الحريات في الإسلام

video

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد بن عبد الله، وعلى إخوانه من النبيين والمُرسَلين، وآل كلٍ وأصحابه.

أما بعد، سعادة رئيس الهيئة الإسلامية بالنمسا البروفيسور Professor أنس الشقا@28:00@، سعادة السيدة البروفيسورة Professor @@@، سعادة السيد البروفيسورProfessor @@@، أخواتي الفاضلات، إخواني الفضلاء:

أُحييكم جميعاً بتحية الإسلام، وتحية الإسلام هي السلام، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وأشكركم ابتداءً لما تجشمتم من عناء الحضور إلى هذه المُحاضَرة، التي أسأل الله – تبارك وتعالى – أن يهديني فيها إلى قول الحق وحُسن عرضه وتبيانه بما يكون كفاء هذا التعب وهذا النصب.

المُحاضَرة كما تعلمون عن الحريات في الإسلام، وقد يسأل سائل هل تُزمِع الحديث عن الحريات داخل الإسلام نفسه أو بين الإسلام وبين غيره من الأديان والمِلل؟ الحريات داخل دين مُعيَّن هي ما يُعرَف بالــ @@1:38@، أما الحريات بين الأديان بعضها البعض فهي ما يُعرَف بالــ @@@، طبعاً لأن وقت المُحاضَرة ضيق ومحدود سأود أن أُحدِّد هدفي بشكل واضح، أنا أُزمِع أن أتحدَّث عن موقف الإسلام من الآخر، من الأديان والمِلل الأُخرى، وليس موقف الإسلام من حريات آبنائه، هذا موضوع آخر.

أول ما يُذكَر موضوع موقف الإسلام من الحريات بشكل عام يتبادر إلى الذهن مُصطلَح القتال والجهاد، الذي يصل مُباشَرةً ويُوحي على الفور بمُصطلَح آخر أكثر بؤساً ربما في ذهن مَن لم يفهم فلسفة وحقيقة الجهاد في الإسلام، وهو مُصطلَح العنف والإكراه والاعتناف والاعتساف، الآن طبعاً تجسَّد فيما يُعرَف بمُصطلَح الإرهاب، فتقريباً غدا يُعادِل مُصطلَح الجهاد أو القتال في الإسلام الإرهاب.

ابتداءً أود أن أقول إن مُصطلَح الجهاد قرآنياً لا يُعادِل القتال، القتال مذكور في القرآن والجهاد مذكور، لكن بينهما علاقة العموم والخصوص، فالجهاد أعم مُطلَقاً من القتال، لأن الجهاد كما بيَّن جميع العلماء والأئمة وكما هو ظاهر في النصوص الدينية من القرآن والسُنة ثلاثة أنواع: جهاد النفس، وهو الجهاد الكبير أو الأكبر، جهاد النفس! وفيه قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – في الحديث الذي أخرجه الترمذي وقال حسنٌ صحيحٌ، قال والمُجاهِد مَن جاهد نفسه، والألف واللام هنا للاستغراق، كأن هذا هو المُجاهِد الحقيقي باسم الجهاد، الذي يُجاهِد نفسه، وهناك جهاد العدو الظاهر، وهو ما يُعرَف بالقتال، جهاد العدو الظاهر! وهناك جهاد الشيطان، ولما تعددت أقسام الجهاد وأنواعه وتصانيفه لا جرم تعددت وسائله وآلياتهن فالجهاد لا يكون بالسيف أو بالسلاح الفتّاك وحده، وإنما يكون بالمعرفة، بالذوق، بالاستبصار، بالترقي في مدارج ومعارج القدس كما يقول المُتصوِّفة الإسلاميون، ويكون أيضاً بمعرفة الحق والدلالة عليه والهداية إليه.

وفي القرآن المكي يقول الله – تبارك وتعالى – عن القرآن العظيم فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ۩، الله سمى جهاد تبيين الحقائق والدلالة عليها – جهاد الحوار والجدال والمُناظَرة – جِهَادًا كَبِيرًا ۩، وهذا في القرآن المكي! لذلك فالجهاد هو بذل الوسع في تحقيق غاية، الغاية هي الانتصار على النفس أولاً.

يقول حُجة الإسلام أبو حامد الغزّالي في كتابه المشهور ميزان العمل قال الله – تبارك وتعالى – قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ۩، قاتلوا الذين هم قريبون منكم، الذين هم أقرب إليكم من الكفّار، قال أبو حامد فيه إشارة إلى قتال النفس، فيه إشارة إلى جهاد النفس، وفي حديث الإمام البيهقي لما عاد النبي مرة من غزوة قال لأصحابه عُدنا أو رجعنا من الجهاد الأصغر – وهو جهاد العدو الظاهر – إلى الجهاد الأكبر، قالوا يا رسول الله ما الجهاد الأكبر؟ قالوا يا رسول الله ما الجهاد الأكبر؟ قال مُجاهَدة النفس، فالجهاد إذن أعم من أن يقول خصوص القتال بالسلاح، أعم من ذلك! وإنما هذا نوع منه، هذا أول ما أحببت أن أُنبِّه إليه.

ثاني ما أُريد أن أذكره – أيها الإخوة والأخوات – أنه ربما ما من حقيقة من حقائق الإسلام نصاً وتاريخاً ظُلِمت كما ظُلِمت حقيقة الجهاد في سبيل الله، هذا المُصطلَح مظلوم جداً، طبعاً في  أذهان بعض الناس في الشرق والغرب يُساوي هذا المُصطلَح الحرب المُقدَّسة، أي الاعتناف والاعتساف واستخدام القوة المُسلَّحة لإكراه وإرغام الآخرين على أن يدخلوا فيما دخلنا فيه، على أن يعتنقوا ديننا وأن يعتقدوا مُعتقَداتنا، والمُتأمِّل في القرآن الكريم يعلم أن هذه أكذوبة كُبرى، أُلصِقت بالإسلام وليس عليها أثارة من علم أو شُبهة من دليل البتة.

طبعاً هنا يطول النقاش وأنا أعلم هذا، وقد قرأت كُتباً مُصنَّفة برؤوسها وبحيالها في إثبات هذا الكذب وهذا الزور، أن الجهاد في الإسلام لإكراه الآخرين، وأن الإسلام انتشر بالسيف، وأن الإسلام دين عدواني، وأنه لا يُسالِم مَن سالمه وإنما يُحِب أن يدخل في حرب مفتوحة مع الجميع، مع جميع الناس، ومع جميع الأقوام والشعوب والعقائد والمِلل والنِحل، وفي الحقيقة لا يُوجَد في القرآن الكريم آية واحدة يُمكِن أن يُثبِت بها هذا المُدّعي زعمه، وأنا أعلم أن بعضكم سيتشوَّش وسيرتبك، لأن بعض إخواني من المسيحيين النمساويين قد كتبوا إلىّ رسائل مُطوَّلة، ودلوني فيها – يظنون أنني لا أعرف هذا – على آيات يُفهَم منها أن تفتح حرباً على العالمين وأنها تأمر بقتال الناس أجمعين، لا يزال بعض هذه الرسائل عندي، في الحقيقة للأسف حتى بعض المُسلِمين لم ولا يُحسِن قراءة النص القرآني بعين حاذقة.

حتى لا أُطوِّل بذكر المُقدِّمات المنهجية أود أن أقول فقط خُطة القرآن الكريم في ترجمة مقاصده وغاياته ومُنطلَقاته ومفاهيمه تقوم على وجوب النظر الموضوعي في كل ما يتعلَّق بالمسألة قيد البحث، لا يجوز على الإطلاق أن نجتزئ وأن نبتسر بمثل آية أو جُزء من آية أو نأخذ الآية من سياقها ثم بعد ذلك نزعم أن القرآن يقول كذا وكذا.

هناك كلمة أعجبتني جداً للفيلسوف الفرنسي الشهير فرانسوا فولتير François Voltaire يقول فيها ائتوني بجُملة واحدة لأحذق الناس وأشهر الناس عبقريةً – جُملة واحدة قالها أو كتبها – وأنا على استعداد أن ينتزع منها ما يقوده إلى حبل المشنقة، بمعنى أن الاقتطاع والاجتزاء والابتسار سبيل مُيسَّرة وسهلة جداً للكذب على الآخرين ولتوريط الآخرين، لذلك علينا أن نكون – أيها الإخوة والأخوات، السيدات والسادة – أن نكون مُنصِفين، وأن نكون قبل أن نكون مُنصِفين نمتلك الجرأة والجسارة والشجاعة أن نعرف، وإذا فرانسيس بيكون Francis Bacon قال مرةً المعرفة قوة فأنا أقول المعرفة شجاعة، المعرفة شجاعة لأنه يلزم أن تكون شجاعاً لتبحث، ثم يلزم أن تكون أكثر شجاعةً لتصدع وتُصرِّح بما انتهى إليه بحثك دون أن تخشى.

الذي يُحيل الأساطير إلى وقائع والأكاذيب والأفائك إلى حقائق ثلاثة أمور: الجهل، الخوف، والمصلحة، وأكثر ما يعمل هذا العامل الثالث – المصلحة – في النطاق السياسي وفي النطاق العسكري، وأما ما يعمل في إطار العوام وحتى المُثقَّفين فهو إما الجهل وإما الخوف، علينا أن نتحدى هذه العوامل المُضلِّلة الثلاثة: الجهل، الخوف، والمصلحة.

فأود أن أقول باختصار خُطة القرآن الكريم في موضوع الجهاد والقتال تقوم على أمر بسيط وواضح جداً، لا نُقاتِل إلا مَن بدأنا بالقتال وأصر على مُعادتنا، وهنا أيضاً أعلم أن أخي المسيحي وأختي المسيحية قد ترتبك وتتشوَّش، لكن خارج إطار الحرب العادلة التي يُؤمِن بها أكثر إخواننا وأخواتنا من الكاثوليك، خارج إطار الحرب العادلة قد يتشوَّش المسيحي الورع الصادق من سماع مثل هذا المنطق، لِمَ لا نصفح؟ لِمَ لا نعفو؟ لِمَ لا نتجاوز؟ لِمَ نُقابِل السيئة بالسيئة؟ لِمَ لا نُقابِل السيئة بالحسنة؟ ولِمَ لا نُدير الخد الأيسر لمَن لطمنا على خدنا الأيمن مثلاً؟ المسيحيون الذين يستوحون مسيحية المسيح – عليه الصلاة وأفضل السلام – ومسيحية القدّيس بولس Paul ومسيحية مسيحيي عصر الشهداء يتشوَّشون ويرتبكون من سماع هذا المنطق، لكن أيضاً أُريد أن أصدمهم أكثر لأقول لهم موقف القرآن واضح جداً من هذه القضية، إذ أنه أعلن قبل كل الحركات التحررية والحركات الشعوبية أو الشعبية ليقول إن مَن يرضى بأن يكون مظلوماً هو عند الله كالذي رضيَ أن يكون ظالماً، في الإسلام ممنوع أن ترضى أن تكون مظلوماً، كما هو ممنوع تماماً أن ترضى لنفسك بدور الظالم، أو بلُغة روبندرونات طاغور Rabindranath Tagore لا يُمكِن أن نرضى أكباشاً يُضحى بها، لكننا نرفض أكثر من ذلك أن نكون سكاكين للتضحية بالأكباش البريئة، اللهم لا تجعلنا جزّارين يذبحون ولا تجعلنا كباشاً تُجزَر، القرآن لا يُحِب لا هذا ولا هذا، وقد ثرَّب وعتب ودمدم القرآن الكريم في أكثر من آية على الذين رضوا لأنفسهم بدور الضحية ودور المظلومين.

طبعاً هنا أيضاً أفتح قوسين لأقول (ويختلف الموقف القرآني بالمرة بين الظلم الفردي وبين ظلم أمة لأمة وشعب لشعب أو بين ظلم سُلطة لفرد أو لجماعة مُشتضعَفة من الناس)، الذي لا يود القرآن أن يتساهل فيه هو ظلم أمة لأمة أو شعب لشعب، استعمار واستكبار! أو ظلم سُلطة لفرد، أو ظلم سُلطة لجماعة مُستضعَفة من الناس، أما ظلم فرد لفرد فالقرآن دائماً يحث على العفو وعلى الصفح، وهنا يلتقي مع السيد المسيح عليه الصلاة وأفضل السلام، لكن القرآن لا يرضى بالظلم المُعمَّم، بالظلم المُفعَم، بالظلم المُطلَق الذي يتأدى إلى هتك أعراض وقتل ولدان أبرياء وقتل نساء وتخريب العامر وترويع الآمنين وتعويق مسيرة الحضارة والعمران، لا يرضى بهذا القرآن أبداً!

ولذلك – أيها الإخوة والأخوات – ربما أُذكِّركم أن أشنع الحملات ضد مفهوم الجهاد في الإسلام لم تصدر الآن وإنما صدرت في العهود الاستعمارية، في مطلع العهد الاستعماري للعالم العربي والإسلامي، شُنت حملات شعواء على مفهوم الجهاد والقتال في الإسلام، لأنهم يرونه ما بقيَ للمُسلِمين أو للمُسلِم من أظفار يُمكِن أن يدفع عن نفسه بها، هذا ما أود أن أقوله كمُقدِّمة أيضاً.

إذن المُسلِم غير مُخيَّر في أن يرضى بالظلم وأن يستكين للظلم، القرآن لا يُعطيه هذا الخيار، في ظلم السُلطة وظلم الشعوب الأُخرى القرآن لا يُعطي المُسلِم خيار أن يرضى بذلك، قال تعالى وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ – سماهم ظالمين – يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا ۩، إذن الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا ۩ هم المُستضعَفون المظلومون، سماهم الله ماذا؟ ظالمين، والذين استكبروا واستضعفوا سماهم الله أيضاً ظالمين، إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً ۩، لِمَ سماهم القرآن ظالمين؟ لأنهم رضوا بأن يكونوا مظلومين، فسماهم القرآن ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ۩، هو ظلم لكن ظلم للنفس، ممنوع أن تظلم نفسك بأن تكون مظلوماً وممنوع أن تظلم غيرك فتكون ظالماً، هذا ممنوع وهذا ممنوع.

ومن هنا حرية الإنسان في النظر القرآني وفي المنظور القرآني، المُسلِم هو إنسان، والإنسان لابد أن يكون حراً مُكرَّماً، كرامته في حريته أولاً، ولذلك يُمكِن بصيغة اختزالية – أي Reductionist كما يُقال – أن نقول الإنسان يُساوي الكرامة، والكرامة قابعة في الحرية، فالإنسان حرية، لا أكثر ولا أقل.

بعد هذه المُقدِّمة أُحِب أن أقول مرة أُخرى خُطة القرآن تقوم على أننا نُسالِم مَن سالمنا، ونُعادي ونرد العدوان مِمَن عادانا، قال – تبارك وتعالى – وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ۩، قال بعض السفهاء – للأسف من المُسلِمين، وآفة التراث الإسلامي ككل تراث أنه يتجاور فيه الغث والثمين، الدر والحجر، والجيد والرديء – وبعض أصحاب الفكر والاستباط الرديء هذه الآية منسوخة، نسختها آية العنف، آية السيف! لكن قال العلماء المُحقِّقون لا يُمكِن أن تُنسَخ هذه الآية، لماذا؟ لأن الحُكم المُعلَّل أو المذكور سببه – معنى مُعلَّل أي ذُكِر سببه – إذا نُسِخ فهذا يعني نسخ السبب أو نسخ العلة، الله يقول وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ۩، نهى الله عن العدوان، لماذا؟ لأنه لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ۩، والعدوان ظلم! هل يُمكِن للرب – تبارك وتعالى -، لله – عز وجل – أن يُبيح الظلم في يوم من الأيام وهو الذي حرَّمه على نفسه في الحديث القدسي؟ لو أباح لنا أن نعتدي على مَن لم يعتد علينا فإذن هو يُبيح لنا أن نكون ظالمين، ومُستحيل أن الله يُبيح هذا، آيات القرآن التي تُحرِّم الظلم وتلعن الظالمين بالعشرات وليس بالآحاد، فهذا حُكم ثابت.

لكن بعض الناس يأتي إلى آيات مُعيَّنة ويقول هذه الآيات تأمر بقتال المُشرِكين، هذه الآيات تأمر بقتال أهل الكتاب، هذه الآيات تأمر بالقتال المُطلَق! وهذا غير صحيح، لو قرأنا هذه الآيات – للأسف لضيق الوقت لا أستطيع أن أسرد هذه الآيات لأنها كثيرة جداً وتحتاج إلى مُحاضَرة بحيالها حتى ندفع الشُبهات تُثار حولها – آية آية لوضح لنا تماماً أن هذه الآيات جميعاً جاءت في سياق الأمر برد العدوان، وليست أمراً ببدء العدوان.

سمعنا من قداسة البابا في خطابه الأخير أنه قال آية لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۩، هذه الآية الجميلة والعظيمة قال فيها المسيحي الكبير العلّامة إدمون رباط – الماروني اللبناني – في كتابه كنيسة الله – كنيسة أنطاكية – هذه الآية أعظم ابتداع في تاريخ الإنسانية، لأول مرة يأتي دين حصري النزعة وميّال إلى الهيمنة – يقول رباط – شأنه شأن هذه الأديان كلها لكن يقول مسموح للآخرين أن يعيشوا في نظام اجتماعي ضمن عقائدهم واختياراتهم وأديانهما بلا تثريب وبلا تضييق وبلا عسف، لأول مرة في تاريخ الدنيا!، وهذا صادق عليه المُؤرِّخ الإنجليزي الكبير أرنولد توينبي Arnold Toynbee حين قال كان الإسلام هو القوة الوحيدة في العصور الوسطى التي سمحت للعقائد الأُخرى أن تتجاور معه في هدوء وسلام، ولأول مرة! لكن قداسة البابا زعم أن هذه الآية لا يُعمَل بها، لماذا؟ لأنها مكية، وفي الحق أن الآية مدنية عند جميع العلماء، لم يقل أحد من أهل القرآن والتفسير إنها مكية، هي في سورة البقرة، وللعلم سورة البقرة أطول سور القرآن الكريم وكلها مدنية، مائتان وست وثمانون آية هي مدنية، فهذه الآية نُطمئن قداسة البابا – ويبدو أنه أخطأ فعلاً في عزو هذه المعلومة – أنها آية مدنية، بل نزيده طمأنينة لنقول له هناك عشرات الآيات تُحاوِر اليهود والنصارى هي أعظم من هذه الآية، وأكثر تسامحاً منها، وأكثر تفتحاً منها، ونزلت بعد هذه الآية بسنين.

سآتيكم بآية – أيها الإخوة والأخوات – نزلت في سورة المُمتحِنة أو المُمتحَنة، كلاهما صحيحان! على الأقل سورة المُمتحَنة نزل أولها يوم فتح مكة، فهذه السورة نزلت بعد الحُديبية قطعاً، أي بعد سنة ست وسبع، سورة المُمتحَنة! يقول الله فيها لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ۩ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ – أي تتولوهم – وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ۩، ومعنى هذه الآية باختصار – حتى لا أُثقِل على أخي أبي عدنان في الترجمة – أن الله – عز وجل – يدعونا دعوة صريحة أن نبر وأن نُقسِط إلى كل مَن لم يُعادِنا، إلى كل مَن لم يرفع السيف علينا، إلى كل مَن لم يبن خُطته في الحياة على إفنائنا وإبادتنا، أمرنا الله بشيئين: بالبر وبالقسط.

بعض العلماء قال معنى البر والقسط العدل، أن نكون عادلين معهم، العلّامة القاضي المُفسِّر أبو بكر بن العربي قال هذا غير صحيح، لماذا؟ قال لأن المُسلِم مأمور بالعدل مع العدو ومع المُسلِم، حتى العدو! وهذا عجيب، هل العدو يجب أن نكون عادلين معه؟ نعم، حتى العدو يجب أن نلتزم معه خُطة العدل أو المعدلة، أما الذي ليس بعدو والذي سالمنا ولم نر منه إلا السلم – يقول ابن العربي – الآية تأمر بالعدل معه، زائد ماذا؟ زائد أن نُعطيه من أموالنا إذا كان يحتاج.

وهنا أود أن أُذكِّركم – أخواتي وإخواني – بالحقيقة المُتسامِحة جداً، التي وردت في كتاب النبي – عليه السلام – إلى نصارى نجران، النبي كتب لهم كتاباً يُؤمِّنهم فيه على كنائسهم وصُلبانهم في برهم وبحرهم، على ذكورهم وإناثهم، وعلى مَن كان معهم، ولهم ذمة الله وذمة رسوله، يقول النبي أن أحميكم وأن أُدافِع عنكم كما أحمي نفسي وأهلي وخاصتي وأتباعي على مِلتي، المُهِم ليس هذا الشاهد، الشاهد أن النبي – عليه السلام – كتب في كتابه إلى نصارى نجران وأنهم إذا احتاجوا إلى أموال المُسلِمين في ترميم كنائسهم وإصلاحها في لهم الرفد، لهم العون! أعظم من هذا في التسامح قال ولا يُعَد هذا ديناً عليهم، بل هو هدية واصلة إليهم، هدية من المُسلِمين ليُساعِدوا إخوانهم النصارى على أن يبنوا كنائسهم ويُرمِّموها ويُزيِّنوها، ستعجبون وستقولون هل محمد فعل هذا؟ وفعل أكثر من هذا.

في قرآن محمد اسمعوا هذه الآية الفذة, الله – تبارك وتعالى – يقول في سورة الحج في سياق الآيات التي أذنت – انتبهوا، أذنت ولم تأمر، لأن الإذن أعم من الأمر – للمُسلِمين بأن يُدافِعوا عن أنفسهم – وهي أول آيات نزلت في مشروعية الجهاد والقتال – أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ – أي يُقاتِلهم أعداؤهم – بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ۩ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ۩، في سياق هذه الآيات – انتبهوا، بقيَ معمولاً بها من السنة الثانية إلى السنة السابعة – كل هذه الغزوات وكل السرايا كانت في إطار المأذونية فقط، ليس أكثر من ذلك! أن ندفع عن أنفسنا، يقول الله تبارك وتعالى – واسمعوا الآية موضع الشاهد – وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ۩، وهنا لابد أن أتوقَّف لأشرح.

كلمة الصراع التي يُترجَم بها مُصطلَح Conflict أو Struggle – مثلاً – موجودة في اللُغة العربية، صراع، مُصارَعة، صرعى، وصُرعة، وكان القرآن بوسعه أن يستعملها، ولو استعملها فإنها تعني الدخول مع الآخر في عراك حتى إنهائه، حتى إبادته وإفنائه، القرآن لم يستخدم مُصطلَح الصراع، انتبهوا! قال فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ۩، فالصراع أو المُصارَعة تعني الإنهاء والإذابة، لكن الله لم يستخدم ولا مرة في سياق الجهاد أو القتال مُصطلَح صراع، استخدم هنا مُصطلَح ماذا؟ مُدافَعة، ومعنى المُدافَعة تحريك المواقع، زحزحة المواقع! الظالم الآن مُتصدِّر ولابد أن نُزحزِحه حتى يتأخَّر، ويتقدَّم مَن؟ يتقدَّم المظلوم صاحب الحق، فتعتدل موازين القوى ويعم الأمن والسلام، الله يُسمي هذا مُدافَعةً، أي تبادل أدوار، وسيلته هي القتال، قتال المظلوم للظالم، الله يقول وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ۩، لو أن هذا لم يكن مشروعاً لماذا حصل؟ يقول لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۩، وانتبهوا! الله يقول لنا هنا مُمتَناً – من باب النعمة والمنة علينا – أن من نعمة الله – تبارك وتعالى – أنه شرع هذه المُدافَعة لكي يبقى بيع لليهود يصلون فيها، وكنائس ومعابد للنصارى يدعون الله فيها، ومساجد للمُسلِمين يذكرون الله فيها، قال كثيرٌ من المُفسِّرين وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۩، ذكر اسم الله لا يعود على المساجد، بل يعود على كل ما ذُكِر، فاعترف الله بأن اسمه يُذكَر في كل هذه البيوت.

إذن من مقاصد الإسلام أن تبقى كل هذه البيوت موجودة، لابد أن تبقى! فيبقى الكنيس – السيناجوج Synagogue – لليهود، وتبقى الكنيسة للمسيحين، ويبقى المسجد للمُسلِمين، بل ويبقى بيت النار للمجوس ويبقى المعبد للبوذيين، في تاريخنا هناك ملمح لطيف جداً ذكره البلاذري في فتوح البُلدان، قال فاتح السند – مكانها الآن باكستان – محمد بن القاسم الثقفي قال يوماً ما البد – والبد هو معبد بوذا Buddha، كان يُسمونه البد – عندنا إلا كبيعة اليهود وكنيسة النصارى وبيت نار المجوس، لابد أن يُحترَم ولابد أن يبقى، يقول البلاذري ولما مات محمد بن القاسم بكاه أهل الهند بدموع سخينة لما رأوا من عدله وسماحته، رضيَ الله عنه وأرضاه.

الإمام المقريزي – صاحب خُطط مصر، مُؤرِّخ كبير مصري مشهور، رحمة الله عليه – يقول إن مُعظَم كنائس مصر إنما بُنيت في الإسلام، كانت بعض الكنائس في العهود القديمة، لكن مُعظَم الكنائس في مصر بُنيت في العهد الإسلامي، وهذه حقيقة يفخر بها المُسلِم، سمح للآخر أن يبقى وأن يمتد في حرية وأمان، بل أعظم من ذلك أن مصر كان لها إمام خاص كالأئمة الأربعة – وهم أبو حنيفة، مالك، الشافعي، وابن حنبل – وهو الإمام الليث بن سعد، في فقه الليث بن سعد أن بناء الكنائس وتزيينها أمر مُستحَب من معالم العمران الإسلامي، الليث بن سعد يعتبر أن تشييد الكنائس كتشييد المساجد من معالم العمران الإسلامي.

عمر بن الخطاب – ولعلكم جميعاً سمعتم بنبأ هذه الواقعة – لما فتح صلحاً بيت المقدس استقبله البطريرك الكبير صفرونيوس Sophronius وأدخله كنيسة القيامة المُقدَّسة جداً طبعاً عند إخواننا النصارى وأطلعه على ما فيها من رسوم وتماثيل للعذراء وابنها عيسى عليه السلام، وعمر لم يُنكِر ذلك، ستعلمون لماذا لم يُنكِره، لأن الرسول نفسه لم يُنكِره، ونعلم أن هذا سيسمعه المُسلِمون لأول مرة للأسف، عمر لم يُنكِر هذا! حتى إذا حان وقت الصلاة طلب عمر من صفرونيوس Sophronius أن يُصلي، فأشار إلى بُقعة مُعيَّنة في الكنيسة، قال صل هنا يا أمير المُؤمِنين، فهم عمر أن يُصلي ثم تراجع، قال لا، أخشى أن يتخذ المُسلِمون صلاتي في الكنيسة ذريعة وسُنة فيأبوا إلا أن يُصلوا مكاني فيغلبوكم عليها، فتذهب من أيديكم يا إخواننا النصارى، قال لا، وخرج وصلى خارج الكنيسة، شيئ عجيب!

أُذكِّركم الآن بالشيئ الذي ربما يسمعه بعضكم لأول مرة، وهو ما أخرجه الإمام الأزرقي في تاريخ مكة والإمام الذهبي في سير النبلاء في القسم الخاص بالسيرة المُحمَّدية، وهذا ثابت من رواية عمرو بن ميمون ومن راوية عطاء بن أبي رباح، أن النبي يوم فتح مكة دخل الكعبة ووجد فيها الأصنام والتماثيل التي تُعبَد من دون الله فأمر بإزالتها، ووجد فيها صنماً لإبراهيم – عليه السلام – يستقسم بالأزلام – أي يعمل عملاً شركياً – فأمر بأزالته، ووجد فيه تمثالين لمريم وابنها في حجرها، فوضع يده عليهما وقال لهم امحوا كل ما سوى هذين، هذان يبقيان! مريم وعيسى يبقيان، في الكعبة! يروي هذا الإمام الذهبي وهو مَن هو! رحمة الله عليه، عن عطاء بن أبي رباح أنه قال وسُئل هل أدركت تمثالي مريم وابنها في الكعبة؟ قال نعم، رأيته أنا بنفسه، وقد أمر النبي بإبقائهما، المُسلِمون أنفسهم يعجبون لسماع هذا النبأ، وعمرو بن ميمون قال نعم، رأيت أنا هذا أيضاً، وهذا شيخ الأئمة، هذا شيخ سُفيان الثوري! عمرو بن ميمون قال أنا رأيت هذا بنفسي قبل أن تتهدم الكعبة، جاءها حريق وهُدِمت في العهد الإسلامي! قال كان فيها تمثال مريم وابنها عيسى عليهما السلام، أي صورتهما، تسامح غريب وعجيب جداً.

أود هنا أن أقف لكي أُذكِّر بأن موقف الإسلام بالذات من الديانة المسيحية أو النصرانية كان مُتسامِحاً بل مُتفاهِماً ومُتفاعِلاً جداً لأول عهد المُسلِمين بهم، في المرحلة المكية نزلت سورة الروم والتي حزن فيها المُسلِمون – كما تقص هذه السورة وبحسب هذه السورة – لهزيمة الروم المسيحيين أمام الفرس عبّاد النار، حزنوا جداً! وجاء القرآن يُبشِّرهم أن الغلبة والدولة سيكون للروم فِي بِضْعِ سِنِينَ ۩، في أقل من تسع سنوات! وهذا ما حصل وكنت مُعجِزة للقرآن الكريم، وفرح المُسلِمون، قال تعالى وَيَوْمَئِذٍ – أي يوم ينتصر المسيحيون على الفرس عبّاد النار – يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ۩ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ۩، هذه واحدة، وثاني عهدهم حين أرسل النبي المُسلِمين الذين اضطُهِدوا وظُلِموا في دينهم إلى الحبشة، وقال لهم اذهبوا فإن فيها رجلاً – وهو النجاشي، مسيحي مُتعبِّد، كان رجلاً صادقاً – لا يُظلَم الناس عنده، ولعل الله أن يجعل لكم من أمركم فرجاً ومخرجاً، فذهبوا إلى النجاشي، وهناك قام أحدهم في ثورة على النجاشي، تقول أم سلمة التي أصبحت فيما بعد زوج النبي وأم المُؤمِنين فيما أخرجه البخاري فكنا ندعو الله – تبارك وتعالى – أن يُظهِر – أي ينصر – النجاشي على مَن عاداه لما رأينا من عدله، أي ودينه، رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه.

هنا أيضاً سأُذكِّر بحقيقة مُهِمة لمَن يظنون أن الإسلام يُشعِلها حرباً على الأديان وعلى البشر جميعاً، هذا غير صحيح! النبي قال في حديث في آخر حياته – انتبهوا، ليس في مكة، في آخر حياته، قبل وفاته بقليل جداً – اتركوا الحبشة ما تركوكم، إذا لم يُعادوكم ولم يبدأوكم بقتال فحرام عليكم أن تُقاتِلوهم، عرفاناً للحبشة بالجميل ولما كان منهم مع المُسلِمين، ولأنهم أهل كتاب احترموا كتابهم ودينهم.

علمياً وجيوسياسياً كما يُقال – أي Geopolitical – المفروض أن النبي كان أول ما يأمر بغزو الحبشة، لأنها ضمن المجال الحيوي القريب والمسيس القرب بالدائرة الإسلامية، ليس يفصل الحبشة عن جزيرة العرب إلا البحر الأحمر، الذي كان يُسمى بحر القَلْزَم أو القُلْزُم كما يضبطه بعضهم، لكن النبي لم يفعل هذا، وإنما دخل في حرب مع الروم ومع الفرس لأنهم هم الذين بادأوه بالحرب وقتلوا جماعة من رُسله وأصحابه ومِمَن أسلم، وصرَّح بهذا قائلاً قتلوهم شر قِتلة، هم الذين بدأوا، ولم يبدأهم النبي بالقتال، عليه الصلاة وأفضل السلام.

أكثر من ذلك أن القرآن بشكل واضح يقول إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ۩، القرآن الكريم – أكثر من ذلك – يمتن على محمد وعلى أتباع محمد بقوله الم ۩ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۩ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ۩ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ ۩، يُذكِّر بأنه كما أنزل القرآن أنزل التوراة وأنزل الإنجيل هدايةً للناس بشكل واضح في أول آل عمران، في سورة المائدة يقول وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ ۩، ويقول إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ۩، يُذكِّر! ولذلك – انتبهوا – الإسلام ظلت علاقته طيبة وكريمة ومُتسامِحة جداً مع النصرانية إلى السنة السابعة الهجرية، عشرون سنة من حياة البعثة وحياة النبوة – وكم امتدت؟ ثلاث وعشرين سنة فقط – والإسلام يُحاسِن النصارى، شعوبهم وقبائلهم وقواهم، حتى كانوا هم الذين بادأوه بالعدوان العنيف، وذلك يوم بعث النبي رسولاً – أي مرسالاً – إلى الملك النصراني الغساني – ملك غسان، وبنو غسان هي قبيلة مسيحية في الشام، كانوا على الديانة المسيحية – فوجده ينعل النعال لحرب رسول الله، ينعل الخيل – يضع فيها النعال – لكي يذهب بها إلى المدينة ويغزو المدينة في عقر دارها، وقال له أخبر صاحبك بما رأيت، نحن نُريد قتاله ونُريد أن نستأصل شأفته، ما الذي رأيتم منه؟ لم يروا منه ولم يسمعوا إلا هذه الآيات، التي تنص وتقول إن المسيحيين هم أشد الناس محبة، أشد الناس قرباً للذين آمنوا، لأن عوامل القرب كثيرة جداً جداً بين المسيحية وبين الإسلام، والنبي هو القائل في الحديث الصحيح أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم، قال أنا أقرب الأنبياء إليه، وهو أقرب الأنبياء إليه! لماذا؟ قال ليس بيني وبينه نبي، فأنا قريب منه، وهو قريب مني.

أكثر من ذلك أن ملك الروم – هرقل عظيم الروم – بعث له النبي بعد الحُديبية كتاباً فيه لطف وفيه تأليف، بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يُؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت – لم يقل له سآتيك بجيوش لا قبل لك بها يا هرقل وسأغزوك في عقر دارك، لا! قال فإن توليت، لا تُريد أن تتبع هذا الدين الجديد – فإنما عليك إثم الآريسيين، إثم الأتباع الذين تضلهم وتضطهدهم مِمَن ليسوا على دينك، كما اضطهدت النصرانية الملكانية النصرانية اليعقوبية في مصر وقتلوا منهم عشرات الآلاف، حتى أن بطريرك الأقباط الأكبر اليعقوبي في مصر ويُدعى بنيامين Benjamin ظل هارباً أكثر من سبع سنوات في الجبال والصحار، ولم يُعِده ولم يُؤمِّنه إلا الفاتح الجديد عمرو بن العاص لأول مرة، وأعطاه ما ينبغي له من هيبة وجلال وتكرمة وتجلة، قال وإن توليت فإنما عليك إثم الآريسيين، ثم ختم الكتاب النبي بقوله قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ – أي كلمة تجمعنا في مُنتصَف الطريق، كلمة جامعة – بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ۩، لم يقل فإن تولوا ولم يُطيِعوا فسنُقاتِلهم أو فسنُذبِّحهم أو فسنُرهِبهم، لم يقل هذا، قال نحن نرضى بأن نكون مُسلِمين، وأنتم لتبقوا على ما أنتم عليه، هذا هو مذهب محمد، لكن هرقل عظيم الروم حين أسلم أحد عمّاله قتله، قُتِل أحد المُوظَّفين الكبار في بلدة اسمها مَعان، العرب يُسمونها مُعان، هي الآن في الأردن حالياً، أسلم هذا العامل أو هذا المُوظَّف الكبير فقتله هرقل شر قِتلة بعد أن أسلم، فأعلنوها حرباً على رسول الله من أكثر من جهة، وسيَّروا إليه المُقاتِلين.

إذن أُحِب أن أقول هذا لإخواني من المسيحيين والمسيحيات الذين يُراد للأسف أن يُلقَّنوا الإفك والزور ويُقال لهم اقرأوا سورة التوبة، سورة التوبة تأمر بقتال أهل الكتاب، حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ ۩، نقول لهم اقرأوا التفاسير وسياق هذه الآية من سورة التوبة، بعد هذه بنحو آيتين الله يقول يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ ۩، ثم قال يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ۩، هذه نزلت تُحرِّض المُسلِمين على غزو تبوك، وغزوة تبوك كانت بسبب ما ذكرنا لكم، بسبب قتل المُسلِمين وبسبب الإعداد لحرب المدينة المُنوَّرة من قبل الروم المسيحيين، أما المسيحي الذي سالم الرسول وسالم المُسلِمين كنصارى نجران فله من رسول الله، له من القرآن، له من السُنة، وله من المُسلِمين كل الاحترام وكل المُوادَعة وكل المُسالَمة، الآيات – كما قلنا – كثيرة جداً في هذا الباب، ولا أُطوِّل بذكرها.

أُحِب وقد بقيَ دقائق ربما قليلات على المُحاضَرة للأسف أن أختم بشيئ آخر – ونحن لازلنا في أول الموضوع للأسف – وهو التسامح، يُقال هل الإسلام مُتسامِح أو غير مُتسامِح؟ هل الإسلام مُتسامِح أو مُتعصِّب؟ بعض الناس ينطق هذا المُصطلَح دون أن يبحث ولو قليلاً في حقيقة وعمق هذا المُصطلَح، ما معنى التسامح؟ على ماذا يتأسَّس التسامح؟ الفيلسوف العظيم كارل بوبر Karl Popper حين تحدَّث عن التسامح اقتبس فولتير Voltaire الذي ذكرته اليوم مرة، فولتير Voltaire يقول نحن البشر أبناء الضعف، نحن أبناء الضعف! نحن جميعاً كبشر وكآدميين عُرضة للهشاشة وعُرضة للخطأ، ومن هنا علينا أن نحترم اختلافاتنا، علينا أن نحترم الآخر إذا كان له مُعتقَد أو مِلة أو دين أو وجهة نظر تُخالِف ما عندنا، لماذا؟ لأننا نسبيون، قد تظن أنك على حق، وقد يكون الحق في جانب عدوك، في جانب الآخر، في جانب زميلك، ليس معك! وقد يكون الحق مُوزَّعاً بينك وبين الآخر، لك بعض النصيب منه وعندك بعض الباطل، وعنده نصيب من الحق وعنده بعض الباطل، هذا ما يُسمى الآن بالنسبية الثقافية – مثلاً – أو بالنسبية المعرفية، هل تعلمون أن الإسلام قرَّر هذه النسبية بترك جليل جداً وتركت طابعاً على الثقافة الإسلامية؟ الله – عز وجل – لم يقل نحن المُسلِمين على حق مُطلَق وانتهى كل شيئ، لا نقاش! وإنما قال للآخرين وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ۩، ولما أمر أهل الكتاب أن يعملوا بكتابهم وأن يُقيموا كتابهم – أي أن يعملوا به بطريق صحيحة – فقد كان يُقرِّر أن عندهم كثيراً من الحق، ولم يشطب عليهم ولم يقل إنهم على باطل مُطلَق.

أول مُثقَّف ربما بمعنى المُثقَّف المُعاصِر أو الحديث في التاريخ الإسلامي هو الجاحظ المُعتزِلي، له رسالة عن النصارى يقول فيها – وهذا موضع هذه الجُملة في رسالة عن النصارى للجاحظ – الفضائل والمثالب مُوزَّعة بين الأقوام والأمم، لا تستطيع أمة أن تقول كل الفضائل عندي، كل الحق عندي وكل الرذائل وكل الباطل عندكم أبداً، ومن هنا ألقت هذه النسبية الثقافية بطابعها وظلالها على جُملة لجماعة مُتصوِّفة صار حولها خلاف كثير، يُسمون بإخوان الصفا وخلان الوفا، إخوان الصفا لهم عبارة عجيبة جداً، طبعاً يُناقَشون في مُفرَداتها وآحادها، لكن أنا أبغي الروح، روح هذه العبارة! حين بحثوا عن الإنسان الكامل قالوا الإنسان الكامل هو فارسي النسب – نسبه يكون فارسياً، هذه اختياراتهم، ويُناقَشون في كل هذه المُفرَدات -، عربي الدين، حنفي المذهب، عراقي الآداب، هندي البصيرة، يهودي المخبر، مسيحي المنهج، شامي النُسك، ملكي الأخلاق، ورباني الرأي، أي الإنسان الكامل لا يُمكِن أن يُوجَد في ثقافة واحدة، لا يُمكِن أن يحتجزه ويحتجنه عرق واحد، سأُعيد لكي يُترجِم أخونا طرفة مرة أُخرى، قالوا الإنسان الكامل، لم يقولوا العربي المُسلِم السُني الشافعي مثلاً أبداً، الذي يقول الإنسان الكامل هو عربي مُسلِم سُني أو شيعي هو شخص جاهل، لم يفهم شيئاً، لم يذق للثقافة طعماً، قالوا الإنسان الكامل هو الفارسي النسب – لم يتعقَّبوا العروبة هنا -، العربي الدين، الحنفي المذهب – والمذهب الحنفي مذهب مُتوسِّع جداً، يقوم على القياس والاستحسان والاستصلاح وعلى إعمال الرأي وقوة العقل، ليس مذهباً حروفياً جامداً -، العراقي الآداب، اليهودي المخبر، المسيحي المنهج، الشامي النُسك – أي العبادة والزهادة -، الملكي الأخلاق، الرباني الرأي، والهندي البصيرة Insight، قال والهندي البصيرة، ومعلوم ما توفَّر للهنود من حظ في هذا الباب، حظ البصيرة والتأمل – Meditation – وأمثال هذه الأشياء، الهندي البصيرة! وهذا ما يُؤكِّد تماماً عبارة الجاحظ، أن الفضائل والكمالات والمثالاب والمصالح مُوزَّعة بين الأمم والأقوام، نسبية ثقافية من أول يوم!

ولذلك – أيها الإخوة – إذا أردنا فلسفياً وبلُغة التسامح والمُتسامِحين أن نُترجِم عبارة إخوان الصفا هذه ما عسانا نقول؟ كيف نُترجِمها فلسفياً؟ كيف نُترجِم هذه العبارة فلسفياً؟ بماذا نُعبِّر عن هذه العبارة؟ لن نجد خيراً من أن نُعبِّر عنها بأنها لم تتخذ الدين معياراً للمُحاكَمة، ليس الدين المعيار الوحيد للمُحاكَمة وللحُكم على الآخرين وتقرير حدود التفاعل وحدود الأخذ والعطاء مع ومن الآخر، ليس الدين وحده، هناك عوامل كثيرة جداً، ومن هنا لا يُنكِر مُنكِر وإن كابر أن الحضارة الإسلامية كانت فعلاً مُتفتِّحة جداً، تفتَّحت على الحضارات الأُخرى، على الأديان الأُخرى، على الأقوام الأُخرى، وعلى التراث الآخر، هناك مواريث كثيرة أنقذها المُسلِمون، عاشت بفضل ما قام به المُسلِمون من إحياء لها، لم نتنكر لها، لم نجد غضاضة أن نتعلَّم وأن نكون في موضع التَلميذ يوم كنا مُنتصِرين حتى بالسيف.

فأعود إلى كارل بوبر Karl Popper وإلى فولتير Voltaire، مثل فولتير Voltaire تماماً جون لوك John Locke، جون لوك John Locke في رسالته الشهيرة جداً عن التسامح قال التسامح يتأسَّس على هذه الأسس العتيدة، أن البشر جميعاً عُرضة للخطأ، والأساس العتيد الثاني أن الإكراه والقسر لا يُمكِن أن يكون سبيلاً صحيحة ومأمونة للإقناع، أي كأنه يقول لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۩، الله يقول لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۩، أي Es gibt keinen Zwang in der Religion، لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۩! لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۩، لو تعلمون سبب نزول هذه الآية ستعجبون، هذه الآية نزلت بسبب  بعض المُسلِمات من قبائل الأوس والخزرج، كانت هاته النسوة أو هؤلاء النساء كنا إذا أنجبنا لا يعيش لهن ولد، وتُسمى مثل هذه المرأة في اللُغة الفصحى المقلاة، لا يعيش لها ولد! فكانوا في الجاهلية لكي يستحيوا أولادهم – لكي لا يموتوا – ينذرون لله نذراً، وهو إذا رُزِقت الواحدة منهن ولداً فإنه ستُهوِّده، تقول لأُهوِّدنه، أي لتجعلنه يهودياً، وسُبحان الله، أذن الله أن يعيش بعض هؤلاء الأولاد وتهوَّدوا، ويوم قامت مُشاحَنات ومُعارَكات بين المُجتمَع الإسلامي وبين بعض قبائل اليهود في المدينة كيهود بني النضير وأجلوا عن المدينة كان من ضمن مَن وجب إجلاؤه هؤلاء الشباب من الأنصار الذين تهوَّدوا، فطالب بهم أمهاتهم وآباؤهم، قالوا يا رسول الله أبناؤنا، النبي قال لهم هم يهود، قالوا هم أبناؤنا، نحن نُرغِمهم على الدين، نُعيدهم إلى ديننا بالقوة، هم أبناؤنا! فأنزل الله – تبارك وتعالى – لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۩، ممنوع! هو اختار أن يبقى يهودياً، فليبق يهودياً، ليس عليك أن تُكرِهه حتى يعود مُسلِماً، ممنوع! هذا لا يجوز في الإسلام.

روى الإمام ابن أبي حاتم – رحمة الله عليه – أن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب كان له غُلام – غُلام اشتراه من ماله، أي عبد – اسمه أسبق، وكان لسناً حاذقاً، أي هذا الغُلام! فكان عمر يقول له يا أسبق لو أسلمت لكان خيراً ولاستعملناك في بعض المُسلِمين، أي سُنعطيك وظيفة كُبرى، يُغريه! فأسلِم يا أسبق، يقول يا أمير المُؤمِنين أُحِب ديني، وكان نصرانياً، كان مسيحياً ويقول أُحِب ديني، أنا أُحِب النصرانية، فيبتسم عمر ويضرب كفاً بكف ويقول لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۩، وهو مملوك له، اشتراه بماله، لم يُرغِمه!

الخليفة الثالث عثمان بن عفان، كانت أحب زوجاته إليه وخير زوجة له زوجة نصرانية، وتُدعى نائلة بنت الفُرَافِصَةِ، بضم الفاء! نائلة بنت الفُرَافِصَةِ كانت نصرانية ويُقال أسلمت بعد ذلك، كانت نصرانية وهي التي دافعت عنه يوم استُشهِد وقُطِعت أصابعها، وأبت أن تتزوَّج مُعاوية بن أبي سُفيان الذي أصبح خليفة بعده، وكسرت سنها وبعثت بها إلى مُعاوية، قالت والله لا يرى مني أحد بعد عثمان ما رأى عثمان، وكانت نصرانية.

حُذيفة بن اليمان الذي كان يُلقَّب بسكرتير الرسول – أي صاحب سر الرسول، الناموس! صاحب سر رسول الله – تزوَّج يهودية في العراق وعاش معها، الرسول نفسه كانت أم ابنه إبراهيم هي مارية القبطية، وهي مسيحية يعقوبية من مصر، ويُقال لم تُسلِم، وتزوَّج يهودية أبوها هو سيد بني قريظة وبني النضير معاً، هو حُيي بن أخطب، وهي صفية بنت حُيي، تزوَّجها! وهي اختارت أن تُسلِم طواعية، لأن زواج المُسلِم من يهودية أو نصرانية مُباح في الإسلام، ولا شيئ فيه! مع أن الإسلام بلُغة القرآن مودة ومحبة بين الناس، القرآن قال لا بأس، لِمَ لا تكون محبة بين المُسلِم وبين اليهود، بين المُسلِم وبين النصارى؟

هذه هي طريقة القرآن وطريقة الإسلام في مُحاسَنة ومُلاطَفة ومُعاشَرة الآخرين المِليين!

الآن سنسأل سؤالاً، هل يسمح الإسلام للخُطة الأكثر عبقريةً كما سماها البروفيسور Professor إدمون رباط في كتابه كنيسة الله – قال هي فكرة وخُطة الأكثر عبقرية، الأكثر عبقرية في التاريخ – وهي فكرة الذمة التي الآن بعض الناس يرى أنها فكرة تقشعر لها الأبدان؟ طبعاً – انتبهوا – الآن لا يجوز أن يُقال إن إخواننا المسيحيين في الشام – مثلاً – أو في مصر أو في العراق هم أهل ذمتنا، هذا كلام فارغ الآن، علمياً ودينياً حتى هذا كلام فارغ، هم مُواطِنون معنا على قدم سواء، انتبهوا! هم مُواطِنون معنا على قدم سواء، يوم دخل النبي المدينة المُنوَّرة كان فيها يهود، لم يكن فيها كثير من النصارى، كان فيها يهود، قبائل يهودية كثيرة في أطرافها! فماذا قال النبي عليه السلام؟ قال ويهود بني عوف أمة مع المُؤمِنين، والآن لا يجد الفقيه المُسلِم تفسيراً لهذه العبارة إلا تفسيراً واحدة، قال أمة! أمة مع المُؤمِنين أو مع المُسلِمين، وهذا يعني أن النبي أقر مبدأ المُواطَنة، بعيداً عن مُحدِّد ومُشخِّص الدين، لتكن يهودياً، لتكن مُسلِماً، ولتكن غير ذلك، أنت تعيش على أرض واحدة وفي حدود واحدة، أنت مُواطِن لك ما لك وعليك ما علينا، ثم قال وليهود بني النجّار ما ليهود بني عوف، أمة مع المُؤمِنين، أقر مبدأ المُواطَنة.

الآن بعض الناس يتساءل، هل يتسع صدر الإسلام أن يعيش أيضاً الوثنيون والملاحدة واللادينيون مع المُسلِمين وأهل الكتاب والمجوس في ظل الاجتماع الحضاري والسياسي الإسلامي؟ نعم، شيخ الإسلام ابن تيمية يقول في رسالته في القتال على كثرة ما تتبعت وبحثت لم أجد لا في كتاب ولا في سُنة ولا في رسول الله ولا هدي الراشدين ما يمنع من دخول المُشرِكين في ذمة المُسلِمين، ونحن نقول بل هناك ما هو أبلغ، في حديث الإمام مُسلِم وأبي داود وغيرهما عن بُريدة النبي يقول فإن لقيت أحداً من المُشرِكين فادعه إلى إحدى ثلاث خصال، وذكر منها الجزية، إذن يُريد أن ينتهي القتال بغير إسلامه، يُريد أن ينتهي القتال! فيُمكِن أن ينتهي إذن بماذا؟ بمبلغ بسيط جداً من المال، لقاء ماذا؟ لقاء حمايتنا له ودافعنا عنه.

كانت آخر وصية لرسول الله – عليه السلام – وهو يجوز بنفسه – على النحو الآتي، هذه من آخر وصاياه قبل أن يموت! قال استوصوا بأهل الذمة خيراً، ومَن ظلم ذمياً فقد برئت منه ذمة الله، الذي يظلم رجلاً أعطيناه عهدنا بأن نحميه وأن نُحافِظ على معابده وعلى حرياته وعلى عقائده فهذا برئت منه ذمة الله، برئ منه الإسلام، ليس مُسلِماً! والعجيب أن هذه الوصية كانت آخر وصية نطق بها الخليفة الثاني عمر بن الخطاب حين طُعِن غدراً وغيلةً، قال وهو يجود بنفسه وأُوصيَ الخليفة من بعدي بأهل ذمة الله ورسوله خيراً، أن يحوطهم وأن يُقاتِل من ورائهم وألا يُكلِّفهم ما لا يُطيقون.

ابن حزم – رحمة الله عليه، الفقيه الظاهري العظيم في القرن الخامس الهجري – قال مُعقِّباً ولو ظُلِم رجل واحد من أهل الذمة – يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً أو مُشرِكاً أو وثنياً – فعلى المُسلِمين أن يُقاتِلوا لرد مظلمته، حتى لو ذهبت أموالهم كلها وحتى لو ذهبت مُهجهم، أي ماتوا كلهم في سبيل استنقاذ هذا الذمي، حفاظاً على ذمة الله وذمة رسوله، هذا أين أيها الإخوة والأخوات؟ أين هذا ومتى أيتها السيدات والسادة؟ هذا في العصور الوسطى كما تُسمى، في العصور الوسطى!

ابن تيمية الذي ذكرته قُبيل قليل يوم جاء التتري غازان Ghazan أو قازان إلى مشارف الشام وأسر جماعة من المُسلِمين والنصارى ذهب إليه – أي ابن تيمية – يُفاوِضه، فأُعجِب غازان Ghazan هذا بموقف ابن تيمية وقوة شخصيته وعقله، فقال له كرامةً لك يا شيخ المُسلِمين أنا سأرد معك المُسلِمين الأسرى، قال لا، حتى ترد إلينا ومعهم إخواننا النصارى، قال لكنهم ليسوا مُسلِمين، ماذا تُريد منهم؟ اتركهم لنا، نسترقهم أو نذبحهم، نحن أحرار! قال لا، إنهم أهل ذمتنا، ولهم ما لنا وعليهم ما علينا.

حقيقة أُخرى أيضاً عجيبة جداً أيها الإخوة والأخوات، بغض النظر عن النُقطة الإشكالية التي وقعت في أواخر سنوات الدولة العثمانية مع الأرمن، إلا أن الذي يعرفه كل المُؤرِّخين الثقات أن الدولة العثمانية في مدى أربعة قرون لم تقم بأي مُحاوَلات لإذابة الأقليات الدينية والمذهبية أبداً، مرة من المرات السُلطان سليم الأول حاول أن يُؤسلِم النصارى، جمع النصارى وحاول أن يحملهم على الإسلام كرهاً، هل تعرفون مَن الذي تصدى له؟ يُمكِن أن تتوقَّعوا أن العلماء الدينيين والمشايخ من أمثالنا شجَّعوه وشدوا على يديه، وهذا لم يحدث أبداً، الذي تصدى له هو مُفتي الخلافة التُركية – الدولة التُركية العلمانية – زمبيلي عليّ أفندي، تصدى له وقال له لا يجوز لك هذا، فإنهم أهل ذمتنا ونحن مأمورون أن نتركهم أحراراً وما يدينون، وجرت بينهم مشادة كلامية وكاد السُلطان يأمر بإعدام الشيخ المُفتي، إلا أن الشيخ أصر وأفهم السُلطان بالحُجة، وأستغفر الله السُلطان وعدل عما كان ينتويه، لكن تركيا الفتاة أو تركيا العلمانية قامت بمُحاوَلات تتريك في رُبع قرن، لم تنجح تركيا الإسلامية في عُشر معشارها في أربعة قرون، بسبب النفس الإسلامي، ممنوع!

عمر بن عبد العزيز وهو الخليفة الراشد الخامس في الإسلام يكتب إلى الحسن البِصري – أحد أعاظم فقهاء المُسلِمين وزهّادهم – يقول له يا تقي الدين ما بال الخلفاء الراشدين تركوا أهل الذمة اليهود والنصارى والمجوس بشركهم وأكلهم الخنازير وشربهم الخمر – كما يفعل النصارى طبعاً – ونكاحهم المحارم – كما يفعل المجوس -؟ ما هذا؟ قال، أهذا يحدث في ظل الاجتماع السياسي والحضاري الإسلامي؟ هل يتزوَّج الإنسان أمه وأخته كما يفعل المجوس ويشرب الخمر ويأكل الخنزير؟ فكتب الفقيه الحسن البِصري يقول له يا أمير المُؤمِنين بهذا أُمِروا، وإنما أنت بمُتبِع وليس بمُبتدِع فاتبع، إياك أن تخرج عن خط الإسلام، هذه هي خُطة الإسلام، أن يُتركوا وما يدينون، إذا كان نكاح المحارم يجوز في شريعة المجوس فليفعلوا، لا علينا منهم، إذا كان أي قبيحة وأي إثم في نظرنا يجوز في نظر المِلي الآخر فليفعل، لا علينا منه، كما قال عمر بن الخطاب فإنما لهم ذمة ابتُلينا بالوفاء بها، وعليهم جزية ابتُلوا بالصبر عليها، فما صبروا لكم فوفوا لهم.

أختم وقد أطلت عليكم قليلاً، أختم بكلمة واحدة، لكي أُزيح الشُبهة فقط عن موضوع الجزية، وهي مبلغ تافه جداً طبعاً، انتبهوا! الغني جداً من أهل الذمة يدفع في السنة كلها ثمانية وأربعين درهماً، أما الغني جداً من المُسلِمين فيدفع زكاة اثنين ونصف في المائة، قد تُساوي مئات الآلاف من الدراهم، بحسب ما عنده من ثروة، أما المسيحي أو اليهودي أو المجوسي أو المُلحِد الذمي في دار الإسلام يدفع فقط إذا كان غنياً ثمانية وأربعين درهماً، إذا كان ميسوراً فإنه يدفع أربعة وعشرين، إذا كان حاله أشد من ذلك فإنه يدفع اثني عشر درهماً، إذا كان طفلاً أو امرأةً أو راهباً يعيش على الصدقة أو إنساناً غير عامل وغير كاسب فلا يدفع أي شيئ، لماذا يدفع هذا المبلغ؟ لا يدفعه حتى نحمله على الدخول في الإسلام كما يفهم بعضهم أو يُريد أن يفهم، كلا! يدفعه لأنه لا يخدم في الجيش, لا يُدافِع معنا! وقد تقولون فإن شاء هذا المسيحي أو اليهودي أو المجوسي أن يُقاسِم معنا، هل يجوز؟ نعم يجوز له، وقد دخل في القتال مع خالد بن الوليد بعض النصارى من أهل العراق وأهل الشام حين فتحوا أرض السواد في العراق، فما الذي حصل؟ وضع عنهم الجزية، قال لا جزية عليهم، مَن قاتل منهم معنا لا جزية عليه، إذن هم يدفعون هذا المبلغ الزهيد جداً – وهو أقل من الزكاة بمرات ومرات – لقاء ماذا؟ لقاء ما نبذل نحن من جهود ودماء في حمايتهم والدفاع أيضاً، وأيضاً المُسلِمون يدفعون الزكوات والصدقات، فعليهم أن يُشارِكوا في المُجتمَع ببعض الشيئ.

أكتفي بهذا القول, وأترك المجال ربما فيما يتسع له الوقت أيضاً للسؤال والجواب، والسلام عليكم ورحمة الله.

(ملحوظة) سألت إحدى الحاضرات @@1:3:22@@@@@@، فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم مُجيباً بسم الله الرحمن الرحيم، في الحقيقة السؤال والإفادة التي تقدَّمت بها البروفيسورة Professor @@@1:3:50@ جميلة جداً وأنا مُوافِق عليها، ومن عجائب الصُدف أنني ذكرت هذا المعنى تماماً أعتقد في آخر درس لي، لكن لأكون مُنصِفاً ربما أكون قد استفدت بطريقة أو بأُخرى من الكاتبة الأمريكية الشهيرة كارن أرمسترونغ Karen Armstrong، هي قرَّرت هذا تماماً في دفاعها وتسويغها لنشوء شريعة الحرب في التاريخ الإسلامي في المرحلة النبوية المدينة، لكن مع تعديل بسيط ربما على ما أضافته سعادة البروفيسورة Professor @@1:4:22@، وهو – حتى يكون واضحاً هذا لبعض الإخوة والأخوات – السيد المسيح – عليه السلام – حين بُعِث برسالته وبدينه الجديد إنما بُعِث في مُجتمَع مُستقِر، من ناحية سياسة هناك سُلطة سياسة قوية، هناك ما يُعرَف – وهذا ما ذكرته في مُحاضَرتي – بالباكس رومانا Pax Romana أو السلام الروماني الذي كان مفروضاً في كل ربوع الإمبراطورية الرومانية، بمعنى أن المُبشِّرين بأي دين وبأي مِلة أو عوام الناس التجّار وأصحاب السفار كان يُمكِنهم أن يتنقَّلوا من بُقعة إلى بُقعة ومن مكان إلى مكان في حالة سلم حقيقي، هذا ما يُعطيه الباكس رومانا Pax Romana، لكن حين بُعِث محمداً الوضع كان مُختلِفاً تماماً، كما تفضَّلت البروفيسورة Professor  1:5:12@@@، مُجتمَعات قبلية، لخَّص العلاقة بينها الشاعر الجاهلي بقوله:

وَأَحْيَانًا عَلَى بَكْرٍ أَخِينَا                                        إِذَا مَا لَمْ نَجِدْ إِلاَّ أَخَانَا.

القوي يأكل الضعيف، تهارش وتحارب دائم، النبي نفسه – وهو النبي الجليل – خرج من مكة فاراً برقبته إلى المدينة المُنوَّرة ليبقى خمس سنوات كاملة مُهدَّداً هو ودولته الوليدة ومُجتمَعه الوليد المُتنشئ، مُهدَّداً بالفناء والإفناء، فكان والحالة هذه لابد من أن تتقوَّم هذه السُلطة الجديدة، وأن تمتد هذه الدولة وأن تمتلك من وسائل الدفاع عن نفسها ما يُؤمِّن مُستقبَلها، وهذا ما حصل!

البروفيسورة Professor 1:6:2@@ تود أن تقول – وأنا أتفق معها مائة في المائة – إن تعاليم السيد المسيح جاءت في ظرف يختلف عن الظرف الذي انبثقت فيه التعاليم الإسلامية.

العجيب أن الشيخ محمد الغزّالي – أحد الدُعاة الأيقاظ جداً المُعاصِرين – قرَّر أيضاً هذا المعنى قبل نحو أربعين سنة في كتاب له، رحمة الله عليه، طبعاً الظروف التي بُعِث فيها المسيح كانت تضطره أن يدعو إلى ما دعا إليه، لكن لا تنسوا أنني ذكرت في تضاعيف مُحاضَرتي أن إخواننا الكاثوليك بالذات مُعظَمهم على الإطلاق يُؤمِنون بما يُعرَف بالحرب العادلة، ونحن لا نرفض الحرب العادلة، حرب يُدافَع فيها عن استقلال الشعوب، وعن استقلال البلاد، الدفاع عن الحريات أيضاً وعن صد الإرهاب والهجمات الخارجية أو حتى الداخلية العُنفية، هذه كلها حرب عادلة ونحن معها، وأعتقد أن كل مَن يحترم عقله وحريات الآخرين لابد أن يُؤيِّد هذه الحرب.

السؤال الجديد في هذا الإطار هو هل تسمح المبادئ الإسلامية بفصل السُلطة الدينية عن السُلطة السياسية؟ أو بلُغة إخواننا الغربيين هل تسمح المبادئ الإسلامية أن تُفصَل السُلطة الروحية عن السُلطة الزمانية بحيث لا يجتمع السيفان وتتحقَّق نظرية السيفين؟ هل تسمح؟ أنا هنا أود أن أكون صريحاً معكم، لأقول لكم ومن المُنطلَق الذي انطلقت منه سعادة البروفيسورة Professor  @@@ 1:7:33 الأمر يبدو صعباً قليلاً أن يُختصَر فيه الجواب، كيف؟ بنفس المُنطلَق، لأنه كان ينبغي على محمد وعلى الدين الجديد أن يُنشئ دولة وباسم الدين كما قال ابن خلدون، لأن كل الدعوات إلى توحيد هذه الجهود وتوحيد هذه القبائل بغير دعوة من دين فيها معنى المُقدَّس ومعنى المُطلَق فشلت وكان العرب يأكل بعضهم بعضاً، ونجحت لأول مرة باسم المُقدَّس، باسم الدين، باسم الرسالة! ولم يكن هناك باكس أرابا Pax Araba أو باكس رومانا Pax Romana، لم يكن هناك سلام حقيقي في هذه الجزيرة، أي جزيرة العرب، ووضعت الحرب أوزارها وانتشر السلام وبدأت تضرب الحضارة بجِرانها يوم استتب شأن الدين الجديد والرسالة الوليدة، وحصل نوع من السلام الذي يُمكِن أن يُسمى السلام الإسلامي، لأول مرة!

لكن أيضاً ما يجب أن نُؤكِّد عليه في هذا الباب أن السُلطة السياسية لا تعني أنها سُلطة تشريعية حقيقية أبداً، السُلطة التشريعية – أيها الإخوة والأخوات – مفصولة في النظام الإسلامي – في نظام الحُكم مفصولة – عن السُلطة التنفيذية، هذه سُلطة وهذه سُلطة، بمعنى أنه لا ينبغي وليس حتى مما يُستحَب أن يكون عالم دين هو الخليفة أو الإمام – مثلاً – أو وزير الخارجية أو وزير الصحة أبداً، ولذلك الحكومة في الإسلام هي حكومة مدنية، لكن سأُلخِّص هذه النظرية المُعقَّدة بكلمتين لأقول لكم شيئاً عن مصدر أُسس وأصول التشريع، وهذا ما يختلف فيه المنظور الإسلامي عن المنظور العلماني الليبرالي الغربي، في المنظور العلماني الليبرالي الديمقراطي الغربي هناك سُلطة مُطلَقة الآن للتشريع بيد الشعوب، بمعنى أن أخي المسيحي لا يعتقد أن هناك شيئاً مُحرَّماً في الكتاب المُقدَّس يُمكِن لسُلطة الشعب التشريعية – للبرلمان مثلاً – أن تُحيله إلى حلال أو أن تُحيل المُباح إلى مُحرَّم أو المُحرَّم إلى مُباح، يقول لا، إذا الشعب رأى هذا فليكن، والسبب تاريخياً أن المسيح – عليه الصلاة وأفضل السلام – حين ارتحل عن هذا العالم بالطريقة التي ارتحل بها لم يكن خلَّف لنا تراثاً تشريعياً مُكتمِلاً، كان دينه أشبه بمنظومة أخلاقية مواعظية إحيائية للآداب وإنمائية للروح الإنسانية، لكن لم تكن هناك تفاصيل تشريعية دقيقة كالموجودة في الناموس اليهودي مثلاً، في شريعة موسى وفي شريعة اليهود! وهو طبعاً قال لم آت لكي أهدم الناموس، وإنما جئت لكي أُقيم الناموس.

ومن هنا كان للبشر سُلطة مُعيَّنة، وهذه نُقطة خلافية جداً بين الإسلام والمسيحية، وهي وصية عيسى لبُطرس Peter، قال له ابن كنيستك على هذه الصخرة، وما تحله في الأرض فهو في السماء محلول، وما تعقده – أي تُحرِّمه – فهو في السماء معقود، في الإسلام لا يمتلك أحد هذه السُلطة، أصول الحلال والحرام – هذه الأصول فانتبهوا – لا يُمكِن أن تُنسَخ في الإسلام، بمعنى – بعضكم الآن طبعاً ستصدمه هذه الفكرة ولن تروق له، سيقول إذن نحن مُقيَّدون دينياً وهذا غير صحيح – أن في الإسلام – مثلاً – لا يُمكِن أن يُباح الغش أو الكذب أو السرقة أو الظلم أو العدوان أو السطو على أعراض الناس والسطو على ثمرات عقولهم أو ثمرات أيديهم، كل هذا مما يحرم ولا يُمكِن أن يسوغ في يوم من الأيام، وحتى أكون معكم صريحاً أقول نكاح المحارم – مثلاً – الإسلام لا يُمكِن أن يتساهل فيه، وسأكون أكثر صراحةً – وسيُصدَم بعض الناس – وأقول لا يُمكِن أن يتساهل في اكتفاء الجنس بجنسه، كزواج الرجال كقاعدة، الإسلام لا يتساهل في هذه الأشياء، يُمكِن أن يكون له موقف فقهي مُتسامِح من هذه الظواهر كظواهر مرضية، تحتاج إلى العلاج، إلى إعادة التقويم، وإلى إعادة النقاش، أما أن ينظر إليها على أنها أشياء طبيعية ويُمكِن أن تُصبِح قاعدية في المُجتمَع فالإسلام لا يقبل هذا، يستنكف من هذا، لأن أصول الأشياء – كما قلت – لا تقبل النسخ في الإسلام، فيما عدا ذلك هناك سعة، كيف نُنظِّم حياتنا مدنياً؟ كيف نُنظِّم جوانب هذه الحياة إدارياً، اقتصادياً، سياسياً، وسُلطوياً؟ إلى آخره! هذا أمره مُتاح جداً جداً في الإسلام.

لذلك سأُلخِّص بكلمة واحدة هذه النظرية التي تقول مصدر أصول التشريع السماء – الله – مصدر الحُكم وشرعية الحاكم الشعب، مَن الذي أتى بهذا الحُكم؟ نحن، الشعب! لم يأت باسم وصاية أو باسم حق إلهي أبداً، نحن الذين أتينا به، ونحن الذين يُمكِن أن نذهب به بالانتخابات، بصندوق الانتخابات! لكن لا يستطيع هذا الحاكم ولا يستطيع البرلمان أن يأتي بتشريع ينقض التشريع الإلهي من أصله فيُبيح أصول ما حرَّم – مثلاً – الإسلام ويُحرِّم أصول ما أحل الإسلام، لا نستطيع ذلك، ومن هنا الحكومة في الإسلام ليست ثيوقراطية، كما أنها ليست ديمقراطية مُطلَقاً كما يفهم الغربيون من مُصطلَح ديمقراطية، نحن نقبل الديمقراطية على أنها آليات سلمية ومعقولة، وهي أحسن ما توصَّلت إليه ربما الحضارة الإسلامية في مجال التطبيق ومجال التنظير، نقبلها كآليات للتداول السلمي على السُلطة، لكننا نرفض بعض – بعض وليس كل – الأسس الفلسفية لهذه الديمقراطية، أن يُقال لنا أن نُحِل ما أردنا ولنا أن نُحرِّم ما أردنا وليس لله شأن فينا، طبعاً هذا معناه في نهاية المطاف أن الدين سيُنسَخ بالكُلية طبعاً، سيأتي يوم نقول للدين اذهب من حيث أتيت، لسنا بحاجة إلى دين ولا إلى كتاب مُقدَّس ولا إلى قرآن ولا إلى كنيسة ولا إلى مسجد، طبعاً نحن كأهل هذا الدين ومُعجَبون ومُحِبون ومُلتزِمون نرفض هذا المنطق، هذا ما يُمكِن أن نقوله في جواب هذه المسألة، والله – تبارك وتعالى – أعلم.

(ملحوظة) سألت إحدى الحاضرات @@@1:14:12،@@@، فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم لا والله، ثم استتلت قائلة @@1:14:44@، فقال فضيلته مُجيباً شكراً على الأسئلة، بالنسبة لموضوع الردة سأكون معكِ صريحاً لأقول لكِ هناك آراء مُتنوِّعة في هذا الموضوع وآراء قديمة لبعض الأئمة القدماء جداً في القرون الأولى الهجرية، النظر في مجموع النصوص ومجموع بعض الوقائع التي حدثت أدانا إلى أن ننتهي إلى هذا الرأي الذي عبَّرت عنه في خُطبة جُمعية من فوق منبر مسجد وليس هنا أمام إخوة مسيحيين وأخوات مسيحيات، وأنا مُستعِد ومُنتدِب نفسي للدفاع عن هذا الرأي أمام أي سُلطة علمية إسلامية أيضاً حتى يبدو لي العكس، الذي أفهمه من مجموع النصوص الإسلامية خاصة في القرآن ثم بعد ذلك بدرجة ثانوية في السُنة النبوية أن للمُسلِم والمُسلِمة أن يُمارِس التحول من دين إلى دين – من الإسلام إلى النصرانية أو المسيحية، إلى الشيوعية، وإلى أي دين شاء – وليس عليه تثريب وليس عليه عقاب وليس هناك ما نُجرِّم به هذا الفعل ما دام لم يُمارِس عنفاً مُسلَّحاً ضد المُجتمَع، إذا ارتد ردة فكرية أو لأسباب نفسية أو لأسباب فكرية معرفية فلا علينا منه، وسأتلو عليكِ بعض الأدلة سريعاً لأن الموضوع طويل وخلافي.

في المذهب الحنفي – وهو مذهب عظيم جداً وعُمِل به، المذهب الرئيس للخلافة العثمانية على مدى أربعة قرون على الأقل – المرأة المُرتَدة لا تُقتَل لكن الرجل يُقتَل، وعلَّل الأحناف في مراجعهم المُوسَّعة لذلك بقولهم لأن المرأة لا يُتصوَّر منها الحرابة، أي إذا ارتدت لن تتحوَّل بردتها إلى قوة مُسلَّحة عنفية ضد المُجتمَع والسُلطة القائمة، إذن هي ارتدت ردة في إطار عقدي أو في إطار معرفي، فلها ذلك!

لذلك نقول إذن – من باب القياس أيضاً ومن باب فرض هذه العلة – لو أن رجلاً ارتد ومارس حريته الفكرية والمِلية في إطار شخصي ولم يستحل إلى مُحارِب للمُجتمَع أيُترَك؟ نعم يُترَك، يقول أحد الأئمة الكبار فيما نقل عنه العيني في عُمدة القاري ولم يثبت أن النبي قتل مُرتَداً واحداً، بل أنا أزيدكم، ثبت في الصحيحين – في البخاري ومُسلِم – أن رجلاً جاء من البدو إلى رسول الله وأعلن إسلامه – بايع على الإسلام – ثم بعد مُدة اجتوى المدينة – أي لم يُلائمه مُناخ المدينة وجوها ووضعها – وأراد أن يعود عن الإقامة في المدينة وعن الإسلام – أراد أن يعود في دينه الوثني وأن يترك المُجتمَع كله ويعود إلى البدو – فقال يا محمد أو يا رسول الله أقلني بيعتي، وهو إنما بايع كما صُرِّح به في رواية أُخرى على الإسلام، قال له أقلني بيعتي، والنبي أعرض عنه، لا يُحِب له أن يعود إلى الوثنية، عبادة الأصنام والأوثان! قال يا محمد أقلني بيعتي، فلما كرَّر هذا على النبي أعرض عنه النبي ثم ولى الرجل وتركه الرسول، اكتفى النبي بتعليق، قال المدينة كالكير – كجهاز الحدّاد الذي ينفخ ويزكي به النار – تنفي خبثها وينصع طيبها، اكتفى النبي بهذا، لم يقل أدركوه أو اقتلوه لأنه قد كفر وارتد أبداً، لماذا؟ لأنه لا يُمكِن أن يتصوَّر منه تبييت نية الحرابة ومُحارَبة المُجتمَع والعنف المُسلَّح وهو يستأذن النبي نفسه لأنه يُريد أن يرتد، إذن الرجل يُريد أن يرتد بحُسن نية، ليس عندي نية في المُحارَبة ولا نية في الخروج المُسلَّح على المُجتمَع، وإنما أُريد أن أعود إلى دين آبائي، النبي تركه واكتفى بهذا التعليق اللطيف جداً، المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها، وهناك أدلة كثيرة على هذا.

عمر بن الخطاب استنكر على أبي موسى الأشعري – كما رواه البيهقي وابن حزم في المُحلى – قتله جماعة من المُرتَدين، قال يا أمير المُؤمِنين أو غير ذلك؟ أي نحن نفهم أنهم يُقتَلون، قال نعم، كنت أستتيبهم وأُطعِمهم، لكن لا أقتلهم، لماذا أقتلهم؟ بما أنهم ارتدوا ولم يقوموا بأي نشاط عنفي مُسلَّح فلا يُقتَلون، لذلك الردة التي يُقتَل صاحبها هي المُعبَّر عنها في الحديث الذي أخرجه أهل السُنن عن أم المُؤمِنين عائشة، قالت: قال – صلى الله عليه وسلم – لا يحل دم امرئٍ مُسلِم إلا بإحدى ثلاث، وذكر: ورجل خرج بسيفه مُحارِباً يُحارِب الله ورسوله، أي خرج ثائراً بقوة مُسلَّحة على المُجتمَع المُسلِم، لم يقل المُرتَد، فسَّر المُرتَد بهذا، بالمُحارِب!

سأُعطيكم برهاناً أخيراً، والبراهين كثيرة بحمد الله، لكن سأُعطيكم برهاناً اخيراً، هل تظنون أيها الإخوة والأخوات – وخاصة المُسلِمين بالذات يفهمون هذه الروح – أن القرآن الكريم يُغفِل عقوبة قتل؟ لا يُمكِن، لا يُمكِن للقرآن أن يُغفِل تشريعاً بعقوبة قتل، وهو يرى أن أعظم الذنب بعد الكفر بالله هو قتل النفس المعصومة، والأصل في النفوس – نفوس المُسلِمين وغير المُسلِمين – العصمة، كما يقول العلماء الأصل في الدماء والنفوس العصمة إلا بيقين الحل، هل القرآن أغفل هذا الحد ولم يذكره؟ القرآن ذكر الردة في مواضع كثيرة جداً، وماذا نصب لها من عقوبة؟ عقوبة أُخروية، وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ۩ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ۩، لم يذكر في موضع واحد أن مَن يرتد يُقتَل، لم يقلها مرة واحدة! لكن القرآن ذكر حد المُحارِب، المُحارِبون مثل قطّاع الطرق، مثل الذين يخرجون بقوة مُسلَّحة – كما قلنا – لتغيير الأوضاع وفرض أجندة مُعيَّنة حزبية أو طائفية على المُجتمَع بالقوة، ويفتئتون على السُلطة الشرعية في المُجتمَع، هؤلاء مُحارِبون، هؤلاء الذين يُقتَلون! فنحن نفهم أن الردة ردة المُحارِب، ليست الردة الفكرية والعقدية، لذلك نحن نستاء – صدِّقيني أنا ربما أكثر استياءٍ منكِ – جداً جداً من هؤلاء ضيقي الآفاق من بعض دُعاة الإسلام أو مُدّعي الدفاع عن الإسلام الذين ينادون بالقتل وبالتجريم وبذبح إنسان من أجل مُجرَّد رأي كتبه، ليقل ما يقل، القرآن عرض آراء أكثر من هذا، واكتفى فقك بتفنيدها ودحضها، لم يرفع سيفاً لتصفية الناس، هذه واحدة!

ثانياً تسأليني أين كنائس النصارى الآن في البلاد الإسلامية؟ سأُجيبك من جهتين، لأكون مُنصِفاً أيضاً وواقعياً، أولاً لست أرضى – وهذه الخُطة غير مقبولة ولا معقولة عندي – أن يُحاكَم الإسلام العظيم إلى وضع مُنحَط يُعاني منه المُسلِم قبل أن يُعاني منه المسيحي، لا تستطيعن أبداً الآن أن تقولي إن هناك دولة – ولن أذكر أسماء – تُطبِّق الإسلام فعلاً تطبيقاً مقبولاً وتطبيقاً مُنصِفاً، إنها دول تُعاني انحطاطاً واستبداداً، نُظم شمولية ديكتاتورية، التي تتكلَّم باسم الدين تُتاجِر باسم الدين وتلعب باسم الدين وتغتال الأموال والحريات باسم الدين، ويُعاني المُسلِمون – ولا أقول يُعاني الإسلاميون وإنما أقول يُعاني المُسلِمون العاديون – كما يُعاني النصارى وغيرهم في ظل هذه الدول الشمولية السيئة السيرة، فلا تُحاكِمي الإسلام العظيم إلى وضع مُنحَط أبداً، لا نفخر بالاحتكام إليه.

ثانياً إذا أردتِ أن تري حُكم الإسلام في بناء الكنائس، في ترميمها، وفي تجديدها فالأمر واضح جداً، هناك علّامة عراقي اسمه عبد الكريم زيدان، هذا رسالته للدكتوراة في الأزهر الشريف – وأخذها برُتبة الامتياز – كانت عن حقوق الذميين والمُعاهَدين والمُستأمنين في الشريعة الإسلامية، ورجَّح فيها المذاهب الإسلامية، ومنها مذهب إخواننا الزيدية في اليمن، أن الصحيح جواز البناء والإنشاء والترميم أيضاً للكنائس ولكُنس – سيناجوجات Synagogues – اليهود في الحضارة الإسلامية وفي البُلدان الإسلامية، هذا هو الصحيح والذي تدل عليه الأدلة، الله نفسه يقول إنه مُتشوِّف لأن تبقى هذه المعابد، وليس مُتشوِّفاً أن تتداعى إلى السقوط فتسقط وننتهي منها، الله لم يقل هذا أبداً، ورأيتِ كلام المقريزي وكلام الليث بن سعد.

سأقتبس الآن الأديب العالمي والفائز بأكثر من جائزة فرنسية أمين معلوف، وهو مسيحي لبناني كما تعلمين، أمين معلوف عنده كتاب أكثر من رائع، التقى معه ببعض الأفكار البروفيسور Professor @@@1:23:33 في كلمته الرائعة، اسمه الهُويات القاتلة، عنده بعض الجُمل التي يتوافق معها تماماً، في الهويات القاتلة قال سأكون صريحاً وأتساءل – وهو المسيحي الذي يعتز بمسيحيته، هو مسيحي، لم يتحوَّل إلى الإسلام، ولم يُتهَم بأنه مُنحاز إلى الإسلام، هذا أمين معلوف، الروائي الشهير – لو أنني كنت من قبيل المُسلِمين – أي من قبيلة إسلامية – واجتاح بلادي واجتاح بلادي جيش مسيحي في العصور الوسطى، هل كنت سأبقى إلى اليوم مُسلِماً وعندي مسجدي؟ يقول الحق لا، لم أكن لأبقى، قال وعندي تجارب من تاريخي المسيحي، وذكر بعضها ولن نُذكِّركم بتاريخ المُسلِمين واليهود في الأندلس التي عاش فيها اليهودي والمُسلِم والمسيحي ثمانية قرون، بل وزر فيها – أي فاز بالوزارة – أكثر من مسيحي وأكثر من يهودي، يقول أمين معلوف نفسه والواقعة الفصيحة الدلالة جداً هي أن يكتب موسى بن ميمون رائعته الفكرية دلالة الحائرين باللُغة العربية، ومعروف مَن هو ابن ميمون والمناصب السياسية التي وصل إليها، قال لكن الذي حصل أن الجيوش الإسلامية اجتاحت بلاداً فيها معابد مسيحية وغير مسيحية وهي قائمة إلى يوم الناس هذا، قائمة في أمان!

أنتِ سألتيني حضرتكِ عما فعل المُسلِمون بأقباط مصر، سأقول لكِ شيئاً، كان حرياً بكِ يا سيدتي الفاضلة أن تتساءلي حين اشتبك المُسلِمون هل اشتبكوا مع أهل مصر أو مع الجيش الروماني الغازي؟ (ملحوظة) قالت السيدة المُتسائلة لماذا؟ فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم أنا سأقول لك لماذا، عليكِ أن تتساءلي أولاً لماذا كان ينبغي على الرومان أن يأتوا من بلادهم ليحكموا مصر وليُحيلوها خمسة قرون إلى مزرعة ومخزن للغلال ولا يُعطى أهل مصر إلا أقل من عُشر بُعيشير ما تجود به أيديهم وما تثمره أرضهم، كان جديراً بكِ أيضاً وبي أن نتساءل لماذا يُضطهَد مئات الآلاف من اليعاقبة المصريين القائلين بالطبيعة الواحدة على يد المسيحيين الرومانيين الملكانيين – المسيحية الملكانية أي المنسوبة إلى الملك وإلى السُلطة الرسمية – من القائلين بالطبيعتين؟ وحتى أنهم بقوا لعشرات السنين – وتعرفين هذا التاريخ، تاريخ إخواننا الأقباط – في المغاوير والفلوات والصحاري، وأنا ذكرت ما كان من شأن البطريرك بنيامين Benjamin الذي ظل بضع سنين هائماً على وجهه، لا يستطيع أن يعود إلى أسقفيته ولا يستطيع أن يُمارِس حريته الدينية، في الحق أن المُسلِمين في الشام وفي العراق وفي مصر – انتبهوا – لم يشتبكوا مع أهل البلاد، وإنما اشتبكوا مع المُحتَل الغازي، المُحتَل الغازي الذي صادر حريات الشعوب الأصلية، وصادر – الآن تقولين لماذا؟ – حريات الدُعاة، هناك دُعاة من المُسلِمين يُريدون أن يُبشِّروا بدينهم، وستسأليني مرة أُخرى – ومن باب التنزل – وهل تسمحون أنتم معاشر المُسلِمين أن يُباشِر الدُعاة المسيحيون التبشير بدينهم في بلادكم؟ أنا سأقول لكِ بمُنتهى الوضوح ليس عندي أدنى حريجة ولا أدنى غضاضة أن يفعلوا ذلك، وقد فعلوه في تاريخنا! ارجعي إلى العلّامة الكبير فيليب حتي – الماروني اللبناني المُتأمرِك أيضاً، وهو مُؤرِّخ ثقة عند الغربيين على الأقل – وجورج جبور في تاريخ العرب المُطوَّل حين يقول وفي العهود العباسية كان للمسيحيين العرب مراكز تبشير في الهند وفي الصين انطلاقاً من الحواضر العربية، ما رأيكِ؟ يجب أن نقرأ التاريخ بدقة، يجب أن نتعمَّق التاريخ.

سأقول لكِ اقتباساً أخيراً من دو جوبينو De Gobineau، الفيلسوف الأعراقي – Racist – الفرنسي، جوبينو Gobineau معروف! وهو عرقي كبير جداً، صاحب كتاب الفروق بين الأعراق البشرية، وهو مُؤسِّس للفلسفة العنصرية، لكنه صاحب كتاب أديان آسيا، يقول جوبينو Gobineau في الحق أنه إذا انفصلت العقيدة عن السياسة التي طالما ولطالما تحدَّثت باسمها – أي السياسة تحدَّثت باسم العقيدة – وتوسَّلتها لكي تصل إلى مآربها فإننا لن نجد ديناً عل الإطلاق أكثر تسامحاً مع الآخرين من الإسلام.

إذا قرأنا التاريخ بدقة – لنكن مُنصِفين – فسنجد أن هذا الإسلام قد تسامح – وهو مُتسامِح – إلى حدود ربما تكون أبعد من المألوف، أبعد مما يُمكِن أن نتخيَّل، وسأقتبس أخيراً بول كينيدي Paul Kennedy المُؤرِّخ الأمريكي العظيم المُعاصِر لنا الآن في كتابه الاستعداد للقرن الحادي والعشرين Preparing for the Twenty-First Century، يقول في كتابه – ومطبوع مُنذ أكثر من بضع عشرة سنة – بول كينيدي Paul Kennedy إن ما فعله الغرب الأوروبي أولاً ثم أمريكا بلدي ثانياً بالشرق الإسلامي – وذكر بعض ما فعلوه من تاريخ استعمار وتاريخ تقسيم وتاريخ انتهاب ثروات – هو ما يجعل الشرق العربي والإسلامي على ما هو عليه اليوم، أنا طبعاً يُؤسِفني هذا، والله ما كنت أُحِب أن أذكر هذه الحقائق، لأنها قد تُنغِّص على بعض إخواننا المسيحيين، لكن للأسف فيها بعض حقائق التاريخ، وطبعاً هناك بعض البُقع المُظلِمة في تاريخنا أيضاً، نعم! سأعترف بهذا، هناك بعض وقائع الاضطهاد للمسيحيين واليهود في تاريخنا، لكنها وقائع منزورة وقليلة، والعلّامة جورج قرم – الماروني اللبناني – في رسالته للدكتوراة في باريس عن أنظمة الحُكم وتعدد الأديان قال مشوار الإسلام مع الأقليات الدينية كان مُتسامِحاً جداً، والحالات الاستثنائية يسيرة، هذه حالات Ausnahme أو Exception، الحالات الاستثنائية اليسيرة إنما كانت بأسباب ثلاثة، المِزاج الشخصي لبعض الحكّام المجانين أو المهابيل أو السيكوباتيين Psychopathic، أي غير الطبيعيين، مثل المُتوكِّل الذي عانى منه المُعتزِلة كما عانى منه النصارى، المُتوكِّل! ومثل الحاكم بأمر الله الذي عانت منه كل الفرق الإسلامية، عدا ربما المُوحِّدين أو الدروز، والسبب الثاني هو استخدام القوات الأجنبية الغازية للأقليات – وخاصة المسيحية – من أجل أهداف ومقاصد استعمارية، هذا شوَّش عليهم وجعلهم أحياناً يدفعون الثمن، يقول جورج قرم والسبب الثالث والأخير – وهذا تحليل وهذه معلومات تاريخية دقيقة جداً – سوء وتردي الأوضاع الاقتصادية والإدارية التي كان على رأسها بعض أهل الذمة مِمَن عسفوا بالمُسلِمين وأساءوا إليهم جداً، فحصل عند المُسلِمين نوع من ردة الفعل، أي أسياد علينا ويعسفون بنا فحدث نوع من الاضطهاد، ثلاثة أسباب! فيما عدا ذلك المشوار كان مشواراً تسامحياً طويلاً جداً.

بول كينيدي Paul Kennedy يقول نحن لا نتساءل ماذا فعلنا بالمُسلِمين؟ وماذا فعلنا بالشرق الإسلامي؟ يقول إن ما فعلناه هو ما يجعل الشرق العربي والإسلامي على ما هو عليه اليوم، وبأقل كثيراً مما يُريد المُعلِّقون الغربيون أن يعترفوا، أقل كثيراً!

قلت مرة في مُؤتمَر عبارة أرجو أن تكون واضحة لنا جميعاً، قلت بوسع الكل والآن أقول بوسعكي أن تقرأي عشر مُجلَّدات عن تاريخ فلسطين أو تاريخ الجزائر، عشر مُجلَّدات! لكنني لن تفهمي حقاً ما يحدث اليوم في فلسطين أو الجزائر، لكن لو قرأتي مائة صفحة عن تاريخ الاستعمار والبغي والظلم في الجزائر وفي فلسطين ستفهمين بوضوح كثيراً على الأقل – وإن لم يكن كل – مما يجري اليوم في فلسطين وفي الجزائر.

أخيراً – حتى لا آخذ حق غيري في السؤال أيضاً والمُدافَعة عن وجهة نظره – يوم دخل  دي روفيغو De Rovigo نائب الحاكم العسكري الفرنسي في الجزائر – الجزائر العاصمة – في ألف وثمانمائة وثلاثين سأل عن أعظم وأجمل مساجدها وأعرقها تاريخاً، فقيل له المسجد الفلاني، (ملحوظة) قال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم لأحد الحضور والله نسيت اسمه يا بروفيسور Professor، فقال له كِتشاوة Ketchaoua، فقال فضيلته مكتوب بالعربي فِتشاوة وهذا خطأ، اسمه الصحيح هو كِتشاوة Ketchaoua، قيل له مسجد كِتشاوة Ketchaoua التاريخي العريق، أعظم المساجد أو من أعظمها! وكان في المسجد – هذه حقائق تاريخية مكتوبة في مصادر غربية – أربعة آلاف مُصلٍ يعبدون الله ويذكرون اسمه، فحُصِدوا عن آخرهم، ذُبِحوا كما تُذبَح النعاج، وفي ألف وثمانمائة واثنين وثلاثين دُشِّن افتتاح أول كاتدرائية للمُستعمِر الفرنسي في الجزائر في محل كِتشاوة Ketchaoua، ووقف دي روفيغو De Rovigo بتبجح يقول نحن اليوم هنا في افتتاح هذه الكاتدرائية المُبارَكة، لقد آذنت آخر أيام الإسلام بالزوال في هذا البلد، في بلد المُسلِمين! قال من هنا وإلى عشرين سنة قادمة لن يبقى شيئ اسمه إسلام أو مُسلِمون في هذه البلاد، كما أننا – دي روفيغو De Rovigo يقول – لا نشك لحظةً أن هذه الأرض هي لنا وتابعة لنا، لا نشك لحظة في أن كل ما عليها وما فيها من ثروات هو لنا، أما هؤلاء المُسمَون بالمُسلِمين فسيكونون ملكاً لنا وتبعاً لنا إذا ما آثروا أن يُصبِحوا مسيحيين، انتبهوا!

هل تعلمين يا سيدتي الفاضلة أن أبا القانون الدولي الأوروبي غروتيوس Grotius رفض في كتاباته أن تُعامَل الأمم غير المسيحية مع الأمم المسيحية على قدم سواء فيما يتعلَّق بالقانون الدولي؟ هل تعلمين أن فرانسوا الأول François Ier – ملك فرنسا – لما وقَّع مُعاهَدة مُمتازة جداً مع الملك سُليمان القانوني واستفاد منها المسيحيون الغربيون الذين يُؤثِرون الإقامة في الربوع الإسلامية بحيث أنهم رُفعِت عنهم الضرائب وما شاكل وأخذوا امتيازات كثيرة رفض كثيرون من فقهاء القانون الدولي هنا هذه المُعاهَدة وثرَّبوا وشنَّعوا على فرانسوا الأول François Ier؟ شنَّعوا! لماذا؟ (ملحوظة) رغبت إحدى الحاضرات في أن يُعيد الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم هذه الجُزئية، فقال فضيلته فرانسوا الأول François Ier – ملك فرنسا – لما وقَّع مُعاهَدة مع السُلطان العثماني سُليمان القانوني كان من أكبر المُستفيدين منها الرعايا المسيحيون الغربيون الذين يودون أن يقطنوا ويُقيموا في الربوع الإسلامية، رُفِعت عنهم ضرائب ومكوس وعشور كثيرة جداً، وصار لهم امتيازات! وبالمُناسَبة طبعاً يُسعِدني أن أقتبس مرةً ثانيةً معلوفاً – أمين معلوف – الذي قال قد لا يعرف كثير منا – من القارئين – أن إسطنبول – أعظم حاضرة إسلامية في القرن التاسع عشر – كان مُعظَم سُكانها من المسيحيين، وليس من المُسلِمين، قال ونحن اليوم في القرن العشرين قد لا نتخيَّل إمكانية أن يكون نصف سُكان – يقول هذا – باريس أو لندن أو برلين أو فيينا – ذكر هذه العواصم الأربعة – من المُسلِمين، بل ما زلنا نشعر بالنكير حين نسمع صوت المُؤذِّن في ربوعنا المسيحية هنا، لا نتقبَّل هذا!

بحمد الله نحن في النمسا هنا قطعنا أشواطاً بعيدة جداً جداً، أعتقد لو أن أمين معلوف جاء هنا سيشد على أيدينا مسيحيين ومُسلِمين، حكومةً وشعباً كما يُقال، ومن جميع الطبقات، وهذا من فضل الله ومن فضل العقلاء على جميع المُستويات في هذا الشعب الكريم وهذه الدولة الكريمة.

المُهِم أن بعض فقهاء القانون الدولي لم يُعجِبهم توقيع فرانسوا الأول François Ier هذه المُعاهَدة الطيبة والمُتسامِحة مع سُليمان القانوني، والعلة ما هي؟ العلة أن هذا ليس من الأمة المسيحية، وإنما هو من شعوب مُحمَّدية، هي أقل وأحقر، ولا يُمكِن أن تُساوى بنا!

إذن عليكِ أن تُعيدي أعتقد قراءة ما حصل مرةً أُخرى، (ملحوظة) رغبت إحدى الحاضرات في إبداء رأيها فقال لها الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم تفضَّلي ثم قال حتى في بداية الدعوة أُذكِّركِ فقط يا سيدتي الفاضلة بالآتي، فيثينتي بلاسكو إيبانييث Vicente Blasco Ibáñez – المُؤرِّخ والمُستشرِق الإسباني الكبير – عنده كتاب يتحدَّث فيه عن الفتح الإسلامي للأندلس – شبه الجزيرة – اسمه في ظلال الكاتدرائية، يقول وهم بعيد  -وهم غير صحيح – أن نعتقد أن سبعة آلاف فاتح قد هزموا تسعة ملايين منا، قال فالحق أننا نحن الذين استنجدنا بهم وأعناهم وقدَّمنا لهم كل وسائل التيسير ليُخلِّصونا من الظلم المحلي، أنا سأسألكِ عدد المُسلِمين الذين فتحوا مصر القبطية كم كانوا؟ أربعة آلاف، أكثر مَن قدَّم لهم العون الشعب المصري، هل قرأتِ تاريخ مصر القبطية ليوحنا النقيوسي John of Nikiû القبطي الذي عاش في القرن الثاني عشر والذي طبعه الآن مُتخصِّص قبطي كبير وله الفضل والمنة بطباعته؟ يوحنا النقيوسي John of Nikiû مثله مثل ميخائيل السرياني Michael the Syrian في الشام سجَّل شهادة تاريخية، قال لأن الرب في عليائه لما رأى ظلم الرومان وعسفهم بنا وعدم استماعهم إلى أناتنا وإلى عذاباتنا أتى من الجنوب بأبناء إسماعيل لكي ننعم في ظلهم بالأمان والراحة والسلام، اقرأي تاريخ مصر ليوحنا النقيوسي John of Nikiû.

(ملحوظة) سأل بعض الحضور عدة أسئلة، فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم مُجيباً بسم الله الرحمن الرحيم، بالنسبة للأخ الذي قال مَن يتكلَّم الذي على الإسلام في النهاية يُضرَب ويُهان حاولت أن أُجرِّد سؤالاً من خلال مُداخَلته، لكن هذا التجريد يحتمل مُخاطَرة، لم أعرف ماذا يُريد أن يقول، إذا كان يود أن يقول نحن الآن في الجانب المظلوم والجانب المُضطهَد فإنني أقول له من واجبنا ومن المفروض علينا أن نُدافِع عن أنفسنا، لكن الدفاع عن أنفسنا لا يكون بالأعمال الإرهابية، باستهداف المدنيين، بقتل الأطفال، بقتل الآمنين، وبقتل النساء! أنا سأكون صريحاً معك ومعكم جميعاً، وقد قلت هذا أيضاً من قبل مراراً وتكراراً، يسوءني جداً جداً أن نعيش في هذه البلاد – على الأقل نتمتَّع بالأمان، كما كان يقول الشيخ محمد الغزّالي أنت هنا في فيينا أو في مدريد أو في باريس أو في لندن تنام ملء عينيك، لكنك في أي عاصمة عربية مُهدَّد بالاعتقال والاختطاف في كل لحظة – ثم يأتي بعد ذلك بعض مَن يتحمَّس للإسلام بجهل ليُبارِك عمليات إرهابية فعلاً – لا أُسميها أقل من إرهابية – وعمليات مجنونة ضد النساء والأطفال والشيوخ والمُسالِمين في قطار أنفاق – مثلاً – لندن أو في مدريد وحتى في أبراج نيويورك، لا يُمكِن أن نُبارِك هذا، هذا لا يُمكِن أن يرضى عنه الإسلام بحال من الأحوال.

الإسلام علَّمنا شيئاً هاماً حين تنشب الحرب بيننا وبين مَن عادانا ونحن بسبيل الدفاع عن أنفسنا، واقرأوا وصية محمد ووصية أبي بكر ووصية عمر إلى الجيوش المُدافِعة والذابة، اغزوا باسم الله وفي سبيل الله، قاتلوا هؤلاء مَن كفر بالله، أي واعتدى، لا تقتلوا شيخاً كبيراً ولا امرأةً ولا طفلاً، لا تُخرِّبوا عامراً، لا تعقروا بقرةً أو شاةً إلا لمأكلة، لا تحرقوا نخلاً، إلى آخره! أبو بكر يزيد في وصيته ليزيد بن سُفيان، يزيد بقوله: وستمر بأقوام قد فرَّغوا أنفسهم لعبادة الله في الصوامع والديورات – يتحدَّث عن الرُهبان – فخلهم وما فرَّغوا أنفسهم له، ممنوع الاقتراب منهم! لكن أن تأتي وتُمارِس القتل بالجُملة ولا تُميِّز فهذا غير مُمكِن.

أنا أقول لك بعض مَن يتكلَّم باسم القرآن للأسف قال لي يا شيخ ولكن الله يقول وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ۩، هم ظلمونا وسنظلمهم، هم قتلونا وسنقتلهم! فقلت له لو كنت تفهم القرآن لما قلت ما قلت، قال كيف؟ قلت له هناك مبدأ إنساني وهناك مبدأ قرآني ومبدأ مِلي وديني، أنا حين أُعاقِب – وَإِنْ عَاقَبْتُمْ ۩ – أُعاقِب البريء أم المُجرِم؟ قال لي المُجرِم، قلت له مَن المُجرِم؟ المُجرِم السيدة هذه في الأنفاق، الإنسان هذا المسكين في البرج أو في الشارع، أم هذا الجُندي المُسلَّح الذي غزاك في عقر دارك؟ هذا الجُندي المُسلَّح الذي غزاك في عقر دارك هو مَن يجب أن تتصدى له، لا أن تجترح بطولات وهمية، بطولات زائفة، بطولات فرزدقية، هذا العمل أنا أُسميه عملاً إرهابياً وجباناً، لأن كل جبان يستطيع أن يعمل هذا العمل يا أخي، أن يُلغِّم نفسه ثم يُفجِّر نفسه في الآمنين! لا يُمكِن أن نُبيح هذا بأي حال من الأحوال، هذا إرهاب مدموغ، إرهاب موصوم، يبرأ منه الإسلام.

هل تعلم أن من شرع رسول الله – عليه السلام – في ساحة المعركة – حتى في الساحة – لا يُقتل إلا مَن أعد نفسه للقتال؟ النبي رأى في ساحة المعركة امرأةً مقتولةً فغضب حتى عُرِف هذا في وجهه، احمر وجهه! وأشار إليها مُغضَباً وقال ما كانت هذه لتُقاتِل، فيمَ قُتِلت؟ فيمَ قُتِلت هذه المرأة؟ ولذلك النبي نهى عن قتل هؤلاء، فكيف تقتل مدنيين في الشوارع وفي الأنفاق بغير جريرة؟ هل تعلم أن مدريد بالذات ولندن هي التي سيَّرت مُظاهَرات مليونية ضد احتلال العراق؟ فشلت عواصم العرب أن تُسيِّر مثلها، لذلك أنا أقول لك عليك أن تسلك الطريق التي لا تُستسهَل، الطريق السهلة هي طريق الغدر، طريق الإرهاب، وطريق قتل الآمنين، كل جبان يستطيع أن يفعل ذلك، الطريق الصعبة أن نعود إلى بلادنا هناك ونُناضِل بالقلم، بالكتابة، بالخطابة، وبأنفسنا، أنا أُخاطِب نفسي أولاً! أن تعود هناك وُتحاوِل أن تُغيِّر الأوضاع، لكي تكون هناك لك دولة ولك سُلطة ولك سطوة يُمكِن أن تُدافِع عنك بشرف، دفاع جُندي أمام جُندي، وليس دفاع إرهابي بإزاء مظاليم أبرياء ضحايا، هذا إذا كان ما تحوم حوله ما ذكرت ولا أظنك إن شاء الله تعالى.

بالنسبة للأخ الفاضل الذي ذكر دليلاً على قتل المُرتَد من التوراة والإنجيل أقول له أنا في الحقيقة مُسلِم، ولا أستمد الدليل الشرعي من التوراة والإنجيل مع احترامي لهما، لأنني لست مُلزَماً شرعاً بأن آخذ شرعي – تفاصيل شرعي الحنيف – من التوراة والإنجيل مع احترامي لما فيهما من الحق، انتبه! فإذا أردت أن تبحث عن دليل مُقنِع لقتل المُرتَد فعليك أن تبحث عنه في مطاوي الأدلة الشرعية من كتاب أو سُنة، لا تبحث عنه فيما سوى ذلك.

ثالثاً سؤال أخينا أحمد – بارك الله فيه – عن الآية الثانية والستين من سورة البقرة، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ۩، أنا أقول لك ليست الآية الثانية والستين فقط، بل هناك آية نظيرتها في سورة المائدة، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ۩، لكن الفرق فيها أن وَالصَّابِئُونَ ۩ مرفوعة على الاستنئاف، وَالصَّابِئُونَ ۩ كذلك، يقول هذا من باب لحن أو كسر الإعراب، نفس الآية! أعجب من هذا أيضاً قوله – تبارك وتعالى – لَيْسُوا سَوَاءً ۩، أهل الكتاب لَيْسُوا سَوَاءً ۩، لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ۩، انتبه! لا تقل لي المقصود بقوله مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ۩ الذين أسلموا، هذا كلام فارغ وتحميل للقرآن ما لا تحتمله اللُغة، الله يقول مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ۩، تحدَّث عنه ونعت له بوصفه كتابياً، مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ۩، سأقول ما انتهى إليه اجتهادي في هذه المسألة المُشكِلة جداً، وطبعاً أنا أعلم أن هذا الاجتهاد حقيقٌ أن أُكفَّر عليه وبسببه من كثير من المُسلِمين الذين ينتظرون فُرصة كهذه، لكن باختصار سأقول – وهذا اجتهاد، قد أكون مُخطئاً فيه، أنا مُستعِد إلى الفيئة إلى الحق ريثما ظهر الحق إن شاء الله بالدليل – الذي بان لي أن الكتابي يهودياً أو نصرانياً ليس مُلزَماً بأكثر من أن يُقِر بنبوة محمد، يقول نعم، هذا نبي، لكنه ليس مُلزَماً بأن يتبعه وأن يتديَّن بشرعه، لأنه إن آمن بأنه نبي ورسول هو مُخيَّر بعد ذلك أن يُقيم كتابه، لكن أن يُقيم كتابه! قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ ۩، انتبه! في آية أُخرى يقول أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ ۩، إياك أن تخلط فتقول لي معنى وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم ۩ القرآن، هذا كلام فارغ، وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم ۩ وليس وما أُنزِل إلينا، إذا آمن الكتابي بمحمد فلا يُعتبَر كافراً بمحمد، لكنه ليس مُلزَماً بالاتباع، إن اتبعه فله أجران، النبي يقول ثلاثة يُؤتون أجرهم مرتين، رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي، والمعنى أنه إن لم يُؤمِن به لكن لم يكفر – لم يتبعه ولم يكفر – فله أجر واحد، لكن إن كفر بمحمد وجدَّف على محمد واعتبره مُهرطِقاً وكذّاباً فشرع محمد يقول إنه قد كفر بما أنزل الله، لأن الذي أنزل ما أتى به محمد هو الذي أنزل التوراة والإنجيل، ومحمد عرض لنا خُطته المِلية على هذا الأساس، يقول أنا مُجرَّد حلقة وإن تكن أخيرة في سلسلة مُمتَدة، سبقني فيها عيسى الذي سبقه بدوره موسى وسبقهما أبوهما وشيخهما إبراهيم المُوحِّد العظيم، وهكذا نوح إلى آدم أبي الأنبياء وأبي البشر، النبي يقول الأنبياء أولاد علات أو إخوة لعلات، أماتهم شتى ودينهم واحد، الدين هو التوحيد وهو دين سماوي واحد، أما الشرائع – هذا حلال وهذا حرام – فتختلف، ولا بأس أن تختلف لكن – كما قلت – بشرط.

طبعاً هنا سأذكر ما انتهت إليه الكنيسة الكاثوليكية مُمثَّلة بالفاتيكان Vatican في الستينيات كما تعلمون بعد ثلاث سنوات من البحث والمُدارَسة والتنقيب، انتهوا بحمد الله – وينبغي علينا كمُسلِمين أن نعرف هذا – إلى أن الخلاص – الــ Salvation – مُمكِن خارج الكنيسة ومُمكِن في الإسلام، انتهت الكنيسة الكاثوليكية في روما إلى أن المُسلِم الذي يتبع دينه ويتقي الله يُمكِن أن يكون مُخلَّصاً – إن شاء الله – وأن ينجو وأن يكون من المُهتدين.

ونحن كمُسلِمين من باب أيضاً مُعاوَدة النظر في بعض قطعياتنا وثوابتنا علينا أن نُعيد قراءة القرآن بدقة، انتبهوا! ولا ينبغي أن يصرفنا عن ذلك أحاديث آحاد ظنية يُراد منها أن نُقرِّر مفاهيم أُخرى وعقائد أُخرى، القرآن واضح جداً، لَيْسُوا سَوَاءً ۩، يقول وَأُولَٰئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ۩، وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ ۩، يقول وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ۩، ولا داعٍ للتأويلات التي لا يقوم عليها دليل، والله – تبارك وتعالى – أعلم.

هذا قصارى ما يُمكِن أن يُلخَّص في هذا الميدان، وهو قابل للنقاش كما قلت لكم، والله – تبارك وتعالى – يقول الحق وهو يهدي السبيل. 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: