برنامج آفاق

الغناء والموسيقى

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومَن والاه.

أيها الإخوة والأخوات:

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۩، أضاف الله – تبارك وتعالى – الزينة إلى ذاته القدس الشريفة العلية تنويهاً ولفتاً، تنويهاً بمكانتها ولفتاً إلى أهميتها واعتبارها، زِينَةَ اللَّهِ ۩، هي زينة الله.

ولا جرم – إخواني وأخواتي -، فالزينة والحُسن باب من أعظم الأبواب، من أعظم أبواب الأدلة والدلالة على الله – تبارك وتعالى -، فهو الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۩، وفي الحديث الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود – رضيَ الله تعالى عنه – في صحيح مُسلِم قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – إن الله جميل يُحِب الجمال، وقد جمَّل ما خلقه – لا إله إلا هو -، الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۩.

والجمال والحُسن والزينة كما تكون – إخواني وأخواتي – فيما نُبصِر، أي في المرئيات تكون أيضاً فيما نسمع، أي في المسموعات، وتكون طبعاً في المشمومات، أي الروائح الزكية العطرة، لكن تظل تقريباً المسموعات هي الأصوات الموزونة والنغمات الملحونة الجميلة، تظل تتصدَّر قائمة ما زيَّن الله – تبارك وتعالى -، قائمة الحُسن والجمال الذي يُطرِب النفس وتنتشي له وتنشرح به.

ولذلك يقول بعض المُفكِّرين إن الإنسان تفوَّق على الطبيعة في شيئ واحد، حين أعجزه أن يتفوَّق عليها في الروائح وفي الألوان تفوَّق عليها في الأصوات، الصوت الملحون بالأدوات الموسيقية المعروفة – أي المعازف كما يُقال – من المُستحيل أن تجد له نظيراً في الطبيعة، أجمل صوت تسمعه هو صوت هذه الآلات، فالإنسان تفوَّق في هذا الباب، الأمر الذي يدل – إخواني وأخواتي – على أن الإنسان في عُمق روحه وفي عُمق كيانه الباطن هو كائن فنّان.

الفنون كلها على اختلافها – أياً كانت، تشكيلية أو غير تشكيلية – مصدرها الروح، عُمقها الأصلي وجذرها الأصلي في روح الإنسان، فجوهرها واحد، وتجلياتها مُختلِفة، وسائل التعبير وصور التعبير عنها تختلف من فن إلى فن، لكن الجوهر والحقيقة واحدة.

ومن هنا – مثلاً – كان يقول الأيرلندي جورج برنارد شو George Bernard Shaw عن الرسام رفائيل Raphael العظيم، كان يقول هذا كان سيكون أعظم رسام حتى لو وُلِد بغير يدين، فإذن كيف سيكون أعظم رسام وهو مولود بغير يدين؟ لأن الفن في الروح، وليس فقط في الأعضاء، الأعضاء وسائل، أعمق ربما بيتهوفن Beethoven، وطبعاً هو استدل بحالة الموسيقار الألماني الكبير بيتهوفن Beethoven، قال فقد كتب بيتهوفن Beethoven أعظم سيمفونياته حين كان أصم، حين فقد حاسة السمع في أواخر حياته، وهذا صحيح.

كلمة تسير في الاتجاه ذاته، لكن ربما بعُمق أجمل، كلمة الرسام الشهير بابلو بيكاسو Pablo Picasso، تقريباً سُئل مرة هل من نصيحة للفنانين الرسامين – أي مثل بياكسو Picasso، وكان رساماً -؟ هل من نصيحة لكي يُصبِحوا أكثر إبداعاً في فنهم؟ قال نعم، أن نطمس أعينهم، قال أن نطمس أعينهم، أن نُعميهم! لماذا؟ لأنه يُؤمِن بأن الفن في الروح، الفن في عُمق النفس، ليس ما تراه بعينيك، وإنما ما تراه البصيرة، ما تراه الروح، فحين تُطمَس عيناه – أي الرسام – يُصبِح أكثر إبداعاً، كطائر الكروان، هكذا يقول بابلو بيكاسو Pablo Picasso.

تولستوي Tolstoy – أي ليو تولستوي Leo Tolstoy الروائي الروسي الشهير – كان يصف لوحات مايكل أنجلو Michelangelo وأعمال مايكل أنجلو Michelangelo المنحوتات أيضاً له بأنها سيمفونيات لكن بدون صوت، هي سيمفونية بلا صوت، الفن في جوهره شيئ واحد، والتعابير عنه مُختلِفة.

آرثر شوبنهاور Arthur Schopenhauer – الفيلسوف الألماني – كان يصف الموسيقى بأنها فن الشعر، الموسيقى شعر لكن بدون قلم، الموسيقى شعر لكن بغير قلم، وإنما بالآلة، نكتب الشعر بالقلم، ونتلوه بالألسنة، الموسيقى شعر لكن بآلة، الموسيقى شعر بآلة، عجيب!

كل هؤلاء الكبار المشاهير أدركوا أن حقيقة الفن روحية، الفن روحي يا إخواني، ولذلك الفن صاحب وزامل الدين مُنذ البدايات، كل الشعوب التي عرفت الدين عرفت الفنون، في الغرب بالذات يا إخواني – وهذا على عكس للأسف ما يظنه بعض الشرقيين، بالذات من العرب والمُسلِمين – كان الفن يُزامِل الدين حتى في المعابد وفي الكنائس، الفن الكنسي، الموسيقى! في بلادنا ربما نظن أن الفن فقط يليق بالرقاصين والرقاصات وبعض الحفلات التي تخلو من الأدب والحشمة، لا! الفن في حقيقته شيئ راقٍ جداً، يُعين الإنسان على تكميل روحه، على تهذيب نفسه، وعلى الارتقاء بحواسه الباطنة والظاهرة، لو أدرك حقيقة الفن وعُمق الفن.

ولذلك الآن – إخواني وأخواتي – بالذات في الغرب الأوروبي والأمريكي يستخدمون الموسيقى في أشياء كثيرة، لزيادة الإنتاج، في فترات النقاهة العلاجية يستخدمون الموسيقى، حتى في الــ Underground أو في وسائل المُواصَلات، في عيادات الأطباء، في المكاتب، وفي المشافي، يضعون ما يُعرَف بموسيقى الخلفية، أي الــ Background music، يضعونها! يظنون أنها تُهدئ الأعصاب أكثر، وتزيد الإنتاج، تُساعِد على زيادة الإنتاج، الإنسان حين يسمع موسيقى الخلفية تهدأ أعصابه وتنشط قواه، فيُنجِز ويُنتِج أكثر، شيئ غريب!

إذن هذه هي الموسيقى وهذه هي الفنون بعامة، ولذلك الإمام الغزّالي – رحمة الله تعالى عليه – في كتابه الموسوعي إحياء علوم الدين ينقل عن بعضهم – طبعاً نقل مُوافِق، لا نقل مُخالِف – الآتي، يقول وقيل مَن لم يُحرِّكه الربيع وأزهاره، والعود – العود هو المعزفة الشهيرة – وأوتاره، فهو فاسد المزاج، ما له من علاج، يقول فهو فاسد المزاج، ما له من علاج! مزاجه فاسد، ماذا نفعل معه؟ ماذا نفعل له إذا كان لا يتأثَّر بالفنون ولا يتذوَّق الجمال؟ وهذا جمال، هذا من زينة الله التي أخرج لعباده – لا إله إلا هو -.

ولذلك – إخواني وأخواتي – قبل الإمام الغزّالي، قبله بزمن مُتطاوِل، أسلافنا كان لهم صولات وجولات في عالم الفنون، كانوا يُرقون حسهم بالاستمتاع بالأصوات الصيتة الطروب الجميلة، وأيضاً بالأدوات، عموماً لا تجد مُعظَم العلماء يُفرِّقون بين الغناء بآلة والغناء بغير آلة، أكثرهم يتحدَّثون عن الغناء بمعنى الغناء بآلة، نفس الشيئ! يسمع الغناء أي يسمعه مع الآلات أيضاً، لم يكونوا يتحرَّجون، لم يكونوا يدّعون كما يدّعي بعض المُعاصِرين وبعض المُتأخِّرين أن الإجماع وقع على حُرمة المعازف، غير صحيح! أي إجماع هذا؟! الآن سأتلو عليكم نمطاً يسيراً جداً وسريعاً من مواقف بعض أسلافنا الصالحين مع المعازف، مع الموسيقى، ومع الغناء، كانوا مُتفسِّحين جداً، على أنهم من نُبلاء الأئمة ومشاهير العلماء وأفاضل الناس، من ذوي المروءات والفضل والدين.

والعجيب أن بعض مَن ألَّف في حل المعازف وحل هذه الفنون، بعضهم يا إخواني كانوا من مشاهير أتقياء الأئمة والعلماء، مشهورين بالتُقى والورع الشديد، من المُتأخِّرين نسبياً طبعاً الإمام أبو الفتح بن دقيق العيد القُشيري، هذا الرجل آية من آيات الله في الورع والتُقى، له كتاب اسمه اقتناص السوانح، أتى فيه بأدلة وبأخبار وآثار وأشياء يُستدَل بها وتدل على حل هذه الأمور.

وختم نقله المُبارَك بأثر عن محمد بن كعب القرظي حين سُئل عن الخذلان – والعياذ بالله -، أي عدم التوفيق الإلهي، فقال أن يُقبِّح المرء ما كان مُستحسَناً، وأن يستحسن ما كان قبيحاً، هذا شيخ الإسلام ابن دقيق العيد، العالم الرباني والولي الكبير – رحمة الله تعالى عليه -، الذي قال مرة عن نفسه إني لأحتسب على الله – تبارك وتعالى – أن صاحب الشمال – أي كاتب السيئات – لم يجد ما يكتبه علىّ من أربعين سنة، رجل ورع جداً، أي هو عند نفسه يعلم من نفسه أنه لم يرتكب صغيرة – ليس كبيرة وإنما صغيرة من الصغائر – مُنذ أربعين سنة – رضوان الله تعالى عليه -، ومع ذلك كان لا يُحرِّم الغناء والموسيقى، واليوم نجد مشايخ كباراً وصغاراً وبعضهم حتى دون ذلك يُحرِّمون الموسيقى قطعاً، كأن الله أنزل تحريمها في كتابه، بل للأسف يدّعون أن الله حرَّمها في كتابه، وسوف نقف مع أدلتهم التي أتوا بها وأجلبوا بها وادّعوا أن الله حرَّم في كتابه هذا، هذا لم يُحرَّم في كتاب الله ولا في أي موضع من المواضع، ولا يُمكِن لهم أن يُثبِتوا هذا بوجه صحيح قاطع، مُجرَّد تأويلات يا إخواني، هذه ليست حقائق، تأويلات وفهوم، مقدارها من الكساد، مقدارها من النفوق، ومقدارها من الصحة يتبيَّن لنا – إن شاء الله – في أثناء هذه الحلقة – بإذن الله تعالى -، وطبعاً هذه حلقة قصيرة، تمتد ساعة، في موضوع يحتاج إلى عشرات إن لم يكن مئات الساعات، وكُتِبت فيه ألوف الصحائف قديماً وحديثاً، لكن الذي نُحِب على عادتنا أن نصل إليه وأن نُقرِّره أن المسألة فيها قول مُختلِف، المسألة فيها أقول لأئمة كبار مُعتمَدين، أصحاب جلالة ونبالة، لم يقطعوا بالتحريم كما يتجاسر ويتجرأ عليه بعض المُتأخِّرين.

آل الماجشون يا إخواني – هذه الأسرة الكريمة من العلماء الأفاضل والمُحدِّثين والفقهاء والمُفتين الثقات – كانوا يتبسَّطون ويتعاطون الغناء والموسيقى، يتعاطون الغناء والموسيقى! آلات الطرب والمعازف، هؤلا آل الماجشون، والماجشون لقب طبعاً للرجل الجليل يعقوب بن أبي سلمة، وهذا اللقب جرى عليه وعلى آل بيته أيضاً وعلى أبناء أخيه عبد الله بن أبي سلمة، يقول العلماء كان يعقوب بن أبي سلمة هذا من ثقات التابعين، وكان من جُلساء عمر بن عبد العزيز وعُروة بن الزُبير – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين -، كان يُحِب الغناء ويُعلِّمه، يُريد أن ينتشر الغناء بين الناس، هذا الإمام الجليل كان يُعلِّمه يا إخواني، ويتخذ القيان، والقيان جمع قينة، وهي المُغنية، أي الجواري المُغنيات، اللاتي يُغنين، يُحِب الغناء ويُعلِّمه ويتخذ القيان.

ويُقال في ترجمته إنه كان أول مَن علَّم الغناء مِن أهل المروءة، لأنه عالم، فقيه، إمام ومُحدِّث، يروي الأحاديث النبوية بالأسانيد، فبلا شك أنه من أهل المروءة ومن أهل النبالة، كان أول مَن علَّم الغناء مِن أهل المروءة، وله ابن اسمه يوسف، إذن يوسف بن يعقوب بن أبي سلمة، أي يوسف بن الماجشون، هذا الرجل روى عن الإمام ابن شهاب الزُهري، وطال عُمره، أي عُمِّر، حتى أدركه الإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وكانا مُتعاصِرين، يقول يحيى بن معين كنا نأتيه، نطلب منه الحديث، أي ليُحدِّثنا، فيُحدِّثنا في بيت وجوارٍ له في بيت آخر – في الجوار، في غُرفة أُخرى – يضربن بالمعزفة، قال فيُحدِّثنا في بيت وجوارٍ له في بيت آخر يضربن بالمعزفة، والمعزفة أي آلة العزف، عجيب! ولم ير يحيى بن معين أن هذا يقدح في مروءة الإمام الجليل يوسف بن يعقوب بن أبي سلمة أبداً، لم يقل هذا فاسق، هذا مُجرِم، يسمع الموسيقى والغناء، وله جوارٍ، أبداً أبداً! أي حتى يحيى بن معين مُتفسِّح ومُتفتِّح مرن لين، ليس كبعض مشايخ اليوم.

ولذلك الإمام الخليلي صاحب الإرشاد – رحمة الله تعالى عليه – بعد أن ذكر هذه الحكاية عقَّبها بالقول هو وإخوته وابن عمه يُعرَفون بذلك، يُعرَفون بأنهم يتعاطون الغناء والموسيقى، وهم في الحديث ثقات، مُخرَّجون في الصحاح، أي يُخرِّج لهم ويروي عنهم البخاري ومُسلِم وغير البخاري ومُسلِم، هذا لم يكن قادحاً يا إخواني.

اليوم لو تسأل أي شيخ من هؤلاء المُضيِّقين ما وسَّع الله – تبارك وتعالى – والمُشدِّدين ما يسَّر الله، يقول لك الإنسان الذي يسمع الموسيقى فاسق، وربما يقول لك لا تجوز الصلاة خلفه، لا تجوز الصلاة خلفه ولا تُؤخَذ منه فُتيا، هذا تشدد شديد – والعياذ بالله -.

الآن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة، عبد الله بن أبي سلمة هو أخو الماجشون، أي يعقوب، هو أخوه، فالماجشون يكون عم عبد العزيز، فعبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة، هذا كان فقيه المدينة في وقته، إلى جانب الإمام مالك، وكان المُنادي يا إخواني – أي مُنادي الخليفة أو مُنادي السُلطان – يُنادي في الموسم – أي في موسم الحج – لا يُفتي الناس إلا مالك وعبد العزيز، عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة، عجيب! قال الإمام الخليلي صاحب الإرشاد وكان عبد العزيز يرى التسميع – أي سماع الغناء – ويُرخِّص في العود، العود! يُرخِّص في العود، يقول نعم، هذا جائز، هذا حلال، ليس فيه شيئ.

أيضاً عبد الملك بن عبد العزيز، هذا عبد العزيز، والآن ابنه، عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة، كان من أعيان أصحاب مالك، وأبوه كان قريناً لمالك، لكن هذا كان من أعيان تَلاميذ مالك، وكان مُفتي المدينة المُنوَّرة في وقته، قال الإمام ابن عبد البر في كتابه الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء، قال روى عن مالك وعن أبيه – أي روى الأحاديث المُسنَدة عن مالك وعن أبيه -، وكان مُولَعاً بالسماع، بسماع الغناء، ارتحالاً وغير ارتحال، في سفر وفي إقامة.

قال الإمام أحمد بن حنبل – رضوان الله تعالى عليه – قدم علينا ومعه مَن يُغنيه، معه مُغنيات يُغنين معه، قال قدم علينا ومعه مَن يُغنيه، لماذا قدم؟ قدم ليُعطي العلم، الطلّاب وعلماء الحديث يطلبون منه العلم، وهو يُحدِّث بالأسانيد، قال قدم علينا ومعه مَن يُغنيه، شيئ غريب!

أيضاً إبراهيم بن سعد بن إبراهيم، ابن مَن؟ ابن عبد الرحمن بن عوف، إذن هذا حفيد الصحابي الجليل وأحد العشرة المُبشَّرين بالجنة، إبراهيم بن سعد! اسمه إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، كان أحد مشايخ الإمام الشافعي والإمام أحمد، الإمام الشافعي تتلمذ لإبراهيم بن سعد، والإمام أحمد أيضاً أخذ عنه، هذا حافظ كبير وثقة، من أتباع التابعين، وأيضاً من أصحاب الإمام الزُهري، واحتج به البخاري ومُسلِم في الصحيحين، كان مشهوراً بالغناء، معروف إبراهيم بن سعد.

قال الإمام الذهبي كان إبراهيم يُجيد صناعة الغناء، أي فنان، على أصوله! أخذ العلم على أصوله، وأنا مُتأكِّد الآن أكثر مَن يسمع سيتعجَّب، يقول عجيب، هكذا كان أسلافنا الصالحين؟ هكذا هم رجال تتلمذ عليهم الشافعي وأحمد ويحيى بن معين؟ هكذا هم رواة الأحاديث الذي خرَّج لهم البخاري ومُسلِم وأصحاب السُنن؟ نعم هكذا، هذا هو الدين، اليوم كأننا نتلقى ديناً آخر، أي دين تم اختراعه – لا أدري – أو تم إنتاجه من جديد، لكي يُضيِّق على المُسلِمين كل شيئ، لكي يُحيل حياتنا إلى حياة مُظلِمة متجهِّمة، حياة غريبة! يعجب منها ويعجب من شأنها كل إنسان يطلع عليه، لو اطلع عليها أي واحد من أبناء هذه الدنيا لقال عجيب، هل هناك ثقافة، هل هناك حضارة، وهل هناك أمة تُحرِّم الموسيقى وتُحرِّم هذه الفنون؟ للأسف الشديد بعضنا يفعل هذا.

إبراهيم بن سعد – إخواني وأخواتي – اتفقت له قصة لطيفة جداً في العراق، من القصص العجيبة، قدم إلى العراق سنة أربع وثمانين ومائة للهجرة، وهارون الرشيد – الخليفة العباسي الشهير الكبير – أحسن استقباله وأكرمه، لما يعلم من منزلته في العلم ومثابته في الحديث والفقه، وحدث أن بعض طلّاب الحديث أتى إبراهيم بن سعد ليأخذ عنه حديث رسول الله، فوجده يتغنى، حين دخل عليه وجده يتغنى بأبيات ويُنغِّم، فقال له قد كنت حريصاً على أن أسمع منك وأن آخذ منك حديث رسول الله، فبعد الذي رأيت لا أخذت منك حديثاً، قال له أنت وضعك غير طبيعي، تغني؟ إمام جليل ومُحدِّث كبير وفقيه يُغني؟ فماذا قال له إبراهيم بن سعد؟!

قال لا أفقد إذن إلا شخصك، قال لا أفقد إذن إلا شخصك، أي ماذا سأخسر؟ لن أخسر شيئاً، سأفقد شخصك، أنا لا أخسر شيئاً، وكأنه أغضبه، وقال إبراهيم بن سعد علىّ وعلىّ، أي والله كذا وكذا، يحلف! قال علىّ وعلىّ، إن حدَّثت ببغداد ما أقمت حديثاً حتى أُغني قبله، يغيظه به، قال له يمين علىّ أيضاً لا يأتيني طالب علم يستحدثني – يطلب مني حديثاً أو يطلب مني سماع الحديث – إلا غنيت قبل أن أُحدِّثه، ومَن يُعجِبه هذا فليُعجِبه، ومَن لا يُعجِبه فليذهب.

وشاعت عنه هذه المقولة، أنه حلف بكذا وكذا على كذا وكذا، فبلغت هارون الرشيد، فدعا به ذات يوم، ثم قال له يا شيخ حدِّثنا بحديث عن رسول الله، اتل علينا حديثاً، فدعا بعود، قال علىّ بالعود، إذن يُفهَم من هذه الواقعة أنه كان يُغني بمعزفة أيضاً، وهكذا نفهم أن الرجل حين سمعه سمعه يتغنى أيضاً على آلة، معه آلة أيضاً، قد تكون العود، ليس مُجرَّد غناء هكذا، أي إنشاد، لا! إنشاد مع عود، مع آلة، فقال علىّ بعود، يُريد العود حتى يضرب ويُغني، ثم بعد ذلك يُلبي أمير المُؤمِنين هارون الرشيد، فقال له الرشيد أعود المجمر؟ أي العود الذي يُوضَع في المجمرة، العود صاحب الرائحة الطيبة هذا، البخور! أي نوع من البخور، قال أعود المجمر؟ قال لا، بل عود الطرب، فتبسَّم هارون الرشيد، أي صحت عنه الحكاية، فتبسَّم هارون الرشيد، ففهمها إبراهيم بن سعد، آآآآه! الآن فهم أن هارون الرشيد سمع ما قاله وإنه حلف بكذا وكذا على كذا وكذا، فقال يا أمير المُؤمِنين لعله بلغك نبأ السفيه الذي أغضبني بالأمس وألجأني إلى أن حلفت، فقال الرشيد نعم، هذا صحيح، أنا سمعت هذه القصة.

ودعا الرشيد له بعود، أي عود الطرب، عود! فغناه:

يا أم طلحة إن البين قد أفدا                               قل الثواء إن كان الرحيل غدا.

قال هذا على العود، فنان! إمام كبير ومُحدِّث جليل وفنان، ما العيب؟ فقال له الرشيد يا شيخ مَن كان مِن فقهائكم يكره السماع؟ يُريد أن يعرف الجوانب الفقهية للمسألة، هل مِن الفقهاء مَن كان يُحرِّم هذا أو يكرهه بما أنك تُجيز هذا وتترخَّص فيه وتتعاطاه؟ مَن كان مِن فقهائكم يكره السماع؟ فقال مَن ربطه الله، يكرهه مَن ربطه الله – تبارك وتعالى -، أي إنه صاحب حتى روح، كما يُقال صاحب روح مرحة، رحمة الله تعالى عليه.

شيئ غريب! هؤلاء أئمة، من كبار أئمة الإسلام – إخواني وأخواتي -، ولذلك الإمام أبو المعالي الجويني – رحمة الله تعالى عليه – ذكر في كتاب البُرهان له أن عبد الله بن الزُبير كان له جوارٍ عوادات، أي جوار يضربن على العود، فأتاه مرة عبد الله بن عمر – رضيَ الله تعالى عنهما -، دخل عليه فرأى هؤلاء العوادات وهن يضربن على العود، ورأى العود عنده، فقال ما هذا؟ فدفعه إليه، قال له انظر إليه، تأمَّل، ما هذا الجهاز؟ فدفعه إليه، فتأمَّل فيه عبد الله بن عمر، ما هذا يا صاحب رسول الله؟ ما هذا الشيئ الغريب؟ تأمَّله من الخلف ومن الأمام، ثم قال هذا ميزان شامي؟ يظنه ميزاناً، قال هذا ميزان شامي؟ فقال له عبد الله بن الزُبير ميزان يزن العقل، هذا يزن العقول، سُبحان الله! يُشير الصحابي الجليل عبد الله بن الزُبير – رضيَ الله تعالى عنهما – إلى أن الفن وأدوات الموسيقى – أي هذه المعازف – هذه أشياء تُنمي الحس فعلاً، تُنمي الحس! وسيأتيكم بعد قليل وصف الإمام الشافعي نفسه – رحمة الله تعالى عليه – لمَن لا يتمتَّع بهذه الأشياء ولا يستجيب لها بأنه معدوم الحس، لا حس عنده، ليس عنده إحساس، الإنسان بطبيعته يُحِبها.

ولذلك – إخواني وأخواتي – الطفل الصغير ابن ثلاثة أشهر أو ابن أربعة أشهر أو الرضيع – الرضيع في مهده – حين يسمع لحناً مُوقَّعاً يطرب هكذا، يطرب له وربما يُحرِّك رجليه ويُحرِّك يديه، يُسعِده هذا! بل البهائم العجماء تتأثَّر، الجمال بالذات تتأثَّر، والجمل معروف بغلظ كبده، قاسٍ! الجمل عنده قسوة، فيُقال الجمال مع غلظ أكبادها تتأثَّر وتتفاعل وتستجيب للصوت الجميل وللحن الجميل، ولذلك يُقال لك يا حادي العيس، هناك الحُداء، والحُداء هو الغناء الذي يُغنيه الحادي للإبل، فإذا سمعت الحُداء خف عليها حملها، وسارت وأعنقت، تمد أعناقها وتسير سيراً سريعاً، يخف عليها الحمل، وهي بهائم! فكيف بعض الناس يا إخواني لا يطربون ولا يُحِبون هذه الأشياء ويرونها كأنها من صُنع الشياطين وكأنها آلات شيطانية وتقود إلى الغواية؟ كلام فارغ كله هذا.

شكسبير Shakespeare في إحدى مسرحياته يُحذِّر البطل صاحبه، ويقول له احذر من فلان، قال لماذا؟ قال رجل خطير، هذا خطير، قال لماذا هو خطير؟ قال لأنه لا يتذوَّق الجمال، ليس عنده حاسة فنية، إنسان خطير هذا، الذي لا يتذوَّق الجمال سهل جداً أن يكره، سهل جداً أن يضر، سهل جداً أن يُؤذي، وسهل جداً أن يُجرِم يا إخواني، أما الذي تكون لديه الحاسة الجمالية راقية فليس كذلك، من الصعب أن يكون فناناً حقيقياً وأن يكون مُجرِماً وأن يكون شخصاً بغيضاً ويُبغِض الخلق ويتوسَّل بالأسباب لكي يضر بهم، من الصعب جداً، الفنان الحقيقي من الصعب جداً أن يفعل هذا.

على كل حال من هؤلاء أيضاً – أي من أسالفنا الصالحين يا إخواني – عُبيد الله بن الحسن العنبري البصري، من علماء البصرة، هذا كان من أتباع التابعين، وكان له صوت حسن، وكان يُغني، يُحِب أن يُغني ويُحِب أن يسمع أيضاً الأصوات الحسنة والغناء من غيره.

المنهال بن عمرو، هذا أخرج له البخاري، وأخرج له أصحاب السُنن الأربعة، أي هذا من رجال الصحيح، من رجال الصحيح المنهال بن عمرو الأسدي الكوفي، هذا الرجل ذهب إلى نفس الشيئ، ويُقال إنه كان من التابعين، يُحكى أنه لقيَ أنس بن مالك وروى عنه، إن كان هذا محفوظاً كما يقول علماء الجرح والتعديل فالرجل تابعي، وكما قلت لكم هذا كان يضرب بالطنبور أو بالعود، يضرب على العود، عنده أداة العود هذه ويضرب عليها، كان مُوقِّعاً، يُوقِّع الألحان، شيئ غريب!

هذه طائفة من أسلافنا الصالحين – رضوان الله تعالى عليهم -، أعجب من ذلك – كما قلت لكم – ما حدث مع الإمام الشافعي، الإمام الشافعي يذكر عنه الإمام عبد الوهّاب تاج الدين السُبكي – ابن الشيخ تقي الدين أبي الحسن السُبكي – الآتي في كتابه الماتع الحفيل الجميل طبقات الشافعية الكُبرى، وفيه فوائد عز نظيرها، حين ترجم للإمام المُزني وهو من مشاهير تَلاميذ الإمام الشافعي ذكر في ترجمة الإمام المُزني أن المُزني مر على دار قوم مع الشافعي، وكان مع الشافعي إبراهيم بن إسماعيل بن عُلية – هناك إسماعيل بن عُلية، وهذا ابنه إبراهيم -، مروا على دار قوم، وفي هذه الدار كانت جارية تُغني شعراً.

ماذا كانت تُغني هذه الجارية؟ وماذا كانت تقول؟ وماذا حدث من الأئمة الأجلاء؟ هذا ما سنسمعه، لكن بعد الفاصل، فكونوا معنا، بارك الله فيكم.

أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم إخواني وأخواتي من جديد.

إذن الإمام المُزني يمر مع شيخه الإمام أبي عبد الله الشافعي ومعه إبراهيم بن إسماعيل بن عُلية على دار قوم، وفي هذه الدار جارية تُغني، فقال الإمام الشافعي ميلوا بنا حتى نسمع، عجيب! هذا غناء، والظاهر أنه غناء مع آلة طرب، فسمعوا:

خليلى ما بال المطايا كأننا                           نراها على الأعقاب بالقوم تنكص.

تُغني هذا البيت، والشافعي كأنه طرب ولذ له هذا، ثم التفت إلى إبراهيم بن إسماعيل بن عُلية وقال له أيُطرِبك هذا؟ هل طربت لهذا؟ فقال لا، فقال فما لك حس، أي ليس عندك إحساس، فقال فما لك حس، رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين.

وقد قال الإمام أبو طالب المكي صاحب قوت القلوب وعلم القلوب في قوته، قال إن طعنا على أهل السماع – على الذين يرون حل السماع، أي سماع الغناء وسماع المعازف والآلات – فقد طعنا على سبعين صدّيقاً، غريب! لماذا يقول على سبعين صدّيقاً؟ كأنه ثابت عنده أن عشرات من كبار أولياء الله ومن كبار أتقياء العلماء كانوا يُرخِّصون في السماع وكانوا يسمعون، قال إن طعنا على أهل السماع فقد طعنا على سبعين صدّيقاً.

عبد الله بن جعفر – جعفر بن أبي طالب، أخو الإمام عليّ، ابنه عبد الله بن جعفر – كان له جوارٍ، وكان يصوغ لهن الألحان، ويضربن على الآلات بحضوره ويسمع، وكان مشهوراً بهذا، وهذا في زمان الإمام عليّ بن أبي طالب أمير المُؤمِنين، في زمانه كان يفعل هذا، وحكى هذا الإمام أبو منصور البغدادي، وأبو منصور البغدادي أحد مشاهير علماء أهل السُنة والجماعة الذين كانوا يرون حل السماع وحل الغناء، وله كتاب في هذا، وهذا مذكور في كتابه – رحمة الله تعالى عليه -، ثم ذكر مثله عن القاضي شُريح، وعن الإمام عطاء بن أبي رباح، بل عن سعيد بن المُسيَّب، وعن الإمام ابن شهاب الزُهري، وعن عامر بن شراحيل الشعبي، وهناك أئمة كثيرون – إخواني وأخواتي -.

ولذلك العجب مِمَن يُغامِر ومِمَن يتجاسر على إطلاق دعوى الإجماع، أن هناك إجماعاً على حُرمة السماع وإجماعاً على حُرمة المعازف، غير صحيح! وهذا الذي اضطر الإمام القاضي وهو من المُتأخِّرين، أعني الإمام الشوكاني – محمد بن عليّ الشوكاني -، اضطره إلى أن يُؤلِّف رسالة اسمها إبطال دعوى الإجماع على تحريم مُطلَق السماع، اسمها إبطال دعوى الإجماع على تحريم مُطلَق السماع.

من الأئمة المُتقدِّمين نسبياً الذين أفاضوا في هذا الباب وزيَّفوا كل النقول وما دُعيَ دليلاً في هذا الباب على التحريم الإمام ابن حزم – رحمة الله عليه -، أبو محمد عليّ بن حزم الظاهري، وهذا من أهل الظاهر، أي هذا يتعبَّد الله – تبارك وتعالى – بالنصوص كما هي، ولا يُعمِل فيها آليات القياس وغير القياس، كالاستحسان، والاستصلاح، عنده النص، والنص فقط، لكنه – رحمة الله تعالى عليه – له رسالة خاصة طبعاً، له رسالة في السماع، وله أيضاً تفصيل في مسألة في كتاب البيوع من المُحلى شرح المُجلى، كتابه الشهير في الفقه الظاهري، تكلَّم وأسهب وأفاض في حل الغناء والموسيقى، وفي أن أدوات الطرب – أدوات المعازف على اختلافها – يحل بيعها وشراؤها، ومَن كسرها ضمنها، أي يجب أن يدفع ثمنها، لأنها من المُباح، من الحلال! وقد قال – تبارك وتعالى – وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ۩، لو كان هذا مُحرَّماً لذُكِر في الكتاب – يقول -، وهذا ملحظ ذكي جداً جداً، لأن الموسيقى يا إخواني والغناء شأن ثقافي، هذا الشأن تعرفه كل الثقافات، عرفته كل المدنيات والحضارات، لا يُمكِن لو كان حراماً أن يخلو كتاب الله من إشارة واضحة أو من آية واضحة تُحرِّم هذا، وهذا حتى السُنة النبوية الشريفة، ليس بين أيدينا حديث واحد صحيح يقطع بتحريم هذه الأشياء، وكل ما قيل قابل للتأويل، كله قابل للتأويل! وأتكلَّم عن الأحاديث الصحيحة فقط، وإلا الأحاديث الضعيفة كثيرة، الآن الناس أو أكثر العامة يحفظون أحاديث ضعيفة في حُرمة الموسيقى والغناء، أحاديث ضعيفة، مُنكَرة، ولا أصل لها، وأكاذيب، أشياء لا معنى لها، مثل حديث الآنك، مَن استمع إلى قينة صُب في أُذنه يوم القيامة الآنك، والناس كلهم يخافون، هذا الحديث أصلاً حديث باطل.

ابن حزم – رحمة الله تعالى عليه – أتى تقريباً على جُملة هاته الأحاديث التي درج المُحرِّمون المُتشدِّدون على الاستشهاد بها، فإذا بها تسعة عشر حديثاً، زيَّفها من عند آخرها، ومَن أحب أن يقف على ذلك فليعد إلى كتاب البيوع من المُحلى للإمام ابن حزم – رحمة الله تعالى عليه -، توسَّع في المسألة توسعاً بما يُناسِب المقام.

كما قلنا لكم الإمام الجويني – إمام الحرمين – كان يرى حل ذلك، وذكر قصة عبد الله بن الزُبير مع العود وابن عمر، الإمام ابن أبي الدم، والإمام المُقرئ الكبير أبو بكر بن مُجاهِد، الذي ألَّف أول كتاب في القراءات السبع، وطبعاً هذا أوجب لبساً، والناس ظنوا أن القراءات السبع هي الأحرف السبع، وعلى كل حال هذا أبو بكر بن مُجاهِد، وقد تُوفيَ في أول القرن الرابع الهجري – رحمة الله تعالى عليه -، هذا كان يرى حل السماع كما قال عنه العلماء.

أبو عبد الله الحاكم النيسابوري صاحب المُستدرَك على الصحيحين كان يرى حل هذه الأمور يا إخواني، الإمام ابن قُتيبة – هذا كان لأهل السُنة مثل الجاحظ للمُعتزِلة – عنده كتاب اسمه الرُخصة في السماع، هذا الإمام ابن قُتيبة، وزيَّف أيضاً دعوى الإجماع.

الإمام القاضي أبو بكر بن العربي صاحب أحكام القرآن كان أيضاً من هؤلاء، تاج الدين الفزاري – صديق ابن تيمية، وتَلميذه تقريباً، أي هو كان أسن منه بكثير، وكان يُعظِّمه ويُوقِّره كثيراً، وتُوفيَ بعد ابن تيمية بسنة واحدة، هذا تاج الدين الفزاري – كان يرى أيضاً حل السماع.

سُلطان العلماء الإمام القوّال بالحق، القوّام لله، العز بن عبد السلام، كان يرى حل السماع، وهذا شيئ غريب، كما قلت لكم ابن دقيق العيد في اقتناص السوانح، أبو منصور البغدادي، الإمام عبد الكريم الرافعي – من أئمة الشافعية الكبار -، الإمام الروياني، الإمام الأدفوي – في القرن الثامن، من أئمة الشافعية -، أبو إسحاق الشيرازي، وهذا آية من آيات الله في العلم والتُقى، كان ورعاً جداً جداً، وكان يرى حل السماع، الإمام أقضى القُضاة الماوردي صاحب الحاوي في فقه الشافعية كان يرى حل السماع، الإمام حُجة الإسلام أبو حامد الغزّالي – رحمة الله تعالى عليه -، وعودوا إلى إحياء علوم الدين، الإمام أبو الفضل بن طاهر الظاهري المعروف بابن القيسراني، هذا صاحب كتاب شروط الأئمة الستة، وصاحب كتاب أطراف الكُتب الستة، وقبل الإمام ابن طاهر كان العلماء دائماً يعتمدون موطأ مالك، هو حذف موطأ مالك ووضع بدله سُنن ابن ماجة، وشاع هذا إلى اليوم، إلى يوم الناس هذا! ولذلك الإمام ابن الإثير في جامع الأصول لم يعتمد هذه الخُطة، واعتمد موطأ مالك بدل سُنن ابن ماجة، ولم يعتمد ابن ماجة، الإمام هذا – أي أبو الفضل بن طاهر، وهو من فقهاء الظاهرية، كان ظاهري المذهب، وكان عالماً جليلاً وورعاً، وكان ظاهرياً، أي ابن القيسراني – يرى حل السماع يا إخواني، كثيرون، وكثيرون، وبعضهم ألَّف كُتباً ورسائل بحيالها في هذا الموضوع.

نأتي الآن – لأن لم يتبق لدينا وقت كثير للأسف الشديد – بعض أدلتهم، نُريد أن نعرض إلى بعض الأدلة التي زعم المُحرِّمون المانعون المُشدِّدون أنها أدلة من كتاب الله في تحريم الغناء، طبعاً ومن باب أولى والموسيقى، مثل ماذا؟ أين هذا في كتاب الله؟ الله يقول فعلاً كما قال ابن حزم وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ۩، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ ۩، قالوا قوله – تبارك وتعالى – وَاسْتَفْزِزْ ۩، الله يُخاطِب إبليس لعنة الله عليه، أي على إبليس، وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ۩، قال بِصَوْتِكَ ۩، قالوا صوت إبليس هو الغناء، شيئ غريب جداً! مع أن طبعاً يا إخواني الاسم المُضاف إلى معرفة – أي بِصَوْتِكَ ۩ – يعم، هذا يعم! يعم كل أصوات إبليس، لماذا خصصناه بالغناء؟

ولذلك الأئمة الكبار كابن جرير الطبري أبقاه على عمومه، فكل صوت يكون دعوة إلى مُحرَّم ويكون دعوة إلى غير طاعة الله – والعياذ بالله – هو صوت إبليس، يكون صوتاً لإبليس، فلماذا خصصتموه بالغناء؟ والغناء والموسيقى ليس من شرطهما أبداً أن يدعوا إلى معصية الله وإلى ارتكاب المُحرَّمات والمُفسِّقات أبداً، الواقع يُكذِّب هذا، فهذه هي، هذه طريقة غريبة جداً في التفقه وفي تفسير كلام الله – تبارك وتعالى -.

لكن هناك آية في أول لُقمان أشهر من هذه الآية، دائماً يُردِّدون هذه الآية على أنها من الآيات التي يُستدَل بها على تحريم الغناء والموسيقى، وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا – أي يتخذ سبيل الله – هُزُوًا أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ۩، قالوا هذه الآية ورد عن غير واحد من الصحابة ومن التابعين وتابعي التابعين تفسيرها بأدوات الغناء وبالغناء، مثلاً الإمام مُجاهِد بن جبر قال هذا الطبل، الطبل! اللهو هذا الطبل، وهذا غير صحيح، حتى لو قاله مُجاهِد، هل تعرفون لماذا؟

الله يقول يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ۩، هل الطبل حديث؟ أي هذا شيئ غريب، اللهو هنا ليس مُطلَقاً، اللهو هنا مُضاف إلى الحديث، لَهْوَ الْحَدِيثِ ۩، قال لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۩، قالوا ثبت عن ابن مسعود أنه فسَّر لَهْوَ الْحَدِيثِ ۩ بالغناء، قلنا الصحيح عند الشافعي – وهذا مذهب مالك – أن قول الصحابي وتفسير الصحابي لا يُخصَّص، لا يجوز أن يُخصَّص به عموم الكتاب والسُنة، لَهْوَ الْحَدِيثِ ۩ هذا يعم كل لهو من لهو الحديث الذي يُتخَذ ويُصطنَع لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا ۩ – والعياذ بالله -، فلا تُخصِّص هذا بقول الصحابي، هذا غير صحيح أصولياً.

لكن أحسن من هذا الجواب جواب الإمام الجليل أبي محمد بن حزم، ماذا قال ابن حزم؟ قال لو أن امرأً اشترى مُصحَفاً وتلا القرآن وعلَّم القرآن بقصد أن يُضِل عن سبيل الله لكان بهذا كافراً، ليس فقط هذا، وإنما أي شيئ، بحسب النية، الله لا يتحدَّث فقط عن لهو الحديث، يُوجَد لهو، وهذا صحيح، وطبعاً مَن منا لا يلهو؟ مَن منا يتحدَّث دائماً بحديث جاد؟ هناك حديث لهو كثير، نلهو! وهذا اللهو مُباح يا إخواني، اللهو منه ما هو مُحرَّم، ومنه ما مكروه، ومنه ما هو مُباح، ليس كل لهو مُحرَّماً، لكن اللهو الذي يُراد ليكون وسيلة – أي مدرجة – إلى تضليل الناس والصد عن سبيل الله – والعياذ بالله -، هذا هو المُحرَّم، هذا هو المُحرَّم وهذا الذي لا يفعله إلا الكفّار.

يقول ابن حزم لو أنك اشتريت المُصحَف وعلَّمت القرآن لكي تُضِل عن سبيل الله كفرت بهذا، فليس كل لهو مُحرَّماً من حيث هو، ليس كل لهو مُحرَّماً من حيث هو! وإنما اللهو الذي يُراد به الصد عن سبيل الله، فإن كان لهواً – تحقَّقنا أنه لهو – ولم يُرَد به الصد عن سبيل الله لانتهى الأمر، كان لهواً، فإن كان مُباحاً فهو مُباح، وإن كان لهواً مُحرَّماً بشيئ حرَّمته الشريعة بخصوصه كان لهواً مُحرَّماً، وهكذا!

قالوا لا، عندنا أحاديث، لدينا أحاديث، وسنُثبِت لكم أن هذا من اللهو المُحرَّم، لأن اللهو المُباح ثلاثة أشياء، النبي حدَّدها، وسنُجيب عن هذا حين نأتي إلى الأحاديث، والله – تبارك وتعالى – أعلم، لكن يُمكِن الآن حتى أن نُعجِّل، أي هم قالوا النبي ثبت عنه في حديث عُقبة بن عامر الجُهني أنه قال – أي النبي قال – اللهو كله باطل، إلا ثلاثة: تأديب الرجل لفرسه، مُلاعَبة الرجل لزوجه، ورمي الرجل عن قوسه، قالوا هذا اللهو المُباح، غير هذا باطل، النبي قال باطل، والباطل مُحرَّم.

وأيضاً هذه طريقة كاسدة في التفقه، غير صحيح! هذا غير صحيح بالمرة، ابن حزم على طريقته العجيبة – رحمة الله عليه – ماذا قال؟ أجاب عن هذه الشُبهة بقوله فليُحرِّموا الدنيا كلها، إذا هذه الطريقة صحيحة في الفقه فالدنيا كلها حرام، لأن الله قال اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ۩، فالدنيا لعب ولهو، إذن حرِّموا الدنيا كلها، هكذا قال ابن حزم، قال ما هذه الطريقة في الفقه؟! الأمر ليس كذلك.

وبعد ذلك يا إخواني نحن على طريقة العلماء نتساءل الآن، هل القصر هنا – أن كل لهو باطل إلا ما كان كذا، كذا، وكذا – حقيقي أو إضافي؟ هل هذا القصر قصر حقيقي أو قصر إضافي كما يقول العلماء؟ واضح أنه قصر إضافي، وطبعاً القصر الحقيقي يكون فعلاً قصراً في الواقع من غير نسبة ومن غير إضافة، كما نقول لا إله إلا الله، هذا قصر حقيقي فعلاً، لا تثبت الألوهية إلا الله، هذا قصر حقيقي في الواقع ونفس الأمر، أما القصر الإضافي فيختلف، كأن نقول – مثلاً – ما فلان إلا شاعر، اختلف فيه الناس، بعضهم قال باحث أو مُفكِّر أو فيلسوف أو شاعر، وبعضهم قال لا، ما هو إلا شاعر، هذا قصر إضافي، بالنسبة إلى شيئ في البين، البعض يقول لا، هو فيلسوف أو هو مُفكِّر أو هو – مثلاً – مُترسِّل، فواحد قال لا، هو شاعر، ما هو إلا شاعر، هذا قصر إضافي، فهنا أيضاً القصر إضافي، بدليل أنه ورد عند الإمام النسائي وتعلم السباحة، اللهو المُستثنى من اللهو الباطل تعلم السباحة، إذن صارت ماذا؟ أربعة، وليس ثلاثة، فواضح أن الثلاثة القصر فيها إضافي، وليس قصراً حقيقياً.

وليس هذا فحسب، كلمة باطل هل تعني أنه مُحرَّم؟ النبي يقول لهو باطل، هل تعني كلمة باطل أنه مُحرَّم؟ ليس بالضرورة يا إخواني، الإمام البخاري – رحمة الله عليه، ذكاؤه فعلاً يظهر في التبويب والترجمات، فقه البخاري في الترجمات والأبواب – ماذا يقول؟ بوَّب باباً: كل لهو باطل إذا شغله عن طاعة الله، قال إذا شغله عن طاعة الله، إذن ليس كله باطلاً، البخاري يقول ليس اللهو من حيث هو دائماً بالضرورة باطل، وإنما اللهو يكون باطلاً بقيد واحد، ما هو؟ إذا شغلك عن طاعة الله، صحيح! إذا شغلك السماع عن الصلاة حتى ذهب وقتها فلا، هذا باطل بلا شك، أو حتى يتضيق وقتها جداً، هذا باطل بلا شك.

الإمام أبو عبد الله الحليمي – رحمة الله تعالى عليه، هذا شيخ الإمام البيهقي، وسبقه بتأليف كتاب يشرح فيه شُعب الإيمان في مُجلَّدين، والبيهقي كتابه أوسع على كل حال – له عبارة مُمتازة جداً، يقول أبو عبد الله الحليمي ليس معنى الباطل أنه مُحرَّم، البُطلان لا يعني الحُرمة، إذا كان باطلاً فهذا لا يعني أنه مُحرَّم، فهناك أشياء كثيرة باطلة ولكن ليست مُحرَّمة، مثل اللعب بالصولجان ومثل المُصارَعة، إذن ما معنى الباطل يا إخواني؟ وقد سبقهم إلى هذا حُجة الإسلام الغزّالي، هذا هو الفقه المتين والتعمق، التعمق في النصوص وفهم النصوص.

فالإمام الحليمي والإمام الغزّالي وغير هؤلاء قالوا الباطل معناه ما لا منفعة منه، ما لا طائل وراءه، أي لا تستفيد منه، لكن لا تتضرر، أي ما هذا؟ مُباح، هذا يبقى في قيد المُباح، فالباطل ليس بالضرورة الحرام، ليس بالضرورة الحرام! وإنما ما لا منفعة فيه، ولا طائل ولا جدوى من ورائه، هذا هو الباطل، إذن هذا الحديث أيضاً ليس لهم فيه حُجة، والله – تبارك وتعالى – أعلم.

احتجوا بقول الله – تبارك وتعالى – في سورة الأنفال وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ – عن المُشرِكين – إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً ۩، والمكاء هو الصفير، والتصدية هي التصفيق، قالوا فالصفير والتصفيق مُحرَّمان، فكيف إذن بأصوات أكثر من هذا وبالآلات والتوقيعات والألحان؟ أكيد كل هذا مُحرَّم، قلنا غريب جداً جداً، أصلاً هذه الآية الجليلة من سورة الانفال لا يُمكِن أن تعني أن الصفير بحد ذاته مُحرَّم ولا أن التصفيق بحد ذاته مُحرَّم.

بعض الناس يتشدد، ويقول لك نعم، الصفير من أعمال قوم لوط، وقال – تعالى – وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً ۩، والمكاء هو الصفير، ممنوع أن تُصفِّر أو تَصفِر، هذا مُحرَّم، شيئ غريب جداً! الآية لا تقول هذا ولا تُشير إليه، بدليل يا إخواني ما ثبت عن رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -، أنه قال التسبيح للرجال والتصفيق للنساء، أي فإذا نابكم شيئ من الصلاة وأرادت السيدة أن تُنبِّه الإمام إلى أنه أخطأ أو تجوز عن ركعة أو في ركعة تُصفِّق، إذن التصفيق حلال، وحتى في الصلاة للنساء، ليس حراماً يا إخواني، لكن لا يجوز لها أن تتكلَّم بصوت خشية ألا تشغل ربما قلوب بعض المُصلين، فالرجل يتكلَّم، يقول سُبحان الله، والمرأة تُصفِّق، فالتصفيق ليس حراماً، والتصفير ليس حراماً، فماذا تقول الآية؟

الآية تقول – وهذا هو الذي نعاه عليهم القرآن وأنكره عليهم رب العزة تبارك وتعالى – أنهم جعلوا صلاتهم عند المسجد الحرام تصفيقاً وصفيراً، فهذا لا يجوز، لا يجوز أن يُتعبَّد الله – تبارك وتعالى – بتصفيق وصفير ويُقال هذه صلاة، فالله يُنكِر عليهم وينعى عليهم هذه الصلاة العجيبة، صلاة التصفيق والصفير، لكن لا تقول الآية التصفيق حرام والصفير حرام، كما قلت لكم طريقة عجيبة في التفقه يا إخواني!

قال – تبارك وتعالى – أيضاً وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ۩، قالوا الغناء، الغناء والسماع هو الزور، عجيب! الزور هو الكذب، ومنه التزوير، التزييف والكذب، الزور هو الكذب، هذا الصحيح كما قال أبو بكر بن العربي في تفسيره، الزور هو الكذب، أما تفسير الزُّورَ ۩ – يقول ابن العربي – بالغناء فلا ينتهي إلى هذا، يقول هذا نوع من المُبالَغة ونوع من عدم التزام طريق الإنصاف في البحث والعلم والتفسير والتأويل، قال لا ينتهي إلى هذا الحد.

ولما كان الشرك بالله أعظم كذب – والعياذ بالله – سماه الله – تبارك وتعالى – زوراً، قال فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ۩ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ۩، فمن أين أن الآية تُحرِّك الغناء، قالوا الزور هو الغناء، غير صحيح! الزور هو الكذب، ولذا أُطلِق الزور وهو معروف، وشهادة الزور معروفة في الآثار والأخبار الصِحاح أو الصَحاح يا إخواني وأخواتي.

أيضاً احتجوا بقول الله – تعالى – أَفَمِنْ هَٰذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ ۩ وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ ۩ وَأَنتُمْ سَامِدُونَ ۩ في آخر النجم، قال ابن عباس وَأَنتُمْ سَامِدُونَ ۩ هو الغناء، السمود هذا هو الغناء بلحة حمير، بلغة أهل اليمن، قالوا إذن الغناء مُحرَّم، لا! غير مُحرَّم أبداً، أنا أقول لكم يا إخواني هذه الآية سبيلها كسبيل آية فصلت وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ۩، كانوا إذا سمعوا النبي أو أحد أصحابه يتلو القرآن ماذا يفعلون؟ يُغنون، يبدأون يُغنون، أو يتكلَّمون بكلمات أُخرى، بأي شيئ! حتى لا يسمع الآخرون شيئاً من كتاب الله – تبارك وتعالى -، نوع من الصد عن كتاب الله.

ولذلك أنا أقول لكم لو أن أحداً أراد أن يصد الناس عن سماع كتاب الله بكلمة الله – بدأ يقول الله الله الله الله – لقلنا الشيئ نفسه، هذا أتى بمُحرَّم، مع أنه ينطبق باسم الله، لماذا؟ لأنه أراد بهذا النُطق أن يصد الناس عن سماع كتاب الله، فكيف إذا كان يُغني؟ هذا الغناء في هذا السياق وبهذه الشروط يكون مُحرَّماً بلا شك، لكن هل هو مُحرَّم من حيث هو أو من حيث صده عن سماع كتاب الله؟ من حيث صده عن سماع كتاب الله، هذا مقام وهذا مقام – إخواني وأخواتي -.

نأتي الآن للأسف وقد تضيَّق الوقت جداً إلى بعض ما احتجوا به من الأحاديث النبوية، طبعاً أشهر حديث يحتجون به – غير حديث اللهو، وتكلَّمنا فيه على سبيل الإيجاز والعجلة – حديث الإمام البخاري، عن أبي مالك أو أبي عامر، وكلاهما أشعريان – رضيَ الله تعالى عنهما -، أن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – قال ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف… إلى آخر الحديث، حيث يُخبِر أنهم يُعاقَبون بالمسخ – والعياذ بالله تبارك وتعالى -، عقوبة شديدة جداً وبليغة!

قالوا واضح الحديث في أن المعازف مُحرَّمة، لأن النبي قال يستحلون، إذن الأصل فيها أنها مُحرَّمة، هذه أشياء مُحرَّمة، يستحلون الحِرَ، والحِرَ هو الفرج – والعياذ بالله -، يُريد الزنا، قوم زُناة، يستحلون الزنا، الحِرَ والحرير، لأن الحرير مُحرَّم على رجال أمة محمد، والخمر والمعازف، جميل – إخواني وأخواتي -.

أولاً هذا الحديث طبعاً اختلف السادة العلماء في وصله وفي تعليقه، هل هو موصول أو هو مُعلَّق؟ الإمام ابن حزم بالغ قليلاً، وقال هذا الحديث عنده غير صحيح، هذا الحديث فيه انقطاع، لماذا؟ قال لا يتصل، بين البخاري وبين صدقة بن خالد، والبخاري علَّقه عن شيخه هشام بن عمّار، قال قال هشام بن عمّار، لم يقل حدَّثني أو أخبرني، وطريقة البخاري في التعليق هي هذه، هي هذه على كل حال، لكن هذه شُبهات فنية وأجاب العلماء عنها، ولعل الأرجح أن الحديث صحيح، وهذا لا يطعن فيه، هناك جوابات كثيرة، ابن القيم أورد منها تسعة على ما أذكر في كتابه إغاثة اللهفان.

نعود، نحن سنُسلِّم صحة الحديث، ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحِرَ والحرير، الزنا حرام قطعاً وقولاً واحداً على الذكور والإناث، لا يُوجَد نقاش في هذا، الخمر حرام قطعاً على الذكور والإناث، فماذا عن الحرير؟ مُحرَّم على الرجال، وهو حلال للنساء، الحديث لا يذكر هذا التفصيل، لكن هذا معروف من أدلة أُخرى خارج هذا الدليل، أي من خارج هذا الدليل.

والحرير أيضاً يُباح للرجال عند الضرورة ترخصاً، كما أباحه النبي لعبد الرحمن بن عوف وابن الزُبير لحكة كانت بهما، أي مرض جلدي، كانا يحكان من الأثواب الخشنة، فأرخص لهما في الحرير، لأنه أنعم وأبرد على الجسم، وهذا أيضاً لا يُستفاد من الحديث، مذكور في غير هذا الحديث، من أدلة أُخرى.

بعد ذلك نأتي إلى المعازف، المعازف هي محل النزاع، هل هي حلال على الأصل؟ الأصل هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ۩، كل شيئ الأصل فيه أن يكون حلالاً ومُباحاً، مَن قال إنه حرام لابد أن يأتي بالدليل القطعي يا إخواني، لذلك كان السلف الصالحون – رضوان الله عليهم – يتهيبون جداً أن يقولوا حلال وحرام، وخاصة حرام، فيما ليس بين أيديهم نص فيه، لأن حتى قولة حلال أسهل بكثير، لماذا؟ الأصل في الأشياء أن تكون حلالاً، فإن قام الدليل القطعي على حُرمتها قلنا بالحُرمة، إذا لم يُوجَد الدليل القطعي على الحُرمة فلا نقول هذا حرام، ولذلك كانوا حتى – مثل الإمام أحمد، وغير الإمام أحمد، كأبو يوسف – يقولون نكره هذا، لا نستحبه، يقولون هذا في أشياء فيها أحاديث بحُرمتها، ولكن يخافون أن يقولوا حرام في هذه الأشياء، لأن هذه أحاديث، ليست آيات قرآنية واضحة، وليست أحاديث مُتواتِرة، وليست أحاديث قاطعة، هذه أحاديث آحاد، فيقولون نكره هذا، لا نستحبه، مع أن الأحاديث تمنع منه يا إخواني، لا يُصرِّحون بكلمة حرام أو نُحرِّم، على عكس كثير من علماء اليوم، أسهل شيئ عليهم أن ينطقوا بالحُرمة، حرام! وهذا الشيئ فظيع، وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ ۩، هذه من أفظع الأشياء، فالمعازف هي في قيد الاختلاف، هل هي مُباحة على الأصل أم مُحرَّمة؟ نُريد دليلاً قطعياً.

عجيب، ألا يُوجَد حديث واحد عن رسول الله يقطع ويقول هكذا هي حرام؟ غير موجود، وهذا الحديث لا يقول هكذا هي حرام، لا يقول! يقول يستحلون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف، وهنا يا إخواني يُمكِن أن نقول بحُرمة المعازف بدليل اسمه دليل الاقتران، دليل الاقتران ضعيف عند جمهور العلماء، ما معنى دليل الاقتران؟

دليل الاقتران في أصول الفقه معناه أن يُعطى أمراً حُكم غيره فقط لأنه ورد مع هذا الغير في سياق واحد، مثل هنا، أي الزنا حرام، والخمر حرام، لكن كما قلت لكم الحرير ليس دائماً حراماً، حرام على الرجال دون النساء، وحرام على الرجال لكن يُمكِن أن يُرخَّص به في حالات مُعيَّنة، تبقى المعازف.

ولذلك الأرجح في فهم هذا الحديث – إخواني وأخواتي – أن هؤلاء إنما عاقبهم الله بتلكم العقوبة القاسية الغليظة لجمعهم بين هذه الأمور – والعياذ بالله تبارك وتعالى -، أي يزنون، يلبسون الحرير، لا يُبالون بحُرمته، يشربون الخمر، ويجلسون في مجالس طبعاً فيها المُغنيات وفيها المعاز، فهذا ليس معناه أن الغناء حرام وأن المعازف حرام، حرام في هذا السياق، أنهم جمعوا هذه الأشياء جميعها، فمُمكِن أن يكون بعض هذه الأشياء ليس حراماً يا إخواني.

هذا ما قاله نفرٌ من العلماء في تأويل هذا الحديث، للأسف أدركنا الوقت وبقيت فضلة كثيرة، لكن هذه – كما قلت لكم – نمط، نمط ونموذج سريع سريع، لا يفي إلا بأقل القليل، لكي نعلم أن في المسألة قولاً مُختلَفاً.

نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُفقِّهنا في الدين، وأن يُعلِّمنا التأويل، وإلى أن ألقاكم في حلقة أُخرى أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: