برنامج آفاق

حكاية الجزية

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.

اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِنا علماً.

إخواني وأخواتي:

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، كما وعدتكم في حلقة سابقة سأتحدَّث هذه المرة عن الجزية، ما هي حكاية الجزية التي يبرز بين الحين والحين وبين الفينة والفينة مَن يُطالِب بإعادة فرضها على غير المُسلِمين الذين يعيشون بين ظهراني الأكثرية المُسلِمة في بلاد الإسلام؟

الجزية – أحبتي في الله، إخواني وأخواتي – تُعرَّف اصطلاحاً (في اصطلاح السادة الفقهاء) بأنها المال الذي يُدفَع لقاء عقد الذمة، وعقد الذمة طبعاً يكون لغير المُسلِم، لكن قبل أن أمضي في الكلام على شروط الجزية ومُتعلَّقاتها أود فقط أن ألفت إلى أنه ليس بالضرورة أن يكون هناك مُلازَمة بين الجزية – أي دفع الجزية – وبين عقد الذمة، بمعنى أن عقد الذمة أوسع، قد يكون على جزية، وقد يكون بغير جزية، بدليل أننا سنتحدَّث بُعيد قليل عمَن تُؤخَذ منهم الجزية، وسنرى أن أصنافاً كثيرين من غير المُسلِمين الذين يدخلون في ذمة الله ورسوله وذمة المُسلِمين لا يدفعون جزية ولا تُدفَع عنهم جزية، لا يدفعون بأنفسهم ولا تُدفَع عنهم جزية، إذن فعقد الذمة أوسع من موضوع الجزية، لا يتطابقان، العلاقة عموم وخصوص مُطلَق، الجزية تُؤخَذ دائماً مِمَن تُعقَد له الذمة، لكن الذمة قد تُعقَد من غير دفع جزية، وسيضح هذا حين نتكلَّم عن الشروط.

شروط الذين يدفعون الجزية:

هذه الشروط بعضها وقع الاتفاق عليه، وبعضها وقع الاختلاف فيه بين السادة الفقهاء، فمن الشروط التي اتفقوا عليها البلوغ، فلا يدفعها الطفل الصغير، الإنسان إذا لم يبلغ لا تجب عليه جزية، إذن أولاً البلوغ، ثانياً العقل، فلا تجب على المجانين، إذن لا تجب على صغار أهل الذمة، ولا تجب أيضاً على المجانين، الذين رُفِع عنهم قلم التكليف، ثالثاً الذكورة، فلا تجب على الإناث، أي نساء وبنات وعجائز أهل الذمة لا يدفعون جزية، وهذا من تسامح الإسلام ومن رحمة تشريعه، من تسامحه ومن رحمة تشريعه! فالقضية ليست قضية أخذ أموال الناس، وسوف نرى لماذا، هناك مغزى مُعيَّن، هناك حكمة من وراء فرض الجزية على أُناس بأعيانهم، وسوف نرى أنهم فقط هم القادرون على حمل السلاح، القادرون على حمل السلاح! غير هؤلاء لم يقع الاتفاق على تدفيعهم الجزية.

رابعاً الحرية، الحرية وتُقابِلها العبودية، ولذلك لا جزية على عبيد أهل الذمة، خامساً أيضاً الراهب المُنقطِع للعبادة لا يدفع الجزية، الراهب المُنقطِع للعبادة في دير أو في صومعة لا يجب عليه أن يدفع الجزية، لأن هؤلاء فرَّغوا أنفسهم لعبادة الله – تبارك وتعالى -، وليس من عادة الرُهبان كما قال السادة الفقهاء أن يُشارِكوا أقوامهم في تدبير الحرب بالرأي والمكيدة والإعداد، وطبعاً هم لا يُشارِكون أقوامهم بمُباشَرة الحرب فعلياً، لكن أيضاً الرُهبان لا يُشارِكون بالتدبير بإعطاء الرأي والشورى والمكيدة، هم مُنقطِعون للعبادة، ولذلك لا نعرض لهم بشيئ، لا نُدفِّعهم الجزية، وحين ينشب القتال فقد تقرَّر بحسب الأحاديث عن رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – ووصايا الخلفاء الراشدين كأبي بكر – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين – ألا يُتعرَّض لهم، بل أُمِر الجيش المُسلِم بأن يدعهم وما فرَّغوا أنفسهم له.

سادساً أيضاً الفلّاحون والعملة الفعلة في الأرض يا إخواني، الفلّاحون والحرّاثون – يقول الفقهاء -، هؤلاء من عادتهم أو في العادة لا يُقاتِلون، الفلّاحون المُزارِعون لا يُقاتِلون، والكلام فيهم قليل، لكن كما لاحظ العلّامة ابن قيم الجوزية في كتابه الكبير أحكام أهل الذمة ظاهر كلام أحمد أنه لا يجب عليهم دفع الجزية، هذا ظاهر كلام أحمد، أما الشافعي من جهته فقال لا، يجب عليهم أن يدفعوا الجزية.

الشرط السابع السلامة من العاهات، السلامة من العاهات المُزمِنة، ويُقال الزمنى، الزمنى جمع الزمن، وهو المريض بمرض مُزمِن، والمرض المُزمِن هو المُلازِم لصاحبه، لا يُزايله، أي يموت ومرضه معه، يموت حاملاً مرضه، وهذا مريض مُزمِن، فأصحاب العاهات أيضاً المُعوَّقون كالصُم والبُكم والعُمي والمقعدين المفلوجين المشلولين وفاقدي بعض الأعضاء أو الأطراف، إلى آخره! هؤلاء في المشهور – إخواني وأخواتي – لا يدفعون الجزية، هذا تقريباً رأي الجماهير، وهو ظاهر الرواية في المذهب الحنفي، وقول يُنسَب للإمام الشافعي، أي أحد قوليه، وأيضاً مذهب الإمام أحمد بن حنبل، هؤلاء لا يدفعون جزية، بمعنى حتى لو كانوا أغنياء موسيرين لا يدفعون الجزية، لماذا؟ لأنهم في المُعتاد أيضاً لا يُشارِكون في الحروب، هؤلاء أصحاب العاهات والزمنى لا يُشارِكون في الحروب، والمالكية عندهم رأي مُختلِف، قالوا هؤلاء إذا كانوا موسيرين مُقتدِرين فيجب عليهم أن يدفعوا الجزية.

ثامناً طبعاً القدرة المالية، إن كان شاباً ومُعتمِلاً أو قادراً على العمل وقادراً على حمل السلاح، فهذا في هذه الحالة – وكان فقيراً طبعاً المقصود – يجب عليه أن يدفع، يجب عليه أن يدفع لأنه مُعتمِل، أو قادر على أن يعمل، لكن – إخواني وأخواتي – المشهور أنها تبقى ديناً في ذمته، الآن ليس عنده هذا، هو نعم قادر على العمل، لكن ليس عنده عمل بشكل فعلي، وليس عنده مال الآن، وليس عنده مال! وهو قادر على حمل السلاح، ولذلك يجب عليه أن يدفع الجزية، ولكن تبقى ديناً في ذمته.

وهناك مِن الفقهاء مَن خالف، أي هذا رأي راجح، لكن تقريباً مُعظَم الفقهاء قالوا لا، إذا كان غير مُعتمِل لا يجب عليه، لكن على كل حال مذهب الشافعية كما قلت لكم يجب عليه، وتبقى ديناً في ذمته.

مقدار الجزية، وهذا هو المُهِم الآن، كم هذه الجزية؟ يدفعها هذا الذمي، اليهودي أو النصراني أو المجوسي، وكما ذكرت لكم ربما في حلقات سابقة الذمة تُعقَد، وأوسع المذاهب فيها المذهب المالكي، الإمام مالك وأتباعه قالوا تُعقَد لكل صنوف الكفّار والوثنيين والمُشرِكين وأهل الأديان والمِلل والنِحل باستثناء كفّار مكة او كفّار قريش، أبو حنيفة مثله، لكن أضيق قليلاً، قال الذمة تُعقَد وبالتالي تُؤخَذ الجزية طبعاً بالشرط أو بالشروط التي ذكرناها من كل أيضاً الكفّار والوثنيين إلا كفّار العرب أو وثنيي الجزيرة العربية، وبعد ذلك مذهب الشافعي ومذهب أحمد قصراها، الشافعي وأحمد قصراها على أهل الكتاب، وألحقوا بأهل الكتاب المجوس، للحديث الوارد في السُنن عند أبي داود، سنوا بهم سُنة أهل الكتاب.

على كل حال فنأخذ الجزية من هؤلاء، ونُقدِّم لهم ماذا؟ الحماية والمنعة، ولا يُكلَّفون الدفاع عن الوطن، ولا خدمة العلم كما يُقال بلُغة العصر، ولا الالتحاق بالجيش أبداً، الحماية والمنعة مُقابِل الجزية، لكن مقدار الجزية ماذا عنه؟ مقدار الجزية فيه أقوال ومذاهب مُختلِفة، السادة المالكية قالوا الجزية على ما فرضها عمر بن الخطاب – رضيَ الله تعالى عنه – أربعة دنانير ذهبية على أهل الذهب، أي الذين يتعاملون بالعملة الذهبية، وهم طبعاً البيزنطيون، الروم! بلاد الشام – مثلاً – كانوا أهل ذهب، لأنهم كانوا مُحتلين من قِبل بيزنطة، أي القسطنطينية، وأربعون درهماً على أهل الورق، والورق هو الفضة، وطبعاً الدراهم كانت دراهم فضية، والدنانير الرومية كانت دنانير ذهبية، إذن في البلاد التي كانت تخضع للحُكم الكسري والحُكم الفارسي – هذه بلاد تتعامل بالورق، بالفضة، بالدرهم الفضي – على الفرد أن يدفع جزية، والجزية سنوية طبعاً، يدفع أربعين فضية أو أربعين درهماً، هكذا فرضها عمر – يقول المالكية -.

بالنسبة للإمام أحمد – رحمة الله تعالى عليه – قال هي دينار واحد، فقط! ليست أربعة، وإنما هي دينار على الكل، على أهل الورق وأهل الدنانير الذهبية، دينار واحد في السنة! أي شيئ زهيد جداً، في مُنتهى الزُهد، والشافعي كان من رأيه أن حدها الأدنى دينار، الشافعي قال حدها الأدنى دينار، لا يُنقَص عنه، ولكن يُمكِن أن يُزاد عليه، بحسب ما يرى إمام المُسلِمين أو ولي الأمر، فقد تقتضي المصلحة رفع هذه الجزية فيرفعها، من دينار إلى دينارين أو ثلاثة، حسبما يرى! هكذا تركها مفتوحة، هذا الإمام الشافعي.

الإمام أبو حنيفة وأتباعه درَّجوها ثلاث درجات، أعلاها ثمانية وأربعون درهماً، وأدناها اثنا عشر درهماً، وأوسطها أربعة وعشرون، أي مُضاعَفات، اثنا عشر، أربعة وعشرون، وثمانية وأربعون، إذن الأدنى اثنا عشر درهماً، وهذه للفقراء، لفقراء الذميين، يدفع الفقير الذمي اثني عشر درهماً، المُتوسِّط يدفع أربعة وعشرين درهماً، المُوسِر الغني الواجد يدفع ثمانية وأربعين درهماً، فهكذا درَّجوها ثلاث درجات.

على كل حال هناك مِن العلماء مثل الإمام سُفيان بن سعيد الثوري – رحمه الله تعالى – مَن ذهب إلى أن تقدير الجزية أمر اجتهادي، يعود إلى الإمام، حسبما يراه من المصلحة، أي حسبما يراه مُحقِّقاً للمصلحة، إذن المسألة اجتهادية مفتوحة، هذا قال به الإمام الثوري، حسنٌ!

مصارفها، أين تُصرَف الجزية؟ حين نأخذها من غير المُسلِمين أين نصرفها؟ تقريباً الرأي السائد عند جمهرة الفقهاء أنها تُصرَف في مصارف الفيء، بمعنى المصارف التي يُصرَف فيها الفيء، بحسب آية الفيء أو آيات الفيء تُصرَف الجزية، حتى أن كثيراً أو الكثير من الفقهاء والمُفسِّرين ذهبوا إلى أن آية الفيء يدخل فيها الجزية، الجزية داخلة في مُسمى الفيء، واعتبروا الجزية مما أفاء الله، اعتبروا الجزية من الفيء أو مما أفاء الله على المُسلِمين.

إذن مصارف الفيء ما هي؟ الفيء يُصرَف – إخواني وأخواتي – في مصالح الدولة العامة، في مصالح الدولة العامة! أي نفقات الخليفة أو الإمام الأعظم أو رئيس الدولة والحاكم الأعلى من الفيء إذن، وتدخل فيه الجزية، نفقات مُوظَّفي الدولة، النفقات الحكومية كلها من مصارف الفيء أو هي مصارف للفيء، من قُضاة ووزراء ومُدرِسين ومُعلِّمين، إلى آخره! كل هؤلاء المُوظَّفين الحكوميين يأخذون رواتبهم وأجورهم من أموال الفيء، أيضاً بناء الطرق والجسور وبعض المشاريع كشق الأنهار والترع وحفر الآبار، إلى آخره، إلى آخره! فهذه مصارف عامة.

كان من رأي الشيخ أيضاً محمد أبي زُهرة – إمام مصر في وقته، رحمة الله تعالى عليه، وهو أحد المُعاصِرين – أن الجزية يا إخواني يُنفَق منها على فقراء ومُحتاجي أهل الذمة، إذا احتاج ذمي من اليهود أو النصارى أو المجوس أو من غير هؤلاء فلا نُعطيه من الزكوات، لا نُعطيه من زكاة المُسلِمين، والزكاة لها مصارف معروفة مذكورة، والفقراء والمساكين من مصارف الزكاة الثمانية، في الأصل أنهم فقراء المُسلِمين ومساكين المُسلِمين، أما فقراء ومساكين غير المُسلِمين فيُعطون من أموال الجزية، وهذا كان رأي الشيخ الإمام محمد أبي زُهرة.

ولذلك الجزية – إخواني – بيت مال خاص، بيت مال خاص! يُسمى بيت مال الخراج والجزية، وذكرت لكم في حلقة سابقة أن بعض الفقهاء يُسمون الخراج جزية، هو جزية الأرض، يقولون هو جزية الأرض، والجزية جزية على الرؤوس، لذلك سماهم بعضهم ضريبة الجماجم أو مال الجماجم، وتُسمى بالجوالي، وأشياء كثيرة! ولكن هي مشهورة بالجزية.

متى تسقط الجزية؟ ذمي يجب عليه أن يدفع الجزية، لكن في أحوال مُعيَّنة تسقط عنه، لا يعود مُلزَماً بدفعها للدولة المُسلِمة، وطبعاً تسقط بالإسلام، لو أسلم انتهى الأمر، والآن سيدفع أكثر طبعاً، سيدفع أكثر! سيدفع الزكاة، وهي اثنان ونصف في المائة، الزكاة في العموم تتفوَّق على الجزية بمراحل، في العموم يا إخواني! لأن كما سمعتم الجزية مقدار ضئيل وزهيد، يُدفَع في السنة ويُقدَّر فيه حال – في الآراء التي سمعتموها أو في بعضها – الدافع، يُقدَّر فيه حال الدافع، من غنى ويسر أو من فقر وإعدام أو من توسط، فإذا أسلم سقطت عنه الجزية.

إذا مات أيضاً، وهناك تفاصيل طبعاً، متى يموت؟ وكذا وكذا، إلى آخره! لكن عموماً إذا مات تسقط عنه الجزية، ويُمكِن أن تسقط في المذهب الحنفي – عند أبي حنيفة وأتباعه – بالتداخل، ما معنى التداخل؟ مثل تداخل الكفّارات، التداخل هو أن تجتمع على الذمي جزى سنتين أو أكثر، علماً بأن الجزية تُجمَع على جزى، الجزية تُجمَع على جزى مثل لحية ولحى، هكذا! إذا اجتمعت جزى أكثر من سنة على الذمي عند الإمام الأعظم أبي حنيفة وأتباعه تتداخل، ما معنى تتداخل؟ يُلزَم فقط بدفع جزية السنة الحالية، أما السنوات السابقة فانتهى أمرها، نُسامِحه فيها، فهذا يُعتبَر أيضاً من ضمن مُسقِطاتها، لكن جمهور الفقهاء أن الجزى لا تتداخل، والله – تعالى – أعلم.

طروء الإعسار، ما معنى طروء الإعسار؟ الإعسار هو الفقر، ولكن هذا ليس فقراً أصلياً، ونحن قلنا لكم يُنظَر إلى القدرة المالية، إذا كان الذمي مُعتمِلاً أو إذا كان غير مُعتمِل فهناك أحكام، وإذا كان غير مُعتمِل من أصله فهذا لا تجب عليه، في رأي جماهير الفقهاء غير المُعتمِل لا يجب عليه أن يدفع جزية، أما إذا كان مُعتمِلاً وليس عنده الآن فهذا تجب عليه وتبقى مُعلَّقة بذمته، والمسألة فيها آراء، لكن نحن نتحدَّث الآن عن الإعسار الطارئ، هو كان غنياً أو كان مُتوسِّط الغنى، وفجأة دهمته ربما مشاكل مالية فخسر، أتت جائحة، اجتاحت أمواله أو اجتاحت ثماره وزروعه، فأعسر بإعسار طارئ، هذا اسمه الإعسار الطارئ، حالة طارئة! وإلا هو ليس فقيراً، إذن الإعسار الطارئ يا إخواني.

السادة الحنفية والسادة المالكية قالوا تسقط الجزية بالإعسار الطارئ، لكن اشترطوا أن يكون هذا الإعسار في أكثر الحول، لا أن يُعسِر شهراً أو شهرين أو ثلاثة وبعد ذلك يعود إلى الغنى، طبعاً لا نُسقِطها عنه، لكن إن أعسر أكثر الحول – أي أكثر من ستة أشهر وهو مُعسِر – فسينتهي الأمر، نُسامِحه في جزية هذه السنة، وننظر في السنة الموالية أو التالية، إن بقيَ مُعسِراً أيضاً سامحناه، إن عاد إلى الإيسار عادت إليه الجزية، وهكذا!

السادة الحنابلة قالوا لا، فخالفوا المالكية والحنفية في تفصيل دقيق، قالوا إذا كان مُعسِراً في أثناء الحول – هذا في أثناء الحول – تسقط عنه، أما إذا أعسر بعد انتهاء الحول لا تسقط عنه، وهذا قول وجيه، لماذا؟ لأن هي متى تترتب عليه؟ تترتب عليه في الحول، بدخول الحول! فإذا أعسر في أثناء الحول طبعاً تسقط عنه، لكن إذا انقضى الحول وهو غني ولم يدفعها – تأخَّر في دفعها، أو تأخَّرنا نحن في استدائه إياها وفي أخذها منه، ثم جاء حول آخر وأعسر – يختلف الأمر، هو مُلزَم بدفع الجزية، هذا رأي السادة الحنابلة، ومعقول جداً هذا، الحنابلة قالوا إذا كان إعساره في أثناء الحول تسقط عنه، أما إذا كان إعساره بعد الحول لا تسقط عنه، وهذا معقول جداً.

بالنسبة للسادة الشافعية لم يُسقِطوها بالإعسار الطارئ أبداً، لم يشترطوا شيئاً لا في الداخل ولا في الخارج، وقالوا يدفع، عليه أن يدفع، وطبعاً ليس عنده الآن ما يدفع فتبقى مُعلَّقة بذمته، ديناً كالديون أو كسائر الديون.

الترهب والانعزال عن الناس، قد يقول لي أحدكم أنت تحدَّثت عن الرهبانية، لكن لا، هذا الترهب الطارئ، بمعنى هناك شخص ذمي لم يكن مُترهبِناً، وبعد ذلك انسلك أو سلك نفسه في سلك الرهبانية، التحق بالرُهبان، أصبح الآن راهباً، بالنسبة للسادة الحنفية يُسقِطونها، قالوا تسقط عن المُترهبِن أو المُترهِّب بعد أن لم يكن كذلك، أي خرج من النطاق الدنيوي، وهذه تعبيرات الإخوة النصارى، قالوا لكم هناك علماني وهناك ديني أو روحاني أو كهنوتي، العلماني مثلنا، أشخاص لا يدخلون في الرهبة، أناس عاديون! وأما المُترهِّب أو الكهنوتي فهذا هو المُتروحِن المسلوك في سلك الرهبانية، وهكذا يُميِّزون، يقولون هذا علماني وهذا ديني أو كهنوتي، وهذا له علاقة بأصل العلمانية، ولذلك الناس كلهم كانوا يُعتبَرون علمانيين ما عدا مَن؟ رجال الدين، الرُهبان وطبقات رجل الدين المُختلِفة، أو الإكليروس Clergy بشكل عام.

إذن السادة الحنفية يُسقِطونها بالترهب الطارئ، وعكسهم الشافعية، فالشافعية مُتشدِّدون كما لاحظتم، الشافعية عموماً في أحكام الجزية عندهم تشدد، الشافعية لا يُسقِطونها بالترهب الطارئ.

الحنابلة مذهبهم كمذهبهم في الإعسار الطارئ، قالوا إذا ترهَّب بعد انقضاء الحول لا تسقط عنه جزية الحول الماضي، إذا ترهبن أو ترهَّب في أثناء الحول تسقط عنه.

الجنون، نحن قلنا من شروط وجوب الجزية العقل، شرط مَن دفع الجزية أو يجب عليه دفع الجزية أن يكون ماذا؟ عاقلاً، المجانين كالصبيان أيضاً وكغير البالغين لا جزية عليهم، فماذا عن الجنون الطارئ؟ هو كان عاقلاً ويدفع ثم جُن، فطبعاً هنا الجمهور على أنها تسقط بالجنون الطارئ، لكن بشرط أن يستمر أكثر العام، وهذا قول للشافعية، الشافعية مُتشدِّدون، ولكن هنا وافقوا الحنفية والمالكية، هذا قول عندهم، قالوا لا، الجنون إذا استمر أكثر العام تسقط به الجزية.

وكذلك العمى والزمانة والشيخوخة، عمي بعد أن كان بصيراً، وشاخ بعد أن كان كهلاً، وأصابه مرض مُزمِن، الحنفية يُسقِطون الجزية بهذه الأشياء الطارئة، والتي تأتي بحُكم الطبيعة، بحُكم التقدير، الشافعية لا يُسقِطونها.

آخر شيئ ربما عدم حماية أهل الذمة، ما معنى عدم حماية أهل الذمة؟ إذا لم تتمكَّن الدولة المُسلِمة من تحقيق الحماية والمنعة للذميين، وهذا شيئ رائع الآن، هذا ملحظ تشريعي رائع، إذن نحن نأخذ الجزية لا من باب القوة والاقتدار والتسلط على الناس، لا! نأخذها لكي نُؤمِّن لهم الحماية، المُسلِم يدفع الزكوات ويُشارِك في الجُندية، فكل بلد وكل وطن لابد أن يُحمى ويُدافَع عنه يا إخواني، أليس كذلك؟ جيد! المُسلِم يُشارِك – كما قلنا – في العسكرية وفي الجُندية، وهو يدفع الزكوات أيضاً، إذن النصراني، اليهودي، المجوسي، البوذي، والهندوسي – أياً كان – في الدولة المُسلِمة ماذا يفعل؟ هذا نأخذ منه جزية، هذا الملبلغ الزهيد، ونحميه، ونُدافِع عنه، نحن نُقاتِل عنه وعن أهله وعن عرضه، ونحمي أمنه وماله ومُمتلَكاته، لكن إذا عجزت الدولة المُسلِمة عن أن تُحقِّق الحماية والمنعة لأهل الذمة لا تأخذ منهم الجزية، تسقط عنهم الجزى، تسقط عنهم الجزى في هذه الحالة، وهذا من روعة الإسلام، من عظمة الإسلام!

وأظن أنكم جميعاً تقريباً أو مُعظَمكم سمعوا بقصة وحكاية أبي عُبيدة بن الجرّاح وقاداته في بلاد الشام، حين سمع أبو عُبيدة بأن الروم – أي بيزنطة، القسطنطينية – يتحشَّدون، يحشدون جيوشهم لمُلاقاة المُسلِمين ومُقاتَلتهم في بلاد الشام، فماذا فعل أبو عُبيدة – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -؟ وهذه القصة يرويها الإمام أبو يوسف، تَلميذ أبي حنيفة – رضيَ الله تعالى عنهما -، في كتابه العظيم الخراج، فيقول لما سمع أبو عُبيدة بهذا أرسل إلى قادة الجُند في كل بلاد الشام، أن ردوا الجزية، ردوا الجزية على أهلها، وقولوا لهم نحن الآن ربما لا نتمكَّن من حمايتكم، وسنخرج لمُقابَلة ومُقاتَلة القوم، أي الروم، فإن أظفرنا الله بهم وردنا سالمين فنحن وأنتم على ما بيننا من العهد والشرط، نحن بيننا شروط وعهود! تدفعون الجزية ونحميكم ونمنعكم، لكن خذوا أموالكم، شيئ غريب، هذه روعة المُسلِمين، وهذه عظمة المُسلِمين، خاصة في ذلك الجيل الفريد، جيل الصحابة – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم -.

يقول الراوي وفعلاً قاموا برد الجزى إلى أهلها، حتى أن منهم مَن صار يدعو يقول ردكم الله إلينا بالسلامة ونصركم الله – تعالى – عليهم، مع أن أهل الشام كانوا ماذا؟ كانوا نصارى، والروم نصارى، الروم – بيزنطة – نصارى أيضاً، لكن هناك اختلاف في بعض المناطق في المذهب، وليس هذا فقط، ليس من أجل اختلاف المذهب فقط، كان هناك ظلم شديد، الروم كانوا يحتلون مصر – مثلاً – ويحتلون بلاد الشام، وكان هناك ظلم شديد جداً جداً لأهل البلاد، وإرهاق لهم بالضرائب يا إخواني، ما الجزية هذه؟ الجزية هذه ليست بشيئ، شيئ يسير وزهيد، يسير وزهيد وخفيف، لا يُبهِظ ولا يُثقِل، أما الروم فحسبما حكى العلّامة الفرنسي مونتسكيو Montesquieu – صاحب روح الشرائع، روح الشرائع أو القوانين – ونقل عن بعضهم فشأنهم مُختلِف، قال لو أمكن للروم أن يفرضوا ضرائب على استنشاق الهواء لفعلوا، على كل شيئ ضرائب ضرائب ضرائب! أرهقوا الناس جداً، استنزفوهم مالياً، لكن المُسلِمون لم يكونوا كذلك أبداً، كانوا يأخذون جزية بسيطة جداً ويُؤمِّنون الحماية والمنعة.

وبين قوسين أُحِب فقط أن أُوضِّح لأحبابي – إخواني وأخواتي، المُشاهِدين والمُشاهِدين – الآتي: (إياكم أن تحكموا على وقائع التاريخ ومجاريات التاريخ بأثر رجعي بمفاهيم اليوم، كأن تقولوا ما دخل المُسلِمين؟ ما الذي جعل المُسلِمين يذهبون إلى الشام وإلى مصر؟ ولماذا خرجوا يستعمرون العالم هم؟ وهكذا).

هذا السؤال يا إخواني سنُجيب عنه، لكن بعد هذا الفاصل، فكونوا معنا، بارك الله فيكم.

أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم إخواني وأخواتي من جديد.

طرحنا سؤالاً قبل الفاصل، قلنا قد يتساءل بعضهم ما الذي اضطر المُسلِمين وبعثهم على أن يخرجوا من ديارهم ومن جزيرتهم ليحتلوا بلاد الشام ويحتلوا بعد ذلك مصر والأندلس وبلاد كثيرة؟

في الحقيقة في تلك العصور الوسطى يا إخواني كان شيئاً عادياً وطبيعياً عند كل الشعوب، القوة الأعظم والأكبر والأقوى تفرض نفسها هنا وهناك، هذا كان عادياً، لم تكن مفاهيم الأقومية والمفاهيم الوطنية قد برزت بعد، هذه حينها لم تكن معروفة، هكذا كان يُدار العالم، وهذا حال طبيعي جداً، لكن المُهِم ليس هذا، ليس المُهِم أن تحتل بلادي، المُهِم كيف تُعامِلني؟ كان عندهم من الطبيعي جداً أن يكون الحاكم من غير جنسهم، من بلاد أُخرى وجيوش أُخرى تأتي لتغزوهم، لكن أهم شيئ المُعامَلة، هل هناك عدل؟ هل هناك رحمة؟ وهل هناك إنصاف؟ هذا الذي كان يدور عليه الاهتمام.

ولذلك كثير من البلاد المفتوحة ساعدوا المُسلِمين واستقبلوهم أحسن استقبال، مثل مصر، مثل بلاد الشام، ومثل الأندلس، وهذه قضية أُخرى، على كل حال أصاب العجب والدهشة نصارى بلاد الشام، كيف يرد إليهم الفاتحون المُسلِمون أموالهم – أموال الجزية أو الجزى -؟ ودعوا لهم بالنصر والظفر، دعوا لهم بالنصر والظفر وقالوا لو كانوا هم – أي الروم البيزنطيين – ما ردوا إلينا شيئاً، ولأخذوا منا مزيد أموال، وبالفعل بعد ذلك كتب الله النصر للمُسلِمين، وعادوا إليهم، وأعاد أهل بلاد الشام أموال الجزية إلى الفاتحين المُسلِمين.

إذن بقيت مسألة مُهِمة يا إخواني، لم يتكلَّم فيها القدماء في الحقيقة، تكلَّم فيها بعضهم، بعض القدماء تكلَّم، لكن بجهة ماذا؟ المنع والسلب، هي مسألة لو أن الذمي – اليهودي أو النصراني أو المجوسي، أياً كان – اشترك في الدفاع مع المُسلِمين وإلى جانب المُسلِمين عن الأرض وقاتل معهم وخدم في الجيش، هل تسقط عنه الجزية؟ بعض القدماء تناول هذه المسألة، قلة قليلة منهم! والبقية لم يكونوا يتصوَّرون هذا، مع أنها كانت مسألة واقعية، وحصلت في التاريخ، لكن للأسف التنظير الفقهي دائماً لم يكن بمقدار سعة حتى الأحداث التاريخية، كان أكثر ضحالةً وأكثر فقراً منها، أحياناً طبعاً وليس دائماً، في هذه المسألة هذا ما كان، وسيأتيكم الدليل بُعيد قليل.

بعض الفقهاء مثل الإمام الماوردي صرَّحوا بأنه لا، حتى لو التحق بالجيش المُسلِم وقاتل مع المُسلِمين لا تسقط عنه الجزية، لماذا؟ قالوا لأمرين: الأمر الأول غير مشروع أن يُستعان بغير المُسلِم أصلاً، وهذا غير مُسلَّم، أي إذا أردتم الرأي بكلمة فالرأي الراجح – أحبتي في الله – يُمكِن أن يُستعان بغير المُسلِم في الحرب ليُقاتِل إلى جانب المُسلِمين إذا كان مأموناً، وإذا كان عدده وقوته أقل من المُسلِمين، بحيث أنه لو انتقض – أي انقلب – على المُسلِمين لا يستطيع أن ينال منهم نيلاً، فأن يكون عدداً وعدة أقل من المُسلِمين، وهذا شرط معقول ومن باب التدبير العسكري، على كل حال فهذا الكلام غير مُسلَّم، وهناك السبب الثاني أو الأمر الثاني، قالوا والسبب الثاني أن الله – تبارك وتعالى – جعل نُصرة الذمي بماله، لا بنفسه، يُريد أن ينصرنا بماله، لكن لا ينصرنا بنفسه، وأيضاً هذا غير مُسلَّم، مُجرَّد اجتهاد منهم!

أما الفقهاء المُعاصِرون فعشرات منهم – بحمد الله تبارك وتعالى – قالوا الآتي، عشرات من كبار فقهاء العصر قالوا إذا اشترك الذمي في الدفاع والتحق بالجيش وأدى خدمة العلم يُعتبَر كالمُسلِم، تسقط عنه الجزية، مِن أول مَن قال بهذا وأسبق مَن سبق إلى هذا الإمام المُجدِّد، مفتي مصر في وقته، الشيخ محمد عبده – طيَّب الله ثراه -، ومنهم أيضاً وربما في نفس الوقت شمس العلماء في الديار الهندية – مُلقَّب بشمس العلماء – العلّامة شبلي النُعماني، العلّامة الهندي الكبير شبلي النُعماني، وقد كتب في مجلة المنار التي كان يصدرها الشيخ محمد رشيد رضا – تَلميذ محمد عبده – مقالة جيدة وقوية، استدعى فيها الشواهد التاريخية، واعتمدها العلّامة محمد رشيد رضا، وقال بها، اعتمد على ما فيها تماماً وأيَّدها.

العجيب واللافت أن شمس العلماء شبلي النُعماني ذهب إلى أن أهل الذمة تسقط عنهم الجزية إذا لم يشترطوا علينا أن نحميهم وأن نمنعهم، قالوا نحن نود أن نعيش فقط بينكم، لكن دون أن تحمونا، أي إذا تُعدي علينا فلن تُوجَد مُشكِلة، لا نشترط الحماية والمنعة، أو – الحالة الثانية كما يقول شبلي النُعماني – وافقوا على أن يُشارِكوا المُسلِمين في الالتحاق بجيش المُسلِمين والقتال إلى جانبهم إذا وقع قتال، قال العلّامة شبلي النُعماني، وهو من كبار علماء الإسلام حقيقةً في العصور الأخيرة، قال في هاتين الحالتين تسقط عنهم الجزية، ولا جزية عليهم، لا تترتب عليهم جزية أصلاً، شيئ غريب! هذا اجتهاد ذكي، ووافقه عليه أيضاً محمد رشيد رضا – رحمة الله تعالى على الجميع -.

ومن القائلين بهذا – بسقوط الجزية عن أهل الذمة إذا خدموا في الجيش كما يخدم المُسلِم – أحد علماء العصر يا إخواني وهو العلّامة الفقيه المصري محمد سلام مدكور، المُستشار المصري أيضاً عليّ عليّ منصور، الفقيه القانوني في الشرع الدولي الشامي نجيب الأرمنازي، علّامة الشام الآن في الفقه وهبة الزحيلي، الفقيه الكبير! المُستشار المصري عبد المُنعم أحمد بركة – رحمة الله عليه -، العلّامة الشامي ظافر القاسمي، ابن شيخ الشام محمد جمال الدين القاسمي، المُؤرِّخ المصري والكاتب الإسلامي الكبير أحمد شلبي، كثيرون! عشرات حقيقةً، أنا ذكرت بعضهم.

بقيت الآن مسألة أُخرى، إذن هذه من أهم النقاط في حلقة اليوم، كثير جداً من علماء العصر وفقهائه ومُحقِّقيه ذهبوا إلى جواز إسقاط الجزية عن أهل الذمة إذا وافقوا أن يخدموا ويلتحقوا بالجيش، قد يقول لي أحدكم هذا هو، هذا الحاصل، إذن انتهى الأمر، وبما أن هذا الحاصل فلا يُوجَد داعٍ لأن تقول لي هناك الجزية، وأين الجزية؟ وهم أهل الذمة ويجب أن يدفعوا الجزية! هذا كلام فارغ، هذا كلام غير علمي وغير صحيح، ومُخالِف لاجتهادات العلماء الكبار، وسوف ترون هذا، وأيضاً مُخالِف لأفعال الصحابة، وأنا سأتلو علي مسامعكم بُعيد قليل ربما أربع أو خمس أو ست سوابق تاريخية من الصحابة، وخاصة في عهد الخليفة الفاروق عمر – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، تتفق مع هذا الاجتهاد.

إذا الذمي قاتل إلى جانب المُسلِمين أو رضيَ أن يكون عيناً لهم ومُساعِداً تسقط عنهم الجزية، عمر وافق على هذا، قادة الفتوح الكبار مثل النُعمان بن مُقرِّن، سويد بن مُقرِّين، وغيرهما وغيرهما! وافقوا على هذا يا إخواني، أبو عُبيدة بن الجرّاح، وحبيب بن مُسلِمة الفهري، كثيرون من قادة الفتوح وافقوا على هذا، فلا يُوجَد داعٍ لأن نسمع الكلام هذا الغريب، الذي يُحدِث توتراً في أوطاننا، هناك مَن يقول لابد أن يدفعوا الجزية ويتحدَّث عن الجزية، هذا كلام فارغ.

وعلى كل حال الدولة العثمانية – دولة المُسلِمين، الإمبراطورية العثمانية – في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الدستور الخاص بها وافق بل أوجب على كل العثمانيين وكل مَن يعيش في الإمبراطورية العثمانية من مُسلِم أو غير مُسلِم – كل المُواطِنين، مُواطِنين الإمبراطورية – أن يخدموا الجيش، وأسقط عن غير المُسلِمين الجزية.

مصر كانت ولاية عثمانية، سبقت إلى هذا تقريباً بنحو ثلاث سنين، وأسقطت الجزية عن النصارى قبل العاصمة نفسها إسطنبول هناك بثلاث سنين تقريباً على ما أذكر، هذا هو! فهذا الموضوع انتهى، أي أصبح في ذمة التاريخ، انتهى! وهم يظنون أن هذا من ثوابت الإسلام، بعض الناس الذين لا عُمق لهم في الفقه الإسلامي يظنون أن هذا من الثوابت الفقهية الإسلامية، والتنازل عنه كأنه كفر بشرع الله وتبديل كما يقولون، يقولون تبديل وتغيير لشرع الله، الله قال حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ۩، كأن عمر لم يكن يفهم هذا، كأن قادة الفتوح العظام لم يكونوا يفهمون هذا، وكأن فقهاء الإسلام الكبار أيضاً لا يفهمون هذا.

الكلام طويل بقيت مسألة الصغار، في الآية التاسعة والعشرين يا إخواني من سورة التوبة أو براءة وهي آية الجزية قال قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا ۩… إلى أن يقول حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ۩، في الآية التاسعة والعشرين! ما معنى الصغار هنا؟ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ۩، إعطاء الجزية هنا ذُكِر مُقيَّداً بقيدين، وهما حال، أي حالان في حال، حتى يُعطوا الجزية في حال… لا نعرف هذا إذن، كونها عن يد أو كونهم هم مُقتدِرين، أي يُعطون عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ۩، فهذه حالة وهذه حالة، وهما قيدان، لكن ما معنى عَن يَدٍ ۩؟ وما معنى وَهُمْ صَاغِرُونَ ۩؟ هذا مُهِم جداً لكي نفهم، وخاصة موضوع الصغار هذا، موضوع الصغار!

هناك الصغار، وطبعاً تعرفون الصغار، أي الذلة والمهانة، الصغار بشكل عام الذلة والمهانة، كلمة حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ ۩ اختلفت فيها الاجتهادات والأقوال، حتى عد منها العلّامة الإمام المُفسِّر الفقيه المالكي القاضي أبو بكر بن العربي خمسة عشر قولاً، مَن شاء أن يقف عليها بتعدادها فليعد إلى كتابه أحكام القرآن، خمسة عشر قولاً! منها أقوال تُقدِّر حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ ۩ بمعنى أن اليد هي يد المُعطين، يد أهل الذمة، قيل عَن يَدٍ ۩ أي عن ذل ومقهورية، شيئ غريب! وقيل عَن يَدٍ ۩ أي يُسلِّمها بيده هو، لا يبعث بها غيره، لا يُمكِن أن يبعث بها أي واحد آخر، لابد من أن يأتي هو بنفسه ويُسلِّمها للمسؤول عنها، وقيل عَن يَدٍ ۩ أي يُعطيها نقداً، لا نسيئاً، أي لا يُوجَد تأخير، يُعطيها في وقتها، من غير تأخير، وقيل عَن يَدٍ ۩ بمعنى عن قدرة، بحيث يكون هو مُقتدِراً مالياً، ليس فقيراً، وهذا قول جميل، هذا قول جميل وطيب جداً، أن تكون عَن يَدٍ ۩ بمعنى عن قدرة، فلان – نقول – يُعطي عن يد، أي مُقتدِر، واليد العُليا خيرٌ من اليد السُفلى، ويُقال أملقت يده، أملقت يده أي لم يعد عنده أي شيئ، افتقر وقلت حيلته، وأملقت يده، وانقطعت أسبابه.

على كل حال وقيل عَن يَدٍ ۩ هذه ليست يد المُعطي، ليست يد الذمي دافع الجزية، وإنما يد المُسلِم آخذ الجزية، فقالوا حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ ۩ أي أهل الذمة، عَن يَدٍ ۩، أي يد المُسلِمين، هذه اليد يد المُسلِمين، كيف تكون عَن يَدٍ ۩ بمعنى يد المُسلِمين؟ يد إنعام، لأن المُسلِم أنعم على هذا الذمي حين تركه، فلم يقتله، وقبل أن يتركه في الحياة، وأخذ منه الجزية، هذا تفسير من التفسيرات، ولا نُحِب أن نقف عنده أو عند كل تفسير وأن نُنقاشِه.

وقيل أيضاً هي يد المُسلِمين المُستولية القاهرة، اليد هنا ليست يد الذمي، وإنما يد المُسلِم المُستولية القاهرة، وقيل… وقيل… أقوال كثيرة، فماذا عن وَهُمْ صَاغِرُونَ ۩؟ هذه أهم طبعاً، ما معنى الصغار هنا؟ للأسف بعض الناس لا يفهم أو لم يُفهَّم بالأحرى من معنى الصغار إلا أنه الإذلال والمهانة، كالذي ذكره الإمام النووي – رحمة الله تعالى عليه – في كتابه روضة الطالبين في فقه الشافعية، ذكر أن بعضهم – وهم في الحقيقة بعض فقهاء الشافعية الخراسانيين، من أهل خراسان – قالوا وَهُمْ صَاغِرُونَ ۩ هذه تحكي الإذلال والمهانة، فينبغي أن يأتي وأن يُعطيها بنفسه وأن يُوقَف عند إعطائها وأن يُطال وقوفه، فلا نأخذها بعجل، يبقى ينتظر، نجعله ينتظر نصف ساعة أو ساعة أو ساعة ونصف أو ساعتين، وبعد ذلك يأتي يضعها في الميزان بنفسه مُطئطاً رأسه، ويُضرَب في جانبه، ويُضرَب في لهزمته – أي هنا بين الفك هذا الماضغ والأُذن -، يضربه – قالوا – المُسلِم! ما الكلام هذا؟ أي هذا شيئ غريب، فعلاً إذلال ومهانة، لكن الإمام النووي – رحمة الله تعالى عليه – قال هذه الصيغة باطلة، هذه الصيغة باطلة! صيغة سيئة، وليس عليها دليل، ولا فعلها أحد، لا رسول الله ولا الخلفاء الراشدون، ولا يُوجَد عليها أي دليل، فأبطلها الإمام النووي، وقال هذا الكلام فارغ، من مُبتدَعات الفقهاء.

والإمام السيوطي للأسف الشديد في أحد كُتبه حاول أن يرد على النووي بإبطال هذه الصيغة، يستدل لها! فرد عليه علّامة العصر محمد جمال الدين القاسمي، قال ونحن نقول بل صدق النووي – عليه الرحمة والرضوان -، وإنها لعمر الحق لصيغة باطلة سيئة، قال ولولا أنني تقصَّدت – بمعنى كلامه – أن أرد فقط على مَن قال بها ما سوَّدت بها وجه الكتاب، لأن ذكرها فضيحة – يقول القاسمي -، ذكرها بحد ذاته عورة، نذكر هذه الكلمات كيف؟ هذه بعيدة جداً من سماحة الإسلام، وبعيدة جداً من عظمة الإسلام وتكريم الإسلام للإنسان، كيف يتم إذلال الناس بهذه الطريقة وضرب الناس وإهانتهم؟ حاشا لله، ليس هذا في دين الله.

إذن قد يقول لي أحدكم فما معنى عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ۩؟ ما معنى الصغار هنا إذن؟ وأنا أقول لكم أرجى وأرجح الأقوال في معنى الصغار هنا ما قاله إمامنا أبو عبد الله الشافعي، الإمام الشافعي – رحمة الله تعالى عليه – قال سمعت الكثيرين من أهل العلم يقولون معنى الصغار هنا التزامهم جريان أحكام الإسلام عليهم، هو هذا! هؤلاء يكونون ماذا؟ غير مُسلِمين، حاربوا المُسلِمين، وعرضوا للمُسلِمين بالقتال، فكسر الله شوكتهم، وأدال منهم، وأظفر المُسلِمين بهم، وأعلاهم عليم، إذن في هذه الحالة ماذا يحصل؟ الآن أصبحوا هم المكسروين المهزومين، انتهى الأمر! في هذه الحالة يا إخواني الإسلام قال ما لاحظه المُؤرِّخ الإنجليزي الكبير وفيلسوف التاريخ أرنولد توينبي Arnold Toynbee في كتابه دراسة للتاريخ أو دراسة في التاريخ، أي A Study of History، الكتاب العظيم هذا! وسومرفيل Somervell اختصره في أربع مُجلَّدات.

أرنولد توينبي Arnold Toynbee ماذا قال؟ قال كانت طريقة الإسلام الحكيمة ألا يُخيِّر أمثال هؤلاء بين الإسلام أو الموت، أي إما أن تُسلِموا وإما أن تُقتَلوا، بل خيَّرهم يا إخواني بين الإسلام ودفع الجزية، يقول وهي سياسة عادلة وحكيمة ورحيمة، سبق إليها الإسلام، وبعد قرون – يقول أرنولد جوزيف توينبي Arnold Joseph Toynbee – أخذت بها لأول مرة الملكة إليزابيث الأولى Elizabeth I، إليزابيث الأولى Elizabeth I أخذت بها، ولكنها مُتأخِّرة عن الإسلام بقرون، سياسة من أعظم ما يكون! أنت تُحارِبني، ثم أتغلَّب عليك، فلا أُخيِّرك بين أن تدخل في ديني، وبين أن أقتلك، بل أُخيِّرك بين الآتي، إن شئت أن تدخل في ديني، وإن شئت ادفع هذه الجزية، ولك الحماية والمنعة، عظمة والله يا إخواني من أعظم ومن أكرم ما يكون، هو هذا!

فالإمام الشافعي يقول هذا الذي سمعته من كثيرين من أهل العلم، قالوا الصغار هو التزامهم – أي مُوافَقتهم – بأحكام الإسلام، يُوافِقون على أن تُجرى عليهم أحكام الإسلام، بماذا تقضي أحكام الإسلام؟ تقضي بأن يدفعوا هذه الجزية الزهيدة، وأن تكون لهم الحماية والمنعة، هذه أحكام الإسلام، هل يُوجَد ما هو أحسن من هذا في العصور بالذات يا إخواني؟ هذا في العصور الوسطى، وهو شيئ عظيم جداً ورحيم، قال الشافعي هذا معنى الصغار، وقال ما أشبه ما قالوا بما قالوا، ثم بدأ يستدل له – رحمة الله تعالى عليه -.

عموم الشافعية على مذهب إمامهم، وعلى قول إمامهم هذا، تقريباً مُعظَم فقهاء الشافية على الإطلاق ومن عند آخرهم يقولون بأن معنى الصغار هو التزام مُوافَقة الذميين على أن يدخلوا في سُلطان المُسلِمين وولايتهم، وتَجري عليهم أو تُجرى عليهم أحكام الإسلام، فهذا معنى الصغار، وليس أكثر من هذا.

وطبيعي يا إخواني – هذا طبيعي – إذا كان هناك إنسان تعرَّض لقتالنا، ثم انهزم أمامنا، ورضيَ بحُكمنا فيه وهو حُكم عادل ورحيم، أن يكون ناله ماذا؟ ذل وصغار، طبعاً هذا ليس عزاً، لا يُوجَد إنسان ينكسر في معركة ويكون عزيزاً، لا! العزيز هو الذي ينتصر، ويُمضي حُكمه، لكنه – بفضل الله – ليس حُكماً انتقامياً ثأرياً، وليس حُكماً يخلو من كثير – بفضل الله – من الرحمة ومن العدل والإنصاف، هل هذا واضح؟

الشيخ العلّامة والإمام الأكبر في وقته محمود شلتوت – رحمة الله تعالى عليه – عنده رسالة رائعة، أدعو إلى قراءتها، اسمها القرآن والقتال، وعنده أنظار من أجمل ما يكون، تدل على ذكائه ونفوذ رأيه واجتهاده – رحمة الله تعالى عليه -، فالعلّامة شلتوت ماذا يقول؟ يقول الآية هذه – حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ۩ – فيها إعلام، تُعلِمنا وتُفهِمنا، فيها إعلام بسبق التمرد منهم، هم الذين تمرَّدوا وبدأوا بقتال المُسلِمين، ولذلك يلحقهم الصغار، وطبعاً هذا ينبني عليه شيئ آخر يا إخواني، ربما أذكره بُعيد قليل – إن شاء الله – في وقته، هذا بُعيد قليل في وقته!

على كل حال علماء العصر الذين أخذوا بطريقة الشافعي وبتفسير الإمام الشافعي للصغار كثيرون كثيرون، منهم العلّامة شلتوت، منهم محمد عبده ورشيد رضا، منهم العلّامة محمد فتح الدريني – الفلسطيني الأصل، رحمة الله تعالى عليه -، العلّامة الدكتور محمد البوطي – روَّح الله روحه ورحمه رحمة واسعة -، الشيخ محمد أبو زُهرة – إمام مصر -، محمد سيد طنطاوي – شيخ الأزهر والإمام الأكبر في وقته، رحمة الله تعالى عليه -، العلّامة المُفسِّر النحرير محمد الطاهر بن عاشور التونسي، العلّامة مُصطفى السباعي، العلّامة المُفسِّر الفلسطيني محمد عزة دروزه، والعلّامة اللبناني المُجتهِد الشهيد صبحي الصالح، وكثيرون كثيرون غيرهم، قالوا هذا هو الصغار، ليس الإذلال الذي نقرأ عنه في بعض الكُتب الفقهية القديمة، أن يُضرَبوا وأن يُطال وقوفوهم وأن يُقال لهم كلاماً سيئاً وأن… وأن… أبداً!

بقيت مسألة، لأن بقيَ لدينا القليل من الوقت، طبيعة الجزية وتكييفها – أحبتي في الله -، طبيعة الجزية وتكييفها! هي بدل عن ماذا؟ لماذا ينبغي على الذمي أن يدفعها؟ أعتقد أنكم الآن أصبح واضحاً وبارزاً لكم أنها بدل عن الحماية والمنعة، فهذا هو! نحن نحميهم ونمنعهم، وبدل هذا هم يدفعون الجزية، لكن لم يتفق الفقهاء كلهم على هذا، فهذا رأي الحنفية، هذا رأي السادة الحنفية، هذا المذهب الحنفي، أنها بدل عن النُصرة، بدل عن الحماية، وبدل عن المانعة.

ولكن المالكية – مثلاً – والزيدية اختلفوا، المذهب المالكي والمذهب الزيدي يختلفان هنا، ذهبوا – أي المالكية والزيدية – إلى أنها بدل عن القتل بسبب الكفر، وهذا شيئ غريب! كأن كل كافر ينبغي قتله، وهذا الكلام غير صحيح، وهذا مُخالِف أيضاً لأصولهم، لأن المذهب الذي قال بأن الكافر يُقتَل لكفره هو الشافعي فقط، وهو خطأ بلا شك، ومذهب الجماهير أن الكفر ليس سبباً – بذاته طبعاً، بمُجرَّده، أي الكفر وحده – مُبيحاً للدم، هذا ليس سبباً مُبيحاً لدم صاحبه، أي الكفر، وإنما السبب المُبيح هو ماذا؟ الحرابة، القتال، أن يُقاتِلنا، فإذا كف عنا لم يكن لنا عليه من سبيل بسبب كفره، فللأسف السادة المالكية والسادة الزيدية قالوا هي بدل عن القتل بالكفر، لأن كان من اللازم أن يُقتَل.

أبو بكر بن العربي مع أنه أيَّد هذا المذهب لأنه مالكي تلمَّح موضع الضعف فيه والتناقض، فعاد يقول – هذا من اجتهاده، هذا رأي أبي بكر بن العربي، وربما يكون رأي بعض المالكية، لكنه ليس للمذهب المالكي، فقال ابن العربي الآتي – نعم، هي بدل عن الكفر والقتال، هذا هو! فنعود، فنقول له إذن ماذا عن الكفر وحده بلا قتال؟ سيُضطَر أن يقول ليس سبباً مُبيحاً للقتل.

إذن العامل المُهِم ليس الكفر، وإنما ماذا؟ القتال، بما أنهم قاتلونا، فلا يُقال إنها بدل عن القتل، هذا الكلام غير صحيح، وليس شرطاً الذمي يا إخواني دائماً أن يكون مُقاتِلاً، يُمكِن أن يأتيك أي ذمي، يُحِب أن يعيش في كنفك وفي دولتك دون أن يسبق منه قتال، فتُعقَد له الذمة، وتُؤخَذ منه الجزية بشرطها طبعاً مِمَن تُؤخَذ منه على أنها بدل حماية ومنعة، بدل مُساهَمته هو في النُصرة التي لا يُريدها، هو لا يُريد أن يلتحق بالجيش، ولا يُريد أن يُقاتِل معنا، هذا الصحيح!

للأسف السادة الحنابلة والسادة الشافعية قالوا بدل عن سُكنى الدار، أُجرة – قالوا -، أي كأنهم يسكنون في ديارنا، فلا يكون هذا مجاناً، وهذا ضعيف جداً، زيَّفه ابن قيم الجوزية تقريباً من أكثر من سبعة وجوه، ولو كان ذلك كذلك لانبغى أن يتفاوت باستمرار، لأن أحياناً السُكنى في الدار يختلف من موضع إلى موضع، أين تسكن؟ هل تسكن في العاصمة أم في الحواشي أم في الضواحي؟ وليست كذلك الجزية.

وبعد ذلك نتساءل بخصوص سُكنى الدار، ألا تسكن النساء؟ ألا يسكن الأطفال؟ ألا يسكن المجانين؟ ألا يسكن عبيد أهل الذمة؟ ألا يسكن الشيوخ والعجزة؟ ألا يسكن الزمنى وذوو العاهات؟ كلهم يسكنون، وكلهم لا جزية عليهم، لو كانت بدل سُكنى لوجب أن يدفع هؤلاء أيضاً كما يدفعوا إذا فعلاً استأجروا بيتاً أو محلاً أو نزلوا في هوتيل Hotel أو فندق، غير صحيح، ليس مذهب الشافعية والحنابلة صحيحاً هنا، أنها بدل عن سُكنى الدار، أجرة الدار!

إذن بقيَ مذهب السادة الحنفية وهو المذهب المُنوَّر الصحيح في هذه المسألة، أنها بدل عن النُصرة، لأنهم لا يُكلَّفون نُصرتنا بأن يُقاتِلوا معنا ويلتحقوا بجيوشنا، هل هذا واضح؟ لا نُكلِّفهم العنت هذا، من أصعب ما يكون أن تُكلِّف نصرانياً أو مسيحياً أن يلتحق بجيشك ويُقاتِل إخوانه النصارى في يوم من الأيام، صعب جداً عليه، فنحن نقول له لا حرج عليك، لا تُرع، ادفع هذه الجزية، ولك الحماية والمنعة، على كل حال أدلته كثيرة.

بقيَ القليل من الوقت، أُحِب – إخواني وأخواتي – الآن أن أذكر لكم بعض السوابق التاريخية التي ثبت فيها تصريح من الصحابة ومن قادة الفتوح أن الجزية بدل عن الحماية والمنعة، في كتاب خالد بن الوليد – مُعاهَدة خالد مع أهل الحيرة في العراق يا إخواني – مكتوب أن يأخذ منهم الجزية وهي كذا وكذا… وعلى المنعة – مكتوب هكذا، وعلى المنعة -، فإن لم يمنعهم فلا شيئ عليهم حتى يمنعهم، وهذا تصريح، ومذكور في التاريخ، في مُعاهَدة النُعمان بن مُقرِّن مع أهل ماه بهراذان – من بلاد فارس – قال ولهم المنعة ما أدوا الجزية، في مُعاهَدة حُذيفة بن اليمان مع ماه دينار – بلد فارسي اسمه ماه دينار – ولهم المنعة ما أدوا الجزية، في مُعاهَدة سويد بن مُقرِّن مع أهل جرجان – التي يُنسَب إليها الجرجاني – وإن لكم الذمة، وعلينا المنعة، على أن عليكم من الجزاء – الجزاء هو ماذا؟ الجزية، يُقال الجزاء – في كل سنة على قدر طاقتكم، أيضاً هناك ما رواه أبو يوسف في الخراج، وذكرته لكم من قصة أبي عُبيدة.

أختم – إخواني وأخواتي – في دقيقة أو دقيقتين بذكر بعض السوابق التاريخية في إسقاط الجزية عمَن اشترك مِن الذميين في القتال إلى جانب المُسلِمين: في كتاب عُتبة بن فرقد وهو عامل عمر بن الخطاب إلى أهالي أذربيجان ومَن حُشِر منهم في سنة وُضِع عنه جزاء تلك السنة، حُشِر أي في الجيش، إذا التحق بالجيش الإسلامي وقاتل معنا وظل معنا تسقط عنه الجزية في تلك السنة.

روى الإمام الطبري في تاريخه أن ملك الباب في نواحي أرمينيا وكان يُدعى شهربراز طلب من سراقة بن عمرو أمير تلك المناطق لعمر بن الخطاب أن يضع عنه وعمَن معه – أي من أهله وأهل ناحيته – الجزية، على أن يُقاتِلوا معه عدوه، فقبل سُراقة، وأرسل إلى عمر، فاستحسنه عمر، أجازه عمر واستحسنه، يُعلِّق الطبري بالقول وصار ذلك سُنة بعده، تخيَّل! الفقهاء لا يفطنون لهذا، ولا يُجوِّزون أن تسقط الجزية عمَن يخدم معنا العسكرية، لا يُجوِّزون! مع أن الطبري يقول أصبحت سُنة، سنها عمر وقادة عمر، حين تُقاتِل معنا وتخدم معنا لا تُوجَد جزية، انتهى موضوع الجزية!

نفس الشيئ تكرَّر، سراقة بن عمرو هذا كتب كتاباً نحو لأهل أرمينيا، لوضع الجزاء عمَن أجاب إلى ذلك الحشر، تعبئة عسكرية! مَن يتعبأ معنا لا تُوجَد عليه جزية، ومثله في كتاب سويد بن مُقرِّن يا إخواني – وهذا قائد جيوش المُسلِمين في بلاد فارس، أيضاً في عهد الفاروق عمر، انظروا إلى هذا، هذه سعة عمر، ولذلك عمر كان فعلاً قائد دولة مُحنَّكاً – إلى ملك جرجان، نفس الشيئ!

مُوافَقة أبي عُبيدة بن الجرّاح قائده حبيب بن مُسلِمة الفهري أن يُسقِط الجزية عن الجراجمة، والجراجمة هم اليوم الموارنة، هل تعرفون النصارى الموارنة في لبنان؟ هم الجراجمة، كانوا في نواحي جبل اللكام عند أنطاكية، قالوا نحن نكون لكم أعواناً وعيوناً على أن تُسقِطوا الجزية، فوافق حبيب، ووافقه أبو عُبيدة قائده، أبو عُبيدة بن الجرّاح نفسه وافق على شيئ مثل هذا مع أهل السامرة في فلسطين والأردن، وأسقط عنهم الجزية، وغيرهم وغيرهم! نواحٍ كثيرة وسوابق كثيرة يا إخواني.

أعتقد لو أننا خرجنا من هذه الحلقة بفهم هاتين النُقطتين: السوابق التاريخية في زمان عمر وقادة الفتوح، وفهم أن الجزية هي بدل عن حمايتهم ومنعتهم، نكون خرجنا بشيئ مُهِم.

وآخر شيئ، بكلمة واحدة لم يعد هناك مساغٍ ولا داعٍ لإعادة أو للمُطالَبة بإعادة فرض الجزية على أحد من سكان دار الإسلام، لقد أصبحنا كلنا مُواطِنين، سواء بسواء، نخدم العلم، ونُؤدي خدمة الجيش، ونُحافِظ على أوطاننا بكل ما نستطيع، فلا يُوجَد داعٍ للكلام عن الجزية بعد اليوم، أصبحت شيئاً ماضياً.

أكتفي بهذا القدر، إلى أن ألقاكم في حلقة أُخرى أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: