الكِذّيبون والصّدّيقُون

video

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. مَن يهده الله، فلا مضل له. ومَن يُضلل، فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ولا نظير له، ولا مثال له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفوته من خلقه، وأمينه على وحيه، ونجيبه من عباده. صلى الله تعالى عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته المباركين الميامين، وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.

عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أحذركم وأحذر نفسي من عصيانه سبحانه ومخالفة أمره، لقوله جل من قائل مَّنْ عَمِلَ صَٰلِحًا فَلِنَفْسِهِۦ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّٰمٍۢ لِّلْعَبِيدِ *.

ثم أما بعد/

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات/

يقول الله جل مجده في كتابه العزيز، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم:

يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا ۖ وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ ۖ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا * لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا * وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ۚ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا *

صدق الله العظيم، وبلغ رسوله الكريم، ونحن على ذلكم من الشاهدين. اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين، اللهم آمين.

أحبتي في الله؛ إخوتي وأخواتي/

قبل أسبوعين تكلمنا في موضوع بالغ الأهمية والخطر والمثابة، إنه موضوع الإخلاص. وتطرقنا على عجل إلى موضوع قريب منه جدا، حتى أن الاشتباه والالتباس يقع بينهما في عموم أحوال المُتكلمين والدارسين، إنه موضوع الصدق. فتجدون الكاتبين أو المُتكلمين، إذا تكلموا عن موارد الموضوعين، يخلطون في العنوان! فيُعبرون عما من حقه أن يُعنون له بالصدق، بأنه إخلاص! والعكس كذلك! إذن الموضوع ليس واضحا تماما. ما هو الخط الفاصل بين الإخلاص وبين الصدق؟ هل يتكاملان، يتآزران، يتعاونان، أم يتعارضان؟ هل يفترقان أحيانا، أم لا بُد من ازدواجهما في كل الحالات؟ 

حتى يضح الموضوع ابتداء، إخواني وأخواتي، القاعدة أن الإخلاص والصدق يُمكن أن يجتمعا، لا ريب! لكن يُمكن أن يفترقا أيضا. فلا شك أن المرء الذي يتوجه إلى الناس في عمل أو بعمل مُعين، ولا يتوجه إلى الله تبارك وتعالى، أنه فاقد لشرط الإخلاص. كل ما يطلبه وكل ما ينظر إليه ويعتبره، هو نظر الناس، موقف الناس، الممدحة، والمثابة عند الناس! حتما هذا ليس بمُخلص، لا حظ له في الإخلاص! لكنه في عمل هذا، قد يكون صادقا، قد يوفيه حقه، بحيث أن الناس يندهشون ويعجبون لشدة إتقانه! وليكن هذا الموضوع مثلا عبادة أو علما. الناس يعجبون لشدة إتقانه صلاته! كيف يُصلي هذه الصلاة، التي تأتي وفاق السُنة المُحمدية؟ يُطيل قيامها وركوعها وسجودها، ويطمئن فيما بين الأركان، وما إلى ذلك! ويُطيل حتى المُعقبات، بعد أن ينصرف منها! هذه الصلاة فيما يظهر صادقة. والصدق المُتوجه به هنا، إنما تُوجه به إلى الناس، وليس إلى الله، وهذه الصلاة لا إخلاص فيها. 

ولذلك يصح أن يُقال لو صدق الناس مع الله، في شأن الآخرة وشأن العبادة، عُشر – لا أريد أن أقول عُشر مُعيشير، إنما عُشر – ما يصدقون في طلب الدنيا، لكانوا على خير عظيم! إذن ما هو الصدق؟ ما الفرق بينه وبين الإخلاص؟ حتى لا نُعقد الموضوع، ولكي يبدو بسيطا ولائحا وواضحا – إخواني -؛ الإخلاص له علاقة بالتوجه. تتوجه لمَن؟ تتوجه لماذا؟ تعتبر مَن؟ تعتبر ماذا؟ تُريد مَن؟ تُريد ماذا؟ هذا الإخلاص! أُريد الله. هذا الإخلاص! أُريد الله. ثم بعد أن تُريد الله تبارك وتعالى، ليس بالضرورة أن تكون صادقا في عملك! تعمل عملا لله، أنت تُخلصه لله، لكنك لست رجل صدق في هذا العمل! لماذا؟ تعمل هذا العمل في الحدود الدُنيا!

ستقولون يا خيبتنا! فعلا يا خبيتنا! ويا خسارنا! إذن مُعظمنا لسنا صادقين حتى في الصلاة. نُصلي، ونُصلي ربما في جوف الليل، لا نتوجه إلا إلى الله وحده، الإخلاص موجود! لكننا نُصلي أي صلاة، صلاة سريعة، لا نُحسن قيامها ولا ترتيلها – أيها الإخوة – ولا خشوعها ولا…ولا…أبدا! صلاة سريعة! خمس دقائق، ثم ننفتل، ونعد أنفسنا صلينا صلاة، قُمنا من الليل! لسنا صادقين، هذه ليست صلاة الصادقين.

يذهب أحدهم، ينبعث مثلا مع الغُزاة، مع المُجاهدين، يُجاهد في سبيل، يُدافع عن وطنه وعن دينه، حسن! يطلب وجه الله تبارك وتعالى، وهو من العقل والذكاء، بحيث لا يُخاطر بمُهجته وبنفسه؛ لأنه قد يموت، الاحتمال قائم تماما، قد يموت! هو من العقل والذكاء والفطنة والزكانة، بحيث لا يُغامر بمُهجته وبنفسه، في سبيل ماذا؟ في سبيل الناس. إذن هو مُخلص، يفعل هذا لوجه الله. لكنه حين يُقاتل وحين يُدافع وحين يُصاول ويكر ويفر، يفعل هذا بشيء أقرب إلى الجُبن وإلى الهُزال وإلى الضعف، ويُريد من غيره أن يكفيه! ليس صادقا في القتال. مُخلص، لكنه ليس صادقا. فهمتم؟ هذا الفرق بين الصدق والإخلاص.

ولذلك يكثر في كلام السلف، في كلام الأصحاب – رضوان الله عليهم – والتابعين ومَن بعدهم؛ ما صدقنا في القتال أحد كفلان! قاتل قتال صدق! وذلك مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا *. قاتلوا قتال الصدق، ومضوا سعداء شهداء – رضوان الله عليهم -.

طبعا هذه الآية، فيما يقول أنس بن مالك – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، والحديث في الصحيح، نزلت في مَن؟ يقول كنا نرى أن هذه الآية نزلت في عمي أنس بن النضر – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -. وهو أخو مالك بن النضر، والد سيدنا أنس، ومالك قُتل في الجاهلية. قُتل في الجاهلية والد أنس، هذا عمه أنس بن النضر، أدرك الإسلام، وأسلم، وحسن إسلامه، وكان رجلا مُتقللا من الدنيا، زاهدا، مُنجمعا على نفسه، مُقبلا على آخرته. 

فلما انكشف الصحابة أو أكثرهم يوم أحد، لما انكشف الصحابة أو أكثرهم يوم أحد، قال أنس اللهم إني أبرأ إليك مما فعل هؤلاء – يُريد المُشركين، من هذه الهجمة الملعونة، على رسول الإسلام وعلى أصحابه وأتباعه -، وأعتذر إليك مما فعل هؤلاء – يُريد الصحابة، الذين انكشفوا، وأصاب الرسول صلوات ربي وتسليماته عليه وآله ما أصابه يومئذ. إذن اعتذر عما فعل أصحابه، وبرئ مما فعل أعداؤه. ثم أقبل يُقاتل قتالا لا يستطيعه أحد، حتى قضى شهيدا – رضيَ الله عنه وأرضاه -. يقول أنس ابن أخيه – نعم – فوجدنا فيه بضعة وثمانين ضربة! ما بين ضربة بسيف، أو رشقة سهم، أو طعنة برُمح! وما عرفته إلا أخته ببنانه. شُوه! قتله المُشركون وشوهوه! هذا الرجل صادق، هذا قتال الصدق. 

إذن الصدق كما يقول العارفون بالله – عرفني الله وإياكم وإياكن به ودلنا عليه دلالة العارفين الصادقين المُخلصين، اللهم آمين -، الصدق يا إخواني، يدخل في كل مقام الدين. لذلك صلاة صادقة، وصلاة غير صادقة، صوم صادق، صوم غير صادق، جهاد صادق، قتال صادق، خشية صادقة، رجاء صادق، توكل صادق، يقين صادق، إنابة صادقة، احتساب صادق. ويُقابله أضداده، يُقابل كل أولئكم أضدادها، من الكذب! خوف كاذب. 

هل تخاف من الله؟ نعم، أخاف من الله. تفتشه، خوف كاذب، ليس هذا عمل مَن يخاف الله. تحطب في حبل المعاصي، كبيرها وصغيرها، دون أن يطرف لك جفن، ثم تدّعي خشية الله! خشية كاذبة. تدّعي الخوف من الله! خوف كاذب. آخر يدّعي أنه يخاف الله، فإذا ما أُريد على ذنب، ولو ضؤل، اهتزت أركانه. خوف صادق، هذا الصادق في دعوى الخوف من الله تبارك وتعالى. والذي يُجود صلاته – أيها الإخوة – كما قلنا، ويُتم أركانها وخشوعها، هذا مُصل صادق، هذا صدق الله في صلاته. 

إذن يُمكن أن يُوجد الإخلاص، ولا يُوجد الصدق. ويُمكن أن يُوجد – أيها الإخوة – الصدق، في شأن دنيوي، فينفك عن الإخلاص لله! مُمكن! لكن الأمر التام الكامل – كملني الله وإياكم – هو ماذا؟ أن يجتمع الصدق إلى الإخلاص. ولا قيمة للصدق بغير إخلاص. مهما كنت صادقا في عملك الأُخروي العبادي أو التعبدي، من غير إخلاص، كان عملك في غير معمل، وضربك في غير مضرب، وسعيك هباء، كله غير مقبول، الله لا يقبل من الدين إلا ما كان خالصا مُخلصا له، لا إله إلا هو! إذن الإخلاص وحده أساس الأمر، لكنه لا يكفي وحده. مطلوب! وهو شرط النجاة كما قلنا، ولكن لا يكفي وحده. إخلاص بعمل غير صادق، عمل قليل، عمل مُزجى – أيها الإخوة -، صعب! 

لذلك الله تبارك وتعالى رد في باب الصدقة الآتي؛ حتى في الصدقة، يُطلب ماذا؟ الصدق. والعجيب أن اسمها ماذا؟ الصدقة! ولذلك هذه المسائل إذا فهمها الإنسان على وجهها، ماذا أقول لكم؟ أدرك عظم هذا الدين، وأدرك صدق هذا النبي الكريم. فهمه كله كان حقانيا، مؤسسا على روح القرآن. لماذا قال والصدقة بُرهان؟ لماذا لا تكون الصلاة بُرهان؟ إذا استمعت الآن إلى المُتكلمين، أو إذا طالعت كتابات الكاتبين، من علماء الدين، ترى أن المُراوحة والمُبادلة والمُرادفة بين الألفاظ على أشدها! هذا بُرهان، وهذا بُرهان! كلام كله فارغ. 

كلام النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – كلام صيرفي المعرفة الإلهية. كل لفظة في مكانها! ولذلك حتى في حديث دعاء المضجع – حين تأخذ مضجعك -، قال أستذكرهن ورسولك الذي أرسلت. قال فوخزني في صدري، قال لا، ونبيك الذي أرسلت. آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك – لا تقل ورسولك، أنا علمتك ونبيك – الذي أرسلت. عنده مقصد، النبي! وهو متأول للقرآن الكريم، يتأوله كما هو. لذلك النبي لم يجعل الصلاة أو الصوم بُرهانا، جعل ماذا بُرهانا؟ الصدقة. والصدقة بُرهان. أي الصدقة دليل، دليل إثبات! دليل إثبات ماذا؟ الإيمان. ولذلك من اسمها – اسمها الصدقة – تُصدّق إيمان صاحبها، تُصدّق وتُصادق على إيمان صاحبها. 

الله تبارك وتعالى في الصدقة أشار إلى أنه لا يقبل ما لا يكون صادقا من الصدقات. ستقول لي عجيب! وكيف تكون الصدقة صادقة؟ واضح. فكر فيها! تكون صدقتك صادقة، حين تتصدق بأنفس ما لديك، من أحب ما لديك. لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ  *، لَن تَنَالُوا الْبِرَّ *. انظر إلى القرآن. قال لك القرآن من تأليف محمد. محمد ماذا – عليه السلام -؟ محمد ماذا؟ هذه الآية من آل عمران، نعود كرا إلى الخلف، إلى البقرة. لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ *، الْبِرَّ * إذن. لَن تَنَالُوا الْبِرَّ – في آل عمران – حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ  *. هذا طريق البر، طريق تصديق دعوى البر وطلب البر! أنني أُريد أن أكون برا وبارا. هو هذا! حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ  *، شرط. في البقرة لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ *، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا *! صَدَقُوا * في ماذا؟ 

عجبت لساداتنا المُفسرين – روّح الله أرواحهم في عليين، ورضيَ الله عنهم -، حاشا نفرا قليلين جدا، منهم الآلوسي! مُعظمهم على الإطلاق، قالوا الذين صدقوا في دعوى الإيمان. مُمكن جدا جدا، والإيمان مذكور هنا، لكن ظاهر الآية، وترتيب الآية، ونظم الآية الكريم، يدل على أنهم الذين صدقوا في دعوى البر. كيف لا، ومُفتتح الآية لَّيْسَ الْبِرَّ *؟ ثم قال أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا *. في ماذا؟ في دعوى البر وطلب البر. ولذلك وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ – في آية البقرة – ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ *، عَلَى حُبِّهِ *! ولذلك هذا في البقرة! انظر، عجيب! هذه الآية تتصادق مع آية آل عمران! لَّيْسَ الْبِرَّ *. قال هذا البر! البر أن تُنفق مما تُحب. البر هنا يُصدّقه، بُرهانه **.. بُرهانه الصدقة، لكن بشرط أن تكون ماذا؟ صدقة صادقة. 

ما معنى هذا الشرط؟ ما فك هذا الشرط؟ أن تكون صادقة! لا تكون الصدقة صادقة، إلا إن كانت من نفائس المال، لا من رُذالته ودنيئه! أن تكون من نفائس المال ومحبوبه، لا من رُذالته ودنيئه، المزهود فيه. قال الله تبارك وتعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ – في البقرة – وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ *.

وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ *، أي لو أنتم أُعطيتم هذا المال الرذل، هذا المال السيء، المزهود فيه، لماذا؟ لأعرضتم عنه، ولما قبله منكم مَن قبله، إلا بإغضاء، إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ *! كأنه يُغضي عن رَذالته، وعن دونيته. فإذا كنتم أغنى عنه، فالله أغنى منكم عنه. انظر إلى الآية، مؤثرة! مَن يفهمها، يعلم أنها مؤثرة جدا! الله هنا يضعك أمام المرآة، يفضحك، يفضحك! يقول لك أنت أيها الفقير إلى رحمتي، غير المُستغني عن فضلي ونوالي، لا ترضى بمثل هذا المال المرذول، المزهود فيه، تقبله صدقة تبتغي بها وجهي؟ أما تعقل؟ أما تعقل؟ 

وهذه الآية من سورة البقرة نزلت، فيما يقول البراء بن عازب، في الأنصار. قال فينا نزلت. أي الأنصار. طبعا لا يُريد كل الأنصار، هذا عموم يُراد به ماذا؟ الخصوص. أي في بعض، في نفر منا. وإلا الأنصار أهل خير وأهل رضخ وأهل عطاء، أهل صدق! معروف! القرآن شهد لهم، والسُنة تواترت بهذا. فهذا من العموم الذي يُراد به الخصوص. لما نقول فينا، أي في بعضنا، في نفر منا، قليلين، أكيد! ماذا كانوا يفعلون؟ كانوا يأتون بصدقاتهم – هذا في الزكاة المفروضة -، يأتون بصدقاتهم من النخيل، فيأتي أحدهم بالقنو، يُعلقه في المسجد، هذه الصدقة! يُعلقه في المسجد. ظاهر القنو تمر ناضج أو رُطب طيب، ولكن في الداخل يكون فيه بُسر وشيص وحشف، وربما دسه فيه! أخذ بُسره، ودسه هنا، أي لكي تكتمل ماذا؟ الزنة. 

يقول وكان أهل الصُفة فقراء. يعيشون في صُفة مسجد رسول الله! كان أهل الصُفة فقراء، لا طعام لهم. فكان أحدهم إذا جاع، أتى فضرب القنو بعصاه، أتى فضرب القنو المُعلق في المسجد بعصاه! فنزل منه الحشف والبُسر والشيص، فأنزل الله تبارك وتعالى وَلاَ تَيَمَّمُواْ *، لا تقصدوا إلى، الْخَبِيثَ *، المرذول، المزهود فيه، الدنيء، مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ *. إذن هذه صدقة غير صادقة. تصدق، ولم يطلب بها إلا وجه الله، قطعا! هو لم يطلب بها أي شيء. ومثل هذه لا يُطلب بها وجه العباد! لا إله إلا الله! إذا كانت هذه أدنى من أن يُطلب بها وجه العباد؛ لأنها شيص وحشف، فكيف تطلب بها وجه الله؟ هنا يُوجد شيء أشبه بالجريمة، أليس كذلك؟ شيء مُخيف! أي نحن أحيانا يبدو أننا نُجرم في حق أنفسنا، من حيث نظن أننا ماذا؟ نتعبد ونتصدق. ألا أف لنا وأف، وأف لنا وتف! على الأقل مَن كان كذلك.

لذلك العبد الذي يُريد أن يمهد لنفسه، لا يتصدق إلا وهو صادق، فيُعطي من أنفس ما لديه، ومن أحسن ما لديه، كما كان يفعل أسلافنا، وفي رأسهم عبد الله بن عمر – رضيَ الله عنه وأرضاه -، كان مشهورا بهذا جدا! يأتي إلى أنفس ماله، فيُنفقه في سبيل الله. يأتي إلى أحسن جارية عنده، أجمل جارية، وأشب جارية، وأكثر جارية نفاسة، يُعتقها لوجه الله، أو إلى عبد، وهكذا! هو هذا! هذا التحدي، فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ *، هذا الذي يُريد الآخرة! هذا صدق إذن، هذا صدق في الصدقة. وأعتقد أنكم يُمكن أن تنسجوا على هذا المنوال، فتكتشفوا كيف يكون الصدق في الصلاة، وفي الصيام، وفي الجهاد، وفي الكلام، وفي العلم، وفي التعليم، وفي التذكير، وفي التذكر، وفي الخشوع، وفي التخشع، في كل شيء! في كل شيء!

الآن نعود إلى التأصيل خطوة فخطوة – إن شاء الله تبارك وتعالى -. والآن أعتقد أننا أصبحنا – إن شاء الله – مُتمكنين من الميز بين موارد الصدق وموارد الإخلاص. حين نزلت خُطبة الإخلاص – أسأل الله أن يتقبلها بأحسن قبول، وأن يغفر لنا تقصيرنا فيها -، بعث لي أحد أهل العلم، من الأفاضل، من أحبابي، من كردستان العراق، وهو من تلاميذ العلّامة الشيخ المُفتي مولانا عبد الكريم المُدرس – قدس الله سره العزيز -، بعث لي، قال لي أي فلان، أُريد أن أقص عليك هذه القصة، التي اتفقت لشيخي عبد الكريم – قدس الله سره الكريم، هذا الرجل الصالح والعلّامة الكبير -. وكتب لي القصة!

القصة أن الشيخ عبد الكريم كان في بغداد طبعا، ويُفتي الناس، مُفتي العراق! ولكن كان ينزل إلى بلاده ومضاربه في كردستان، فيأتي إلى بلدة حلبجة، المعروفة للجميع طبعا؛ بحُكم النكبة التي نُكبت بها بالكيميائي. فيأتي إلى حبلجة أحيانا، وهناك كان يُوجد رجل من صالحي تلاميذه، ومن خلصان أحبابه، الذين صدقوا في حُب الشيخ، اسمه الميرزا فلان. فمهما أتى وكلما أتى الشيخ عبد الكريم، أحسن وفادته واستقباله، وأظهر الفرح والسرور، وقدم له ومَن معه طبعا من خاصة أيضا مُصاحبيه ومُرافقيه أطايب الطعام والشراب.

وذات مرة حدث شيء غريب، انكسرت به هذه العادة الحميدة! جاء مولانا الشيخ عبد الكريم – قدس الله سره -، ومعه نفر كثيرون من مشاهير العلماء ونُبلائهم، علماء وعمائم وناس أصحاب فضل في المرة هذه، ليسوا مُجرد مُرافقين مُصاحبين! وأرسل إلى الميرزا، يقول له إنني سآتي ومعي ثُلة من أفاضل العلماء ونُبلائهم. وفعلا رحّب بهم، وأحسن وفادتهم، لكن لما قُدم الطعام، *كان الطعام في الحد الأدنى، أشبه بطعام الفقراء المُعدمين. نوع من الحساء هكذا، ربما حساء عدس أو كذا، مع خُبز بسيط، ومشروب! لا يُوجد لحم، لا تُوجد مشاو، لا يُوجد أي شيء، لا يُوجد ثريد! طعام الفقراء! الشيخ عبد الكريم استغرب! فطبعا اهتم الشيخ عبد الكريم، وهذا حال الصالحين، انتبهوا! الصالحون شيء من أجمل ما يكون! شيء لا يُتخيل! اللهم أصلحنا بما أصلحت به الصالحين.

انظروا، ردة فعل الصالح الآن، تعرفون كيف تكون؟ مُستحيل أن تكون كردة فعل أي منا. ردة فعل أي منا؛ يا ويحه! لِمَ فعل هذا؟ سوّد وجهي؟ بيّض الله وجهي، لكن سوّد وجهي، أمام رفقائي من العلماء، لِمَ فعل هذا؟ أتُراه تغير علي؟ أتراه تشوش خاطره علي؛ بسبب وشاية أو ضغينة أو سعاية؟ هكذا نُفكر! ندور حول أنفسنا، نحن أنانيون، نحن صغار، غير ناضجين! الصالحون ناضجون. 

ولا يُمكن أن تنضج – خُذ هذا من أخيك الصغير -، لا يُمكن أن تنضج حقيقة، إلا بقدر معرفتك بالله. مَن عرف الله أكثر، واقترب من الله أكثر، فهو الأنضج! بالله قد يكون امرأ أُميا، امرأ أُميا لا يفك الخط، ويكون أنضج من أكبر عالم على وجه الأرض! بفضل ماذا؟ قُربه من الله تبارك وتعالى، فنائه في الله. لماذا؟ لأن الله أكبر من كل كبير، الله أكبر! مهما كنت له، وكنت به، وكنت معه، لا إله إلا هو! كبرت ماذا؟ مقاصدك! كبرت مقاصدك، كبرت مداركك، كبرت غاياتك! تكون كبيرا، ناضجا! والعكس صحيح! في الحالة الثانية، تكون ماذا؟ صغيرا، أنانيا، أثريا، تدور حول نفسك، تُفسر كل شيء بنفسك والموقف من نفسك! لعله…لعله….

لا! الشيخ عبد الكريم مُباشرة قال لك نعم، لا بُد أن أسأل وأستفصل؛ لأن الرجل قد يكون نابه من الزمان نوب. قد يكون دهته داهية، أفقرته! فإذن لا بُد الآن أن أقوم بدوري، هذا تلميذي وحبيبي وابني. هكذا يُفكر الصالحون! ليس أكثر من هكذا. ولذلك حين استأذنوا بالانصراف، وانصرفوا، خلا الشيخ عبد الكريم بتلميذه الميرزا، وقال له يا ابني، هل هناك شيء؟ هل هناك خطب؟ أي يظن أنه افتقر. قال لا والله يا سيدي، بفضل الله وضعي مُمتاز، والحال طيبة. 

لا حول ولا قوة إلا بالله! قبل أن أحكي لكم لماذا، هذا هو التعليم، هذا هو الدين، هذه هي التربية (التي لا نعرفها، التي لا نتعلمها، التي لا يُنص عليها ليل نهار في الدروس والمواقع والمواعظ والمنابر). نحن نُضيع ديننا دون أن ندري يا إخواني، نحن نأخذ دينا زائفا دون أن ندري. لذلك لا بركة لهذا التدين فينا! أليس كذلك؟ لا بركة، لا آثار حقيقية، حتى على مُستوى الفرد، أن يجد نفسه أقرب حقا إلى الله، سنة بعد سنة، شهرا بعد شهر، لا يجد! لأن التدين زائف. انظروا إلى التدين الصحيح؛ الميرزا قال له يا سيدي كل مرة كنت تُشرفني فيها بزيارتك لي، كنت أفعل هذا لوجه الله تبارك وتعالى. هذه المرة، لما بلغني مُبكرا، أن في صُحبتك، أو أن بصُحبتك، رجالا علماء نُبلاء، مِمَن لا أعرفهم طبعا ربما جميعهم، لم تستقم نيتي. 

نيتي ذهبت في البداية أنني سأعد هذه المرة ما لم أُعد مثله من أطايب الطعام وفاخره من قبل! من أجل ماذا؟ العلماء الجُدد هؤلاء. قال ثم انتبهت، التفت إلى نيتي. إذن أنا لا أفعل هذا لوجه الله، كما كنت أفعله في كل مرة. أنا أفعله من أجل ماذا؟ أن يرى هؤلاء العلماء، وأن أرفع رأس شيخي. لا! فُعدت مُباشرة – قال – إلى تأديب نفسي، ولم أُقدم لكم يا سيدي إلا ما جادت به النفس لله عز وجل. رحم الله هذا الكردي العارف. هذا الميرزا عارف بالله أيضا، تلميذ العارف الكبير الشيخ المُدرس. رحم الله هؤلاء العارفين الذين أقاموا على أبواب نفوسهم، على تخوم نفوسهم، يحرسونها من تلصص الشياطين، شياطين الشهوات والأهواء، ومن كل ما يُخرب ومن كل ما يُبطل سر الصدق والإخلاص.

لكن لماذا أتيت بهذه القصة؟ هل هذه القصة في الصدق، أم في الإخلاص؟ عليكم الآن أن تُجيبوا؛ هذه في الصدق، أم في الإخلاص؟ لا، هي في الإخلاص. هذه ليست في الصدق، هذه في الإخلاص. انتبهوا، الآن لو تم شرط الإخلاص للميرزا – رحمة الله تعالى عليه، حيا أو ميتا، لا أدري هل قضى أم لا يزال في قيد الحياة -، لو تم له شرط الإخلاص، ينقصه ماذا؟ الصدق. بعد ذلك، عليه ماذا؟ أن يستفرغ وسعه في تحضير مأدبة مُمتازة – بإذن الله -، يُريد بها وجه الله. فيكون جمع ماذا؟ الصدق إلى الإخلاص. أخلص في ماذا؟ فيما يُقدم. وصدق أيضا! 

تستنصح أخاك! وأنا سأحكي شيئا مثلا يكون أقرب إلى الواقع الذي قد يتفق لكل منا في كل مرحلة ربما من عمره! أنت الآن في مرحلة، ابنك، بكرك، كبر، وتُريد أن تُزوجه. وبحمد الله في الحي أو في المكان رجل معروف بالصلاح والورع والتُقى وحُسن التربية والتهذيب لبناته، وعنده بنت معروف عنها تقواها وورعها وصدقها وربما حفظها لكتاب الله، آية من آيات الله! وأنت كان في بالك وبال زوجك أن تخطبوها لابنك، بكرك! لكنك لما تفعل. كنت ستفعل! قبل أن تفعل، أتاك أخوك في الله، أخ لك؛ جار، صديق، معرفة، من المسجد، من الشارع، من الحي. قال لك يا أبا فلان، اليوم نحن أخذنا موعدا عند آل فلان، ورحبوا بنا، سنذهب إليهم. تقول له إن شاء الله خير، إن شاء الله خير! لا والله أبدا، كله خير إن شاء الله، أُريد أن أخطب ابنتهم فلانة المعروفة بحُسن الأحدوثة إلى ابني فلان، فما رأيك؟ 

انتبه الآن! فما رأيك؟ أنت الآن في موقف أعتقد لا يتعلق بالإخلاص، يتعلق بماذا؟ بالصدق. إن نصحت له، وقلت له والله لا بأس يا أخي، لم نسمع إلا خيرا! لم تصدق. أنت لم تصدق؛ لأن هذا لا يُساوي تقييمك الواقعي لآل فلان وبنت فلان. لكن إن قلت له ما شاء الله! فلانة بنت فلان، التي من شأنها كذا وكذاك؟ يقول لك نعم. قل له ما شاء الله! تبارك الله! على مبلغ علمي من الصعب جدا جدا جدا أن نقع على مثلها، ليس في الحي، ربما في البلد كلها! فأسأل الله، إن كتب الله لكم التوفيق، كذا وكذا.

الله! هنا أنت صادق، هذا هو الصدق. ووالله، ثم والله، ثم والله، لو كانت مكتوبة لابنك، لن تذهب إلا إلى ابنك. كُن صادقا، واعتمد على الله. اصدق في نُصحك لأخيك، اصدق في كلامك. هذا اسمه الصدق، وعكسه اسمه ماذا؟ الكذب. استنصحني، فنصحت له! نعم نصحت، ولكنك لم تصدق. طبعا لم تكذب بمعنى ماذا؟ أنك قلبت الأمر! لكن لم تبلغ من الصدق مبلغه على الأقل في الحدود المقبولة، كنت حتى تحت الحد الأدنى! لا بأس، الحمد لله، لا نعرف إلا خيرا. كذب هذا، هذا أقرب إلى الكذب. هو صدق وأقرب إلى الكذب! فهمتم كيف يا إخواني؟ هذا هو الصدق.

أنا الآن أتكلم هنا، في موقف محنة، والله! يعلم الله، في موقف محنة! ليس هذا اليوم، كل مرة! لماذا؟ حين آتي أتكلم، ما الذي أُريده بكلامي؟ وهذا ليس كلامي أنا، كلام كل مُتكلم، كل مُذكر، كل واعظ، كل مُعلم، كل…كل…كل واحد يكون في موقفي، سواء كتب أو قال، هو في موقع محنة، حتى الكتابة! حتى الكتابة تتركها من ورائك، وربما تعيش مئات السنين! محنة، والله العظيم! وستُسأل عنها. ما الذي أردته وتُريده بكلامك؟ بعض الناس شرط الإخلاص غير مُتوفر عنده، يُريد ماذا؟ يُريد الممدحة، المحمدة، مدح الناس، كلام الناس. بعضهم يُريد الامتياز! أنني عالم كبير، أنا منطيق فصيح مُبين لوذعي. ما شاء الله! مُعجب بنفسه، تخيل! 

بعضهم يُريد التعريض. يأتي بموضوع، ركبه واختاره وانتخبه؛ لكي يُعرض ببعض رواد المسجد، مِمَن آذوه، ربما بتعليق على الفيسبوك Facebook أو تويتر Twitter، فيُريد الآن أن يؤدبهم، دون أن يُصرح! والكلام كله هو يعلمه، والله يعلم، وربما الذي يُعير ويُشمت به بهذا الكلام يستشعر هذا، يقول كأنه يُريدني! كأنه! ما هذا؟ ما هذا؟ هذا كله قتل، ذبح، سفك لدم الإخلاص. لا يُوجد إخلاص! أنت الآن تقف هنا مُشركا. تعبد ماذا؟ اللات وعُزى؟ تعبد نفسك، قبل أن تعبد الله. على منبر رسول الله، تُذكر الناس، وتقول قال الله وقال الرسول، وتستخدم قال الله وقال الرسول؛ لكي ماذا؟ تُصفي حسابات شخصية. أنت تدعو إلى نفسك، أنت تُعبّد الناس لنفسك، أن تؤله نفسك، دون أن تدري! أنت مُجرم، لست عالما ولا شيخا.

ستقول لي يا رجل حنانيك! اربع علينا! ارفق بنا! هذا تعتبره شركا وكذا؟ فما بالك بمَن يُصرح ويذكر الناس بأسمائهم، يقول الخبيث فلان الفلاني، الكاذب الزنديق كذا، فعل الله به كذا؟ أقول لك دعك من هؤلاء، طريق هؤلاء أقصر طريق إلى جهنم، وإن طالت لحاهم، وتكورت عمائهم، وعظمت ألقابهم واستطالت، دعك من هذا! خُذها من أخيك الصغير، هذا طريق جهنم، ليس طريق الدين، هذا ليس طريق الله والرسول، انس! نحن نتحدث عما يخصنا وعما يعترضنا في كل حين، في كل ساعة. ستقول لي إذن هذا ليس وقفا على إمام يعتلي منبرا؟ طبعا، هذا أيضا يعمك حين تجلس في بيتك، وتُكلم أولادك، وتُكلم أصدقاءك، وتُكلم صاحبك وجارك. دائما الله عند قلب كل امرئ، وقبل – قبله أيضا – كل امرئ ولسانه، عند قلب كل امرئ ولسانه.

ولذلك يا أحبابي هناك سؤال كبير، طرحه الأسلاف الصالحون، وجوابه كان واضحا لديهم، إلا أننا لم نفهم لا السؤال ولا الجواب! ما بال علم الأسلاف الصالحين، كان على وجازته، كثير النفع، عظيم البركة، بعيد التأثير فيمَن يسمعه؟ تعرفون، بعيد التأثير يا إخواني، حتى على بُعد ألف ومئتي سنة! تقرأه لهؤلاء الصالحين الآن، بعد ألف ومئتي سنة على موتهم، تهتز أركانك، وتحدث لك إنابة إلى الله. وقد تكون كلمات قصيرة، كلمات قصارا؛ أربع، خمس كلمات، وتمشي! تتأثر تأثرا غير طبيعي! لماذا؟ لأنها كانت كلمات نابعة من ماذا؟ من معين الصدق. أخلصوا فيها لله، وفيها صدق حقيقي.

عمر بن الخطاب، هذا رجل الصدق، هذا أيقونة من أيقونات الصدقات في هذه الأمة – رضوان الله تعالى عليه -، معروف عمر بن الخطاب! في مجلس، يجلس ويقع الآتي؛ يقول جُبير بن النُفير كنا في مجلس، ضم عمر في خلافته، وجماعة من المسلمين، وجهائهم! فقال بعضهم والله ما رأينا مثل أمير المؤمنين، شدة على المُنافقين، وقياما بالحق، وصدعا بأمر الله تبارك وتعالى، وقسطا وعدلا. 

فقام عوف بن مالك، فقال لا، قد رأينا. غير صحيح! أنتم تقولون عمر أحسن واحد؟ غير صحيح، عمر ليس أحسن واحد. فعمر فرح، قال مَن؟ أنت تقول رأينا! مَن؟ قال أبو بكر الصديق. قال صدقت وكذبوا. انظر الصدق! صدقت يا عوف. هؤلاء كذبة – قال له -، يُجاملونني، كذابون. صدقت وكذبوا، فقد كان أبو بكر الصديق أطيب من ريح المسك، وأنا أضل من بعير أهلي. الله أكبر! هل هذه يقولها إلا صادق؟ أمير المؤمنين، إمبراطور، يحكم حوالي عشرين دولة! ليس دولة على فكرة، ولا الشام، ولا مصر! أكثر من عشرين دولة في حُكمه. طبعا يمشي في الشوارع – معروف -، بيده الدرة، ويلبس ممُرقعة، سبع عشرة رُقعة! وقال لك نحن نُمثل الإسلام، نحن مسلمون، نحن نُريد كذا. إسلام ماذا؟ نحن مساكين، نحن ضياع، نحن تائهون، وبصراحة ونحن كاذبون، حاشا الصادقين فينا، كثّر الله فينا الصادقين. نحن قوم كذبة، نكذب على أنفسنا وعلى الله وعلى كل شيء! هذا عمر! قال له صدقت وكذبوا، لقد كان أبو بكر أطيب من ريح المسك، وأنا أضل من بعير أهلي. أنا – قال له – مُتخبط، أنا ضال، أنا! وضال أنت يا عمر؟ أي ماذا نقول نحن؟ 

الإمام أحمد، حدثتكم عنه في خُطبة الإخلاص، في درس الإخلاص بعد الخُطبة.  كم، كم يؤثر هذا في الإنسان! هذا أحد أئمة المسلمين – رضوان الله تعالى عليه -، أبو عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني! الإمام أحمد يسأله رجل، ولا أحد كما يُقال لزه أو اضطره أن يقول هذا، سأله مسألة فيها نوع من الاستفصال عن دقائق الورع، مسألة في الورع! ترك ما لا بأس به، مخافة الوقوع مما به بأس. هذا الورع! فقال له تسألني أنا؟ أستغفر الله، أستغفر الله! ليس مثلي مَن يُسأل عن الورع. لست أنا مَن يُسأل عن الورع! أنا ورع أصلا؛ لكي تسألني عن الورع؟ ستقول لي يا ويلنا! اليوم يكون أحدنا من أكذب عباد الله، لا يتورع حتى عن كبائر الذنوب، مُمكن يتكلم معك نصف ساعة في دقائق الورع! هذا هو الكذب الذي نعيشه! ولذلك لا بركة في كلامنا، تسمع الكلام الذي هو بحد ذاته خير، تسمعه! فإذا سمعته، زاد قلبك قسوة، الله! وزدت من الله بُعدا. لماذا؟ لأن القائل كاذب، وأنت كاذب أيضا في مُجاملتك إياه! ما شاء الله، فتح الله عليك يا مولانا، والله لقد أفدتمونا. لا أفادك، هو قسّى قلبك؛ لأنه كاذب، وأنت تكذب أيضا. 

الحسن البِصري كان في مثل هذا الموقف في يوم من الأيام، واستمع إلى خطيب، وجعل بعض الناس يتباكون! هناك ناس عندها القدرة! قال لك المُنافق يملك عينيه، والمؤمن لا يملك عينيه. المؤمن، إن رزق الله الخشوع، خشع، إن لم يرزق، لا يتظاهر، لا! مُستحيل، يكذب؟ مُستحيل، هو يخاف من هذا. هو أصلا يخاف أن يُفتضح بخشوعه أو كذا، الذي لا يراه خشوعا أصلا، لا يراه خشوعا! أما المُنافق، فيملك عينيه، متى شاء بكى. فجعلوا يتباكون! الحسن البِصري، أبو سعيد، إمام الإسلام، إمام الزاهدين والصادقين في وقته، لم يخشع ولم يتأثر، هناك شيء، هناك حجاب غليظ! وبعد أن انتهي الإمام، انتحى به ناحية، وقال له يا أخي، إما أن في قلبك شيئا، أو في قلبي أنا شيء. واحد فينا معطوب؛ إما أنا معطوب، قلبي لا يستقبل الموعظة، وإما أنت يُوجد عندك شيء في قلبك غير سليم. كلامك لا أثر له في! لم يُحرك في شعرة! أليس كذلك؟

الكلام الصادق على فكرة يقشعر له البدن أحيانا، تنفجر العين بالدموع في لحظة؛ لأنه صادق، يبدهك بصدقه! والكلام الكاذب، مهما كان مُزوقا مُزخرفا، ومهما اجتُلب إليه وحُشر إليه من الآيات والأحاديث والأقاصيص والحكايا والأشعار الزُهدية، لا يُحرك شيئا! كما قلت لكم بل لعله يُقسّي القلب، يزيد القلب قسوة. نسأل الله العافية، هذه داهية كبيرة! أليس كذلك؟

قال مثلي يُسأل؟ أستغفر الله، أستغفر الله! أنا أكلت من غلة بغداد. لو كان مثل بشر بن الحارث – الحافي! الآن أدمنا سماع هذا الاسم الكريم! لو كان مثل بشر -، يصح أن يُسأل عن الورع. بشر لم يأكل من غلة بغداد، ولا من غلة السواد! البصرة والكوفة وما حولها. لم يأكل! لم يأكل؛ لأنها أراض جرى عليها ماذا؟ لون غصب. فكان لا يستحل أن يأكل منها، وبحُر ماله! ولذلك بشر هذا قال لي أربعون سنة – أو قال أكثر -، في شواء، أشتهيه، لم يصح لي درهمه.

وحدثت إخواني في الدرس، لكن لم يكن في خُطبة، وهذا حقيق أن يُعاد؛ لأنه مؤثر وطيب جدا! بشر بن الحارث هذا، كان له أخت. وما شاء الله أخت بشر! كيف ستكون؟ المُهم، الإمام أحمد في مجلسه يوما في بغداد – رضوان الله عليه -، تأتيه امرأة مُقنعة، تُلقي عليه التحية، تقول له يا مولانا، يا إمامنا، يا شيخنا، أنا امرأة أتكسب من الغزل – تغزل بيديها -، وفي الليل أجلس على سطح داري، فربما مر شُرطة؛ شُرطة البلد. الذين هم شُرطة العباسيين طبعا، الحُكم الظالم! كان هناك ظلم، الناس يعرفون ذلك، وأحمد أحد ضحايا هذا الظلم طبعا، معروف! في فتنة أحمد. 

فيحملون المشاعل، المصابيح، معهم! أأنسج على ضوء مصابيحهم، أم فيها شُبهة؟ الله! الله! كيف؟ ومن أين أتت الشُبهة يا أختي؟ نعم! لأن هؤلاء جنود ظلمة. هذه المصابيح ربما صُنعت من أموال الناس المأخوذة ظلما من الناس. الزيت الذي يُستصبح به ويُوقد به المصباح ربما أُخذ من أموال الناس غصبا وظلما. إذن فيه شُبهة، فيه شُبهة! أنا أستفيد من ضوء هذا المصباح. الله! الله! الله! الله! الله! أحمد حين بدهته بهذا السؤال، قبل أن يُجيب، قال مَن أنتِ يا أختي؟ ما هذا؟ هناك نساء هكذا في المسلمين؟ انظر كيف كان المسلمون، ما شاء الله! أحيا الله في المسلمات أمثال هذه السيدة الجليلة، قدس الله سرها الكريم. قال مَن أنتِ يا أختاه؟ قالت له أنا فلانة أخت بشر بن الحارث الحافي. قال آه. تأوه، تألم! قال آه، لله دركم يا آل بشر! في رواية – وفي روايات كثيرة – من بيتكم يخرج الورع الصادق. لا تنسجي يا أختاه. فتواي؛ لا تنسجي. لا! لما يأتي الشُرطي، وقفي النسيج؛ حتى لا يكون شُبهة في مأكلك. الله، الله، الله، الله، الله، الله، الله، الله، الله، الله، الله! 

نحن هنا، الآن في المسجد، قد يكون بعضنا – وإن شاء الله لا يكون -، أكل على أخيه مئات ألوف، عشرات ألوف، اليوروات، الدولارات! وعنده استعداد أن يُقسم على المُصحف، أن أخاه ليس له الحق فيها، وهذه حقي أنا! وهذه تتورع عن أن تنسج على ضوء مصابيح ظلمة! يدخل هذا في النسيج، في ثمن النسيج، تأتي مُشكلة كبيرة، على الإيمان، على القلب، على صحة النُطفة، على الذُرية! وقال لك من أين البلاء الذي نحن فيه هذا؟ نحن مساكين كما قلت لكم! هذا دين يا إخواني، هذا ليس فلسفة. لا يُوجد فيلسوف في العالم يفهم هذه الأشياء، وليس له علاقة بها. هذا دين رباني، هذا شرع محمد، هذه روح محمد. 

هذا للذين يتكلمون عن محمد، ويُشككون في محمد! هذا لكي تفهم مَن هو محمد، الذي من الواضح أنك لا تفهم عنه أي شيء، أنت لا تعرف عنه شيئا! هذه هي الروح، بعض الروح، التي بثها محمد في أمته – صلوات ربي وسلاماته إلى أبد الآبدين، على محمد وآل محمد -، هذه هي الروح، هذه أمة محمد، هؤلاء تلاميذ محمد، هؤلاء أبناء وبنات محمد. ما عرفنا الدين، لذلك زهدنا فيه! والآن أولادنا يكفرون ويُلحدون؛ لأنهم ما عرفوه، ما رأوه فينا! لو رأى ابنك أو ابنتك مثل هذا الدين، قريبا منه، ولو من وراء وراء، فيك، لتعشق هذا الدين، لأدرك أن هذا الذين وصفة لا مثيل لها، ولا عوض منها، ولا خلف! لا يُمكن أن يُعوضه منها شيء آخر. أرأيتم؟ هذا هو الورع الصادق إخوتي، هذا هو الورع الصادق!

إذن نعود، نؤصل المسألة كما قلنا؛ الصدق، الصدق لُغة أصلا ما هو؟ كما قال أبو الحسين بن فارس في مقاييسه – رحمة الله تعالى عليه -، قال الصاد والدال والقاف أصل يدل على قوة في الشيء. ولذلك يُقال رُمح صَدْق. رُمح صَدْق، وهو الرُمح القوي، وقيل المُستوي. وإذا كان مُستويا، فيكون قويا طبعا، بلا شك! ورجل صَدْق، ومُجاهد صَدْق. إذا كان ماذا؟ قويا صُلبا، لا يتتعتع، ولا يجبن، ولا يتراجع، صُلب، صُلب كالرمح. يُقال صَدْق. رجل صَدْق، مُجاهد صَدْق. وهو ذو نظر صَدْق. ذو رأي، ذو فكر صَدْق، ذو سلوك صَدْق. الصَدْق هو القوة.

إذن هذا الصِدق، وهو مواطأة الخبر المُخبر عنه، أليس كذلك؟ والأصل في الصدق أن يكون في ماذا؟ في الأخبار. ولا يكون في الإنشاءات، مثل التمني والسؤال والترجي والتعجب، إلى آخره! إلا ماذا؟ إلا بالعرض، ومجازا، بطريق التضمين. فأنت حين تقول حضر فلان الفلاني. إما أن تكون صادقا، إذا حضر، أو تكون كاذبا، إذا لم يكن حضر! فتكون زيفت الخبر، أليس كذلك؟ انتصرت مثلا البلدة الفلانية على البلدة الفلانية في الحرب. إن كان وقع النصر، فأنت صادق، إن لم يقع، فأنت كاذب. هذا الأصل! لكن أعطني، هل مُمكن أن يكون موردا للصدق؟ نعم، طبعا، مع أن الأصل لا. كيف إذن؟ لأن قولي لك أعطني يتضمن أنني مُحتاج، فكأنني قلت بأعطني أنا مُحتاج، فأعطني. إن كنت مُحتاجا، فقد صدقت، وإن كنت غير مُحتاج، فأنا كاذب في قولي ماذا؟ أعطني. إن قلت لك ما أجمل حديثك! ما أجمل حديثك! هذا ماذا؟ يُساوي ماذا؟ يُعادل ماذا؟ حديثك جميل. إن كنت صادقا وأعتقد بهذا، فأنا صادق، وإن كنت كاذبا وأرى أن حديثك ليس بجميل ولا طيب، فأنا كاذب في قولي ما أجمل! صيغة ماذا؟ تعجب. وقل مثل هذا في كل الإنشاءات. فالأصل في الصدق أن يكون في الأخبار، الأصل في الصدق أن يكون في الأخبار!

ستقول لي هذا له علاقة بالصدق الديني؟ وعلاقة مبدئية وأولية! لأن الصدق كما نقلنا عن إمامنا حُجة الإسلام الغزّالي له موارد ستة، ولا أُعيد ذكرها، وربما اضطر إلى ذلك، لكن يُمكن اختزالها إلى ثلاثة، أو إلى أربعة؛ صدق النية، صدق القول، صدق الفعال. النية، والقول، والفعال! والفعال تكون بالجوارح، والنية تكون بالجوانح، أليس كذلك؟ إذن هو صدق جوانحي، وصدق جوارحي. الذي صدق الله في قتاله، صدق ماذا؟ صدقا ماذا؟ جوارحيا! بجوارحه، بعمله! واضح؟ والصدق قد يكون بالنية أيضا، قد يكون بالنية، وهذه أساسه، أساسه!

ستقول لي صدق النية كيف إذن؟ هذه هي! مُشكلة صعبة! صدق النية كيف؟ النية هي موضوع الإخلاص، هي آلة الإخلاص، المورد الأصلي الأساسي للإخلاص. هل يُمكن أن أكون صادقا في إخلاصي؟ كما قلنا الإخلاص لا يُتعمّل ولا يُقرر ولا يأتي بالاستدعاء. الإخلاص يُخلص إليه بمُقدماته، كما شرحنا في خُطبة الإخلاص! لكن يُمكن أن تكون صادقا في إرادتك الإخلاص! أنك تُحب أن تكون مُخلصا. يُمكن أن تكون صادقا، ويُمكن أن يكون البعيد الأبعد ماذا؟ كاذبا. أي واحد يقول لك والله أنا أورث من نفسي أنني غير مُخلص، علمني يا مولاي، ذكروني يا أهل العلم والعرفان، كيف نُخلص؟ وكل كلامه هذا كذب. ليس عنده إرادة حقيقية، أن يكون كذلك.

تعرفون مثل ماذا؟ مثل مَن يقول اللهم ارزقنا ميتة في سبيلك، شهادة. وفي الداخل يقول لا يا ربي، شهادة لا، أنا أُريد أن أموت على فراشي. شهادة؛ أموت وأُفجر وأُطخ وأُقطع؟ لا أُريد. فلماذا تدعو بالشهادة؟ يدعو كاذبا. اللهم ارزقني الشهادة! وبعد ذلك يقول اللهم لا آمين، اللهم لا آمين. لا يُريد! أهبل، هناك ناس حمقان، هناك ناس حمقى هكذا، والله العظيم! يقول لك لا، الشهادة فيها تفجير وموت وقتل، أحسن شيء أن أموت وأنا مُكتمل البنية، كما أنا هكذا، على فراشي. من شدة استكمال حُمقه، والله العظيم! فيدعو وهو كاذب، يدعو وهو كاذب! واضح؟

الذي يُريد أن يستيقظ إلى صلاة الفجر، ويُبدي لك التألم، أنه لم يستيقظ إلى صلاة الفجر، قد يكون صادقا في ألمه هذا، وقد يكون كاذبا. قد يكون صادقا في إرادته الاستيقاظ، وقد يكون كاذبا في إرادته، في نيته. انظر إلى الكذب في النية! كيف إذن؟ القرآن دلنا على المفتاح، مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ *، قال وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَٰكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلالَكُمْ *! لأن مُخرجهم مُخرج كذب. قال تعالى وَقُل رَّبِّ *، ماذا؟ وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا *، لا إله إلا الله! مُخرج صدق ومُخرج كذب، مُدخل صدق ومُدخل كذب. لو خرج هؤلاء الكاذبون فيكم، سيكون مُخرجهم ماذا؟ مُخرج كذب. إذن فكان ماذا؟ مُخرج الكذب يترتب عليه الخذلان والتعثر وعدم التوفيق والإسعاد. أرأيتم؟ خطير!

لذلك حتى أنت الآن، حين تُريد في بيتك مثلا أو حتى في مسجدك، أن تُصلي طبعا، انظر إمامك، انظر قرينك في الصلاة، انظر! أو في الشارع، أو في أي مكان! تُريد أن تُصلي! انظر مَن الذي تُريد أن يُصلي بك، أو تُصلي به، أو يُصلي معك. إن كان يغلب على ظنك أنه من أهل الدنيا ومن أهل الكذب والافتعال، فإياك! يُفسد عليك الجو كله، ابتعد. اذهب إلى مَن تراه أفضل منك وأقرب إلى الله منك، صل بصلاته، أفضل! اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ *. لماذا؟ لأن مُدخل هذا إلى الصلاة مُدخل صدق. يترتب عليه التوفيق، لا الخذلان، والإسعاد، والإمداد، والعطاء. تكون صلاة – ما شاء الله – مُميزة! لكن هناك مُدخل كذب لآخر، يأتي يُريد أن يستعرض أشياء أُخرى، يُريد أن يستعرض حفظه أو صوته أو تقدمه على غيره أو امتيازه على غيره أو أنه أحق من فلان بالإمامة، يتدافعون! والنبي حذر من هذا، من علامات الساعة! يصير هناك اقتتال على مَن يُصلي؛ أنا! لا! والعياذ بالله. صلاة كلها هباء، خلك من هذه الصلاة، لا تحتاجها. صل بغيرهم، ومع غيرهم. اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ *؛ لأن كونك مَعَ الصَّادِقِينَ * يُنشط فيك إرادة ماذا؟ الصدق.

كيف إذن نعرف؟ نعم، أنا أقول لكم كيف نعرف، لكن سأحكي هذه القصة لعالم مُعاصر، جميلة ومؤثرة! عالم الجزائر في وقته، وواعظ الجزائر، وأديب وشاعر كبير! الشيخ أحمد سحنون – رحمة الله تعالى عليه، رحمة الله على الشيخ أحمد سحنون -. وأبوه كان من الناس الصالحين المُتعبدين الصادقين، والشيخ سحنون له ديوان شعر – رحمة الله تعالى عليه -.

الشيخ سحنون – ما شاء الله -، يعرف طبعا تلاميذه أنه كان رجلا من أهل الصدق، ويعرف تلاميذه أنه كان قليل الحديث جدا عن نفسه وعن مزاياه. الشيخ سحنون لم تفته صلاة قيام الليل في حياته مرة! حتى وهو في السجن! لماذا؟ ما هذا التوفيق العجيب؟ اللهم وفقنا يا رب ولا تخذلنا. قال لك تأثرا بوالدي. كنت تقريبا في نحو الثالثة عشرة من عمري، فاستيقظت ذات ليلة. والشيخ سحنون يتيم طبعا، أي توفيت أمه وهو صغير، ابن بضع سنوات، فرباه أبوه وانقطع له تهذيبا وتربية وتعليما، وكان جم الشفقة والحنان عليه! علاقة خاصة بينهما – ما شاء الله -! نعم الأب ونعم الابن – رضيَ الله عنهما -! 

فقال استيقظت ذات ليلة على سيدي الوالد – يُسمونه سيدي هناك، يقول له سيدي، يقول لأبيه! على سيدي الوالد -، فإذا به يبكي. في جوف الليل، يبكي بكاء مُرا! قال فارتعت، وقلت له يا سيدي، ما بك يا سيدي؟ ما بك؟ قال لا يا بُني، فاتتني الركعات! فاتتني الركعات! ما الركعات؟ قيام الليل. يبدو أنه – سُبحان الله – غلبه النوم، ولم يقم، فدخل الفجر. دخل وقت صلاة الصبح، ولم يُصل قيام الليل. يبكي! أرأيتم الصدق؟ يبكي. هذا لا يُصلي للناس ولا لكذا! بينه وبين الله، يتحسر على حاله! فاته قيام الليل، ليلة واحدة! قال فاتتني الركعات. قال فأثر بكاؤه في تأثيرا بالغا. ومن تلك الواقعة، لم أدع قيام الليل إلى يومي هذا. وكان – ما شاء الله – شيخا كبيرا هرما.

ولذلك خلد هذه الواقعة ببيت شعر، في ديوان يتحدث فيه عن والده، يقول:

أنا ابن الذي يبكي إذا طلع الفجر……ولم يك أدى ما به يعظم الأجر 

قال هذا أبي! أبي يبكي؛ لأنه فاته قيام الليل. هذا رجل صادق، في إرادة قيام الليل صادق. الآن كيف نعرف أننا صادقون في إرادة مثلا قيام الليل أو غير صادقين؟ واضح جدا جدا جدا! أقل شروط أو علائم وشارات الصدق هنا، أنك تضع ماذا؟ المُنبه. وأنت تعلم أنك ثقيل النوم، وكأين من مرة نبهك المُنبه، فأسكته وأصمته وأمت صوته! لذلك الشارة الثانية من شارات الصدق أن تضبط المنبه ثم تضعه بعيدا عنك، نعم! على  Side boardهكذا، على بُعد خمسة أو ستة أمتار، يبدأ يرن، فتُضطر أن تقوم، فينتهي الأمر، يُداخلك النشاط، يُزايلك الكسل، تقوم. أنت صادق! واضح؟ 

لماذا؟ لأنه لو كان لديك موعد، في مثل هذه الساعة، لتستلم جائزة، لن أقول لك بعشرة آلاف دولار، والله بألف دولار، لن تضع مُنبها فحسب، ستتصل بالبريد، على الطريقة القديمة! نبهوني رجاء. وبأمك وأبيك وإخوانك وتلاميذك وكل أمة محمد! نبهوني، الساعة الفلانية؛ لأن موعد التسليم كله نصف ساعة، ثم ينتهي. من أجل ألف يورو؟ وصلاة الليل لا تستأهل؟ أرأيتم الصدق؟ 

يُمكن لكل واحد منا أن يمتحن نفسه؛ أهو صادق أو كاذب، في ماذا؟ في إرادة الخير، في أي موضوع! هل أنا صادق؟ هل أنا كاذب؟ الصدق موضوع كبير يا إخواني، ولذلك يدخل كما قلت لكم في كل مقامات الدين، في كل مقامات الدين! ولا عبرة بأي عمل، ولا عبرة بأي عبادة، ولا عبرة بأي وجه من وجوه الخير، ما لم يكن ماذا؟ مؤسسا مبنيا على الصدق. رزقني الله وإياكم سر الإخلاص وسر الصدق، وجعلنا من الصادقين.

 

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه.

 

الحمد لله، الحمد لله الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ *. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليما كثيرا.

إخواني وأخواتي/

آيات التوبة التي صدّرنا بها خُطبة الإخلاص؛ وَمِنْهُم مَّنْ عَٰهَدَ ٱللَّهَ لَئِنْ ءَاتَىٰنَا مِن فَضْلِهِۦ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ *، ثم كان منهم ما كان من عدم الوفاء بما عاهدوا الله عليه! الآن يثور السؤال؛ من أين أُتوا؟ من أين دُهوا؟ ما هو سبب مُشكلتهم؟ لماذا كذبوا مع الله؟ وأنا أجبت هنا. هل أُتوا من الإخلاص، أم أُتوا من الصدق؟ سؤال مُهم؛ حتى نُصبح فعلا فقهاء في هذه القضايا العرفانية! مُهم جدا لنا؛ لأن هذا نجاتنا عند الله. هل أُتي هؤلاء من صدقهم؟ وهذا يتفق لنا أيضا! أننا نُعاهد الله ولو حتى بالنية! يا ربي أنا أُعاهدك في كذا، إن أعطيتني كذا، لأفعلن كذا. هذا عهد، انتهى! عهد بينك وبين الله! ثم لا تفي به، وتظل ماشيا! لا، خطير جدا جدا هذا الوضع. لا بُد أن تسأل نفسك؛ من أين يؤتى مَن لم يف لله بعهده وميثاقه: أمن الإخلاص، أم من الصدق؟ لا، ليس من الإخلاص، أبدا ليس من الإخلاص. من الصدق حتما، وليس من الإخلاص. تعرف لماذا؟

لأن الذي يُعاهد الله، أصلا قد يُعاهده فيما بينه وبينه، في الضمير! ثم حين لا يفي، هو لا يفي بما عاهد الله عليه لغير الله، لا يفي بشيء! هو أصلا عاهد الله؛ يا ربي أعطني مالا، أنا سأُنفق منه على المحاويج، سأُكثر النفقة. أليس كذلك؟ أتاه مالا. لم يُنفق أصلا، لا نقول أُتي من الإخلاص. لا، أنفق، ولكن ماذا؟ من أجل الناس. نعم، هذه تكون قضية ماذا؟ قضية إخلاص. لم يُنفق! هؤلاء في الآية لم يُنفقوا، لم يُعطوا، بل منعوا صدقات أموالهم. قالوا هي ماذا؟ هذا مكس من المكوس. أي مثل ضريبة، نحن نقول ضريبة. هذه مكس! أو أخو المكس. قالوا! انظر، رفضوا أن يُعطوا لرسول الله، لمُصدقه، جامع الصدقات!

إذن لم يؤتوا من ماذا؟ من الإخلاص. أُتوا من ماذا؟ من الصدق. لم يكونوا صادقين في ماذا؟ في أول نيتهم، أو في تاليها. انتبهوا، هذه القضية خطيرة. قد يكون المرء صادقا في أول نيته، حين يقول وحين يعزم ويُريد، يكون صادقا، لكن بالتمادي، ما الذي يحصل؟ انظر هذه من أهم ما نتعلمه في خُطبة اليوم! بالتمادي، ما الذي يحصل؟ تنحل عُقدة العزيمة! ترتخي، ترتخي! يصير من الصدق إلى الكذب، لا يعمل. الله! ستقول لي ولذلك قال الله تعالى وَسَارِعُوٓاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ *، وَسَارِعُوٓاْ *، المُسارعة دائما! وَهُمْ لَهَا سَٰبِقُونَ *، أُوْلَٰٓئِكَ يُسَٰرِعُونَ فِى ٱلْخَيْرَٰتِ وَهُمْ لَهَا سَٰبِقُونَ *، لا بُد أن تُسابق، لا بُد أن تُنافس، لا بُد أن تُسارع. لماذا يجب أن تُسارع؟ لأن الله الذي خلقك، ويعرف الملل والضعف الذي يتخونك بالتمادي، قال لك ماذا؟ قال لك لئلا تنحل عُقدة العزم، ماذا؟ أنفذه عاجلا، سارع. فقد تكون صادقا في منشأ النية، ثم يعرض لك الكذب بالتمادي، أرأيت؟ مُصيبة كبيرة! والنتيجة في الأخير أنك كذبت مع الله، ولم تف له بعهده، ستُحاسب، أليس كذلك؟ وقد يتطرق لك النفاق، كما في الآية، موضوع خطير!

وأختم إذن بالبيت الذي يُنسب فيما يُقال لأبي جعفر المنصور، كان يقول – غفر الله له -: 

إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة…………فإن فساد الرأي أن تترددا

أليس كذلك؟ عندك رأي، عندك حل للمسألة، هناك مُشكلة وقعت، وعندك الحل، أي معناها عندك الرأي، مُباشرة طبق هذا الحل، إياك أن تُرجئه! إذا ترددت؛ أُطبق، لا أُطبق، يفسد الأمر عليك، ويخرج من بين يديك.

فسمعه بعض الحاذقين النُبهاء، فثناه ببيت آخر، قال:

وإن كنت ذا عزم فأنفذه عاجلا…………..فإن فساد العزم أن يتبددا

الله على الحكمة! أرأيتم الحُكماء كيف هم؟ ناس حُكماء! 

إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة…………فإن فساد الرأي أن تترددا

ثنى الثاني الآخر، فقال ماذا؟ 

وإن كنت ذا عزم – صار عندك عزيمة الآن – فأنفذه عاجلا…………..فإن فساد العزم أن يتبددا

لذلك وَسَارِعُوٓاْ *. نسأل الله أن يجعلنا من المُسارعين في الخيرات، وأن يجعلنا من السابقين لها وفيها، برحمته، إنه أوسع رحمة من أن يُخلي بينا وبين أنفسنا الضعيفة.

اللهم لا تدع لنا في هذا اليوم الكريم ذنبا إلا غفرته، ولا هما إلا فرجته، ولا كربا إلا نفسته، ولا ميتا إلا رحمته، ولا مريضا إلا شفيته، ولا غائبا إلا رددته، ولا أسيرا إلا أطلقته، ولا مدينا إلا قضيت عنه دينه وأذهبت همه وغمه، برحمتك يا أرحم الراحمين.

علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما وفقها ورشدا. حنانيك، لا إله إلا أنت، يا حنان، يا منان، سُبحانك وحنانيك، والخير كله بين يديك، والشر ليس إليك. اللهم لا تُخل بيننا وبين أنفسنا الأمارة بالسوء، يا رب العالمين، لا تكلنا إليها طرفة عين، ولا أقل من ذلك. اللهم إنك إن تكلنا إلى أنفسنا، تكلنا إلى ضعف وحاجة وعورة وعوزة، وإنا لا نثق إلا برحمتك.

اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أسرفنا وما أنت أعلم به منا. اللهم ارحمنا في شهر رمضان، اللهم اغفر لنا ذنبنا كله في شهر رمضان، دقه وجله، قديمه وحديثه، سره وعلانيته، ما علمنا منه وما لم نعلم، اللهم وفقنا لليلة القدر في شهر رمضان، ووفر لنا فيها الأجر، واجعلنا فيها من المسعودين المقبولين المبرورين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم واختم لنا هذا الشهر الكريم بعتاقتك إيانا من نار جهنم. اللهم أعتق رقابنا من نار جهنم ورقاب آبائنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا وأزواجنا وأولادنا وذُرياتنا وصديقنا ومشايخنا وصالح المسلمين والمسلمات، برحمتك يا أحم الراحمين، بفضلك، لا بأعمالنا، بفضلك، لا بأعمالنا، بفضلك، لا بأعمالنا.

عباد الله/

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *، وأقم الصلاة.

(22/4/2022)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: