(ملحوظة هامة) هذه الخُطبة للأسف بدايتها مقطوعة، والمُتاح هو الآتي: 

نشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَنشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْده وَرَسُولُهُ، أَشْرَف الأنام، مَن بيَّن الشَّرَائِع وَالْأَحْكَام، وَماز بين الْحَلَال وَالْحَرَام، وَدَعا إِلَى دِين الْإِسْلَام، فأوقف على المحجة المُوصِلة إِلَى دَار السَلام، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَيه وَبَارِكْ وَعَلَى آله البَرَرة الكِرام وَأصحابه وَأَتْباعه، دُعاة الحَق وَمَصابيح الظَلام، وعَلى تابِعيهم بإحسانٍ مَا تَوالت اللَيَالي والأيّام.

عباد الله:

سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ۩، أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم وبلزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله وقد جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، فإن الله – سُبحانه وتعالى – يقول في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ۩، أخرج الإمام ابن خُزيمة – رحمه الله تعالى – في صحيحه وقال إن صح الخبر، عن سلمان الفارسي – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، قال خطبنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في آخر يوم من شعبان، فقال أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم، شهر مُبارَك، شهر فيه ليلة خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ۩، جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعاً، مَن تقرَّب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمَن أدى فريضةً فيما سواه، ومَن أدى فيه فريضةً كان كمَن أدى سبعين فريضةً فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المُواساة، وشهر يزداد فيه رزق المُؤمِن، مَن فطَّر فيه صائماً كان مغفرةً لذنوبه، وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن يُنتقَص من أجره شيئ.

قالوا يا رسول الله فليس كلنا نجد ما يُفطِّر الصائم، قال يكتب الله هذا الأجر لمَن فطَّر صائماً ولو على تمرة أو شربة ماء أو مذقة لبن، ومَن خفَّف فيه عن مملوكه غفر الله له وأعتقه من النار، ونحن نرجو – إن شاء الله تعالى – أن يكتب الله – سُبحانه – بمنّه وتفضله مثل هذا الأجر ومثل هذا الثواب لمَن خفَّف عن مرؤوسه أو عمَن يعمل تحت يده وسُلطانه في وظيفة أو عمل أو نحوه، فهو من نفس الوادي، ويدور على نفس المعنى.

ومَن خفَّف عن مملوكه غفر الله له وأعتقه من النار، فاستكثروا فيه من أربع خصال، خصلتين تُرضون بهما ربكم، وخصلتين لا غنى بكم عنهما، فأما الخصلتان اللتان تُرضون بهما ربكم فشهادة أن لا إله إلا الله وتستغفرونه، وأما الخصلتان اللتان لا غنى بكم عنهما فتسألون الله الجنة وتعوذون به من النار، ومَن أشبع صائماً – في الأولى قال مَن فطَّر، وهنا قال ومَن أشبع – سقاه الله من حوضي شربةً لا يظمأ حتى يدخل الجنة، يعني لا يظمأ بعدها – عليه الصلاة وأفضل السلام – حتى يدخل الجنة.

قال الإمام السيوطي في رسالته وصول الأماني بأصول التهاني قال الحافظ ابن رجب الحنبلي وهذا الحديث أصل في التهنئة بشهر رمضان، حُقَّ لنا والله أن يُهنئ بعضنا بعضاً بمقدم هذا الشهر العظيم الطيب المُبارَك، فهنيئاً للمُسلِمين والمُسلِمات، هنيئاً للمُؤمِنين والمُؤمِنات.

وأُريد أن أقف حديثي في هذا المقام على فضائل هذا الشهر الكريم، فله في نفسه فضائل ومزايا، وله فضائل ومزايا أُخرى لاعتلاقه بالصوم واختصاص الصوم بهذا الشهر الكريم، فنجعل الحديث وقفاً في هذا المقام على فضائل الشهر ومزاياه، فإذا ما صرنا إلى هذا الشهر الكريم وشرعنا في صيامه تكلَّمنا – إن شاء الله تعالى – عن أسرار الصوم وحكمته.

شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ۩، له فضل في نفسه ومزية، وله فضائل لاختصاص الصوم بهذا الشهر الكريم، شهر عظيم، مَن حُرِم فيه الخير فوالله فهو المحروم، مَن أُبعِد فيه فوالله هو المطرود، روى الإمام الحاكم أبو عبد الله في مُستدرَكه على الصحيحين وقال صحيح الإسناد، عن كعب بن عُجرة – رضيَ الله تعالى عنه -، قال قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – احضروا المنبر، أي اجتمعوا، فإني مُتحدِّث إليكم، قال احضروا المنبر، قال فلما حضرنا رقيَ الدرجة الأولى وقال آمين، ولما ارتقى الدرجة الثانية قال آمين، ولما ارتقى الدرجة الثالثة قال آمين، فلما نزل قلنا يا رسول الله لقد سمعناك تقول شيئاً لم نسمعك تقوله من قبل، فقال نعم، لقد عرض لي جبريل، لقد عرض لي جبريل يعني عند المنبر، فقال بَعُدَ، بَعُدَ مَن أدرك رمضان ولم يُغفَر له، فقلت آمين، فالمحروم فيه هو والله المحروم، لا محروم أشد منه حرماناً، بَعُدَ أي لعنه الله وطرده وأبعده من رحمته، بَعُدَ مَن أدرك رمضان ولم يُغفَر له، فقلت آمين، فقال بَعُدَ مَن ذُكِرت عنده – عليه الصلاة وأفضل السلام – فلم يُصل عليك، طريد من رحمة الله! فقلت نعم، فقال جبريل – عليه السلام – بَعُدَ مَن أدرك أبويه الكبر عنده أو أحدهما – أي أدرك الكبر أحدهما – فلم يُدخِلاه الجنة، فقلت آمين

ولذا روى الإمام البيهقي في شُعب الإيمان وابن خُزيمة في صحيحه وأحمد في مُسنَده، عن أبي هُريرة – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين -، من قول النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – فهو غُنم يغنمه المُؤمِن، أي هذا الشهر، ونقمة على الفاجر، مَن انتفع بهذا الشهر وتحقَّق بصيامه على الوجه الذي يرضى به الله عنه – سُبحانه وتعالى – كان له أعظم غنيمة، وإلا فهو أعظم محروم وأبعد طريد – والعياذ بالله سُبحانه وتعالى -.

هذا الشهر لمزيته وفضائله الجمة الخطيرة العظيمة المُبارَكة الشريفة كان النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – كما أخرجه البيهقي وغيره عن أنس – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، كان النبي إذا دخل شهر رجب يقول اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلِّغنا رمضان، يدعو الله أن يمد في فُسحته وأن يُطيل في عُمره حتى يبلغ رمضان، قال الحافظ ابن رجب في لطائف المعارف – رحمه الله تعالى – وقد قال بعض السلف كانوا يدعون الله – سُبحانه وتعالى – ستة أشهر أن يُبلِّغهم الله رمضان، ستة أشهر! أي نصف عام، فإذا بلَّغهم الله رمضان دعوه – سُبحانه وتعالى – ستة أشهر – أي بقية العام – أن يتقبَّله منهم، اللهم تقبِّل عنا أحسن ما عملنا، وتجاوز عن سيئاتنا في أصحاب الجنة، وعد الصدق الذي كانوا يُوعدون، ستة أشهر يدعون الله أن يُبلِّغهم رمضان، وستة أشهر – بقية العام وتتمته – يدعونه – سُبحانه – أن يتقبَّل عنهم شهر رمضان أو عملهم في شهر رمضان.

أبدأ بأعظم مزايا وفضائل هذا الشهر، أعظم مزاياه وأخص فضائله وأوكدها أنه شهر القرآن، فله خصوصية بالقرآن، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ۩، حم ۩ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ۩ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ۩ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ۩، ليلة الفُرقان! وهي ليلة القدر من شهر رمضان، كما قال سُبحانه إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ۩.

والمشهور أن المولى – سُبحانه وتعالى، أعز جاره، وجل ثناؤه، وعظم سُلطانه – أنزل القرآن في هذه الليلة من اللوح المحفوظ جُملةً واحدةً إلى سماء الدنيا، وأودعه بيت العزة، بيت العزة في سماء الدنيا، أي في السماء الدنيا، ثم نزل بعد ذلك نجماً نجماً بالأوامر والنواهي والأسباب على قلب رسول الله – صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم – في أزيد من عشرين سنة على المشهور، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ۩، لذا كان النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – يُطيل بالقراءة في الصلاة في هذا الشهر – أعني في ليله قياماً وتهجداً – أكثر من غيره، فقد روى أحمد والنسائي عن حُذيفة – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – أنه صلى خلف رسول الله ركعتين، ركعتين في ليلة من ليالي رمضان، قال قرأ فيهما بالبقرة ثم بالنساء، على هذا الترتيب، وليس بآل عمران، ثم بالنساء وآل عمران، البقرة والنساء وآل عمران في ركعتين، قال حُذيفة لا يمر بآية تخويف – أي آية ترهيب – إلا وقف ودعا، فما زال كذلك حتى جاء بلال يُؤذِنه بصلاة الفجر، انتهت الركعتان عند صلاة الفجر، شهر رمضان له خصوصية.

كانوا – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم – في مُدة خلافة الفاروق عمر – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – يُصلون في الركعة الواحدة بالمائتين أو في الركعتين، وكانوا يعتمدون على العصي، وبعضهم كان يربط نفسه إلى السواري، إلى أساطين المسجد، من دون القيام، فلا ينفتلون راجعين إلا عند السحور، يخافون أن يفوتهم الفلاح، أي السحور، وقد سُئل الإمام إسحاق بن راهويه الحنظلي – رضيَ الله تعالى عنه، الإمام الجليل العلم – كم يُقرأ في صلاة قيام رمضان؟ فلم يُرخِّص فيما دون عشر آيات، الحد الأدنى في الركعة عشر آيات من آيات البقرة، فإذا صار إلى الآيات القصار قرأ بمقدار عشر آيات من آيات البقرة أو من آيات السور الطوال السبع، فقيل له فإنهم لا يرضون، فقال لا رضوا، خلهم! لا رضوا، نعم، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ۩.

المزية الثانية فيه ليلة القدر، وهي خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ۩، أي العمل فيها وثواب العمل فيها خيرٌ من ثواب العمل في ألف شهر، في قريب من ثمانين عاماً، وهي التي قال فيها النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – على ما خرَّجاه في الصحيحين مَن قام ليلة القدر – وفي رواية مَن يقم ليلة القدر – إيماناً واحتساباً غًفِر له ما تقدَّم من ذنبه، اللهم أنلنا هذا الثواب يا رب، غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه، كل ذنوبه السالفة والسابقة تُغفَر – بإذن الله تعالى ورحمته ومغفرته وتجاوزه -، هذه ليلة القدر، نعم!

وهذا الشهر الكريم شهر تُضاعَف فيه الأعمال كما تلوت على مسامعكم من حديث سلمان عند ابن خُزيمة – رضيَ الله تعالى عنهما -، وقد أخرج الترمذي في سُننه عن أنس – رضيَ الله تعالى عنه -، قال سُئل النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – يا رسول الله أي الصدقة أفضل؟ فقال صدقة في رمضان، لأن ثوابها مُضاعَف، مَن تقرَّب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمَن أدى فريضةً فيما سواه، ومَن أدى فيه فريضةً كان كمَن أدى سبعين فريضةً فيما سواه.

قال صدقة في رمضان، وفي الصحيحين يقول النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – عُمرة في رمضان تعدل حجة، أو قال في رواية أُخرى حجة معي، هذا في الصحيحين، العُمرة في رمضان ثوابها ثواب الحجة، أو الحجة مع رسول الله، وهذه أعظم وأشرف والله، أو حجة معي – عليه الصلاة وأفضل السلام -.

ولذا قال الإمام النخعي – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، الكوفي الشهير – تسبيحة في رمضان أفضل من ألف تسبيحة، ركعة في رمضان أفضل من ألف ركعة، صدقة في رمضان أفضل من ألف صدقة، والله – تبارك وتعالى – أعلم بحقيقة ذلك، وهو أدرى بما هُنالك.

هذا الشهر الكريم شهر الرحمة، شهر التجاوز، وشهر المغفرة، وفي حديث سلمان وهو شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، وفي حديث أخرجه الإمام البيهقي وابن خُزيمة – رضيَ الله تعالى عنهما -، عن أنس – رضيَ الله تعالى عنه -، قال قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ماذا تستقبلون؟! يُعظِّم الأمر ويُفخِّمه، ماذا تستقبلون؟ وماذا يستقبلكم؟ فقال عمر – رضيَ الله تعالى عنه – يا رسول الله وحي نزل؟ قال لا، قال عدو حضر؟ قال لا، قال فماذا؟ قال إن الله – سُبحانه وتعالى – يغفر في أول ليلة من أهل رمضان لكل أهل هذه القبلة، مَن كان مُوحِّداً مِن أهل القبلة غفر الله له، مغفرة جُملية، مغفرة عامة! فهز رجل برأسه بين يديه وقال بخٍ بخٍ، بخٍ بخٍ كلمة تُقال عند الاستحسان والتمدح، عند مدح الأمر والرضا به، وقد كثر ما وردت في حديث النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام -، كحديث صُهيب، بخٍ بخٍ أبا يحيى، ربح البيع، أي أستحسن، أستحسن هذا وأرضى عنه، قال بخٍ بخٍ، فقال النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – يا فلان أضاق به صدرك؟ أضاق صدرك بهذه البشارة أو بهذا الأمر؟ ألم تستوعبه واعتاص عليك؟ أضاق به صدرك؟ فقال كلا يا رسول الله، ولكن ذكرت المُنافِق، فالمُنافِق من أهل القبلة في ظاهر الأمر، عظم عليه هذا الأمر، فقال إن المُنافِقين هم الكفّار، وليس للكفّار في هذا شيئ، أي ليس للكفّار في هذا الثواب وفي هذا الأمر من شيئ، قال وليس للكفّار في هذا شيئ – عليه الصلاة وأفضل السلام -.

من فضائل هذا الشهر العظيم ما أخرجه الإمام أبو بكر البيهقي في شُعب الإيمان بإسناد مُقارِب – إن شاء الله -، عن جابر بن عبد الله – رضيَ الله تعالى عنهما -، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال أُعطيت أُمتي في رمضان خمساً، لم يُعطهن نبي – ولم يقل أمة – قبلي، قال لم يُعطهن نبي قبلي، فلعله أراد نبياً لأمته، والله – تبارك وتعالى – أعلم، قال لم يُعطهن نبي قبلي، أما واحدة – يعني أما الأولى – فإنه إذا كان أول – وهنا كان تامة، بمعنى وُجِد أو حصل – ليلة من رمضان نظر الله – عز وجل – إليهم – أي إلى المُوحِّدين من أهل القبلة -، ومَن نظر الله – عز وجل – إليه لم يُعذِّبه أبداً، وأما الثانية فإن خلوف أفواههم حين يُمسون أطيب عند الله من ريح المسك، وأما الثالثة فإن الملائكة تستغفر لهم في كل ليلة، وأما الرابعة فإن الله – عز وجل – يأمر جنته، يقول لها استعدي وتزيني لعبادي، فإنهم أوشك أن يستريحوا من تعب الدنيا إلى داري وكرامتي، وأما الخامسة فإنه إذا كان آخر ليلة من رمضان غفر الله لهم جميعاً.

فقال رجل يا رسول الله أهي ليلة القدر؟ قال كلا، ألم تر إلى العمّال يعملون فإذا فرغوا من أعمالهم وُفوا أجورهم؟ فهي ليلة جزاء، وليست ليلة القدر، أمر آخر، ليلة القدر لها شرف آخر وأجر جزيل آخر، ألم تر إلى العمّال يعملون فإذا فرغوا من أعمالهم وُفوا أجورهم؟

وشهر رمضان يا إخواني سيد الشهور، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – شهر رمضان سيد الشهور، وأعظمها حُرمةً عند الله ذو الحُجة، أخرجه البيهقي والبزّار عن أبي سعيد – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين -، بل قد بلغ من شرف هذا الشهر العظيم أن نسبه النبي إلى الله، فأسماه شهر الله، أخرج الإمام الحافظ العلّامة ابن عساكر – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، عن عائشة – رضيَ الله تعالى عنها وأرضاها -، قالت قال رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – شهر رمضان شهر الله، وشهر شعبان شهري، شعبان المُطهِّر، ورمضان المُكفِّر، قال شهر رمضان شهر الله، وشهر شعبان شهري، شعبان المُطهِّر، وقد كان النبي يصوم شعبان كله إلا قليلاً، قالت عائشة في بعض الروايات في الصحيح بل كله، يصوم شعبان في بعض السنوات كله، وفي بعضها كله إلا قليلاً، للجمع بين الأحاديث، وقد كان يقول هو شهر يغفل عنه الناس، تُرفَع فيه إلى الله الأعمال، فأُحِب أن يُرفَع عملي فيه إلى الله – عز وجل – وأنا صائم، شهر شعبان المُطهِّر، قال شعبان المُطهِّر، ورمضان المُكفِّر.

قال سيدي الإمام الرباني والقدوة، الإمام الجيلاني – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، أي عبد القادر، في الغُنية كما أذكر قال مثل شهر رمضان في الشهور كمثل القلب في الصدور، وكمثل الأنبياء في الأنام، وكمثل الحرم في البلاد، فالحرم يُمنَع منه الدجّال اللعين، ورمضان تُصفَّد فيه الشياطين، وهذه مزية أُخرى وفضيلة في شهر رمضان، فقد أخرج البيهقي وأحمد وغيرهما كثير كثير – والله أعلم، يُوشِك أن يكون هذا المعنى مُتواتِر، مُتواتِر معنوياً -، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – قد أظلكم شهر مُبارَك عظيم، شهر رمضان، شهر فرض الله عليكم صيامه، تُفتَح فيه أبواب الجنان، وتُغلَق فيه أبواب النيران، وتُصفَّد فيه مردة الشياطين، وفي أحاديث وروايات أُخرى ويُنادي مُنادٍ كل ليلة يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، ولله فيه عُتقاء، وذلك في كل ليلة، أو كما قال – عليه الصلاة وأفضل السلام -.

فالحرم يُمنَع منه الدجّال اللعين في آخر الزمان، وشهر رمضان تُصفَّد فيه الشياطين، فإن قال قائل فما مصدر هذه الخواطر الرديئة والنزغات السيئة التي تنتاب الإنسان المُسلِم في هذا الشهر؟! قلت النفس الأمّارة بالسوء، مصدرها ليس الشيطان، لأن الشياطين مُصفَّدة مغلولة محبوسة، مصدرها النفس الأمّارة بالسوء، وقد أحسن مَن قال:

إِنِّي ابْتُلِيتُ بِأَرْبَعٍ مَا سُلِّطُـوا                                  إِلَّا لِشِدَّةِ بَلِيَّتِي وَشَقَائِي.

إِبْلِيسُ وَالدُّنْيَا نَفْسِي وَالْهَوَى                          كَيْفَ الخْلاَصُ وَكُلُّهُمْ أَعْدَائِي؟!

قال إِبْلِيسُ، أي ابتُليت بإِبْليس، وَالدُّنْيَا نَفْسِي وَالْهَوَى، كَيْفَ الخْلاَصُ وَكُلُّهُمْ أَعْدَائِي؟! فليس عدونا فقط إبليس، بل النفس الأمّارة بالسوء هي من أعدى عدونا، قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ ۩، قال الحُجة الغزّالي في ميزان العمل يعني النفس، بطريق الإشارة، لا بطريق التفسير، فهذا ليس تفسيراً، والله – تبارك وتعالى – أعلم.

والأنبياء يشفعون للمُذنِبين، ورمضان شفيع للصائمين، وقال – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – رمضان خمسة أحرف، الراء رضوان الله، الميم مُحاباة الله – يُحابي المُؤمِنين الأبرار في هذا الشهر -، الضاد ضمان الله، الألف أُلفة الله، النون نور الله، فهو شهر رضوان ومُحاباة وضمان وأُلفة ونور ونوال وكرامة للأولياء الأبرار – إن شاء الله تعالى -.

نسأل الله – عز وجل – أن يُبلِّغنا رمضان، وأن يُعيننا فيه على ذكره وشُكره وحُسن عبادته، على الوجه الذي يُرضيه عنا – سُبحانه -، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(الخُطبة الثانية)

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله العالمين، ورب السماوات والأرضين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، قائد مواكب الأنبياء والمُرسَلين، اللهم صل عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أيها المُسلِمون:

تقدَّموا هذا الشهر الكريم، فهو ضيف عليكم، أهل من لدن الله – سُبحانه وتعالى -، تقدَّموا هذا الشهر الكريم، ولذا خصصت هذا المقام بالحديث عنه، لكي نتقدَّمه بتوبة صادقة وأوبة ضارعة ودعوة خاشعة، تقدَّموه مُتطهِّرين من كل الذنوب، صغيرها وكبيرها، مُتحلِّلين من حقوق العباد، خارجين عن التبعات – إن شاء الله تعالى -، مُتخفِّفين من الظُلمات.

تقدَّموا هذا الشهر الكريم بتطهير هذه القلوب، تقدَّموه بالإنابة الصادقة إلى الله – سُبحانه وتعالى -، حادثوا هذه القلوب، فإنها سريعة الدثور، واقرعوا هذه الأنفس الأمّارة بالسوء، فإنها طُلعة، إذا أُطعِمت طمعت، وإذا فُوِّض إليها الأمر أساءت، وإذا أقمتموها على أمر الله صلحت – إن شاء الله تعالى -.

احذروا الفتون، احذروا فتون الدنيا، فتون المال والجاه، فتون النساء والهوى، وكل صنوف الفتون، احذروا الفتون، واعلموا أن النفس شمس حرون، تتأبى على صاحبها إذا قادها في سبيل النجاة، وتواتيه وتوافيه إذا نزعت به إلى سبيل المهلكة أو إلى سبيل التهلكة، فالنفس حرون، واعلموا أن الإيمان قائد، وأن العمل سائق، إذا فتر العمل ضلت، وإذا سها قائدها حرنت، فإذا اجتمعا استقامت، فشدِّدوا على أنفسكم، وتصبَّروا يُصبِّركم الله – سُبحانه وتعالى -، وأعدوا النية الصالحة لهذا الشهر الكريم، فإنما هي ليال ذوات عدد، ويُوشِك أحدكم أن يُدعى لأننا ركب وقوف فيُجيب دون أن يلتفت، فانطلقوا إلى الله بصالح ما حضرتكم، يغفر الله لي ولكم وهو أرحم الراحمين.

أخرج الإمام الديلمي – رضيَ الله تعالى عنه – في مُسنَده أن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – من طريق ابن مسعود قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – فقدِّموا فيه النية، أي في شهر رمضان، قال فقدِّموا فيه النية، ووسِّعوا فيه النفقة، وفي حديث أخرجه البيهقي وابن خُزيمة وأحمد وتقدَّم جزؤه الأخير، عن أبي هُريرة – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم -، قال قال رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – قد أظلكم شهركم هذا، بمحلوف رسول الله – أي بالله، أي بالذي أحلف به، بمحلوف رسول الله، عليه الصلاة وأفضل السلام – ما مر بالمُسلِمين شهر خير لهم منه، وما مر بالمُنافِقين شهر شر عليهم منه – والعياذ بالله -، لماذا؟ وذلك – يقول النبي مرة أُخرى – بمحلوف رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – إن الله ليكتب أجره ونوافله للمُؤمِن قبل أن يُدخِله، وإن الله ليكتب وزره على المُنافِق قبل أن يُدخِله، لماذا؟ وذلك أن المُؤمِن – يقول النبي – يُعِد فيه القوت من النفقة للعبادة، أي يتهيَّأ، بعض المُؤمِنين إذا كان بإمكانه وفي وسعه إلا يعمل لا يعمل في شهر رمضان، يُعِد النفقة ويُعِد القوت لكي يجعله شهر عبادة، هذا هو حال المُؤمِن.

وذلك أن المُؤمِن يُعِد فيه القوت من النفقة للعبادة، والمُنافِق – أي وإن المُنافِق – يُعِد فيه اتباع غفلات المُؤمِنين واتباع عوراتهم – والعياذ بالله -، يقول النبي فغنم – كما قال أحمد فهو، أي فهو شهر أو فهو غنم، هنا قال فغنم – يغنمه المُؤمِن ونقمة على الفاجر، قال فغنم يغنمه المُؤمِن ونقمة على الفاجر.

نسأل الله – عز وجل – أن يُغنِمنا فيه، وأن نضرب فيه أو في غنيمته بسهم رابح مريش – إن شاء الله تعالى -.

اللهم إنا نسألك بجاه أسمائك وصفاتك العُلا الحُسنى أن تُبلِّغنا شهر رمضان، وأن تجعلنا فيه من عبادك المُتقين.

اللهم اغفر لنا ذنوبنا أجمعين، ربنا أعنا على ذكرك وشُكرك وحُسن عبادتك، ربنا اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تُبلِّغنا به جنتك، ومن اليقين ما تُهوِّن به علينا مصائب الدنيا.

اللهم لا تجعل مُصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، اللهم أعِنا على ذكرك وشُكرك وحُسن عبادتك.

لا تدع لنا في هذا اليوم الكريم ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرَّجته، ولا كرباً إلا نفَّسته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا غائباً إلا رددته، ولا مديناً إلا قضيت عنه دينه، ولا أسيراً إلا أحسنت فكاكه، ولا حاجةً لنا فيها صلاح ولك فيها رضا من حوائج الدنيا والآخرة إلا أعنت على قضائها وتيسيرها بلُطفك ومنّك.

اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربونا صغاراً، اجزهم بالإحسان إحساناً، وبالسيئات غُفراناً، اللهم انصر الإسلام والمُسلِمين، وأعل بفضلك كلمتي الحق والدين.

رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ۩، واغفر لنا يا مولانا، إنك أنت الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ۩.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩.

____________

فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۩، قوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

(1993)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: