أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد بن عبد الله، وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين وآله وأصحابه وسلم.

أما بعد … سعادة رئيس الهيئة الإسلامية بالنمسا البروفسور أنس الشقفة، سعادة البروفسورة هاينه، سعادة السيد البروفسور كوستانور، أخواتي الفاضلات، إخواني الفضلاء! أحيكم جميعاً بتحية الإسلام، وتحية الإسلام هى السلام.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وأشكركم ابتداءً لما تجشمتم من عناء الحضور إلى هذه المحاضرة التي أسأل الله تبارك وتعالى أن يهديني فيها إلى قول الحق وحسن عرضه وتبيان لما يكون كفاء هذا التعب وهذا النصب.

المحاضرة كما تعلمون عن الحريات فى الإسلام. وقد يسأل سائل؛ هل نزمع الحديث عن الحريات داخل الإسلام نفسه أو بين الإسلام وبين غيره من الأديان والملل؟ لأن وقت المحاضرة ضيق ومحدود، أود أن أحدد هدفي بشكل واضح وهو التحدث عن موقف الإسلام من الآخر، من الأديان والملل الأخرى، وليس موقف الإسلام من حريات أبنائه فهذا موضوع آخر.

أول ما يذكر موقف الإسلام من الحريات بشكل عام يتبادر إلى الذهن مصطلح القتال والجهاد الذي يصل ويوحي على الفور بمصطلح آخر أكثر بؤساً ربما فى ذهن من لم يفهم فلسفة وحقيقة الجهاد فى الإسلام، وهو مصطلح العنف والإكراب والاعنات والإعساف، والآن قد يدخل هذا فيما يُعرف بمصطلح “الإرهاب”، فتقريبا غدا يعادل مصطلح الجهاد أو القتال فى الإسلام مصطلح “الإرهاب”.

ابتداء أود أن أقول إن مصطلح الجهاد قرآنياً لا يعادل القتال، فالقتال مذكور فى القرآن والجهاد مذكور أيضاً، لكن بينهما علاقة العموم والخصوص، فالجهاد أعم مطلقاً من القتال، لأن الجهاد كما بَيَّن جميع العلماء والأئمة، وكما هو ظاهر فى النصوص الدينية من القرآن والسنة ثلاثة أنواع؛ جهاد النفس وهو الجهاد الأكبر، وفيه قال عليه الصلاة وأفضل السلام فى الحديث الذى أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح: “المجاهد من جاهد نفسه”، والألف واللام هنا للاستغراق كأن هذا هو المجاهد الحقيق باسم الجهاد، وهناك جهاد العدو الظاهر وهو ما يُعرف بالقتال، وهناك جهاد الشيطان. ولما تعدد أقسام الجهاد وأنواعه وتصانيفه لا جرم تعدد وسائله وآلياته، فالجهاد لا يكون بالسيف والسلاح الفتاك وحده، وإنما يكون بالمعرفة، بالذوق، بالاستبصار، بالترقي فى مدارج ومعارج القدس كما يقول المتصوفة الإسلاميون، ويكون أيضاً بمعرفة الحق والدلالة عليه والهداية إليه. وفى القرآن المكي يقول الله تبارك وتعالى عن القرآن العظيم “فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً” الله سمي جهاد تبيين الحقائق والدلالة عليها، جهاد الحوار والجدال والمناظرة جهاداً كبيراً، لذلك فالجهاد هو بذل الوسع فى تحقيق غاية وهى الانتصار على النفس أولاً.

يقول حجة الإسلام أبو حامد الغزالي فى كتابه المشهور “ميزان العمل”: قال الله تعالى “قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً” أى قاتلوا الذين هم قريبون منكم، الذين هم أقرب إليكم من الكفار، قال الغزالي: فيه إشارة إلى جهاد النفس. وفى حديث الإمام البيهقي لمّا عاد النبي مرة من إحدى الغزوات، قال لأصحابه: عدنا من الجهاد الأصغر- وهو جهاد العدو الظاهر- إلى الجهاد الأكبر، قالوا: يا رسول الله ما الجهاد الأكبر؟ قال: مجاهدة النفس. إذن الجهاد أعم من أن يكون خصوص القتال بالسلاح، وإنما هذا نوع منه، وهذا أول ما أحببت أن أنبّه إليه.

ثاني ما أريد أن أذكره أنه ربما ما من حقيقة من حقائق الإسلام نصاً وتاريخاً ظُلمت كما ظُلمت حقيقة الجهاد فى سبيل الله، فهذا المصطلح مظلوم جداً فى أذهان بعض الناس فى الشرق والغرب، يساوى هذا المصطلح الحرب المقدسة أى الاعتساف واستخدام القوة المسلحة لإكراه وإرغام الآخرين عن أن يدخلوا فى ما دخلنا فيه، على أن يعتنقوا ديننا، وأن يعتقدوا معتقدنا، والمتأمل فى القرآن الكريم يعلم أن هذه أكذوبة كبرى أُلصقت بالإسلام وليس عليها أصالة من علم أو شبهة من دليل البتة.

وهنا يطول النقاش، وأنا أعلم وقد قرأت كُتباً مصنفة برؤوسها وبحيالها فى إثبات هذا الكذب وهذا الزور، وهو أن الجهاد فى الإسلام لإكراه الآخرين، وأن الإسلام انتشر بالسيف، وأن الإسلام دين عدواني، وأنه لا يسالم من سالمه وإنما يدخل فى حرب مفتوحة مع جميع الناس والأقوام والعقائد والملل والنحل. للحق لا يوجد فى القرآن الكريم آية واحدة يمكن أن يثبت هذا المدعي زعمه، وأنا أعلم أن بعضكم سيتشوش ويرتبك لأن بعض إخواني من المسيحيين النمساويين قد كَتبوا إلي رسائل مطوَّلة ودلوني فيها على بعض آيات يظنون أنني لا أعرفها وهي آيات يُفهم منها أنها تفتح حرباً على العالمين، وأنها تأمر بقتال الناس أجمعين.

فالحقيقة للأسف أن هناك حتى بعض المسلمين لم ولا يحسن قراءة النص القرآني بعين حاذقة، وحتى لا أُطوِّل بذكر المقدمات المنهجية أود أن أقول فقط إن خطة القرآن الكريم فى ترجمة مقاصده وغاياته ومنطقاته ومفاهيمه تقوم على وجوب النظر الموضوعي فى كل ما يتعلق بالمسألة قيد البحث، فلا يجوز على الإطلاق أن نجتزئ ونكتفي بذكر بآية أو جزء من آية، أو نأخذ الآية من سياقها ثم بعد ذلك نزعم أن القرآن يقول كذا وكذا. وهناك كلمة أعجبتني جداً للفيلسوف الشهير “فولتير” يقول فيها: “إئتوني بجملة واحدة لأحذق الناس وأكثرهم عبقرية قالها أو كتبها وأنا على استعداد أن انتزع منها ما يقوده إلى حبل المشنقة”. بمعنى أن الاقتطاع والاجتزاء سبيل ميسرة وسهلة جداً للكذب على الآخرين، ولتوريط الآخرين، لذلك علينا أن نكون منصفين، وقبل أن نكون منصفين علينا أن نمتلك الجرأة والشجاعة أن نعرف. وإذا كان فرنسيس بيكون قال مرة إن المعرفة قوة، فأنا أقول المعرفة شجاعة ابتداء لأنه يلزم أن تكون شجاعاً لتبحث، ثم يلزم أن تكون أكثر شجاعة لتصدع وتصرِّح بما انتهى إليه بحثك دون أن تخشى.

ما يحوِّل الأساطير إلى وقائع، والأكاذيب إلى حقائق ثلاثة أمور؛ الجهل والخوف والمصلحة، وأكثر ما يعمل العامل الثالث وهو المصلحة يكون فى النطاق السياسي والنطاق العسكري، أما ما يعمل فى إطار العوام وحتى المثقفين فهو إما الجهل وإما الخوف، فعلينا أن نتحدى هذه العوامل المضللة الثلاثة الخوف والجهل والمصلحة.

أود أن أقول باختصار أن خطة القرآن الكريم فى موضوع الجهاد والقتال تقوم على أمر بسيط وواضح جداً وهو لا نقاتل إلا من بدأنا بالقتال، وأَصَرَ على معاداتنا. وهنا أيضاً أعلم أن أخي المسيحي وأختي المسيحية قد ترتبك وتتشوش خارج إطار الحرب العادلة التى يؤمن بها أكثر إخواننا وأخواتنا من الكاثوليك، ويقول لم لا نصفح، لم لا نعفو، لم لا نتجاوز، لم نقابل السيئة بالسيئة، لم لا نقابل السيئة بالحسنة، لم لا ندير الخد الأيسر لمن لطمنا على خدنا الأيمن؟! المسيحيون الذين يستوحون مسيحية المسيح عليه الصلاة وأفضل السلام، ومسيحية القديس بولس، ومسيحية عصر الشهداء يتشوشون ويرتبكون من سماع هذا المنطق، وأريد أن أصدمهم أكثر وأقول لهم إن موقف القرآن واضح جداً من هذه القضية إذ أنه أعلن قبل كل الحركات التحررية والحركات الشعبية ليقول: إن من يرضى بأن يكون مظلوماً هو عند الله كالذي رضيَ أن يكون ظالماً. في الإسلام ممنوع أن ترضى أن تكون مظلوماً، كما هو ممنوع تماماً أن ترضى لنفسك بدور الظالم، أو بلغة طاغور: “لا يمكن أن نرضى أن نكون أكباشاً يُضحَّى بها”، لكننا نرفض أكثر من ذلك أن نكون سكاكين للتضحية بالأكباش البريئة، اللهم لا تجعلنا جزارين يذبحون ولا تجعلنا كباشاً تُجزر. القرآن لا يحب هذا ولا هذا، وقد عتب ودمدم فى أكثر من آية على الذين رضوا لأنفسهم بدور الضحية ودور المظلومين.

وهنا أيضاً أفتح قوسين لأقول إنه يختلف الموقف القرآني بالمرة بين الظلم الفردي وبين ظلم أمة لأمة، وشعب لشعب، أو بين ظلم سلطة لفرد أو لجماعة مستضعفة من الناس، الذى لا يود القرآن أن يتساهل فيه هو ظلم أمة لأمة، شعب لشعب عن طريق الاستعمار والاستكبار، أو ظلم سلطة لفرد، أو ظلم سلطة لجماعة مستضعفة من الناس، أما ظلم فرد لفرد فالقرآن دائماً يحث على العفو والصفح وهنا يلتقي مع السيد المسيح عليه الصلاة وأفضل السلام، لكن القرآن لا يرضى بالظلم المعمم المطلق الذى يؤدى إلى هتك أعراض وقتل ولدان أبرياء، وقتل نساء وتخريب العامر وترويع الآمنين وتعويق مسيرة الحضارة والعمران، ولذلك ربما أذكِّركم بأن أشنع الحملات ضد مفهوم الجهاد بالإسلام إنما صدرت فى مطلع العهد الاستعماري للعالم العربي والإسلامي، فوقتها شُنت حملات شعواء على مفهوم الجهاد والقتال فى الإسلام، لأنهم يرونه ما بقى للمسلم من أظفار يمكن أن يدفع عن نفسه بها.. هذا ما أود أن أذكره كمقدمة أيضاً.

إذن المسلم غير مخيَّر فى أن يرضى بالظلم ويستكين له، والقرآن لا يعطيه هذا الخيار فى أن يستكين لظلم السلطة والشعوب الأخرى، وقال تعالى “وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا..” المستضعفون المظلومون سماهم الله ظالمين، والذين استكبروا واستضعفوا سماهم الله أيضاً ظالمين. “إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ..” لم سماهم القرآن ظالمين؟! لأنهم رضوا بأن يكونوا مظلمين فسماهم ظالمي أنفسهم، وهو ظلم لكن ظلم للنفس، فممنوع أن تظلم نفسك بأن تكون مظلوماً، وممنوع أن تظلم غيرك فتكون ظالماً.. هذا ممنوع وهذا ممنوع. ومن هنا حرية الإنسان فى المنظور القرآني، فالمسلم هو إنسان، والإنسان لابد أن يكون حراً مكرماً، وكرامته فى حرية أولاً، لذلك يمكن بصيغة اختزالية أن نقول: الإنسان يساوى الكرامة، والكرامة قابعة فى الحرية، فالإنسان حرية لا أكثر ولا أقل.

بعد هذه المقدمة، أحب أن أقول مرة أخرى أن خطة القرآن تقوم على أننا نسالم من سالمنا، ونعادي ونرد عدوان من عادانا. قال الله تبارك وتعالى “وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ”. قال بعض السفهاء من المسلمين، وآفة التراث الإسلامي ككل تراث أنه يتجاور فيه الغث والثمين، والدر والحجر، والجيد والرديء، قال بعض أصحاب الفكر والاستنباط الرديء إن هذه الآية منسوخة، نسختها آية السيف، لكن العلماء المحققون قالوا: لا يمكن أن تُنسخ هذه الآية، لأن الحكم المعلل أى المذكور السبب إذا نُسخ فهذا يعنى نسخ العلة والسبب، فالله يقول “لاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ” لقد نهى الله عن العدوان لأنه لا يحب المعتدين، والعدوان ظلم فهل يمكن للرب عزل وجل أن يبيح الظلم فى يوم من الأيام وهو الذى حرمه على نفسه فى الحديث القدسي؟! لو أباح إلينا أن نعتدي على من لم يعتد علينا فهو إذن يبيح لنا أن نكون ظالمين… ومستحيل أن الله يبيح هذا، فآيات القرآن التى تحرم الظلم وتعلن الظالمين بالعشرات وليس بالآحاد فهذا حكم ثابت.

بعض الناس يأتي إلى آيات معينة ويقول إن هذه الآيات تأمر بقتال المشركين، هذه الآيات تأمر بقتال أهل الكتاب، هذه الآيات تأمر بالقتال المطلق… وهذا غير صحيح، لو قرأنا هذه الآيات آية آية لوضح لنا تماماً أن هذه الآيات جميعاً جاءت فى سياق الأمر برد العدوان، وليس أمراً ببدء العدوان.

سمعنا من قداسة البابا فى خطابه الأخير أنه قال: آية “لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغي” هذه الآية الجميلة والعظيمة التى قال فيها المسيحي الكبير العلامة أدموند رباط الماروني اللبناني فى كتابه “كنسية الله”، قال: هذه الآية أعظم ابتداع فى تاريخ الإنسانية، فلأول مرة فى تاريخ الدنيا يأتي دين حصري النزعة وميَّال إلى الهيمنة شأنه شأن هذه الأديان كلها، لكن يقول مسموح للآخرين أن يعيشوا فى نظام اجتماعي ضمن عقائدهم واختيارهم وأديانهم بلا تثريب وبلا تضييق وبلا عصف، وهذا يصادق عليه المؤرخ الإنجليزي الكبير أرنولد توينبي حين قال: “كان الإسلام هو القوة الوحيدة فى العصور الوسطي التى سمحت للعقائد الأخرى أن تتجاور معه فى هدوء وسلام ولأول مرة”.

قداسة البابا زعم أن هذه الآية لا يُعمل بها لأنها مكية، وفى الحق الآية مدنية عند جميع العلماء، فلم يقل أحد من أهل القرآن أو التفسير أنها مكية، الآية فى سورة البقرة، وللعلم سورة البقرة وهى أطول سورة القرآن الكريم كلها مدنية، فهذه الآية نُطمئن قداسة البابا أنها مدنية، ونزيده طمأنينة لنقول له: هناك عشرات الآيات تحاور اليهود والنصارى هى أعظم من هذه الآية وأكثر تسامحاً منها، وأكثر تفتحاً منها ونزلت بعد هذه الآية بسنين.

سوف أتيكم بآية نزلت فى “سورة الممتحنة” التى نزل أولها يوم فتح مكة، فهذه السورة نزلت بعد الحديبية قطعاً، أى بعد سنة ست وسبع. يقول الله فى سورة الممتحنة “لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ8، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ9” ومعنى هذه الآية باختصار أن الله يدعونا دعوة صريحة أن نبر وأن نقسط إلى كل من لم يعادينا، إلى كل من لم يرفع السيف علينا، إلى كل من لم يَبْنْ خطته فى الحياة على إفنائنا وأبادتنا. بعض العلماء قال: معنى البر والقسط هو العدل، أى أن نكون عادلين معهم، والعلامة المفسِّر أبو بكر بن العربي قال: هذا غير صحيح، لأن المسلم مأمور بالعدل مع العدو ومع المسالم، فحتى العدو يجب أن نلتزم معه خطة العدل، أما الذى ليس بعدو والذى سالمنا ولم نر منه إلا السلم، يقول ابن العربي: الآية تأمر بالعدل معه بالإضافة إلى أن نعطيه من أموالنا إذا كان يحتاج.

وهنا أود أن أذكركم بالحقيقة المتسامحة جداً وردت فى كتاب النبي إلى نصارى نجران، فقد كتب النبي لهم كتاباً يؤمنهم فيه على كنائسهم وصلبانهم، فى برهم وبحرهم، على ذكورهم وإناثهم وعلى من كان معهم، ويقول رسول الله لهم: لكم ذمة الله وذمة رسوله أن أحميكم وأن أدافع عنكم كما أحمي نفسي وأهلي وخاصتى وأتباعي على ملتي.. وليس هذا الشاهد، إنما الشاهد هو أن النبي كتب فى كتابه إلى نصارى نجران: وأنهم إذا احتاجوا إلى أموال المسلمين فى ترميم كنائسهم وإصلاحها فلهم الرفد أى لهم العون، وأعظم من هذا فى التسامح، قال: ولا يعد هذا دَيْنٌ عليهم بل هي هدية إليهم هدية من المسلمين ليساعدوا إخوانهم النصارى على أن يبنوا كنائسهم ويرمموها ويزينوها.

قد تعجبون وتقولون هل محمد فعل هذا؟! أقول: وفعل أكثر من هذا فى قرآن محمد. وردت هذه الآية الفذة حيث يقول الله تبارك وتعالى فى سورة الحج وفى سياق الآيات التى أذنت- لم تأمر لأن الإذن أعم من الأمر- للمسلمين بأن يدافعوا عن أنفسهم، وهى أول آيات نزلت فى مشروعية الجهاد والقتال “أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ….” فى سياق هذه الآيات وبقي معمولاً بها من السنة الثانية إلى السنة السابعة، وكل الغزوات وكل السرايا كانت فى إطار المأذونية فقط بأن ندفع عن أنفسنا وليس أكثر من ذلك. ويقول الله تبارك وتعالى وهذه الآية موضع الشاهد “وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ..” كلمة الصراع الذى يترجم بها مصطلح Conflict مثلاً موجودة فى اللغة العربية، فهناك صراع ومصارعة وصرعى، وكان القرآن بوسعه أن يستعملها، ولو استعملها فإنها تعني الدخول مع الآخر فى عراك حتى إنهاكه وأبادته وإفنائه.. لكن القرآن لم يستخدم مصطلح الصراع، ولم يستخدم الله ولا مرة فى سياق الجهاد مصطلح صراع، واستخدم هنا مصطلح “مدافعة”، ومعنى مدافعة هى تحريك المواقع وزحزحتها، فالظالم الآن متصدر فلابد أن نزحزحه حتى يتأخر ويتقدم المظلوم صاحب الحق فتعتدل موازين القوة ويعم الأمن والسلام، والله يسمى هذا مدافعة، أى هو تبادل أدوار وسيلته هى القتال؛ قتال المظلوم للظالم.

الله تبارك وتعالى يقول “وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ” أى لو أن هذا لم يكن مشروعاً لماذا حصل؟ قال: “لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً.. ” انتبهوا! الله يقول لنا هنا ممتناً إنه من نعمة الله تبارك وتعالى أنه شرع هذه المدافعة لكي يبق بيع لليهود يصلون فيها، وكنائس ومعابد للنصارى يدعون الله فيها، ومساجد للمسلمين يذكرون الله فيها، وقال كثير من المفسرين: “ومساجد يُذكر فيها اسم الله” إن ذكر اسم الله لا يعود على المساجد، بل يعود على كل ما ذُكر، فاعترف الله بأن اسمه يُذكر فى كل هذه البيوت. إذن من مقاصد الإسلام أن تبقى هذه البيوت موجودة، أن تبقى السيناجوجة لليهود، وأن تبقى الكنسية للمسيحيين، وأن يبقى المسجد للمسلمين، بل ويبقى بيت النار للمجوس ويبقى المعبد للبوذيين.

في تاريخنا لدينا هناك ملمح لطيف جداً ذكره البلاذري فى “فتوح البلدان”، قال: فاتح السند -وهى باكستان الآن- محمد بن القاسم الثقفي قال يوماً: ما البدُ- والبدُ هو معبد بوذا- عندنا إلا كبيعة اليهود وكنيسة النصارى وبيت نار المجوس لابد أن يحترم ولابد أن يبقى، يقول البلاذري: ولما مات محمد بن القاسم بكاه أهل الهند بدموع حارة ِلما رأوا من عدله وسماحته رضى الله عنه وأرضاه.

الإمام المقريزى صاحب خطط مصر وهو مؤرخ كبير مصري مشهور، يقول: إن معظم كنائس مصر إنما بنيت فى الإسلام.. وهذه حقيقة يفخر بها المسلم وهى أنه سمح للآخر أن يبقى وأن يمتد فى حرية وأمان، بل أعظم من ذلك أن مصر كان لها إمام كالأئمة الأربعة وهو الإمام الليث بن سعد، وفى فقه الليث بن سعد أن بناء الكنائس وتزيينها أمر مستحب من معالم العمران الإسلامي، فالليث بن سعد يعتبر أن تشييد الكنائس كتشييد المساجد من معالم العمران الإسلامي.

عمر بن الخطاب رضي الله عنكم – ولعلكم جميعاً سمعتم بنبأ هذه الواقعة- لمّا فتح صلحاً بيت المقدس، واستقبله البطريرك الكبير سفرنيوس وأدخله كنيسة القيامة المقدسة جداً عن إخواننا النصارى، وأطلعه ما فيها من رسوم وتماثيل للعذراء وابنها عيسي عليه السلام وعمر لا ينكر ذلك، وهو لم ينكره لأن الرسول نفسه لم ينكره وأنا أعلم أن المسلمين يسمعوا هذا لأول مرة للأسف، وعندما حان وقت الصلاة طلب عمر من سفرنيوس أن يصلي، فأشار إلى بقعة معينة فى الكنيسة وقال: صلي هنا يا أمير المؤمنين، فَهَمَّ عمر أن يصلى ثم تراجع وقال: لا، أخشي أن يتخذ المسلمون صلاتي فى الكنيسة ذريعة وسنة، فيأبوا إلا أن يصلوا مكاني فيغلبوكم عليها، فتذهب من أيدكم يا إخواننا النصارى. قال: لا، وخرج وصلى خارج الكنسية… شيء عجيب!

أذكركم الآن بالشيء الذى ربما يسمعه بعضكم لأول مرة، وهو ما أخرجه الإمام الأظرفي فى “تاريخ مكة” والإمام الذهبي فى “سير أعلام النبلاء”، وهذا ثابت من رواية عمرو بن ميمون ومن رواية عطاء بن أبى رباح: أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة دخل الكعبة ووجد فيها الأصنام والتماثيل التى تُعبد من دون الله فأمر بإزالتها، ووجد فيها صنماً لإبراهيم عليه السلام يستقسم بالأزلام أى يعمل عملاً شركياً فأمر بإزالته، ووجد فيها تماثلين لمريم وابنها فى حجره فوضع يده عليهما وقال لهم: أمحوا كل ما سوى هذين، مريم وعيسى يبقيان فى الكعبة. يروى الإمام الذهبي وهو من هو رحمة الله عليه عن عطاء بن أبى رباح أنه قال: وسُئل هل أدركت تمثال مريم وابنها فى الكعبة؟ قال: نعم رأيته أنا بنفسي وقد أمر النبي بإبقائهما، وعمرو بن ميمون وهو شيخ سيفان الثورى وشيخ الأئمة، قال: نعم، لقد رأيت هذا بنفسي قبل أن تتهدم الكعبة عندما احترقت فى العهد الإسلامي. تسامح غريب وعجيب جدا!

أود هنا أن أقف لكي أذكر بأن موقف الإسلام بالذات من الديانة المسيحية أو النصرانية كان متسامحاً، بل متفاهماً جداً لأول عهد المسلمين بدينهم. فى المرحلة المكية نزلت سورة الروم والتى حزن- كما تقص هذه السورة- المسلمون لهزيمة الروم المسيحيين أمام الفرس عباد النار، وجاء القرآن يبشرهم أن الغلبة والدولة سيكون للروم فى بضع سنين أى أقل من تسع سنوات، وهذا ما حصل وكانت معجزة للقرآن الكريم وفرح المسلمون، قال تعالي ويومئذ- أى ينتصر المسيحيون على عُبَّاد النار- يفرح المؤمنون بنصر الله، هذه واحدة.

وثاني عهدهم حين أرسل النبي المسلمين الذين اضطُهدوا وظُلموا فى دينهم إلى الحبشة، وقال لهم: اذهبوا فإن فيها رجلاً- وهو النجاشي وكان متعبد مسيحي صادقاً- لا يظلم الناس عنده، ولعل الله أن يجعل لكم من أمركم فرجاً ومخرجاً، فذهبوا إلى النجاشي، وهناك قام أحدهم بثورة على النجاشي، تقول أم سلمة- التى أصبحت فيما بعد زوج النبي أم المؤمنين- فيما أخرجه البخاري: فكنا ندعو الله تبارك وتعالى أن ينصر النجاشي على من عاداه لما رأينا من عدله ودينه رضى الله عنه وأرضاه.

وأريد هنا أن أذكِّر بحقيقة مهمة لمن يظنون أن الإسلام يشعلها حرباً على الأديان وعلى البشر جميعاً وهذا غير صحيح، النبي قال فى حديث فى أخر حياته وقبل وفاته بقليل جداً: “اتركوا الحبشة ما تركوكم”! أى إذا لم يعادوكم ولم يبدءوكم بقتال، فحرام عليكم أن تقاتلوهم عرفاناً للحبشة بالجميل، ولِما كان منهم مع المسلمين، ولأنهم أهل كتاب احترموا كتابهم ودينهم. وعلميا أو كما يقال جيوسياسيا المفروض أن النبي كان أول ما يأمر يأمر بغزو الحبشة، لأنها ضمن المجال الحيوي القريب بالدائرة الإسلامية، فلا يفصل الحبشة عن جزيرة العرب إلا البحر الأحمر، لكن النبي لم يفعل هذا، وإنما دخل فى حرب مع الروم والفرس لأنهم هم الذين بدءوه بالحرب وقتلوا جماعة من رسله وأصحابه وممن قد أسلم، فهم الذين بدأوا ولم يبدأهم النبي بالقتال عليه الصلاة وأفضل السلام.

أكثر من ذلك فإن القرآن يقول بشكل واضح “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ”، ويقول القرآن أكثر من ذلك يمتن على محمد وأتباعه بقوله “الم1، اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ2، نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ3، مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ..” يذكر بأنه كما أنزل القرآن أنزل التوراة وأنزل الإنجيل هداية للناس، فى سورة المائدة “وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه”، ويقول عن التوراة “إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ..” لذلك فالإسلام ظلت علاقته طيبة وكريمة ومتسامحة جداً مع النصرانية إلى السنة السابعة الهجرية، لمدة عشرون سنة من حياة البعثة التى امتدت ثلاث وعشرين سنة فقط كان الإسلام يُحسن إلى النصارى شعوبهم وقبائلهم حتى كانوا هم الذين بدءوه بالعدوان العنيد، وذلك يوم بَعَث النبي رسولاً إلى الملك النصرانى الغساني- بنو غسان هى قبيلة مسيحية فى الشام- فوجده ينعل الخيل لحرب رسول الله، ليذهب إلى المدينة ليغزوها فى عقر دارها، وقال له: أخبر صاحبك بما رأيت، فنحن نريد قتاله ونريد أن نستأصل شأفته، ما الذى رأيتم منه؟! لم يروا منه ولم يسمعوا إلا هذه الآيات التى تنص على أن المسيحيين هم أشد الناس محبة، أشد الناس قربة للذين أمنوا، لأن عوامل القرب كثيرة جداً بين المسيحية والإسلام، والنبي هو القائل فى الحديث الصحيح: “أنا أولى الناس بعيسى بن مريم…” لماذا؟ قال: “ليس بيني وبينه نبي”.

أكثر من ذلك ملك الروم هرقل عظيم الروم، وقد بعث له النبي بعد الحديبية كتاباً فيه لطف يقول فيه: “بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يأتيك الله أجرك مرتين، فإن توليت- لم يقل له سآتيك بجيوش لا قبل لك بها، سأغزوك فى عقر دارك- إنما قال: فإنما عليك إثم الآريسيين، إثم الأتباع الذين تضلهم وتضطهدهم ممن ليسوا على دينك، كما اضطهدت النصرانية الملكانية النصرانية اليعقوبية وقتلوا منهم عشرات الآلاف حتى بطريرك الأقباط الأكبر اليعقوبي فى مصر ويدعى بنيامين ظل هارباً أكثر من سبع سنوات فى الجبال والصحارى، ولم يؤمِّنه ويعده إلا الفاتح الجديد عمرو بن العاص، وأعطاه ما ينبغي له من هيبة وجلال وتكرمة وتجلة.

قال عليه الصلاة وأفضل السلام: وإن توليت فعليك إثم الآريسيين، ثم ختم الكتاب بقوله “قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء” أى كلمة تجمعنا فى منتصف الطريق “…إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ” لم يقل فإن تلوا ولم يطيعوا سنقاتلهم ونذبحهم ونرهبهم! قال: نحن نرضى بأن نكون مسلمين، وأنتم لتبقوا على ما أنتم عليه، لكن هرقل عظيم الروم وقد أسلم أحد موظفيه الكبار فى بلدة تسمى الآن معان فى الأردن حالياً، فقتله هرقل شر ِقتلة بعد أن أسلم، وأعلنوها حرباً على رسول الله من أكثر من جهة.

إذن أُحب أن أقول لإخواني من المسيحيين والمسيحيات الذين يراد أن يُلقَّنوا للأسف الإفك والزور ويقال لهم: اقرءوا سورة التوبة، فسورة التوبة تأمر بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، نقول لهم: اقرأوا التفاسير وسياق هذه الآية من سورة التوبة، فبعدها بنحو آيتين الله يقول “يُرِيدُونَ ليُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ…” هذه الآية نزلت تحرض المسلمين على غزوة تبوك التى كانت- كما ذكرنا لكم- بسبب قتل المسلمين، وبسبب الإعداد لحرب المدينة المنورة من قبل الروم المسيحيين، أما المسيحي الذى سالم الرسول وسالم المسلمين كنصارى نجران فلهم من رسول الله ولهم من القرآن والسنة والمسلمين كل الاحترام وكل الموادعة والمسالمة، الآيات كما قلنا كثيرة جداً فى هذا الباب، ولن نطول بذكرها.

أحب أن أختم بشيء آخر ونحن لازلنا فى أول الموضوع للأسف؛ وهو ما يقال عن إن الإسلام هل متسامح أو غير متسامح، متسامح أو متعصب؟! بعض الناس ينطق هذا المصطلح دون أن يبحث ولو قليلاً فى حقيقة وعمق هذا المصطلح.. فما معنى التسامح، وعلى ماذا يتأسس التسامح؟! الفيلسوف العظيم كارل بوبر حين تحدث عن التسامح اقتبس فولتير حيث قال: نحن البشر أبناء الضعف، فنحن جميعاً كبشر عرضة للهشاشة والخطأ، ومن هنا علينا أن نحترم اختلافاتنا، علينا أن نحترم الآخر إذا كان له معتقد أو دين يخالف ما عندنا…لماذا؟ لأننا نسبيون، فقد تظن أنك على حق وقد يكون الحق فى جانب الآخر وليس معك، وقد يكون الحق موزعاً بينك وبين الآخر، لك بعض النصيب منه وعندك بعض الباطل، وعنده نصيب من الحق وعنده بعض الباطل.. وهذا ما يُسمى الآن بالنسبية المعرفية.

هل تعلمون أن الإسلام قرر هذه النسبية بشكل جميل جداً، وتركت طابعها على الثقافة الإسلامية، الله عز وجل لم يقل نحن المسلمون على حق مطلق وانتهى كل شيء ولا نقاش، إنما قال للآخرين “وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ”، ولما أمر أهل الكتاب أن يعملوا بكتابهم وأن يقيموا كتابهم أى يعملوا به بطريق صحيحة، فقد كان يقرر أن عندهم كثير من الحق، ولم يقل أنهم على باطل مطلق.

أول مثقف- ربما بالمعني المعاصر لكلمة مثقف- فى التاريخ الإسلامي هو الجاحظ المعتزلى وهو له رسالة عن النصارى يقول فيها: الفضائل والمثالب موزعة بين الأقوام والأمم، فلا تستطيع أمة أن تقول إن كل الفضائل والحق عندي، وكل الرذائل والباطل عندكم. ومن هنا ألقت هذه النسبة الثقافية بطابعها وظلالها على جملة لجماعة متصوفة سار حولها خلاف كثير يسمون “بإخوان الصفا وخلان الوفا”. إخوان الصفا لهم عبارة عجيبة جدا- طبعاً يناقشون فى مفرداتها وآحادها، لكن أبغي روح هذه العبارة- حين بحثوا عن الإنسان الكامل، فقالوا: الإنسان الكامل فارسي النسب، عربي الدين، حنفي المذهب، عراقي الآداب، هندي البصيرة، يهودية المخبر، مسيحي المنهج، شامي النُسك، ملكي الأخلاق، رباني الرأى، أى إن الإنسان الكامل لا يمكن أن يوجد فى ثقافة واحدة، لا يمكن أن يحتجزه ويحتجنه عرق واحد. لم يقولوا إن الإنسان الكامل هو العربي المسلم الشافعي… أبدا! الذى يقول إن الإنسان الكامل هو العربي المسلم السني أو شيعي فهذا جاهل ولم يفهم شيئاً، ولم يذق للثقافة طعماً.

قالوا: الإنسان الكامل هو الفارسي النسب ولم يتعصبوا لعروبة هنا، العربي الدين، الحنفي المذهب والمذهب الحنفي مذهب متوسع جداً يقوم على القياس والاستحسان والاستطلاع وعلى إعمال الرأى وقوة العقل، العراقي الآداب، اليهودي المخبر، المسيحي المنهج، الشامي النُسك أى العبادة والزهادة، الملكي الأخلاق، الرباني الرأى، الهندي البصيرة ومعلوم ما توفر للهنود من حظ فى هذا الباب من البصيرة والتأمل، وهذا ما يؤكد تماماً عبارة الجاحظ بأن الفضائل والكمالات المثالب والمقابح موزعة بين الأمم والأقوام.

إذا أردنا فلسفياً وبلغة التسامح والمتسامحين أن نترجم عن عبارة إخوان الصفا هذه.. فما عسانا نقول، وكيف نترجمها فلسفيا؟! لن نجد خيرا من أن نعبِّر عنها بأنها لم تتخذ الدين معياراً للمحاكمة، فليس الدين المعيار الوحيد للمحاكمة والحكم على الآخرين وتقرير حدود الأخذ والعطاء مع ومن الآخر، فهناك عوامل كثيرة جداً، ومن هنا لا ينكر منكر وإن كابر أن الحضارة الإسلامية كانت حضارة متفتحة جداً على الحضارات الأخرى، على الأديان الأخرى، على الأقوام الأخرى، على التراث الآخر، فهناك مواريث كثيرة أنقذها المسلمون وعاشت بفضل ما قام به المسلمون من إحياء لها، ونحن لم نتنكر لها، ولم نجد غضاضة أن نتعلم ونجلس فى موضع التلميذ يوم كنا منتصرين حتى بالسيف.

وأعود إلى كارل بوتر وفولتير، ومثل فولتير تماماً نجد جون لوك فى رسالته الشهيرة عن التسامح قال: التسامح يتأسس على هذه الأسس العتيدة وهى أن البشر جميعاً عرضة للخطأ، والأساس العتيد الثاني هو أن الإكراه لا يمكن أن يكون سبيلاً صحيحة ومأمونة للإقناع، أى كأنه يقول كما قال الله تبارك وتعالى ” لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغي “.. لو تعلمون سبب نزول هذه الآية ستعجبون! هذه الآية نزلت بسبب أن بعض المسلمات من قبائل الأوس والخزرج كانت هؤلاء النساء إذا أنجبن لا يعيش لهن ولد ويموت، وتُسمى مثل هذه المرأة فى اللغة الفصحى “المقلاة”، فكانوا فى الجاهلية لكي لا يموت أولادهم ينذرون لله نذراً أنها إذا رُزقت ولداً لتجعلنه يهودياً، وسبحان الله أراد الله عز وجل أن يعيش هؤلاء الأولاد، وتَهَود بعضهم، ويوم قامت مشاحنات ومعارك بين المجتمع الإسلامي وبين بعض قبائل اليهود فى المدينة، وأجلوا عن المدينة كان من ضمن من وجب إجلائه هؤلاء الشباب من الأنصار الذين تهودوا فطالب بهم آبائهم وأمهاتهم، وقالوا: يا رسول الله إنهم أبنائنا، قال لهم النبي: إنهم يهود، قالوا: نحن نرغمهم على الدين ونعيدهم إليه بالقوة فهم أبنائنا، فأنزل الله تبارك وتعالى “لا إكراه فى الدين” فإنه إذا اختار أن يبقى يهودياً فليبق يهودياً، وليس عليك أن تكره حتى يعود مسلماً، وهذا لا يجوز فى الإسلام.

روى الإمام ابن أبي حاتم رحمة الله عليه أن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب كان له غلام -أى عبد اشتراه من ماله- اسمه أسبق، وكان لقناً حاذقاً ذكياً، فكان عمر يقول له: يا أسبق لو أسلمت لكان خيراً، وإلا استعملناك فى بعض أعمال المسلمين، فأسلم يا أسبق! يقول: يا أمير المؤمنين إني أحب ديني، وكان نصرانياً، فيبتسم عمر ويضرب كفاً بكف ويقول: لا إكراه فى الدين، وهو مملوك له اشتراه بماله لم يرغمه.

الخليفة الثالث عثمان بن عفان كانت أحب زوجاته إليه وخير زوجة له زوجة نصرانية وتدعى نائلة بنت الفُرافصة، ويقال أسلمت بعد ذلك، وهى التى دافعت عنه يوم استشهد وقُطعت أصابعها، وأبت أن تتزوج معاوية بن أبى سفيان الذى أصبح خليفة بعده، وكسر سنها وبعثت بها إلى معاوية، وقالت: والله لا يرى منى أحد بعد عثمان ما رأى عثمان.

حذيفة بن اليمان الذى كان يلقب بسكرتير الرسول وصاحب سره، هذا تزوج يهودية فى العراق وعاش معها، والرسول نفسه كانت أم ابنه إبراهيم هى ماريا القبطية مسيحية يعقوبية من مصر، ويقال لم تسلم، وتزوج النبى أيضاً يهودية أبوها هو سيد بني قريظة وبنى النضير أيضاً هو حيي بن أخطب، وهى صفية بنت حيي وهى اختارت أن تسلم طواعية لأن زواج المسلم من يهودية أو نصرانية مباح فى الإسلام ولا شيء فيه، مع أن الزواج فى لغة القرآن مودة ومحبة بين الناس، فلِم لا يكون محبة بين المسلم وبين اليهودي، بين المسلم وبين النصارى. هذه هى طريقة القرآن وطريقة الإسلام فى محاسنة وملاطفة ومعاشرة الآخرين المليين.

الآن سنسأل سؤال هل يسمح الإسلام للخطة الأكثر عبقرية كما سماها البروفسور أدموند رباط فى كتابه كنيسة الله، حيث قال إن فكرة الذمة هى الخطة والفكرة الأكثر عبقرية فى التاريخ التى يرى فيها الآن بعض الناس أنها فكرة تقشعر لها الأبدان، وانتبهوا! الآن لا يجوز أن يقال إن إخواننا المسيحيين فى الشام أو فى مصر مثلاً هم أهل ذمة، فهذا الكلام دينياً وعلمياً كلام فارغ الآن، فهم مواطنون معناً على قدم سواء، يوم دخل النبي المدينة المنورة كان فيها قبائل يهودية كثيرة فى أطرافها، فقال النبي عليه السلام: ويهود بني عوف أمة مع المؤمنين. والآن لا يجد الفقيه المسلم تفسيراً لهذه العبارة إلا تفسيراً واحداً وهو أن النبي أقر مبدأ المواطنة بعيداً عند محدد ومشخص الدين، لتكن يهودياً، لتكن مسلماً، لتكن غير ذلك أنت تعيش على أرض واحد وتحت قانون واحد فأنت مواطن لك ما لنا وعليك ما علينا، ثم قال النبي عليه السلام: وليهود بني النجار ما ليهود بني عوف.

وقد يتساءل بعض الناس هل يتسع صدر الإسلام أن يعيش الوثنيون والملاحدة واللادينيون مع المسلمين وأهل الكتاب والمجوس فى ظل الاجتماع الحضاري والسياسي الإسلام؟! نعم، فشيخ الإسلام ابن تيمية يقول فى رسالته فى قتال ….: على كثرة ما تتبعت وبحثت لم أجد لا فى كتاب ولا فى سنة ولا فى سيرة رسول الله ولا هدى الراشدين ما يمنع من دخول المشركين فى ذمة المسلمين، ونحن نقول: بل هناك ما هو أبلغ وهو حديث الإمام مسلم وأبو داود وغيرهما عن بريدة أن النبي يقول: فإن لقيت أحد من المشركين، فادعه إلى إحدى ثلاث خصال وذكر منها الجزية، إذا أراد أن ينتهي القتال بغير إسلام فيمكن أن ينتهي بأن يدفع مبلغاً بسيطاً جداً من المال لقاء حمايتنا له ودفاعنا عنه، وكانت أخر وصية لرسول الله عليه السلام قال: استوصوا بأهل الذمة خيراً، ومن ظلم ذمياً فقد برأت منه ذمة الله، فالذي يظلم رجلاً أعطيناه عهدنا بأن نحميه وأن نحافظ على معابده وعلى حرياته وعقائده فهذا برأت منه ذمة الله وبرأ منه الإسلام. والعجيب أن هذه الوصية نفسها كانت أخر وصية نطق بها الخليفة عمر بن الخطاب حين طُعن غدراً وغيلة، قال وهو يجود بنفسه وأوصى الخليفة من بعده بأهل ذمة الله ورسوله خيراً أن يحوطهم وأن يقاتل من ورائهم وألا يكلفهم ما لا يطيقون.

وقال ابن حزم رحمة الله عليه الفقيه العظيم فى القرن الخامس الهجري معقباً: ولو ظُلم رجل واحد من أهل الذمة يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً أو مشركاً أو وثنياً فعلي المسلمين أن يقاتلوا لرد مظلمته حتى لو ذهبت أموالهم كلها، وحتى لو ذهبت مهدهم أى ماتوا كلهم فى سبيل استنقاذ هذا الذمي حفاظاً على ذمة الله وذمة رسوله، أين كان هذا ومتى؟! هذا كان فى العصور الوسطي كما تسمى.

ابن تيمية يوم جاء التترى غازان إلى مشارف الشام وأسر جماعة من المسلمين والنصارى ذهب إليه يفاوضه، فأُعْجِبَ غازان هذا بمبدأ ابن تيمية وعقله، فقال له: كرامة لك يا شيخ المسلمين أنا سأرد معك المسلمين الأسرى، قال: لا، حتى ترد إليهم ومعهم إخوانهم النصارى، قال: لكنهم ليسوا مسلمين فماذا تريد منهم؟ قال: إنهم أهل ذمتنا ولهم ما لنا وعليهم ما علينا.

حقيقة أخرى عجيبة جداً بغض النظر عن النقطة الإشكالية التى وقعت فى أواخر سنوات الدولة العثمانية مع الأرمن، إلا أن الذى يعرفه كل المؤرخين الثقات أن الدولة العثمانية فى مدى أربعة قرون لم تقم بأى محاولات لإذابة الأقليات الدينية والمذهبية. ومرة من المرات حاول السلطان سليم الأول أن يحمل بعض النصارى كُرهاً على الإسلام، فتصدى له مفتي الخلافة التركية على ذنبيلي أفندي، وقال له: لا يجوز لك هذا فإنهم أهل ذمتنا، ونحن مأمورون أن نتركهم أحراراً وما يدينون، وجرت بينهم مشادة كلامية وكاد السلطان يأمر بإعدام الشيخ المفتي، إلا أن الشيخ أقر وأفحم السلطان بالحجة، فاستغفر السلطان الله وعدل عما كان ينتويه. أما تركيا الفتاة، تركيا العلمانية قامت بمحاولات تتريك فى ربع قرن لم تنجح تركيا الإسلامية فى عشر معشاره فى أربع قرون بسبب النفس الإسلامي.

عمرو بن عبد العزيز وهو الخليفة الراشد الخامس فى الإسلام يكتب إلى حسن البصري أحد أعاظم المسلمين وزهادهم، يقول له: يا تقي الدين ما بال الخلفاء الراشدين تركوا أهل الذمة من اليهود والنصارى والمجوس بشركهم وأكلهم الخنزير وشربهم الخمر ونكاحهم المحارم كما يفعل المجوس، فكتب الفقيه الحسن البصرى يقول له: يا أمير المؤمنين بهذا أمروا، وإنما أنت متبع ولست بمبتدع فاتبع، إياك أن تخرج عن خط الإسلام! هذه هى خطة الإسلام أن يتركوا وما يدينون، فإذا كان نكاح المحارم يجوز فى شريعة المجوس فليفعلوا ولا علينا منهم، وإذا كان أى قبيحة أو إثم فى نظرنا يجوز فى نظر الملي الآخر فليفعل ولا علينا منه. كما قال عمر بن الخطاب: فإن لهم علينا ذمة ابتلينا بالوفاء بها، وعليهم جزية ابتلوا بالصبر عليها، فما صبروا لكم فوفوا لكم.

أختم بكلمة واحدة لكي أزيح الشبهة عن موضوع الجزية وهى مبلغ تافه جداً، فالغني جداً من أهل الذمة يدفع فى السنة كلها ثمانية وأربعين درهماً، أما الغنى جداً من المسلمين فيدفع زكاة 2.5% وقد تساوى مئات الآلاف من الدراهم بحسب ما عنده من ثروة، أما اليهودي أو المسيحي أو المجوسي أو الملحد الذمي فى دار الإسلام يدفع فقط إذا كان غنياً 48 درهما، وإذا كان ميسوراً يدفع 24 درهماً، وإذا كان حاله أقل من ذلك 12 درهماً، وإذا طفلاً أو امرأة أو راهباً يعيش على الصدقة أو إنساناً غير عامل وغير كاسب فلا يدفع أى شيء.

لماذا يدفع هذا المبلغ؟! لا يدفعه حتى نحمله على الدخول فى الإسلام كما يفهم البعض أو كما يريد أن يفهم.. كلا! إنه يدفعه لأنه لا يخدم فى الجيش ولا يدافع معنا، وإن شاء هذا الذمي أن يقاتل معنا يجوز له ذلك، وقد دخل فى القتال مع خالد بن الوليد بعض النصارى من أهل العراق والشام حين فتحوا أرض السواد فى العراق، فوضع عنهم الجزية، وقال: من قاتل منهم معنا فلا جزية معه، إذن هم يدفعون هذا المبلغ الزهيد جداً وهو أقل من الزكاة بمرات ومرات لقاء ما نبذل نحن من جهود ومن دماء لحمايتهم والدفاع عنهم، وأيضاً لأن المسلمين يدفعون الزكاة والصدقات فعليهم أن يشاركوا فى المجتمع ببعض الشيء.

اكتفي بهذا القدر واترك المجال فيما يتسع له الوقت للسؤال والجواب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وحول تسويغ لنشوء شريعة الحرب فى التاريخ الإسلامي فى المرحلة النبوية المدنية، استفدت بطريقة أو بأخرى من الكتابة الأمريكية كارين ارمسترونج التى أقرت هذا تماماً فى دفاعها عن نشوء شريعة الحرب فى الإسلام وهو أنه عندما بُعث السيد المسيح عليه السلام برسالته وبدينه الجديد إنما بُعث فى مجتمع مستقر من ناحية سياسية، وهناك ما يُعرف باسم السلام الروماني الذى كان مفروضاً فى كل ربوع الإمبراطورية الرومانية، بمعنى أنه كان يمكن للمبشرين بأى ملة أو التجار أو العوام من الناس أن يتنقلوا من بقعة إلى بقعة فى حالة سلم حقيقي، لكن حين بُعث محمد كان الوضع مختلف تماماً فكانت هناك مجتمعات قبلية لخَّص العلاقة بينها الشاعر الجاهلي بقوله:

وأحياناً على بكر أخينا   إذا لم نجد إلا أخانا

وكان القوي يأكل الضعيف، والنبي نفسه وهو النبي الجديد خرج من مكة فاراً برقبته إلى المدينة المنورة ليبقي خمس سنوات كاملة مهدداً هو ودولته الوليدة ومجتمعه الوليد بالفناء والإفناء، فكان والحالة هذه لابد من أن تتقوى هذه السلطة الجديدة وأن تمتد هذه الدولة وأن تمتلك من وسائل الدفاع عن نفسها ما يؤمن مستقبلها.. وهذا ما حصل.

العجيب أن الشيخ محمد الغزالي أحد الدعاة المعاصرين قرر أيضاً هذا المعنى نحو أربعين سنة وهو أن الظروف التى بُعث فيها المسيح كانت تضطره أن يدعو إلى ما دعا إليه، لكن لا تنسوا إنني ذكرت فى تضاعيف محاضرتي أن إخواننا الكاثوليك يؤمن معظمهم بما يسمى بالحرب العادلة؛ حرب يدافع فيها عن استقلال الشعوب، عن استقلال البلاد، الدفاع عن الحريات والإرهاب والهجمات الخارجية والداخلية العنيفة… هذه كلها حرب عادلة، ونحن معها واعتقد أن كل من يحترم عقله وحرية الآخرين لابد أن يؤيد هذه الحرب.

السؤال فى هذا الإطار هو هل تسمح المبادئ الإسلامية بفصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية، أو بلغة إخواننا الغربيين فصل السلطة الروحية عن السلطة الزمنية، بحيث لا يجتمع السيفان؟! ولأكون صريحاً معكم أقول: الأمر يبدو صعباً أن يختصر فيه الجواب.. كيف؟ من نفس المنطلق لأنه كان ينبغي على محمد وعلى الدين الجديد أن ينشئ دولة وباسم الدين كما قال ابن خلدون، لأن كل الدعوات إلى توحيد هذه الجهود وتوحيد القبائل من غير دعوة من دين فيها معنى مقدس ومعنى مطلق فشلت، وكان العرب يأكل بعضهم بعضاً، ونجحت فقط لأول مرة باسم الرسالة والدين مقدس، ساد سلام حقيقي فى جزيرة العرب، ووضعت الحرب أوزارها وانتشر السلام وبدأت الحضارة يوم استتب شأن الدين الجديد والرسالة الجديدة وحدث نوع من السلام الذى يمكن أن يُسمى السلام الإسلامي.

وما يجب أن نؤكد عليه فى هذا الباب هو أن السلطة السياسية لا تعنى أنها سلطة تشريعية حقيقية، فالسلطة التشريعية مفصولة فى النظام الحكم عن السلطة التنفيذية، بمعنى أنه لا ينبغي وليس حتى مما يستحب أن يكون عالم هو الخليفة أو الإمام أو وزير الخارجية، لذلك فالحكومة فى الإسلام هى نهاية المطاف هى حكومة مدنية، وسألخص هذه النظرية المعقدة فى كلمتين لأقول لكم: مصدر أسس وأصول التشريع، وهذا ما يختلف فيه المنظور الإسلامي عن المنظور العلماني الليبرالي الغربي؛ ففي المنظور العلماني الديموقراطي الغربي هناك سلطة مطلقة الآن للتشريع للشعوب، بمعنى أن أخي المسيحي لا يعتقد أن هناك شيئاً محرَّماً فى الكتاب المقدس يمكن للسلطة التشريعية وهى البرلمان أن تحيله إلى محلل، أو يحيل المباح إلى محرم.. فيقول الله إذا الشعب رأى هذا فليكن، والسبب تاريخياً أن المسيح عليه الصلاة وأفضل السلام حين ارتحل عن هذا العالم لم يكن قد خلَّف لنا تراثاً تشريعياً مكتملاً، وكان دينه أشبه بمنظومة أخلاقية مواعظية إحيائية للآداب وإنمائية للروح الإنسانية، لكن لم تكن هناك تفاصيل تشريعية دقيقة كالموجود فى الناموس اليهودي فى شريعة موسى وشريعة اليهود، وهو قال: لم آت لكي أهدم الناموس، إنما جئت لأقيم الناموس.

ومن هنا كان للبشر- وهذه نقطة خلافية جداً بين الإسلام والمسيحية- وهى وصية عيسى لبطرس، حيث قال له: ابن كنيستك على هذه الصخرة وما تحله فى الأرض فهو فى السماء محلول، وما تعقده- أى ما تحرمه- فهو فى السماء معقود. في الإسلام لا يمتلك أحد هذه السلطة، فأصول الحلال والحرام لا يمكن أن تُنسخ فى الإسلام، بمعنى إنه لا يمكن أن يباح فى الإسلام الغش أو الكذب أو السرقة أو العدوان أو الظلم أو السطو على أعراض الناس والسطو على ثمرات عقلوهم أو أيديهم…كل هذا مما يحرم ولا يمكن أن يسوغ فى يوم من الأيام، فنكاح المحارم مثلاً لا يمكن للإسلام أن يتساهل فيه، وكذلك اكتفاء الجنس بجنسه أي زواج الرجال بالرجال كقاعدة فإن الإسلام لا يتساهل فى هذه الأشياء، يمكن أن يكون له موقف فقهي متسامح من هذه الظواهر كظواهر مرضية تحتاج إلى علاج أو إلى إعادة تقويم ونقاش، أما أن يُنظر إليها على أنها أشياء طبيعية ويمكن أن تصبح قاعدية فى المجتمع فلا، ويستنكف الإسلام من هذا، لأن أصول هذه الأشياء لا تقبل النسخ فى الإسلام، فيما عدا ذلك من كيف ننظم حياتنا مدنياً وإدارياً واقتصادياً وسلطوياً.. إلى أخره، فهذا أمره متاح جداً فى الإسلام.

وسوف ألخص بكلمة واحدة هذه النظرية التى تقول: مصدر أصول التشريع هو السماء أي الله، ومصدر شرعية الحاكم والحكم هو الشعب، فالشعب هو الذى أتى بالحاكم، ولم يأت به باسم وصاية أو حق إلهي، نحن الذين أتينا به ونحن الذين يمكن نذهب به بصندوق الانتخابات، لكن لا يستطيع هذا الحاكم ولا يستطيع البرلمان أن يأتي بتشريع ينقد التشريع الإلهي من أصله فيبح أصول ما حرم الإسلام، ويحرم أصول ما أحل الإسلام. ومن هنا فالحكومة فى الإسلام ليست ثيوقراطية كما أنها ليست ديموقراطية مطلقة كما يفهم الغربيون من مصطلح ديموقراطية، نحن نقبل الديموقراطية على أنها آليات سلمية ومعقولة- وهى أحسن ما توصلت إليه الحضارة الإنسانية فى مجال التنظير والتطبيق- للتداول السلمي على السلطة، لكننا نرفض بعض- وليس كل- الأسس الفلسفية لهذه الديموقراطية، كأن يقال لنا أن نحل ما أردنا وأن نحرم ما أردنا وليس لله شأن فينا، وهذا معناه فى نهاية المطاف أن الدين سيُنسخ بالكلية، وسيأتي اليوم الذى سنقول للدين أذهب من حيث أتيت، فلسنا بحاجة إلى دين ولا إلى كتاب مقدس ولا إلى قرآن ولا إلى كنسية ولا إلى مسجد، وطبعاً نحن كأهل هذا الدين ومعجبون ومحبون وملتزمون بهذا الدين نرفض هذا المنطق. هذا ما يمكن أن أقوله فى جواب هذه المسألة والله تعالى أعلم.

بالنسبة لموضوع الردة، فهناك آراء متنوعة فى هذا الموضوع، وآراء قديمة لبعض الأئمة فى القرون الأولى الهجرية، وبالنظر فى مجموع النصوص ومجموع الوقائع التى حدثت أدّى إلى أن ننتهي إلى رأي وهو قد فهمته من مجموع نصوص إسلامية وخاصة القرآن، ثم بعد ذلك بدرجة ثانوية فى السنّة النبوية أن للمسلم وللمسلمة أن يمارس التحول من دين إلى دين؛ من الإسلام إلى النصرانية إلى الشيوعية إلى أي دين شاء وليس عليه تثريب، وليس عليه عقاب، وليس هناك ما يمكن أن نجرِّم به هذا الفعل مادام لم يمارس عنفاً مسلحاً ضد المجتمع، إذا ارتد ردة فكرية لأسباب نفسية أو فكرية معرفية فلا علينا منه. وسأتلو بعض الأدلة الفقهية سريعاً؛ ففي المذهب الحنفي وهو مذهب عظيم وعُمل به فى الخلافة العثمانية على مدى أربعة قرون المرأة المرتدة لا تُقتل، ولكن الرجل يُقتل، وعلَّل الأحناف فى مراجعهم الموسَّعة لذلك بقولهم: لأن المرأة لا يُتصور منها الحرابة، أي إنها إذا ارتدت لن تتحول بردتها إلى قوة مسلحة عُنفية ضد المجتمع والسلطة القائمة.. إذن هى ارتدت فى إطار عقدي معرفي فلها ذلك، لذلك نقول من باب القياس لو أن رجلاً ارتدَّ ومارس حريته الفكرية الملية فى إطار شخصي ولم يتحول إلى محارب للمجتمع يُتْرك وما علينا منه.

يقول أحد الأئمة الكبار فيما نقل عنه العيني: لم يثبت أن النبي قتل مرتداً واحداً، بل أنا أزيدكم أنه ثبت فى الصحيحين البخارى ومسلم أن رجلاً جاء من البدو إلى رسول الله وأعلن إسلامه، ثم بعد مدة من إقامته بالمدينة لم يعد يلائمه جوها فأراد أن يعود عن الإقامة فى المدينة وعن الإسلام، أراد أن يعود إلى دينه الوثني ويترك المجتمع كله ويعود إلى البدو. فقال: يا محمد أقلني بيعتي وإنما بايع على الإسلام، والنبي أعرض عنه- وكان لا يحب له أن يعود إلى الوثنية وعبادة الأصنام- فلما كرر هذا القول أعرض عنه النبي، ثم ولَّى الرجل وتركه الرسول، واكتفى بتعليق: المدينة كالكير- الجهاز الذى يُذكى به الحداد النار- تنفى خبثها وينصع طيبها، اكتفى النبي بهذا ولم يقل أدركوه واقتلوه قد كفر وارتد.. أبداً..لماذا؟! لأنه لا يمكن أن يُتصور منه تبيت نية الحرابة ومحاربة المجتمع والعنف المسلح وهو يستأذن النبي نفسه بأنه يريد أن يرتد… إذن الرجل يريد أن يرتد بحسن نية، وليس عنده نية فى المحاربة أو الخروج المسلح على المجتمع الإسلامي.

من الأدلة أيضاً أن عمر بن الخطاب استنكر على أبى موسي الأشعري- كما رواه البيهقى وابن حزم فى “المحلي”- قتله جماعة من المرتدين، قال: يا أمير المؤمنين أو غير ذلك؟! قال: نعم، كنت استتيبته وأطعمه، لكن لا أقتله. لذلك الردة التى يقتل صاحبها هى المعبَّر عنها فى الحديث الذى أخرجه أهل السنن عن أم المؤمنين عائشة، قالت قال صلى الله عليه وسلم: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث.. وذكر ورجل خرج بسيفه محارباً يحارب الله ورسوله، أي خرج ثائراً بقوة مسلحة على المجتمع المسلم، ولم يقل الرسول هنا المرتد، ولكن فُسر المرتد هنا بالمحارب.

وهناك براهين كثيرة لكن نكتفي ببرهاناً أخيراً على هذا، هل تظنون- وخاصة المسلمون يفهمون هذه الروح- أن القرآن الكريم يغفل عقوبة قتل؟! لا يمكن للقرآن أن يغفل تشريعاً بعقوبة قتل، وهو يرى أن أعظم ذنب بعد الكفر بالله هى قتل النفس المعصومة، والأصل فى نفوس المسلمين وغير المسلمين- كما يقول العلماء- العصمة إلا بقين الحلم. هل أغفل القرآن هذا الحد؟! القرآن ذكر الردة فى مواضع كثيرة جداً وما نصب له من عقوبة كانت عقوبة أخروية “وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ”، “يا أيها الذين أمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه..”. لم يذكر فى موضع واحد أن من يرتد يُقتل، لم يقلها مرة واحدة لكن القرآن ذكر حد المحارب مثل قُطَّاع الطرق، مثل الذين يخرجون بقوى مسلحة لتغيير الأوضاع وفرض أجندة معينة حزبية أو طائفية على المجتمع بالقوة، وينقلبون على السلطة الشرعية فى المجتمع.. هؤلاء هم المحاربون وهؤلاء هم الذين يقتلون، فنحن نفهم من الردة ردة المحارب، وليس الردة الفكرة والعقدية، لذلك نحن نستاء جداً من بعض ضَيِّقي الآفاق ومدعي الدفاع عن الإسلام الذين ينادون بالقتل وبالتجريم وبذبح إنسان لمجرد رأي كَتَبَه… ليقل ما يقل! فالقرآن عَرَضَ آراء أكثر من هذه واكتفى فقط بتفنيدها ودحضها ولم يرفع سيفاً لتصفية الناس، هذه واحدة.

وبالنسبة لسؤال أين كنائس النصارى الآن فى البلاد الإسلامية؟! سأجيب من جهتين لكي أكون منصفاً وواقعياً؛

أولاً لست أرضى أن يُحاكم الإسلام العظيم إلى وضع المنحط يعاني منه المسلم قبل أن يعاني منه المسيحي، فلا نستطيع الآن أن نقول أن هناك دولة تطبق الإسلام تطبيقاً مقبولاً ومنصفاً، فهي دولاً تعاني انحطاطاً واستبداداً من نظم شمولية ديكتاتورية، ومن تتكلم باسم الدين بينها تتاجر باسم الدين وتلعب باسم الدين وتغتال الأموال والحريات باسم الدين أيضا، ويعاني المسلمون ولا أقول الإسلاميون بل يعاني المسلمون كما يعاني النصارى وغيرهم فى ظل هذه الدولة الشمولية السيئة السيرة.. فلا يجب أن يحاكم الإسلام العظيم إلى وضع منحط كهذا!

ثانياً إذا أردت أن تري حكم الإسلام فى بناء الكنائس وتشييدها وترميمها فالأمر واضح جداً، وهناك علاَّمة عراقي اسمه عبد الكريم زيدان أخذ رسالة دكتوراً فى الأزهر الشريف عن حقوق الذميين والمعاهدين والمستأمنين فى الشريعة الإسلامية، ورجَّح فيها المذاهب الإسلامية ومنها مذهب إخواننا الزيدية في اليمن أن الصحيح جواز البناء والإنشاء وترميم الكنائس وبيع سيناجوجات اليهود فى البلدان الإسلامية.. وهذا هو الصحيح والذي تدل عليه الأدلة، الله نفسه يقول إنه متشوف لأن تبقى هذه المعابد وليس متشوفاً إلى أن تتداعى إلى السقوط فتسقط وننتهي منها، الله لم يقل هذا أبداً.

وسأقتبس الآن الأديب العالمي والفائز بأكثر من جائزة فرنسية وهو مسيحي لبنان، فأمين معلوف عنده كتاب أكثر من رائع اسمه “الهويات القاتلة”، قال: سأكون صريحاً وأتساءل لو أنني كنت من قبيل مسلمين، واجتاح بلادي جيش مسيحي فى العصور الوسطي هل كنت سأبقى إلى اليوم مسلم وعندي مسجدي؟! ويجيب: الحق لم أكن لأبقى، وعندي تجارب من تاريخي المسيحي وذكر بعضها، ولم يذكر بتاريخ المسلمين واليهود فى الأندلس التى عاش فيها اليهودي والمسلم والمسيحي ثمان قرون، بل فاز بالوزارة أكثر من مسيحي وأكثر من يهودي. يقول أمين معلوف: أن الواقعة الفصيحة الدلالة جداً هو أن يكتب موسى بن ميمون رائعته الفكرية دلالة الحائرين باللغة العربية، ومعروف من هو ابن ميمون والمناصب السياسية التى وصل إليها، قال لكن الذى حصل أن الجيوش الإسلامية اجتاحت بلاداً فيها معابد مسيحية وغير مسيحية وهى قائمة إلى يوم الناس هذا فى أمان.

وحول سؤال عمَّا فعله المسلمون بأقباط مصر حين دخلوها؟ فى البداية حري بنا أن نتساءل حين اشتبك المسلمون هل اشتبكوا مع أهل مصر أم مع جيش الرومان الغازي، وقبل أن نقول لماذا كان على المسلمين أن يأتوا إلى مصر لنسأل أولاً لماذا كان على الرومان أن يأتوا من بلادهم ليحكموا مصر وليحيلوها لمدة خمسة قرون إلى مزرعة ومخزن للغلال ولا يُعطى أهل مصر إلا أقل من عشر بُعيشير ما تجود به أيديهم وما تثمرهم أرضهم، كان جدير بك وبي أن نتساءل أيضاً لماذا يُضطهد مئات الآلاف من اليعاقبة المصريين القائلين بالطبيعة الواحدة على يد المسيحية الرومانية الملكانية (المنسوبة إلى الملك) من القائلين بالطبيعيتين وحتى أنهم بقوا لعشرات السنين فى المغاوير والفلوات والصحارى، وأنا ذكرت ما كان من شأن البطريرك بنيامين الذي ظل بضع سنين هائماً على وجهه لا يستطيع أن يعود إلى أسقفيته ولا يستطيع أن يمارس حريته الدينية. في الحق أن المسلمين فى العراق والشام ومصر لم يشتبكوا مع أهل البلاد، وإنما اشتبكوا مع المحتل الغازي الذى صادر حريات الشعوب الأصلية، وصادر حريات الدعاة المسلمين الذين يريدون أن يبشروا بدينهم.

وستسأليني مرة أخرى ولو من باب التنزل؛ وهل تسمحون أنتم معاشر المسلمين أن يباشر الدعاة المسيحيون التبشير بدينهم فى بلادكم؟! أنا سأقول لك بمنتهى الوضوح: ليس عندي أدنى حريجة ولا أدنى غضاضة فى أن يفعلوا ذلك، وقد فعلوه فى تاريخنا، وارجعي إلى العلاَّمة الكبير والمؤرخ فيليب حِتَّي الماروني اللبناني وجورج جبور فى تاريخ العرب المطوَّل حين يقول: وفى العهود العباسية كان للمسيحيين العرب مراكز تبشير فى الهند وفى الصين انطلاقاً من الحواضر العربية. يجب أن نقرأ التاريخ بدقة ويجب أن نتعمق التاريخ.

وسأقول لك إقتباساً أخيراً من جوبّينو الفيلسوف الأعراقي الفرنسي المشهور صاحب كتاب “الفروق بين الأعراق البشرية”، وهو مؤسس للفلسفة العنصرية، ولكنه صاحب كتاب “أديان آسيا” أيضاً، يقول جوبّينو: فى الحق أنه إذا انفصلت العقيدة عن السياسية التى طالما تحدثت باسمها وتوسلتها لكي تصل إلى مآربها، فإننا لن نجد ديناً على الإطلاق أكثر تسامحاً مع الآخرين من الإسلام. وإذا قرأنا التاريخ بدقة سنجد أن هذا الإسلام قد تسامح ومتسامح إلى حدود ربما قد تكون أبعد من المألوف، وأبعد مما يمكن أن نتخيل.

وسأقتبس أخيراً بول كيندي المؤرخ الأمريكي العظيم المعاصر فى كتابه “الاستعداد للقرن الحادي والعشرين”، حيث يقول: إن ما فعله الغرب الأوروبي أولاً ثم أمريكا بلدي ثانياً بالشرق الإسلامي –وذكر بعض ما فعلوا من استعمار وفظائع وتقسيم وانتهاب ثروات- وأنا يؤسفني فلم أكن أود أن أذكر هذه الحقائق لأنها قد تُنغِّص على بعض إخواننا المسيحيين، لكن للأسف فيها حقائق من التاريخ، وأيضاً هناك بعض البقع المظلمة في تاريخنا أيضاً. سأعترف بهذا، هناك بعض وقائع الأضطهاد للمسيحيين واليهود في تاريخنا لكنها وقائع منذورة وقليلة.

العلاَّمة جورج قرم الماروني اللبناني في رسالته للدكتوراة في باريس عن أنظمة الحكم وتعدد الأديان قال: مشوار الإسلام مع الأقليات الدينية كان متسامحاً جداً والحالات الإستثنائية اليسيرة إنما كانت بأسباب ثلاثة؛ الأول هو المزاج الشخصي لبعض الحكَّام مثل المتوكل الذي عانت منه معظم الفرق الإسلامية عدا الدروز، والسبب الثاني هو استخدام القوات الأجنبية الغازية للأقليات وخاصة المسيحية من أجل مقاصد استعمارية.

والسبب الثالث هو سوء وتردي الأوضاع الأقتصادية والأدارية التي كان على رأسها بعض أهل الذمة من عسفوا بالمسلمين وأساءوا إليهم، فحصل عند المسلمين نوعاً من رد الفعل فصار نوعاً من الأضطهاد. ثلاثة أسباب فيما عدا ذلك فالمشوار كان تسامحياً طويلاً جداً.

بول كند يقول: نحن لا نتساءل ماذا فعلنا بالمسلمين وماذا فعلنا بالشرق الإسلامي، يقول: إن ما فعلناه هو ما يجعل الشرق العربي والإسلامي على ما هو عليه اليوم وبأقل كثيراً مما يريد المعلِّقون الغربيون أن يعترفوا.

قلت مرة فى مؤتمر للأئمة عبارة أرجو أن تكون واضحة لنا جميعا، قلت: بوسعك أن تقرأ عشر مجلدات عن تاريخ فلسطين أو تاريخ الجزائر، لكنك لم تفهم حقاً ما يحدث اليوم فى فلسطين أو الجزائر، لكن لو قرأت مائة صفحة عن تاريخ الاستعمار والبغي والظلم فى الجزائر وفلسطين، ستفهم بوضوح كثيراً مما يدور اليوم فى فلسطين وفى الجزائر.

أخيراً يوم دخل فوجو نائب الحاكم العسكري الفرنسي للجزائر 1830 الجزائر العاصمة سأل عن أعظم وأجمل مساجدها وأعرقها تاريخاً، فقيل له مسجد كيتشاوه التاريخي العريق، وكان فى المسجد أربعة آلاف مصلي يعبدون الله ويذكرون اسمه، فحُصدوا عن أخرهم، وذُبحوا كما تُذبح النعاج. وفى عام 1832 دُشِّن افتتاح أول كاتدرائية للمستعمر الفرنسي فى الجزائر فى محل كيتشاوه، ووقف فوجو يقول بتبجح: نحن اليوم هنا فى افتتاح هذه الكاتدرائية المباركة لقد آذنت أخر أيام الإسلام بالزوال، ومن هنا وإلى عشرين سنة قادمة لن يبقى شيء اسمه إسلام أو مسلمون فى هذه البلاد، وكما أننا لا نشك لحظة أن هذه الأرض هي لنا وتابعة لنا، لا نشك لحظة فى أن كل ما عليها وما فيها من ثروات هو لنا، أما هؤلاء المسمَّون بالمسلمين فسيكونون ملكاً لنا وتبعاً لنا إذا ما آثروا أن يصبحوا مسيحيين.

هل تعلمون أنَّ أبو القانون الدولي الأوروبي جروتيوس رفض فى كتاباته أن تُعامل الأمم غير المسيحية مع الأمم المسيحية على قدم سواء فيما يتعلق بالقانون الدولي، هل تعلمون أن فرانس الأول ملك فرنسا لمَّا وقع معاهدة ممتازة جداً مع الملك سليمان القانوني واستفاد منها المسيحيون الغربيون الذين يؤثرون الإقامة فى الربوع الإسلامية، بحيث أنه رُفعت عنهم الضرائب وما شاكل وأخذوا امتيازات كثيرة، فإنه لمَّا وقَّع معاهدة مع السلطان العثماني سليمان القانوني كان من أكبر المستفيدين منها الرعايا المسسحيون الغربيون الذين يودون أن يقيموا في الربوع الإسلامية حيث رُفعت عنهم الضرائب والمكوس وصار لهم امتيازات.

ويسعدني مرة أخرى أن أستعير من أمين معلوف مرة أخرى الذي يقول: قد لا يعرف كثير منا من القارئين أن استانبول أعظم حاضرة إسلامية في القرن التاسع عشر كان معظم سكانها من المسيحيين وليس من المسلمين، قال: نحن اليوم في القرن العشرين قد لا متخيل إمكانية أن يون نصف سكان باريس أو لندن أو برلين أو فيينا من المسلمين، بل ما زلنا نشعر بالنكير حين نسمع صوت المؤذن هنا في ربوعنا المسيحية.

المهم أن بعض فقهاء القانون الدولي لم يعجبهم توقيع فرنسوا الأول هذه المعاهدة المتسامحة مع سليمان القانوني والعلة أن هذا ليس من الأمة المسيحية وإنما هو من شعوب مُحمَّدية هي أقل وأحقر ولا يمكن أن تساوى بنا.

إن عدد المسلمين الذين فتحوا مصر القبطية كانوا أربعة آلاف، أكثر من قدَّم لهم العون هو الشعب المصري، وقد قال يوحنا النيقوس القبطي الذى عاش فى الثاني عشر فى كتابه “تاريخ مصر القبطية”: لأن الرب فى عليائه لما رأى ظلم الرومان وعسفهم بنا وعدم استماعهم إلى أناتنا وإلى عذاباتنا فإن الرب من عليائه أتى من الجنوب بأبناء إسماعيل لكي ننعم فى ظلهم بالأمان والراحة والسلام.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

تعليقات 4

اترك رد

  • الحمد لله على وجود فضيلة الدكتور.
    محاضرة ممتعة وعظيمة لا غبار عليها.
    كل الشكر الجزيل له وللعاملين على الموقع. و نتمنى جداً العمل على ترجمة خطبه ومحاضراته للإنجليزية.. لما لها من رسالة عالمية،
    والسلام.

  • محاضرة رائعة ، ومفاهيمها صحيحة ، جزا الله الدكتور عدنان عنها خير الجزاء ،باستثنا تعليل أخذ الجزية من أهل الذمة ( وهم الجند من أهل الكتاب الذين هزمهم المسلمون ـ فردُّوا عدوانهم الطالم) قال تعالى :{حتى يدفعوا الجزية عن يدِ وهم صاغرون } ولو لم يقل وهم صاغرون لكان تعليل الدكتور صحيحا ، تكن أن يدغعوا الجزية مع الشعور وإبداء المذلة والمهانة ، إنما كان لحكمة ،عطيمة، وهدف نبيل، ولصالح أؤلئك الناس ، لماذا ؟. وماذا كانت النتائج ؟ بعد أن عاش دافعوا الجزية مدَّة من اتزمن وشعروا بالعدل في المجتمع الإسلامي ، ونسي الناس ويلات الحرب ومرارة الهزيمة ، بدأوا بسؤال أنفسهم : لماذا نبقى في الذل ، ونخسر المال ـ؟ ولماذا لا نؤمن بما آمن به المسلمون ؟ فنكون أعزاء ، ونوفر على أنفسنا دفع المال؟ ولمن درس التاريخ فقد علم أنَّ نصارى الشام لم يدخلوا في دين الله أفواجاً إلاًّ في القرن الثالث الهحري ، وكان قد سبقهم الأقباط( أو غالبيعم) إلى الإسلام ، دين العزة والكرامة الواثق بنفسه دين السلام والمحبة والعدل والحرية ، لذي يختلف في كثير من طروحاته ومفاهيمه عما يتحدث به المشايخ المعاصرون الذين أصبحوا على دين الفقهاء والمحدثين ومنهجه الخرافي ، فأساؤوا لدين الله من حيث يعلمون أو لا يعلمون، والسلام عل من اتبع الهدى,

  • بارك الله فيك يا دكتور.. لم أكن أعرف أنه يمكن التعليق على الفيديوهات في موقع الدكتور ^_^

%d مدونون معجبون بهذه: