إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله عز من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ ۩ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ۩ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ۩ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ۩ وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ۩ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ۩ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

إخواني وأخواتي:

يتفق بين الحين والحين أن يتصل بي أخ كريم من إخواني أو أخت كريمة من أخواتي ليشكو إلىّ مُتسائلاً بقلق وتحير عن سر ما أصابه أو أصاب أحد أودائه وخلصانه وأحبابه من ابتلاء ونكبات أو مُصيبة ومُعاناة، قد تأتي على ماله أو تأتي على شطر عظيم من إنجازاته ونجاحاته، وأكثر من هذا قد تُصيبه في بدنه وعافيته، أو تُصيب وديده وحبيبه في بدنه وعافيته.

ولا شك أن هذا النوع من الأسئلة الوجودية القلقة المُتحيِّرة التي تُراوِح بين مُساءلة الإيمان وبين مُناغاة الإلحاد – والعياذ بالله تبارك وتعالى – وتتردَّد بين الضفتين أو المجالين أو الدائرتين – دائرة الإيمان ودائرة الكُفران – قد ازداد، لا شك أن هذا النوع من الأسئلة قد ازداد في الفترة الأخيرة، أيضاً ومرةً أُخرى بسبب الاطلاع على ثقافات العالم، شبابنا اليوم وأخواتنا غدوا يُفكِّرون ويُسائلون مسائل كثيرة على نحو مما يفعل الآخرون، لأنهم يستمعون إليهم، يرونهم، ويقرأون لهم، وفي النهاية الإنسان هو أخ الإنسان ومُعاناة الإنسان تقريباً واحدة، مُعاناة الإنسان واحدة، قلقه واحد، أسئلته إذن واحدة.

طبعاً هذا الموضوع بلا شك لا يخفاكم أنه موضوع طويل عريض عميق كبير، وأيضاً من السذاجة البالغة أن يزعم أمثالي مِمَن يُلجأ إليه أحياناً من بعض الناس نُشداناً لنصيحة أو لتفسير مُحتمَل – أي لجواب، لجواب ببساطة -، من السذاجة البالغة أن يزعم ويظن أمثالي أن الجواب دائماً حاضر لمُجرَّد أننا نُسأل، هذه سذاجة بالغة جداً، يتميَّز بها رجال الدين عموماً للأسف الشديد، يتميَّز بها رجال الدين، يظنون أنهم برسم فقط أن يُعطوا الجوابات، مع أنهم ينبغي أن يكونوا وبدرجة أولى في رسم مَن يتساءل، لأنه لا يُمكِن أن يعرف الجواب مَن لم يُعان السؤال.

ولذلك تأتي الأجوبة كثيراً – في أحيان كثيرة – خالية من الروح، وخالية من القدرة الإقناعية، أجوبة كما يُقال نموذجية، نمطية، معروفة للكل، وقد تكون إجمالية جداً، والجواب الإجمالي جداً يُوشِك ألا يكون جواباً، هل هذا واضح؟ يُوشِك ألا يكون جواباً، كالذي يدخل مكتبة كبيرة – مثلاً -، بها عشرات ألوف الكُتب، ثم يجد أحد الناس مُضطرِباً مُتردِّداً بين جنباتها، فإذا سأله عن سبب اضطرابه وتردده أجاب ثمة كتاب أبحث عنه، وهو مُهِم جداً جداً، لكنني لم أجده، لم أجده في مكانه، فيأتي هذا على طريقة رامسفيلد Rumsfeld – علَّقنا عليها في وقتها – ليقول الجواب هو الكتاب إما أن يكون في المكتبة – أي في مكان ما فيها – وإما أن يكون خارج المكتبة، لم تقل شيئاً! هذا جواب مُجمَل جداً جداً، على الأقل لو أنك قلت أنا أُرجِّح بطريقة ما كذا أو أنا رأيته قبل ساعة في جناح علم الاجتماع – مثلاً – أو في جناح السوسيولوجيا Sociology لكان مُفيداً هذا الجواب، لماذا؟ لأننا سنُضيِّق دائرة البحث فقط في هذا الجناح، أما أن تقول الكتاب المفقود إما أنه داخل المكتبة وإما أنه خارج المكتبة فهذا جواب مُجمَل وواسع ومطاطي إلى درجة ليس جديراً معها أن يُعَد جواباً.

فالأجوبة التي للأسف يتسرَّع بها بعض رجال الدين تكون أحياناً مُجمَلة جداً، حتى هذا المُجمَل جداً لو شُرِح بنوع من التفصيل العقلاني يُمكِن أن يتكشَّف عن درجة إقناعية ما، يُمكِن! لكن أن يُلقى به هكذا سذاجاً كما نقول ومن غير حتى تفصيل وتدقيق هكذا فلا، يُقال يا أخي عليك أن تقتنع أن الله – تبارك وتعالى – حكيم ورحيم، أليس كذلك؟ بلى كذلك، الله حكيم ورحيم، إذن انتهى الأمر، سلِّم يا أخي لله، سلِّم، لا يقع لك إلا الخير، هذا مُجمَل جداً، مُجمَل جداً! لا يكاد يشفي عِلة أو ينقع غُلة – أي عطشاً -، لا يروي عطشان هذا الجواب.

طبعاً الموضوع – أيها الإخوة والأخوات – طويل وعريض وعميق ومُتشعِّب وجدلي جداً على المُستوى اللاهوتي – علم الكلام – وعلى المُستوى الفلسفي وحتى على مُستوى الخبرات البشرية، على مُستوى الخبرات البشرية تقريباً لا أحد لم يمر بخبرة مُعاناة، مُعاناة مادية أو معنوية، بسبب ما وقع له أو بسبب ما يقع للدائرة الضيقة جداً من أحبابه وأودائه، لا أحد! حتى الأنبياء، الأنبياء وقع لهم هذا، كل ما يُمكِن أن يخطر على بالك من حالات المُعاناة لابد أن نبياً من الأنبياء عانى منها، بخصوص نبينا الأكرم محمد – صلوات ربي وتسليماته عليه وآله – تقريباً مُعظَم ضروب المُعاناة عانى منها، حتى الألم الجسدي، وكان يُصدَّع كما يُصدَّع رجلان قويان منا كما صح عنه، فقد الأولاد، فقد الأبناء وفقد البنات في حياته، فقد الأعمام، فقد الأوداء، وعاش اليُتم طبعاً في المرحلة المُبكِّرة جداً جداً من حياته، هو لم ير أباه، وطبعاً أيضاً فقد أمه في السادسة من عمره، وهكذا! الهزيمة أيضاً – الهزيمة مُقابِل النصر في المعارك – عاشها، عاش الفقر والعُدم – عليه الصلاة وأفضل السلام -، فقد الأصحاب والأوداء، الأعمام والأنصار، ذُبحوا أمامه، قُتِلوا، بُقِرت بطونهم، ما من شيئ تقريباً إلا عاشه، عاش تجربة الهجرة وترك الوطن، ما من شيئ تقريباً إلا عاشه – عليه الصلاة وأفضل السلام -، ومع ذلك ظل العابد الأول والحامد الأكبر لله والشاكر الأعظم لربه. صلوات ربي وتسليماته عليه وآله كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون.

لأن الموضوع بهذه المثابة نُريد فقط أن نتناوله من بعض الزوايا، أي هذه ليست دراسة وليس طرحاً مُتكامِلاً وشافياً ووافياً، كلا! مُستحيل، هذا يحتاج إلى وقت كبير جداً، فضلاً عن أننا لا ندّعي أننا نمتلك ماذا؟ الجواب، مَن هذا المُتغطرِس الساذج الذي يدّعي أنه يمتلك الجواب النهائي والقول الفصل الذي سينتهي معه التساؤل بعد ذلك في هذه المسائل الوجودية؟! لا أحد، لا أحد إلا أن يكون – كما قلنا – بالغ السذاجة أو مغلوباً على عقله، أي أحمق أو أهبل أو مجنون، الشخص العاقل الفاهم يستحيل أن يدّعي هذا، لماذا؟ لأن في نهاية النهايات وفي التحرير الأخير وبعد التي واللتيا كما يُقال لابد أن تبقى ولابد أن نُبقي بالتالي مسائل ومساحات من اختصاص ماذا؟ الإيمان، أي للإيمان، هناك مسائل تبقى إيمانية، ما رأيك؟ أي يستحيل أن تنجح في عقلنة كل شيئ من مسائل الدين، يستحيل! لابد أن يبقى هذا، وهذا معنى الإيمان، لأن الإيمان لو عُقلِن بالتمام والكمال لا يعود ماذا؟ إيماناً، لا يعود إيماناً، تماماً يعود فلسفة، فلسفة عقلية، يُمكِن أن تُعرَض على كل أحد وبالمُحاجة العقلية إما يقبل وإما يرفض، لا! الإيمان ليس كذلك، الإيمان فيه جُزء ماذا؟ تسليمي، فيه جُزء تسليمي، على أن هذا الجُزء التسليمي مُؤسَّس على ماذا؟ على جُزء كبير عقلاني، كما قلنا قُبيل قليل بخصوص مسألة المُجمَل جداً، أي في نهاية المطاف هناك مسائل تُترَك للحكمة الإلهية، أي قطعاً لله فيها حكمة، ما هي الحكمة على وجه التفصيل؟ لا أعرف، لم أعرف بعد، قد أعرف في مُدة الحياة الدنيا، وأنا في قيد الحياة، وقد لا أعرف إلا في العالم الآخر، وقد يعرف آخرون بعد أن أتولى أنا، بعد أن أموت وأرتحل آخرون يعرفون، يقولون أوه، هذه الحكمة التي من أجلها ابتُلي فلان بكذا وكذا، هل هذا واضح؟

لكن يُوجَد – كما قلنا – هذا الجُزء التسليمي اليقيني الإيماني، وهو مُؤسَّس على ماذا؟ على جُزء عقلاني، نحن آمنا بالعقل أن الله – تبارك وتعالى – أيضاً حكيم، حكيم! لا يتصرَّف عبثاً، لا يهزل، أمره كله جد – لا إله إلا هو – كما في القرآن الكريم، وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ ۩، أمر الله كله جد، لا يُوجَد هزل، الله لا يهزل – عز وجل -.

أول شيئ هو أننا سنُحاوِل أن نتعاطى مع مسألة هل يهتم بنا الله؟ لأن هذا السؤال الآن دائر في العالم، والملاحدة واللاأدريون والشكّاكون يجزمون ويبصمون بالعشر الأصابع أن الله لا يهتم بنا، وليس من شأنه أصلاً أن يهتم بنا، لماذا؟ على خلفية علمية أسَّسوا هذا الاعتقاد… ماذا أقول؟ هل أقول العبثي؟ لا، أقول الاعتقاد اليائس الخائب المُحبَط والمُحبِط، هذا اعتقاد مُحبِط جداً جداً جداً، إذا أيقنت أو غلب على ظنك أنك مُلقىً هكذا – مُلقىً هكذا في ثقب هذا العالم أو في فضاء هذه العوالم – ولا أحد يأبه بك ويهتم لك فهذا سبب كبير من أسباب الإحباط الكامل واليأس المُطلَق، وقد يدفع الإنسان إلى تفكير عدمي وفوضوي وحتى إجرامي، لا! لماذا يعتقد هؤلاء أن الله على الأرجح لا يأبه بنا ولا يهتم بنا ولنا؟

قالوا لك أين نحن؟ مَن نحن؟ نحن مُجرَّد نمال – جمع نملة -، بل أصغر من نمال بكثير، نمال دقيقة صغيرة واهنة على نُقطة بسيطة في العالم تُسمى ماذا؟ الكوكب الأرضي، الأرض! ضمن المجموعة الشمسية، ضمن المجرة، المجرة ضمن مليارات المجرات في كون شاسع واسع بطريقة سحيقة مُخيفة مُذهِلة مُدهِشة ومُحيِّرة، وإذا كان الضوء يقطع هذا الكوكب الأرضي – لا يقطع عرض الإنسان وإنما يقطع الأرض كلها – في ثُمن ثانية فإنه يحتاج لكي يقطع الكون من أقصاه – إن جاز التعبير طبعاً – أو من طرفه إلى طرفه الآخر إلى مائة وتسعين مليار سنة، فانظر إذن، أنت تعيش على كوكب، هذا الكوكب فيه الصراعات والإمبراطوريات والدول والرومان واليونان والإسلام وجنكيز خان Genghis Khan وبريطانيا وفرنسا وأمريكا والاتحاد السوفيتي، أي العالم كله هذا، وكل هذا العالم بكل مآسيه وعذاباته وتطاحناته وآلامه وآماله وطموحاته وغباواته وحماقاته وإبداعاته وعبقرياته، كل هذا يقطعه الضوء في ثُمن ثانية، ثُمن ثانية! أقول الثُمن، وهذا يعني أنه لا شيئ بالنسبة إلى الكون، لكن لكي يقطع الكون الذي تُوجَد فيه هذه الأرض يحتاج إلى مائة وتسعين مليار سنة، أي مائة وتسعين ألف مليون سنة، والضوء يتحرَّك لكي يقطع الكون، إذن ما نحن في هذا الكون؟ كلام منطقي، بادئ السمع وبادئ الرأي، حين تسمع الكلام هذا تقول يا أخي – والله – هذا منطقي، ربما لأن رموز الأديان مثل موسى وعيسى ومحمد – هؤلاء مساكين، وحتى بوذا Buddha وكونفوشيوس Confucius تحدَّثوا عن أشياء مثل هذه، هؤلاء مساكين – كانوا يعتقدون أن الأرض هي هذا الصحن الكبير، وفوقه سحابة هكذا أو خيمة اسمها السماء، والسلام عليكم ورحمة الله، هذا الكون كله، هذا الكوزموس Cosmos، لم يكونوا يعرفون الكلام هذا، مائة وتسعون مليار! هذا شيئ لا يكاد يُصدَّق.

أيام ألبرت أينشتاين Albert Einstein كان يُقدَّر قُطر الكون باثنين مليون سنة، باثنين مليون سنة فقط، وكانوا يعتبرون أن هذا شيئاً فظيعاً، وفعلاً هذا شيئ فظيع، اثنان مليون سنة والضوء يرمح و(يبرطع)، شيئ كبير جداً، ثم قالوا لا، هو مائة وتسعون مليار الآن، في آخر سنوات قالوا هذا، على أساس أن هذه آخر الدراسات طبعاً، فهم قالوا لك أين الكلام هذا؟ أين أن الله خلقنا واستخلفنا وسخَّر لنا ما في السماوات والأرض؟ كيف سخَّر لنا؟ مَن نحن أصلاً؟ ما هي أرضنا؟ هل هذا واضح يا إخواني؟

ما الجواب إذن؟ ما الجواب؟ قد يقول لي أحدكم بمنطق إيماني يا أخي هذا كلام فارغ، بمنطق إيماني الله يأبه بنا، الله يأبه بنا ويهتم لنا، لأنه أرسل الرُسل من أجلنا، وأنزل الشرائع والكُتب، وخاطبنا قائلاً يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ ۩، يَا أَيُّهَا النَّاسُ ۩، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ۩، خاطبنا هو، تواصل معنا، لكن الثاني سيقول له لا، هذا كلام فارغ، أنت تقوم بعمل مُصادَرة على المطلوب، أسِّس إيمانك بالخطاب الإلهي المزعوم وما إلى ذلك على شيئ مقبول، هل يُقبَل أن رباً خلق الكون بهذه الشساعة والوساعة يأبه بنا أصلاً؟ ولذلك نحن متروكون!

إليكم الجواب إخواني وأخواتي، واحكموا عليه أنتم عقلانياً، إليكم الجواب، هل تعرفون أن مثل هذه التساؤلات ومثل هذه التي تُعتبَر محارات أو مُحيِّرات – محارات العقول يقولون – ليست مُحيِّرات إلا بسبب النزعة الأنثروبوموفية؟ هناك النزعة الأنسانية في الإنسان، أي أن يُسقِط صفاته على مَن؟ على الله – تبارك وتعالى -، وهذا ضرب من ضروب الوثنية، وهذا واضح، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۩، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ۩، هل أنت تعتقد أن الله ملك لهذا الكون ومُدبِّر ومُدير على شاكلة الملوك الأرضيين وأنه يُديره أيضاً ويُدبِّره على نحو ما يُدبِّر الملوك الأرضيون ممالكهم؟ لا، هذه وثنية، أنت المسؤول عنها، وليس الإيمان وقضايا اللاهوت، أنت المسؤول بهذه العقلية البسيطة، ما علاقة هذا بموضوع الكون الواسع وهل الله يأبه بنا أو لا يأبه بنا؟ العلاقة واضحة جداً.

الكون فعلاً واسع وشاسع بشكل صادم مُحيِّر مُذهِل مُخيف مُرعِب مُفزِع، مُفزِع فعلاً! تخيَّل لو أنك فقط أُخِذت هكذا في كبسولة أو مركبة فضائية ثم قُذِف بك في عُمق الكون، شيئ لا يكاد يُتخيَّل، تحتاج إلى ملايين السنين ربما لكي تمر بكوكب، ثم ربما ملايين ملايين أُخرى كثيرة لكي تمر بكوكب ربما عليه حياة عاقلة، لتجد مَن يمكِن أن يتواصل معك، ملايين ملايين! عالم مُخيف ومُرعِب، أي هذا الكون، جميل! لكن مَن قال لك إنه مُرعِب لله – عز وجل -؟ بالنسبة إليك هو وسيع جداً، لكن مَن قال لك إنه بالنسبة لله وسيع جداً وكبير جداً وعظيم جداً؟ كلا، كلا! انظر إلى هذا، الآن تعود إلى كتابك، إلى قرآنك الكريم، تعود إليه! وهنا أهمية الوحي الإلهي، هنا أهمية كلمات الله، أن يتعرَّف الله إلينا، إلينا وليس علينا، هو يعرفنا، لذا أقول يتعرَّف إلينا، أي يُعرِّفنا بذاته – لا إله إلا هو – وبنفسه وبأفعاله، عن طريق ماذا؟ عن طريق كلماته، لا يكلنا إلى العقل المُجرَّد، العقل المُجرَّد انتهى، هذا العقل! العقل يقول لك الكون واسع وفيه حبة تراب – هي أقل من حبة تراب بكثير طبعاً – اسمها الأرض، وعلى حبة التراب نُوجَد، والله أعلم ماذا نُسمي أنفسنا؟ بماذا نصف أنفسنا؟ شيئ آخر، قالوا هم يقولون إنه يأبه بهم ويغضب من أجلهم ويغضب منهم ويرضى ويُحِب ويُخاطِبهم، فمَن نحن؟ مَن نحن؟ خارج الحساب تماماً، هكذا يقولون!

في الحقيقة الله حين تعرَّف إلينا تعرَّف إلينا بطريقة أفهمتنا – إن كان لنا تأمل عميق – أنه خالق غير مخلوق، أنه خالق غير مخلوق وإلا ما كان خالقاً – لا إله إلا هو -، ولكونه خالقاً غير مخلوق ولكونه العلة الأولى بإطلاق التي ليس لها علة وهي التي تُفسِّر كل شيئ وُجِد أو سيُوجَد فحتماً هو خارج دائرة الزمان والمكان، لا يجري عليه لا زمان ولا مكان، ولذلك ما يهولك أنت ضمن بُعد الزمان شيئ حدث قبل أربعة عشر مليار سنة، وهو نشأة الكون، أي البيج بانج Big Bang، أربعة عشر ملياراً أي أربعة عشر ألف مليون سنة، أف! شيئ رهيب، هذا عند الله لا يسوى شيئاً، أربعة عشر ملياراً في المُستقبَل كمائة وأربعين ألف ألف سنتليون Centillion مليار في المُستقبل، كله نفس الشيئ، لماذا؟ لأنه خارج الزمان، ليس عنده أي ماضٍ أو حاضر أو مُستقبَل، كله – إن جاز التعبير – لحظة أزلية سرمدية واحدة، وهي ليست لحظة على كل حال، كذلك المكان، ليس عند الله مكان كبير وشاسع ومُخيف، لا يُوجَد الكلام هذا عند الله.

لذلك خلق الله للكون كله – الكوزموس Cosmos – كخلقه لماذا؟ لذرة، بل لجُسيم دون ذري، أي Subatomic particle، جُسيم أو دقيقة دون ذرية، كوارك Quark – مثلاً -، أقل شيئ هذا، كوارك Quark واحد، خلق الكوارك Quark مثل خلق الكون كله، والقرآن قال هذا، وسوّى بينهما، كيف سوّى بينهما؟ قال لك إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ۩، أي الكوارك Quark لم ينوجد ولم يُوجَد إلا أيضاً بكلمة التكوين، بـــ كُن ۩، والكون كله من عند آخره – أوله على آخره، طوله على عرضه على عُمقة – وُجِد أيضاً بـــ كُن ۩، لا إله إلا الله! أي نفس الشيئ، قال مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ۩، الذي خلق بشراً واحداً منا وليكن أولناً – آدم عليه السلام مثلاً – هو الذي خلقنا جميعاً، هذه الملايير الكثيرة الوفيرة الغفيرة من البشر هو نفسه – لا إله إلا هو – الذي خلقها، خلق الواحد بـــ كُن ۩ وخلق الملايير هذه كلها أيضاً بـــ كُن ۩، ويبعثها – أي يُحييها ويُميتها ثم يبعثها للجزاء – ويُحاسَبها كما يفعل مع نفس واحدة، لا إله إلا الله!

هذا شأن بل هذا بعض شأن الإله الخارج عن أبعاد الزمان والمكان، مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ۩، الآن إخواني بالنسبة إلينا كبشر يُوجَد إشكال، هذه مُشكِلة البشر الوثنيين، نحن وثنيون في عُمقنا للأسف، نُمارِس الوثنية دون أن ندري، ثم نبدأ نعتب على الإيمان، ونعتب على صورة الرحمن، ونُشكِل، نُشكِل عليها، بالعكس! الإشكال في البداية من لدنا، التفكير خاطئ ومُؤسَّس على شيئ خاطئ، الصورة المفهومية المُعتقَدية لله غير سليمة لدينا كبشر، هل هذا واضح؟

نحن كبشر نعرف أن هناك فرقاً كبيراً على المُستوى السيكولوجي وحتى على المُستوى القانوني والجنائي بين إنسان يُعطِب موتوراً Motor – مثلاً أي موتور Motor، موتور Motor وحده هكذا، يتعدى عليه فيُعطِبه ويُفسِده – وبين إنسان يُعطِب مركبة فضائية كلَّفت الملايين، لأن صناعة موتور Motor أسهل بكثير وأقل كُلفة بكثير من صناعة مركبة فضائية، لذلك عقاب هذا غير عقاب هذا، عند الله – تبارك وتعالى – مسألة الأحجام والأوزان والتعقيدات الزائدة في التركيب والبنى ليس لها اعتبار أبداً، هو الذي قال لنا هذا، لماذا؟ لأن كله ناشئ عن ماذا؟ عن كُن فَيَكُونُ ۩، لا إله إلا الله، هذا هو الخالق بالمُناسَبة.

أنت Demiurge بلُغة أفلاطون Plato، أنت Demiurge، أنت صانع، صانع! والصانع محكوم بقيود، بقيود المادة التي يصنع منها، بقيود الطريقة والمنهج المُتبَع في الصناعة، بقيود الأهداف الغائية المُرادة من هذا الذي سيُصنَّع، وبقيود أشياء كثيرة، محكوم أنت، ومسكين أنت، أليس كذلك؟ الله – تبارك وتعالى – غير محكوم بشيئ، هو الحاكم على كل شيئ، وكل شيئ رهن ماذا؟ كُن فَيَكُونُ ۩، من غير تخلف إطلاقاً، لذلك المسائل عند الله ليست بالأحجام والأوزان والمسافات، لا!

ومن هنا القرآن الكريم – وأنا أشرت إلى هذا مرة في خُطبة – أشار بطريقة واضحة إلى أنه – تبارك وتعالى – يهتم حتى بالدقائق الصغيرة، القرآن صرَّح بهذا، ليس بالإنسان الذي عنده مائة مليار خلية عصبية فقط، لا! حتى بورقة شجرة، وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا ۩، ورقة! ضمن مليارات مليارات مليارات الأوراق في الأرض، ورقة خضراء أو جافة، قال لك مُهِمة هذه، في علم الله مرصودة، مرقوبة، ومُحصاة، يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ۩، خردلة! أي يُمكِن أن نقول نحن خردلة وما هو أقل من خردلة طبعاً، حتى الــ Subatomic particle هذا مُهِم جداً عند الله، هذا مُهِم، الخردلة هذه مُهِمة كالكون، وأنت الإنسان مُهِم أكثر من الكون، ما رأيك إذن؟ وهو قال لك وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ۩، وقائل هذا الكلام يعلم قبل علماء الكوزمولوجيا Cosmology وعلماء الفلك سعة السماوات والأرض، يعلمها تماماً – عز وجل -، هو يعلم هذا، ولكنه قال لك لا، أنا الأوزان والحجوم والمسافات التي تهولك وتُصدِّع رأسك وتُذهِلك وتُحيِّرك ليس لها اعتبار عندي، فما الاعتبار إذن؟ قال لك أنت لك اعتبار خاص أيها الإنسان، لماذا يا رب؟ فكِّر أنت وسوف ترى، سوف ترى أن هذا الكلام ليس كلاماً دينياً فقط، هذا كلام واقعي، الواقع يُصدِّقه ويُصادِق عليه، أنت لك اعتبار خاص، لماذا؟ قال لك لأنك منفوخ فيك من روحي، فيك سر ليس موجوداً في كل الأكوان هذه، ما رأيك؟ ليس موجوداً في المجرات العجيبة الغريبة الضخمة الكبيرة والتي يقطعها الضوء في مئات ألوف السنين، مجرتنا يحتاج الضوء لقطعها مائة ألف سنة، المدينة الجميلة التي نعيش فيها اسمها الــ Milky Way Galaxy، لابد من مائة ألف سنة لكي يقطعها الضوء من أقصى طرفها إلى أقصى طرفها الآخر، مائة ألف سنة! ويُوجَد مثلها مليارات المجرات، مليارات! شيئ مُرعِب في الكون هذا، قال لك هذا ليس منفوخاً فيه من روحي، ليس منفوخاً فيه من روحي لكن أنت منفوخ فيك من روحي.

إذن ماذا ينبني على هذا؟ أول ما ينبني عليه وهو أهم ما ينبن عليه أنك الكائن الوحيد الذي فيه نزوع وفيه أهلية وفيه لياقة تجعله يبحث عن الله، القرآن سماها ماذا؟ الفطرة، فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۩، فيك هذا النزوع واللياقة والاتجاه والشغف الدائم والفضول الدائم الذي يجعلك تبحث عني – عن الله -، تبحث عني، وتُحاوِل أن تتساءل بصددي وتتصل بي بأي طريقة، شئت أم أبيت.

نحن رأينا الحوار القصير الذي جرى بين ستيفن هوكينج Stephen Hawking وبين ريتشارد دوكنز Richard Dawkins – عالم الزولوجيا Zoology الشهير في أكسفورد Oxford -، موجود بعنوان Richard Dawkins meets Stephen Hawking، هوكينج Hawking في الأخير سأله سؤالاً، أراد أن يبدو كأنه مُمازحة، وليس بمُمازحة، السؤال عميق جداً، ودوكنز Dawkins عبقري، أكيد هو من العباقرة الكبار، هو رجل هائل بلا شك، قال له لماذا دائماً أنت تسأل عن الله أو تهتم بالقضية هذه؟ دوكنز Dawkins سُئل، هوكينج Hawking كان يسأل دوكنز Dawkins لماذا أنت مُهتَم بالله؟ قال له هذا، لأن عند هوكينج Hawking ربما افتراضية، إذا كنت مُلحِداً حقاً ومُلحِداً بقناعة مُطلَقة وكنت مُرتاحاً لهذا فدع الموضوع خلفك، لماذا أنت مُهتَم كل هذا الاهتمام؟ لماذا أنت مُناضِل Militant؟ لماذا تكتب يوماً؟ لماذا تترك تخصصك في علم الحيوان – فرع من علم البيولوجيا Biology – وتشتغل بالإلحاد والمُؤمِنين ووهم الله؟ اترك الموضوع كله، اتركه! لكن هو لم يُجِبه طبعاً، لأن الجواب مُحرِج جداً جداً جداً جداً، أي وأنت في عين وفي عُمق وفي قلب إنكارك لله – عز وجل – تتساءل بصدده، لست قادراً على الترك، فيك شيئ ما، هذا الذي سماه مونتسكيو Montesquieu ومن ورائه ماركس Marx ثم من ورائهما جان بول سارتر Jean-Paul Sartre ثقب الله، كأن دماغنا فيه شيئ من الداخل هكذا مثل الثقب، أي الــ Loch بالألمانية أو الــ Hole بالإنجليزية، هناك ثقب، لا يملأه إلا البحث عن الله والتساؤل بصدد الله، يا أخي دع الموضوع، كما قلت مرة أنا اعتبره خُرافة من الخُرافات، أي كالعنقاء والغول، أليس كذلك؟ وخله وراء ظهرك، لكنه لا يستطيع، دوكنز Dawkins لا يستطيع، ومُعظَم الملاحدة من عند آخرهم لا يستطيعون، ليل نهار يشتغلون على الموضوع، يُحِبون أن يرتاحوا، وطبعاً كلما شعروا أن انضم إلى قافلتهم وإلى حزبهم مزيد من المُنضَمين كلما ارتاحوا أكثر، لكن هم يرتاحون قليلاً، لا تُوجَد راحة كاملة، هذا أيها الإنسان – هذا الإنسان، مسكين الإنسان – بسبب أن الله نفخ فينا من روحه، هل هذا واضح؟

سأُعلِّق الآن فقط في دقيقة تعليقاً مُهِماً، وهذا يحتاج إلى رسالة دكتوراة في الفلسفة، لكن هذا موضوع آخر، (إيمانويل كانط Immanuel Kant – الفيلسوف الألماني النقدي العظيم إيمانويل كانط Immanuel Kant – بعد خمسين سنة فكَّر في قضايا مثل هذه، وخلص في كتابه نقد العقل المحض أو البحت أو الصرف، خلص في كتابه إلى أن مسألة الله – هل الله موجود أو غير موجود؟ – وطبعاً مسألة الخلود ومسألة الإرادة الحرة – ثلاث مسائل بالذات – العقل غير مُهيأ أصلاً وغير صالح للبحث فيها، قال هذه المسائل وفي رأسها مسألة وجود الله العقل غير مُهيأ أصلاً وغير صالح للبحث فيها، لماذا يا كانط Kant؟ العقل فعل! قال لك فعل وكان يضحك على نفسه، كل الذين فعلوا كانوا مخدوعين، حتى أرسطو Aristotle وسقراط Socrates وأفلاطون Plato؟ كلهم، قال لك كانوا مخدوعين وغير فاهمين، يا أخي آلاف الفلاسفة بحثوا في الله وآلاف آمنوا به، لذا أيضاً بين قوسين ضمن القوسين السابقين أقول (لا تغتروا بمَن يقول لكم مُعظَم العلماء اليوم ملاحدة، وخاصة علماء الأحياء، وهذا صحيح إحصائياً، لكن هناك فرق كبير بين عالم حامل شهادة ويُحاوِل أن يُساهِم في مسيرة العلم، وبين الذين أسَّسوا العلوم، بين الذين أحدثوا انزياحاً في نماذج التفكير العلمي، أي في الــ Paradigms، أي الــ Paradigmen كما يُسمونها بالألمانية، فرق كبير! لذلك إيمان شخص مثل أينشتاين Einstein أو ماكس بلانك Max Planck أو شرودنغر Schrödinger يُساوي إيمان ملايين من العلماء العاديين، هؤلاء دكاترة، يحمل الواحد منهم شهادة دكتوراة في الأحياء أو في الفيزياء – Physics – وما إلى ذلك، لكن هؤلاء يختلفون عنهم، الواحد منهم مُختلِف تماماً، هل هذا واضح؟ انتبهوا، حتى لا تُخدَعوا أيضاً، يُقال لنا أكثر العلماء ملاحدة، لا! أنا لا يهمني الأكثر، أنا يهمني القلة التي تقريباً يُمكِن أن نقول إنها خلقت العلوم، أحدثت نقاطاً مرجعية في تاريخ العلوم، محطات لا يُمكِن تجاوزها، هي التي أرشدت المسيرة العلمية برمتها، وكذلك الفلاسفة، الآن مُعظَم هؤلاء مُؤمِنون، هذا لكي ترتاح أنت ولا تكون مضحوكاً عليك).

نرجع مرة أُخرى، كانط Kant يقول لك هذه القضايا لا يُمكِن للعقل الإنساني أن يبحث فيها، العقل الإنساني بطبيعته غير مُؤهَّل وغير لائق أن يتعاطى معها، لماذا يا كانط Kant؟ قال لك لأن العقل الإنساني يُفكِّر ضمن مقولات، هو حدَّدها بثنتي عشرة مقولة، أي Kategorien بالألمانية، هناك ثنتا عشرة Kategorien، ثنتا عشرة مقولة، أي فئات للتفكير، من ضمنها وأهمها على الإطلاق ضمنها الزمان والمكان، وهناك السببية طبعاً، إذن هناك الزمان والمكان، وهو قال لك العقل الإنساني أي شيئ خارج الزمان وخارج المكان بدهي إذن أنه يفشل تماماً وهو غير مُؤهَّل أصلاً أن يتعاطى معه، العقل يدرس أي شيئ إذا كان هذا الشيئ المدروس ماذا؟ مُتزمِّناً ومُتمكِّناً، يخضع لمقولتي الزمان والمكان.

هذا كلام جميل، لكنه غير صحيح، ما رأيكم؟ قلت لكم هذا يحتاج إلى رسالة دكتوراة، أي واحد فيكم عنده قابلية فلسفية عليه أن يُفكِّر في الموضوع هذا، هذا يحتاج إلى رسالة دكتوراة، نرد على كانط Kant كيف؟ بكلمة واحدة، هل تعرف أن هذا ليس الصعب في المسألة وأن هذا ليس المُهِم في المسألة؟ وكان يُمكِن طبعاً لآلاف الفلاسفة قبل كانط Kant أن يُدرِكوا أن الإنسان فعلاً يُفكِّر ضمن هذه المقولات ويدرس المُتقولِبات في الزمان والمكان، هذا واضح، لكن الذي ليس واضحاً والذي لم يتعرَّض له كانط Kant هو كيف أدرك الإنسان أنه كائن مُتزمِّن؟ ما رأيكم؟ لماذا؟ لأن الزمان أصلاً يجري عليه، كما يجري على المادة، وطبعاً هذه المادة قطعاً وبالحري ليس لها وعي ولا تُدرِك أن سبب هلاكها وتحللها وذويانها هو ماذا؟ سير الزمان، الإنسان يُدرِك، مع أن الزمان يمخر عبابه، الزمان يمخر عباب الإنسان والإنسان مُتزمِّن تماماً، وقد شرحت هذا مرة في خُطبة مُطوَّلة.

كيف أدرك الإنسان وهو مادة – على أساس المذهب الطبيعي، أي الــ Naturalism – هذا؟ الملاحدة يقولون الإنسان مادة، من مادة! والوعي عنده مادي، وكل القابليات المُسماة بالروحية والجمالية والأخلاقية كلها منتوجات مادية فقط، لا تقل لي هناك وشيئ خارجي وفوق طبيعي وما إلى ذلك، هذا غير موجود، حلو وجميل، إلى الآن نحن معكم، ونًوافِق على هذا، لكن السؤال لو كنا كذلك بالفعل أنى وكيف لنا أن نُدرِك أننا كائنات مادية ومُتزمِّنة؟ كيف تجاوزنا تأثير الزمان بهذه النُقطة؟ من أين؟ الجواب ببساطة لأن فينا جُزءاً ولأن فينا مُكوِّناً وهو أهم مُكوِّناتنا غير مُتزمِّن ولا ينتمي إلى عالم الزمان، وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ۩، هذا الجُزء هو الذي أعطاك القدرة على الوعي بأنك مُتزمِّن وأنك تُدرِك الأشياء الخاضعة لمقولة الزمان ومقولة المكان، وبالتالي هذا الجُزء – وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ۩ – هو الذي جعلك لائقاً أن تتساءل عن الله وأن تبحث عن الله وأن تُثبِت وجوده، إذن لا يزال إلى الآن إثبات وجود الله فلسفياً مسألة – بالعكس – في الطوق وفي الإمكان، وليس كما زعم كانط Kant، لكن هذا – أي هذا النقد البسيط في دقيقة – يحتاج إلى تفصيل طويل، والكرة في ملعبكم الآن أو في ملعب مَن شاء).

نعود إلى موضوعنا، إذن الله – تبارك وتعالى – يا إخواني الأشياء لا تأخذ أهميتها عنده بمقدار وزنها أو حجمها أو عظمها أو كبرها أبداً، بمقدار ماذا إذن؟ أنا أقول لكم – هذا المعيار رقم واحد – بمقدار وعيها به، أليس كذلك؟ وعيها بالغني – لا إله إلا هو -، هو غني أصلاً، ولا يخلق أشياء كثيرة هكذا، البشر ليسوا كذلك طبعاً، أنا أقول لك البشر قد يستغني عنك وأنت أعرف الناس به، الذي يستغني عنك هذا ملك – مثلاً – أو رئيس أو زعيم أو رئيس حزب أو قائد جيش، يستغني عنك! لماذا؟ وهو يعلم أنك أدرى الناس بماذا؟ بأهميته هو، وأكثر الناس توقيراً له، وأوفى الناس له، وأصدق الناس ولاءً له، ويستغني عنك، لماذا؟ لأن لك في المُقابِل أعداءً كثيرين يُريد أن يخوض معهم وبهم معركة أُخرى، أنت لا تُفيده وحدك، أنت ضعيف، عند الله – تبارك وتعالى – الأمر عكس هذا تماماً، الخالق الغني عن العالمين – غني عن الجيوش وعن الأعداد وعن المُحارِبين وعن الألسنة – يجعل من إبراهيم ماذا؟ أمةً، إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ۩، قال أُمَّةً ۩، قال هو أمة عندي، وفعلاً الله يتصرَّف على هذا النحو، في كُتبه المُقدَّسة أحياناً يقول لك أنا من أجل واحد كهذا أنا أُهلِك أمماً، يُمكِن أن أُهلِك أمماً، هو أهلك فرعون وجنوده، من أجل موسى ومَن آمن معه – القلة المُستوحِشة المُستعبَدة -، وكان يُمكِن من أجل موسى وحده أيضاً أن يُهلِك فرعون وجنوده، لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا ۩، أليس كذلك؟ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ۩، أهم شيئ موسى أصلاً، القضية هنا تتعلَّق بموسى، العبد الصالح هذا، إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ۩، قال لك هذا أمة، المسائل عندي ليست بالعدد وليست بالوزن وليست بالحجوم، هل فهمتم؟ ليست نحن كثرة يا رب، لا! هو لا يُريد كثرتكم وعددكم، فيما يخصه يُريد قلوبكم، يُريد وعيكم به، وشعوركم به، أي الإيمان، واليقين الحقيقي، أين يقينك؟ أين إيمانك؟ أين تواصلك؟ وأين وعيك بالله – لا إله إلا هو -؟ الوعي الذي أنت مُؤهَّل ومُعَد له بفضل وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ۩.

هناك شخص يُهدِر حياته الثمينة كلها في القيل والقال وكثرة السؤال وشهوات النساء والأموال والسُلطة والحيثيات والكلام الفارغ، غافلاً عن ربه، ليس له قيمة عند الله هذا، عند الناس قد يُصبِح رئيس دولة، لكن عند الله ليس له قيمة، وهناك شخص آخر همه ربه، هو يفهم أن الغاية الحقيقية لهذه الحياة أن نعي الله – تبارك وتعالى -، أن نُدرِك الله، أن نعيش مع الله، أن نتواصل مع الله، أن نرى كل شيئ في مرآة الله، وليس في مرآتنا نحن، هذا عند الله أمة، أمة! هو أمة، ولذلك الله حين خلق هذا الإنسان قال له أنا سخَّرت لك ما في السماوات وما في الأرض، وواضح إلى الآن أنه لا شيئ يُسخِّر الإنسان، ما رأيكم؟ إلى الآن لم يُوجَد شيئ سخَّر الإنسان، الإنسان هو الذي يُسخِّر كل شيئ، أم أن هناك نقاشاً في المقولة هذه أيضاً؟ لم نر الأسود والسباع والقرود – الشِمْبانزِي Chimpanzee والبونوبو Bonobo وما إلى ذلك – والجان حتى تُسخِّر الإنسان إلا عند الخُرافيين طبعاً الذين يعتقدون أن الجن يُمكِنه أن يُسخِّر الإنسان، يقولون إنه يأخذك ويغلبك على إرادتك وعلى نفسك وعلى روحك ويفعل بك ويفعل، هذا كلام فارغ، غير صحيح، إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ۩ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ ۩، الإنسان هو الذي يُسخِّر، كلام الله لا يزال صحيحاً، وهو صحيح دائماً وأبداً، لا إله إلا هو.

إذن ليس بالوزن، المسألة ليست بالوزن، ليست بالحجم، وليست بالعدد، بمعيار ماذا؟ الوعي بالله، التوجه إلى الله، الكدح إلى الله، وإرادة وجه الله – لا إله إلا هو -، لذلك الله يهتم بنا، ما رأيكم؟ ولا يهولنكم الكون بسعته السحيقة هذه، هذا غير مُهِم، فليكن أوسع من هذا مليار مليار مرة أيضاً، لو هناك كائنات أخرى تعي الله على نحو ما نعي أو أعلى طبعاً الله سيكون مُهتَماً بها كما اهتم بنا أو أكثر، في حدود ما نعلم – القرآن لم يقل لنا هذا بشكل واضح – نقول نحن في المركز، إلى الآن في مركز الاهتمام الإلهي، الله قال هذا، وقال هذه السماوات والأرض مُسخَّرة من أجلكم، أنتم الأهم بالنسبة لي، لكن انتبهوا، قد يقول لي أحدكم هل إذا كان الأمر كذلك هو مدين لنا بجواب؟ نحن بدأنا نعتقد أن الله فعلاً قد يكون مُهتَماً بنا، قد يكون آبهاً لنا وبنا، يأبه بشؤوننا، بمُعاناتنا، بعذاباتنا، بآلامنا، بضعفنا، وبما نحن فيه، يأبه! بدأنا نقتنع، لكن هل هو مدين لنا بجواب؟ نحن عندنا أسئلة كثيرة، نتساءل دائماً، خاصة حين نخبر ونعيش العذاب والألم، هل هو مدين لنا بجواب؟ من ناحية نظرية الله ليس مديناً لأحد بشيئ، هل هذا واضح؟ مَالِكَ الْمُلْكِ ۩، خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ۩، المُتفرِّد، والغني وحده، ليس مديناً لأحد بشيئ، ولكنه – انتبه – رحمةً وكرماً وفضلاً منه أعطاك الجواب، لم يُخلِك من الجواب، وأعطاك الجواب من زوايا مُتعدِّدة، فكِّر أنت فيما قال – تبارك وتعالى -، وستجد معالم جواب، هنا وهنا وهنا وهنا، في كلماته الكريمة – لا إله إلا هو -، هذا فضل وكرم إلهي، هذا فضل وكرم إلهي! وعليك أنت أن تُكمِل الباقي، أعمِل النظر، عمِّق الفكر في كلمات الله، وأيضاً في أفعال الله، فيما يجري عليك وعلى غيرك، هذه مُقدِّمة طبعاً الجوابات الأُخرى الكثيرة.

بعض الناس يا إخواني وخاصة بعض اللاهوتيين العظام يقول الآتي، في القرن العشرين كان هناك رابٍ أو حاخام يهودي – الحاخام يُسمونه الرابي – من نيويورك – هو أمريكي وهو كبير جداً – اسمه هارولد كوشنر Harold Kushner، اسمه رابي هارولد صامويل كوشنر Rabbi Harold Samuel Kushner، ليس هارولد جولد Harold Gould طبعاً، فهذا ليس حاخاماً، وإنما هارولد كوشنر Harold Kushner، وهذا اسم أصبح مألوفاً لنا، أي كوشنر Kushner، فهو هارولد كوشنر Harold Kushner الحاخام الأمريكي الشهير، صاحب كتاب حين تقع الأشياء السيئة للناس الصالحين، أي When Bad Things Happen to Good People، حين تقع أو تتفق أو تحصل الأمور السيئة للناس الصالحين، عنده هذا الكتاب، وهو كتاب مشهور جداً جداً، وُزِّع توزيعاً عالياً، للأسف الحاخام أو الرابي كوشنر Rabbi Kushner تعاطى مع هذه المسألة، موضوع خُطبة اليوم، مُعاناة الإنسان، عذابات البشر، وهذه الأسئلة الوجودية القلقة المُحيِّرة والحائرة، وانتهى إلى مُقارَبة جديدة، لقيت الترحيب من ملايين من القرّاء والمُتابِعين لكوشنر Kushner، يهوداً ونصارى طبعاً، ليسوا يهوداً فقط، يهوداً ونصارى، ما المُقارَبة هذه؟ وأنتم احكموا عليها كمُسلِمين الآن بحسب لاهوتكم أو اعتقادكم الإسلامي المُؤسَّس على القرآن الكريم بفضل الله – تبارك وتعالى -.

قال في الحقيقة لا، أنتم تظنون أن الله لا يأبه، لا! الله يأبه بنا، ويهتم بنا، ويُراقِبنا، بل الله – يقول هذا، أستغفر الله، اللهم غفراً – مُصاب بالخيبة، خاب أمله، مِن مَن؟ مِن الإنسان، أي خاب أمله في الإنسان، الإنسان لم يكن عنده حُسن ظن بالله، مُصاب بالخيبة والإحباط والحنق، الله غضبان أيضاً، غضبان بسبب ماذا؟ بسبب ما يقع في الدنيا من شرور، ظلم العباد بعضهم لبعض، العنصرية، ظلم الصغار، ظلم النساء، ظلم المُستعمَرين – أي ظلم الاستعمار طبعاً -، ظلم الحروب، الغش، الكذب، والنفاق، إلى آخره، غضبان بسبب كل هذا الفساد في العالم، هناك الذين يُتاجِرون بحيوات الناس وأيضاً بصحة الناس – والعياذ بالله -، من أجل أن يربحوا ملايير زائدة فوق ملاييرهم، قال الله مُحبَط، خائب الظن، غضبان من هؤلاء، وماذا بعد يا كونشر Kushner؟ قال إلا أنه غير قادر على أن يفعل شيئاً، هو أعجز من أن يفعل، تخيَّل! أهذا حاخام؟ أهذا رجل دين؟ أستغفر الله العظيم، الرجل وصل إلى طريق مسدود، وأنا لا أفتري عليه، يُمكِن أن تقرأوا الكتاب، علماً بأن هذا مشهور، يُمكِن أن تعملوا بحثاً، أي Recherchieren، وسوف تجدون هذا بسهولة، معروفة مُقارَبة هارولد كوشنر Harold Kushner لقضية الخير والشر هذه، أو قضية الشر هذه بالذات، معروفة! قال إن الله يأبه والله غضبان ولا يُعجِبه ما يحدث، وبلُغتهم الكتابية طبعاً يُمكِن حتى أن يبكي – أي الله، هم قالوا هذا – ويُولول ويصيح، عندهم هذا، أستغفر الله، نحن ليس عندنا الكلام هذا، قال لك يُمكِن أيضاً أن يبكي من أجل العباد، ولكن هو عاجز، لا يقدر على فعل أي شيئ، لا يقدر!

وطبعاً عنده مُبرِّرات لا نُوافِق عليها مُطلَقاً إلى الآن، فانظروا إذن إلى الطرح الإسلامي وهو مُختلِف، الطرح الإسلامي فيه عُمق وفيه تنزيه لله أكثر بفضل الله – عز وجل – وفيه مُحافَظة على جناب التوحيد – الواحدية والأحادية – بطريقة ولا أروع بفضل الله، القرآن علَّمنا هذا، وطبعاً كما وعدتكم أنا لن أتورَّط الآن في مُحاوَلة الجوابات وعرض المُقارَبات المُختلِفة، علماً بأننا فعلنا هذا نسبياً في خُطب ومُحاضَرات سابقة، هذا موضوع طويل وعريض، ولكن أنا أُريد فقط أن أُلقي الضوء على بعض النقاط الحرجة.

طبعاً إيلي فيزيل Elie Wiesel – هذا الذي نجا من المحرقة، وهو مشهور جداً، هذا الأستاذ الجامعي والأديب والكاتب الروماني الأصلي والأمريكي، هو تجنَّس بعد ذلك، كان يكتب بالفرنسية، وله حوالي ستين كتاباً – قال إذن رب كهذا – يرد على مَن؟ على هارولد كوشنر Harold Kushner، أي الرابي – جدير به أن يتخلى عن منصبه لشخص آخر أكفأ منه، وكلام فيزيل Wiesel أكثر منطقية يا أخي، ما هذا الإله العاجز؟ إله خلق الكون والسماوات والأرض يكون عاجزاً عن أن يفعل وأن يرفع هذا الظلم؟ ما الجواب؟

سنختم – إن شاء الله – الخُطبة الثانية فقط بلمحة سريعة من الجواب عن هذه المسألة.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخُطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

أما بعد، إخواني وأخواتي:

قبل أن أُعطي لمحات سريعة – كما قلت – من الجواب عن هذه المسألة فقط أُريد أن أقول حين نذكر مثل هذه الأسماء وهي أسماء مُحترَمة في دوائرها طبعاً بلا شك وعندها أتباعها نحن نفعل تقريباً تقريباً الشيئ نفسه الذي فعله علماؤنا وأسلافنا العظام حين كانوا يقولون وقال صالح بن عبد القدوس وقال ابن الراوندي Ibn al-Rawandi وقال فلان من الزنادقة وفلان من الزنادقة، هل هذا واضح؟ فعلوا هذا للرد على تحديات عصرهم وعلى تشغيبات مُعاصِريهم وعلى إشكالات معارفهم، نحن جدير بنا أن نفعل هذا أيضاً بلُغة عصرنا وعلى تحديات عصرنا، انتبهوا! لأن بعض الناس يأتي يتنطَّع ويقول لكم ما علاقتنا نحن بكوشنر Kushner وفيزيل Wiesel وكانط Kant وفلان وعلان؟ لا يا حبيبي، نحن نعيش في هذا العالم، هذه المُقارَبات المطروحة الآن عالمياً، إذا لم تتناولها أنت وأنا على المنبر وعلى وسائل التواصل الاجتماعي وفي المقالات وفي الكُتب فأنا أقول لك سيجد أبناؤنا وبناتنا أن هذه المُقارَبات لم تُعرَض، وبالتالي لم تُحَل ولم يُجَب عنها، إذن أنت تركتهم حائرين، وأنت تشتغل مع مَن؟ مع ابن الراوندي Ibn al-Rawandi ومع الشيعي الزيدي والشيعي الكذا والأشعري والوهابي، تشتغل مع الأشياء التقليدية القديمة وليس الحديثة، لا! اشتغل بعصرك أيضاً، المسائل هي مسائل والمُقارَبات تختلف وتتنوَّع، هل هذا واضح؟ عليك أن تكون على الأقل شاهداً على عصرك، أثبِت لنا أنك تعيش في هذا العصر.

نعود إلى مسألة العجز المنسوب إلى الله، أستغفر الله العظيم، الرجل – هذا الرابي اليهودي، أي كوشنر Kushner – وجد نفسه ملزوزاً مُضطَراً أن يُسلِّم أو أن يُقِر بأن ربه – لا أقول حتى الرب، ربه الذي يُؤمِن به طبعاً، هذا يُؤمِن به هو – عاجز، يُقِر بأن ربه عاجز، لكي يحفظ له ماذا؟ تعاطفه، أن عنده Sympathy، أن عنده تعاطف معنا، هو يأبه بنا، لكي يُثبِت لهم أنه يأبه بنا ويهتم بنا قال لهم ماذا؟ هو مُتعاطِف ومُحِب ومُهتَم وآبه ولكنه عاجز، قالوا مقبول هذا إلى حد ما، أحسن من لا شيئ، أف! وملايين قبلوا بهذه المُقارَبة، تخيَّلوا! هؤلاء مساكين، والله هؤلاء مساكين ونحن نرثي لهم، ملايين قبلوا بهذا، على الأقل لم يجدوا أنفسهم أنهم ظلوا وبقوا ماذا؟ نهباً لغطرسة وعربدة فكرة أننا متروكون ولا يُؤبه بنا، علماً بأن هذا الشيئ مُخيف ومُرعِب، مُخيف ومُرعِب أن تظن أنك مُلقىً بك في الكون هكذا ولا أحد يأبه بك، الله لا يأبه بك، موجوداً كان أو غير موجوداً، هذا شيئ مُرعِب ومُخيف، فقالوا لا بأس، لا بأس بهذه المُقارَبة، ملايين وافقوا عليها واستحسنوها، قالوا هذا شيئ جميل، أنه مُتعاطِف على الأقل.

هذا ذكَّرني بعبارة قرأتها لهرمان ملفيل Herman Melville – تعرفون موبي ديك Moby Dick، الرواية الشهيرة جداً، الحوت وإسماعيل وما إلى ذلك، ومُثِّلت أفلاماً عدة مرات، أي موبي ديك Moby Dick، وهي موجودة حتى في الــ Animation وما إلى ذلك -، هرمان ملفيل Herman Melville ماذا يقول؟ يقول مُعظَم الناس كما أعرفهم الذين يخشون الله في الظاهر ويُبغِضونه وهم غاضبون عليه في الباطن إنما يفعلون هذا – لماذا قال؟ – لأنهم غير واثقين من قلبه، قال لأنهم غير واثقين من قلبه، هم يتصوَّرونه عقلاً تاماً، كأنه آلة، بمعنى ماذا؟ أنه إله ميكانيكي، إله خاضع للقوانين، القوانين هو وضعها، وأخضع لها كل شيئ، وهو أيضاً يحترمها – أستغفر الله العظيم -، كأنه يخضع لها، ولا يُوجَد مكان للتعاطف والرحمة والمحبة، أي الأبه بنا فعلاً، أنه يأبه بنا، لا يُوجَد! قال من أجل هذا بعض الناس يُبغِضونه.

ولذلك – انظروا إلى هذا – مُلاحَظة ملفيل Melville في القرن التاسع عشر هذه تُفسِّر لنا تعاطف الملايين مع مَن؟ مع كوشنر Kushner، في مُقارَبة كوشنر Kushner قال لهم لا، هو مُهتَم بكم ويُحِبكم، هو يُحِبكم ويُريدكم، ولكنه عاجز، اعذروه لأنه غير قادر، فقالوا هو معذور، أي هؤلاء الملايين، لا! نحن طبعاً نرفض هذه المُقارَبة تماماً مثلما رفضها هذا الناجي من المحرقة، أعني فيزيل Wiesel هذا، أي إيلي فيزيل Elie Wiesel، قال لا، هذا غير صحيح، الإله لابد أن يكون قادراً، لا إله إلا هو!

أنا مُقارَبتي يا إخواني ليست مُقارَبة جديدة بالكُلية، بالعكس! إضاءة فقط، إضاءة ضمن مُقارَبة أوسع منها، تقوم على ماذا؟ على الإنصاف، مُحاوَلة أن نُنصِف وأن نعدل، نُنصِف مع ربنا، تخيَّلوا! وهو لا يحتاج إنصافنا، لكن لابد أن نكون عادلين حتى في حُكمنا على ما ننسبه لله – تبارك وتعالى -، ولكي نكون مُنصِفين وعادلين ينبغي أن نُحرِّر محل النزاع تماماً، كيف هذا إذن؟

هنا الشيئ الجديد والبسيط في هذه المُقارَبة، وهو أن تعزل ما لله صرفاً عما لغير الله، هناك أشياء المسؤول عنها بشكل مُباشِر ليس الله – تبارك وتعالى -، أشياء أُخرى، أي شيئ آخر مسؤول عنه غير الله إياك أن تُحاسِب عليه ربك، إياك أن تُسائل الله بصدده، في رأس هذا كل المظالم البشرية التي سبَّبها البشر ويتسبَّب فيها البشر، بما فيها الحروب والاستعمار والعنصريات والاضطهاد واستغلال الناس واستغلال العمّال واستعباد البشر، إلى آخره، إلى آخره! إياك أن تقول هذا، إلا في حالة واحدة، إذا ثبت لديك أن الله بكلماته سوَّغ هذه المظالم وطلبها وأرادها، وهذا غير صحيح، الله في كل وحيه إلى أنبيائه المُوحِّدين دائماً أمر بماذا؟ بالقسط وبالعدل، وقال لك أنا ما أرسلت الرُسل وما أنزلت الكُتب إلا ليقوم الناس بالقسط، ومن أجل تحقيق الميزان، أنا أنزلت الميزان لكي تقوم الناس بالقسط، لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۩، هل هذا واضح؟

قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ۩, قال قُلْ ۩، أعلِن هذا، مانيفستو Manifesto إسلامي هذا، مانيفستو Manifesto توحيدي إلهي، جميل! الآن انتبه، هذه ليس فيها جد، أي هذه معروفة، لكن للأسف مُعظَم الناس عملياً يتجاوزها، لماذا الله يسمح بما يحدث في سوريا؟ لماذا الله يسمح بما يحدث في كذا مكان، في كذا مكان، وفي كذا مكان؟ ومَن قال لك بأن الله – تبارك وتعالى – هو المسؤول عن هذا؟ لا، ابحث عن المسؤول وحدِّده بشكل جيد، حدِّده بشكل جيد وصادق وواضح، إياك أن تقول هذا، لا تُجدِّف على الله – تبارك وتعالى – فتُجرِم مرتين، والجريمة الأُخرى أكبر من الأولى، الجريمة الأولى هل تعرف ما هي؟ كل مَن سكت عن الظلم وعن تجاوز الإنسان على أخيه الإنسان في أدنى الرُتب حتى وفي أقل المظاهر هو شريك في الظلم، لو أنت رأيت شيخك – نفترض – أو أستاذك أو أباك أو أمك يتجاوز على ضعيف ويتجاوز على إنسان لا يستطيع الدفاع عن نفسه ثم سكت أنت شريك في الظلم، أنت تُؤسِّس للظلم، وأنت تُؤسِّس لمذبحة، بالسكوت في مسألة بسيطة جداً جداً تُؤسِّس بعد ذلك – بعد عشر أو عشرين أو ثلاثين سنة – لمذبحة، مذبحة كُبرى لهذا الشعب، لأنك سكت عن الظلم، أنت هادنت الظلم، أنت عزَّزت ثقافة الظلم، هل هذا واضح؟

لذلك هذا المسؤول عنه ليس الله، المسؤول عنه البشر، وهذا معنى – أنا أشرت إلى هذا في الخُطبة الأخيرة – أننا خُلفاء الله في الأرض، هل أنت فرحان باللقب؟ هل أنت فرحان لأنك خليفة؟ وبعض الناس فسَّره بأنه وكالة، قال لك هذا نوع من الوكالة، نوع من التفويض، الله قال لنا اذهبوا إلى هنا، أنا وكَّلتكم وفوَّضتكم، ولكي يُوكِّلنا ويُفوِّضنا لابد وأن يُطلِق ماذا؟ أيدينا، أي لابد أن يُعطينا قدراً معقولاً من الحرية، وقد فعل، وقلت بهذا المعقول من الحرية أمكن لبعضنا أن يُصبِحوا من كبار الأولياء والمُتعبِّدين، وأمكن لبعضنا أن يجزوا رؤوس ماذا؟ الأنبياء والمُرسَلين، الأنبياء ذُبِحت، أليس كذلك؟ أنبياء الله ذُبِحوا وقُطِعت رؤوسهم، كيف؟ قال لك كيف سمح الله بهذا؟ وهناك مَن يسأل ويقول كيف يسمح الله بأن يُقتَل الأطفال في فلسطين، في سوريا، في العراق، وفي غيرهم؟ هو سمح بأن تُقتَل الأنبياء، هل تعرف لماذا؟ سمح بالشيئ الذي أنت فرحت به ورفعته عنواناً، أنني كائن مُختار، أنا حر، أنا لدي الحرية، وفعلاً واقعك يقول إن لديك الحرية، بدليل أنك تُجدِّف أحياناً على الله وتكفر به ثم يتركك في قيد الحياة، أليس كذلك؟ تأكل وتشرب وتنام، قال لك لن أُؤاخِذك، لست كملوك الأرض، ملوك الأرض يُديرون مُلكهم وممالكهم على أنه لا حرية لمَن يُجدِّف على الملك، لا حُرية لمَن يُحرِّض، ولا حرية لمَن يغمز، هي السجون وهي المشانق، أليس كذلك؟ وأعواد التعذيب، الله يقول لك لا، أنا رب غني، لا أحد يُعجِزني، الزمان طوعي، المكان قبضتي، هناك حساب آخر، هناك فصل آخر للرواية، وأنا اخترت أن أخلقكم وأبلوكم أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۩، وهذا الابتلاء لا معنى له إلا بأن يجعلنا ماذا؟ أحراراً مُختارين، وقد جعلنا.

ثمن هذ الحرية بالمُناسَبة – هذا ثمن هذه الحرية – كل ما ترونه في هذه الدنيا من إبداعات، من اختراعات، من علوم، من أفكار، من فلسفات، ومن جمال، وثمنه أيضاً على قدم سواء كل ما رأيتموه أو سمعتم به أو قرأتم عنه من مذابح، استعمار، قتل، ظلم، عنجهية، وعنصرية، أليس كذلك؟ ثمن الحرية! هذا ثمن الحرية، أي الله حين شاء أن يجعل الإنسان حراً – السؤال الآن هو هكذا، قد تقولون لي هذا سؤال كبير، لكن هذا سؤال أجاب عنه القرآن هل تعرفون بماذا؟ بإشارة هكذا، بلفتة بسيطة جداً جداً في شطر آية – هل شاء أن يجعله حراً ليفعل به ومن خلاله الخير أم الخير والشر معاً؟ الخير والشر معاً، الله يعلم هذا، ومن هنا بعض اللاهوتيين الغربيين أيضاً بطريقتهم الجسورة جداً والجريئة في التعبير والتي لا نحترمها ولا نُحِبها قالوا لك الإنسان هو مُجازَفة الله، الله لا يُجازِف، قالوا لك الإنسان هو مُجازَفة الله، الله يعرف أنه سيعمل الخير وسيعمل الخير، يعرف أنه سيُوحِّد وأنه سيقتل الأنبياء، الله عارف، والدليل على أنه عارف أنه أنهى هذه المعرفة مُنذ البداية – قبل أن يصوغ آدم أصلاً – للملائكة، ماذا قالوا له؟ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۩، إذن قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ۩، نعرف أن جُزءاً من نشاطه وشُغله سيكون مُتعلِّقاً بالإفساد وسفك الدماء، قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ۩، القضية لا تزال أكبر من هذا، هل هذا واضح؟

إذن يا إخواني لابد من العزل، ما المسؤول عنه الله؟ وما المسؤول عنه الإنسان أو البشر؟ نُريد أن نتعمَّق قليلاً الآن، نحن نعرف أن الكون هذا محكوم بقوانين، مع العلم بأن كل سنة تزداد هذه المعرفة، فكيف بكل قرن بعد قرن؟ تزداد وتترسَّخ هذه المعرفة، ومشوار العلم البشري – مشوار العلم عموماً، أي الــ Science – ما هو؟ الكشف الزائد والمُتراكِم عن هذه القوانين، فقبل النظرية الجرثومية البشر لم يكونوا يعرفون أن هناك كائنات دقيقة مجهرية لا تُرى بالعين المُجرَّدة اسمها جراثيم، وجُزء كبير جداً منها مُمرِضات، هذه تُسبِّب هلاك النباتات والحيوانات والبشر، وتعمل مشاكل كثيرة، لا أحد كان يعرف هذا، أليس كذلك؟ وحين تقرَّرت هذه فتحت لنا باباً عظيماً جداً جداً جداً من المعرفة، وبالتالي من ماذا؟ من مُقاوَمة المُمرِضات والأمراض والتغلب عليها.

تعال أنت وارجع فقط إلى ثلاثمائة سنة، ارجع إلى الوراء وانظر إلى ملوك بريطانيا والنمسا وغيرهما، انظر إلى ملوك العالم كله هذا، مُعظَم هؤلاء أولادهم كانوا يموتون بأمراض جرثومية، هؤلاء المساكين لا يعرفون هذه الأشياء، عند أحدهم – مثلاً – تسعة أولاد، يموت سبعة ويعيش اثنان فقط، وقد يكون أحدهما عليلاً وما إلى ذلك، لكن الآن الوضع اختلف، ما شاء الله! مُعظَم الأطفال يعيشون، أليس كذلك؟ أنجب تسعة وعاش التسعة، ربما يموت واحد لسبب أو لآخر، أي العكس هو الذي يحدث، لماذا؟ بسبب العلم، وهذا جميل.

الآن هل يجوز لأحد أن يقول يسوغ لنا أن ندعو بأن يقف الله – أي يُوقِف الله – الشمس؟ لا، هذه قوانين وهي مُحترَمة، هذه حدود الدعاء، هناك مسألة اسمها حدود الدعاء، وهذه المسألة تحتاج أيضاً إلى التعاطي معها على حدة، وتحتاج إلى فقه خاص، في فقه الدعاء لابد أن نسأل سؤالاً، ما هي حدود الدعاء؟ ما الذي ينبغي أن ندعو الله به؟ وما الذي الذي يعده القرآن عدواناً في الدعاء ويُقال إنه ممنوع؟ لا يُمكِن لأحد أن يقول اللهم أوقف الشمس لأنني تأخَّرت وأنا أُتابِع هذا الموفي Movie أو الفيلم، تأخرت عن صلاة الظهر، فأوقفها لمُدة خمس دقائق لكي أتوضأ وأُصلي الظهر قبل دخول العصر، هذا كلام فارغ، وهو آثم، آثم بالتكاسل عن الصلاة، وآثم إثماً أكبر بمُخاطَبة الله بهذه الغباوة والحماقة، لكن هناك ما هو دون ذلك، دعونا من الشمس والقمر والأجرام وما إلى ذلك، هناك ما هو دون ذلك.

ماذا عن السيدة التي تُدخِّن كثيراً – أي تتعاطى الدخان كثيراً، وربما تتعاطى بعض أنواع السموم البيضاء -؟ واضحة جداً أضرار التدخين، وكل المواقع الطبية والتصحاحية تتحدَّث عنها، وهي قرأت هذا ألف مرة وسمعت هذا عشرة آلاف مرة، وعندها أيضاً خبرة تتعلَّق بابنة عمتها أو جارتها البعيدة أو جارتها القريبة وتعرف كيف يُصبِح وضع الأجنة ووضع الأولاد بسبب الدخان والإسراف في التدخين وبسبب أيضاً السموم البيضاء والمُخدِّرات هذه، هذه حين تُصِر على أن تُتابِع مسيرتها في الهوي السلوكي هذا يُمكِن أن يأتي ابنها وهو يحمل شذوذاً ما في الخلقة بسبب طفرة وقعت لأحد الكروموسومات Chromosomes، قد تقع طفرة – مثلاً – للكروموسوم السابع Chromosome 7، ويُصبِح عنده تليف كيسي – مثلاً -، وهذا مرض معروف، مَن يُصاب به يعيش في مُعاناة شديدة ثم يموت، لا يعيش إنسان بعد التليف الكيسي خمسين أو ستين سنة، هذا لم يحدث إلى الآن تقريباً، هل هذا واضح؟

هي تعرف أن تعاطي هذه الأشياء يُمكِن أن يُسبِّب هذه الطفرة مع مئات الطفرات الأُخرى، لكنها فعلت، السؤال الآن مَن المسؤول عن كون هذا الوليد به هذا الشذوذ؟ المسؤول هو الله أم أمه؟ هذا سؤال، قد تقول لي الله من جهة أنه وضع هذه القوانين، لكن أنا أقول لك هو وضعها تماماً كما وضع قانون الإحراق للنار، هل هو قال لك أحرق نفسك بالنار؟ أبداً، وضع هذا القانون ووضع عندك عقلاً ووعياً أدرك هذا القانون، وأنت بالتالي سوف تأخذ كل الحيطة لئلا يقع ماذا؟ حريق، أليس كذلك؟ نفس الشيئ! الله وضع قوانين في الجينات Genes وفي المُورِّثات هذه، وأعطانا عقلاً، وكشف لنا عن هذه القوانين، وقال لك ماذا؟ احترم هذه القوانين، أنت لم تحترم هذه القوانين، فجاء وليدك مُشوَّهاً أو يُعاني من مرض وراثي، جاء يُعاني من مرض وراثي بسبب هذه الطفرة، مَن المسؤول إذن؟ لا! المسؤول المُباشِر والصريح والواضح أنت، وليس الله، هل هذا واضح؟ لأن الكثير من الناس يتساءلون بصدد هذه القضايا أيضاً، بصدد هذه القضايا يتساءلون ويقولون ماذا عن الابن المُشوَّه المسكين – مثلاً -؟

قد يقول أحدهم لكن الأم لا تُدخِّن ولا تتعاطى شيئاً وكذلك زوجها، لكن بينهما درجة قرابة بصراحة شديدة جداً جداً جداً، أليس كذلك؟ شديدة! والعلم قال لك زواج الأقارب من الدوائر المُتقارِبة ليس جيداً، وحتى النبي أشار إلى هذا، وقال أنكحوا في الأغارب، قال أنكحوا في الأغارب، والله قال ماذا؟ لِتَعَارَفُوا ۩، وقال فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا ۩، أي هناك إشارات تقول لك ابتعد، ابتعد كثيراً فهذا أحسن لك، والناس تعرف هذا بالتجربة، حين تقترب أكثر تكثر الأمراض الوراثية، هذه نفس القضية، نفس القضية! هناك مَن يقول هو لم يُحِب هذا لأنها ابنة عمه، ولذلك أيضاً هو لم يُحِب أن يُجري الفحص الطبي، نقول له إذن فلتأخذ على رأسك، هم قالوا لك اذهب واعمل الفحص الطبي أنت وهي، وحتى لو لم تكن قريبتك اذهب واعمل الفحص الطبي أيضاً، لكنه لم يفعل.

الآن جاء شخص ولم يعمل الفحص الطبي، فجاءه الولد وهو يُعاني، ثم قال له الطبيب هذه خسارة، لو كنت عملت الفحص الطبي لما حدث هذا، هذا كان واضحاً لدينا، كنت ستعلم أنك ستُنجِب هذا الطفل بنسبة ثماني وسبعين في المائة – مثلاً -، فلماذا لم تعمله؟ قد يقول والله اتكلت على الله، وهذا غلط.

بالمُناسَبة إلى الآن تُوجَد كنائس مثل كنيسة إنديانا Indiana في الولايات المُتحِدة الأمريكية – USA – لا يذهب أتباعها إلى الأطباء، لا يذهبون إليهم ولا يُؤمِنون بالنظرية الجرثومية ولا باللقاحات ولا بالتطعيمات، ويقولون الله، الله هو المسؤول وهو الرحيم وهو الذي يعمل كل شيئ، دع عنك الكلام الفارغ هذا، العلم مُلحِد والعلم كذا، والحمد لله هم أُناس مُؤمِنون وأتقياء جداً، أعني أتباع كنيسة إنديانا Indiana، وهم بالملايين، والحمد لله واضح جداً جداً من السجلات الموجودة في المقابر وفي كنائسهم هناك أن أكثر أطفال يموتون هم أطفالهم بفضل الله، القبور مليئة بهم، أكثر أسر تُعاني هي أسرهم، وهؤلاء لا ينبغي أن يعتبوا على الله، عليهم أن يعتبوا على أنفسهم، أليس كذلك؟ هل فهمنا الدرس؟

وعلى هذا فقيسوا لأن الوقت أدركنا، على هذا فقيسوا، حاولو أن تُعمِلوا عقولكم، لكي تعزلوا كل ما يتسبَّب فيه الإنسان عما المسؤول عنه الرحمن، ولا تنسبوا ظلم الإنسان إلى عدل الرحمن، ولا تعودوا بذنوب الإنسان على ربكم، في الخُطبة السابقة اقتبست مقولة لنيكوس كازانتزاكيس Nikos Kazantzakis – الأديب اليوناني الكبير، صاحب زوربا Zorba، وصاحب المسيح يُصلَب من جديد، وما إلى ذلك -، لكنني أُريد أن أقتبسها مرة أُخرى، لأنها جميلة جداً، نيكوس كازانتزاكيس Nikos Kazantzakis عنده عبارة جميلة في رواية الإخوة الأعداء، قال إلهي، في رقبتي أنا، ذنبي أنا وذنب إخواني البشر هذا الطفل الذي يأكل التراب، ليس ذنبك يا رب، إنه في رقبتي أنا! هذا هو، هذا يفهم، هذا يفهم معنى الاستخلاف ومعنى أننا وكلاء ومُفوَّضون ومُستخلَفون في هذا الأرض، هذا يُنحى فيه باللائمة علينا وليس على الرب، لا إله إلا هو!

الإمام عليّ – عليه السلام – من قديم قال، قال ما جاع فقير إلا ببُخل غني، أليس كذلك؟ الله لم يسمح لنا ولم يقل لنا هذا وضع سليم وصحيح ولابد أن يُستدام ويُستبقى، أعني أن أناساً عندهم ملايير وأناساً تفتقر إلى الملاليم، ثم تقول لي الله، لا تقل هذا أبداً، الله خلق هذا الكوكب – كما قلت مائة مرة – وفيه أرزاق والله تسع لعشرة أضعاف وربما مائة ضعف هذه البشرية، ما رأيك؟ فيه أرزاق وطاقات وقوى، ودع عنك كلام مالتوس Malthus وغير مالتوس Malthus، هذا غير صحيح، وطبعاً التاريخ كذَّب مالتوس Malthus، التاريخ بالذات كذَّب مالتوس Malthus، مع أن مالتوس Malthus كان في عصر قريب من عصر الثورة الصناعية، الثورة الصناعية جاءت وأخرجت الأرض كنوزها، هذا بفضل الثورة الصناعية، لكن لا ينبغي أن يكون عند هذا الملايير في حين أن هذا ليس عنده حتى الملاليم، ليس الله هو المسؤول، المسؤول النُظم والفلسفات والأيديولوجيات والأوضاع والظروف والجُبن طبعاً والخوف ونفاق رجال الدين ونفاق رجال الفكر الذين سوَّغوا استمرار واستدامة هذه الأوضاع، وزعموا أنها مُبرَّرة ولابد أن تكون، كحال إخوانهم من قديم، الذين قالوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ۩، نفس المنطق الجحود الكفور، وهو منطق مَن كفر بالله، لأن مَن آمن بالله لم يقف إيمانه عند حدود أنه موجود فقط، لا! لابد أن تُؤمِن بأنه موجود وهو العدل الحكم الحكيم الخبير العليم الرحيم الكريم، لا إله إلا هو، أليس كذلك؟ وأهم شيئ في هذه القضية العدل، لا إله إلا هو! الحكم العدل، وهو لا يرضى بكل هذه الصور والضروب من الظلم والتظالم والعدوان.

اللهم إنا نسألك أن تُفقِّهنا في الدين، وأن تُعلِّمنا التأويل، علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا فقهاً وعلماً ورشداً.

اغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أسرفنا وما أنت أعلم به منا وما جنينا على أنفسنا، أنت المُقدِّم وأنت المُؤخِّر، لا إله إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك.

اللهم اشف مرضانا ومرضى المُسلِمين، وارحم موتانا وموتى المُسلِمين، ولا تجعلنا فتنةً لا للكافرين ولا للمُسلِمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربونا صغاراً، اجزهم بالحسنات إحساناً وبالسيئات مغفرةً ورضواناً، وأجِرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة.

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: