إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.

عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

 

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلا ۩ خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا ۩ قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ۩ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط ، آمين اللهم آمين.

إخواني وأحبابي في الله وأخواتي الفُضليات :

قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ۩، نزلت هذه الآيةُ الكريمة في صحابيٍ كريم قال لرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – يا رسول الله إني أُحِب القتال في سبيل الله – أي أُحِب أن أُجاهِد في سبيل الله – وأُحِب أن يُرى مقامي، أي مكاني فهو يُشرِّك في النية، يُحِب أن يراه الله – تبارك وتعالى – وفي الوقت عينه يُحِب أن يراه الناس، فهو يُجاهِد لله وللناس معاً، فسكت عنه – عليه الصلاة وأفضل السلام – فأنزل الله – تبارك وتعالى – هذه الآيةَ الجليلة فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ۩.

لفت نظري أن بعض دارسي العلوم الشرعية – وهذا ما حدث بالفعل – حين يسمعون كلاماً تفصيلياً يتعلَّق بهذه المسألة الشريفة والمُهِمة لا يستوعبونه ويقولون الآتي:

لماذا كل هذا التشديد؟!

ما القصة إذن؟!

ألا يكفي فقط أن نتعبَّد وأن نُحسِن وأن نتصدَّق وأن نبر مَن يستحق البر من عباد الله؟!

لماذا كل هذا التنطع – يزعمون أو يظنون أو يهيمون – وكل هذا التشديد؟!

وحين يسمعون بقصص الصالحين من أصحاب رسول الله وأتباعه وأئمة الهُدى والعرفان أيضاً يُقطِّبون حواجبهم كأنهم لا يستوعبون ويقولون:

لماذا كل هذا الخوف وكل هذه المُحاذَرة !

هل المسألة مُعقَّدة ومُخيفة إلى هذا الحد؟!

نعم، وأكثر من هذا الحد.

معقولٌ جداً ومفهومٌ جداً وعادلٌ جداً وصحيحٌ تماماً أن الله – تبارك وتعالى – لا يرضى التشريك في النية وهو الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى۩ والذي قال وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۩، لسنا نعرفُ نعمةً أو منةً إلا وهو مُبتديها قبل استحقاقها سبحانه وتعالى وليس للخلق في ذلكم من نصيب، فوالله لو وقع مثل هذا الشيئ في حقِ آدمي ضعيف منا ما قبله.

بالفرض أن أحدكم تكفَّل شاباً أو فتاةً وأغدق عليه وأسبغ نعمته عليه – إن جاز التعبير – وأحسن عليه بكل صنوف وأنواع الإحسان ثم رأى هذا الشاب أو تلكم الفتاة يلحظه بالعرفان والامتنان ويلحظ غيره مِمَن لم يُقدِّم إليه شيئاً – يلحظه ويلحظ غيره، يعمل لوجهه ولوجه غيره مِمَن لم يُقدِّم إليه شيئاً – فإنه سيشعر بالتنغيص وسيشعر أن هذا العبد المُنعَم عليه عبدٌ جحود وعبدٌ كنود وعبدٌ سفه نفسه وكفر نعمة مولاه، فكيف الحال برب العالمين الذي لا نعرف فضلاً إلا منه ولا منةً إلا منه؟!

حتى الفضل الذي يأتيك على يد آدميٍ مثلك مَن الذي ألهمه أن يتفضَّل عليك؟!

ربُ العزة، فوالله الذي لا إله إلا هو لو لم يُلهِمه ما رأيت منه حبة، ولكن الله هو الذي دفعه، نعم يُشكَر ويُعترَف له ولكن القلب يعلم أن حقيقة الأمر بيد الله – تبارك وتعالى – فالمُنعِم الحق والأوحد هو الله، أما هذا فوسيلة، تُشكَر الوسيلة ولكن الشكر كله وحقيقة الشكر ومحض الشكر وصفو الشكر وخالصه لله رب العالمين لا إله إلا هو.

قال الله “يا دواود أدرك لي خفي الفطنة ولطيف اللطفِ فإني أُحِب ذلك من عبدي”، فقال: يا رب وما خفي الفطنة؟!

قال “إذا وقعت عليك ذبابة فاعلم أني أنا الذي أوقعتها فسلني أرفعها – لا يستطيع أن يدفع عنك ضراً ولو كان مُجرَّد وقوع ذبابة عليك إلا الله تبارك وتعالى، فالله قال هذا أنا -، وإن جاءتك حبة – كسر بسيط من الدرهم، شيئ غير مذكور يُقدَّر بالسنتات الآن – فاعلم أني أنا الذي سوقتها إليك فاشكرني على ذلك”، وليس كذلكم فقط أو ليس ذلكم وحسب بل ينبغي على العبد الصاحي والعبد العارف والعبد اليقظان ألا يشتغل بالنعمة عن الخدمة، واحفظوا هذا لأن هذا من أدق وألطف ما قيل في تعريف الشكر، فالشكر هو ألا تلهو وألا تشتغل وألا تُشغَل بالنعمة عن الخدمة، فبعض الناس يتظاهر بخدمة الله ويزيد في طاعته وفي عبادته وفي أذكاره وفي إحسانه وصلته وبره حتى إذا ما تحقَّق له المرجو والغاية من نجاح ولده أو تحقيق مُناه وإلى آخره نكص، لأنه أصبح الآن مشغولاً وفرحاً بهذه النعمة الآن، فهذا ليس عبداً عارفاً وليس عبداً شاكر لله، لأن الشاكر لا يشتغل بالنعمة عن الخدمة، فينبغي أن نبقى دائماً خُدَّاماً لله – تبارك وتعالى – وعُبَّاداً له على التحقيق – لا إله إلا هو – لأن الأمر كله بيده، ولذلك عادلٌ ومعقولٌ وصحيحٌ أن الله لا يقبل التشريك في الأعمال، قال الله “أنا أغنى الأغنياء عن الشرك، فمَن عمل عملاً أشرك فيه – أي معي – غيري تركته وشركه”، وفي رواية “وشريكه”، كأن الله يقول لك خُذ أجرك من شريكك الآخر فأنا لا أُريد هذا العمل، ولكن هنا يثور سؤال وهو: لماذا كان الحال كذلكم؟!

لا يُمكِن أنه كان كذلكم لمعنىً يعودُ إلى الله تبارك وتعالى، حاشا لله، فالله – كما قال شيخ الإسلام أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني رضوان الله تعالى عليه – باريٌ من الحظوظ، فقط موجودٌ واحد لا حظ له لأنه كامل كمالاً مُطلَقاً وغنياً غناً مُطلَقاً وأبدياً وأزلياً وسرمدياً، وقال الله يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ۩، فالله هو رب العالمين، وقد أفتى أبو بكر الباقلاني أن مَن ادّعى الخلوة والبراءة من الحظوظ بالكلية فقد كفر لأنه ادّعى الإلهية، وحتى محمد – صلوات ربي وسلامه على النبي المُحمَّد وآله وأصحابه أجمعين – لم يكن بارئاً من الحظوظ، ولكن حظوظه كانت ربانية أخروية إلهية فهو يُحِب قُرب الله ورضوان الله ومحبة الله ونعيم الله وفردوسه والوسيلة والشفاعة، هو يُحِب هذا ولذلك هذه كانت حظوظه، فليست حظوظ النبي المُحمَّد من الدنيا هى الشهوات والملاذ والأموال، وإنما حظوظ أُخروية ومع ذلك هى في نهاية المطاف تُعَد حظوظاً له كبشر ضعيف لأنه ليس إلهاً، أما الله – تبارك وتعالى – لا حظ له، ولذلك قال وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ۩ وقال أيضاً إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ۩، فالله – كما أقول دائماً – لم يقل يرضه منكم وإنما قال يَرْضَهُ لَكُمْ ۩أي أن هذا لك، ومن هنا قال في سياق آخر نَافِلَةً لَكَ ۩، وقال في الحديث الذي تعرفونه “يا عِبَادِي إني حَرَّمْتُ الظُّلْمَ على نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فلا تَظَالَمُوا، يا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلا من هَدَيْتُهُ فاستهدوني أَهْدِكُمْ، يا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلا من أَطْعَمْتُهُ فاستطعموني أُطْعِمْكُمْ، يا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إلا من كَسَوْتُهُ فاستكسوني أَكْسُكُمْ، يا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وأنا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جميعًا فاستغفروني أَغْفِرْ لَكُمْ، يا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يا عِبَادِي لو أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا على أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ ما زَادَ ذلك في مُلْكِي شيئا – فلو كل الناس آمنت أو لو كل الناس كفرت لن يزيد هذا الله شيئاً ولن ينقصه شيئاً لأنه هو الغني -، يا عِبَادِي لو أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا على أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ ما نَقَصَ ذلك من مُلْكِي شيئا، يا عِبَادِي لو أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ ما نَقَصَ ذلك مِمَّا عِنْدِي إلا كما يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إذا أُدْخِلَ الْبَحْرَ- أي الإبرة إذا أُدخِلَت اليم، ضع إبرة في البحر أو في المحيط الأوقيانوس ولن تخرج أو تعود بشيئ – ، يا عِبَادِي إنما هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غير ذلك فلا يَلُومَنَّ إلا نَفْسَهُ”.

أغنى أغنياء العالم الذي يمتلك عشرات المليارات ماله يُعتبَر محدوداً وعطاؤه يُعتبَر محدوداً ومجذوذاً، فلابد أن ينقطع لأنه لا يستطيع أن يسع الناس كلهم، بل لا يستطيع في غالب الظن أن يسع حتى معارفه بماله، والعجيب أن الناس خُلِقوا ورُكِّبَ فيهم الشح، قال الله وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ ۚ ۩، فالناس فيهم شح وفيهم طمع، والآن نفترض أنه آتاك مليار – ألف مليون – وعلم به أخٌ شقيق ومن ثم طمع في ربعه فسيقول لك “أنا أخوك ابن أبيك وأمك، أليس لي – مثلاً – الربع؟!

أي أنه يُريد مائتين وخمسين مليون، ثم يطمع الأخ الثاني وابن العم وابن الخال والعم والخال والأخت وأبناء الأخت وأبناء الإخوة والأصدقاء المُقرَّبون الذين خدموك وتعرَّفوا إليك في الضراء فينبغي أن تتعرَّف إليهم في السراء وإلى آخره، وأنت ربما تكون كريم النفس وندي اليد وتُحِب أن تُعطي كل أحد لكن لو أعطيت كل أحد على ما يستحق ما بقيَ لك دانق، أما رب العالمين – لا إله إلا هو – هو الغني وهو الواسع – لا إله إلا هو – حقاً، هو الغني الواسع لأنه لو أعطى كل أحد ما سأل – ولو سأله ملك السماوات والأرض – ما نقص ذلك مما عنده شيئاً – لا إله إلا هو – لأنه يُعطي من خزائن كُن ۩ وليس من خزائن عليها أقفال وحُرَّاس ووزعة وإنما هى مُقفَلة فقط بـ كُن ۩، كُن ۩ تفتحها وكُن ۩تُغلِقها، قال الله – لا إله إلا هو – في القرآن الكريم إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ۩، فهذا هو رب العالمين – لا إله إلا هو – ولذلك مَن عرفه ومَن أنس بمعرفته ومَن تنوَّرت جوانجه وساح في نفسه في معرفته علم أن الغنى كله به – لا إله إلا هو – ولذلك لا يُشرِّك في النية.

قيل لأحد الصالحين من أسلافنا “كأنك تُرائي”، فقال: ماذا أُرائي؟!

ثم قال “والله الذي لا إله إلا هو للناس كلهم أهون عندي من هذه”، وأخذ قشة ورفعها في الهواء، فهو يقول أُرائي مَن؟!

لماذا أُرائي الناس؟!

هل الناس خلقوني وسووني وعدَّلوني وأحيوني ورزقوني الولد ورزقوني العافية ورزقوني المواجيد والأذواق الإلهية ورزقوني المعرفة بالله لكي أُرائيهم؟!

ماذا أعطاني الناس؟!

لماذا أنا أُلاحظ الناس؟!

لذا هو قال “والله الذي لا إله إلا هو للناس كلهم أهون عندي من هذه”، وهو لا يحتقرهم ولكنهم أهون عنده في العمل والعبادة وعمل الصالحات فهو لا يلحظهم، ومن هنا قال أبو عثمان الحيري – قدَّس الله سره – في تعريف الإخلاص “الإخلاص هو الانقطاع عن مُلاحَظة الخلق بدوام مُلاحَظة الحق”، فمادمت تنظر إليه – لا إله إلا هو – لا يُمكِن أن تلتفت إلى البشر، وليس هناك أحد من البشر يُمكِن أن يلفتك عن رب العزة، فهو لا يُعد شيئاً إلى جانب مالك الملك والملكوت – لا إله إلا هو – الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ۩، ليس فقط الملكوت وإنما مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ۩، فما أعجب هذه الآية التي هى في ختام يس؟!

آيات الملكوت واضحة ولكن “مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ۩” تحتاج إلى وقفة طويلة ففكِّروا فيها، فكل شيئ كل شيئ مهما دق هو ملكوت، ومفاتحه بيد الله وحده – لا إله إلا هو – مهما صغر – والله – ومهما ضئل، قال الله وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ ۩،ولذلك يتقرَّر أن هذا مفهوم، لكن لماذا أراد الله الأمر وجعله على هذا النحو؟!

من أجلنا نحن، حتى نستكمل إنسانيتنا وحتى نُصبِح بشراً آدميين وأناساً حقيقيين فيكون لنا كرامة ولنا عزة ولنا معنى، ومن ثم علينا أن ننتبه إلى أن الذي يعمل العمل ويلحظ فيه الخلق ولا يلحظ فيه الحق – لا إله إلا هو – ويرجو ثوابه ولو مدحةً من الناس – أي من المدح والكلام مثل ما شاء الله فلان كذا وكذا – هو إنسان صغير فطير وغير ناضج وغير مُستو وغير كامل وطفولي بل وصبياني حتى وإن كان شيخاً في الثمانين ولديه عمامة ولحية، هذا المسكين مازال صبياً صغيراً، فحتى وإن كان ألَّف مُجلَّدات في الفقه والشريعة والعرفان فهو صبي أيضاً، بما أنه في هذا المقام فهو صبي، إذنمثل هذا الشخص جديرٌ وقمين ومُرشَّح لماذا؟!

مُرشَّح للرياء والعياذ بالله، فيُرائي بأعماله، وهو يُرائي ويُصرِّح بهذا ويطلب هذا ويُحِب هذا ويغضب إن لم يحصل، فأين هو من المُخلصين إذن؟!

مثل هذا مُرشَّح للمن أيضاً، فهذا لابد أن تنتظر منه أن يمن عليك وأن يقول لك في يوم من الأيام “أنا الذي أعطيت وأنت لحم كتفاك من خيري”، فهو يمن ومن ثم سيُصبِح دنيئاً جداً جداً جداً، فلو لم يُعط لكان أفضل من أن يُعطي ويمن، فأنت لو كنت مثله ستبدأ الآن تمن وتُصفِّر وجوه مَن أحسنت إليهم لوجه الله زعمت ولم يكن لوجه الله وإنما لوجه ذاتك ولوجه نفسك.

ثالثاً هو مُرشَّح أن يقطع إذا لم يجد كفاء ما أعطى من الناس مدحاً وتبجيلاً وذكراً، فإذا لم تُثنوا عليه هو سيقطع عطاءه، ومن ثم علينا أن ننتبه إلى هذا، فهذا الإنسان خطير وصغير – وكما قلت لكم – وفطير، وهذا الإنسان الفطير أيضاً يُعطي بحساب وبحسابات ويقول “إذا أعطيت هذا الفقير الغلبان الذي لا أعرفه لأنه مُجرَّد عابر سبيل فلن أستفيد شيئاً، لكن سأُعطي هذا الذي له علاقة بهذا، فالثاني هذا مُتنفِّذ وبالتالي يُمكِن أن يُحدِث شيئاً يفيدني في قابل أيامي أو في مشروعي الفلاني العلاني، فأنا أُعطي هذا لأنه وسيلة إلى هذا، وهذا مُفيد لي”، إذن هو يُعطي بحسابات لئيمة على الرغم من أن هذا لا يستحق في حين أن الفقير المسكين هذا أكثر استحقاقاً، ومع ذلك لا ينظر إلى هذا هو بل ربما يعطي مَن لا يستحق أصلاً، فيُعطي هذا المُغتني المُتموَّل ولا يُعطي هذا الفقير المُعدِم، فهو يُعطي هذا ويزعم أنه يُعطي لله في حين أنه يُعطي لحسابات، وهذا شيئ خطير وقميء جداً، فلو انكشفت حقيقته للناس لقلوه ولمقتوه ولكرهوه، لذلك أين هؤلاء – كما قلت لكم حتى لو كانوا في صور علماء دين وُصلحاء وعُبَّاد أو يتظارهون بهذه الأشياء – من المُخلِصين الحقيقيين؟!

اسمعوا هذه القصة العجيبة والمُؤثِّرة عن ذلكم الرجل الصالح – رضوان الله عليه – الذي يقول فيها “لقد قضيتُ صلوات ثلاثين سنة – قضى صلوات ثلاثين سنة ما شاء الله لكن بعد ثلاثين سنة اكتشف شيئاً في نفسه، فهو كان مُغتراً وجاهلاً وعنده غرور الجهل وليس الكبر، هذا إسمه العُجب والكبر، ومن ثم كان مُغتراً لأنه غُرَّ عن نفسه ولم يفقه نفسه جيداً وبعد ثلاثين سنة فهم شيئاً عجيباً ولذلك قضى صلوات ثلاثين سنة – لم تكن لله كلها، كنت أظنها لله فإذا هى ليست لله”، ما القصة؟!

ما الحكاية؟!

هذا هو التفتيش في النفس و هذه هى العظمة الإنسانية وهذا هو الإنسان الذي لا يُصبِح إنساناً إلا بالإخلاص، فالله يُريد ذلك لنا، يُريد لنا أن نُصبِح أناسي حقيقيين وبشراً كاملين ناضجين.

قال الرجل الصالح “صليت ثلاثين سنة في الصف الأول لا تفوتني تكبيرة الإحرام خلف الإمام – أي في الصف الأول لوجه الله، والله يُحِب ذلك جداً، قال الرسول “الله وملائكته يُصلَّون على أوائل الصفوف وميامينها”، فالصف الأول والميامن دائماً يُصلَّى عليها لأن لها مزية – لكن بعد ثلاثين سنة اتفق أنني تخلَّفتُ عن الصلاة قليلاً فصليت في الصف الثاني فاعترتني خجلة من الناس – كأن يُقال أن الشيخ فلان أبو فلان كان يُصلي لمدة لثلاثين سنة في الصف الأول – ومن ثم خجلت من نظر الناس إلىّ – أي الأشخاص الذين يعرفونه – ثم فكَّرت في خجلتي فأطلعتني على حقيقتي، وكنتُ أظن أنما أُصلي في الصف الأول لله فإذا مسرتي وفرحتي بنظر الناس إلىّ وإلا لم اعترتني خجلة؟!

إذن كان كل هذا الباعث والفرح بكوني أُصلي في الصف الأول كان من أجل الناس، فلو كانت من أجل الله لما شعرت بالخجل من الناس، فلا مُشكِلة من أن أكون في الصف الثاني أو في الصف العشرين أو في الصف الثلاثين فهذا ما قدَّر الله، ومن هنا شرعت أقضي صلواتي.

هذا التفتيش يُعَد شيئاً صعباً، ومن ثم على أهل الدين أن يُفكِّروا في هذا كثيراً، فبعض العوام لا يسمع بهذه الأشياء ولا يكاد يفقه فيها شيئاً وبالتالي حياته كلها رياء في رياء وكذب في كذب بإسم الدين، والواحد منهم يكون مرتاحاً ومسكيناً لأنه يظن أنه سيجد شيئاً كثيراً عند الله، لكن على كل حال المسألة خطيرة جداً، قال الله أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ۚ ۩ وقال أيضاً فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ ۩ وقال في سياق آخر وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّـهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ۩ فضلاً عن أنه قال في سورة النساء وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ ۩، وهناك آيات كثيرة تُؤكِّد هذا المعنى، فهذا هو الدين الذي لا يقبل الله منه إلا الخالص، فإذا لم يكن خالصاً فقد تعنيت وأتعبت نفسك ليس أكثر لكن عليك ألا تفعل هذا، صحِّح نيتك وأخلص عملك وبإذن الله تعالى لن يضيع جهدك وسوف ترتفع منزلتك عند الله تبارك وتعالى، فاللهم احفظ علينا إيماننا وزيِّنا وزوِّدنا بالإخلاص حتى نوافيك به يا رب العالمين.

أحد الصالحين يحكي عن نفسه كيف أنه قضى ليله إلى السحر يتلو كتاب الله – تبارك وتعالى – حتى ختم تلاوته بسورة طه ثم قال: كنت أتلو سورة طه فغلبتني عيناي فرأيت ملائكة هابطة من السماء وبيدها صحيفة عمل فسألت فقيل “هذه صحيفتك”، فنظرتُ فيها بفضول فوجدت في آخرها سورة طه وقد كُتِبَت بأحرف من نور وتحت كل كلمة مكتوبٌ عشر حسنات وذلك عند كلمة إلا كلمة في آخر السورة مُحيَ ما تحتها فلم يُكتَب تحتها شيئ ومن ثم لا يُوجَد عشر حسنات تحتها، فقلت – أي قال هذا الصالح للملائكة – لقد تلوتها، أي أن هذه الكلمة سبق وأن تلوتها ، فقيل نعم يا عبد الله قد تلوتها وقد كتبنا أجرها عشر حسنات ولكن الله – تبارك وتعالى – ربك أمرنا أن نمحوها ونمحو العشر الحسنات، قال الله امحو هذه الحسنات التي لم يُرد بها وجهي، فبكيت في المنام وقلت أنني تلوتها، فقيل كلا، لقد مرَّ مارٌ بحذاء دارك فسمعت وقع أقدامه فرفعت صوتك فلم تكن لله.

الله أكبر، أي أنك رفعت صوتك بالكمة هذه لكي يسمع أنك جالس سهران مُسهَّد تتلو كلام الله، فلم تكن لله وإنما لله ولهذا المار ومن ثم مُحيت.

وهكذا، فهذه هى الدقة في الحساب، قال الله وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ۩، فإذا كنت ترى بعقلك أن أحداً يستحق أن يُشرَّك مع الله شرِّكه مع الله، ولكن هل تجدون هذا الأحد؟!

مَن هو هذا الأحد؟!

لا أحد يستحق أن يُوضَع مع الله في رُتبة واحدة لكي نُلاحِظه مع رب العزة – لا إله إلا هو – لأن هذا – والله – سفه لكن الإخلاصُ عقل.

كان الربيع بن خثيم – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – يقرأ في المُصحَف في بيته فإذا دخل داخل خبَّأه في ثيابه وجلس كأنه لا يقرأ القرآن، فحتى المُصحَف لا يُحِب أن يُرى ومن ثم كان يُخبِّئه.
وكان الإمام الجليل جداً عبد الرحمن بن أبي ليلى الذي كان مُعاصِراً لأبي حنيفة – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاهما – يُصلي في بيته فإذا استُئذنَ عليه نام على الفراش مُباشَرةً، فمُباشَرةً يضطجع كأنه نائم لأنه لا يُريد أن يُرى مُصلياً.

يُقال إن أيوب السختياني – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – كان إذا دخل بيته وصلى ينشج نشيجاً لم يُسمَع مثله فيكاد يموت من الخشوع والبكاء، ولو جُعِلَت له الدنيا بما فيها على أن يفعله وأحدٌ يراه ما فعله، فمن المُستحيل أن ينشج لك أمام الناس ، فالبكاء والنشيج في بيته وهو حده من حيث لا يراه إلا الله تبارك وتعالى!
الصاحب الجليل بُريدة بن الحصيب كان صاحباً لرسول الله – صلى الله على رسول الله وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً – ومن ثم فالنبي هو الذي علَّمه مثلما علَّم أصحابه كان يقول “شهدت خيبر وكنت في مَن صعد الثُلمة – ثُلمة خيبر لمَن قرأ السيرة – وعلىّ ثوبٌ أحمر فقاتلت قتالاً شديداً فلست أرى أني عملت عملاً في الإسلام أشأم علىّ منه”، قال أنه لم يعمل عملاً أسوأ من هذا فضلاً عن أنه قال أنني قاتلت وعلىّ ثوب وعُرِفت فبُريدة – بُريدة فارس – هو الذي صعد الثُلمة ما شاء الله، ولكنه قال هذا أشأم عمل أنا قومت به، وذلك لأنه ليس لله فهو عُرِفَ وشُهِرَ، ولكم أن تتخيَّلوا هذا الذي هو عكس ما يفعل بعض الناس، فالواحد منهم يشهر عمله ولو بدفع المال، فيدفع لك أحدهم أموال لدعايات من أجل أن يعمل لنفسه دعاية فيقول اكتبوا عني كذا كذا وقولوا عني كذا كذا وصوِّروني بالطريقة الفلانية وأخرجوني للعالم بالطريقة الفلانية، فما هذا؟!

هل تُريد أن تُعبِّد الناس لك؟!

مَن أنت ولماذا؟!

ما حظك يا مسكين إذن؟!
ماذا ستبلغ وستُصيب؟!

من ورائك الموت، فسوف تموت سواء كان ذلك بكرة أو بعد بكرة أو بعد عشرين سنة، لكن مَن يُرائب فإن عقله غير مُكتمَل، لكن عندما يكتمل العقل يُخلِص الإنسان لله، وهكذا فالإخلاص عزيز وليس سهلاً، فهذه الحكايا وهذه الروايات تُبرهِن أنه ليس سهلاً بل هو صعب ويحتاج إلى تفتيشٍ دائم ومُلاحَظة ومُراقَبة ومُتابَعة لا تنقطع، ومن هنا نجد أن أبا اليزيد البسطامي – قدَّس الله سره – قال “لو أعلم أنه صحَّت لي تهليلة – تهليلة واحدة – لاسترحت ولقرَّت عيني”، يقصد أنه سيستريح لو علم أنه قال مرة “لا إله إلا الله” لوجه الله لأن هذا يُعَد صعباً، فمن الصعب أن تقول صحَّت لي تهليلة بإخلاص لوجه الله تبارك وتعالى.

كان أحد الصالحين من أسلاف أمتنا المُبارَكين – رضيَ الله عنه – إذا لبَّى لا يُسمَع تلبيته، وما أكثر هؤلاء الصلاح وأحلاهم وأحلى ذكرهم؟!

فهذه الأمة كانت عجباً ولازال فيها العجب بفضل الله عز وجل ، ومن هنا كان هذا الصالح إذا لبَّى بحجة أو بعُمرة لا يُسمَع تلبيته، فإذا سُئل يقول “هو أعلم بنيتي”، فهو لا يُريد أن يُرائي، ولذلك أمثال هؤلاء رُزِقوا الثبات والدوام والتوفيق ومُنِعوا الخذلان بفضل الله تبارك وتعالى، فلم يُخذلوا لأنهم كانوا على نمط مُعجِب ولافت في العبادة والتُقى والاستمرار، وهذا شيئ لا يُصدَّق !
يعني مثلاً الإمام الجليل والحافظ الثقة داود بن أبي هند – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – لقيَ سعيد بن المُسيب وغيره وأخذ عنهم ويُقال أنه أربعين سنة ولم يدر به أهله، لا زوجته ولا أولاده ولا أي أحد كان يعرف أن داود كان يصوم كل يوم إلا في الأيام المُحرَّمة، فمن أين هذا الثبات وهذا النمط والسلوك؟!

توفيق الله، لأن هذا تم بإخلاص، قال الربيع بن خثيم “العمل ما لم يكن خالصاً اضمحل مُباشَرةً، وإذا كان خالصاً تستمر”، ومن هنا قد يشكو البعض ويقول “قمت الليل شهراً أوشهرين أو سنة ثم انقطعت ولا أعلم ما السبب”، ونحن نقول له أن السبب هو عدم توافر الإخلاص، في حين أن هناك مَن كان يقوم الليل من ثلاثين سنة ولم ينقطع ومن ثم نحن نقول له نرجو أن تكون من المُخلِصين إن شاء الله تعالى، لأن الإخلاص يُؤدي إلى الاستمرار.

قالوا عن داود بن أبي هند رضيَ الله عنه وأرضاه “صام أربعين سنة دون أن يدر به أحدٌ من أهله، فيأخذ طعامه من البيت بعد أن يطلب منهم الغداء ثم يتصدَّق به في الشارع وهم يظنونه انه كأنه يأكله في وقت الغداء، لكن في الحقيقة هو كان يصوم دون أن تدري زوجته أو أن يدي أولاده”، الله أكبر، لكن اليوم تجد أن الذي يظن نفسه مُخلِصاً يُخفي العمل عن أصحابه وعن إخوانه وعن مشائخه ولكنه دائماً يُحيط به زوجته وأولاده ويقول “الحمد لله أنا أعطيت وأنا عملت” لعدم توافر الإخلاص، وبالتالي هذا الكلام يُعَد كلاماً فارغاً، فيجب أن يكون هذا لله وليس للزوجة أو لشيخ أو للولد أو لأي أحد من بني آدم.

الإمامُ الجليل وعصري أحمد بن حنبل الذي شُبِّه بالصحابة – رضيَ الله تعالى عنهما – محمد بن أسلم الطوسي – رضيَ الله عنه وأرضاه – وقيل فيه أنه رُكن من أركان الدين ورُكن من أركان الإسلام في عصره”.

قال محمد بن القاسم سألت أبا يعقوب المروزي قائلاً: يا أبا يعقوب لقد لقيت أحمد بن حنبل ومحمد بن أسلم فأيهما كان أرجح؟!

فقال: يا أبا عبد الله اتق الله، لم سألتني هذا السؤال؟!

ثم قال “إذا رأيت محمداً فمحمدٌ لا يُقارَن به أحد في أمور، وذلك في البصر بالدين واتباع الأثر – أعني اتباع السُنة عن محمد صلى الله عليه وسلم – والزهد في الدنيا والفصاحة بالقرآن والنحو، فهذه أربعة أمور لا يُمكِن لأحد أن يُقارَن بمحمد بن أسلم فيها سواء كان هذا الرجل هو أحمد بن حنبل أو غيره، يقول محمد بن القاسم عن محمد بن أسلم – هو من أوثق وأخلص تلامذته – الذي كان يُشبَّه بالصحابة: صحبته ثلاثين سنة فلا والله ما رأيته يتطوَّع بركعة إلا ما كان من ركعتي الجمعة – أي أنه لا يتطوَّع إلا في هاته الحالة فقط فلا يُصلي إلا الصلوات العادية والرواتب وينتهي الأمر – حتى أتيته مرةً في داره فسمعت ابنه يحكي بكاءً – أي أن ابنه كان يُمثِّل ويُقلِّد بكاء أحدهم – فقالت له امه اسكت أو صهٍ، فقلت ما باله؟!
فقالت “محمد أبو الحسن له حُجرة في الدار يدخلها كل يوم – هتكت ستره المسكينة عن حُسن نية – وإنما هى التلاوة والبكاء والنشيج”، أي أنه كان يفعل هذا يومياً لكن أمام الناس يبدو وكأنه رجلاً عادياً فلا يظهر عليه أي شيئ، فأدرك هذا وأدرك سره!

قال “وسمعته مرة يقول ووالله الذي لا إله إلا هو لوددتُ أني أُخفي عملي عن ملائكتي الكاتبين” فهو يشعر بالغيرة لأن الملائكة ترى هذا العمل مع الله، فهو لا يُحِب أن ترى الملائكة أعماله لأن هذا العمل لله وحده ومن هنا قال “لوددتُ أني أُخفي عملي عن ملائكتي الكاتبين”، لكن يبدو أن هذا غير مُمكِن لأن الملائكة ترى الأعمال وإن لم يُعجِب محمد بن أسلم هذا، ولذلك انظروا إلى نهايته حيث وقع شيئ عجيب!

قال محمد بن القاسم عن محمد ابن أسلم ” كان يومياً يصل أُناساً كثيرين، ولا أعلمه وصل أحدهم بأقل من درهم إلا أن لا يُمكِنه”، أي في حال العجز يكون المال أقل مائة درهم”، ثم قال “ويبعثني بمالٍ يسير طيلة الثلاثين سنة ويقول لي ائتني بالنخالة ولا تأتني بالنقي” لأنه لا يأكل خبزاً نقياً مثل خبز القمح الأبيض الذي نأكله، وإنما كان يأكل من النخالة – نخالة القمح أو نخالة الشعير – التي تُستخدَم على اعتبار أنها علف للدوب ويقول “إنما هو للكُنيف”، أي لبيت الخلاء فلا يضع فيه مالاً ويُنفِق كل ماله على الصدقات ويكتفي بأكل النخالة في جين أنه يُعطي الفقراء كل يوم بالمئات من ماله طمعاً في الجنة، وهذا شيئ عجب، فلو كان هناك ثمة نبوة لكان هؤلاء أنبياء بلا شك، فرضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم.

قال محمد بن القاسم “فأتيته يوماً بالنقي – دقيق أبيض منخول – وخبزته له، فلما رآه تغيَّر لونه وقال إن كانت نفسك تطوَّقت فيه – أي طاقت إليه – فأطعمه نفسك لعل لك أعمالاً تشفعُ لك في أكل النقي، أما أنا فوالله لقد دُرت الأرضَ فما رأيت مُصلياً أشد علىّ من نفسي”، أي أنه يقول عن نفسه أنه أسوأ من على وجه الأرض، فلم يجد أحداً من أهل القبلة أسوأ منه، ولذلك لا يآكل النقي، ثم قال له “خُذ هذه القطعة وائتني بشعيرٍ أسود واشتر لي رحى – طحونة – لكي أطحن بها وآكل هذا لعلي أبلغُ ما كان فيه عليّ وفاطمة عليهما السلام”، أي أنه يقول أنه ليس بأفضل من عليّ وفاطمة بنت رسول الله، ولكنه يُحاوِل ليصا – إن شاء الله – إلى درجتهم ومن ثم هو يأكل النخالة مثلهم، وانظروا إلى ختامه – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – وخاتمته العجيبة الغريبة، علماً بأنه مات في طوس – رضوان الله تعالى عليه – ويقول الراوي “كنت عنده فقال لي لا تُبارِح فسوف يأتيني رسول ربي قبل الصبح”، أي أنه عرف أنه سوف يموت، ثم قال “غسِّلني وكفِّني وادفني ولا تُؤذِن بي أحداً”، فهو لا يُحِب شُهرة ولو في الجنازة، قال الراوي “فمات عند مُنتصَف الليل، فما دريت إلا ورسول طاهر بن عبد الله أمير طوس يطرق الباب يسأل عنه فقلت هو قضى – كأن الأمير أذِن به بقدرة الله أو أُلهِمَ أو رأى مناماً – فقال الأمير يود أن يُصلي عليه”، ثم قال “فغسَّلنا وكفَّناه وجهزَّناه وأخذناه ولم يُؤذَن به أحد – أي لم يقل أحد أن الإمام محمد بن أسلم الطوسي مات، لم يتكلَّم أحد أبداً – فجاء خلقٌ لم يُر مثلهم يصل عددهم إلى ألف ألف ومائة ألف، يقول صالحهم وطالحهم ما رأينا مثله”، أي أن مليون ومائة ألف شخص قالوا لم نر مثل هذا البشر أو مثل هذا الإنسان، فمن أين أتوا؟!

كيف أُلهِموا أن يأتوا؟!

شيئ عجيب كما ذكر الذهبي – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – ولكن هذا هو الإخلاص وسر الإخلاص، فنسأل الله – تبارك وتعالى – أن يستودع قلوبنا جميعاً سر إخلاصه حتى لا نعملُ عملاً إلا ولحاظنا وجهه الكريم سبحانه وتعالى.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الخُطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أما بعد إخواني وأخواتي:

أود في هذه الخُطبة الثانية كما طلب إلىّ بعض إخواني وأحبابي أن أُحيطكم علماً على وجه السرعة – إن شاء الله – ببعض ما رأيت في رحلاتي الأخيرة إلى الكويت وإلى بلاد الشيشان خاصة.

الكويت لفت نظري فيها – بحمد الله تبارك وتعالى – الحرية التي هى تقريباً ليس لها مثيل في العالم العربي، يُوجَد حرية عجيبة، وهناك ما رأيت أحداً من طبقات مُختلِّفة إلا قالوا نحن لسنا في حاجة إلى ثورة، فلماذا نثور ونحن لا نُريد وضعاً أحسن من ما نحن فيه؟!

يُوجَد حريات حقيقية على جميع المُستويات وفي جميع الميادين ما شاء الله، وهذا شيئ عجيب، والشيئ الجميل في الكويت هو التدين، فالإسلام هناك يُعَد إسلاماً مُنفتِحاً وإسلاماً واعياً وليس مُتشنِّجاً، وطبعاً هناك بعض الذين يجنحون إلى التنطع وإلى التغمق وهذا موجود في كل بيئة لكن بشكل عام الإسلام السائد هو الإسلام مُنفتِح والإسلام المُتسامِح والإسلام الواعي، وشهادة حقيقةً لأهل الكويت وشباب الكويت أنهم شباب مُتعلِّم ومُثقَّف بطريقة مُعجِبة وأنا لم أكن أتوقَّع هذا، فلديهم ثقافة عالية حقيقية، والناس تُتابِع الدرس وتُتابِع القراءة وتُتابِع المنتوج الثقافي والفكري في العالم الإسلامي وفي العالم أجمع وهذاشيئ مُفرِح جداً جداً جداً، فالكويت بلا شك سيكون بعون الله لها مُستقبَلٌ باهر، وفيها دُعاة مُوفَّقون علماً بأنني تكلمت في خُطبة سابقة ربما قبل ثلاثة أشهر على ما أعتقد عن بعض هؤلاء الدعاة، الأستاذ الدكتور طارق السويدان قلت عنه أنه أمة وحده، فكلما التقيته وتعرَّفت على بعض ما يقوم به أدركت أنه أمة وحده وقلت في نفسي لعل الله اصطفاه لذلك لسرٍ أيضاً وقرَّ في صدره، فالله يُجري على يديه من الخير الشيئ الكثير، وهذا شيئ عجيب تفرح به – والله – قلوب المُؤمِنين، ولنترك طبعاً ما يقوله بعض الناس فدائماً لا يُوجَد مُوفَّق – سُبحان الله – ولا مسعود إلا ويُسلَّط عليه من عباد الله مَن يطعنوا في دينه وفي تقواه وفي نزاهته، فهكذا يُبتلى عباد الله ولكن لا بأس فهذا موجود.

أيضاً الداعية المُوفَّق والمحبوب الدكتور محمد العوضي مشيت معه مُدة من الزمن فلم يره أحد إلا جاء وعانقه وسلَّم عليه سواء من الرجال أو النساء أو من المُوظَّفين الرسميين أو غير ذلك وهذا شيئ عجيب، فيُرحِّب بهم ويقول لي هؤلاء أبنائي وبناتي، فهو داعية مُوفَّق ومحبوب بشكل عجيب، فنسأل الله أن يُبارِك في دعوتهم وفي أنفاسهم جميعاً.

أما الشيشان فحديثٌ وحده، فالشيشان على غير ما نقرأ في الجرائد ونسمع في التلفاز، فالروح تُوجَد هناك وطبعاً سأبداً بأن غروزني لأننا كنا في العاصمة وإن زورنا مدن أخرى بفضل الله، لكن العاصمة غروزني التي حطَّمتها حربان مُتواليتان لم تدع فيها حجراً على حجر كانت مُفاجأة بالنسبة لي.

كنا هناك زُهاء خمسة وخمسين عالماً وداعية ومُفكِّراً من مُختلِف دول العالم، من مصر وسوريا والأردن ومن عدد من البلاد حول العالم مثل الكويت حيث كان معنا وكيل وزارة الأوقاف فضيلة الأستاذ الدكتور عادل فلاح، وهذا الرجل أيضاً من خيرة الكويتة حقيقةً، فحين نذهب إلى فرنسا نجده أمامنا وحين نذهب إلى الشيشان نجده أمامنا، وهذا شيئ عجيب لأن الرجل – ما شاء الله عليه – بمثابة دينمو Dynamo مُتحرِّك في سبيل دعوة الله، فنسأل الله أن يُبارِكه وأن يُبارِك أنفاسه حقيقةً، ووزارة الأوقاف في الكويت بالذات يُقال الآن أنها هى الوزارة الأولى في العالم العربي نشاطاً وجهداً واهتماماً بأحوال المسلمين حول العالم، وهذا الشيئ وضح لي وهو واضح حقيقة، على كل حال هؤلاء العلماء كانوا هناك
وأعربوا من عند آخرهم عن دهشتهم وعجبهم لما يرون الآن في غروزني، يُوجَد نهضة عمرانية تسير بوتيرة مُتسارِعة جداً في كل مكان كما أن البناء والعمران في كل مكان، فغروزني الآن مدينة ناهضة حقيقةً ومن ثم لفتت نظر كل المُشارِكين في المُؤتمَر وهذا شيئ عجيب، فهل هذه هى غروزني التي كانت كفاً وأرضاً يباباً؟!

وهذا بفضل رئيسها المُؤمِن الصالح الذي يُعَد شُعلة من النشاط العارم على عكس ما يُصوَّر في الإنترنت Internet وفي التلفزيونات Televisions، وسأُحدِّثكم بما رأيت وبما سمعت وبما شهد به الصُلحاء من العلماء خريجي المعاهد العلمية المُعتبَرة في دمشق وفي الأزهر الشريف، فهؤلاء العلماء – ما شاء الله – من أهل الله وحدَّثونا بالحديث العجب فضلاً عن أننا رأينا العجب بأعيننا بفضل الله تبارك وتعالى، أما الإسلام فحدِّث ولا حرج، المآذن والمساجد في كل ناحية وزاوية، مراكز تحفيظ القرآن الكريم في كل مكان، الأطفال الصغار من سن أربع سنوات إلى المُراهقين يرتدون زياً مُوحَّداً، يُوجَد مُرتبات للمُحفِّظين، علماً بأنهم يأتون بالمُقرئين المُحفِّظين من أوزباكستان ومن طاجيكستان أكثر من أي مكان آخر لأنهم حفظة مُتقِنون، والشيشان فيها حُفَّأظ لكن هؤلاء مُتقِنون جداً وعلى ورع وهذا شيئ غريب، والتقيت بأحدهم وهو شاب صغير لعله في السابعة والعشرين من عمره ولكن عليه التواضع وتلوح الربانية على مخايله، وقالوا لي “هذا أتقن حافظ لدينا هنا”، وهذا الشاب طاجيكي وليس شيشانياً فهم أتوا به واستخدموه في الشيشان، لكن ماذا يفعل الرئيس الصالح الراشد فعلاً رمضان قاديروف الذي أسأل الله أن ينصره وأن يُؤيِّده مع هؤلاء الحفظة؟!

مُباشَرةً يُملِّكهم بيوتاً لهم، فأي مُحفِّظ يمتلك بيتاً، أما المُحفِّظ الذي يُحفِّظ أولاده وقد التقيته كان في الثلاثين من عمره وكان عليه هيبة الصالحين، قال لي الرئيس عنه “هذا الرجل سُمعته في بلده أنه من أولياء الله الصالحين”، وفعلاً ترى فيه هيبة الصالحين وهو شاب مُلتحٍ في الثلاثين من عمره وعليه الهيبة والوقار والجمال، وهو مُتقِن لكتاب الله فلا يُسقِط حرفاً، قال الرئيس الشيشاني “قلت له يا فلان أنت سوف تُحفِّظ أولادي – أبنائي وبناتي – القرآن الكريم في قصري، فإن لم تفعل فسوف أُحاسِبك بين يدي الله يوم القيامة”، وهذا رئيس دولة ولكنه أعطاه شيئاً عجيباً ما جعلني أبكي، حيث قال لي العلماء هناك والمُستشارون والرئيس أكَّد هذا بعد ذلك أنه أعطاه قصر آبائه وأجداده، قال الرئيس “أعطيتهُ أفضل وأعز ما أملك في الدنيا وما لا يُمكِن أن أُثمِّنه بثمن وهو بيت آبائي وأجدادي وقلت له هذا هدية لك فضلاً عن المُرتَّب الشهري”، فالرئيس أتى به وبزوجته وبأبنائه أيضاً وقال له “حفِّظ أبنائي كتاب الله، وأنت مُطلَق اليدين فيهم، فإن شئت أن تضرب فلتضرب، وإن شئت أن تُؤنِّب فلتؤنِّب، افعل ما تشاء فالمُهِم هو أن يحفظوا كتاب الله”، وهذا شيئ عجيب، فما هذا؟!

هذا الشاب الطاجيكي الذي حدَّثتكم عنه في البداية حدَّثني عنه الشيخ آدم شهيدوف وهو من كبار علماء الشيشان ومُتخرِّج في دمشق – ما شاء الله – الفيحاء التي نسأل الله أن ينصرها وأن ينصر أهلها وأن ينصر أهل سوريا جميعاً على هذا النظام الظالم المُجرِم الذي عتا وتكبَّر وكفر وتجبَّر والعياذ بالله، ولا أُحِب أن أتكلَّم الآن عن ما يحدث فأنتم ترون وتُتابِعون الأخبار، فاللهم لا يذهب دم الخطيب هدراً وليكن لعنة على النظام السوري، حيث قطَّعوا أحشاءه وقطَّعوا جسمه، أين حدث هذا في أي مكان إلا في سوريا؟!

أين هذه البربرية ؟!

لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، نعود إلى الشيشان حيث أنني قلت أمام الرئيس الشيشاني بل قلت له هو “أنا سعيد بك وبالشيشان ويا حسرة على حُكَّام العرب”، فهذا الرئيس مسبحته في رقبته فإذا كان لا يتكلَّم فهو يُسبِّح، يفعل هذا باستمرار وبشكل دائم، فهو يلهج بذكر الله وهو سريع البكاء من خشية الله بطريقة لم أرها في حاكم من قبل، فهو يبكي بكاءً مُراً ومن ثم يُخشى عليه أحياناً يحدث له شيئ بسبب هذا البكاء المُر وهذا شيئ عجيب، وطبعاً أبوه ولا جرم كان من الصالحين، وأجداده إلى أربعة أجداد من المعروفين كانوا من كبار الصالحين والعلماء أيها الإخوة، جده – أعتقد جده الثاني – كان يختم كتاب الله كل يوم مرة إلى مرتين، أمه جاءت تطرح علينا السلام بكل وقار، فتبكي القلوب الخاشعة حين تراها، هذه أم رئيس وزوجة رئيس وتجلس في قصر ابنها بحجابها الكامل وجاءت مُنكِّسة وهى تمشي الهوينا بكل تواضع وإخبات وخجل فطرحت علينا السلام ودعت لنا دون أن ترفع رأسها فينا، فحُدِّثنا عنها من أحد أصدقاء زوجها الشهيد – رحمة الله تعالى عليه – الذي قال “هذه السيدة – وسلوها وسلوا ابنها – لم تطه يوماً طبخةً إلا وهى على طهارة كاملة رجاء أن يُبارِك الله ذُريتها”، فقلت أين الدين عند العرب إذن؟!

أين ديننا نحن ودين زوجاتنا وأمهاتنا؟!

علماً بأنها كانت آية في التواضع وهى أم رئيس وزوجة رئيس، كانت في مُنتهى الإخبات والتواضع فلم ترفع رأسها في أحد وهى ترتدي حجابها الكامل، فهذا شيئ عجب عند هؤلاء الأعاجم الذين عندهم قلوب حقيقية وشعور عالٍ.

المُهِم قالوا “هذا الحافظ المُتقِن الطاجيكي هو أتقن حافظ هنا والرئيس يُصلي خلفه، ففي رمضان الأخير قرأ في ليلة واحدة خمسة أجزاء والرئيس يقف خلفه ما جعلنا نخاف عليه من الموت بسبب شدة البكاء في هذه الليلة، فعبر الصلاة كلها الرئيس يبكي والناس يبكون والإمام يبكي دون أن يقف في كلمة أو في حرف، فلو كان يقرأ من المُصحَف ما قرأ هذه القراءة، وكلما ختم يقول له الرئيس أكمل حتى ختم خمسة أجزاء في ليلة”، فهذا هو الرئيس المسلم والرئيس المُؤمِن!

قال لي الشيخ آدم شهيدوف خرّيج دمشق “يا شيخ هذا الشيخ الحافظ ضبطناه مُتلبِّساً غير مرة خُفيةً وهو يُنظِّف المراحيض – مراحيض الأطفال والكبار – بيديه، قلنا له يا شيخ اتق الله لا ينبغي أن تفعل هذا فأنت الإمام ويُصلي خلفك الرئيس، فقال هذا يُعينني على ذكر الله وعلى خشوع قلبي وعلى الحفظ”، الله أكبر، ما هذا؟!

قال “هذا الفعل يُعينني على ذكر الله وعلى الخشوع وعلى حفظ كتاب الله” وهو شاب في نحو السابعة والعشرين لكنه في مُنتهى الربانية والتواضع وهذا شيئ لا يُصدَّق، وحين دخلت المكان الذي فيه هذا الشاب وفيه الحُفَّاظ والأطفال الصغار وجدت أن أصغرهم كان عمره أربع سنوات تقريباً ولكنه يقرأ قراءة – ما شاء الله – كما لو كانت لعربي أصيل قح، فهو يقرأ بأحكام التلاوة وبصوت جميل ندي، والرئيس يُغدِق على هؤلاء من ماله الشخصي، وهذا شيئ لا يُصدَّق!

حين دخلت هذا المكان لأول مرة بفضل الله قلت لهم “لا أدري، أشعر بشعور يجتاحني، هذا المكان فيه روحانية”فضحكوا، ولكن هذا الشعور يتنامى عندي، وحين خرجت قلت لهم هذا المكان غير عادي، وهو مكان لتحفيظ قرآن ومُلحَق به مسجد مُتواضِع وليس مسجداً ضخماً جداً لكن فيه روحانية عجيبة، فقلت لهم “هذا المكان مُروحَّن يا جماعة وفيه سر هذا المكان” فضحكوا وقالوا “صدقت يا شيخ وسنُنبيك الآن بالسر”، وفعلاً هناك سر وروحانية عجيبة وشيئ غير عادي استشعرته بروحي أول ما دخلت، فإن ذهبت هناك تشعر وكأنك في قطعة من الجنة، إذن قالوا “سنُنبيك يا شيخ بالسر”، فقلت لهم: ما هو؟!

فقالوا “والده الرئيس الشهيد أحمد حجي قاديروف – رحمة الله عليه – هو الذي أمر ببناء مركزاً لتحفيظ القرآن في هذا المكان لأنه رأى في منامه سيدنا ومولانا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وخالد بن الوليد وحمزة بن عبد المُطلب يمشون في هذا المكان، وكان يُحِب جداً خالداً وحمزة طبعاً بعد الرسول ، لأنه كان بطلاً وكان أسداً وابنه مثله، فقام واستبشر وقال ليُبنى هنا مكاناً لتحفيظ القرآن الكريم”، فقلت لهم “هذا هو، لقد شعرت بروحانية عجيبة”، فقالوا “نعم، شعورك في محله، ففي هذا المكان مشى رسول الله – طبعاً قال الرسول مَن رآني في منامه فقد رآني حقاً – وإلى هذا المكان اصطفى الله هذا الشاب الحافظ المُنوَّر والعابد الولي – إن شاء الله – الصالح من بلاد الطاجيك”، هذا شيئ غريب، فأين نحن من هؤلاء؟!

الشيخ آدم شهيدوف – حفظه الله – خرّيج دمشق حدَّثني فماً لفم وقال لي “يا شيخ حين كنت في آخر جلسة مع شيخي الدمشقي الرجل المُبارَك لأتلقَّى الإجازة في حفظ القرآن وتلاوته اتصل بي الرئيس رمضان أحمد قاديروف – حفظه الله – وقال لي يا شيخ آدم أخذت الإجازة؟ فقلت أخذتها الآن، فقال مُبارَك هذا وبارك الله فيك وسوف أرسِل لك طائرة خاصة تُقلّك – انظر إلى كرامة القرآن والعلم – لكنني قلت له لا أحتاج وسوف أعود مع الناس، فقال لي سأُرسل لك طائرة خاصة، ووالله أرسل لي طائرةً خاصة جاءت إلى دمشق وأقلّتني إلى غروزني وحدي”، فعل هذا لأنه حافظ لكتاب الله وعنده إجازة بالسند المُتصِل إلى رسول الله، أي أخذها رجل عن رجل عن رجل عن رجل حتى سيدنا رسول الله، ثم قال “وحين نزلت في المطار وإذا بالرئيس وأهله ورجال دولته في استقبالي”، الرئيس شخصياً يستقبل حافظاً لكتاب الله، لكن في سجون العرب وفي سجون طواغيت العرب كان يُقتَل حُفَّاظ كتاب الله ومُفسِّرو كتاب الله، فعلى أعواد المشنقة شُنِقَ سيد قطب – قدَّس الله سره الكريم – مُفسِّر كتاب الله، فانظروا إلى الفارق بين الحكام العرب والحكام الأعاجم، ثم قال لي الشيخ آدم شهيدوف “ووصلني – والله – بمائة ألف يورو”، كهدية أو كجائزة له على حفظ كتاب الله، وهذا شيئ عجيب لكن هذا هو رئيس الشيشان، وطبعاً الشيخ آدم شهيدوف هو الآن مُدير الإذاعة والتلفزيون – الإذاعة وتلفزيون إسلاميان وقد زورتهما – بعد أن ألحق بهما الرئيس مطبعة تطبع الكتب الإسلامية والمناشير الإسلامية، كما أنه مُستشار الرئيس الديني مع أخونا الشيخ عليّ الذي كان لدينا هنا في النمسا – باي عليّ محمد – وجمعنا لهم تبرعات لكي نفتتح لهم مسجداً، سبحان الله العظيم تدور عجلة الزمان ويعمل الآن مُستشاراً دينياً أيضاً للرئيس وهو عالم كبير وكان يعمل مُفتياً للشيشان.

قالوا لي أيضاً “والرئيس لا يُغادِر أي مسألة حتى يرى فيها حكم الله بنفسه – والله – وينزل عليه أياً كانت هذه المسألة”، وهو الآن شاب في الخامسة والثلاثين من عمره وقال لي “يا شيخ أنا بفضل الله تبارك وتعالى في حياتي كلها لم أشرب قطرة خمر ولا أعرف طعم السجائر بفضل الله تبارك وتعالى”، هذه هى التربية، فهو ابن أسرة عالمة وابن علماء ومشائخ ومع ذلك هذا يُصوَّر على أنه شيطان رجيم وعلى أنه قاتل فضلاً عن أنهم يُلصِقون به الكثير من الأشياء التي لا أُحِب الآن أن أُفصِّل في ذكرها وقد وقفنا على مُلابَساتها بالتفصيل هناك بعد أن اطلعنا على شهادات العدول والعلماء الأفاضل مما يدلكم أيضاً على صحة مسلك العلماء هناك لأنهم ليسوا مُنافِقين، فالعلماء الذين حول الرئيس وأنا تعرَّفت إليهم وتشرَّفت بالتعريف إليهم من أفضل ما يكون، فهناك مسألة لها تقريباً أكثر من ستة أشهر ويُأبون أن يُعطوا الرئيس فيها رُخصةً خارج ما يعتقدونه، واتصلوا بي مرة قبل تقريباً أربعة أشهر في حضور الأخ أبي أنس وقلت في التليفون Telephone لهم تُوجَد رُخصة عند السعيدين، وهذه الرُخصة تقول كذا كذا كذا فعجبوا، ومن ثم حين كنت في قصر الرئيس قال “ناقشهم وناقشوا الشيخ”، فناقشتهم فنزلوا على رأيي مُباشَرةً وقالوا “هكذا الرئيس لا ينزل إلا على حكم الشرع في كل المسائل، فلا يُجاوِز قول شرع الله في صغير الأمر وكبيره”، فنسأل الله له التوفيق والمدد والهداية وأن يحفظ الله الشيشان وقيادة الشيشان وبلاد الشيشان وأن يجعلها مناراً وإشعاعاً لمسلمي تلكم المناطق بل ومسلمي الدنيا إن شاء الله، ونسأل الله أن يسن حُكَّام العرب الجُدد السُنةً الحسنة في حُكم بلادهم بهدي رسول الله وبرحمة الإسلام وعظمته وأن يصيروا رحمةً على شعوبهم لا نقمةً، فاللهم أصلحهم وأصلح بهم واهدهم سُبل السلام!

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

فيينا (3/6/2011)

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: