إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله عز من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

أما بعد: 

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى من قائل – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: 

وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ ۩ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ۩ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ۩ أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ ۩ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ۩ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ۩ كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ۩ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ ۩ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ۩ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ۩ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ۩ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ۩ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الفاضلات:

هذه السورة ومطلع هذه السورة الجليلة ليسا بدعاً من سور أُخر في كتاب الله، كسورة الماعون، وما ورد في آخر المُدثر، وفي مواضع كثيرة من كتاب الله الأجل سُبحانه وتعالى.

يبدأ هذا المطلع بـــ وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ ۩ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ۩ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ۩ أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ ۩، هذه شية من شيات الكفّار، وعلامة من علائم الجاحدين المُنكِرين للبعث والحساب والدينونة.

وبعض الناس قد يتساءل عن سر هذا الربط بين التطفيف وبين كونهم على ما ذكرنا، وبسرعة يُهرَع إلى الاستنتاج أن المُسلِم أو المُؤمِن ينبغي أن يكون بالضد تماماً من هذا الخُلق، خُلق التطفيف! يستوفي لنفسه كل ما يُريد وما ينبغي له، لكنه يهضم الآخرين حقهم أو بعض حقهم، يستحيل أن يكون المُسلِم كذلك، لأن الله افتتح هذه السورة جاعلاً من هذه شيةً وعلامةً للكفّار – والعياذ بالله – جاحدي البعث والدينونة، فلا ينبغي أن يكون المُسلِم كذلك بأي حال من الأحوال!

والمسألة أوسع وأعرض وأعمق من أن تكون وقفاً على ميزان الطماطم والأرز والقمح والشعير، في كل شيئ! وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ۩ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ ۩، بالعدل قامت السماوات والأرض، وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ ۩، حتى مع عدوك ومع بغيضك ينبغي أن تقول الحق، وأن تُعطي النصفة ولو من نفسك، وأن تُقِر بأنه عدوي وبغيضي ومع ذلكم له الحق وأنا المُبطِل، هكذا تكون مُسلِماً!

قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – مرةً لأحد أصحابه يا فلان أتُحِب أن تكون من أهل الجنة؟ قال نعم يا رسول الله، قال أحب لأخيك مثلما تُحِب لنفسك، ينبغي أن تُحِب للناس مثل الذي تُحِب لنفسك، أنت لا تُحِب أن تُهضَم فلا تهضمن أحداً، أنت لا تُحِب أن تُظلَم فلا تظلمن أحداً، لا تُحِب أن تُغتاب وأن يُقرَّض أديمك ويُشرَّح عِرضك فلا تفعلن مثل هذا بأحد من الناس، لا تُحِب أن تُحتقَر فلا تحتقرن أحداً من الناس، لا تُحِب أن يشمخ عليك أحد ويتعالى عليك فلا تشمخ ولا تتعال على أحد من الناس، تُحِب أن يُتواضَع لك فتواضع للناس، تُحِب أن تُعطى فأعط، تُحِب أن تُنصَف فأنصف.

قال عبد الله بن عمرو بن العاص – رضيَ الله عنهما – قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – مَن أحب أن يُدخَل الجنة ويُزحزَح عن النار فلتأته منيته وهو يُؤمِن بالله واليوم الآخر – في رواية أُخرى بلفظ وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله – وليأت إلى الناس مثل الذي يُحِب أن يُؤتى إليه، عامل الناس بنفس ما تُحِب أن تُعامَل به، ستكون مُؤمِناً إن شاء الله، ستكون مُسلِماً!

وهناك الحديث العنوان أو الحديث المفتاح في هذا الباب، وهو معروف لنا جميعاً، وهو من الأحاديث الأربعين، حديث عبد الله بن عمرو هذا مُخرَّج في مُسلِم، الحديث المفتاح مُخرَّج في الصحيحين، ورواه الإمام أحمد وأصحاب السُنن إلا أبا داود، من حديث أبي حمزة أنس بن مالك، رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين، قال قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – لا يُؤمِن أحدكم حتى يُحِب لأخيه ما يُحِب لنفسه، هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد بلفظ لا يبلغن عبد حقيقة الإيمان حتى يُحِب للناس ما يُحِب لنفسه من الخير، عمَّم هنا، واللفظ هذا أشمل، أشمل الألفاظ في الهيئة الاجتماعية الناس، أشمل من المُؤمِنين، لأن الناس مُؤمِن وكافر، أشمل من الإخوة، هناك مَن ليس بأخ لنا، للمُفارَقة في المِلة والاعتقاد والدين، أشمل الألفاظ فيما يتعلَّق بالاجتماع الإنساني لفظة الناس على الإطلاق، ولذلك مَن أراد أن يبحث عن النزعة الإنسانية في الإسلام ويستقري مواردها في كتاب الله فليبحث أولاً عن لفظة الناس، لأنها الأشمل بإطلاق، هكذا! إذن أن تُحِب للناس مثلما تُحِب لنفسك، قال أن يُحِب للناس من الخير مثلما يُحِب لنفسه، هذا هو، هذا هو الإيمان.

بعض الناس يقول هذه زيادة مقامات ورفعة درجات، هذا من نوافل الإيمان، غير صحيح! هل تعتقدون أو تعتقدن – إخواني وأخواتي – أن الرسول ينفي كمال الإيمان أو الإيمان المُطلَق بشيئ من النوافل وهو أفصح مَن نطق بالضاد وأحسن مَن أبان عن مُراد الله ودل عليه وعرَّف به؟ طبعاً الآن هل هو نفي الإيمان المُطلَق أو مُطلَق الإيمان؟ يستحيل طبعاً أن يكون مُطلَق الإيمان، لا! لأن الذي لا يتصف بهذه الصفة لا يكون كافراً، هذا مُطلَق الإيمان، مُطلَق الإيمان أي أصل الإيمان، أما الإيمان المُطلَق فهو الإيمان الكامل، لا! هذا نفي للإيمان المُطلَق، وليس لمُطلَق الإيمان، أي نفي للإيمان الكامل، ولذلك فُسِّرت هذه الراوية بما رواه أحمد وتلوته عليكم آنفاً، لا يبلغن عبد حقيقة الإيمان حتى يُحِب للناس ما يُحِب لنفسه من الخير، هذا هو!  حقيقة الإيمان.

وطبعاً جدير بنا أن نهتم بمعرفة حقيقة الإيمان، نحن لا نُريد مظاهر الإيمان وطقوس الإيمان، ماذا نفعل بالطقوس والمظاهر التي لا تُغني عند الله شروى نقير ولا فتيل؟ لا! نُريد الحقيقة، نُريد الجوهر، لكي ننجو ونسعد إن شاء الله تعالى، لكي نكون من المسعودين المقبولين عند رب العالمين – تبارك وتعالى – بفضله ومنّه، هذا هو!

فهل تعتقدون أو تعتقدن – إخواني وأخواتي – أن الرسول ينفي كمال الإيمان أو الإيمان المُطلَق بشيئ هو من النوافل، من التحاسين، من رفاهية المعنى، ومن الحشو؟ يستحيل! ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية – قدَّس الله سره – وكثيرون كالحافظ ابن رجب في الجامع – رحمة الله عليهم أجمعين -، قالوا هذا يدل على أن هذه الخصلة من الإيمان الواجب، من واجبات الإيمان! هذا واجب، بل قال بعض علماء العصر إن مَن لا يتصف بهذه الخصلة يكون قد قارف كبيرةً من الكبائر، ألا تُحِب لإخوانك أو للناس مثلما تُحِب لنفسك أنت واقع في كبيرة، الله أكبر! مُشكِلة كبيرة جداً هذه، هذا يعني أن هذه لا تُكفَّر لا بصيام عرفات ولا بالجُمعة ولا برمضان ولا بالصلوات، كبيرة! تحتاج أن تعلو عليها، أن تتنزَّه منها، وأن تتطهَّر منها، وتحتاج إلى توبة بحيالها، تحتاج إلى توبة برأسها، توبة على حدة! ولهذا غير بعيد أن ينفي النبي الإيمان ويُريد كمال الإيمان لانتفاء هذه الخصلة، وتكون هذه الخصلة من واجبات الإيمان العُظمى، من الواجبات المُهِمة جداً، ليست ترفاً!

طبعاً نحن نفهم هذه الأشياء على أنها ترف، مَن شاء أن يتسم بها فله هذا، جميل جداً أن يتسم بها لكي نستغله، يكون هو طيباً معنا ونحن نكون الخبثاء الحذّاق الذين يستغلون هذا المسكين لطيبته، أعوذ بالله، أعوذ بالله! هذه من صفات الكافرين، ومن صفات المُنافِقين، ومن صفات الأخساء من البشر، الخسيس هكذا، المرء عليه أن يجتهد أن يكون فاضلاً ونبيلاً، ليس فقط في نظر الناس، أولاً وقبل كل شيئ في نظر الله تبارك وتعالى، ما أجمل أن يُكتَب المرء عند الله نبيلاً فاضلاً! عبد نبيل، من نبلاء عباد الله، ثم في نظر نفسه لابد أن يكون نبيلاً، أي أن يكون عند نفسه نبيلاً، لست الذي يستغل طيبة الناس، لست الذي يستغل الخير فيهم، بالعكس! أحرص دائماً على أن أُعادِلهم بل أن أتفوَّق عليهم بالإفضال، كما قال أحد أسلاف هذه الأمة – وأظنه محمد بن واسع رضوان الله تعالى عليه – طلب الفضل – أي من الناس – بالإفضال منك، فإن الصنيع إليك الصنيع منك، أتُريد أن يتفضَّل الناس عليك وأن يكونوا طيبين وجيدين معك؟ كُن أنت كذلك، في المثل العامي عندنا يقولون كالذي يُحِب أن يأخذ ولا يُعطي، وربما قالوها بأسلوب مُزرٍ جداً، يأكل ولا يُخرِج، هكذا الحياة! لابد أن تأخذ وتُعطي، لابد أن تحترم لتُحترَم، وأن تتواضع ليُتواضَع لك، وأن تبذل ليُبذَل لك، وأن تُقيم لتُقام، وهكذا!

أيها الإخوة:

أُحِب أن أبدأ بعد هذه المُقدِّمة اليسيرة بمُلاحَظة مُهِمة جداً في عالم الأخلاق والفضيلة، بعض الناس يظن أن هذا العالم عالم مُشتبِك ومُلبَس ومُلغَز وشديد التعقيد، يحتاج إلى عقول مُفكِّرة، وإلى أذهان مُتيقظة مُستبصِرة، حتى نستطيع أن نُفرِّق بين المُتشابِهات والمُتلابِسات والمُتداخِلات، وهذا غير صحيح، على الإطلاق غير صحيح، انتبهوا! والمسألة أيسر من هذا بكثير.

أحد الحكماء قال يوماً الحياة تمضي وتسعد، وأنا أقول وتشرف وتفضل، أي هذه الحياة، وتستقر وتهنأ حياة الناس، بماذا؟ قال بقدر يسير جداً جداً من المبادئ والأفكار التي تم اختبارها وتجريبها عبر الأجيال في مئات السنين بل في آلاف السنين، هناك أفكار مُعيَّنة كل البشرية صادقت عليها، كل الدُنى، كل الأديان الوضعية والسماوية، وكل المُفكِّرين والفلاسفة والمُصلِحين الواعين الأيقاظ صادقوا عليها، وتُختصَر في كلمات أو في جُملة، جُملة ربما من ثلاث كلمات أو خمس كلمات أو أربع كلمات، جُملة واحدة! هكذا تمضي الحياة، بهذه المبادئ، ليس بمُجلَّدات كبيرة في فلسفة الأخلاق أو ما يُعرَف بالأخلاق النظرية، لا! ليس هكذا، ولذلك المسألة يسيرة جداً، كما قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – وإنه ليسير على مَن يسَّره الله عليه، ونستطيع أن نُحوصِلها وأن نُكثِّفها وأن نُركِّزها في جُملة واحدة.

من الصعب جداً أن تجد مبدأ أخلاقياً مسلكياً اتفقت عليه القرائح وقرَّرته العقول وصادقت عليه المواثيق والفلسفات والأديان سماوية ووضعية مثل ما نحن بصدد إيضاحه اليوم، من الصعب جداً! انخلوا أفكاركم كما يُقال، من الصعب أن تصلوا إلى ضريع أو إلى مثيل لهذا المبدأ، مبدأ ماذا؟ مبدأ أُحِب لغيرك ما تُحِب لنفسك، الذي صيغ في الإسلام صياغة مُتفرِّدة، سنُشير بعد قليل أو بُعيد قليل إلى فرادته أو وجه تفردها، هذا المبدأ نادت به كل الفلسفات والأديان.

نبدأ من الهندوسية، في ملحمة الهندوس الكُبرى المهابهاراتا The Mahābhārata مُجمَل القول والحكمة لا تُعامِل غيرك بما لا تُحِب أن يُعامِلوك بمثله، قالوا هذا الخُلاصة في المهابهاراتا The Mahâbhârata.

في البوذية نفس المعنى، لا تُعامِل غيرك بما تجده أنت نفسك إذا عُومِلت به مُؤلِماً لك، نفس المعنى! الصياغة مُختلِفة – قليل جداً الاختلاف – لكن نفس المعنى، هذا في البوذية أيضاً.

في الكونفوشيوسية – نسبة إلى كونفوشيوس Confucius الصيني، الحكيم الصيني في القرن الخامس أو السادس قبل الميلاد على اختلاف – ماذا يقولون؟ ماذا تقول الكونفوشيوسية؟ تقول نفس الشيئ، هذا مثل المُعامَلة الطيبة، لا تأت إلى غيرك ما لا تُحِب أن يأتي الغير إليك، هذا مثل المُعامَلة الطيبة، هذا الخُلق الطيب، أي كأنهم يقولون هذا هو القانون الأخلاقي الرئيس، هذا هو الجوهر، هذا العماد، هذا حجر الزاوية، هذا المفتاح، المفتاح هو هذا، عجيب! هذا في الهندوسية، في البوذية، وفي الكونفوشيوسية.

وهو في اليهودية، في التلمود، في شبات ورد لا تُعامِل غيرك بما تجده بغيضاً مُؤلِماً إذا عُومِلت به، هذا هو الناموس، وكل الباقي شروح، وهذه كلمة عظيمة جداً جداً، قالوا هذا هو الناموس، هذا شرع الله، هذا دين الله، يقولون هذا الدين، هذا تعليم موسى، والباقي شروح، أي الصلاة والصيام والزكاة والأشياء والطقوس والعبادات والقرابين، كلها شروح، هذا الجوهر! مَن كان كذلك كان عبداً لله، كان عبد الناموس، كان المُتشرِّع الحقيقي، واليهود من أبعد خلق الله عن هذا الخُلق، يُقرِّره تلمودهم وهم من أبعد خلق الله عنه، وقد صدق الله فيما حكى عنهم، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ۩ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ۩.

الله يقول مُستحيل أن أكون أنا الإله وأقول يسوغ لكم أن تستحلوا حقوق غيركم، وهذا معنى وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۩، لأن الله هو إله الجميع والمُشرِّع للجميع، لأنه رب الجميع، مَن كان رب الجميع بالحري أن يكون إله الجميع، معبود ومُشرِّع ومُقنِّن ومُضيء الطريق وناهج السبيل والدرب للجميع، يقول يستحيل أن أكون أنا رب الجميع وأكون أنا إله الجميع وأقول عليكم أو لكم أو يسوغ لكم أن تستحلوا حقوق غيركم، يستحيل! قال الله كذب هذا، وكل دين يُشرِّع أمثال هذه الأفضليات الكاذبة – أنا أقول لكم – دين مُزيَّف، يستحيل أن يكون هذا ديناً من عند الله، لأن الله رب الجميع وإله الجميع، لماذا يُشرِّع لك ما تغتال به حقوق الآخرين وكلهم عياله وكلهم عباده؟ ثم كيف تستجلبهم إلى دينك إذا كنت بهذه الطريقة الخسيسة جداً؟ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ۩، مُستحيل!

ولذلك احذروا من المُسلِمين الذين يُعطون فتاوى مُفصَّلة على قد ومقاس اللصوص والسرّاقين، هذه مناسك لصوصية، هذه فقه اللصوص والسرّاق، يقولون يجوز سرقة الأموال العامة وربما حتى الخاصة في بلاد غير إسلامية كالتي نعيش فيها ونحيا برزقها ومن فضلها بعد فضل الله تبارك وتعالى، هؤلاء لصوص، ليس لهم علاقة بالإسلام، هؤلاء أشباه اللصوص من بني إسرائيل الأولين، الإسلام منهم براء، الخُلق منهم براء، والدين والفقه ونحن منهم براء، والعياذ بالله، شوَّهوا مُحيا الإسلام، يسرقون من هنا ومن هناك، وبعضهم مشايخ ولهم مُؤلَّفات، نعرف بعضهم في بعض البلاد الإسكندنافية وسمعنا عنهم، شيئ عجيب جداً جداً، لا يكاد يُصدَّق، وكانت فضيحة كما نقول بالعامية بجلاجل في التلفزيون الدنماركي، فضيحة! شيخ وإمام ويُؤلِّف ويُبيح اللصوصية باسم دينه، عن أي دين تتحدَّث يا مُجرِم؟ للأسف شوَّهوا ديننا، مُستحيل! هذا ليس ديننا على الإطلاق.

إذن هذا هو الناموس والباقي شروح، في إنجيل متى Matthew – هذا في المسيحية أيضاً، في إنجيل متى Matthew – ما تُحِبون أن يفعل الناس بكم أنتم أيضاً فافعلوا، أي فافعلوا بهم مثله، هذا هو الناموس والأنبياء، قالوا هذا هو، أي الكتاب والسُنة، الناموس والأنبياء بمعنى الكتاب والسُنة، قالوا الله والرسول، هذا هو! افعل للناس وبالناس ما ترضى وما تُحِب أن يفعلوه بك، غريب جداً هذا، شيئ يُثير التساؤل، إذن الهندوسية، البوذية، الكونفوشيوسية، اليهودية، المسيحية، وأخيراً الإسلام، كلها تُقرِّر نفس المعنى، نفس المفهوم، ونفس المبدأ، أنا أقول يبدو أن هذا ليس نتيجة الاختبار البشري الطويل لهذا المبدأ ولنجاعته وصلوحيته بمقدار ما يعكس وحدة الأصل الإلهي، هذا أصل العدالة، بالعدل قامت السماوات والأرض، هذا هو العدل! لا عدالة في أن تُميِّز نفسك من الناس، فترضى لنفسك ما لا ترضاه لهم، وترضى بهم ما لا ترضاه بنفسك، يستحيل! هذا لابد أن يكون له أصل إلهي.

ولذلك القرآن يُقرِّر هذا المبدأ وهذا المفهوم بطرق عجيبة جداً جداً، بعض الناس يقول أين هذا في كتاب الله؟ نحن نعرف الحديث – لا يُؤمِن أحدكم حتى يُحِب لأخيه مثلما يُحِب لنفسه – لكن أين هذا في كتاب الله؟ موجود، وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ ۩ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ۩ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ۩، هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ۩، كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا ۩، لماذا؟ أنتم لستم مُتفرِّدين، لستم استثناءً، أنتم كنتم مُشرِكين وكفّاراً، منَّ الله عليكم فأسلمتم، لم يشكك أحد في إسلامكم ولم يستبح دماءكم بحُجة أنكم تدّعون، فلماذا ادّعيتم في غيركم أنهم يدّعون واستحللتم دماءهم لتأخذوا أغنامهم؟ القرآن يقول هذا، إذن يُقرِّر مبدأ في سياق قصية واقعية عجيبة جداً جداً، كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا ۩.

القرآن يقول وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ۩، تقرير آخر بشكل رابع لنفس المبدأ ولنفس المفهوم الذي أطبقت عليه كل الأديان والأفكار والفلسفات العُظمى في تاريخ البشر، وهذه الآية الجليلة من سورة النساء فيها تفسيران مشهوران، ذهب إلى كل فريق، بعضهم يقول وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ۩، معنى هذه الآية الجليلة أن مَن وليَ شيئاً من أموال اليتامى وكان وصياً عليها وعليهم فليتق الله وليخشه، ولا يُسارِع إلى تغولها وإلى أكلها إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا ۩، وليُنزِل نفسه منزلة مُورِّثهم الميت، وليُنزِل ذريته الضعاف من بعده حال مات – وهم ضعاف صغار – منزلة المُوصى عليهم من قِبله – هو وصي عليهم -، فإذا أحب ألا يُفعَل بأولاده الضعفة العجزة الأيتام من ورائه – أي من بعده، من بعد حياته، أي بعد موته – إلا الخير فليفعل الخير بهؤلاء، تفسير قويم جداً، وهو الذي ذهب إليه الحبر ابن عباس رضيَ الله تعالى عنهما، قال هذه الآية في الرجل يخشى أن يموت ويُخلِّف وراءه يتامى ضعفةً صغاراً يخشى عليهم العيلة والضيعة، فقال الله له فاتق الله فيمَن كنت وصياً فيهم وعليهم، اتق الله إذن واخش الله، ولا تُضيِّعهم، ولا تتغوَّل أموالهم، إذن أن تُحِب لغيرك مثلما تُحِب لنفسك، أنزل نفسك بنفس المنزلة، عجيب! تقرير عجيب جداً جداً، ويُحرِّك الفطرة، لمَن كانت له فطرة سليمة، غير معكوسة ولا منكوسة، وهذا ما رجَّحه الحافظ ابن كثير رحمة الله عليه، قال بهذا ابن عباس ورجَّحه ابن كثير.

الحافظ وشيخ المُفسِّرين ابن جرير الطبري قال لا، معنى الآية شيئ آخر، جميل! قال هذه الآية يتوجَّه بها الله – تبارك وتعالى – إلى مَن حضر الميت لدى الإيصاء، الميت وهو يموت يُوصي الآن، يُوصي! فربما قال بعض مَن حضر أي فلان اتق الله، فإن ولدك وأهلك لا يُغنون عنك من الله شيئاً، فأوص لفلان وأوص لفلان وأوص لفلان – الوصية – من الأجانب، فلا يزالون به حتى يذهب أكثر ماله في ماذا؟ في الأجانب، وهذا حيف وظلم في الوصية، لماذا؟ ضيَّعت حقوق أولادك، ضيَّعت حقوق أهلك، ضيَّعت حقوق الورثة من أصحاب الأنصباء والفروض، وحتى من غيرهم، ضيَّعت حقوقهم! الله يقول لهؤلاء الحاضرين اتقوا الله تبارك وتعالى، واعكسوا القضية، مثِّلوا! مثِّلوا أنفسكم أنتم الذين تموتون، وأولادكم وأهلكم من ورائكم، مثِّلوهم من ورائكم يكونون، فماذا عساكم تطلبون أن يُقال لكم؟ فقولوا لهذا مثلما تُقدِّرون أن يُقال لكم أنه المعدلة وأنه الحق وأنه الخير بأولادكم وذرياتكم، جميل! هذا رجَّحه ابن جرير، لكن على كلا التفسيرين – وهو قويم إن شاء الله تعالى – الآية تقول أحب لغيرك ما تُحِب لنفسك.

ونعود إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، لا يُؤمِن أحدكم، إذن هذا من واجبات الإيمان، بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية – قدَّس الله سره – التزام هذا كالتزام الصلاة والزكاة والصيام، أي الإقرار به، يجب أن تُقِر بهذا كالصلاة، ليس فضلاً منك أبداً، ولأبي حامد الغزّالي تعليق في غاية الروعة، آية من آيات الفهم الدقيق، علَّقه على حديث للصاحب الجليل – طالما اقتبسناه، وحري به أن يُقتبَس وأن تُذكَّر به الأمة – ولقصة وحكاية وقعت له، والحديث مُخرَّج في الصحيحين، يقول جرير بن عبد الله البجلي – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين – بايعت رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – على إقام الصلاة وإتاء الزكاة والنُصح لكل مُسلِم، النُصح للأمة، أن أنصح! النصيحة ليست كلاماً يُقال، أي الــ Advice أو الــ Beratung، ليست أن تقول رأياً للناس، لا! ليست هذه، النصيحة كلمة جامعة كما قال الخطّابي وأبو عمرو بن الصلاح رحمة الله عليهما، النصحية كلمة جامعة، يُراد بها قيام الناصح للمنصوح بما فيه خيره إرادةً وفعلاً، أُريد له هذا، وفعلاً بالقول وبالعمل أيضاً أُحقِّق الإرادة هذه، أن أُوصِل له الخير بإذن الله تعالى، حتى وإن كان في نفسي حسكة، لأن النفوس لا تخلو من حسد، وما خلا جسد من حسد، لا! انتبه وقاوم حسدك، اعل على نفسك، تقو لتكون مُؤمِناً صادقاً، لا تصرعنك هذه الصغائر النفسية وهذه المُهلِكات الردية والعياذ بالله، لأنك تُريد جوهر الإيمان وحقيقة الإيمان كما قال صلى الله عليه وسلم، إذن عليك أن تُقاوِم نفسك، وأن تكون أقوى من هذه النفس التي تنزع بك إلى شر منزع.

وكان جرير بن عبد الله – رضيَ الله عنه وأرضاه – إذا قام إلى شيئ يبيعه جعل يُبيِّن ما فيه من عيوب، يقول للمُشتري لكن فيه عيب كذا وهذا فيه عيب كذا، عن أشيائه! فقيل له يا جرير إنك إذا ظللت على هذا لم ينفذ لك بيع، فقال بايعت النبي – صلى الله عليه وسلم – على النُصح لكل مُسلِم، لا يعينني! ليست قضيتي أن أبيع أو لا أبيع، ليست قضيني أن أكسب أو أخسر، ليست هذه القضية! النُصح للمُسلِمين خيرٌ عنده من الدنيا والآخرة يا جماعة، رجل صادق.

قال مولانا أبو حامد الغزّالي – قدَّس الله سره – فبان لهذا أنهم لم يفهموا من النُصح أنه مُجرَّد قول ومُجرَّد زيادة في الدرجات، أي هو شيئ لمَن شاء أن يعلو، لا! بل فهموا النُصح على أنه من شروط الإسلام، وعليه تمت البيعة، قال هذا من شروط الدين، قال وهذا عسيرٌ على أكثر الخلق، أن تنصح للناس مثلما تنصح لنفسك وتُحِب لهم الذي تُحِب لنفسك وتكره لهم الذي تكره لنفسك – قال أبو حامد وقد صدق، والله صدق – هذا عسيرٌ على أكثر الخلق وصعب، ولذلك يفرون إلى العبادة في الخلوات والمُعتزَلات، هناك مَن يعتزل لأنه ضعيف، ضعيف الشخصية! يقول لا، أحسن ألا أُخالِط الناس، لأنه لا يقوم بأمر الله ومُراده مع الخُلطاء إلا الصدّيقون، اللهم اجعلنا منهم، قال هذا الصعب، الصعب أن تُخالِط الناس وأن تكون صدّيقاً، أن تقضي بالحق على نفسك، أن تشهد بالحق حتى على نفسك، الله قال وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۩، تقول نعم، الشهادة لله أنني أنا المُبطِل، أنا أخطأت يا جماعة، الشيطان استزلني، أنا المُخطئ! هل سمعتم أحداً يقول هذا؟ إن شاء الله كل ثلاثين سنة نسمعها مرة، لا تكاد تقع واقعة صغيرة أو كبيرة حتى في أمور سفسافية صغيرة وحقيرة إلا الكل يُبرئ نفسه وأنه المظلوم وأنه المهضوم، شيئ عجيب جداً، أين الإنصاف؟ كلكم مظاليم، كلكم برآء، فمَن سرق المُصحَف؟ كلكم كمّل، فأين النقص إذن؟ ما هذا؟ لماذا لا نعترف؟  قل أنا المُخطئ، الشهادة لله أنا أخطأت، أنا البادئ يا جماعة، فاستغفروا لي الله، هذا غير موجود، لكن هذا يُريد مُؤمِناً صادقاً، كالصحابة رضوان الله عليهم.

يُحكى عن نبي الله سُليمان بن داود – عليهما السلام – أنه لما أمره الله ببناء بيت المقدس قال يا رب وأين أبني؟ قال إذا رأيت الفارس مُشهِراً سيفه فثمة، فرأى يوماً فارساً مُشهِراً سيفه، فقال له ألك أرض؟ قال نعم، هذه أرضي، قال أُريد أن أُثامِنك عليها، تبيع؟ قال أبيع، قال بكم؟ قال بألف، قال هذه الألف، ادفعوا له، ملك هذا! عليه السلام، فقال يا نبي أستنصحك، الأرض خير أم الألف؟ قال الأرض، قال له الأرض تسوى أكثر من ألف، أنت طلبت ألفاً لكن هي تسوى أكثر من هذا، قال أقلني بيعتك، قال أقلتك، أي قال أُريد أن أرجع في البيعة فوافق، ومَن أقال مُسلِماً بيعته أقال الله يوم القيامة عثرته، قال أقلني بيعتك، قال أقلتك، انظروا إلى أخلاق الأنبياء، نحن نتكلَّم عن الأخلاق، هذه أخلاق الأنبياء، هذا الدين، ليس الدين الذي يقول اجمع وامنع وأنت تدّعي وعندك لحية وما إلى ذلك، ليس هذا الدين، الدين سلوك، الدين عمل، الدين مُعامَلة مع الله، ليست مع الناس وليست كلاماً في الناس وخُطباً مثل خُطبي هذه، لا! الدين مُعامَلة مع الله، بينك وبين الله، انس الناس، انس العالم، انس الدنيا والآخرة، عامل الله، عامل الله فإنه من وراء قلب كل امرئٍ ولسانه، نسأل الله الصدق.

قال الأرض خير، قال أقلني بيعتك، قال أقلتك، فقال له سُليمان بألفين تبيع؟ قال بعت، قال يا نبي الله الألفان خير أو الأرض؟ قال الأرض، قال إذن أقلني، قال أقلتك، وهكذا حتى بلغ به الخمسة الآلاف أو خمسة آلاف، وهو يقول لا، الأرض خير من خمسة آلاف، ثم قال له نبي الله كم تُريد وأنا أُعطيك؟ قال يا نبي الله أُسمي الذي يُرضيني؟ قال سم أُعطك، أنا نبي مُملَّك وعندي الكثير، سم أعطك، قال تملأها علىّ نعماً، إبلاً، بقراً، وغنماً، قال املأوها له، هذا النُصح!

في صحيح مُسلِم من حديث أبي هُريرة مرفوعاً قال – صلى الله عليه وسلم – حق المُسلِم على المُسلِم ست، وذكر منها وأن ينصح له إذا استنصحه، حين يخطب إلىّ ابنتي أحدهم ويقول يا أخي هل تصلح لي؟ سأقول له في الحقيقة لا تصلح، في عقلها شيئ وفيها عيب كذا وكذا، في ابنتي! أنا عاصرت حالة واحدة وحيدة إلى اليوم في حياتي في هذا الصدد، رجل أعرفه – كان أخاً لي في الله، تشرَّفت بمعرفته وهو طبعاً يعلوني سناً، أكبر مني بكثير، لكن كان أخاً لنا في الله، وكان مُهندِساً فاضلاً – جاء إليه أحد إخواننا من العلماء – كان عالماً، رجلاً عالماً – وأراد أن يتزوَّج أخته، فقال يا أخي واجبي كمُسلِم أن أنصح لك، أختي فيها واحد، اثنان، وثلاثة، قال فأنا أُريدها على ذلك، قال أنت وما اخترت، لكن فيها عيوب كذا وكذا، وعيوب لا تُذكَر، عيوب باطنة، تُنفِّر الرجل، ذكرها! هذه النصيحة، لكن قبل أشهر يسيرة سمعت عمَن تزوَّج – مِمَن أعرفه – وقالوا له أصابها حرق يسير، وإذا به حرق عظيم جداً جداً، ذهب بنصف صدرها الأيمن، والرجل يعيش الآن في تعاسة، لماذا؟ لماذا الكذب والغش؟ مَن غشنا ليس منا، ليس مُسلِماً صادقاً، ليس مُؤمِناً كاملاً مَن يغش، لماذا تغش يا رجل؟ 

وللشهادة أعرف أخاً لنا في الله، في هذا المسجد المُبارَك، أراد أن يبيع سيارة تقريباً بعشرين، فبيَّن ما فيها، فانحط تقريباً إلى النصف ثمنها، قال وأنا راضٍ، أخذت النصف لكن بعد أن بيَّنت، قلت سيارتي فيها عيب كذا وكذا وكذا، فلما فُحِصت عند الخبراء نقص ثمنها إلى النصف، قال وأنا راضٍ بهذا، قلت كثَّر الله من أمثالك، أخ معكم بفضل الله تبارك وتعالى، كثَّر الله من أمثاله.

يونس بن عُبيد – رضوان الله تعالى عليه – كان بزّازاً، يبيع القماش والبز والخز والأشياء هذه، وكان معه في محله – أي في دكانه – ابن أخيه، وكان قد قسَّم ونوَّع ما يبيع من قطع القماش إلى ضربين، ضرب بأربعمائة وضرب بمائتين، فعبر يوماً إلى المسجد يُصلي العصر جماعةً، فجاء عربي من البداية وهو لا يعرف ثمن الأشياء، وقال – صلى الله عليه وسلم – كما في حديث الطبراني غبن المُسترسِل حرام، قال غبن المُسترسِل، مَن هو المُسترسِل؟ الذي لا يعرف الأسعار، يقول لك بكم هذا الخاتم؟ تقول له هذا جيد جداً، أليس كذلك؟ يسوى مائة، يقول لك نعم يسوى مائة، وهو لا يسوى عشرة، مُسترسِل المسكين هذا، كما تقول له يُصدِّق، لأنه لا يعرف الأسعار، النبي قال غبن المُسترسِل حرام، رواه الطبراني، طبعاً حرام والعياذ بالله.

بعض الناس يقول لك إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ۩، لكن موضوع عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ۩ يا أخي ويا أيها الفيلسوف في الإسلام مُقيَّد ومشروط بكل ما نحن فيه، بعد أن تُبيِّن له وبعد أن تنصح له وبعد أن تذكر كل شيئ، ولا يحل لمُسلِم – في حديث عُقبة وفي حديث واثلة بن الأسقع مرفوعاً – باع من أخيه بيعاً وفيه عيب إلا بيَّنه له، علماً بأنه يُقال باع منه، أي باع له، انتبهوا! إذا قرأتم حديثاً أو وجدتم في اللُغة الفقهية باع منه شيئاً فاعلموا أنها بمعنى باعه له، ليس اشترى، يُقال باع منه، لا يقولون باعه – إلا قليلاً – أو باع له، لا يقولون باع له، يقولون باع منه، فلا يحل لك أن تبيع من أخيك – أي له – شيئاً فيه عيب إلا بيَّنت، بل ولا يحل لمَن يعلم إلا أن يُبيِّن، أي من غير البائع، يقول له يا أخي انتبه، أنت اشتريت وهذا فيه عيب، سيغضب هذا ويقول لك أفسدت علىّ بيعي، قل له هذا واجب علىّ شرعاً، أنا حضرت الصفقة، يجب أن أُبيِّن، أنت حر، أنت وما اخترت، لكن أنا يجب أن أُبيِّن، حتى لا أُسأل عنك، ما شاء الله تبيع وتُدخِل الدنانير في كنزك وأنا أدخل النار بسببك، لا! سأُبيِّن واغضب، شق ثوبك، أنت حر، هذا شرع بفضل الله، أمة كالجسد الواحد، الله جعلها كالنفس الواحدة.

على كل حال فعبر إلى صلاة العصر، فجاء أعرابي مُسترسِل، فاشترى شُقة كما يقولون – أي قطعة قماش – من ذوات المائتين، استحسنها وقال بكم؟ قال ابن أخي يونس بأربعمائة، أترضى؟ قال حسنٌ جداً، هذه طيبة ومُمتازة، أخذها وهو راضٍ، حملها على يده وسعى بها، فقفل يونس في الطريق، فصدفه في طريقه، فعرف سلعته، قال بكم؟ قال بأربعمائة، قال لا يا أخي، هذه بمائتين، تعال معي، قال رضيتها وهي حسنة، قال يا أخي لا تسوى أكثر من مائتين، تعال معي، وجاء وخيَّره إما أن يُقيله بيعته وإما أن يشتري من ذوات الأربعمائة وأن يرد إليه مائتي درهم، فرد إليه المائتي الدرهم، وتغيَّظ على ابن أخيه، قال أما استحييت؟ أما اتقيت الله؟ أتكسب مائتين مثل هذا الثمن وتترك النُصح للمُسلِم؟ قال له ألا توجد نصيحة؟ النُصح للمُسلِمين – قال له – خير من الدنيا وما فيها، يا جاهل – قال له – ألا تُوجَد تقوى؟ ألا يُوجَد حياء من الله؟ أما استحييت؟ قال له هو رضيَ، قال له هو رضيَ وأنت تركت النُصح، انظروا إلى أين بلغت التقوى، هذه التقوى! اللهم اجعلنا من أمثالهم، ثم يُقال لكم ما سبب ذل المُسلِمين وضعف المُسلِمين اليوم؟ أيسألون عن سبب ذل وضعف المُسلِمين؟ هذه الأمة ماذا تستحق؟ مسكينة هذه الأمة، علينا أن نكون صرحاء، هذه أمة بكرة قدم تبيع نفسها، تبيع قوميتها ودينها وأخوتها ومبادئ دينها، وتُتابِع الإعلاميين المجانين الفسقة – والعياذ بالله – الذين يُريدون أن يُمزِّقوا ما بقيَ من وحدة هذه الأمة، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ۩، يقولون لكم ما سبب الذل الذي نحن فيه؟ أمة ليس فيها رُشد، انتهى الرُشد! علينا أن نعود حقاً وصدقاً إلى صراط الله المُستقيم، هكذا! هذا هو، فهذا لا يقوم به – كما قال أبو حامد الغزّالي قدَّس الله سره – إلا الصدّيقون، اللهم اجعلنا من الصدّيقين، وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ ۩.

وعوداً على بدء، المسألة ليست بتلكم الصعوبة، ولا بتلكم المشقة، وعموماً الفضائل ومُهِمات الأمور – أنا أقول لكم – يُدَل عليها ويُنهَج سبيلها ودربها بجُمل قصار وربما بجُملة، ماذا كان يقول المُصطفى – صلى الله عليه وسلم – لأهله القرشيين والكفّار العرب من أهله وغيره أهله؟ ماذا كان يقول لهم؟ كلمة، يُطالِبهم بكلمة، يقول لهم أنا ما أُريد منكم إلا كلمة، قولوها واعتقدوها والتزموها، لا إله إلا الله! فقط هذا هو، تُصيبوا عز الدنيا وشرف الآخرة، أي بهذه الكلمة، تدل لكم الأرض بكلمة، لأن جوهر الدين في نهاية المطاف كله هو لا إله إلا الله، هناك مُجلَّدات بالآلاف، وكل هذا يعود إلى لا إله إلا الله، والعدل جوهر المُعامَلات، كل المُعامَلات بين البشر- مُعامَلة الزوج لزوجه، والزوجة لزوجها، والأب والأم لأولادهما، والصديق لصديقه، والجار لجاره، والرئيس لمرؤوسيه، والمرؤوس لمُديره، والعالم للجاهل، والجاهل للعالم، إلى آخره! كل المُعامَلات! كل المُعامَلات ما جوهرها؟ – جوهرها العدل، أن تكون عادلاً، وروح العدل أن تُحِب لهم ما تُحِب لنفسك، وأن تكره لهم ما تكره لنفسك.

قال الله تعالى تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ۩، روى ابن جرير بإسناد لكن فيه متروك عن الإمام عليّ – عليه السلام وكرَّم الله وجهه -، قال إذا أحب الرجل أن يكون شراك نعله – أي السير، سير النعل، أرأيتم هذا الشراك؟ لا يسوى حتى عشرة سنتات، سير النعل، أي الشراك، هذا اسمه باللُغة العربية الفُصحى، قال شراك نعله – خيراً من شراك نعل أخيه دخل في قوله تعالى يُرِيدُونَ عُلُوًّا ۩، قال هذا عالٍ، يُحِب أن يتفرَّد على الناس، يموت لو رأى الناس مثله، ماذا تُريد إذن؟ هل تُريد أن تكون رباً؟ دائماً يُريد أن يكون فوقك، يُريد أن تكون سيارته أحسن من سيارتك، أن يكون منزله أحسن من منزلك، وأن تكون حيثيته الاجتماعية أحسن من حيثيتك، لماذا يا أخي؟ أمُتألِّه أنت؟ أرب أنت؟ أنت ابن الدود وإلى الدود غداً، غداً تموت ويأكلك الدود، ما هذه السخافات الشيطانية؟ لماذا؟ كُن مُتواضِعاً هيّناً وقريباً، لا نقول لك ارض لنفسك أن تكون دون الناس، لكن لا تطلب أن تكون فوق الناس، كُن مثل الناس، لأنك عبد، العبودية جمعتكم، الذل لله جمعكم، أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۩، وفقر الله جمعنا جميعاً، كلنا أبناء التراب وأبناء الدود، انتهى! لماذا؟ هذا هو.

إذن المسألة يسيرة وقريبة وهيّنة، ولكن لمَن أرادها، أنا أُحِب أن نخرج بهذه الخُلاصة اليوم، لمَن أرادها! ما معنى هذا؟ ليس صعباً بالمُطلَق – على الإطلاق – أن تكون فاضلاً ونبيلاً ورجلاً كريماً عند الله وعند نفسك وعند الناس بإذن الله تبارك وتعالى، وأن تكون فعلاً رجلاً مُستقيماً، يتسق ظاهرك مع باطنك، ليس صعباً! ومُمكِن أن تُدَل على ذلك بكلمة، هي ما نحن بصدده اليوم، أحب لغيرك ما تُحِب لنفسك، أحب للناس ما تُحِب لنفسك، انتهى! ستكون أفضل الناس وأنبل الناس – والله العظيم – في كل شيئ، لكن كُن صادقاً، لا تُخادِع نفسك، تقول أنا أحببت له هذا، لكن أنت ما أحببت له هذا، أنت غششته، لا! حتى حين تُريد أن تدخل في تجارة وفي صفقة مع أحد الناس لا تقل عَنْ تَرَاضٍ ۩، ارض لأخيك ما ترضاه لنفسك، لو وافق المسكين وقال نعم، أرضى بثلاثة في المائة، الله أكبر، هذه نعمة، بارك الله فيك، غيرك أعطاني واحداً ونصف في المائة، قل له ولكن ثلاثة في المائة قليل، أنا أعلم أنك تستحق سبعة في المائة أو عشرة في المائة أو خمسة عشر في المائة، ولو كنت مكانك لم أرض إلا بهذا، فأنا أُعطيك يا أخي خمسة عشر في المائة، هذا الإيمان، هذه التقوى، ولعنة الله على الدنيا، ولعنة الله على الأموال، ولعنة الله على الكنوز الفارغة، والله العظيم! ماذا نُريد منها؟ لعنة، تذهب إلى الجحيم الدنيا، كسبت إيماني وشرفي ورجولتي واحترامي لشخصيتي ولنفسي، أنا صادق إذن، هذا هو!

إذن يُمكِن أن تُدَل عليه بجُملة واحدة، هي هذه، ولكن هل تُريد أن تكون فاضلاً؟ هل تُريد أن تكون نبيلاً؟ وهل تُريد أن تكون تقياً؟ من هنا سر أن القرآن الكريم في مواضع كثيرة يُقيِّد بالإرادة، لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ۩، لو أراد، سيجد مُذكراً، سيجد مشكراً لله أو موضعاً للشكر، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا ۩، إذا أردت فقط، هل تُريد الآخرة؟ سترى الدرب إمامك والله العظيم، ليس صعباً أبداً، أتُريد التوبة؟ سترى طوع يمينك التوبة، أتُريد الاستقامة؟ ستراها أمامك، نهجك أمامك، هذا سبيلك، هذه الاستقامة، لكن لابد أن تُريد، ولذلك أنا أقول لكم – وهذا حُكم قاسٍ مع أنه صحيح وواقعي – كل مَن يدّعي أنه لا يستطيع أن يكون نبيلاً أو تقياً او تائباً أو مُحسِناً قولوا له كذبت على نفسك قبل أن تكذب علينا، أنت لا تُريد، والله لو أردت لأعانك الله، وإنه ليسير على مَن يسَّره الله عليه، لكن أنت تلعب، أنت تشتهي وتهوى، أنت تأتي مُشتهياتك وأهواءك وتميل مع أميالك النفسانية، أنت معبودك نفسك، ليس معبودك الله تبارك وتعالى، أنت ما تعبد الله، تعبد نفسك وهواك ومصلحتك ولذتك، لذلك تفعل ما تفعل وتعجز عما أنت عنه عاجز، لِّمَنْ أَرَادَ ۩، وإلا المسألة كلها تُلخَّص بجُملة واحدة أو بكلمة واحدة، هذا هو!

ولذلك النبي كان لا يُعجِزه سؤال، يُقال له يا رسول الله دلني على عمل يُقرِّبني من الجنة ويُباعِدني من النار، دلني على النجاة، ودائماً كان يُعطي الجواب وبجُملة، بجُملة! قال لبعضهم لا تغضب، قال له أوصني، فقال له لا تغضب، قال لبعضهم أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك، انتهى! هذا هو، قال لسُفيان بن عبد الله الثقفي قل آمنت بالله ثم استقم، جُملة واحدة! الخير يُدَل عليه بجُملة، جوهر الأشياء دائماً جُملة، أنا أقول لكم هذا، العلم نُقطة كثَّرها الجهل، الفضيلة نُقطة كثَّرها الجهل والكذب وخور الإرادة.

نسأل الله أن يُحيينا بإرادة وبعزيمة ربانية، تُكسِبنا توبةً صادقةً، لا نعود بعدها إلى الذنب أبداً، وتحملنا على ما حملت عليه عباد الله الفُضلاء الأسخياء الطيبين المُبارَكين، اللهم آمين.

أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم أجمعين فاستغفروه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

                                                          (الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

يقول الفُضيل بن عياض – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – ما أدرك عندنا مَن أدرك – أي مِن الأولياء والعُرفاء الكبار والصُلحاء – بكثرة صلاة ولا صيام، وإنما بسخاوة الأنفس وسلامة الصدور والنُصح لكل الأمة، للأئمة والعلماء والعامة!

اللهم اجعلنا منهم وألحِقنا بهم، اهدِنا واهدِ بنا، وأصلِحنا وأصلِح بنا.

اللهم اجعلنا من عبادك… 

(ملحوظة هامة) للأسف هذا المقطع غير مُكتمل.

  (20/11/2009)

http://www.facebook.com/Dr.Ibrahimadnan

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: