إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – جل مجده – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ ۩ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ ۩ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ ۩ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.

إخواني وأخواتي:

قال الله نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ۩، وفي سورة الحشر قال وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۩، أي الأمرين مُترتِّبٌ على الآخر: نسوا أنفسهم فنسيهم الله أم نسيهم الله فنسوا أنفسهم؟ قد يكون من الواضح أن الاحتمال الثاني هو الأرجح، الله – تبارك وتعالى – حين ينسى العبد لا يبقى أمام العبد من فرصة أو من احتمال أو من خيار إلا أن ينسى نفسه في النهاية، هذا منظور قرآني ولن نقول فلسفي، هذا منظور قرآني عميق جداً، لكن ابتداءً ما معنى نسيان الله للعبد؟ النسيان بمعنى الذهول والغفلة محال في حق الله، قال الله وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ۩، ومن ثم هذا يستحيل، الله وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ۩، لا يمكن أن ينسى شيئاً بمعنى أنه يغفل عنه ويذهل عنه،   هذا مستحيل طبعاً، أعوذ بالله، هذا إلحادٌ في الله تبارك وتعالى، إذن ما معنى نسيان الله؟ أقاويل واتجاهات كثيرة للسادة المُفسِّرين، منهم مَن قال نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ۩ مِن الخير ولم ينسهم مِن الشر، وهذا أبعد ما يكون من الحق، هذا القول بالذات أنا بدأت به لكي أستبعده لأنه أبعد ما يكون من الحق، والخير طبعاً لفظٌ عام مُشترَك ومصاديقه كثيرة جداً لا تعد ولا تحصى، قال الله وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۩، فالخيور كثيرة جداً، والكفار والمُنافِقون الذين نسيهم الله – تبارك وتعالى – هم مشمولون ومغمورون في خيور ونعم الله تبارك وتعالى، تقول الآية الكريمة قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ۩، هذا متاعٌ قليل، والدنيا كلها متاعٌ قليل، قال الله لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ ۩، إنهم يتقلَّبون في البلاد، أنعام وحرث وأولاد ونصر وظهور وحضارة وتمكين، الله – تبارك وتعالى – يُحدِّثنا عن حضارات وأبنية وعمارات أقامها هؤلاء الكفار، أقامها فرعون وقومه، قال الله وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ ۩، إذن فرعون بانياً لحضارة عظيمة، وقد حدَّثناكم غير مرة أن المأمون لما زار مصر – ربما الزيارة الأولى للخليفة عبد الله المأمون العباسي – ورأى الأهرامات وبقايا الحضارة الفرعونية قال عجيب، هذا ما بقى بعد ما دمَّر الله، فكيف بما كان قبل أن يُدمِّر الله؟ حضارة عظيمة جداً كانت بلا شك وهم كفار ممن نسيهم الله، إذن لا تقل  نسيهم من الخير ولم ينسهم من الشر، هذا غير صحيح، هذا التفسير بعيد جداً جداً، قال الله يَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ ۩، فالله يقول نحن نمدهم، وقال أيضاً ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ۩ وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَّمْدُودًا ۩ وَبَنِينَ شُهُودًا ۩ وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا ۩، القرآن غاصٌ ملآنٌ وطافح بهذه الآي التي تُؤكِّد أن الكفار والملاحدة والمُنكِرين مغمورون ومشمولون بنعم الله وخيوره لا إله إلا هو،  ليس هذا معنى نسيان الله لعبده، كأنه سيفشل في حياته الدنيوية وسيغدو جاهلاً بالدنيا، بالعكس الله يقول الكفار لهم علمٌ بالدنيا وبشئون الدنيا، علمٌ بهذه المادة وبالطبيعة وبالعالم وبالكون، من أين أتت كل هذه العلوم؟ لا بأس ولكن الله يقول يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۩، أما علم الآخرة وعلم الأبد وعلم المصير لا شأن لهم به، إنهم اتخذوه سخرية وهزواً ومسخرةً، ويسخرون من هذه العلوم والأفانين ومِمَن يُؤمِن بها ويعتقدها بلا شك، إذن ما الذي يبقى من معنى نسيان الله لعبده أن لم يكن شيئاً من هذا كله؟ قال الله نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ۩، وقال أيضاً نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ ۩، إنه ضلال العبد  عن المعاني التي لا تتحدَّد إلا بالله، قال الله إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ۩،والكافر مرزوق لكن الكافر لا يُؤمِن بهذا، يقول لك كيف؟ هذا غير صحيح، أنا لا أؤمِن بهذا الإله وأنا مرزوق، هو لن يعتقد أن الله مصدر الرزق، لن تقيم عليه حجة أن الله مصدر التوفيق الدنيوي، يقول لك أنا مُلحِد ومُنكِر أصالةً لوجود هذه الذات الإلهية التي تعتقدون فيها ومع ذلك أنا ناجح، أنا راكمت الملايير، أنا حصلت على أعظم الجوائز، أنا حصلت على نوبل Nobel وغير نوبل Nobel وأنا مُلحِد، وطبعاً كثيرون من حملة نوبل Nobel ملاحدة وفي العلوم، وهم علماء كبار بلا شك، إذن لن يفهموا هذا، هذا مُدخَل غير صحيح بالمرة لإفهام هؤلاء، لا يُمكِن أن تُجادِل عبر هذا المُدخَل، إذن ماذا؟ قال الله نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۩، إنه يتحدَّد – أي هذا المعنى – بضلال هؤلاء الخلق من المُنافِقين والكافرين والمُنكِرين والمُلحِدين عن ماذا؟ عن معانٍ لا يُمكن أن تُوجَد ولا أن تتحدَّد إلا بالله تبارك وتعالى، المعنى ومعنى المعنى، الكون كله في نهاية المطاف لا معنى له بغير افتراض الله عز وجل، وإياكم أن تغتروا بكل الفلسفات الطبيعية والعلمية، تصل إلى عتبة مُعيَّنة وإلى حد مُعيَّن وتقف عاجزة تماماً، بالعكس لكي تنفي عجزها تتورَّط في العدمية الكاملة Nihilism، تُصبِح عدمية حقيقية، وسأضرب لكم مثالاً واحداً ثم أمضي لأن الخُطبة مُتسِعة الأطراف وفي الحقيقة ينبغي أن تُبسَط في خُطب كثيرة أو في سلسلة من الخُطب لكن نحن سنُكثِّف المعنى حسبما يُقدِّر الله ويُمكِّن تبارك وتعالى، سأضرب مثالاً بسيطاً، الذين يتحدَّثون عن عظمة وروعة وإعجازية الطبيعة حين تذهب تختار وتُفصِّل وتنتقي وعبر الزمانية الطويلة في عشرات ومئات ملايين السنين نرى كل هذه الروعة التي يذخر بها العالم، في قبضة تراب تأخذها من تراب حديقتك يوجد أكثر من خمسة وعشرين مليار كائن دقيق، وكل كائن عالم بحد ذاته في قبضة يد واحدة، العالم يذخر بصنوف وأشكال الحياة بسيطها ومُعقِّدها وبسيطها ومُركَّبها، في مظاهر الحياة الذاخرة الطافحة هناك جمال وهناك عظمة، قال داروين Darwin نفسه هناك Grandeur، فهناك جمال وعظمة وبهاء وهناك ما يُظن أنه يُمكِن أن يبعث على الهناء والسعادة والسؤال، لماذا؟ كيف؟ لماذا صار الأمر إلى هذا المصير وانتهى إلى الروعة والبهاء والألق والجمال؟

حدَّثتكم مرة عن الانتقاء الجنسي الذي حير وصدع أبا النظرية وقال يُصيبني بالغثيان، يقول هذا أمرضني، لماذا تُفضِّل أنثى الطاووس المُجرَّدة من الزينة والجمال الذكر بالذيل الكبير الكثيف الجميل، لماذا؟ هذا لا يُعَد ميزة بقائية للذكر لأنه يُعرِّضه للمُفترِسات، الكائنات لكي تحمي نفسها ويمتد بقاؤها تُمارِس التمويه والتنكر والتماكر حتى لا تُرى، لكن هذا المسكين يُعرِّض نفسه على طبق من ذهب لكل المُفترِسات وخاصة في القارة الهندية، وهنا يقف طبعاً كل هؤلاء ولا يفهمون وبالحري يعجزون عن تفسير سبب انتقاء الطبيعة للجمال، لماذا كان ينبغي أن تكون جميلة؟ طبعاً المسلم المُوحِّد صاحب القرآن مُباشَرةً يقول لك قال الله الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۩، هذا من الحُسن وليس من الكمال فانتبهوا، لم يقل كَمَّل وإنما قال أَحْسَنَ ۩، أي من الحُسن، أَحْسَنَ ۩ بمعنى جَمَّل، فإذن يُوجَد جمال، والملاحدة أنفسهم يُؤكِّدون هذا الطابع للطبيعة ويقولون فيها جمال وفيها روعة، لن أخوض معكم إلى آخر الشوط في نقاش هذه المسألة لأنها مُعقَّدة جداً وتحتاج إلى حلقة بحيالها، لكن على كل حال هذا كما يُقال إسلافٌ تحت الحساب، في نهاية المطاف إما أن يُسلمِّوا بهذا وبعجزهم وإما أن يختاروا العدمية، هل تعرفون ما معنى العدمية؟ يقول لك ما شئنا أن نسميه جمالاً وعظمةً وبهاءً وتناغماً وتناظراً – Symmetry – كل هذا مُجرَّد تحكمات اعتباطية منا، بمعنى يستوي ما نعده جمالاً وما نعده قباحاً، يستوي ما نعده تناغماً وما نعتده مُشاكَسةً، كله مستوٍ لكن هكذا شاء لنا تاريخنا التطوري أن نُميِّز وأن نُصنِّف، إذن انتهوا إلى عدمية حقيقية، لا يُؤمِنون بأصالة وبحقنية الجمال والتناغم والاتزان وغير هذا، لا يُؤمِنون بهذا حقيقةً، هذه عدمية حقيقية، ولذا أنا أقول لكم أين هو الوعد الفلسفي للملاحدة؟ أين هو الوعد الجمالي للملاحدة؟ أين هو الوعد الأخلاقي للملاحدة؟ انتبهوا إلى هذا دائماً، لأن أولادنا – أبناؤنا وبناتنا – وأحبابنا الآن صاروا كالمُغرَمين – مُغرَمين أو كالمُغرَمين – بهذا الوعد الذي سيُخلِّصهم من براثن المُتدينين ومن براثن المُلتاثين بالدين والمجنونين وهم كثر، لا كثَّر الله في الأمم من أمثالهم، من براثن الذين قتلوا الأطفال أمس في بيشاور، لقد قتلوا مائة وأربعين طفلاً،  قلنا لكم مائة مرة والله لا يبحث هؤلاء عن الله، والله الذي نعبده ونحن في مسجده لا يبحثون عن الله ولا عما يرضي الله ولا عن شرع الله، أُقسِم بالله أنهم لا يبحثون إلا عما يتكيَّف من دين الله بقرائتهم لدين الله مع نفوسهم الحقود المُلتاثة المُغتاظة والغاضبة، يُريدون أن يُنفِّسوا عن غضب وعن حقد وعن غيظ بإسم الله وبإسم كتاب الله وبإسم دين الله، ولذلك يقرأون النص ويقرأون كتاب الله قراءةً ملعونة، ويقول لك الواحد منهم ليس عندي أي مُشكِلة، الله – تبارك وتعالى – جَوَّز لي هذا الفعل، وأولادهم يا رسول الله؟ قال هم منهم، يا ما شاء الله، قال هم منهم، كيف لو أخذنا بهذا الحديث؟ وما أُرانا نأخذ به ولا بأمثاله لأن بين أيدينا كتاباً كريماً معصوماً مُتواتراً مُعجِزاً، لا إله إلا الله، سبحان مَن أنزله، ولا نأخذ بهذه الآحاد التي تضرب على أخلاقية الإسلام وتضرب على إنسانية كتاب الله وعلى رحمانية هذا الشرع الكريم بأحاديث آحاد لا ندري ما هى، ثم هم يتجاوزون فجوة هذه الآحادية لكي يقيسوا قياساً مع فارقٍ عظيم، الحديث على فرض صحته – ولا يصح وما ينبغي له – ورد في قومٍ مُشرِكين مُحارِبين بادئين بالعدوان، وسنُضطَر أن نرد عن أنفسنا، ولكن أنت الآن تُنزِّل الحديث على قوم مسلمين بينك وبينهم فتنة وبغي، يبغي بعضكم على بعض، فهل تستبيح أطفالهم؟ تماماً كما استُبيحوا الأطفال في الجزائر قبل ذلك أيام فتنة الجزائر الدموية، أيام العشرية الدموية، وبفتاوى  قرأناها – والله – هنا في النمسا وأُقسِم بالله على هذا، أنا كنت حديث عهدٍ بالنمسا، في شهوري الأولى تُوزَع أمام أبواب المساجد فتاوى، وطبعاً ما شاء الله على أمة محمد، هذه الأمة الآن تديرها هذه الفتاوى، هذه لا يُديرها لا عقل ولا إدارة ولا زعامة ولا قيادة ولا فلسفة ولا رؤية، وإنما تًديرها الفتاوى، ولا كثَّر الله من أصحاب الفتاوى ومن صناع الفتاوى، أحمد شوقي يقول يوماً إذا كثر الشعراء فلا شعر، وإذا كثرت الفتوى لا فتوى، إذا كثر المُتمشيخون لا مشيخة، طبعاً هناك سؤال بالمُناسبة، لماذا يكثر هؤلاء المفتون وهؤلاء المُتمشيخون؟ لماذا؟ وما ينبغي أن يكثروا، كما لاحظ الألباء من قديم مفتٍ واحد يكفي مدينة كاملة – مثلاً – أو قرية على الأقل، لماذا في القرية مائة مُفتٍ؟ لماذا في الحارة عشرة مساجد وخمسون مُفتٍ؟ ما الذي يحصل؟ يحصل أننا لا نريد الفتوى، نحن لا نريد الدين، لا نريد الحق، نحن نريد ما يتكيَّف مع أهوائنا، هذا لا يُعجبنا فليذهب إلى الجحيم، هذا فقيه سُلطة وهذا جاهل وهذا باع نفسه وهذا اشترى نفسه فلا نريده، وهذا من حزب ثانٍ وهذا من طائفة ثانية وهذا أيضاً لا ينتمي بالكامل لنا فلا نريده، لكن هذا يتكيَّف فتعال أنت شيخنا، وما شاء الله كثرت المشائخ وكثرت الرايات السود، الرايات السود التي سوَّدت حياتنا وعصرنا وديننا، وطبعاً مِن هنا يكثر هؤلاء، لماذا؟ وهم يلعبون ويضربون – والعياذ بالله – على هذا الوتر الملعون، يقول الواحد منهم للناس لا تُوجَد مُشكِلة، أنا أريد أن أُنصِّب نفسي زعيماً، هلم أيها الناس، هلم أيها القوم إلىّ، ولدي ما تحبون وتشتهون، فتاوى بالقتل وبالتكفير وبالتفريق وبالتأليب وبالتحريش بين المسلمين وبتحريش مسلمين على غير مسلمين وهكذا، لا تُوجَد أي مُشكِلة، وطبعاً ليس كل الناس يُريدون هذا، لكن بعض الناس يُريدون هذا، وهو يعلم هذا ومن ثم سيُصبِحون جماعته وسيُصبِح هو نبيهم الكذاب،  سيُصبِح هو مُسيلمتهم الكذّاب، وكم من مُسيلمة اليوم بين ظهرانينا، فأقول لكم بهذا السبب وبأشكاله وأمثاله صار الشباب والشواب مُغرَمين أو كالمُغرَمين بالإلحاد ووعد الإلحاد، يقول لك الواحد منهم الإلحاد سيكون أكثر أخلاقية، كلا فانتبهوا، كلا، هتلر Hitler لم يكن رجلاً مُوحِّداً ولا رجلاً قلبه وعينه على الدين، ولا جوزيف ستالين Joseph Stalin طبعاً ولا موسوليني Mussolini ولا فرانكو Franco، هؤلاء لم يكونوا مُتدينين بأي معنىً من معاني التدين، وانظروا ماذا فعلوا بالبشرية، ماذا فعلوا بقاراتهم وبأقوامهم وبأهل دينهم وبأهل جغرافيتهم، وهذه مسألة ثانية مُختلِفة ومُخيفة، وترون هذا أنتم في المقاطع وفي المُناظَرات المختلفة في الغرب الأوروبي والأمريكي وغير ذلك، وطبعاً لكي أُنصِف ستجدون الألوف من الملاحدة أخلاقيين إلى حين وأخلاقيين إلى حد وأخلاقيين بقيد، كيف هذا؟ يقول لك أنا مُلحِد وأنا مع الإنسان ومع قداسة الإنسان ومع كرامة الإنسان وأنا أُناضِل من أجل الحريات والحقوق مثل برتراند راسل Bertrand Russell وريتشارد دوكنز Richard Dawkins، فهو يقول لك أنا مع هؤلاء وأنا ضد الأديان لأنني مع الإنسان ومع الحياة ومع الجمال ومع العظمة ومع الحرية ومع الحقوق، جميل ولكن انتبه، لن تخدعني عن نفسك، جميل لكن أنت أخلاقي إلى حين، سأسألك – وقد سُئلوا وأجابوا بفضل الله – ما قولك دام فضلك ودام ظلك على أمة الملاحدة في مَن يأتي ابنته وفي مَن يعشق أخته وفي مَن يُحِب إتيان ابنه؟ أب لوطي – والعياذ بالله – يُحِب ابنه، أب يُحِب ابنته، والله أجابوا بما تقشعر له الأبدان وأُقسِم بالله على هذا، وطبعاً بعضهم يُحرَج أكيد ويقول لك على كل حال يُوجَد شرط أساسي وهو السن الفانونية، كأن القانون إله وكأن القانون عنده قدسية حقيقية، وهذا كذب طبعاً، القانون لا يُمكِن أن يكون عنده قوة التشريع الإلهي المُنتمي إلى المُطلَق وإلى المُفارِق وإلى المُجاوِز عند مَن آمن بهذا المُطلَق، لا تسخر لي من هذا المُطلَق، هذا مُطلَقي سأظل أُؤمِن به حتى آخر رمق، أنت لا مُطلَق لديك، أنت عدمي ووعدك أسود – Black Promise – بل أسود من السواد نفسه، لأنك الآن تقول لي السن القانونية، إذا كانت البنت بلغت السن القانونية ورضيت بأبيها عشيقاً لا بأس ويا حيهلاً، وهو طبعاً لم يأخذ بالاعتبار عشرات وربما المئات الأمور المُتداخِلة المُعقَّدة التي تُلابِس ولابست نشأة هذه البنت في ظل هذا الوالد المعتوه الملعون أو هذا الأخ اللعين المُلتاث أو هذا العم أو ذاك الخال أو هذه الام المجنونة الشاذة عن سواء الفطرة والطبيعة والخلق، لم يُؤخَذ هذا بعين الاعتبار، ثم أن القانون – كما قلت لكم -ليس عنده إلا قوة الردع، القانون رادع حين يعمل لكنه ليس وازعاً، الوازع داخلي وينتمي دائماً إلى شيئ مُفارِق، القانون يردع فقط، لكن لن يرتدع هذا حين تكون هذه البنت دون السن القانونية وحين يستغل ضعفها وقصورها القانوني، أليس كذلك؟ لن يرتدع، ما العصمة؟ وعلى كل حال أنا أقو لكم للأسف في الغرب كما في الشرق الآن العربي والإسلامي سينظرون إلى هذا الوعد الأخلاقي – هذا وعد أخلاقي – الإلحادي بنوع من الاستخفاف والاستكبار، قد تقول لي ربما لن يكون كارثياً كما تظن أنت، أنت تنطلق من خلفية ثقافية ودينية تربوية، الأمر قد يكون أهون من هذا، لكن أنا أقول لك واضح أنك تقول هذا لأنك لم تخض التجربة، والحمد لله أنك لم تخوضها، وأدعوا الله  ألا يخوضها أي أحد، ولكن الله أعطاك جمجمة بحجم ألف وخمسمائة سنتيمتر مُكعَّب، تحمل دماغاً تقريباً بهذا الحجم أو أقل قليلاً، كيلو وأربعمائة جرام ولذا هذا دماغ كبير، وهذا الدماغ أكبر بكثير من حاجاتك للبقاء، هل تعرف لماذا؟ لكي تفصل في مثل هذا النزاع بيني وبينك، لكي تخوض التجربة تخيلياً وافتراضياً، هذه وظيفة الدماغ الكبير عندنا – أي عند الإنسان – طبعاً، لكي يمكن أن يخوض مثل هذه التجربة ليس بالفعل ولكن بالافتراض وبالتخيل، حاول أن تخوض مثل هذه التجربة، حاول أن تتمثَّل آثارها على الضحية، اذهب إلى المُستشفيات وسل المُستشَارين وسل هؤلاء المنكبوين من الضحايا كيف هى حياتهم اليوم؟ وأنا في جعبتي قصص كثيرة، هم مُدمَّرون ومُحطَّمون بالكامل، كل طفل وكل طفلة جرى الاعتداء عليه جنسياً تم تدميرهم بالكامل، طبعاً ينبغي أن تفهم هذا بشكل أعمق حتى لا تعبث بالشأن الديني وتتكلَّم بمسخرة عن الله والرسل والقرآن والكتب المُقدَّسة والأديان بمسخرة، لأنك أصبحت مسخرة، أنت لست فيلسوفاً بهذه الطريقة بل أنت أصبحت مُجرَّد مسخرة ومُجرَّد عار، وتجلب العار على نفسك وعلى أمتك التي تدّعي أنك تُريد تنويرها، أي تنوير مُظلِم هذا؟ لا، أنا أقول لك عليك أن تتعمَّق المسألة أكثر من هذا بطريق التمثّل، كيف هذا؟ حين كنت صغيراً كانت هناك مُتطلبات مفروضة ومعصوبة بجبين الوالد، أعتقد وأنت الآن في الأربعين أو في الخمسين لا تزال تُؤكِّد أيضاً على مشروعيتها، أن الوالد يُطلَب منه عموماً هذا، وأنا الآن كوالد واضح أنه يُطلَب مني إزاء ابنائي كذا وكذا وإزاء بناتي كذا وكذا،  هذه نفس المُتطلَبات ونفس المطلوبات لأنها لم تتغيَّر كثيراً، وبخُطوة مُتقدِّمة إذن تخيل نفسك وأنت في الحادية عشرة بدل أن يبذل لك والدك ويُحقِّق لك ويُنجِز لك هذه المُتطلَبات أو هذه المطاليب أنجز بعضها أو مُعظَمها حتى ولكن أضاف إليها استغلالك جنسياً، كان يستغلك أبوك، ما هى الصورة التي أنت تفترضها للأب؟ كيف تُحِب أن يكون أبوك؟ وبالتالي كيف تُحِب أن تكون انت أباً لأبنائك؟ هل هذا يدخل في مُتطلَبات الصورة وفيما يُركِّب هذه الصورة؟ هل سيكون أثر هذا حسناً على ابنك او ابنتك أو حتى على الزوجة المفجوعة بزوج ملعون وأطفال ضحايا مُكسَّرين ومُحطَّمين؟ واضح أننا نريد أن نتجاوز بإسم هذا الوعد اللعين المُظلِم إنسانيتنا، وواضح اننا نريد أن نقفز في مُستقبَل مجهول ومُظلِم مرةً عاشرة لكي نخلق أخلاقاً جديدة لم نُجرِّبها بعدُ ولكن لدينا كل القدرة على أن نُجرِّبها تخيلياً وعلى أن نعلم مدى كارثيتها ومدى ظلامتها، وهذا ما يتعلَّق بالوعد الأخلاقي في غياب الله تبارك وتعالى.

توماس هوبز Thomas Hobbes كان أصدق مِن هؤلاء تماماً في مثل صدق نيتشه Nietzsche تقريباً حين قال إذا لم يكن إلا الطبيعة والطبيعة وحدها – أي لا يُوجَد إله، لا تُوجَد قوة مُفارِقة مُسيطرة ومُتحكِّمة في هذا الوجود،فقط طبيعة كما يقول كل الملاحدة –  فلا يُمكِن أن تقوم معرفة، وهذا أمرٌ عجيب، ويُريد بكلمة معرفة المعنى، كأنه يقول معنى حقيقي لأجل شيئ لا يمكن أن يتم، سيختفي المعنى فانتبهوا، وطبعاً هذا ما انتى إليه الغرب الآن في صرعة ما بعد الحداثة، غياب المعنى وغياب المركز وغياب المعيار، كل شيئ مُمكِن وبالتالي لماذا لا يكون كل شيئ مُتاحاً؟ هى مسألة وقت فقط ومسألة تقنين إلى أن يلتاث المُشرِّعون ومَن يُمثِّلهم هؤلاء المشرعون ولا عبرة بكل استثناء فتبقى المسألة مسألة وقت، يقول توماس هوبزThomas Hobbes إذا لم يكن إلال الطبيعة والطبيعة وحدها فلا يمكن أن تقوم لا معرفة ولا أخلاق، لا تُحدِّثني عن أخلاق وتضحك علىَ، يُقال لك نحن ملاحدة ولدينا أخلاق إنسانية ونُكرِّم الإنسان، ونُجيز أن يركب …. أستغفر الله العظيم، هذا شيئ عجيب، أي منطق هذا؟ ثم أنني أقول لكم بالمنطق ذاته ما الذي يمنعني أو يمنعك أو يمنعها إذا جاز لي أن أستغل ابني – لا قدر الله – أو ابنتي جنسياً من أن أستغل صديقي أو  زميلي مادياً؟ لماذا لا أستغل أي فرصة متاحة لي مادياً فضلاً عن أن أتسوَّر على عورات الناس وأتسلَّل وأغتصب أعراض الناس حين يُتاح لي هذا وبالمُوافَقة؟ لا تُوجَد قيمة وفاء وقيمة أمانة وقيمة عفة، انس كل هذا الهبل الأخلاقي، تماماً كما صرح نيتشه Nietzsche حين قال هذا كله كلام فارغ، هذه أخلاق الضعفاء، هذه أخلاق المطحونين، الأقوياء يُجرِّبون كل شيئ، يبنون بيوتهم على بركان فيزوف حتى لو تحطَّمت، هذه الحياة وهذا المنطق، وهذا شكل آخر من العدمية العنيدة، هناك عدمية مُتسوِّلة للمقبولية، تُريد أن تُقبَل فتتسوَّلنا، لكن هذه العدمية تبصق حتى في وجوهنا، أنا  أقول لكم أن عدمية نيتشه Nietzsche تبصق في وجوهنا، يبصق في وجوهنا ويقول أنا أريد هكذا وأنا أفهم كذا، وهذا مُلحِد صادق، نيتشه Nietzsche مُلحِد صادق.

إذن قال الله نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ۩ وقال أيضاً نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۩، سيغيب عنك المعنى، لن تجد معنى لشيئ أيها الملحد، وأنا أقول لك أيها الكافر لا عزاء لك، إذن سأنتقل إلى نقطة أخرى وهى العزاء، لن تجد العزاء، وهو من أصعب المسائل على الإطلاق،  انظر إلى هذا العزاء، نقول لله ما أخذ ولله ما أعطى، وهذه قضية أكثر مما نظن جميعاً تعقيداً وتركيباً وإلغازاً، بدليل أنك إذا ذهبت تقرأ عنها وتتعمَّق تضاعيف هذه المسألة ستجد مئات الدراسات الفلسفية قديماً وحديثاً من أيام أفلاطون Plato وأرسطو Aristotle ومن أيام الرواقيين Stoics – إبكتيتوس Epictetus وماركوس أوريليوس Marcus Aurelius وأمثال هؤلاء – إلى الفلاسفة المُعاصِرين وخاصة الفرنسيين طبعاً، كل هؤلاء عالجوا ويُعالجون هذه المسألة، ودائماً تحت عنوان ماذا؟ الحياة الخيّرة والحياة الطيبة وكيف تُعاش الحياة وأيضاً تحت معنى الحياة، هناك ألوف الصحائف ويُقدِّمون المُقارَبات، وأنا أقول لكم أنا قرأتها، قرأت الكثير من هذه المُقارَبات، يلذ لي أن أقرأ هذه المقاربات لكي أعلم عظمة الإنسان بغير إله وقدرة الإنسان بغير الله وبغير افتراض الله تبارك وتعالى، ما الذي يُمكِن أن يخرج منه؟ أنا أقول لكم عبث، كله عبث وكله أكاذيب،  لعب ببيضة وحجر اللغة والكلمات على طريقة ما بعد الحداثيين وليس أكثر من هذا، حتى الجادون من هؤلاء يفعلون هذا، وقد ذكرنا إبكتيتوس Epictetus الفيلسوف الرواقي الكبير في القرن الأول الميلادي وهو صاحب كتاب في التعزية أتى في خمسة وثلاثين جزءً يُحاول أن يُعزِّينا، وأنا أخذت شيئاً يهم كل واحد فينا، يهم الآباء والأمهات، أصعب شيئ أن تُصاب ليس في أبيك ولنكن صادقين، نحب أبناءنا أكثر من آبائنا وأمهاتنا، نعم تبر الأب والأم أكثر وتحترم وتُوقِّر بنسبة مائة في المائة وهذا مطلب معقول،  لكن أنت لا تُحِبهم أكثر من أولادك فلا تكذب على نفسك، وهذا طبيعي وهو يحصل معنا ومعهم، أنت لا تُحِبهم اكثر من أولادك، هذا شيئ عجيب، الأولاد رقم واحد دون أي كلام طبعاً، فأنا اكتفيت بهذا المثال فقط، وهو عن تعزية مَن أُصيب في ولده وخاصة إذا كان وحيده، كأن يكون لديك هذه البنت أو هذا الولد – حتة البنت أو حتة الولد كما يُقال – فقط، ورَبَى على عينيك، وفي ضوء عينيه أنت رأيت ضوء النهار ورأيت جمال العالم، رأيت هناء العيش في ضوء عينيه وفي نغمة صوته وفي نأمته وفي حركته وفي سكنته وفي نومته وفي رقدته، هذا ابنك، هذا معنى الابن والبنت لك، افتُلِتَ بحادث، سكران صعد على الرصيف بسيارته فضرب لك ابنك،  فيرس – Virus – ملعون انتشر في كل المدينة، والمدينة فيها اثنان مليون، مات مائة وابنك كان واحداً منهم، من اثنين مليون كان الذين ماتوا مائة فقط ومن المُمكِن أن يكونوا عشرة ومن المُمكِن أن يكونوا اثنين وابنك أحد الاثنين، وطبعاً هذا شيئ صعب جداً جداً جداً، أي عزاء ستقدمه لك الطبيعة؟ ستقول تباً لهذه الطبيعة الملعونة لأنها طبيعة عبثية وغير عاقلة، وقطعاً واضح أنها لم تتقصد ابني، لعنة الله عليها وعلى قصدها، ولكن لم كان ابني؟ أنت تريد عزاءً يُريحك، لن تسترد ابنك لكنك تُريد العزاء، انظر إلى عزاء إبكتيتوس Epictetus الفيلسوف العظيم الرواقي وهو صاحب خمسة وثلاثين جزء في التعزية وفي تعليمنا الحكمة، والفلسفة هى محبة الحكمة، قال إبكتيتوس Epictetus كان ينبغي عليك من البداية – من نقطة الصفر – أن تتعاطى مع الأشياء ومع الأشخاص بل مع الوجود ومع كل شيئ حولك ومع كل ما هو خارج عنك ومنك بمنطق لاتملكي، أي أنه ليس لك، يُضاف إليك لاعتبارات معقولة ومفهومة لكنه ليس ملكاً لك في نهاية المطاف، طبعاً هنا إبكتيتوس Epictetus لا يستطيع أن يذهب إلى آخر الشوط لكي يقول لنا لماذا، وهذا كلام جميل، أنا أؤمن به وأنا أُصادِق عليه، أنا أقول لكم صدِّقوني المالك الوحيد هو رب العالمين، لا يقدر أي أحد في الكون أن يقول أنا مالك، والله لست مالكاً لشيئ، ما رأيك؟ ونستطيع أن نُبرهِن هذا فلسفياً الآن في لحظة لكن خلونا من هذا، فإبكتيتوس Epictetus انطلق من هذا المُنطَلق ولذلك يقول لك حين تكون مُغرَماً بزهرة – طبعاً زهرتك التي في أصيصك أو في الفازة عندك في البيت – لا تقل لي كم أنا مُغرَم بزهرتي، وإنما قل أنا مُغرَم بالزهرة أو أنا مُغرَم بزهرة، يقول حين تذبل أو تموت أنت لن تفقد الكثير، لأنها زهرة مثل ملايين الزهور في العالم، مع السلامة إذن، لكن ماذا عن ابني وهو ليس زهرة؟ قال لك هذا ينطبق عليه نفس الشيئ، حين تُعانِق ابنك وحين تُقبِّله لا تقل أنا أُعانِق ابني، فانظر إلى مُحادة الفطرة والوقائع، هو ابني في نهاية المطاف، ليس فقط قانونياً وبشهادة الميلاد وبشهادة المجتمع وإنما هو ابني بجيناتي يا إبكتيتوس Epictetus، لكن  إبكتيتوسEpictetus لم يكن يعرف عنها شيئاً طبعاً، هو ابني بجيناتي، نصف حقيبتي الجينية تجري فيه يا مسكين، جينات – Genes – آبائي وأجدادي تجري في دمه، أرى هذا في عينيه، كما قال الشاعر العربي الأعرابي وأرى ثقلاً في رأسه من رأسي، هو ينام كثيراً وهو كسول لأنني كسول وأنام كثيراً، أنا أرى نفسي تماماً فيه، أنا أرى دعج عيني في عينيه، أنا أرى ضحكتي في ضحكته تماماً، حُبي للبندورة انعكس عليه ومن ثم هو يحب البندورة، تُوجَد جينات – Genes – ويُوجَد تأثير، هو ابني حقاً إذن، لكن إبكتيتوس Epictetus يُريد أن يقنعك بغير هذا، يقول لك لا تقل هذا ابني، قل أنا أُقبِّل طفلاً أو أنا أقبِّل ولداً، وحين يموت هذا الولد أنت لا تفقد الكثير، فهل تعزيتم؟ بالله عليكم هل تعزيتم؟ أنا لم أتعز، هذا غاظني، هذا لم يعزني وإنما غاظني.

يُوجَد آخرون لديهم عزاء أيضاً كالبوذيين والفلسفة البوذية، وطبعاً يُوجَد العزاء الأفلاطوني، وهو كلام فارغ يليق بأفلاطون Plato وتهويمات أفلاطون Plato، أفلاطون قال لك لكي تتعزى من كل شيئ إياك أن تُطيل الفكر والتأمل في هذه المُتغيِّرات الغاديات الرائحات الداثرات، هذه كلها صور معيبة وصور ظلالية ناقصة، عليك أن تُعمِل الفكر وتغلغله وتطيله في المُثُل، فابنك أو ابنك أو ابني أو ابنه أو ابنها له مثال في عالم المثال، الابن المُطلَق الكامل،لا يحول ولا يزول كأنه إله صغير، فكِّر فيه، وأحياناً  تفقد هذه الصورة البسيطة التي هى ابنك، ومن المُؤكَّد أنه كان لا يعرف شيئاً عن الجينات – Genes – أيضاً وعن هذا الدم الجاري مني إلى ابني، يقول لك ما فقدت شيئاً لأنك بقيَ المثال، تعز بالمثال، فهل تعزيتم؟ لم يتعز أحد، هؤلاء المُعزون وعشرات المذاهب الفلسفية وفي رأسهم تلميذه أرسطو Aristotle قالوا هذا غير صحيح، أرسطو Aristotle قال واضح أن الواقع والخارج أقوى مما أراد أفلاطون Plato أن يُفهِمنا، قال الخارج موجود وقوي ويفرض نفسه علينا وصعب أن نتحكَّم فيه، قال أرسطو Aristotle ومن هنا المُعاناة البشرية، لا نقدر على أن نتحكَّم في كل هذا الواقع، أنت لا تتحكَّم في الواقع طبيعياً، لا تتحكَّم في شمسه وقمره وفي زلزاله وفي حره وفي برده وفي شتائه وفي صيفه، ولا تتحكَّم في الواقع الاجتماعي، ليس كل البشر ينطلقون من نفس مُنطلَقك أو يُفرِغون عن نفس منطقك، أليس كذلك؟ هذا السكران الذي قتل ابنك الوحيد لأنه سكران غير مقتنع أنه ممنوع أن يسير بعربته أو بسيارته في الشارع وهو سكران، لم يقتنع بهذا أو هو مُقتنِع لكنه جاوز القناعة،غلبت عليه لذته أعني شقوته مثلاً، فماذا تعمل أنت؟ أنت لا تتحكَّم فيه، أنت لست رباً ولست مديراً لهذا الكون الصغير الذي إسمه الأرض أو عالم الكون والفساد بلغة أرسطو Aristotle، لا تُوجَد أي فائدة أيضاً، أرسطو Aristotle قال لك تحل بالفضيلة وتحل بالمعرفة، استخدم العقل وحاول تفهم قوانين العالم، إذا فهمتها جيداً من المُمكِن أن تتعزى، وهذا كلام فارغ، هل تعرف لماذا؟ مِمَن فهمها وأراد أن يُعزي بها أستاذنا الفاضل المرحوم الدكتور المسيري، علماً بأنني حدَّثتكم بهذا مرة أو مرتين، ذهب يُعزي رجلاً في أمه رحمة الله عليها، والمُصاب بالأم ليس عظيماً – كما قلنا – كالمصاب بابنه الوحيد، وهى أم كبيرة وطاعنة في السن، قال فالناس يعزون تقليدياً وأنا أردت أن أتفلسف فقلت له على كل حال يا أخي هى بلغت عمرها الافتراضي، والكلام هذا من حيث التجريد ومن حيث القدرة التعميمية فيه صحيح مائة في المائة، امرأة عمرها الآن أكثر من ثمانين سنة وتحمل عشرة أمراض ولا أكثر حتى فطبيعي أن تموت، والناس يموتون هكذا بين السبعين والثمانين والله يرحمها، قال فنظر إلىّ الرجل مصدوماً وغاضباً، فقلت له عظَّم الله أجركم ومضيت، ما معنى هذا؟ هذه التعميمات وهذه القانونيات لا تُعزينا، هل تعرفون لماذا؟ لأن تفاصيلها تُفسِدها، تفاصيل هذه التعميمات تُفسِدها علينا وخاصة حين نكون مُصابين أو مكروثين، لكن كيف؟ ما معنى هذا الكلام؟ نعود إلى صاحب الابن الوحيد، سيقول لك أعلم أن الناس يُولّدون وكما يُولّدون يموتون، أعرف هذا التعميم، وابني وُلِد وابني مات، لكن الذي أعلمه أيضاً وهو أشبه بقانون أن معظم الصغار يكبرون ويعيشون، لماذا مات ابني صغيراً؟ لماذا أنا الاستثناء؟ لماذا أنا الدرس للغير؟ لماذا أنا العبرة؟ لماذا أنا استثناء القانون الذي أكَّده؟ أنا لا أُريد أن أقتنع بهذ، أنا لا أتعزى بهذا،  سيكفر بهذا، هذا التفصيل الوحيد البسيط أزعجه جداً جداً، هذا لم يُعزه، هل فهمتم يا إخواني؟ قد يقول لي أحدكم لكن بعض الناس فعلاً يتعزون مثل الكبار، سقراط Socrates حين مات وشرب كأس السم الشوكران عن طواعية ورضا وأقام من نفسه أمثولة ومثلاً خالداً لكل شهداء الحقيقة وخلَّد موته حياته، أثراها وأخصبها وعظَّمها وكبَّرها الموت، فأنت أيضاً يُمكِن أن تكون كسقراط Socrates إذا كنت تُدافِع عن حقيقة وعن قضية عادلة، لكنك قد تقول لكنني لست سقراط Socrates، سأموت ولن يذكرني أحد لأنني لم أُقدِّم ما قدم سقراط Socrates، تضحك على مَن؟ أنا لست سقراط Socrates، لو كنت سقراط Socrates أو أينشتاين Einstein أو الخوارزمي أو ابن رشد أو الغزالي أو أبو حنيفة أو الشافعي أو أي أحد فعلاً من المُمكِن أن أتعزى في هذه اللحظة، أنني تركت شيئاً يُذكر بي، مع أن هذا ناقشناه في خُطبة سابقة وهو ليس عزاءً حقيقياً، هل تعرف لماذا؟ هؤلاء أيضاً يُراد أن نُخدع عن الحقيقة بالقول نقلاً عنهم: حين ماتوا – بالذات أنا تحدَّث عن غير المُوحِّدين وغير المُؤمِنين بخلود الروح والحياة الأبدية الأخرى – استحسنوا ما كان منهم، كانط Kant آخر كلمة قالها قد كان حسناً، أي كل كان ممتازاً، هو راضٍ عن حياته، فرانكلين Franklin  الناجي من المحرقة وصاحب الكتاب العظيم – هذا علم نفس جديد، هذا أسس لعلم نفس البحث عن المعنى – الإنسان يبحث عن المعنى  يقول يمكن أن تتعزى بالنظر في ماضيك، الماضي يُعطي العزاء، وأنا أقول لكم طبيعة العزاء بالذات لا يُمكِن أن تستند على الماضي، ما رأيكم؟ طبيعة الأخدوعة بمعنى أن تخدعني بالماضي، زوجة الآن أنت عشقتها وأحببتها، هى المحبوبة الأولى والأخيرة في حياتك، جننك حبها وبعد عشر سنوات من الحب المُتصِل والحياة في تبات ونبات وأولاد طبعاً – ذكور وإناث – خانتك، تركتك بالخيانة وقالت لك ما عُدت أُطيق النظر في وجهك الكريه لأنني لا أُحِبك، كنت أفعل هذا أما الآن ما عُدت أُحِبك، بالله عليك هل يُمكِن أن يُعزيك حبها القديم؟ كذب، لن تتعزى، هذا سيزيد السخط لديك، للأسف الوقت أدركنا، لكن  أنا أقول لكم طبيعة العزاء تجد نفسها في المُستقبَل لا في الماضي، ما رأيكم؟ بدليل أننا لا نتعزى عن أخطائنا في حق مَن نحب، وهذا المعنى بالذات من المُؤشِّرات الروحية الكبيرة العميقة التي يغفل عنها الملاحدة والمُشكِّكون في الأديان وفي الله وفي الحياة الآخرة التي تُؤكِّد وجود الله ووجود الحياة الآخرة، كيف هذا؟ أنا أقول لكم لو كان فعلاً في قاع قناعاتنا وفي قاع نفوسنا أن هذه الحياة هى منتهى المُراد وهى مُنتهى الرحلة – الدنيا هى الرحلة بداية ونهاية وانتهى كل شيئ – هل تعرفون ما الذي كان ينبغي أن يحصل دائماً؟ الذي يحصل على محور الزمان ينبغي أن يحدث تماماً على النحو الذي تتشكَّل فيه الأمور على محور المكان، أي شيئ كلما ابتعد عنك صغر وضَؤل حتى يتلاشى ويضمحل ثم  يُصبِح كأنه غير موجود على أنه موجود، أليس كذلك؟ لأنه أصبح بعيداً جداً، الآن نعود إلى أمثولة الطفل الوحيد الذي مات في الرابع عشر من عمره ودهسه هذا السكران، أبوه للأسف الشديد أساء إليه مرات معدودات، صفعه أو حرمه من شيئ كان يُحِبه جداً أو انفعل على خطأ أو بادرة منه أكثر بكثير مما ينبغي أو كسر نفسه أو جرح كرامته، وقد فعل هذا عدة مرات، ومات الولد الآن، ما الذي سيُعزي الأب عن هذا الخطأ في حق مَن أحب؟ بالمنطق الطبيعي وبالمنطق المادي وبمنطق الأفول والدثور وبمنطق الحياة بداية ونهاية والدنيا قصة متكاملة ما الذي ينبغي أن يحصل؟ كلما تباعد الزمان المفروض أن تخفت هذه القصة والحكاية ثم تنتهي بالكامل، بدليل بل بضميمة أن هذا الولد الضحية – هذا المجني عليه المسكين – الذي اخطأت في حقه وكسرت خاطره  قد أفضى إلى النهاية، أي دخل في العدم كما جاء من العدم، انتهى كل شيئ، إذن لم يبق من أي أثر لأثر هذه الإهانة، أليس كذلك؟ لا يُوجَد أثر لأثر أصلاً وكل شئ فلتتعز إذن، لكن بالعكس أنت كلما ذكرته تحزن وتبكي وتلعن اللحظة التي فقدت فيها أعصابك، هل تعرف لماذا؟ لأن هذا بذاته بدل على شيئء أنت لم تفهمه ولم تواجهه، هذا يدل على أنه خالد وأبدي، يعيش في أفق آخر وفي عالم آخر، في بُعد آخر هو موجود، وأنت تشعر أنه ما زال يشعر بهذه الإهانة وهذا الذي يُثقِلك، إذن لا عزاء في مثل هذه العموميات، لأن تفاصيلها تُفسِدها على المُعزَى.

ثمة فيلسوف سويسري بريطاني  ومع ذلك إسمه فرنسي وهو ألين دي بوتون Alain de Botton، هو فيلسوف شاب أصدر في سنة ألفين كتاباً إسمه عزاءات الفلسفة، أراد أن يُفهِمنا أو أحب أن يخدمنا بإفهامنا أن كل مَن ابتُليَ بمُصيبة فله في أحد الفلاسفة عزاء، وسيضح طبعاً لمَن قرأ هذا الكتاب أن المنطق الذي بُنيَ عليه هذا الكتاب هو أن الفلاسفة المُختلِفين في الأعصار المُختلِفة تقريباً مروا بشتى صور المحن والكوارث ولذلك على مَن ابتُلى بمحنة أو بمُصيبة ما أن يبحث عن فيلسوفه ليجد عزاءه عنده، لكن هذا منطق منقوص، هو منطق منقوص جداً، وطبعاً هو ضرب أمثلة، وأعتقد أنه بدأ بسقراط Socrates  وانتهى بنيتشه Nietzsche المتوفى سنة ألف وتسعمائة، نأتي إلى سقراط Socrates، مثلاً إذا ابتُليَ الإنسان بتألب الناس ظلماً عليه كما تألبت أثينا – مع أنها في الحقيقة لم تتألب كلها وإنما بفارق بسيط جداً، هو لقيَ حكماً بالإعدام للأسف – واستعصم هو بالمضي قُدماً في سبيل الحقيقة وانفض عنه الأصحاب أو معظم الأصحاب فله في سقراط Socrates عزاء، مثلاً إذا وقع في الأسر واصطلى بنيران العبودية – حتى العبودية المُعاصِرة مثل عبودية الوظيفة وعبودية الأسياد الـ Modern – يُمكِن أن يتعزى بالفلاسفة الرواقيين الذين كان بعضهم مثل إبكتيتوس Epictetus عبداً، إبكتيتوس Epictetus  كان عبداً وكُسرت رجله وهو صابر محتسب، فتتعز بهذا الرواقي، يقول إذا شاكستك الحياة وقذفت في وجهك بألف حجر فلك عزاء في نيتشه Nietzsche، نيتشه Nietzsche رجل حياته مُتشاكِسة مُتناكِدة ومُتعارِضة، أي أنها حياة غُلب كما نقول بالعامية، فلك أن تتعز بنيتشه Nietzsche، هذا المنطق – كما ألمحت – منطق منقوص، هل تعرفون لماذا؟ لأنه يُمكن وفق هذا المنطق أن أتعزى بألوف من الناس الذين أصيبوا بمثل مصابي، ليس شرطاً أن يكونوا فلاسفة عظماء، يُمكن أن يكونوا أناس أفاضل عندهم شيئ من الحكمة وشيئ من العلم وشيئ من الدراية لكن أيضاً في هذه الحالة المنطق أيضاً منقوص، لا يُوجَد نمط للعزاء،  لا يُوجَد نمط واحد للعزاء، لا تُوجَد صورة واحدة للعزاء، لدينا مُصيبة واحدة وصور العزاء بإزاء هذه المصيبة قد تتعدد بعدد المُصابين، ما رأيكم؟ هو هذا، ولذلك أنا أقول لكم يفشل كل منطق للتعزية لا يستند إلى الله تبارك وتعالى، الإيمان حل هذه المُشكِلة، علماً بأنه حلها بشكل عجيب سواء في الكتاب المُقدَّس أو في القرآن، يُوجَد نفس المنطق، فهو يحلها وهو قادر على حلها، الله إذن مصدرعزاء حقيقي لمَن آمن به، مَن لم يُؤمِن به لا عزاء، فليتحمل المُصيبة وفقدان العزاء، كيف هذا؟ كيف يكون الله هو المصدر الحقيقي للعزاء؟ طبعاً في القرآن الكريم هؤلاء المُصابون ردة فعلهم الأولية قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ۩، طبعاً أكيد هذه الكلمة مُبتذًلَة تماماً لكثرة ما تُردَّد وتُقَال في كل مصيبة ضَؤلت أو عَظُمت، مُبتذَلة لأننا لا نفهمها، كلمة تُقال مثل سبحان الله لا حول ولا قوة إلا بالله وينتهي كل شيئ، هى غير مفهومة لنا، لكن حتى التفكير فيها على المُستوي اللغوي البسيط – البناء اللغوي – سيفتح أبواباً جديدة للفهم، تقول الآية الكريمة إِنَّا لِلّهِ ۩، كأنه يقول لك جذر الإحساس بالمُصيبة فعلاً كما كما لاحظ الفيلسوف الرواقي العظيم الصابر المُحتسِب إبكتيتوس Epictetus – وأنا قلت أوافق إبكتيتوس Epictetus على هذا – في وهم التملك، أنك فعلاً تمتلك الشيئ، ومن هنا أنا أحببت أن أضع مُعادَلة بسيطة من غير رموز رياضية أقيس بها حجم المُصيبة، وجدت أن من بين العوامل التي يمكن أن تُستخدَم أن حجم المُصيبة يتناسب عكسياً مع مُستوى التوقعات، فمثلاً هناك مَن يُصاب في أب أو في أخ كبير أو في أم طاعنة في السن تحمل – كما قلت – عشرات الأمراض ثم يأتيه الخبر في الليل:

يا نائِم اللَيلِ مَسروراً بِأَوَّلِهِ                         إِنَّ الحَوادِثَ قَد يَطرُقنَ أَسحاراً.

قرب الفجر يأتيه الخبر، وفعلاً فسيولوجياً معظم الوفيات – وفيات المرضى وخاصة المرضى بالقلب وكذلك الحال مع الحمل والوضع والولادات – على الإطلاق تحصل في هذه الساعة لأسباب مناعية، وعلى كل حال الشاعر لاحظ هذا بالاستقراء فقط فقال:

يا نائِم اللَيلِ مَسروراً بِأَوَّلِهِ                         إِنَّ الحَوادِثَ قَد يَطرُقنَ أَسحاراً.

قد يطرقك مثل هذا الخبر الشنيع، يُقال لك يا فلان إنا لله لقد توفى والدك، وطبعاً ستشعر بالمُصيبة،ـ لكن شعوراً يتناسب مع مُستوى التوقعات، أنت تتوقع من سنتين أو ثلاثة أن يموت، والحمد لله على أن الله أعطاه إضافة، أعطاه مُهلاً أضافية كثيرة، هو كان مريضاً جداً جداً، وهناك أُناس أقل منه مرضاً وعللاً وأيضاً كانوا أصغر منه سناً  وقد ماتوا من حين، لكن هذا بخلاف ما يموت ابنك الشاب الصغير في الرابع عشرة بمرض أو بحادثة، لأنك سوف تُفجَع، لماذا تُفجَع؟ يُوجَد وهم تملك أيضاً، يُوجَد وهم تحكم في العمر وفي الزمن، من المفروض أن هنا تُوجَد فرصة، عمره لم يتجاوز الأربع عشر سنة، فعلى الأقل يعيش كمان خمسين سنة يا أخي، أليس كذلك؟ ستُفجَع أنت، ولذلك الآية مثل الفيلسوف أيضاً ومثل الكتاب المُقدَّس وسفر أيوب في العهد القديم، انتبه أنت لا تملك فعلاً هذه الأشياء ولا تستطيع التحكم بها أبداً،  عليك أن تستيقظ من هذا، لكن ليس هذا هو العزاء فانتبه، هذا بحد ذاته ليس العزاء وإلا كان إبكتيتوس Epictetus عزانا، هذا ليس العزاء وإنما هذا بداية العزاء، منطق العزاء الحقيقي ينطلق من هذه النقطة، وهذه النقطة لا يُمكِن أن تتم ضمن فلسفة لا إلهية، هذا مستحيل لأن هذا سوف يُصبِح لا معنى لها، هذا – كما قلت – سوف يُصبِح مسخرة، كلام إبكتيتوس Epictetus أصبح مسخرة، لا تقل لي قل أنا أحب ولداً، يا أخي هذا ليس ولداً، هذا ولدي، فعليك أن تُصحِّح اللغة بعد أن تُصحِّح المشاعر، أليس كذلك؟ كيف تقول لي هذه الإضافات هذه تُمنع في عالم الإنسان مثل ولدي ومزهريتي وزوجي وأبي ونبيي وكتابي ونظريتي وسعيي ومالي؟ هذا كلام فارغ، ونفس الشيئ يقوله لك إذا فقدت مالك، كأن مالي هذا أخذته عن طريق افتح يا سمسم مثل قصة علي بابا، مالي هذا أنا  سعيت فيه أربعين سنة وأنا أدخره وأتعب من أجله، وقد كلَّفني الكثير، كلَّفني من عواطفي وكلَّفني من حياتي مع زوجتي وأولادي، أنا تغرَّبت في الخليج وفي أوروبا، فهذا هو مالي، سُرق مالي أو أحترق مالي أو غرق مالي ومن ثم هذه كارثة كبيرة، هذا ليس مثل أي كلام، هذا مالي وليس له علاقة – كما قلت – بموضوع افتح يا سمسم، لكن إبكتيتوس Epictetus يُريد مني أن أقول احترق مالٌ أو ضاع مالٌ، والله تُصبِح الفلسفة مسخرة بهذه الطريقة، هذه مسخرة وهذا كلام فارغ ، أنا أقول لكم هذا الكلام يُضحَك به على إبكتيتوسEpictetus نفسه، لماذا؟ هذا الفيلسوف العبد لم يكن يملك من الدنيا شيئاً ولا يُريد شيئاً من الدنيا ومن ثم يُقنِعه مثل هذا الكلام، هو غير مُتعلِّق لا بمال ولا بولد ولا بزوجة ولا بأي شيئ، فمن العادي أن يصدر عنه مثل هذا المنطق.

أنا سأضرب لكم مثالاً موحياً جداً عن نيتشه Nietzsche،  نيتشه Nietzsche كان في البداية مُتعبدَاً لشوبنهاورSchopenhauer، كان معبوده شوبنهاورSchopenhauer، أي آرثر شوبنهاور  Arthur Schopenhauer، قال شوبنهاور Schopenhauer هو المُحِق، الحياة لا تُساوي شيئاً، الحياة بائسة، أحسن شيئ تُواجَه به الحياة كما علَّمنا شوبنهاورSchopenhauer هو أن تنسحب من الحياة، إياك أن تُدلي بدلوك في نهر الحياة وفي بئر الحياة، إياك أن تفعل هذا، لا تتزوَّج ولا تُنجِب، مثل المعري – هذا جناه علي أبي – أيضاً، فلا تجن على أولادك  مثلما جنى عليك أبواك، لا تعبأ بهذه الحياة، هذه حياة تعيسة بائسة، يقول شوبنهاورSchopenhauer تُعطيك ساعة من السعادة وتُدفِّعك الثمن سنوات من التعاسة والبؤس، ما هذه الحياة اللعينة؟ نيتشه Nietzsche صدر عن هذا المنطق وقال هذا ممتاز وهذا هو، سيدة لطيفة جميلة مُهذَّبة كانت مُفكِّرة وكانت تستضيفه في ايطاليا في منتجع لها، بيت جميل على الماء، عاش معها أياماً وأخذته على أفخم المطاعم في ايطاليا، فكان يأكل ويشرب وبعد ذلك يسر بعد أيام أو بعد أسابيع لإحداهن قائلاً أريد أن أسر إليكِ بأمر خطير جداً، يبدو أنني بدأت أفقد إيماني بشوبنهاورSchopenhauer،  الحياة أجمل مما كنت أظن، الحياة فيها ما يستحق أن يُعاش، انظروا إلى هذا حتى لا تغتروا بهم، هناك أُناس فعلاً في ناس يظنون أن الفلاسفة أنبياء، يضع الواحد منهم محمداً وقرآن محمد وعيسى وموسى على قدم سواء مع سقراط Socrates ومع أفلاطون Plato ومع نيتشه Nietzsche وشوبنهاورSchopenhauer وسبينوزا Spinoza وسارتر Sartre وما إلى ذلك، وهذا غير صحيح، هذا كلام فارغ، هؤلاء الناس بسطاء، هم أبسط مما تتخيَّلون، وأحياناً أكثر سذاجة مما تتصوَّرون، وها هو كفر بفلسفته بعد أسابيع من المُتعة بعد أن علَّموه كيف تكون الحياة، أليس كذلك؟ اختلف تماماً وانعطف انعطافة حادة نيتشه Nietzsche، أي فريدريك نيتشه Friedrich Nietzsche، ونرجع إلى موضوعنا، إذن هذه البداية الصحيحة  تتخلَّص من وهم التحكم الكامل على أساس الملك، كأن تقول أنا الملك وهذا ابني وهذا مالي وهذه دنيتي وأنا بنيت هذا وأنا عملت هذا وثمَّرته وعمَّرته وجنيته وولدته ونسلته، لكن الله قال لك لا، قال إِنَّا لِلّهِ ۩، مثل ما أنت مثل ما هو، ابنك ومالك وزوجتك وكل شيئ لله، الملك الوحيد لهذه الأشياء بما فيها أنت هو لا إله إلا هو، هذه هى البداية، هذه بداية العزاء فانتبه، في سفر أيوب في الإصحاح الأول – أول ما تفتح سفر أيوب في العهد القديم في الإصحاح الأول وهذا تقريباً في الآية العشرين – يُقال له يا أيوب أنا الوحيد من غلمانك الذي نجا، وطبعاً هذا يتكرَّر لثلاث أو أربع مرات، وقد نجوت لكي أخبر، وهذا منطق عاش ليروي، لقد أخذها من هنا، فهذا عاش ليُخبر، عاش لكي يُوِّصل الخبر، قال له أنا الوحيد قد عشت  لكي أُخبِرك، غنمك والماشية والأبقار كلها ذهبت، ومن ثم صبر، جاءه واحد آخر وعشت لأروي أو عشت لأُخبِر، الوحيد الذي نجا قال له يا أيوب أولادك وبناتك – كان عنده عدد كبير منهم، وكانوا جالسين يقصفون ويشربون الخمر وهم مُتمتعون كإخوة وأخوات – ماتوا جميعاً من عند آخرهم، وهكذا فقد كل شيئ في ساعة، في ساعة كل هذا تم، مزَّق جبته ومعَّط شعره – أي أيوب – وسجد على الأرض وقال الرب يُعطي والرب يأخذ ليكن مُبارَكاً إسم الرب، ولم ينطق أيوب بجهالة، لم يُجدِّف على إسم الرب تبارك وتعالى، هذا هو المنطق نفسه، تقول الآية الكريمة إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ۩، لما قيل لمحمد – عليه الصلاة وأفضل السلام وآله – يا رسول الله ابنتك فلانة تُرسِل إليك تقول لك ابنها يموت قال اخبروها وقولوا لها إنا لله ما أعطى ولله ما أخذ وكل شئ عنده بأجل مسمى فلتصبر ولتحتسب، هذا نفس المنطق، هذا منطق القرآن ومنطق العهد القديم، الله هو الذي يعطي والله هو الذي يأخذ، لماذا؟ لأنه هو الملك لا إله إلا هو، وطبعاً لدينا بُرهان المالكية الآن، كيف نُبرهِن على مالكية الله؟ هذا موضوع آخر وطويل وفيه كلام طويل، لكن أنا سأدلي إليكم ببرهان بالأمس – بفضل الله تبارك وتعالى – خطر لي، وأعتقد أنه لطيف وهو برهان عجيب، لقد خطر لي من خلال مُراجَعة فكرة التعميم، نحن كبشر لا يقوم لنا فكر ولا تقوم لنا معرفة إلا إذا عممنا، أليس كذلك؟ الفكر كله تعميم وتجريد، يجب أن تُجرِّد، عبقرية الكبار مثل  إسحاق نيوتن Isaac Newton – مثلاً – أن هؤلاء كانوا يفهمون هذا المنطق بعمق أكثر، بتعبير آخر كانوا يذهبون مع هذا المنطق إلى آخر شوطه، كيف هذا؟ نعرف قصة نيوتن Newton والتفاحة، مليون شخص رأى التفاحة تسقط ونحن نعلم أن التفاحة تسقط نحو الأرض، الكل يعلم هذا، ونيوتن Newton لم يكن عبقرياً لانه لاحظ أن تفاحته تلك سقطت، هو لاحظ أن التفاح يسقط، وانتقل من التفاح إلى البرتقال وإلى الطيور حين تموت، وانتقل أيضاً إلى الكواكب في مداراتها ودخلنا في الجاذبية الكونية، أي أنه عمَّم من تفاحة إلى كوكب في مداره Orbit، أرأيتم؟ ذهب مع التعميم إلى آخر شوطه فكان عبقرياً وحدس بالقانون، حدس بقانون الجاذبية وبعد ذلك  نمذجه رياضياً، وهذا جميل جداً، هذا هو البشر وهذه هى عبقرية البشر، لكن انتبهوا إلى ما سأقول، لماذا نُعمِّم أصلاً؟ لماذا هُيئنا وخطر لنا منذ البداية أن نُعمِّم؟ أنا أقول لكم نحن نُعمِّم لكي نُهيمن ولكي نُسكِّن أنفسنا بوهم الملك، أي أنن امتلكنا الشيئ، أنت لا يُمكِن أن تمتلك دون أن تُجرِّد ودون أن تُعمِّم، فمثلاً على المُستوى اللغوي المحض البياني أنت لا يُمكِنك أن تُثبِت لي أن هذا التفاح لك إذا لم تُعمِّم، وإلا ستضطر أن تقول هذه التفاحة ذات الاوصاف الفلانية وهى كذا وكذا وكذا لي، وهذه التفاحة ذات الأوصاف الكذائية وهى كذا وكذا وكذا لي، وتمكث لعشر ساعات لكي تقول لي أن كومة التفاح هذه – عشرة آلاف تفاحة – لك، وهذه عملية صعبة، وطبعاً يُوجَد ما هو أصعب منها، ما هو؟ أنك تسمي هذه التفاحة وهذه التفاحة دون أن تذكر أوصاف كل واحدة، ويُوجَد تفاوت بين كل تفاحة وتفاحة ولو في أشياء يسيرة جداً جداً، إذا لم يكن هذا على المستوى الظاهر فإننا نُريد أن نفتحها لكي نرى الاختلاف على مستوى البذور في الداخل، هذا شيئ عجيب.

الآن في جُزر المُحيط الهادي توجد بعض القبائل – ستتعجبون من هذا – لا يعرفون التعميم، هذا التعميم أو التجريد أو الأسماء الكلية لا يعرفونه، وطبعاً ستحدسون بالحري أن فكرهم مُتخلِف، وهذا صحيح طبعاً، هم بدائيون جداً جداً، يعيشون مثل الحيوانات بطريقة عادية، الواحد منهم يعيش ويأكل ويشرب وما إلى ذلك، لكن لا يُوجَد فكر، لا يُوجَد لديهم أي فكر حقيقي أو فلسفة أو علم أو قانون وما إلى ذلك، لكن كيف لا يُجرِّدون ولا يُعمِّمون؟ عندهم أشجار في الجُزر المحيطية كثيرة، لا يُوجَد في لغتهم كلمة إسمها  شجرة – Tree أو Baum – أبداً، وإنما تُوجَد هذه الشجرة وهذه الشجرة وهذه الشجرة، وكل واحدة تُذكر بأوصافها، مثل أشياء وعلائم في جذعها أو في أوراقها أو في طولها أو في لونها، كل واحدة تُوصَف هكذا، وهم لا يرون الشجرة، هم يرون أشجاراً كلاً على حدة، وكل واحدة منها لها ذاتية وكيانية مُنفصِلة عن الأخرى يا أخي، ما رأيكم؟ إلى اليوم هؤلاء يعيشون هكذا، علماء الأنثربولوجياAnthropology دُهِشوا حين عثروا على هذه القبيلة، هذا غير معقول، هؤلاء البشر لا يُجرِّدون، وهنا قد تقول لي لكن يُوجَد – والله – ملحظ جميل وهو أنني أعتقد هؤلاء أقرب إلى روح الأشياء منا، وهذا صحيح طبعاً، هم أقرب إلى روح الأشياء لكن ليس لهم علاقة بروح القانون، هم لا يحدسون بالقانون بالمرة، القانون لدينا نحن فانتبهوا، والقانون هو الذي يعطينا الفرصة لكي نتملك ونسترفد ونُسخِّر، هم ليس لديهم روح القانون لكن لديهم التعامل مع روح الأشياء، يُدرِكون كل شئ إفرادياً، وبلا شك لا يُوجَد شيئان مُتطابِقان في الكون على الإطلاق، قد تقول لي هناك التوائم المُتماثِلة والُمتطابِقة، لكن هذه التوائم غير مُتماثِلة بالمرة، هى مُتماثِلة على مُستوى البروتيني وعلى مُستوى الجينو تايب Genotype والفينو تايب Phenotype،  لكن على مُستوى الخبرات وعلى مُستوى العلاقات وعلى مُستوى الإنجازات وعلى مُستوى التأميلات يُوجَد يا حبيبي تباينات يا حبيبي لا يعلمها إلا الله، أليس كذلك؟ أنت أمام شخصين مُختلِفين في نهاية المطاف رغم كل هذه المشابه العجيبة بين التوأمين المُتطابِقين.

نعود إلى موضوعنا، فنحن الذي يضطرنا أن نُعمِّم وأن نُجرِّد – مثل الأسماء الكلية – ما هو؟ إرادة الهيمنة وإرادة الملك، لكي تُصنِّف – مثلاً نُحِب أن نُصنِّف – لابد أن تُعمِّم، لا تُوجَد إمكانية لغير هذا، ومن ثم تقول لي هذا برتقال وهذا تفاح وهذا خشب وهذا حديد، فهذا تصنيف Classification، ولكي تُصنِّف لابد أن تُجرِّد، ولكي تستخدم وتجُري التجارب لابد أن تُعمِّم، لماذا؟ لأن لا يُمكِن أن تقول لي أنا أجري تجربة وأضع فيه المادة الفلانية المُستخلَصة من التفاح، يجب أن يكون لديك اعتقاد راسخ بأن هذه المادة مُتماثِلة في كل التفاح وإن اختلفت التفاحات كل عن الآخر باعتبارت كثيرة، وعلى كل حال في نهاية المطاف التعميم هدفه السيطرة والهيمنة والتملك، يأتي السؤال الآن وهو هل الله – تبارك وتعالى – يُمكِن أن يُعمِّم؟ هل يُوجَد عنده منطق التعميم؟ هذا سؤال عجيب وهو سؤال ميتافيزيقي لاهوتي، لأول مرة أسأل نفسي هذا السؤال بالأمس ولا أدري هل سُئل قبل ذلك أول أم لا، ووجدت مباشرةً بخطوة واحدة أن الله لا يُعمِّم، الله – لا إله إلا هو – ليس عنده تجريد، وعلى كل حال طبعاً من ناحية لاهوتية ينبغي أن يكون كذلك، لماذا؟ لأن علم الله – عز وجل – بسيط، التعميم خطوات مُركَّبة، أي تُوجَد خطوات هنا، لكن لا تُوجَد عند الله خطوات، وهذا كان أولاً، ثانياً الله يقول عنه نفسه أنه وسع كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً ۩، إذن هو لا يحتاج لكي يعلم الأشياء أن يُعمِّم، لا يحتاج أن يُعمِّم لكي يستخلص قانوناً، لا يحتاج هذا، هو عنده علم بكل شيئ على حدة، وهذا العلم مُطلَق من كل الجوانب وغير مُقيَّد، لا يُقيِّده شيئ لا إله إلا هو، وهذا أمرٌ جميل، ثم أننا نُعمِّم – كما قلت – غائياً لأهداف الهيمنة ووضع اليد والسيطرة، ولذا نحن نُعمِّم، أليس كذلك؟ الله يده موضوعة ومالك الملك بصفته الخالق المُكوِّن المُنشيء المُبدِع من غير تعميم ومن ثم لا يحتاج، وهذا له علاقة بمنطق العزاء، إذا كان الله يملكنا ويملك كل شيئ – لا إله إلا هو – إفرادياً ويُعامِله إفرادياً ويُعنى به إفرادياً أيضاً كما خلقه إفرادياً ورزقه ودبَّره وأعانه وقبض روحه، ويبعثه ويُحاسبه – وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ۩ – أيضاً إفرادياً، وأنا أقول لك هذا مصدر عظيم جداً جداً للعزاء، أولاً هو مالك حقيقي لي ليس بطريق التجريد والتعميم وطريقة إرادة الهيمنة وإنما بالملك الحقيقي وبالمعنى الحقيقي للملك، ثانياً هو إله طبعاً عليم حكيم ولا يتصرَّف عبثاً مُطلقاً – هكذا نعتقد – ثم أنه سيُعامِلني إفرادياً وسيُعنى بي إفرادياً، ولله المثل الأعلى حين تضع ابنك وهو ابن ست سنوات وقد يكون وحيدك أيضاً وأول أبنائك في المدرسة فإن قلبك ينفطر في أول يوم عليه، تقول كيف سيُعامِله المُدرِّس؟ سمعت أن المدرس الفلاني عصبي قليلاً ومجنون كما يقولون، كيف سيُعامِل ابني؟ ابني حسّاس جداً جداً ومثل النسمة تجرحه، كيف سوف يُعامِل ابني؟ أنت سوف تُصبِح في حالة غير طبيعية، وطبعاً أنت تعلم أن القاعدة هى أن المُدرِّسين والمُدرِّسات مُضطَرون أن يتعاملوا مع إلغاء مُعظَم الفروق  الفردية بين التلاميذ،هؤلاء المساكين يُضطَرون إلى هذا وهذه هى وظيفتهم، لكن إذا أيقنت أن هذا المُدرِّس أو تلك المُدرِّسة تعتبر ابنك إفرادياً سيختلف الوضع، لماذا؟ هناك صلة بينها وبين رجل هو من أعز أصدقائك وقد أخبرها ووصاها، أنت تطمئن الآن وتشعر بنوع من العزاء الكبير، تقول أن ابني سيُعامل معاملة خاصة والمُدرِّسة ستلحظه بعين الرعاية من بين تقريباً مُعظَم هؤلاء الأولاد، وهذا نفس الشيئ مع موضوع إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ۩، فالآية تقول إِنَّا لِلّهِ ۩، أي أننا ملكه لا إله إلا هو، وانتبهوا إلى أننا مُلكه إفرداياً وليس عمومياً، نحن إفرادياً ملكه، وحين يذهب ابني أو أبي أو أخي أو حبيبي إلى الله هو يذهب إلى مَن هو أولى به وإلى مَن سيُعامله إفرادياً ويهتم به تماماً، وأكيد هو أرحم به وأولى به منا، حتى من ناحية الرحمة والرعاية هو أكثر منا بمراحل.

أم سليم بنت ملحان زوجة أبي طلحة – أم أنس – هى امرأة واعية بسيطة، هى ليست فيلسوفة أو مُفكِّرة وإنما صحابية جليلة، هى مُؤمِنة فقط، يُوجَد عندها إيمان، فتستمد وتستلهم من إيمانها، يقول أنس بن مالك كما في الصحيحين كان لها من أبي طلحة ولد – غُلام صغير- فاعتل، فخرج أبو طلحة إلى المسجد، فإذ هو في المسجد تُوفيَ الغلام، وهى امرأة قوية وحكيمة، فأوصت أهل الدار أن يخفوا خبر موته عن أبي طلحة، يبدو أن أبا طلحة كان يُحِب هذا الغلام كثيراً، فلما عاد قال كيف الولد؟ قالت بأهدأ حال ولم تكذب، لأنه فعلاً هدأ، لقد هدأ تماماً لأنه مات، قالت بأهدأ حال، وكانت قد هيأت له طعاماً فأصاب منه وتزيَّنت – أخذت من زينتها له – فأصاب منها، وهذا أمرٌ عجيب، ما هذه المرأة؟ فلما كان من آخر الليل قالت له – يبدو أنها استيقظت – يا أبا طلحة أما علمت بآل فلان أخذوا عاريةً وأبوا أن يردوها، فلما طُلِبت منهم منعوها؟ قال ما أنصفوا،هى تقول له ما رأيك  في جماعة من جيراننا يتبعون فلان الفلاني وقد أخذوا عارية – ماعون أو دابة أو أي شيئ استعاروه من جيرانهم – وحين قال الجيران لهم أعطونا العارية قالوا لا، هذه لنا ولن نُرجِعها، ماذا قال أبو طلحة؟ قال ما أنصفوا، قالت فإن ابنك عارية الله – تبارك وتعالى – وقد استأثر الله به، انظروا إلى هذا المنطق، فقال إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ۩، وقام واغتسل من الجنابة وذهب يُصلي الفجر مع رسول الله، وقال له يا رسول الله حدث معي كذا وكذا فقال بارك الله لكما في ليلتكما، انظروا إلى النبي  – عليه السلام – المعزي الأكبر في البشر، قال له بارك الله لكما في ليلتكما، وتحدَّث أنس بن مالك عن أنهما وُلِدا لهما بعد ذلك عبد الله وأتيا به النبي وحنَّكه، وهذه قصة طويلة جميلة في صحيح البخاري ومسلم، هذا منطق العزاء للمُؤمِنين، أن الله هو المالك الحقيقي لنا وهو أولى بنا وهو الذي يعاملنا – كما قلت -لكم إفرادياً، ومن هنا العزاء، ولذلك كلما خطر ببالنا موضوع البعث يوم القيامة وحشر الناس والحشر والمحشر والنشور والبشر – ملايين البشر –  هل تعرفون ما هو الذي يُعزي حقيقيةً؟ أنك أمام قاضٍ – لا إله إلا هو – فعلاً لا يُعامِلنا مجموعياً، لا ينظر لنا ويقول هذه الأمة ائتوا بها وضعوها في كذا، لا يُوجَد هذا الكلام، لأنه يُعامِلنا إفرادياً، هذا ينطبق على كل واحد منا، فما رأيك؟ تماماً كما قال الله مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ۗ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ۩، كيف فهمها المُفسِّرون؟ من المُمكِن أن تُفهَم بأكثر من وجه وتوجَّه بأكثر من توجيه، فهموها بأن المسألة سهلة على الله، فكما يخلق واحداً يخلق مائة مليار وكما يبعث ويحاسب واحداً ،يبعث ويحاسب مائة مليار، وهذا صحيح لكن يُوجَد معنى لطيف آخر الآن أنتم فهمتموه، فما هو؟ قال الله مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ۗ ۩، النفس الواحدة سيُعنى بها إفرادياً، أليس كذلك؟ وطبعاً سيُتوجَّه إليها إفرادياً، هى ستكون في المركز الآن، وهذا سيحصل مع كل واحد فينا بإذن الله تعالى، وهذا عزاء كبير، طبعاً قبل هذا العزاء ودون هذا العزاء  يُوجَد – كما قلت لكم – عزاء في الموت، حين يموت ابني أو وديدي أو حبيبي أو عزيزي سيذهب إلى إله كريم حكيم، هو مالك الملوك الذي يتعاطى معه إفرادياً، أليس كذلك؟ الآن لو ابنٌ لك أو أخوك ذهب إلى سجن – والعياذ بالله – من سجون الظلمة في الدنيا وأنت علمت أن سجّانه رجل صالح وطيب ويرعاك في ابنك ويرعى حُرمتك لأنه يعرفك ويُحبك من زمان فإنك سوف ترتاح كثيراً جداً، أليس كذلك؟   نصف المُصيبة سوف تخف من على عاتقك، سوف تقول نعم ابنك في السجن لكن الحمد لله رئيس السجّانين صاحبي وحبيبي وقال لي لا يهمك أي شيئ، ابنك سيصله أكله وشربه وكتبه وكل ما يُريده، وسيُصلي ولن يمسه سوء لكن هذا مُجرَّد أمر أكبر مني، ولا يُوجَد أحد أكبر من الله، إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ۩.

أعتقد بهذه الطريقة وضح المعنى – إن شاء الله – وانتهى ما لدي، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم

الخُطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له المُلك وله الحمد وهو على كل شيئٍ قدير.

اللهم اهدنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت، اهدنا واهد بنا، وأصلِحنا وأصلِح بنا، واجعلنا مفاتيح للخر، مغاليق للشر برحمتك يا أرحم الراحمين، جنِّبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة.

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

(19/12/2014)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: