الدعاء وقانون الإيمان – الجزء الأول

video

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. مَن يهده الله، فلا مضل له. ومَن يُضلل، فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ولا نظير له، ولا مثال له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفوته من خلقه، وأمينه على وحيه، ونجيبه من عباده. صلى الله تعالى عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته المباركين الميامين، وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.

عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أحذركم وأحذر نفسي من عصيانه سبحانه ومخالفة أمره، لقوله جل من قائل مَّنْ عَمِلَ صَٰلِحًا فَلِنَفْسِهِۦ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّٰمٍۢ لِّلْعَبِيدِ *.

ثم أما بعد/

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات/

يقول الله جل مجده في كتابه العزيز، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم:

إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ * أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ * قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ * قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ * وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ *

صدق الله العظيم، وبلغ رسوله الكريم، ونحن على ذلكم من الشاهدين. اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين، اللهم آمين.

إخوتي وأخواتي/

بالنظر في مواقف وردود أفعال بعض الناس، ولا أقول الكثير من الناس، وأعني من المسلمين، بإزاء الحادثة الشهيرة؛ حادثة الطفل المغربي، وما أُثير حولها من مسألة الدعاء، وأين الله من مُعاناة الطفل الصغير خصوصا، ومن مُعاناة البشر عموما؟ وما هي جدوى الدعاء؟ وكيف يُمكن أن نختبر قوة الدعاء، أو جدوى الدعاء أساسا؟ إلى آخر هذه الأسئلة! يضح ويتبين للمرء، بعد غلغلة النظر، أن هذه الحادثة شأنها شأن حوادث سابقة ولاحقة آتية بلا شك كثيرة، كانت ومثلت فرصة كبيرة وعظيمة لاختبار إيماننا، لمُساءلة إيماننا نحن! 

العجيب أن المرء حين ينظر في جُملة من ردود الأفعال، وجُملة من التساؤلات، يستخلص أن بعض الناس، لا يزال ينبض فيهم العرق القديم للوثنيات المُختلفة، للشركيات المُختلفة! وكأنهم ما قرأوا كلام الله، ولا تدبروه، ولا عادوا منه بفائدة حقيقية! الله سبحانه وتعالى، الواحد، الأحد، ذو الجلال والإكرام، الفرد، الصمد، الذي هو مبدأ كل شيء، وإليه مرجع ومصير ومُنتهى وغاية كل شيء، للأسف في ظن هؤلاء، وفي فكر هؤلاء (والعياذ بالله) ربما أحد الأوثان، أو أحد الآلهة الصغيرة، التي حدثنا عنها علماء الأديان، أن البشر يتعاطون عبادتها وتقديسها والخضوع أو الخضعان لها، في سبيل تحصيل الرغائب ودفع النوائب، ليس أكثر! فإن أفلحت باتفاق سعيد أن تفعل ذلك، استمروا على عبادتها. وإن لم تُفلح، عادوا عليها بالنكير والتسخيف، بل بالضرب والتشهير.

يُحدثنا هؤلاء العلماء، أعني من دارسي الأديان المُقاينة أو المُقارَنة، أن الشباب، أو الناس عموما، في اليونان القديمة، كانوا ربما انتهوا إلى جلد الإله بان Pan! يجلدونه بالسياط! لأنه لم يُحقق رغائبهم. كما يُحدثوننا عن الصيادين، في إيطاليا الوسطى، مِمَن كانوا ربما يُلقون بتماثيل العذراء – عليها السلام -، في المياه؛ غضبا وتسخطا؛ لأن الصيد لم يكن بالوفرة المرجوة! يكفرون بهذا الوثن الصغير! وحُق أن يكفروا به؛ لأن هذه كلها أوثان. كل ما عُبد من دون الله، فهو وثن، بشرا كان، حجرا، أم شجرا، نعم! لا إله إلا الله!

كما يُحدثنا هؤلاء عن أن الصينيين، أيضا في القديم والعصور الوسطى، إلى مطلع العصر الحديث، كانوا ربما أخذوا إلها من آلهتهم، فضربوه وكسّروه وعلوه أيضا بالسياط، وهم يقولون أيتها الروح الخبيثة، يا كلب، قد صنعناك من الذهب، وبنينا لك معبدا فخيما، وأطعمناك أحسن الأطعمة – على أنه لا يطعم، لكنهم يُقدمونها إليه -، وضحينا لك الأضاحي، ثم تُقابل هذا كله بالجحد؟ أيها الروح، أيها الكلب. ويضربونه!

القرآن الكريم، في هذه الآيات التي تلوت، ولها نظائر وأمثال كثيرة في كتاب الله تبارك وتعالى، يلفت النظر إلى هذه النزعة الوثنية، إلى هذه النزعة الوثنية التي ما ينبغي أن يبقى منها جذر، ولا تبقى منها جرثومة، في التوحيد الذي يُشترط فيه أول ما يُشترط الخلوص، قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ *. عجيب هذا السياق! هذا السياق عجيب ومُتكامل وموح جدا! وأعتقد أنه يقترب من أن يتكشف عن بعض أسراره ومغازيه الأعمق، لمَن درس الأديان المُقارَنة، لمَن درس أحوال البشر المُختلفة، في تعبداتهم وفي تأليهاتهم، على اختلافها وتنوعاتها! 

وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ ۚ  *، حتى في حال الاستغناء، الإنسان كفور. صدق دوستويفسكي Dostoevsky حين عرّف الإنسان، وهذا تعريف من بين مئات التعاريف، بأنه الجاحد الماشي على قدمين. وفعلا كلما فكرت في بني البشر، لا تجد أجحد من الإنسان. القطة التي تُربيها أوفى من كثير من بني الإنسان. الكلب – أعزكم الله وأكرمكم – الذي تُحسن إليه أوفى من مُعظم بني الإنسان. ولذلك لا تأسوا، ولا تحزنوا، من جحد مَن جحدكم معروفكم وفضلكم وإحسانكم؛ لأن الإنسان ربه يجحد! يجحد ربه! كيف لا يجحد فضلك أنت؟ هذا هو الإنسان!

وعلى فكرة، وعلى ذكر هذا، وهذا له علاقة قوية جدا بموضوع اليوم، فرصة أن نُذكّر أنفسنا، ونُسائل إيماننا، ونختبر يقيننا، مُهمة جدا! في نهاية المطاف لأن العمر قصير، والإنسان يُفتلت، ويؤخذ بغتة، ولا أحد له ضمانة، أبدا! لا أحد له أو عنده ضمانة، أن يعيش حتى ساعة مُقبلة. والله، ولا واحد منا، لا أنا ولا أي واحد منكم، لديه ضمانة أن نُكمل استماع هذه الخُطبة، وأن نُصلي الجُمعة، فضلا عن أن نُصلي العصر، بعدها بربع ساعة، لا أحد! ولذلك هذه القضايا لا تحتمل اللعب، هذه القضايا لا تحتمل التظاهر، لا تحتمل اللعب ولا التظاهر! أنك تستعرض قدراتك الثيولوجية والفلسفية والحجاجية السجالية الجدالية! هذه القضايا تُريد نية صادقة، ونفسا طهورا، وجدا في البحث، وخضوعا لمُقتضى الدليل.

المُشكل فيها، كما في غيرها، أن الإنسان ليس كما قال الشيخ الرئيس ابن سينا ابن الدليل. ربما يتحدث هو عن نفسه، في مجال مُعين! الإنسان عموما ليس ابن الدليل. والله، يا إخواني، هذا ما تعلمته في حياتي! الإنسان لا يخضع لمُقتضى الدليل، ولا لمدى إقناعية الدليل أو إلزامية الدليل أو بُرهانية البُرهان، بقدر ما يخضع لمشاعره ونزعاته ورغائبه. ولذلك هذا من عجائب كتاب الله تبارك وتعالى! أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ *، الله يعلم هذا. 

ولذلك إذا علم منك الصدق، إذا ما حطه صدقك وإخلاصك في نُشدان الحقيقة وتعرف الحقيقة، ماذا فعل تبارك وتعالى؟ ألقى عليك سكينة. هذا ليس دليلا، هذه حالة مِزاجية، حالة روحية! هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ *، لماذا؟ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ *، هذه حالة مِزاجية، ليست حالة جدالية فلسفية لاهوتية. وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ *، محض عطاء إلهي، في المُستوى النفساني الروحاني. حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ۚ  *، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.

يا أخي، يا حبيبي، يا أختي، ألم يمر بك، ولو مرة من الدهر، وقت شعرت أن صدرك ضيق حرج، من استماع ذكر الله؟ وكأنك لا تُريد! لا تُريد أن تستمع حتى للقرآن! تترك هذا، تحرج منه! اختبر نفسك، تكون في حالة توتر، في حالة غضب، في حالة عدم رضا عن قضاء أو قدر مسك وحاق بك. انتبه! لذلك ينبغي أن تنتبه جدا إلى حالاتك النفسانية، ليس فقط إلى الدليل والأدلة ووزن الأدلة وقيمتها، هذا مُهم، لكن لعله ليس الأهم، وهذا شيء خطير جدا، لعله ليس الأهم!

مواقف الناس، ردود فعل الناس، إذا أردت، وإذا ذهبت تُفسرها عقليا وفلسفيا ولاهوتيا، وقعت في حيص بيص، لن تفهم ما الذي يجري. أما إن ذهبت تفسرها نفسانيا، وضح لك الأمر على جليته، تُصبح الأمور واضحة جدا! مُعظم الناس تُحركهم مشاعر الرضا أو مشاعر التسخط! 

لكي أكون أكثر وضوحا؛ شخص من الذين تابعوا مأساة ريان – رحمة الله عليه -، شخص من هؤلاء، أحدكم، إحداكن، من الذين تابعوا، مِمَن له علاقة خاصة بالله تبارك وتعالى، وهو في حالة رضا، رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ *، اللهم اجعلنا منهم، راض عن ربه، يتلمس، بل يجد ويستشعر، إجابة دعائه في عموم أحوال دعائه. أي يدعو بعشر دعوات، ربما يُجاب في سبعة أو ثمانية! فهو في حالة رضا، وإيمانه في حالة رسوخ ويقين. كيف كان يُمكن أن تكون، أو كيف كانت بالحري، ردة فعل هذا؟ سيقول ما خاره الله هو الخير، ما خاره الله هو الحكمة والخير لريان ولأهل ريان ولذوي ريان، هو الخير بالمُطلق، هذا فعل الله! 

لكن شخص آخر، لم يستشعر ولم يجد ولم يلمس من نفسه أنه يُلبى إذا دعا، بل في عموم أحوال دعائه، لا يُلبى! يدعو مئة مرة، وربما يُلبى في خمس مرار، ويخيب أمله في خمس وتسعين حالة! هذا سيكون رد فعله، على الأرجح، مُختلفا تماما، وسيبدأ يزود بالفلسفة واللاهوت والسجال والحجاج، وأين الله؟ وأين قوة الدعاء؟ وما معنى وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ *؟ وأين هذا؟ ويبدأ! الرجل يُفرغ عن حالة شخصية، عن موقف شخصي، انتبهوا! لو ذهبنا نتحدث عن التحليل السيكولوجي لأحوال الناس، مع مأساة ريان، تنقضي الخُطبة، وخُطب بعدها، ولا ننتهي، وهذا ليس مقصودنا بالحديث اليوم. نُريد أن نتناول جوانب أُخرى من الموضوع! 

إذن الحالة المِزاجية والحالة النفسية مُهمة جدا، ولذلك هذا يُسلمنا إلى ربما ما يُشبه أن يكون تقرير مُقرر أو تقعيد قاعدة؛ الإيمان ليس ما تقوله، وليس ما تعلمه. الإيمان ما تعيشه وما تنضج – كما أقول دائما – به، ما تنمو وتنضج به، ما تتكامل به! الإيمان ما تقطعه من مراحل الاهتداء على الصراط المُستقيم، إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ *! فتُقارب به وتقترب به من ربك، مرحلة فمرحلة، مرحلة إثر مرحلة. هذا هو الإيمان! وهذا الإيمان هو الذي يُكافأ في الدنيا مُباشرة، بماذا؟ بالسكينة المُلقاة في قلب المؤمن، بالهداية الزائدة على هدايته الراسخة، بالشعور بالرضا، رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ *، باطمئنان النفس، يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ *. هو هذا!

ولذلك أنا أقول لكم مَن كان له تجربة إيمان حقيقية، بغض النظر عن بُرهانها، وحيثيات هذه التجربة، ومجارياتها، تجرية إيمان حقيقية! خاض هذه التجربة الحقيقية، التي أشعرته كأنه يرى الله، وإن لم يره! اعبد الله كأنك تراه، أن تعبد الله كأنك تراه. أشعرته كأنه يراه، لا إله إلا هو! لو كفر أهله، يكفر؟ كلا. لو كفر أهل بلده، يكفر؟ أهل قريته؟ لو كفرت البشرية من عند آخرها، أنا زعيم، أقول لكم لن يكفر؛ لأن الرجل لم يقف إيمانه على بعض الأدلة التي وصفها مولانا جلال الدين الرومي، بأن سيقانها خشبية أو من تراب أو من طين! مُمكن تذوب، في أحوال مُعينة! مُمكن تحترق، مُمكن تخونه! إنما لأنه خاض تجربة حقيقية.

أنا وجدت أُناسا يتكلمون مثلا عن لا جدوى أو لا جدوائية، عن لا جدوائية الدعاء، وكأنهم قاموا بدراسات إحصائية واستقرائية دقيقة مُعمّقة، شملت مئات ألوف الحالات! غريب جدا جدا هذا! والذي لمسته وألمسه من نفسي ومِمَن أعرف، غير هذا! تقريبا لا أعرف أحدا إلا يعرف من أهله وذويه وقراباته ومعارفه، حالات لأولياء الله الصالحين، الذين تقريبا يُلبون في عموم حالاتهم. 

هنا معكم في هذا المجلس رجلان؛ رجل حدثني عن أخيه الذي أعرفه – رحمة الله عليه -، وهو عجب من العجب! رجل طيب، فطري، بسيط! مُدرس، مُستقيم، تقي، ورع، ليس من الناس إلا في خير، لا يؤذيك حتى بكلمة! وكان دائما يعتمل طاقية مُعينة، على رأسه، يُسمونها بالليبية الكبوس، يضع هذا الكبوس على رأسه! إذا نزع الكبوس ورفع يديه، لم يرده الله. وجُرب هذا معه كثيرا، والناس يخافون من هذا. أهل البلد يعرفون هذا! إذا فلان نزع كبوسه ورفع يديه، انتهى كل شيء!

الآن هذا الشخص الذي أُحدثكم عنه، وهو جراح؛ جراح وجه وفكين، هذا أخوه، شقيقه! وجربه في عشرات الحالات، كيف يُمكن لهذا الجراح أن يشك بعد ذلك في قوة الدعاء، في وجود الله – لا إله إلا هو -، القائل أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ  *؟ بُرهان! الله يقول هذا بُرهان.

لكن لا تُحدثني عن شريب خمر، أو زناء، فجار، فساق، غياب، نمام، لاه، غافل، ساه، حبله مُلقى على غاربه، ثم إذا اضطر، يدعو، فلا يُلبى، وتقول لي أين جدوى الدعاء؟ لا تُحدثني عن مؤمن زائف، عن مؤمن مُراء، عن مؤمن مُنافق. 

ولذلك حتى قضية الحُكم على النفس، قضية خطيرة! قال تعالى فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ ۖ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ *. لا تشهد لنفسك، بأنك صالح وبأنك مُستقيم. الله يقول لا تفعل هذا؛ لأنك لا تعلم الحقيقة. والله يعلم كم تغر النفس صاحبها عن نفسها! النفس تغر صاحبها عن نفسها، عن ذاتها! وتُصور له القريب بعيدا، والبعيد قريبا، والظلام نورا، والنور ظلاما، أليس كذلك؟ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا *. ينحى عليهم وينعى الله عليهم، أنهم اجترأوا على أن يُزكوا أنفسهم. 

ما أدراك؟ ما أدراك؟ ولكن لا تُزك نفسك، وجئني بنفس زكية، جئني بنفس زكية! جئني برجل صالح، جئني برجل صالح لا يشهد لنفسه بالصلاح، إنما نشهد نحن له؛ لأننا خبرناه، وعجمنا عوده، على مر السنين! عالجناه، ورأيناه، وعايشناه، ورأينا مدى خشيته ومدى تقواه ومدى استقامته ومدى صدقه، لا يتغير هو! هو لا يتغير بحسب وجوه الناس وبحسب الأحوال؛ لأن عينه ووجهه إلى الله، لا إله إلا هو! مرغوبه ومرهوبه ومقصوده وبُغيته الله، لا إله إلا هو! جئني بمثل هذا، وخُذ ما شئت من دعاء مُستجاب!

حدثتكم قُبيل أشهر يسيرة، عن عالم كبير، يُحدث عن شيخه، الذي كان حافظا لكتاب الله، ولم يتزوج، ولم يشتغل بالدنيا! وليس هذا من ضرورات الدين أبدا، ولا حتى من المطلوب، لكن هكذا قضى الله لهذا الرجل! هو مُتفرغ فقط لذكر الله والعبادة، ولا يفتر لسانه عن ذكر الله في ليله ونهاره. يقول هذا الشيخ، وهو مُفتي بلده، عالم كبير، كان من تلاميذه! يقول أمره عجب! ولم يره هذا المُفتي وحده، رآه عشرات، إن لم يكن ألوف الناس، جربوا هذا معه. الرجل لا يدعو بشيء، إلا يُلبى. وهو لا يدعو لنفسه، يدعو للناس. حتى أن هذا العالم الفاضل، قال أنا تقريبا شككت في الأمر، معقول؟ يدعو في لحظات! وطبعا يأتيه الناس بالألوف، يعرفونه، يقفون صفوفا، كل يطلب ويعرض حاجته وطلبته؛ لكي يدعو لها بالله تبارك وتعالى. مُباشرة يسمع الطلبة يدعو، ثم يأتي مَن بعده. 

فهذا العالم قال ما هذا؟ أي معقول؟ وبالتعبير المصري قال هو فاتح دكان؟ ما هذا؟ أي دكان، وخُذ لك! غير معقول هذا! فجرب بنفسه، ودار على تقريبا عشرة من هؤلاء، أخذ أسماءهم وأرقامهم، ثم تواصل معهم بعد أسبوع، وأسبوعين. قال والله الذي لا إله إلا هو، ما منهم أحد طلب شيئا، ودعا له الشيخ أحمد – قدس الله سره -، إلا لُبي! فيزا Visa سفر، زواج بنت، قضاء دين، بناء بيت! شيء – قال – عجب! لكن الرجل لا يدعو لنفسه، هو يدعو لغيره، وهو من أهل الله.

بقدر حضور الأنا الوثنية، الأنا الشركية، التي وظفت الله وسيلة لمطامعها ومطامحها، لا ترى الدعاء، لن ترى دعاء. تعرف مَن الذين يُلبيهم الله؟ لأن الناس حين سمعوا قوله تعالى وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ *، ماذا فهموا؟ عجيب! عجيب فهمهم لهذه الآية! وقبل أن أشرحها بطريقة أصولية – أصول الفقه -؛ لكي لا نُعقد المسائل، سأشرحها بطريقة عامية، بطريقة عامية!

الأستاذ الصادق والجاد، لو قال لتلامذته أو قال لتلميذ من تلاميذه؛ ادرس، وأنا أضمن لك النجاح. ادرس، أضمن لك النجاح. ذهب هذا التلميذ، ودرس عُشر المنهج بفهم كامل، هل ينجح؟ لا ينجح. هذا من ناحية ماذا؟ الكم. ذهب ودرس المنهج كله بعُشر فهم، فحار أمره، كالذي درس عُشره بفهم تام، هل ينجح؟ هذا من ناحية الكيف.

واضح جدا المعنى، حين قال له ادرس، ومن غير أن يتفلسف! 

وعلى فكرة، اللُغة كالفكر، لا يُمكن أن تكون، وما كان لها أن تكون، إلا بالوفاء بشرط الاقتصاد Parsimony. لا بُد أن تكون هناك اقتصادية على فكرة في الكلام! لذلك أنا أعجب من بعض التعليقات أحيانا، ومن بعض المُناظرات حتى على التلفزيون Television بين المُتناظرين؛ لماذا لم تقل هذا؟ يا أخي هناك أشياء معروفة، وبالذات لا أقول مَن حقق العلوم، بالعكس! إنسان واع عاقل عادي معياري، يفهم! ليس من اللازم ولا الضروري ولا الواجب أن نذكر دائما في كل مورد التقييدات والشرائط والموانع التي ينبغي أن تُرفع، تُصبح القضية سخيفة جدا جدا! 

هناك أشياء مفهومة مُقررة بذاتها، حتى في البراهين والأدلة، هل يُنبه دائما على البدائه؟ أبدا، لا يُنبه حتى على البدائه، إلا في سبيل ماذا؟ ما يُعرف بالتنبيه. إذن هل تحصل الغفلة عن البدائه؟ نعم! تحصل غفلة مُعظم الناس عن البدائه، فيقع التنبيه عليها فلسفيا ومنطقيا! تنبيها! الإشارة إليها واللفت إليها؛ تنبيها! وإلا هي بديهة أو بدهية، هي أمور بدهية في ذاتها. 

فمعروف أن الأستاذ حين قال ادرس، أضمن لك النجاح، أن المُطلق يُراد به الكامل. هذه قاعدة في أصول الفقه، وهي قاعدة لُغوية الأصل. المُطلق يُراد به الكامل. إذا قال لك ادرس، تنجح، يُريد الدراسة التي هي الدارسة، كما وكيفا. المفروض أن تأتي على المنهج كله، ليس عُشر المنهج، وليس نصف المنهج، تُغامر! المنهج كله. وبقدر ما تأتي، بالقدر الذي تأتي عليه من المنهج، يكون اقترابك من ماذا؟ من النجاح. مَن أتى على تسعين في المئة، بفهم تام، نسبة نجاحه تسعون في المئة. مَن أتى على المنهج كله، وبفهم تام، نسبة نجاحه تقريبا مئة في المئة. باستثناء الغفلات والأشياء والاختلاطات والتوترات، هو هذا، هذا هو!

إذن المُطلق يُراد به الكامل. الأستاذ يقول لك ادرس، تنجح. ادرس الدراسة التي هي الدراسة، ليس أي دراسة تُريدها، ليس أي دراسة ترغب فيها، وأنت تعبث وتلهو! فإذا قال لك الله ادعني، أراد الدعاء الدعاء، الدعاء الذي توفرت فيه شروطه وارتفعت موانعه. لا يصح أن تقول لي دعوت الله، وطعامك حرام، وشرابك حرام، وغُذيت بالحرام. 

خطر لي سؤال بالأمس؛ حين قال تبارك وتعالى أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ *، هل جواب المُضطر مشروط أيضا بارتفاع الموانع؟ ورأيت أن الأرجح نعم، أن الأرجح نعم! أي لو دعا مُضطر، على أن الموانع قائمة؛ الرجل مُمتلئ مُتخم بالحرام، طعامه حرام، شرابه حرام، لباسه حرام، بيته حرام، مركبه حرام، غُذي بالحرام! لا يُستجاب له، بدليل ما في صحيح مُسلم، عن مولانا رسول الله – صلوات ربي وتسليماته عليه وآله -، وفي آخر الحديث ثم ذكر الرجل يُطيل السفر، أشعث أغبر. ذكره أشعث أغبر، يصفه! يمد يديه إلى السماء؛ يا رب، يا رب. وواضح أنه انقطع، قُطع به! نفقت دابته، نفد زاده، ضل في مهمه لا يُرفع أوله من آخره، في صحراء مُدوية، مفازة! فأيقن بالهلاك، فرفع يديه؛ يا رب، يا رب. ووراؤه أولاد وزوجات وضياع ومشوار حياة، برنامج حياة يُريد أن يُكمله. يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وغُذي بالحرام، أنى يُستجاب له؟

قال دعونا! ما شاء الله، تدعو ماذا أنت؟ تدعو اللات والعُزى وهُبل؟ تدعو إلها تُفصله على قدك أنت، وحين لا يُلبيك، تذهب فتجلده أو تكسره أو ترميه في النهر؟ يا رجل، يا رجل ابرأ من الوثنية، اعرف ربك. نحن أمة التوحيد – بفضل الله تبارك وتعالى -. على فكرة، على فكرة هذا شيء مُحير! قلت لكم الجانب السيكولوجي، الجانب المِزاجي النفسي، مُخيف في هذه القضية، والله مُخيف! أنا رأيت أُناسا – عايشت هذه الحالة، أنا رأيت أُناسا هكذا – أيقنوا بصلاح صالح، يعرفونه صالح، ويعرفون ثبوت كرامته على ربه، ويعرفون مدى التأييدات الإلهية التي أُيد بها، كثيرة جدا، ومُتواترة عبر حياته! لكن لما لم ينلهم منه خير يُريدونه، سخفوا أمره! بل رأيت مَن لعن أولياء الله، والله الذي لا إله إلا هو! يقول لك ملعون. ملعون؟ ما ملعون إلا أنت، أيها الوثني الصغير الحقير. 

يلعن أولياء الله! تعرف لماذا؟ في حالة الغضب، لأن هدفه لم يتحقق، هدفه المادي؛ فلوس، سُلطة، تنفيس عن غضب، تنفيس عن حقد، أهداف خسيسة مُجرمة، لم تتحقق عبر ولي الله الصالح، الذي لا يجعله الله سببا، إلا في الخير، ولا يُمكن أن يجعله الله سببا في الشر والأذية. لما لم ينل منه ما يُريد من هذه الخسائس والرذائل، لعنه. بل لقد حدثني جماعة من أحبابي، وفيهم أكاديميون؛ أستاذ جامعي كبير، جاوز الستين من عمره آنذاك، أستاذ جامعي! بروفيسور Professor! قال لي يا فلان، هذا الأمر عجيب! لدينا في بلادنا؛ بلاد المغرب الأقصى، بلاد ريان – رحمة الله عليه -، في محلتنا، رجل صالح، أحد الدراويش، إذا دعا، خلع عن رأسه، ولُبي. نفس الشيء، سُبحان الله! أي هذا شيء يقشعر له البدن، لا أدري لماذا! كأنها نوع من إظهار الضراعة، وهذا كان ديدن وهجير الصالحين، أي إذا ألحوا وألظوا بالدعاء، خلعوا عن رؤوسهم، ومشوا إلى الله حُفاة، في صحراء أو كذا، ثم مرغوا أنفسهم بالتراب. المُهم، الخلع عن الرأس هذه، قضية شبه مُتواترة عن الصالحين.

أنا أعرف سيدة – رحمة الله عليها -، قريبة لي، نفس الشيء؛ كانت إذا كشفت عن رأسها، ورفعت يديها، لا تُرد دعوتها. شيء مُخيف! أنا كنت صغيرا، وكنت أخاف منها، والناس يخافون منها، يخافون جدا منها! لأنها إذا دعت، تُلبى. إذا كشفت عن رأسها في بيتها، ورفعت يديها، والله كنت أستشعر الرهبة، وإلى الآن أذكر هذا، تعرفون لماذا؟ تدعو ربها، كأنها تراه بعيني رأسها! إيقان مُطلق! 

أشهد بالله، وأنا في يوم جُمعة، على منبر رسول الله، أنها دعت مرة على مُمرض أغضبها في ابنها – حدثتكم ربما بهذا، قبل سنوات -، قالت له أسأل الله ألا يدخل وقت المغرب، إلا وأنت في المقبرة. دعت عليه؛ لأنه ظلمها، ولم يُلبها في ابنها الذي يموت بين يديها، كان قاسيا! ثم عادت إلى بيتها غضبى. المغرب يُرفع، وباب بيتها يُطرق بعنف؛ يا خالة أم فلان، يا خالة أم فلان، أبناؤه وبناته يبكون. ماذا هناك؟ ماذا هناك؟ قالوا أبونا يموت. فأخذت أهبتها وتسترت، وذهبت تشتد معهم، فوجدته يُسلم الروح. فرفعت يديها، ورغبت إلى الله؛ أن يا رب رده لأولاده، يا رب لا تفجعهم فيه. فقام، كأنما نُشط من عقال. قريبتي، أعرفها، ويعرفها أخي الأكبر هذا. 

انتبهوا، هؤلاء موجودون. وأعرف رجلا أيضا، قريبا لي، عشت حياتي معه؛ لأن بعض الناس يقول لك ماذا؟ هيان بن بيان، ما زلنا في القرن الحادي والعشرين، وعن فلان! لن أُحدث في هذه المُناسبة، بحديث العنعنات وحديث الكُتب وفي القرن الثاني والقرن الثالث، لن آتي بهذا. أنا فقط أُريد الآتي، ولا أُريد أن أتحدث عن هذه الوقائع. هذه الوقائع كثيرة! لو أتحدث بما اتفق لي مع هؤلاء الذين أعرفهم، يقتضيني الأمر ساعات وساعات! أكثر من أن يحصرها مجلس.

هذا الرجل أعرف له العجب أيضا من حالاته! لكن قل لي مَن هو؟ أُجبك. رجل لم أسمعه، لا أنا، ولم يسمعه غيري، عبر حياته، وهو الآن في عشر التسعين – أمتع الله بعمره في عافية -، لم أسمعه – والله الذي لا إله إلا هو – مرة واحدة يحلف باسم الله، ولا لغوا. لم يقل مرة والله لغوا في حياته! ما هذا؟ أنا في هذه الخُطبة ربما حلفت إلى الآن خمس أو ست مرات، وإن شاء الله صادق، غير مُبالغ. 

تخيل! هو لم يحلف. وكان يقول لا تحلفوا باسم الله، لا صادقين، ولا كاذبين. لماذا؟ قال توقيرا لله. الله مقامه أعظم مما تتخيلون. الله ليس لعبا، ليس لعبا الله! انظر، هذا المُخلص، أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ *، عرف بعض ما يليق لله! لا أحد يعرف قدر الله حقا، إلا الله! لكن عرف بعضا، عرف أكثر منا. لم يحلف باسم الله، ولا مرة في حياته. ولا يعرف الكذب، ولا الطلاق، ولا الحديث في الناس، شيء عجيب! 

تأتيه امرأة، وزوجته كانت حاضرة، كان في زيارة إلى بلد مُعين؛ عريش مصر، وتأتيه امرأة تبكي؛ يا عم فلان، يا أبا فلان، زوجي. ما به زوجك؟ تقول له هجرني من عشرين سنة. الله! عشرون؟ قالت نعم، من عشرين سنة. ولم يُطلقني، فلا أنا مُطلقة، ولا أنا مُزوجة، مُعلقة بين السماء والأرض، وتزوج علي، وأنا لا أُريد أن أتطلق منه. امرأة وفية، سُبحان الله! قالت هو أبو أولادي وبناتي، وأنا لا أُريد غيره. فلو دعوت لنا يا أبا فلان! تعرف أنه رجل صالح، وعاش بينهم دهرا، ورأوا العجب من تأييدات الله له. قال لك أين قوة الدعاء؟ سل نفسك أين أنا من هؤلاء، فقط هو هذا، أنا أُحب أن أكون صادقا معكم ومع نفسي، لا أُحب أن أتفلسف.

الخُطبة السابقة أجبت فيها عن موضوع ريان، ومن غير تبجح، كل جواب منها يكفي، وليست لي، هذه جوابات الذين أجابوا قبلي وبعدي، والله كل جواب منها يكفي. واحد يكفي، انتهى! لمَن أراد. أما مَن حركته الأمزجة والرغائب والضغائن والتسخطات، فلا تكفيه كل براهين الدنيا. أقول له أنت في خطر، احذر على نفسك، أنت في خطر، لا تلعب.

قبل ثلاثة أيام، زوجة أخي – رحمة الله عليها -، وهي صغيرة، شابة، افتُلتت في لحظة. جاءت صلاة الفجر، صلت، ثم جلست مع بناتها. جعلت تمشط شعر ابنتها، أتى زوجها، وأسلمت الروح بين يديه، انتهى كل شيء، انتبهوا! ولا تُوجد كورونا ولا يُوجد أي مرض، لا مريضة بمرض ولا عندها كورونا. في لحظة انتقلت إلى الآخرة، وكل واحد فينا مُرصد أن يكون هذا مصيره. لا تلعب بدينك! ليس مُخاطرا بدينه كآمن. وتتبجح على الفيسبوك Facebook وعلى التويتر Twitter وعلى الوسائل، وتدّعي أنك مُساجل كبير وفيلسوف خطير! القضية ليست لعبا، الإيمان ليس لعبا على فكرة. وفي نهاية المطاف الحسرة على الذي يموت، أليس كذلك؟ انتهى، انتهى!

أنا أكثر ما يُثيرني، حين يموت أحد الناس، سواء أكان عالما أم جاهلا، كبيرا أم صغيرا، إلى آخره! أكثر ما عند الناس؛ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ *. وشيء حسن هذا، ولكن يُقال إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ *، عظم الله أجركم. انتهى كل شيء! وبعد أن يضع السماعة، يعود يُتابع الفيلم الذي يحضره. يضع السماعة، ويعود يُتابع الأكل و(يبلبع)، ويأكل عادي تماما، أي كما قلت مرة في خُطبة لن يتوقف العالم من أجلك، انتبه! حتى أقرب الناس إليك؛ أمك، أبوك، زوجكَ، زوجكِ، أبناؤك، بناتك، سينسونك، ولو بعد حتى سنة أو سنتين، ويعودون يأكلون ويشربون ويقصفون ويلعبون ويلهون، اعمل لنفسك. 

والله الذي لا إله إلا هو، العاقل هو الذي يعمل لنفسه. والله الذي لا إله إلا هو، أولادك الذين من صُلبك، لا يستحقون أن تبوء بغضب الله من أجل إسعادهم، إياك أن تفعلها! وإذا اقتضى الأمر أن يغضبوا ويرضى الله، فليغضبوا. 

قبل أيام أسمع عن رجل مليونير في سوريا، ترك لأولاده ضياعا لا يعلمها إلا الله، بالملايين، إن لم يكن بمئات الملايين. حين احتفروا له حُفرته، لحده، وكان رجلا طوالا فيما يبدو، قصرت الحفرة، فقالوا إذن نُخرجه، ثم نُعيد الحفر. أي عشر دقائق! أولاده قالوا لا، اطعجوه. أولاده! شيء يُبكي، أُقسم بالله. إذن لماذا أنتم مُستعجلون يا أبناء الرجل المليونير؟ يُريدون أن يقسموا التركة. 

ادفن، ادفن! اقبر، اقبر! بسرعة! اطعجوه. وطُعج! اطعجوه. أولاده! حتى الناس سُقط في أيديهم؛ اطعجوه؟ هذا جزاء أبيكم؟ خل أمواله وضياعه وملايينه تنفعه عند الله، خلها تنفعه عند الله، لكن أسأل الله ألا يكون قصر في زكاته، وفي نفقته. والقضية ليست فقط زكاة، زكاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أيضا، وإن في المال حقا سوى الزكاة. هذه الزكاة ال Standard فقط، يُوجد بعدها أشياء أُخرى. قال لك اطعجوه!

آخرون أيضا، وكان أبوهم مُتمولا ثريا، وترك لهم الكثير الكثير والوفير الغزير، كفنوه بقطعتين، فقال لهم مُتفقه ثلاث السُنة. قالوا الحي أولى من الميت. أيضا في سوريا! وبكم القطعة الثالثة هذه إذن؟ يوروين؟ نحن أولى بها. الله أكبر! لو عاد إلى الدنيا، سيقول لهم الأف عليكم والتُف، هاتوا أموالي، سأجعلها لله. لكن راحت عليك، أليس كذلك؟ 

وأعرف رجلا صالحا في الخليج – رحمة الله على روحه الطاهرة -، حتى لا بأس بذكر اسمه؛ لأنه توفي، وأنا لا أُحب أن أُجامل الناس الأحياء! الشيخ سعيد لوتاه – قدس الله روحه العزيزة -، أحد مؤسسي الإمارات الثلاثة، الشيخ سعيد لوتاه! وكان أيضا مليونيرا، لا أدري حجم ثروته! ما شاء الله على روحه الطاهرة، وعُمر إلى قريب من المئة – رضوان الله عليه -.

الشيخ سعيد لوتاه في حياته الطويلة تكفل من الأيتام ما لا يعلمه إلا الله. وليست كفالة مئة يورو في الشهر، لا! كفالة تامة، خرجهم إما أطباء أو مُهندسين أو أساتيذ، كلهم مُتعلمون أعلى تعليم. وأنا والله رأيت بعيني رأسي الفلل الفخمة، عشرات الفلل! قلت ما هذا؟ قالوا هذه فلل الأيتام الذين يتبناهم الشيخ سعيد! يبنيها لهم بعد أن يُعلمهم ويُخرجهم أطباء ومُهندسين، ويُهديهم الفلل. جعلت أبكي، قلت لا إله إلا الله! صلى الله عليك يا نبي الله، هذه أمتك، هذه ثمراتك، هؤلاء أتباعك الخُلص الصادقون، هؤلاء محمديون، هؤلاء مُسلمون، هؤلاء مؤمنون حقا، ليسوا مؤمني الوثنية، يُريدون إلها يُحقق الرغائب فقط، وإلا يكفرون به، قال ويُعربون عن شكهم! ما شاء الله.

لا يعلمهم إلا الله، هؤلاء الأيتام! وأنا التقيت بجماعة منهم، ما شاء الله! ما شاء الله! أطباء ومُهندسون! شيء مثل التمر! ولم يكتف بهذا، قبل وفاته بسنين مُتطاولة كتب وصيته! وصيته مكتوبة عند كاتب العدل وممهورة ومُشهد عليها، ثُلث ثروته كلها بعد وفاته للفقراء والمساكين وفي وجوه الخير، الثُلث! ولو أجاز الشرع النصف، لجعلها النصف! لكن الثُلث، والثُلث كثير. النبي قال لسعد بن أبي وقاص! فهو أخذ ال Maximum؛ الثُلث، ثُلث ثروته! هذا رجل ذكي، أليس كذلك؟ هذا رجل مُوفق، زادني الله وإياكم توفيقا، وجميع أحبابنا، والمسلمين والمسلمات. اعمل لآخرتك يا مؤمن، اختبر نفسك، اعمل لآخرتك، وخلّص إيمانك من الوثنيات والشركيات المُستخفية وراء الاعتراضات والفلسفيات والسجاليات، كلها شركيات! مَن عرف الله حقا، سلم أمره لله. 

المُهم، لم أُكمل لكم القصة، فقالت يا عمي، يا أبا فلان، زوجي وعشرون سنة، إلى آخره! قال لا إله إلا الله! فادع الله لي بكذا. قال ائتيني بماء. أتته بماء، مُباشرة! تلا عليه، ودعا الله تبارك وتعالى. قال خُذي هذه يا أختي، واذهبي إلى بيتك، بعون الله تبارك وتعالى اليوم مساء يأتيك زوجك، يطرق عليك الباب. أُقسم بالله، هذا الذي حصل. وهذه القصة ثابتة. المُهم، لا أُريد أن أحكي أكثر من هذا؛ حتى لا يكون واضحا الأمر. اليوم ليلا يأتي.

عشرون سنة! انتبه! لو زوجها كان هاجرا لها ستة أشهر، نقول يتفق مثل هذا. ستة أشهر، وبعد ذلك تلوم، ولام على نفسه، ثم عاد، تحدث! سنة حتى! لكن ليس عشرين سنة. لو كان سيلوم نفسه ويندم، لندم في عشرين سنة. أي إلا في اليوم الذي جاء الرجل الصالح ودعا، وتقول لي صُدفة؟ وقال لك لا يُوجد إله، ولا يُوجد دعاء! مساكين أنتم، الذي يقول هذا مسكين. ولذلك أنا أقول له نصيحتي ابحث عن الله، واتصل بهم. فقط، هذا هو! لا تقرأ، ولا تسمع لعدنان إبراهيم ودوكنز Dawkins والملاحدة والمسلمين. ابحث عن أهل الله، واتصل بهم. وأنا أعرف أُناسا فلاسفة، فلاسفة حقيقيين، منهم فيلسوف حقيقي، تلميذ عند أهل الله! لما رأى من آيات الله على أيديهم. أحدهم أستاذ جامعي، على ما أذكر في الفلسفة أو الرياضيات، سُبحان الله! والرجل الطيب الذي حدثني بالقصة، يعرفها من مصدرها، استقصصته إياها قبل أيام، ولم أسمعها للأسف، يا ليتني سمعتها مرة أُخرى؛ لكي أكون دقيقا، لكن أنا أعرف جوهر القصة، سمعتها قبل زُهاء عشر سنوات أو أكثر بقليل.

أستاذ جامعي، إما في الرياضيات أو الفلسفة، مُلحد. وصديقه أيضا أستاذ جامعي، مؤمن مُتصوف، وله شيخ من أهل الله. المُلحد يسخر دائما من الإيمان والمؤمنين، وخاصة التصوف طبعا أيضا؛ تصوف وصوفية، أي دروشة وهبل، يعتبرونها هبلا! وما هو التصوف في النهاية؟ طبعا هناك تصوف هبل، وهناك تصوف كذب، وهناك تصوف دجل، وهناك تصوف زندقة! وهناك تصوف إلهي حقيقي، ناس تطلب وجه الله، ناس تُخلص العبادة لله، اللهم اجعلنا منهم، وأعد علينا من بركاتهم، وصل حبالنا بحبلهم. هؤلاء من أعز شيء في الوجود، والله العظيم! ومن أكبر الدلائل على ربهم، لا إله إلا هو!

فيسخر، فقال له مرة يا أخي إذن نذهب إلى الشيخ. أنت جالسه وباحثه، أي هذا الشيخ، وأنت أستاذ جامعي كبير – فلسفة أو رياضيات -! وهو شيخ، أي شيخ صوفي. لم يستجب، إلى أن خضع مرة، لماذا؟ لأن هذا الأستاذ المُلحد لا يُعقب، لا يُنجب. هو ليس عنده أولاد، وسنوات طويلة! لا أدري كم أيضا، لكن هي طويلة. قال له سأذهب بخصوص هذه المسألة، لأرى إن كان رجلا صالحا، وإن كان ربكم موجودا. تخيل! رجل مغربي، هذه القصة مغربية، وأستاذ جامعي، ومُلحد، أي هدانا الله وأصلحنا، ضيعنا الكثير نحن، وتُهنا كثيرا، وشردنا كثيرا. صارت موضة الآن هذه؛ الإلحاد والشك والكفر! ما شاء الله علينا، ما شاء الله.

بأيمانهم نوران؛ ذكر وسنة…….فما بالهم في حالك الظلمات؟

قال له سأذهب بهذا الخصوص. ذهب، ذهب إليه! 

أنا لماذا أستطرد وأنسى؟ أُكمل قصة المرأة، ثم أعود إلى قصة الأستاذ. المُهم، في الليل، لا ندري ما الذي حصل، قال لها في الليل يأتيك – بعون الله تعالى -، وسيأتيك باكيا، مُعربا عن ندمه وأسفه الشديد، قولي له لا بأس، غفر الله لي ولك، انتهى كل شيء. سيجلس قليلا، ثم يُريد أن يذهب مرة أُخرى، قولي له ولكن أكرمني على الأقل بأن تشرب لدي كوبا من الشاي. حضري له الشاي، بهذا الماء الذي قرأت عليه ما تيسر من كلام الله تبارك وتعالى، ودعوت الله عليه، فقط! وأشربيه إياه. لن يذهب، وسيبيت لديك هذه الليلة، وينتهي كل شيء، وتعودوا إلى الحياة الزوجية. المرأة لا تكاد تُصدق! لكن هي تعرف هذا الرجل الصالح، وتعرف من كراماته الكثير الكثير. أهل العريش يعرفونها إلى اليوم؛ فواخرية العريش، اذهبوا إلى الفواخرية، واسألوا عن فلان، يعرفونه ويعرفون ما أُيد به من كرامات الله، شيء عجيب! 

ثاني يوم، في اليوم التالي، قُبيل الظهر، تأتي المرأة ووجهها كالقمر! جاءت، طرقت الباب، استأذنت على مُضيف هذا الرجل مع زوجته، لا تكاد تُصدق ما الذي حصل! وهو يتبسم، ويقول لها حدثيهم بالذي حصل. قالت والله يا سيدي، شيء لا يُصدق! في الليل طُرق الباب، أهو هو؟ لا تكاد تُصدق هي! معقول! وإذا به هو! وكما حدثها؛ بكى، واعتذر، وتلوم، وتندم، وتأسف! وبعد قليل، أراد أن يمضي، قالت له كوب الشاي. نفس الشيء! وبات ليلته عندها. قال لك ليس هناك أولياء، وليس هناك رب! لا إله إلا هو!

هذا أعرفه أكثر مما أعرف أي واحد منكم؛ لكي لا تقل لي عدنان يتحدث عن فلان. وبعض الناس مساكين، بعض الناس لا يكاد يحتمل ولا يكاد يفهم كيف مُمكن أنت أن تدرس الفلسفة والمنطق والفيزياء والعلوم والعقل، ثم تؤمن؟ يا رجل، يا رجل أنت المسكين، والله! أنت المسكين، لا أنت فاهم لا فيزياء، لا كيمياء، لا دين، لا فاهم لا دنيا ولا آخرة! يا رجل، مَن قال لك إن الوجود هو هذه المادة فقط؟ وهل قلت لك أنا أو أمثالي إنني مادي مثلك أو مُلحد مثلك، وإنني لا أُصدق إلا بهذا الوجود المادي؟ لو فعلت هذا، سأكون من الأغبياء. هذه ليست عبارتي، هذه عبارة والتر إستیس Walter Stace، أحد كبار وأعاظم الفلاسفة في القرن العشرين، وأحد أجمل مَن قرأت لهم من الفلاسفة! فيلسوف عميق، ومُبسِّط، وفاهم! يقول الذين لا يؤمنون إلا بالعالم المادي الشهودي فقط، ويجزمون بإنكار كل ما عداه، أنا سأصفهم بالأغبياء. والتر إستیس Walter Stace! أغبياء. سنُثبت هذا في مرات أُخرى. 

جون بولكينغهورن John Polkinghorne، السير جون بولكينغهورن Sir John P olkinghorne، هو سيرSir ، فارس! اللقب الذي أخذه إسحاق نيوتن Isaac Newton، والذي أرادت الملكة إليزابيث Elizabeth أن تُعطيه لستيفن هوكينغ Stephen Hawking، ورفضه لأسبابه! 

وعلى ذكر ستيفن هوكينغ Stephen Hawking، العلّامة الكبير، هو أحد تلاميذ السير جون بولكينغهورن Sir John Polkinghorne. بولكينغهورن Polkinghorne أستاذ هوكينغ Hawking في جامعة كامبريدج Cambridge، وهو أستاذ الجُسيمات الدقيقة، وأيضا على سن التاسعة والأربعين، بدأ يدرس اللاهوت، بولكينغهورن Polkinghorne! انظر، على فكرة، واكتشف بعض الجُسيمات الدقيقة، أي عنده إبداعاته في الفيزياء النظرية، ليس رجلا غير فاهم، ليس مِمَن وصفهم إستیس Stace بالأغبياء، أبدا! فاهم جيدا جدا، وانظر كتاباته، ما شاء الله! أنا قرأت عددا منها، مُذهل الرجل!

بولكينغهورن Polkinghorne حتى بالذات، حين تحدث عن موضوع الدعاء، الذي يُسميه المسيحيون الصلاة، تعرفون ماذا قال؟ قال حتى بالمنطق العلمي الصارم، الدعاء له جدوى وله مسار وله مجاله وله نُطقه. كيف يا سيرSir ؟ أنت سيرSir ، أنت مثل إسحاق نيوتن Isaac Newton، وهذا الشيء ليس لعبا! قال نعم. قال علميا – أي Scientifically، بطريقة علمية محضة – العالم المادي نطاقان رئيسان؛ نطاق ميكانيكي آلي حتمي Deterministic، ونطاق ضبابي، لا ميكانيكي، لا آلي، ولا حتمي، وهو النطاق الذي تلعب فيه نظرية ماذا؟ الكيوس Chaos، الكاوس بالألماني، Theory، نظرية الفوضى! الطقس مثلا، أليس كذلك؟ وهو يجعل ضمن هذا أيضا التشافي من الأمراض، مسارات الأمراض المُختلفة في الأفراد المُختلفين قضية غير حتمية، ولا يُمكن أن تُجعل قضية ميكانيكية. بولكينغهورن Polkinghorne! 

وأما في المجال دون الذري، فهذا عمل ميكانيكا الكم. فيزياء وميكانيكا الكم كلها تتحرك في عالم ماذا؟ لا آلي، لا ميكانيكي، لا حتمي. قال ولذلك، لذلك أنا أرى أنه من غير المعقول دينيا أو علميا، أن ندعو الله مثلا بأن يُوقف الشمس – والأفصح أن يقف. وقفه، يقفه. وليس يُوقفه. أن يقف الشمس -، أو يجعل مسار القمر عكسيا، أو يُطلع الشمس من مغربها الآن. أنك تدعو بدعاء ضد قوانين الكون، التي هي الحتمية الميكانيكية، هذا غير معقول. قال! وصح! ولكن هناك مجال كبير للمُناورة، في القضايا الضببية، اللا حتمية، اللا ميكانيكية. مثل ماذا يا سيرSir ؟ قال مثل الطقس. إذا أجدبنا – قال – ولم ينزل المطر، ندعو الله. قضية الطقس قضية غير ميكانيكية! 

وتسمع بعض ملاحدة العرب يسخرون من المسلمين، وكأن المسلمين وحدهم هم الذين يستسقون ربهم! يا رجل، فعلا مَن اتسع علمه، قل إنكاره. نُريد علما، لا نُريد دعاوى وانتفاخات فارغة. أستمع إليك أنت يا رجل؟ وليس عندك أي تاريخ علمي، وحتى ما تكتبه وما تقوله لا يدل على أي رسوخ، ولا على أي اطلاع حقيقي، أي يجعلني أن أقول واو Wow! الرجل مُطلع حقيقة! أذهلني! وتسخر من الذين يستسقون الله؛ تذهبون تستسقون الله!

لا يعرف حالات من أغرب ما يكون، سقى الله بها عباده، ببعض عباده الصالحين، أحياء وأمواتا. الشيخ محمد الحامد، الشيخ السوري، كان عجبا من العجب – رحمة الله تعالى عليه -! استسقى لأمته في حماة، لأهله في يوم لم يكن فيه في السماء قزعة، وسُقوا! ثلث ساعة، تلبدت السماء بالغيوم، وسُقوا. رحمة الله عليه! 

هذا الشيخ الذي أثروا عنه – وهذا مُتواتر – أنه سافر مرة من حمص، لا أدري الآن إما إلى حماة أو دمشق؛ لأنه وجد على جُبته نملة، قال لا إله إلا الله! غربناها عن أهلها، أتينا بها من البلدة الأُخرى. وقال لك الإسلام داعش! نعم، داعش ليس لها علاقة بالإسلام. الإسلام هو الشيخ محمد الحامد، والقُطب الرفاعي، والإمام البخاري. الإسلام هو هؤلاء الناس الكبار الصالحون الطيبون، الذين بثوا المحبة والرحمة والتسامح والسعة. الشيخ محمد الحامد، علّامة سوريا! ويعود، يُسافر هذه المسافة الطويلة؛ لكي يُعيدها إلى المكان الذي أتت منه، نملة! نملة!

القُطب أحمد الرفاعي فقيه شافعي عظيم. الشيخ أحمد الرفاعي ليس فقط صاحب طريقة، وكان فقيها، وله كُتب في الفقه الشافعي. نفس الشيء؛ يكون جالسا، مع تلاميذه ومُريديه، فيُرفع نداء العصر – صلاة العصر -، وقط أو هرة، تجلس على طرف جُبته، فيدعو بالمقص، ويقص جُبته؛ لئلا يُوقظها من نومتها. قال مسكينة، لا نُريد أن نُوقظها. ثم قالوا ما هذا؟ تعجبوا! وذهب وصلى العصر جماعة، ثم عاد، القطة ذهبت، فخاطها. قال لم يحصل شيء، خطناها. هؤلاء أهل الله، هؤلاء مجالي رحمة الله، لا إله إلا هو! مثل هذا يدعو، فيُلبى. 

العجيب أن الشيخ محمد الحامد، بعد وفاته – أعتقد في التاسع والستين تُوفي إلى رحمة الله، رحمة الله عليه رحمة واسعة -، سقى الله به بلدته. وطبعا معروف ما الذي حصل يوم تُوفي الشيخ محمد الحامد، ما الذي حصل في عموم سوريا، وبالذات في بلدته حماة، شيء عجب طبعا! بكت السماء والأرض يوم موته. أُغلقت المدارس والجامعات والشوارع، وكل شيء! بكاء على الشيخ الصالح. ووضع الناس كان عجيبا طبعا! الناس في كل بيت كأن الذي مات هو أبوهم وعائلهم، شيء غريب! الناس كانوا في حالة عجيبة من فقدان هذا الرجل الصالح! فأحد تلامذته، سُبحان الله! بتوفيق إلهي، ماذا فعل؟ أراد كما نقول بالعامية أن يمسح على أكبادهم، أي حتى يُثبتهم ويُطمئنهم. أتى بشريط كاسيت Cassette فيه صوت الشيخ محمد الحامد، لم يختره! أخذ هكذا شريطا، ووضعه في جهاز في المسجد؛ لأن هناك مُكبرات الصوت. العجيب أن ذلك الكاسيت Cassette كان مُسجلا فيه صلاة الاستسقاء، ودعاء الشيخ محمد الحامد، والله! هكذا هي الحقيقة! 

والعجيب أنه في وقت وفاته أيضا، كانت الدنيا مُجدبة، أشهر لا يُوجد مطر ولا يُوجد أي شيء! وذلك اليوم السماء كانت مُصحية، وليس فيها قزعة، ولا أي شيء! وحرارة شديدة. فلما وضعوا صوته، الناس جعلت تبكي، استمعوا صوت شيخهم ودعاء شيخهم! إلى أن بلغ قوله اللهم اسقنا الغيث، ولا تجعلنا من القانطين، فإذا بالسماء تتلبد، وفي ظرف ربما رُبع ساعة أو كذا، وإذا بالغيث ينهل على الناس! 

وسُبحان الله! فعلا مثلما حدث في بدر، مسح الله على قلوبهم وأكبادهم، وداخلهم نوع من السكينة، أنه ليس مثل هذا مَن يُبكى، ابكوا على أنفسكم. رجل يُلبيه الله بعد موته – قدس الله سره -. لا تبك عليه. 

الدكتور النجار إلى اليوم أذكر اسمه، لا أنساه! اسمه النجار، لكن لا أعرف الاسم الأول. الدكتور النجار في مُستشفى المقاصد ببيروت، وهو الذي كان مُشرفا على الشيخ محمد الحامد، قال رأيت منه العجب! هو مات بتشمع الكبد – رحمة الله عليه -، وكان في حالة غيبوبة دائمة، قال ولكن سُبحان الله! إذا دخل وقت الصلاة، بمُجرد دخولها، نراه استفاق من غيبوبته، وتطهر! تيمم، ثم صلى. ويُصلي صلاة تامة وافية كاملة! حتى إذا انتهى من صلاته، عاد إلى غيبوبته. الدكتور النجار يقول هذا عبر كل الأيام، لم تفته صلاة واحدة. ما هذا؟ ما التوفيق الإلهي هذا؟ اللهم وفقنا ولا تخذلنا، اللهم استعملنا ولا تستبدلنا، اللهم استعملنا ولا تستبدلنا! وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ *.

إذن نعود إلى مَن؟ السير جون بولكينغهورن Sir John Polkinghorne. السير جون بولكينغهورن Sir John Polkinghorne يقول في هذه المجالات، هناك مجال للمُناورة. ادع الله! الله تبارك وتعالى يُبدل الطقس؛ لأن هذه قضية غير حتمية، غير آلية، عادي! ليست كقضية إيقاف الشمس وتحريك القمر في مدار آخر أبدا أبدا أبدا! مُمكن، ولا يُوجد ما يمنع! في قضايا الشفاء، ادع الله، يشف الله مريضك، يحدث هذا – بعون الله تعالى -. وتقول لي عنده سرطان، وبقي له عدة أيام. والحالات لا تكاد تُعد ولا تُحصى! لن أُحدثكم، وليس هذا موضوع الخُطبة. 

الأستاذ العظيم، العالم النوبلي ألكسيس كاريل Alexis Carrel، صاحب الإنسان ذلك المجهول Man, the Unknown، الكتاب العجيب هذا! له كتاب في الدعاء، وكانت هناك مؤسسة في فرنسا، اسمها مؤسسة لورد Lord، تحدث عنها. وعلى فكرة، ألكسيس كاريل Alexis Carrel فاز بجائزة نوبل Nobel مرتين، ليس مرة واحدة! ما رأيكم؟ مرتين في العلوم الحيوية، مرتين! ألكسيس كاريل Alexis Carrel! عنده كتاب عن الدعاء، عن الدعاء! يقول هذه المؤسسة كانت تأتينا بإحصائيات، بألوف الحالات، التي استجاب فيها الرب – لا إله إلا هو – لأدعية الداعين. لكن – قال – سُبحان الله، في الفترات الأخيرة، بدأت الحالات تتراجع! لماذا؟ غلبة الروح المادية على الناس، غلبة الشهوات، تسخيف الدين والمُتدينين، وتسخيف الدعاء وقوة الدعاء. مساكين الناس!

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه.

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. اللهم صل وسلم وبارك على حبيبك محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وسلم تسليما كثيرا، إلى أبد الآبدين ودهر الداهرين.

إخواني وأخواتي/

سأُكمل هذه القصة، ثم نمضي إلى صلاتنا. هذا البروفيسور Professor المغربي المُلحد، ذهب مع البروفيسور Professor الآخر المؤمن المُوحِّد المُتصوِّف إلى شيخه، إلى شيخه! ودخل عليه، ودار بينهما حديث. المُلحد حدّث الشيخ، قال له أنا يا شيخ، لا أُنجب، ليس عندي الولد، هل يُمكن أن تُساعدني بشيء؟ قال له قضيتك هينة. نظر فيه، قال له قضيتك هينة. قال كيف هينة؟ قال سأُعطيك قرصة. خبزة صغيرة، خبزة صغيرة! سأُعطيك قرصة، كُلها باسم الله، وحين تفرغ من أكلها، بعون الله تبارك وتعالى يحدث الحمل. قال لا بأس!

طبعا لم يُصدق، واستسخف الأمر جدا! أخذ القرصة، وخرج من عند الشيخ. وقال لزميله المؤمن الصالح، قال له قرصة؟ الآن سآكلها. قال! قال الشيخ لكن أخبر أنك ستأخذ وقتا في أكلها. قال لا، غير صحيح، الآن سآكلها. أكل منها لُقيمات، وإذا بنفسه تُسد بالكامل، استغرب! أمر غير طبيعي! وخُبزة عادية! كأنه امتلأ. مكث يأكلها، لا أدري كم، لا بُد أن أعود إلى التسجيل، وسُبحان الله! لم أسمعه، لكن على ما أعتقد أياما، أي ربما خمسة أيام أو سبعة أيام. كل يوم يأكل لُقيمات، وتُسد نفسه. فأدرك أن في الأمر شيئا غير مفهوم. وأنتم الآن تسمعون هذا، وتقولون فعلا غير مفهموم! خُبزة! آكلها. لا، ليس بخاطرك، ليس بيدك، يُوجد أمر إلهي، لا إله إلا الله!

المُهم، حتى إذا فرغ من أكلها، بعد خمسة أو سبعة أيام، بعد قليل، سُبحان الله! زوجته بدأت تستشعر حالات غريبة، نوع من الغثيان، رغبة في الإقياء، نوع من التعب. معقول! هيا نذهب إلى طبيبة أو طبيب نسائية. فذهبوا! مبروك يا أستاذ، يا دكتور زوجتك حامل. لا إله إلا الله! حامل؟ طبعا هو قبل ذلك، أكيد قطّع الأطباء ذهابا وجيئة! لم يترك طبيبا، إلا ذهب إليه وقصده! ولا تُوجد إمكانية، أنت لا تُعقب – قالوا له -، لا تُوجد إمكانية، لا تُوجد أي إمكانية طبية. الآن أعقب!

يقول مُحدثي فأصبح هذا الأستاذ المُلحد طبعا مؤمنا وذاكرا مُريدا لهذا الشيخ المغربي. مُريد عند أعتابه! دُلني على الله – يقول له -، قُدني إلى الله قودا حميدا. لذلك الإيمان ليس فلسفة وليس براهين وليس علم كلام فقط، الإيمان ذوق ووجدان وفقر واحتياج واضطرار وشعور ومِزاج ورقة ولُطف، الإيمان عيش، الإيمان نُضج، الإيمان تجربة، الإيمان اختبار.

ستقول لي وهل أنت تُصدّق أو تُقرّر أن مثل هذه التجارب، ومثل هذه الحكايا، ومثل هذه القصص، تُمثّل دليلا؟ أقول لك لا، لا تُمثّل دليلا بالمعنى المنطقي ولا بالمعنى العقلي، لكن هذه دليل لصاحبها، ودليل لمَن رأى فيها الدليل. أي لمَن بالذات؟ نعم، لصاحب صاحبها. لما يكون هذا الذي أكرمه الله بهذا، صاحبي وخدني ورفيقي، أعرفه كما أعرف نفسي، وأعرف أن هذا حدث له، بلا شك يكون هذا دليلا لي، بمعنى ما. حين يكون أبي أو خالتي أو أستاذي أو شيخي، نعم، يكون هذا دليلا لي! لكن ليس دليلا مُلزما لك ولا لها ولا لهم. 

وهذه طبيعة الإيمان، الإيمان عنده منطق مُعين، وخُطبة اليوم على فكرة عن منطق الإيمان وقانون الإيمان، الذي لم أدخله إلى الآن بعد، لم أُدلف إلى موضوعي، وسأفعل بعد العصر – إن شاء الله تعالى -. هذا من منطق الإيمان، ومن قانون الإيمان. هذه حُجة ودليل لصاحبها، ولمَن رأى فيها حُجة ودليلا، لكنها ليست حُجة بالمعنى المنطقي، وليست دليلا بالمعنى الفلسفي ولا حتى بالمعنى العلمي، يُلزم الناس كلهم. لماذا؟ لأن هذه طبيعة الإيمان. في نهاية المطاف، الإيمان تجربة روحية شخصية، إما خُضتها، وإما فقدتها. الإيمان ليس نظرية فيزيائية تقرأها، ثم تُقرر أنك صدقت أو لم تُصدق. الإيمان يا إخواني تجربة تعيشها، ثم ترى، ثم ترى النتيجة، ثم ترى الثمرة! هل من ثمرة، أو لا ثمرة؟ هذا يتوقف عليك، وعلى تجربتك. لذلك خُذوا الأمر بجِد، عيشوا إيمانكم، عيشوا إيمانكم، نقوا توحيدكم من شوائب هذه الوثنية البغيضة.

اللهم اهدنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت. علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما وفقها ورشدا. اللهم آت نفوسنا تقواها، زكها أنت خير مَن زكاها، أنت وليها ومولاها. 

نعوذ بالله من قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن دعوة لا تُسمع، ومن علم لا ينفع، ومن عمل لا يُرفع، ومن الجوع فإنه بئس الضجيع، ومن الخيانة فإنها بئست البطانة. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.

اغفر لنا ولوالدينا، وللمسلمين والمسلمات، المؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، بفضلك ورحمتك، إنك سميع قريب مُجيب الدعوات. 

عباد الله/

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *، فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ *، وأقم الصلاة.

(18/1/2022)

 

هذه الخطبة وصل للخطبة السابقة ” #ريان وتصدع الإيمان” ويدور جزئها الأول هذا عن منطق الإيمان وقانونه وعن قوة الدعاء وشروطه وموانعه والجوانب النفسية والمزاجية فيه مع أمثلة حية لحالات لها علاقة بموضوع الدعاء واستجابته.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: