنيا – حتى الأكل والشرب واللباس والمركب وأي شيئ – إذا استحضرت فيها النية، وأردت بها وجه الله، وأنت تتقرَّب بها إلى الله، وأنت تجعلها أيضاً سلماً وواسطةً للتقوي على عمل يرضاه الله، تُصبِح عبادة، ولك فيها أجر. أرأيت؟ ما أعظم الدين! أي الله يُريد أن يُنقِذنا، يُريد أن نفلح وأن ننجح، أن نجتاز الامتحان وندخل الجنة، يُريد هذا، فيا حسرة على كل مُؤمِن ومُؤمِنة ليس له نية في أعمال الدنيا، خل عندك نية في أعمال الدنيا، فوأنت تأكل – هذا أكل، أكل! هذا أكل وأنت مبسوط وجائع – قل لا، أنا أُريد أن آكل أولاً بنية أن أُشعِر نفسي عِظم منّة ونعمة الله علىّ، هناك أُناس لا يجدون الخُبز، هناك أُناس يموتون من القلة ومن الجوع، ولكن أنا لست كذلك، فيا ربي لك الحمد. ها أنت دخلت في عبادة، ولك عليها ماذا؟ أجر – ما شاء الله – وأجر كبير ربما، ثانياً قل بعد ذلك هذا الأكل يا رب أنا أُريد أن آكله لأنني – بعون الله تعالى – أُريد حين أقوم بعد ساعة لكي أُصلي المغرب، أُريد ألا أُصلي بصفحة واحدة من القرآن، وإنما أُريد أن أُصلي بخمس صفحات، عندي قوة وعندي كذا، فلِمَ لا؟ كُن هكذا. وفي الليل أيضاً يُمكِنني – إذا الله يسَّر وفتح – أن أقوم الليل، ولو حتى بركعتين، ولو بأربع ركعات. هذا بعض ماذا؟ بعض الشُكر على هذه النعمة، عندي أكل وشرب ولحم وكذا، نعمة! يا سلام، يتحوَّل كل هذا إلى عبادة، ولك أن تتخيَّل هذا.

جاءك أخوك لكي يزورك، وربما الغرض من الزيارة موضوع دنيوي، كأن تُوضِّح له مسألة في الفيزياء، ربما يُريد منك فلوساً، ربما هو يُريد أي شيء، كأن يستعين بجاهك في حل مُشكِلة، تقدر على أن تستقبله استقبالاً عادياً، تقول أهلاً وسهلاً وكذا، وليس لك فيها حاجة، لا! قل لا، لماذا؟ هذا أخ لي في الدين والمِلة، أنا سأهش في وجهه وأبش له وأُحسِن رفده وقراه وضيافته لوجه الله – تبارك وتعالى -، وهو ليس مُتديِّناً كثيراً، لكن أنا مُتديِّن، وهذا معروف عني، ولكن أنا أُريد أن أُقيم من نفسي قدوة له، وأُريد أن أُريه كيف أن أهل الدين هم أندى الناس كفاً، وأطيب الناس لساناً، وأحسن الناس عشرةً، وأكرم الناس، وأكف الناس عن أعراض الناس، و… عندك أجور كبيرة جداً.

قال عمر بن عبد العزيز إنه ليُطرق علىّ بابي، فما أستتم واقافاً لأفتحه، إلا وقد استحضرت عشرين نية في الخير. الله أكبر! ويُجزى بها كلها، ما رأيك؟ أي الباب طرقه، يُمكِن أن يكون الطارق هذا واحداً أتى لكي يقول له يا أمير المُؤمِنين الطعام جاهز، مُمكِن أن يكون الطارق خادماً، ولكن هو لا يُفكِّر هكذا، يظل يتوهَّم، يقول هذا ربما يكون أخاً يُريد صدقة، لا! أنا سأعطيه هدية، ربما يكون هذا أخاً يُريد أن يقضي دينه، سأعطيه ما يقضي دينه وأفسح له، وربما أجعله أيضاً هدية، ما من ورائها جزية، لله! ربما يكون هذا أخاً يُريد مُساعَدة، سأُساعِده بعلمي أو بجاهي أو بأي شيئ، ربما يكون هذا أخاً يُريد أن أُصلِح بينه وبين زوجته، سأُصلِح. وأنا أمير المُؤمِنين طبعاً، سأذهب وأُصلِح بين اثنين، عادي! ربما يكون… وربما يكون… يستحضر نوايا كثيرة، قال لك إنه يستحضر عشرين نية لكي يفتح الباب. أُناس تُريد الآخرة، أُناس لم تُحِب أن تتحسَّر يوم القيامة، كأن يقول لك يا حسرة، أضعت عمري هكذا سبهللاُ. فيا ضيعة الأعمار… كما قال الإمام الشاطبي، المُقريء طبعاً وليس الأصولي. فيا ضيعة الأعمار تمضي سبهللاً! أضعنا أعمارنا هكذا، هذا هبل! مثل المُصابين بالهبل جالسين هكذا، لا! لابد من نية، حتى في الأعمال الدنيوية – بإذن الله تعالى -.

نعود إلى الأعمال الدينية، الأعمال الدينية ليست على هذا النحو، إذا كانت من الأصل – والعياذ بالله – مبنية على الرياء وإرادة وجه الناس والمحمدة عندهم، فليس لك فيها شيئ، بالعكس! بل صاحبها أدنى إلى السخط، وأدنى إلى عقوبة الله، أن يُحل الله به عقوبته، لأن هذا نوع من الشرك الصغير – والعياذ بالله -، والنبي قال أيها الناس اتقوا هذا الشرك كله، اتقوا شرك السرائر. ذات مرة قام يخطب في الصحابة – صلى الله عليه عليه وآله وسلم -، فقال لهم أيها الناس اتقوا هذا الشرك كله، اتقوا شرك السرائر. شرك النيات – قال لهم -، هذا شرك النيات، شرك السرائر! قالوا يا رسول الله وما شرك السرائر؟ قال أن يقوم الرجل يُصلي فيُزيِّن صلاته مُجتهِداً لما يرى من نظر الناس إليه. يُصلي في المسجد هو، وها هو يتطوَّع، ولكنه يُطوِّل الصلاة ويُزيِّنها ويُجمِّلها وكذا، لكي يراه الناس. النبي قال هذا الشرك، أنت تعبد الله أم تعبد الناس؟ لا، هو يعبد الناس، وهذا واضح.

ذكر الإمام العلائي – رحمة الله تعالى عليه، علّامة الشافعية الكبير في عصره – أن الإمام عليّاً – عليه السلام، وكرَّم الله وجهه – كان جالساً في مسجده بالكوفة، فدخل رجل أعرابي – هذا أعرابي (غلبان) -، وصلى ركعتين خفيفتين، لم يطمئن، فأتى إليه الإمام عليّ وقال له أعِد الصلاة. ما الصلاة هذه؟ فقام وصلى صلاة فيها اطمئنان، ثم سأله أبو الحسن – عليه السلام – أيهما أفضل: هذه أم الأولى؟ قال له الأولى. ذكي! قال له أيهما أفضل: هذه أم الأولى؟ قال له الأولى. قال لِمَ؟ ويلك. قال له تلك كانت لله، وهذه لك. أنت فتحت عينيك علىّ وكنت تُخيفني، وقلت لي أعِد الصلاة، فأقمت الصلاة، والصلاة هذه كانت لك. هذا فاهم، بدوي بسيط صريح، لم يتعلَّم الخداع والنفاق والكذب، ولم يكن خرّاجاً ولّاجاً – كما تعرف – مثل أهل المُدن، ليس عنده كل هذا الكذب والنفاق الخاص بأهل المُدن وأهل الحضر، يُفسِد الأخلاق هذا، مثلما قال لك ابن خلدون التحضر هذا يُفسِد أخلاق البشر. وهذا حصل طبعاً! والناس على فكرة إلى اليوم في كل ثقافات العالم يخافون من المُتعلِّمين، يخافون من الــ Cultivate intellectuals، أي واحد مُثقَّف الناس تخاف منه، يعرفون أنه مُشيطن، يدخل ويطلع ويعمل كذا بلسانه، رهيب، رهيب! ولذلك على فكرة هنا عظمة الدين، وهنا عظمة الدين التي يحتاج إليها هذا المُثقَّف الكبير، سواء كان فيلسوفاً أو بروفيسوراً Professor أو علّامة، أو أياً ما كان، يحتاج الدين، لكي يُعلِّمه الدين الإخلاص والصدق وأن يُواطئ الظاهر الباطن، وتكون الفاصلة بين الظاهر والباطن معدومة، ويطلب وجه الله في كل ما يأتيه، وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ ۩… لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ۩، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ۩ إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ۩، قالوا هناك امتحان وهناك جنة وهناك نار، قصة تُخيف هذه، وهناك نجاح وهناك خيبة وهناك فشل وهناك سقوط وهناك رسوب وهناك علو وترقٍ، فنحن لابد وأن نعمل الأعمال لله، لكي يُنجينا ربنا، فجاءت البُشرى، قال لك فَوَقَاهُمُ ۩… اللهم اجعلنا منهم بحق لا إله إلا الله، محمد رسول الله. فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَٰلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا ۩ وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا ۩… والسؤال: صَبَرُوا ۩… على ماذا؟ صَبَرُوا ۩… على ماذا؟ على الأنانية، صبروا على مُحارَبة أنانيتهم، على مُحارَبة أن يُقال عني وأن يُرى مكاني وأن أُمدَح وأن أُعطى.

ولذلك يا أخي المُخلِصون لا يُحِبون هذه الأشياء، هذا غير موجود عندهم، حين تقرأ عن قصص المُخلِصين – اللهم اجعلنا منهم وألحقنا بهم، ودلنا على مَن يدلنا عليك يا رب دلالة المُخلِصين الصادقين – تجد أنهم لا يُحِبون أن يُحمَدوا، ولا يُحِبون أن يُوسَّع لهم في المجلس، ولا يُحِبون حتى حين يطرحون السلام أن يُرد عليهم بصوت عالٍ، أي  أن يُقال لهم وعليكم السلام بصوت عالٍ، لا يُحِبون هذا، كان أيوب السختياني يمشي هكذا دائماً وهو يتدارى من الناس، لا يُريد أن يراه أحد، وهو عابد كبير وولي صالح، فإذا رد أحدهم السلام – أي قال وعليكم السلام – بصوت عالٍ، قال هذا من البلاء، إِنَّا لِلَّهِ ۩، وإنما يُخفِّف عني أن الله يعلم أنني أُبغضه. أي أنتم تُكبِّرونني، حين تقولون وعليكم السلام بصوت عالٍ، لأنه شيئ كبير، وهذا ولي صالح، ولكنه لا يُريد هذا، لا يُريده، لا يُريده!

قال إبراهيم بن أدهم ما صدق الله مَن أحب الشُهرة. أي واحد يُحِب أن يعرفه الناس ويقول أنا عندي أتباع وهؤلاء جماعتي وأنا عندي كذا وهم يسمعونني هكذا وقد رأوني هكذا، ما صدق الله، هو رجل كاذب مع الله، فقط! بكل بساطة – قال لك – هذا كذّاب، كذّاب! ولن ينفعه هذا، علم وكتب ومنابر، ولن ينفعه هذا، هذا كذب وهو كذّاب.

الإمام أحمد بن حنبل – رضوان الله تعالى عليه، هذا الإمام الجليل، شيئ عجيب هذا الرجل، مُستجاب الدعوة – يقول تمنيت أن لو كنت في شِعب بمكة. لا أُريد بغداد ولا أُريد العراق، العراق ليس عش الأولياء فقط، بل والعلماء أيضاً، العراق كانت أرض العلم، علم وحديث وتفسير وفقه ولُغة، قصة! شيئ عجيب هذا البلد، قال لا أُريده، يا ليتني أعيش في شِعب في مكة، لا يراني أحد – قال هذا -، ابتُليت بالشُهرة، إنني أتمنى صباح مساء أن أموت. لا يُوجَد غير هذا، كان يقول أنا أدعو الله بأن أموت، قال يا رب خُذني، خُذ سرك، لا أُريد هذا، يا رب أمتني. إنني أتمنى – يقول – صباحاً ومساءً أن أموت. قال صرت مشهوراً، أنا مشهور. إمام، إمام، إمام، يا إمام، يا إمام! اليوم هناك أُناس يحرصون على هذا، اليوم هناك أُناس حين يتحدَّث الواحد منهم عن نفسه لا يقول محمد – هذا عن نفسه مثلاً – أو عدنان أو عثمان، يقول لك فضيلة الشيخ، فسألوني، قالوا يا فضيلة الشيخ. ألا تستحي من الله؟ ألا تستحي من الله وأنت جالس تُلقِّن الناس وتُعلِّم الناس أن هكذا خاطبوني، فلا يقل لي أي واحد يا عدنان، قل لي يا فضيلة الشيخ، يا فضيلة الأستاذ، يا فضيلة… الله أكبر يا أخي، لا حول ولا قوة إلا بالله، بلايا عظيمة – أُقسِم بالله -، أبي يغترون؟ أم علىّ يجترئون؟ فبي حلفت لأُتيحن أولئك فتنة دع الحليم فيهم حيران.

مولانا رسول الله – صلى الله عليه وآله – بماذا لبى في حجته اليتيمة؟ هو عنده حجة يتيمة، لم يحج إلا حجة الوداع، بماذا لبى؟ قال اللهم حجةً – أي لبيك بحجةٍ – لا رياء ولا سُمعة فيها. حجة لك وحدك، لا أُريد النظر إلى الناس، ولا يهمني كل أصحابي هؤلاء، هذه لك يا رب، الرسول! الرسول يخاف من هذا، اللهم حجةً لا رياء فيها ولا سُمعة. هذه تلبية رسول الله بحجته اليتيمة – صلوات ربي وتسليماته عليه -.

ولذلك يا إخواني هذه إحدى العلائم وإحدى الإمارات على الإخلاص، أتُريد أن تعرف من نفسك هل إخلاصك حقيقي أم مشوب بالرياء وعبادة البشر والشرك الخفي؟ سل نفسك حين تعمل أعمالاً صالحةً يعلمها الله – تبارك وتعالى -، وتعلمها أنت طبعاً، ولكن الناس لا يعلمونها، هل تتوقع بعد ذلك أن الناس – مثلاً – يُرحِّبون بك مزيد ترحيب حين تمشي؟ أتقول الله سيُلقي في قلوب الناس كذا وأنا كذا وأنهم حتى سيرون في وجهي أنني عابد؟ أنا أقرأ القرآن وأختمه كل كذا ليلة وأقوم كذا ركعة، ومن ثم سيصير في وجهي نور، مثل الذين نسمع عنهم، سيُصبِح هناك نور، والناس ستراني هكذا، فتُوسِع لي في المجالس، وتُسامِحني في المُعامَلة، فحين أذهب إلى السوق يُقال لي لا، لا، هذه بعشرة، لكن الكيلو لك فقط منها بسبعة ونصف. لا! لماذا؟ ولذلك كان الصالحون لا يشترون من أسواق حيهم، يذهب الواحد منهم إلى سوق في حي آخر لا يُعرَف فيه.

ذات مرة جاء ابن المُبارَك – على ما أذكر – هكذا على زمزم، وجعل يُزاحِم، فالناس زاحمته، فزاحمته، فأوقعوه هكذا، ففرح بهذا، ثم قال لمَن معه هذا العيش، ألا تُعرَف – قال له -، يا ربي لك الحمد، هذا أحلى شيئ، لكن حين تقول الناس أوسعوا للشيخ، يضيع كل هذا، يضيع! قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – إن الغُزاة إذا خرجوا في سبيل الله فأصبوا غنيمة، استوفوا ثُلثي أجرهم. أنت ذهبت لكي تُجاهِد وأخذت غنيمة، فذهب سبعون في المائة من الأجر، فإن لم يُصيبوا مغنماً – ذهبوا وجاهدوا في سبيل الله، ولم يأخذوا شيئاً من الدنيا – تم لهم أجرهم. وهكذا في الدنيا، ونحن ومَن مثلنا مساكين، أُقسِم بالله! وأنتم كلكم أسعد منا وأفضل، الواحد منا يتكلَّم في الدين ساعة، ثم تقول له الناس ما شاء الله، بارك الله فيك. مُصيبة! هذه مُصيبة، ماذا أبقيتم لنا؟ ما الذي يبقى للإنسان من أجر؟ الله أعلم، وهذا لا يزال شيئاً آخر غير نيته أيضاً، فهذا غير ما يأخذه من المحمدة والشُكر، وما شاء الله وأبدعت يا مولانا وعظيم وتأثَّرنا، وماذا بعد؟ وماذا بعد؟ وغيَّرت حياتنا، وماذا بعد؟ ما الذي يبقى؟ ما الذي يبقى؟ يُمكِن ألا يبقى شيئ تقريباً، يُمكِن ألا يبقى أي شيئ، ذهب الأجر كله، بسبب كلام الناس، فلا تُرد هذا.

ولذلك هذه أمارة من الأمارات القوية، التي لا تتخلَّف، فإن لم يفعل الناس بك هذا – أي ما ردوا عليك السلام بقوة، ولا أوسعوا لك، ولا سامحوك في المُعامَلة، ولا أفسحوا لك في المجالس، ولا دلوا عليك، ولا التقطوا معك صوراً سيلفي Selfie أبداً، عادي! مثل أي واحد فيهم – وشعرت بانقباض، ولو مجرد انقباض، فاعلم أن إخلاصك مشوب، معناها أن العمل هذا ليس لله، أنت عملته للدنيا.

أحد الصالحين كما تعرفون – وأختم الآن هذه الخُطبة بهذا، هذا مُؤثِّر جداً، ولكن لابد أن أكون أميناً في النقل، أحببت أن أتصرَّف، ولكن بعد ذلك لم أستجز هذا أمام الله، فأقولها كما هي – قال قضيت صلاة ثلاثين سنة. رجل عالم وصالح، بدأ يقضي صلاته من ثلاثين سنة، لماذا يا مولانا؟ لماذا هذا التعب وهذا الكدح الزائد تبرعاً؟ لماذا؟ انظر إلى هذا، انظر إلى الناس كيف تُفتِّش نفسها، انظر إلى الصدق، قال لأنه غبرت علىّ ثلاثون سنة لم تفتني التكبيرة (تكبيرة الإحرام) في الصف الأول. ثلاثون سنة! ما شاء الله عليه، صلوات الجماعة وفي الصف الأول، قال ثم فاتتني مرة واحدة، فصليت في الصف الثاني، فأحزنني ذلك. شعرت بحُزن! ففتشت نفسي، فعلمت أنه كان يُعجِبني نظر الناس إلىّ في الصف الأول. قال لك يا ويلتاه! معناها أنني لمُدة ثلاثين سنة لم أكن مُخلِصاً لله، أعبد لكي يراني الناس، أنا صاحب الصف الأول، أنا مَن صلى الخمس صلوات، في ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً، عبر ثلاثين سنة، وهو في الصف الأول، ومعناها أن هذا كله للناس، وليس لله! قال فبدأت أقضي هذه الصلوات كلها. أرأيتم؟ شيئ عجيب ومُخيف، نحن أين وهؤلاء الناس أين يا إخواني؟ عرَّفنا الله عليه كما عرَّف الصادقين الصالحين، ورزقني وإياكم وسائر إخواننا المُسلِمين والمُسلِمات سر الصدق واليقين والإخلاص المتين والجد في الدين، اللهم آمين.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الخُطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلَّم تسليماً كثيراً.

ذكر الإمام، شيخ علماء التاريخ والرجال في عصره، الإمام الحافظ الذهبي – رحمة الله عليه -، عن هشام الدستوائي، أحد أئمة الحديث الكبار، الرواة المشاهير، أنه قال لا أعلم أنني طلبت حديثاً واحداً يوماً أبتغي به وجه الله وحده. قال لك هذا، يشهد على نفسه المسكين، قال أنا بصراحة لا أقدر على أن أقول ولا أقدر على أن أدّعي أنني أخلصت في طلب حديث واحد. وقد روى عشرات ألوف الأحاديث، قال ولا في حق واحد منها أقدر على أن أقول هذا وأدل على الله بأنني طلبته خالصاً لوجه الله. ولا مرة – قال -. يا الله! ما هذا الصدق الساطع؟ هذا لو جاء بين الحمقى اليوم أو أمس، لقالوا لك أرأيت الكذّاب؟ أرأيت؟ أكبر كذّاب هذا، ها هو يقول عن نفسه إنه كذّاب. هذا من صدقه، لأن من شروط الإخلاص أن تفنى عن شهود الإخلاص في الإخلاص، لو رأيت من نفسك أنك مُخلِصاً وشهدت لنفسك بالإخلاص، فستكون أو فسيكون البعيد الذي يفعل هذا غير مُخلِص، وهذا واضح.

ولذلك قالوا رياء المُقرَّبين خيرٌ من إخلاص الأبرار. أصحاب اليمين! لماذا؟ لأن المُقرَّب المسكين متى لمح أو تلمَّح إخلاصه عد نفسه مُرائياً. مع أنه يعمل العمل كله لله، ولا يتحدَّث به، ويُمكِن أن يُعطي انطباعاً عن نفسه بالعكس تماماً من حقيقته، أي أنه بخيل وينام طيلة الليل. كان الصالحون من أسلافنا يا إخواني يقومون الليل بطوله أو شطراً عظيماً منه، ولكن في هدوء، لا زوجته تعلم به ولا خادمته ولا أحد، حتى إذا انفجر الفجر والكل يُريد أن يقوم لكي يُصلي قام وارتفع صوته قائلاً أصبحنا وأصبح المُلك لله، لا إله إلا الله… وكأنه يقول لهم أنا الآن قمت. والناس تفهم هذا، أن هذا طيلة الليل كان نائماً، والله نحن لم نسمع صوته إلا عند الفجر، وهو يُريد هذا، هو يُحِب أن يُفهِمك أنه نائم، تخيَّل!

واحد اسمه داود بن أبي هند صام لله أربعين سنة، إلا في الأيام المُحرَّم صومها، لم يعلم به لا أهله ولا إخوانه. كيف إذن؟ كان يخرج إلى محله – عنده بقالة -، فيأخذ معه الطعام، فيظن أهله أنه ماذا؟ أنه مُفطِر، فإذا كان في الطريق تصدَّق به، ويظن أهل السوق أنه أفطر عند أهله، أي في الصباح تناول الفطور، ثم يعود عند المغرب فيُصيب من طعام أهله، والكل يظن أنه مُفطِر، فعل هذا في أربعين سنة! هؤلاء الناس عملوا لله، وهو لله يعمل هذا فعلاً، والمسألة حتى عليه سهلة، لله! ويتحيَّل.

عيسى ابن مريم في الإنجيل كان يُعلِّم الناس هكذا ويقول لهم إذا أصبح أحدكم وقد قضى ليله – هذا بمعنى الكلام – في عبادة، فليُصبِح مُدهناً مُكتحِلاً. أي يُكحِّل عينه ويدهن وجهه، فالناس يقولون لك هذا نام نوماً عميقاً، نام ثماني ساعات. وهو طيلة الليل وهو في عبادة، عيسى يُعلِّمهم هذا، قال لهم انتبهوا، قال لك انتبه وإياك أن يرى الناس ذبول أجفانك وإصفرار وجهك ووهن جسمك، فيُقال ما شاء الله هذا عابد، هدته العبادة. لا تفعل هذا أبداً! تصرف وكأنك أسد وكأنك – ما شاء الله – قوي، وهكذا! هذا الإخلاص، لكي تُخلصها لله – تبارك وتعالى -، لكي تجعلها لله.

حتى في البكاء افعل هذا، في البكاء! اليوم ترى أُناساً يتباكون، وواضح أن الواحد منهم يتباكى، يتباكى بشكل مفضوح يا إخواني، لا! البكاء خله في الليل، وخله في بيتك، وخله في الخلوة. قال – عليه الصلاة وأفضل السلام، وقيل هذا ليس حديثاً، وإنما من كلام بعضهم، الله أعلم! قد يكون من آثار السلف الصالحين – مَن أحسن عبادة الله في الجلوة وأساءها في الخلوة، فإنما هو استهتار بربه. استخفاف بالله! قدام الناس – ما شاء الله – تتصرف على أحسن وجه، وبينك وبين الله تُصلي صلاة غير مُتقنة، وتعبد عبادة غير مُتقنة، هذا استهتار بالله، هذا وضعك، أنت هكذا! أي يوم القيامة يُمكِن أن تُبعث أو يُبعَث هذا المسكين الذي يتصرف هكذا على أنه المُستهتِر بربه، وهذه مُصيبة، مُصيبة! وهو يظن طبعاً أنه مُتدين وعالم وشيخ وعابد، لكنه المُستهتِر بربه، يُحسِن العبادة أمام الناس، ويُسيئها فيما بينه وبين الله – تبارك وتعالى -، فحتى البكاء خله في الخلوة.

كان أيوب السختياني إذا غلبه البكاء تقنَّع هكذا، وقال ما أشد الزكام! ما أشد الزكام! والناس يظنون أنه فعلاً مزكم، أي مزكوم، لأنهم يرونه – كما تعرف – وهو يبكي، فالناس يقولون لك هذا من الزكام، وهو البكاء، غلبه!

قال الحسن البِصري قد لقينا أقواماً، كان يكون أحدهم في المجلس، فإذا خشيَ أن تغلبه عيناه قام. قبل أن تنزل الدمعة من عينه يقوم، لا يُريد أن يراه أحد وهو يبكي.

قال سُفيان الثوري البكاء عشرة أقسام، تسعة لغير الله. هذا سُفيان الثوري! ذات مرة رأى الحسن البِصري رجلاً في المسجد وقد جعل يبكي، وبعد ذلك جعل يبكي أكثر وأكثر وعلا صوته، فقال انظروا إلى هذا. وهذا الحسن البِصري، وهو رجل مُكاشَف رباني، قال انظروا إلى هذا، الشيطان يدعه على البكاء. هذا بكاء شيطاني، ليس لله، خب هذا الشيئ، خبه واكتم، اهرب من المجلس إذن، لا! هناك مَن يبكي بصوت عالٍ أمام الناس، أي أن الرجل خاشع جداً إذن، فقال لك البكاء عشرة أقسام، تسعة لغير الله، وعُشر (قسم واحد) لله، فإذا جاء الذي لله في السنة مرة، كان كثيراً. أرأيت؟ بكل بساطة قال لك هو هكذا، البكاء الحقيقي هذا لا يأتي إلا قليلاً، وإذا تم فجور الفاجر ملك عينيه، فبكى بهما متى شاء. يا الله! نعوذ بالله من هذا، من خشوع وبكاء الفجرة والمُنافِقين، قال لك إذا تم فجور الفاجر – هذا رجل فاجر – ملك عينيه، أي مثل المُمثِّلين هؤلاء، يملك عينيه كما يملك المُمثِّل عينيه إذن، بكى بهما متى شاء. عادي! يبكي مُباشَرةً ويقولون لك ما شاء الله يا أخي، هذا تقي، إنسان تقي هذا، ويبكي دائماً، بكّاء. كيف هو بكّاء؟ بكّاء بينه وبين ربه، ولماذا يبكي أمام الناس؟

ولذلك أبو أُمامة الباهلي – صحابي جليل – في مسجد رسول الله ذات مرة رأى أحد الشباب – من الشباب، وهو أكيد من أبناء الصحابة، لأن هذا صحابي – وهو يبكي، فجاء وأسر إليه بشيئ، وبعد ذلك سألوا الشاب، قالوا له ماذا؟ ماذا قال لك صاحب رسول الله؟ قال قال لي يا ابن أخي لو كان هذا في بيتك لكان حسناً. احرص أن يكون البكاء هذا والخشوع في البيت وليس أمام الناس، تعلَّم الإخلاص، تعلَّم هكذا، تعلَّم أن تفطم النفس عن ماذا؟ عن مُشتهياتها وما يُرضيها وأميالها. النفس هذه – كما قلنا – هي التي أهلكت إبليس، إبليس لم يكن معه إبليس أبلس عليه ولا لبَّس عليه ولا أضله، فما الذي أضل إذن إبليس؟ الأنا. أنا! حظوظ النفس.

نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يقينا شرور أنفسنا.

اللهم ألهِمنا رُشدنا، وقِنا شر نفوسنا، برحمتك يا أرحم الراحمين، اهدِنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت.

اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وأكرِمنا ولا تُهنا، وزِدنا ولا تنقصنا، وانصرنا على مَن بغى علينا، اشف مرضانا ومرضى المُسلِمين، وارحم موتانا وموتى المُسلِمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

لا تدع لنا في هذا اليوم الكريم، وفي هذه الساعة المُبارَكة، ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرَّجته، ولا كرباً إلا نفَّسته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا غائباً إلا رددته، ولا سجيناً إلا أطلقته، ولا مديناً إلا قضيت عنه دينه وأذهبت همه وغمه، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اغفر لنا ولوالدينا، وللمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات، بفضلك ورحمتك، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩.

___________

فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۩، وأقِم الصلاة.

 

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

فيينا 22/2/2019

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: