إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، هو سُبحانه ربُ العَالمين، وَقيومُ السماوات والأرضين، وَنشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَحَبِيبَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وَأمينهُ على وحيه وَنجيبهُ مِنْ عبادهِ، بلَّغ الرسالة، وَأدَّى الأمانة، وَنصح الأمة، وَكشف الغُمة، وَجاهد في الله حق الجهاد، حتى آتاه مِن ربه اليقين، صلوات ربي وَتسليماته وَتبريكاته عَلَيْهِ وَعَلَى آله الطيبين الطاهرين وَصحابته المُبارَكين المُنتجَبين وَأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وَعَلَينا مَعهم وَالمُسلِمين مَعهم أجمعين.

أما بعد، عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

أما بعد: 

أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، يقول الله – سُبحانه وتعالى من قائل – بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۩ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ۩ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ۩ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

أيها الإخوة المُسلِمون:

طلع علينا من قريب هلال هذا الشهر المُبارَك العظيم الفضيل، ونحن نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يجعله هلال بركة لا تمحقها الأيام، وسعد لا نحس فيه، ويُمن لا نكد معه، ويُسر لا يُمازِجه عسر، وخير لا يشوبه شر، وأن يجعله – سُبحانه وتعالى – هلال أمن وإيمان ونعمة وإحسان وسلامة وإسلام، اللهم اجعلنا فيه مِن أرضى مَن طلع عليه، وأزكى مَن نظر إليه، وأسعد مَن تعبَّد لك فيه، ووفِّقنا فيه للتوبة، واعصمنا فيه من الحوبة، اللهم واعصمنا فيه من أن نُباشِر معاصيك، واجعلنا فيه من أرضى عبادك عندك يا رب العالمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

أيها الإخوة:

يقول سلمان الفارسي – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – خطبنا رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – في آخر يوم من شعبان، فقال أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم مُبارَك، شهر فيه ليلة القدر، هي خير من ألف شهر، شهر جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعاً، مَن تقرَّب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمَن أدى فريضةً فيما سواه، ومَن أدى فريضةً فيه كان كمَن أدى سبعين فريضةً فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المُواساة، وشهر يُزاد في رزق المُؤمِن فيه، مَن فطَّر فيه صائماً كان مغفرةً لذنبه، وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره، من غير أن ينقص من أجر الصائم شيئ.

قالوا يا رسول الله ليس كلنا يجد ما يُفطِّر الصائم، فقال – عليه الصلاة وأفضل السلام – يُعطي الله – تبارك وتعالى – هذا الثواب مَن فطَّر صائماً على تمرة أو على شربة ماء أو مذقة لبن، وهو شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، فاستكثروا فيه من أربع خصال، مَن خفَّف فيه عن مملوكه – قال قبل ذلك – غفر الله له، وأعتقه من النار، فاستكثروا فيه من أربع خصال، خصلتين تُرضون بهما ربكم، وخصلتين لا غناء بكم عنهما، فأما اللتان تُرضون بهما ربكم فشهادة أن لا إله إلا الله وتستغفرونه، وأما اللتان لا غناء بكم عنهما فتسألون الله – تبارك وتعالى – الجنة وتعوذون به من النار، ومَن سقى صائماً سقاه الله من حوضي شربةً لا يظمأ حتى يدخل الجنة.

قال الإمام أبو بكر بن خُزيمة مُخرِّجه صح الخبر، وفي بعض نُسخ صحيحه إن صح الخبر، والله – تبارك وتعالى – أعلم، فهذا الحديث يا إخواني حديث جليل، يفتتح به أكثر الأئمة والوعّاظ خُطبة رمضان من كل عام، وهو حقيق بذلكم، قال فيه الإمام ابن رجب الحنبلي في لطائف المعارف هذا الحديث أصل في التهنئة بشهر رمضان، قال أصل، أي أصل شرعي يُعتمَد، في موضوع التهنئة في شهر رمضان، فالتهنئة أمر مشروع، وإن قال بعض إنها بدعة وليست من الدين، بالعكس! كيف لا نُهنئ أنفسنا بمثل هذا الفضل العظيم والخير الجسيم والكرم الوافر الذي لا يُضارِعه كرم؟! شهر رمضان شهر القرآن، شهر الإحسان، شهر المغفرة، شهر الرحمة، شهر العتق، شهر صفاء النفوس، شهر تمحض الأرواح، شهر القُربى والرضوان، شهر تُصفَّد وتُغَل فيه الشياطين والأبالسة ومردة الجن والعفاريت، وشهر تتهيَّأ فيه الجنان، ويستروح روائحها المُؤمِنون والمُحسِنون السبّاقون، نعم يستروحون روائح الجنان، لأنها تتهيَّأ وتتزيَّن وتُفتَّح أبوابها فلا تُغلَق حتى ينتهي هذا الشهر العظيم، وتُغلَّق فيه وتُوصَد أبواب النيران، ولا يأتي الشر إلا من النفس السوّالة الأمّارة بالسوء – والعياذ بالله -، هذا هو منفذ الشر إلى الإنسان، من نفسه التي بين جنبيه.

وإذا هذا الشهر يا أحبابي شهر تعرج وتصعد وتتصل فيه النفوس، نعم يتصل فيه كل مُنقطِع، ويشهد فيه كما قيل بحق كل محجوب، ولا يُحرَم خيره إلا المحروم، لا يُحرَم خير هذا الشهر ولا يشعر فيه بالتسامي والتعالي والإصعاد إلا المحروم قاسي القلب – والعياذ بالله -، لعله ران على قلبه بعض ما كان يكسب، كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ۩، لعله من هذا الرين الذي ران على قلبه لا يشعر بتجديد، شهر نُرمِّم فيه نفوسنا، نُصلِح ونُعمِّر ما تخرَّب منها، ما رث وما بليَ، نُجدِّد فيه نفوسناً تجديداً، إنها تنمو فيه ما لا تنمو في غيره، وتزكو فيه ما لا تزكو في سواه، ومعنى البناء من معنى النماء، نحن نبني ونُعمِّر نفوسنا في شهر رمضان، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ۩، والزكاة هي النماء، إذن معنى البناء من معنى النماء، تتضخَّم وتكبر وتعظم النفس، لكن أي نفس؟ النفس المُطمئنة، النفس القنوع، النفس الرضية، النفس الرضية تأخذ فُرصتها في هذا الشهر.

من قديم قال علماؤنا وعارفونا، قالوا – رضيَ الله عنهم، وأعاد علينا من نفحاتهم وبركاتهم – النفس مُركَّبة من ثلاثة أجزاء أو من ثلاثة عناصر، من قوة شهوية، كالتي في البهائم – أكرمكم الله -، وبلا شك هذا أمر موجود لا يُنكَر، هناك الشهوة، إذن من قوة شهوية، كالتي في البهائم، ومن قوة غضبية أو سبعية، كالتي في السباع، يُحِب الانتصار لنفسه، تأخذه العزة بالإثم، يعلو صوته وتحمر أوداجه كالسبع، يُصبِح كالنمر أو كالسبع، هذه قوة في الإنسان موجودة، الغضب! إذن الشهوة والغضب، ومن قوة روحانية، كالتي في الملائكة، وهذا هو حظ الخير فينا، ومن قوة روحانية كالتي في الملائكة!

ما الذي يحصل في شهر رمضان؟ تنقمع القوتان الأوليان، القوة الشهوية والقوة الغضبية كلتاهما، إلا الصوم! كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – قال الله – تعالى – إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به، ولِمَ؟ يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، ذهبت الشهوة، قِمِعت هنا الشهوة، سكنت، خرست، صمتت، هدأت، بردت حرارتها أو تبردت، أي القوة الشهوية، لا أمل لها، ويُتمم هذا الابتعاد الآتي، يُتممه أن يغض الإنسان بصره، أن يحفظ وارده، أن يحفظ هواجسه، وأن يربط على قلبه برباط المُراقَبة والمُحاسَبة دوماً في أمداء ليالي ونهار هذا الشهر المُبارَك العظيم الطيب.

وأما القوة الغضبية ففيها قال وإن سابه أحد أو شاتمه فليقل إني صائم، لا انتصار، لا غضب، لا انتصار للنفس، فليهدأ الغضب، ليمت السبع فينا، إني صائم، أتحدَّث عن نفسي المُطمئنة، لا عن نفسي الغضبية، أتحدَّث عن نفسي كإنسان، كإنسان رباني، لا كإنسان سبعي غضي أو إنسان شهوي، أنا المُؤمِن المُسلِم الصائم المُتروحِن، الذي أصبحت مُتهيأ لمُنادَمة الملأ الأعلى والاتصال بسكان الصفيح الأسمق.

روى ابن عدي في حديثه الضعيف بإسناد ضعيف عن عبد الله بن مسعود – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين -، قال قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – إن الله – تبارك وتعالى – يُباهي ملائكته بالشاب العابد، يقول الله – تبارك وتعالى – أيها الشاب التارك شهوته لأجلي، المُبذِل شبابه لي، أنت عندي كبعض ملائكتي، وقد تبيَّن لكم بيانه وشرحه، لا شهوة ولا غضب، ما الذي يبقى في الإنسان؟ القوة الروحانية، القوة الملائكية، إذن لا غضب ولا شهوة، بلا شك هو عند الله كبعض الملائكة، أيها الشاب التارك شهوته لأجلي، المُبذِل شبابه لي، أنت عندي كبعض ملائكتي.

وأعلى من ذلك أن الإنسان يتهيَّأ بالصيام – إن صام الصيام بحقه وعلى وجهه – لمرتبة مُناجاة الله وسؤله والتزلف إليه ومُناجاته – سُبحانه وتعالى – بالليل والنهار، ألا تلحظون أن آخر سياق آيات الصيام التي تلوتها عليكم صدر الخُطبة مختوم بقوله – تبارك وتعالى – وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ ۩؟! هذا لم يأت إلا بعد آيات الصيام، النفس تتهيَّأ بالصيام لأن ترتقي هذا المُرتقى الصعب، وأن تصعد إلى هذا الأُفق والمصاف الأشق، أن تُنادِم الله وأن تُناجيه، ومهما ارتضع الإنسان ومهما لا يزال الإنسان يرتضع من ثُدي الشهوات فهو طفل، والأطفال لا يُصلِحون لمُنادَمة الملوك، الطفل لا يُمكِن أن يُجالِس السلاطين، فالإنسان الذي لا يزال يرتضع الشهوات هو في طور الطفولية، أنى له أن يرتقي إلى هذا المُرتقى الصعب؟ 

وجدنا يا أحبابي – وكلكم يُمكِن أن يتبيَّن ذلك – جامعاً مُشترَكاً أعظم بين الرياء والنفاق وطلب ما عند الناس والتشوف بالناس وللناس – والعياذ بالله – وطلب السُمعة وحُسن الأحدوثة والمدحة لدى الناس، وجدنا جامعاً مُشترَكاً بين هذه الرذائل والمآثم والمذام كلها وبين الطفولية، الطفل فيه هذه الأشياء، ووجدنا جامعاً مُشترَكاً بين الصدق والإخلاص والاحتساب وطلب المنزلة عند الله من دون الخلق أجمعين لدى الرجال، لا يُمكِن أن يمتاز بأولئكم طفل، لا يمتاز ولا يرتقي إلى هذه المنزلة الشريفة وإلى هذا المقام المُنيف إلا رجل، ولذا قال – سُبحانه وتعالى – مُعنوناً لهؤلاء بعنوان الرجولية حين ذكر – سُبحانه وتعالى – آية النور فِي بُيُوتٍ ۩، هذا النور المضروب المثل به، فِي بُيُوتٍ ۩، إنه شعشعاني، يشع، فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ ۩ رِجَالٌ ۩… أجمع المُفسِّرون على أن كلمة رِجَالٌ ۩ هنا مقصودة لذاتها، قالوا وعنون لهم بعنوان الرجولية، ليؤكِّد أن هذه المنازل لا يقدر عليها ولا يتمكَّن منها إلا مَن كمل فيه معنى الرجولة، هو رجل، وليس بطفل، ليس بمُراهِق، وليس بغُلام غِر، إنه رجل يعبد الله على بيّنة وعلى معرفة، ويعلم أن ما عند الله هو خير وأرجى وأبقى.

ما عند الله هو خير وأرجى وأبقى يا إخواني، فرمِّموا نفوسكم وأصلِحوها وعمِّروها بطاعة الله واستعينوا بالله عليها، مَن وجد مِن نفسه حرانةً وشماتةً واستعصاء وإباءً فليُكثِر من اللهج بالدعاء الشريف يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلِح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي، ما وجدت كهذا الدعاء وكهاته الكلمات الشريفات يا إخواني في الاستعانة على النفس الخبيثة والله، أحياناً تتأبى عليك النفس، لا ترضى بشيئ، لا يُقنِعها لا ترغيب ولا ترهيب، لا رمضان ولا رجب ولا شعبان ولا شوال، لا القرآن ولا السُنة، لا يُقنِعها شيئ – والعياذ بالله -، شيئ أشبه بالقسوة، شيئ بأشبه باللعنة، التي كلما دُفِنت بُعِثت، فما أحسن من هذه الكلمات نستعين بها بالله عليها! يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلِح لي شأني، أنا لا أستطيع إصلاح نفسي، وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا ۩.

إِذَا لم يَكُنْ عَونٌ مِنَ اللهِ لِلفَتى                          فَأَوَّلُ مَا يَجنِي عَلَيهِ اجتِهَادُهُ.

أصلِح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، اللهم آمين يا رب العالمين، فأكثروا من ذكر الله، شهادة أن لا إله إلا الله وتستغفرونه، وأكثروا من الاستغفار، فإن القلوب – كما أخبر النبي المعصوم عليه الصلاة وأفضل السلام – تصدأ كما يصدأ الحديد، قالوا وما جلاؤها يا رسول الله؟ قال قرآة القرآن والاستغفار، للقرآن اختصاص برمضان، ولرمضان اختصاص زائد بالقرآن، فهو شهر القرآن، ولا يُقبِل المُوحِّدون على كتاب الله ما يُقبِلون عليه في رمضان، فأكثروا من تلاوة كتاب الله، انتهزوا! انتهزوا هذه النُهز وهذه الفُرص الذهبية الثمينة الشريفة يا إخواني، ولا يختلنكم الشيطان، ولا تخدعنكم النفس، النفس الطفولية! فتقضوا بعض أوقاتكم النفيسة أمام فوازير رمضان، أمام هذا الهزؤ، هذا الهزل، وهذه السخرية – والله – يا إخواني، هكذا يستقبلون رمضان – والعياذ بالله – بما فيه معصية الله، فوازير رمضان نوع من عرض الشهوات، نوع من العرض الجيد الحسن للحن الحرام – والعياذ بالله -، فوازير رمضان كلام فارغ – والله -، فلا يختلنكم الشيطان ولا تخدعنكم النفس، انتهزوا هذه الأوقات الشريفة يا إخواني، لعل أحدكم لا يدري، لعله يُدرِكه شيئ من رحمة الله في أول الشهر أو من مغفرته وسطاً أو من عتق رقبته من نار جهنم آخراً، والموضوع ليس جُزافاً، نعم الله واسع الرحمة وواسع الكرم والعطاء، لكنه لا يُعطي دائماً جُزافاً يا إخواني، يُعطي بحساب، وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ ۩، وليس مَن أحسن كمَن أساء، عدل الله يأبى ذلك.

ولذا تنبَّهوا إلى ما ذكره السادة العلماء، قالوا – رضوان الله تعالى عليهم وعليكم وعلينا معهم أجمعين – العتق من النار والمغفرة مرهونان بتمام الشهر، حتى تُغفَر ذنوبك، وقد ذكرنا أن هذه المغفرة تتناول وتطال الذنوب المُتقدِّمة، وفي بعض الروايات والمُتأخِّرة منها – إن شاء الله تعالى -، أي هذا شيئ عظيم، جائزة كبيرة وثمينة، وهذه لا تُعطى لكل أحد بغير حساب أبداً، تُعطى بحساب وبتقدير، حسب ما تُحسِن في هذا الشهر يا أخي، في نهاره وفي ليله، قالوا المغفرة والعتق من النار مرهونان بتمام الشهر، فمَن تم له شهره وقد أحسن فيه الصيام والقيام وابتعد عن المآثم والمغارم وعما يُغضِب الديّان – سُبحانه وتعالى – نسأل الله ونرجوه – تبارك وتعالى – أن يغفر له وأن يُعتِق رقبته من النار، لكن لا أن يُحسِن في أول أسبوع أو في أول عشرة أيام، ثم يكسل ويفتر بعد ذلك ويعود في حافرته – والعياذ بالله -، يعود في حافرته ويفعل مثلما كان يفعل قبل رمضان، لا يستطيع أن يصبر أياماً وليالي معدودات، وقد قال – تعالى – أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ۩، لِمَ ذكر كونها أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ۩؟ حتى يُفهِمنا هذا، كأن هذه الكلمة تُشير إلينا، هي أيام معدودات، فاحبسوا النفس فيها في سجن الطاعة.

المُؤمِن يا إخواني الصائم حقيقةً محبوس في سجن الطاعات، رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۩، فلنسجن أنفسنا في سجن الطاعة ثلاثين ليلةً وثلاثين يوماً فقط، وقد نظفر – إن شاء الله تبارك وتعالى – بالرحمة والمغفرة والعتق من نار جهنم يا إخواني، ولعله يكون آخر شهر، ولعلها تكون آخر ليال، ولعلها تكون آخر أيام، ولعله لا يُكتَب لبعضنا يا إخواني – والله – أن يُتِم هذا الشهر، فليمض أمره على أحسن عزيمة، وليستشرف ما بقيَ من هذا الشهر ونحن في أوله وفي مطالعه بأحسن إرادة ونية – إن شاء الله تعالى -، ونية المُؤمِن أبلغ من عمله، هي خير من عمله، وأوقع أيضاً في الميزان وفي التقدير والحُسبان من عمله، أوقع في التقدير والميزان والحُسبان من عمله! فاستقبلوا ما بقيَ منه – وهو كثير بحمد الله تعالى – بمثل هذه النية وبمثل هذه العزيمة.

المعصية كان لها وقت وأوقات يا إخواني، أليس كذلك؟ كان لها وقت وأوقات، هذا وقت الطاعة، وليس وقت المعصية، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – الآتي، والعلماء استدلوا بقوله، في الحديث الذي خرَّجه الإمام البيهقي عن جابر – رضيَ الله عنهما – قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – أُعطيت أمتي خمس خصال في رمضان، لم تُعط مثلها أمة غيرهم، وذكر منها أنه إذا كان آخر ليلة من رمضان نظر الله إليهم فغفر لهم، قالوا يا رسول الله أهي ليلة القدر؟ قال كلا، ليست ليلة القدر، موضوع آخر ليلة القدر هذه، قال كلا، ولكن العامل إنما يُوفى أجره إذا فرغ من عمله، إذا أردت الأجر فالأجر مرهون بتمام الشهر، ليس بأول ثلاثة أيام أو أول أسبوع أو عشرة أيام، شهر! وهو أيام معدودات.

يا ذا الذي ما كفاهُ الذنبُ في رَجبٍ                    حتى عَصَى ربَّهُ في شـهر شعبانِ.

لقـد أظَلَّكَ شهرُ الصَّومِ بَعْدَهُمَـا                           فلا تُصَيَّرْهُ أيْضـاً شَهْرَ عِصْيانِ.

وَاتْلُ الْقُرآنَ وَسَبِّـحْ فيه مجتَهِـداً                               فَإنه شِـهرُ تسبيحٍ وقُـرْآنِ.

كَمْ كنتَ تعرِف مِمِّنْ صَام في سَلَفٍ                       مِنْ بين أهلٍ وجِيرانٍ وإخْـوَانِ.

أفْنَاهُمُ الموتُ واسْتَبْقَاكَ بَعْدهمـو                      حَيَّاً فَمَا أقْرَبَ القاصِي مِنْ الدانِي.

حَتَّى مَتَى يَعمرُ المَرْءُ مَسكَنه                                 مَصِير مَسكَنه قَبْرٌ لإنسانِ.

قال:

يا ذا الذي ما كفاهُ الذنبُ في رَجبٍ                    حتى عَصَى ربَّهُ في شـهر شعبانِ.

وهذا حال أكثرنا في رجب وفي شعبان وفي شوال وفي أكثر الشهور – والعياذ بالله -، نسأل الله العافية.

قال:

لقـد أظَلَّكَ شهرُ الصَّومِ بَعْدَهُمَـا                           فلا تُصَيَّرْهُ أيْضـاً شَهْرَ عِصْيانِ.

وَاتْلُ الْقُرآنَ وَسَبِّـحْ فيه مجتَهِـداً                               فَإنه شِـهرُ تسبيحٍ وقُـرْآنِ.

كَمْ كنتَ تعرِف مِمِّنْ صَام في سَلَفٍ                       مِنْ بين أهلٍ وجِيرانٍ وإخْـوَانِ.

أين هم؟ أين ذهبوا؟ إلى أين ترحلوا؟ إلى أين ظعنوا؟

كَمْ كنتَ تعرِف مِمِّنْ صَام في سَلَفٍ                       مِنْ بين أهلٍ وجِيرانٍ وإخْـوَانِ.

أفْنَاهُمُ الموتُ واسْتَبْقَاكَ بَعْدهمـو                      حَيَّاً فَمَا أقْرَبَ القاصِي مِنْ الدانِي.

حَتَّى مَتَى يَعمرُ المَرْءُ مَسكَنه                                 مَصِير مَسكَنه قَبْرٌ لإنسانِ.

أيها الإخوة الفضلاء:

إن النفس كالبدن، تحتاج إلى مُتابَعة وإلى عناية، أن نقوم عليها بالمُتابَعة والعناية والرعاية، يتعاهد أحدنا نظافة بدنه في اليوم غير مرة، فهو إذا أصبح واستيقظ من نومه غسل وجهه وخلَّل أسنانه ونظَّفها، وقد كان فعل بها ذلك قبل أن ينام، ثم غسل أطرافه، وقد يستدعي الأمر أن يُعمِّم بدنه كله بالماء مرة أو مرات كما في الصيف – مثلاً -، فإذا دارت عليه دورة الأسبوع أخذ الزوائد من أظفاره وشعوره في الأماكن المُختلِفة، فلِمَ تُترَك النفس أو يُترَك أمر النفس هملاً؟ بعض الناس لا يكتفي بذلك أيضاً، أي بهذه الرعاية اليومية والأسبوعية، بل يعمل أو يتخذ ويصطنع فحصاً طبياً شاملاً كل ستة أشهر أو كل سنة على الأقل، لكي يُحافِظ على هذا البُنيان الرباني، أي البدن، وهو نعمة بلا شك من نعم الله الكُبرى علينا، فلِمَ في المُقابِل يُترَك أمر النفس هملاً؟ أليست هناك خُطة مُعيَّنة لإصلاح البدن في النوم، في الطعام، في الشراب، بالرياضة، بمُتابَعة الأمراض في أوائلها ومباديها؟ هناك خُطة مُعيَّنة، الكل يرعاها أو يُحاوِل أو يجتهد أن يرعاها على تفاوت بين الناس، فلابد إذن أن تكون هناك خُطة لرعاية النفس وإصلاحها والمُحافَظة على بُنيانها.

هذه الخُطة يا أحبابي موجودة، لكن أكثرنا غافل عنها وجاهل بها، جاهل بها لأنه جاهل، لأنه لا عقل له، لا تدبير له طبعاً، وهذه الخُطة لا تصلح ولا يصلح الأمر بها بمُجرَّد أن نعلمها، كلنا نعلمها، كلنا نعلم الصلوات المفروضات في مدى اليوم والليلة، كلنا نعلم قيمة وما أعد الله من أجر وثواب عظيم للذاكرين الله كثيراً والذاكرات، هناك الأذكار الصباحية والمسائية وأذكار الأحوال المُختلِفة، كلنا يعلم قيمة ونفاسة وشرف عبادة الصيام، المفروض منه والمُتطوَّع به، إلى غير هذه الأشياء، وتلاوة القرآن والاستغفار، ولكن مَن منا يتخذ مِن هذا العلم خُطةً حقيقيةً ليرعى بها بناء نفسه؟ الأقل والله، وأنا أولكم، وأنا من أقل الناس، الأقل للأسف الشديد، فلا تصلح هذه الخُطة، كأنها غير موجودة، ولأضرب لكم مثلاً يسيراً جداً.

هناك طبيب أو مُهندِس أو عالم – عالم الآن مثلاً بالكمبيوتر Computer والمعلوماتية وما إلى ذلك -، عنده علم جم كثير، ما لم يخرج هذا العلم من رأسه لن يفيد نفسه ولن يفيد الناس به بشيئ، أليس كذلك؟ ولن يتحصَّل على معاش منه، العلم مخزون في الرأٍ، لا يُساوي شيئاً، لكن متى ما وجد هذا الطبيب والمُهندِس البارع أو المعلوماتي المُتفنِّن فُرصةً للعمل في شركة فخمة عظيمة أبدع الكثير وقدَّم الكثير وأخذ لقاء ذلك الكثير أيضاً وليس اليسير، أليس كذلك؟ فهنا تظهر قيمة ما يحمل لنفسه وللناس، ويبدأ يُحترَم، حتى هو يَحترم نفسه، هذا طبيب مُجوِّد، هذا مُهندِس بارع، هذا معلوماتي مُتفنِّن مُتبحِّر، إذن لا نفهم قيمة الحكمة وقيمة العلم وقيمة المعرفة وقيمة الكلمة وقيمة النصيحة، لا نفهم قيمتها ولا نرعى لها حقاً إلا إذا استحالت إلى برنامج، إلى برنامج عملي وإلى خُطة مرعية يا إخواني.

كذلك القول وأكثر مما قلت في الدين وفي أمر الدين، الخُطة الشرعية سهلة وميسورة وقريبة التناول أو المُتناوَل لمَن يسَّره الله عليه، تقوم على خمس صلوات في اليوم والليلة، يُقيمها الإنسان ولا يُصليها، الله ما أمرنا في آية واحدة بالصلاة، وإنما أمرنا أن نُقيم الصلاة، دائماً! وَأَقِيمُوا الصَّلَاة وَآتُوا الزَّكَاة ۩، وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ ۩، دائماً يأمرنا بإقامة الصلاة، نحن نُصلي، ولكن هل نُقيم الصلاة؟ اللهم لا، إلا مَن شاء الله، إذن ماذا لو أقمنا الصلوات على الوجه الذي يطلبه الله – تبارك وتعالى – في اليوم والليلة؟ وجرِّبوا ذلك، أنا لا أقول هذا الكلام من عندي، هذا الكلام ليس فيه معرفة وليس فيه علم زائد، وأنا مُتعمِّد لذلك، لكن من باب الذكرى، أنفع بها نفسي وإخواني – والله – يا إخواني، أنفع بها نفسي وإخواني ومَن بلغ، جرِّبوا ذلك! 

جرِّب أن تُصلي في يوم وليلة خمس صلوات في أوقاتها أو في أوائل أوقاتها مع إقام الصلاة، جرِّب أن تشعر أنك تُصلي حقاً، وأنك تُخاطِب وتتوجَّه بهذه الصلاة إلى الله، جرِّب أن تنهاك الصلاة عن الفحشاء والمُنكَر، جرِّب أن تشعر أنها تزيدك قُرباً من الله، لو فعلت ذلك في يوم وليلة مرة واحدة لن تجد الغفلات ثُغرات أو مواضع تتسلل منها إلى النفس، لماذا؟ الوقت قصير ويسير بين كل صلاة وصلاة، ما أن تتسلل الغفلة حتى تأتي الصلاة فتطردها مُباشَرةً في نفس الوقت، لكن إن كنا نُصلي مُجرَّد صلاة، لا أن نُقيم الصلاة، فلن تُجدي هذه الصلاة، ولن تنفع، هي مُجرَّد حركات ظاهرية، لا نستفيد منها، إذن الخُطة لم تُطبَّق كما يجب، الخُطة لم تُطبَّق! مثل مُهندِس فاشل أو مثل طبيب فاشل أعياه التشخيص، فضلاً عن أن الدواء يُعييه بالحتم والتأكيد، الخُطة هنا فاشلة، لأنها ليست على وجهها، يختلف الأمر مع الاستغفار، ومع التوبة، كلما أخطأ الإنسان عاد فاستغفر، ونحن نُخطئ كثيراً جداً جداً يا إخواني، في كل لحظة لنا أخطاء وزلات، لكن كلما شعر الإنسان بخطئه عاد فاستغفر، إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ ۩، ولذا اتخذه الله خليلاً، لأنه كان حليماً أواهاً مُنيباً.

يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – المُؤمِن واهن راقع، ما معنى واهن راقع؟ أي كلما تمزَّق ثوبه – وليس المقصود ثوب البدن وإنما ثوب النفس، أي البناء الداخلي – رقعه، كلما تمزَّق رقعه مُباشَرةً، رقعه! واهن راقع، المُؤمِن مُفتَّن توَّاب، في حديث آخر المُؤمِن مُفتَّن توَّاب، كلما فُتِن بفتنة عاد فتاب إلى الله – تبارك وتعالى -، استخدموا هذا السلاح الناجع، استخدموا هذا الدواء الناجع والسلاح الماضي، أي سلاح الاستغفار، مُباشَرةً! يقول إبليس – لعنة الله تعالى عليه – أهلكت بني آدم بالذنوب، وأهلكوني بالاستغفار، أهلكتهم بالاستغفار، لكن مَن يستغفر منهم أهلكوني بالاستغفار، نعم! فعليكم بالاستغفار، بالأذكار، أذكار الصباح والمساء، ولن نُطوِّل، فهي معروفة أو موجودة عتيدة حاضرة في الكُتب الشرعية الكثيرة، وأحسنها كتاب الأذكار للعلّامة النووي، احفظوا كثيراً من هذه الأذكار، أذكار الصباح والمساء وأذكار الأحوال المُختلِفة.

لا يزال لسانك يا مُعاذ رطباً بذكر الله، حين طلب من رسول الله الوصاة وقال أوصني، قال لا يزال لسانك يا مُعاذ رطباً بذكر الله، إذن اللسان رطب بذكر، هناك صلوات خمس، استغفار، قراءة قرآن، أعمال صالحة، لا تُوجَد غفلات، ولا يُوجَد موضع للغفلات، فمن أين يدخل الشيطان؟ أصبحت مداخله ضئيلة وصغيرة وضيقة جداً علينا يا إخواني، لا يستطيع! وهناك أيضاً الدائرة الأسبوعية، صلاة الجُمعة، موعظة، كلمة طيبة، لقاء بالإخوان، استمداد من بركات الناس الصالحين، وطلب دعوات الناس المُبارَكين، فكل هذه تُفيد، وهي من بركات يوم الجُمعة وصلاة الجُمعة، إلى آخر هذه الخُطة.

المُهِم ويأتي هنا رمضان كل عام مرة، رمضان! ماذا إن صمناه بنفس الطريقة التي أقمنا بها الصلاة – أي إن صمناه على وجهه -؟ طبعاً الذين يُمسِكون عن الطعام والشراب كثيرون، لكن الصوّام قليلون، هكذا يقول العارفون بالله، المُمسِكون عن الطعام والشراب والشهوات كشهوات الفرج كثيرون، كل الصائمين الذي يظنون أنهم صائمون! لكن الصوّام قليليون، لماذا؟ حقيقة الصوم تبدأ من هذا الامتناع، لا أنها تنتهي عنده، تمتنع عن شهوات البطن وشهوات الفرج، فهذه النُقطة هي بداية الصوم، من هنا يبدأ فقط الصوم، أنت تمتنع لكي تستطيع أن تصوم، تصوم عن ماذا؟ عن الإفك، عن الزور، عن الغي، عن الكذب، عن الرياء، عن النفاق، عن الغش، عن الحسد، وعن كل الأوزار والآثام.

قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – فيما أخرج أحمد والبزّار والبيهقي والطبراني ورجاله رجال الصحيح، قال صيام شهر الصبر – وشهر الصبر هو شهر رمضان – وثلاثة أيام من كل شهر يُذهِبن وحر الصدر، قال يُذهِبن وحر الصدر، ما هو الوحر؟ الوحر هو الغيظ والغل والحسد والغش كما قال العلماء، هذا هو، هذا الوحر، فمَن صام رمضان وصام ثلاثة أيام من كل شهر – وأرجى الأيام أن تكون هي الأيام البيض، أي أيام الليالي البيض، الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، حيث يكتمل القمر وتُصبِح الليالي بيضاً أو بيضاء، تُصبِح الليالي بيضاً، فهذه الأيام البيض من كل شهر – ذهب وحر صدره، صيام شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر يُذهِبن وحر الصدر، الإنسان يشعر بنوع من النقاوة ومن النقاء الداخلي، جرِّبوا هذا النقاء وهذه الطهورية الداخلية، حين تعنون بأبدانكم على الوجه الذي ذكرت أو خيراً منه أو دونه تشعرون – هذا المُهِم – بنوع من الانتعاش، لكن هو انتعاش حسي، هذا انتعاش حسي، حين تُقيمون الصلاة وتزكون النفس وتصومون ما فُرِض عليكم أو تطوَّعتم به لله وتتلون كتاب الله وتعودون بالاستغفار والتوبة والإنابة تشعرون بجو روحاني داخلي عامر بالسكينة والطمأنينة، تشتعل أو تُوقَد قناديل النفس، يُضيء في النفس وفي جنابات النفس مصباح لألاء وهاج، تصير النفس به في نهار موصول الشروق، وحينئذ يشعر أحدكم بمعنى التطهر الداخلي، يشعر وربما لأول مرة بهذه الطريقة أنه تطهَّر من الداخل، أنه كُنِس كنساً أو غُسِلت نفسه غسلاً كما يُغسَل البدن.

ولذا كان النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – يستقبل رمضان مسعوداً به، يقول مرحباً بالمُطهِّر، كان يقول مرحباً بالمُطهِّر مع أنه قال في حديث ابن عساكر عن عائشة مرفوعاً، قال شعبان المُطهِّر ورمضان المُكفِّر، وهذا لا يمنع أن يكون رمضان أيضاً باعتبار آخر مُطهِّراً ومُكفِّراً، وإنه لكذلك، هو شهر مُطهِّر وشهر مُكفِّر.

نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُعيننا فيه على ذكره وشُكره وحُسن عبادته، وأن يتقبَّل منا صالح ما علمنا، وأن يتجاوز عن سيئاتنا في أصحاب الجنة، وعد الصدق الذي كانوا يُوعدون.

أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين المُحسِنين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وسلَّم تسليماً كثيراً.

اللهم أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، لا تدع لنا في هذا اليوم الكريم ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرَّجته، ولا كرباً إلا نفَّسته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مُبتلىً إلا عافيته، ولا مديناً إلا قضيت عنه دينه، ولا غائباً إلا رددته، ولا أسيراً إلا أحسنت فكاكه يا رب العالمين وخلاصه، ولا حاجةً لنا من حوائج الدنيا والآخرة، لنا فيها صلاح ولك فيها رضا، إلا أعنت على قضائها وتيسيرها بمنّك وفضلك، إنك ولي ذلك والقادر عليه.

اللهم إنا نسألك عزائم مغفرتك، ومُوجِبات رحمتك، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، والفوز بالجنة، والنجاة من النار، اللهم إنا نسألك فعل الخير، وترك المُنكَرات، وحُب المساكين، وأن تغفر لنا، وإذا أردت بعبادك فتنةً فاقبضنا إليك غير مفتونين.

اللهم حقِّق بالزيادة آمالنا، واقرن بالعافية غدونا وآصالنا، واختم بالسعادة آجالنا، بلِّغنا مما يُرضيك آمالنا، وتوفنا مُسلِمي صالحين غير خزايا ولا مفتونين، واغفر لنا ولوالدينا وللحاضرين وللمُسلِمين أجمعين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم إنا نسألك كرامة الشهداء، ومنازل السعداء، والنصر على الأعداء، اللهم انصرنا على مَن عادانا، وأرنا فيه غارات ثأرك يا رب العالمين، وتعاجيب قدرتك، فإنهم لا يُعجِزونك.

اللهم انصر الإسلام والمُسلِمين، وأعل بفضلك كلمتي الحق والدين، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا صالحين مُصلِحين، هُداةً مُهتدين، غير ضالين ولا مُضِلين، سلماً لأوليائك، وعدواً لأعدائك، نُحِب بحُبك مَن أحبك، ونُعادي بعداوتك مَن خالفك.

اللهم هذا الدعاء وعليك الإجابة، وهذا الجُهد وعليك التُكلان، اللهم إنا نعوذ بك من الفقر إلا إليك، ومن الذل إلا لك، ومن الخوف إلا منك، ونعوذ بك أن نقول زوراً، وأن نغشى فجوراً، ونعوذ بك من فجاءة نقمتك، وتحول عافيتك، ومن كل بلاء ظاهر وباطن يا رب العالمين.

ربنا تقبَّل منا صلاتنا وصيامنا وقيامنا ودعاءنا وركوعنا وسجودنا، واختم بالسعادة آجالنا.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله يذكركم، واشكروه يزِدكم، وسلوه يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

(1998)

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: