إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

 

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ۩ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ۩ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ۩ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ۩ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ۩ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ۩ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

إخواني وأخواتي:

حين نُمعِن ونسترسل في العمل على خُطة ما، والمقصود هنا خُطة دينية إصلاحية تجديدية بعثية – أي تبعث الأمة من رقادها ومن سكونها الذي يُشبِه الموات -، ثم لا نؤوب ولا نعود إلا بالخسار والخيبات المُتراكِمة المُتراكِبة المُتوالية، فهذا ليس له من معنى، إلا أننا بنينا العمل وكان المُنطلَق من خُطة فاشلة، خُطة غالطة! والترقيع بعد ذلك لا يزيد الأمر إلا سوءاً، لن نعود بخير من هذا الترقيع؛ رُقعة هنا ورُقعة هنا، رُقعة في الخُطة الغلط وفي المنهاج الغالط، نظل نُرقِّع! هنا خطأ، فلنجعله مُصحَّحاً، وهناك خطأ آخر! الخُطة كلها فاشلة مُنذ البداية، والمعيار واضح جداً، بحسب النص الديني.

إن فترة مئة سنة ليست مُجرَّد كافية، فترة مئة سنة حدَّدها النص الديني على أنها الفترة التي تُوضع فيها الخُطة التجديدية الإصلاحية، لإصلاح أمر الله – تبارك وتعالى -، ثم تُواجِه وتُجابِه تحدياتها ومُعترِضاتها، ثم تتجاوزها، وتتغلب عليها، ثم تُؤتي أثمارها وتُحصَد نتائجها، ومن ثم تكون قد استنفذت أغراضها، لكي يُصبِح الوقت مُنادياً بوجوب ظهور خُطة جديدة. وهذا يُفهَم من قوله – عليه الصلاة وأفضل السلام – في حديث أبي داود المشهور، وهو حديث صحَّحه غير إمام في القديم والحديث، إن الله – تبارك وتعالى – يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة، مَن يُجدِّد لها أمر دينها. هذا معنى هذا، مئة سنة كافية لكل ما ذُكِر، فكيف إذا مرت مئة سنة، والخيبات مُتوالية، والخسار مُتزايد، والفشل مُتراكِم، ولا نزال نُمعِن في الترقيع؛ ترقيع الخُطط الفاشلة؟

هناك سؤال، ولسنا هنا في معرض أن نذم أو أن نمدح، نُريد أن نفهم، نُريد أن نُحلِّل، نُريد أن نُفكِّك، ونُريد أن نستأنف العمل بطريقة صحيحة، تخدم الدين والأمة، ولا يُضار بها لا الدين ولا الأمة – إن شاء الله تبارك وتعالى -.

الحُكم على الناس على رأس قائمة الأخطاء الكبيرة، التي لم نتب منها بعد؛ لأننا لم نعترف ولأننا لم نعرف أصالةً أنها أخطاء. نحن لم نعترف ولم نُقِر بأننا لم نعرف أنها أخطاء، طريقتنا في فهم الدين في جوانب مُعيَّنة خاطئة، نحن نقوم بخلط أكبر من معيب، يُوشِك أن يكون تجديفاً في الدين، وتجديفاً على الله، بل يُوشِك أن يكون – ولا أتردد في هذا النعت وهذا الوصم – افتئاتاً على الله – تبارك وتعالى -. والافتئات على الله هو القول على الله بغير علم، أن تزعم أن الله يُريد هذا، الله أمر بهذا، الله حكم بهذا، من غير سُلطان مُستبين، ولا حُجة بيّنة من لدن الله، أو على لسان رسوله – عليه الصلاة وأفضل السلام -.

لقد جعل الله – تبارك وتعالى – القول عليه بغير علم قرين الشرك به، قرين الشرك به! وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ۩، الخلط مُخيف وخطير، خلط انفجاري وتفجيري، والنصوص كثيرة جداً في كتاب الله ووقائع السيرة وأحاديث السُنة التي تُحذِّر من مثل هذا الخلط، ليس أقل من هذا، على أننا غارقون فيه حتى النواصي، غارقون فيه حتى المفارق، ما هو؟ الحُكم على الناس. ولنا خُطبة قريبة، في موضوع تهجين الحُكم على الناس.
لا تستطيع أن تحكم على آحاد الناس، على أعيان الناس، ما لم يكن بين يديك نص ثابت عن الله ورسوله، لا تستطيع! حين حكم الله على أبي لهب بأنه في النار – أبو لهب في النار – انتهى الأمر، لكن غير أبي لهب، من هذا أو ذاك، لا. لا نستطيع أن نحكم على مصائر العباد، لا في الخير ولا في الشر. ومن ثوابت عقيدة أهل السُنة والجماعة، أنهم لا يحتكمون ولا يحكمون على أحد، لا بجنة ولا بنار، بغير هُدى من الله وسُلطان. هذا من ثوابت اعتقاد المُسلِمين! ولذلك صح عنه – عليه الصلاة وأفضل السلام، وهذا الحديث يرويه الإمام مُسلِم في صحيحه عن عمر، ويرويه عن أبي هُريرة، وغير ذلك – أنهم كانوا في خيبر – في السنة السابعة من الهجرة كانوا في خيبر -، فمروا على أُناس قُتلوا في سبيل الله، فجعلوا يقولون فلان شهيد، فلان شهيد، حتى مروا برجل، فقالوا فلان شهيد. فقال – عليه الصلاة وأفضل السلام – الآتي عن شملة. في أحاديث أبي هُريرة كلا والذي نفس محمد بيده، لقد رأيته في جهنم – والعياذ بالله تبارك وتعالى – تشتعل الشملة التي غلها من المغانم، لم تُصبها المقاسم، تشتعل عليه ناراً. يتقلَّب في أطباق جهنم – قال لهم – هذا. صحابي! هذا صحابي، من أصحاب رسول الله، وفي رواية أنه كان مولى لرسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام وآله -. لكنه غل، غل من الغنيمة، قبل أن تُقسَم، أخذ شيئاً ليس له؛ شملة، كساء خفيف قصير يا إخواني، يؤتزر به، شملة! ربما الآن بالمعايير الحديثة لا يتخطى ثمنها أربعة يوروات أو خمسة يوروات، في جهنم! في جهنم هذا الصحابي المُجاهِد، والذي قُتِل مع رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -.

ومن هنا اختلف علماء هذه الأمة المرحومة، فانقسموا قسمين: منهم مَن قال لا يُشهَد لأحد لم يشهد له الله ورسوله، أو رسوله، بالشهادة. لا يُشهَد لمَن لم يشهد له الله أو الرسول بالشهادة. لا يُشهَد لأحد بالشهادة، لا يُقال فلان شهيد. انتهى! فلان قُتِل، مُقاتِلاً مع المُسلِمين ومع الرسول، لكن هو شهيد أو غير شهيد؟ لا نعلم، من أجل هذا الحديث وأمثاله. في حديث أنس المشهور تُوفيَ أيضاً شاب – كان هناك شاب صغير، في مُقتبل عُمره، تُوفيَ في أُحد مع رسول الله – شهد له بعض الصحابة؛ هنيئاً له الجنة. قال وما أدراكم؟ لعله بخل بما لا يُغنيه، أو تدخل فيما لا يعنيه. يا فرحتنا! يا حسرتنا! يا حسرتنا ويا فرحتنا! صحابي وشاب في مُقتبل عُمره، يُستشهَد أو يُقتَل مع رسول الله، والنبي قال لا، يُمكِن ألا يكون شهيداً عند الله، لأنه ربما كان يبخل بأشياء لا يحتاجها. عجيب! وماذا عما يُوجَد اليوم من الشُح والكزازة والجمع والمنع والحرص القاتل إلى درجة العبادة على الدنيا عند كثيرين من الناس، وكثيرين من المُوحِّدين، وبعد ذلك قال أو تدخل فيما لا يعنيه. ائتني اليوم، ائتني بأحد لا يتدخل فيما لا يعنيه، وأنا سأشهد له بالولاية الكُبرى. نتدخَّل في كل شيئ، نتدخَّل في شؤون كل الناس وكل الدول وكل السياسات، وكلنا خبراء، نتدخَّل ونضع أنوفنا في كل شيئ، فقط لأن النت Net أتاح لنا فُرصة أن نتكلَّم في كل شيئ، وكل واحد يأتي ويلبس لباس الخبير، يتكلَّم في كل الشؤون، ولعله لا يتكلَّم إلا ليؤرث نيران فتنة في بلاد لا تزال قلقة ومُستقِرة، لم يُصِبها التقسيم والتفجير والعذاب والتهجير واللعنات، فيُراد لها أن تلتحق بالبلاد التي أصابها مثل هذا، لماذا؟ لأن الألسنة مُرسَلة مُنسابة، ألوف الألسنة تتحدَّث ليل نهار في كل شيئ، وكل الأسرار عندهم، سُبحان الله! غريب يا أخي، يكتبون السر الذي لا يعرفه غيرهم. كل الأسرار! كل واحد يتحدَّث – ما شاء الله – عنده الأسرار، التي لا يعرفها حتى السي آي أيه CIA ولا مُخابَرات العالم، وهو عنده الأسرار كلها، وهو قاعد في بيته، ولا علاقة له بكل القضايا هذه، ما شاء الله! ما شاء الله! ويقولون لك إنهم مُتدينون. من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه. لا تتدخَّل، لا تتكلَّم، لا تحتكم في شيئ ليس عنك فيه بيّنات حقيقية. وحتى حين تتوفَّر البيّنات الحقيقية، عليك أن تُقدِّر هل من الحكمة ومن الخير ومما يُرضي الله – تبارك وتعالى – أن يُقال هذا أو لا يُقال؟ وما الذي سينبني عليه؟ أليس كذلك؟ قال – تبارك وتعالى – وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۩، هذه شؤون السياسة، أَذَاعُوا ۩، مذاييع كلهم، يفتحون فيسبوك Facebook وتويتر Twitter ويوتيوب YouTube فيه كلام وقنوات على مدار الأربع والعشرين ساعة، والأسرار كلها بين أيديهم، ما شاء الله! ما شاء الله! إلهام رباني عُلوي، ما شاء الله! بلا تردد. الله قال لا، في هذه الأمور عليك أن تردها إلى الرسول، وإلى أولي الأمر، إلى صاحب الأمر. أي القضية العسكرية، يتحدَّث فيها مَن؟ الوزير؛ وزير الدفاع، والعسكري الأكبر، هو يفهم الأشياء هذه. وقال هذا أيضاً – أي ولي الأمر – لا يعلم الأمور هكذا بإلهام، يعلمها باستباط، كالماء الذي يُستخرَج من باطن الأرض. يُجمِّع كل الشواهد والقرائن والأدلة والأشياء، ويستوجب كذا وكذا، وعنده ملفات، وعنده أشياء، لكي يقدر على أن يعرف بالضبط إلى أين تتجه الأمور. أنت قاعد في البيت، وتعرف كل حاجة، ما شاء الله! وعندك الأسرار كلها. ولا يخجلون، تأتي الوقائع تُكذِّبهم مليون مرة ولا يخجلون، يفتحون ملفاً ثانياً وثالثاً ورابعاً. انظر؛ أنا أفهم هذا، حين يقوم به غير مُسلِم، مُلحِد، مُتشكِّك، أياً كان! لكن لا أفهمه من مُسلِم يدّعي أنه يقرأ القرآن ويخاف الله ويُراقِب ضميره، أستغرب من هذا.

على كل حال، قال ما أدراكم؟ لعله بخل بما لا يُغنيه، أو تدخَّل فيما لا يعنيه. تكلَّم فيما لا يُحسِن، فيما لا يعرف، فيما لم يُوكل إليه. فهذا يمنع أن يكون شهيداً عند الله، شيئ مُخيف يا إخواني، شيئ مُخيف! ولذلك عُمر قام مرة، فخطب الناس، وقال لهم إن شهداءكم إذن لكثير. ما شاء الله! تشهدون للناس، لهذا ولذاك، بأن هذا شهيد وهذا شهيد. قال لا. أنت عليك أن تشهد بما علمت، قل قُتل في هذه المعركة، أما أنه شهيد أو غير شهيد، فالله أعلم.

على كل حال هذا رأي، وثمة رأي آخر جوَّز هذا. لكن حتى الذين جوَّزوا أن يُقال شهيد لمَن قُتل في سبيل الله – تبارك وتعالى -، إنما احترسوا بقولهم على سبيل الظن وتحسين الظن بالله وبعباده المُؤمِنين، خاصة لمَن ظهر منه الصلاح – إن شاء الله -، ظاهر أمره الصلاح. من باب تحسين الظن نقول إنه شهيد، وأمره إلى الله. لكن لا تقتطع!

ولذلك في صحيح البُخاري حصل الآتي لما تُوفيَ عثمان بن مظعون – رضيَ الله عنه وأرضاه -، وهو الصحابي الجليل، الذي فقد عينه في سبيل الله، والذي أراد أن يجُب نفسه تبتلاً وانقطاعاً للعبادة. هذا صحابي عظيم جداً، والنبي كان يُحِبه، وكان يُسميه أخي، يقول أخي، وبكى عليه. لما تُوفيَ قالت أم العلاء – المرأة من الأنصار، في المدينة، التي نزل عليهم عثمان بن مظعون، لما هاجروا، قالت فطار لنا عثمان بن مظعون. بمعنى ماذا؟ كان في نصيبنا، شرَّفنا الله بأننا آوينا هذا الرجل الصالح والمُجاهِد الصحابي الجليل الزاهد العظيم. طار لنا. قالت، أي وقع في نصيبنا – شهادتي عليك يا أبا السائب أن الله قد أكرمك. والنبي شهد عليه، قال خرج من الدنيا، لم يُصِب منها ولم تُصِب منه. رجل آخرة! فهذه قالت هكذا؛ شهادتي عليك يا أبا السائب أن الله قد أكرمك. وهنا النبي جاء والحديث في البخاري، قال وما أدراك أن الله قد أكرمه؟ قالت فمن يا رسول؟ أي إذا لم يُكرَم هذا، فالله يُكرِم مَن؟ هذا الرجل الصالح المُؤمِن الذي فعل وفعل، معناها ماذا؟ قال والذي نفسي بيده وأنا رسول الله، لا أدري ما يُفعَل بي. قالت فقلت يا رسول الله وأنا والله لا أُزكي أحداً بعده. انتهى الأمر، انتهى! قال – تعالى – فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ۩. فكأن المعنى هنا في النهي – فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ۩ – أعم من أن يكون نهياً عن تزكية المرء لذاته، بل يعم تزكية الذات وتزكية حتى الآخرين. ولذلك لم يكن النبي – عليه الصلاة وأفصل السلام – مدّاحاً، وطبعاً من باب أولى لم يكن ذمّاماً، النبي كان مُقتصِداً في كل شيئ، وعلَّمنا أنك إذا أحببت امرأً، فالحي لا تُؤمَن عليه الفتنة. نسأل الله – تبارك وتعالى – بأسمائه الحُسنى وصفاته العُلا، ألا يُعرِّضنا لفتنة، وأن يُثبِّتنا على ما يرضاه من الحق، حتى نلقاه وقد رضيَ عنا رضا تاماً، لا سُخطة بعده أبداً. اللهم أمين.

أحبب حبيبك هوناً ما                                  عسى أن يكون بغيضك يوماً ما.
وأبغض بغيضك هوناً ما                               عسى أن يكون حبيبك يوماً ما.

لا نحكم على أحد، وأيضاً لا نحكم على أوزان الناس وعلى أقدار الناس عند الله، عند الناس هم أحرار، الناس يضعون ويرفعون بحسب معايير مادية صرفة، في مُعظَم الأحيان سخيفة جداً جداً جداً، مَن شكله أحسن؟ مَن نسبه أرفع؟ مَن ماله أكثر؟ مَن منصبه أعلى؟ وهذا كلام فارغ، عند الله لا قيمة لهذا كله، عند الله التفاضل بالتقوى، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۩. ولذلك لما مر رجل، فقال النبي – صلوات ربي وتسليماته عليه وآله – لأبي ذر يا أبا ذر ما تقول في هذا؟ قال يا رسول الله، هذا مسكين، هذا الرجل فقير و(غلبان) وقليل ما معه، هذا خليق إذا قال، ألا يُستمَع لقوله، وإذا غاب، ألا يُفتقَد، وإذا خطب، لا يُزوَّج. سكت النبي، ثم مر رجل غني، له أُبهة وله جمال، قال وما رأيك في هذا؟ قال يا رسول الله، هذا إذا غاب افتُقِد؛ أين فلان؟ وأين فلان؟ أي الناس مُهتَمون، هل هم مُهتَمون بتقواه وبعلمه، أم بماله ومنصبه؟ وإذا تكلَّم، يُسمَع لقوله؛ هذا خليق أن يُسمَع لقوله، الكل آذان صاغية، وكأنه ينطق بالحكمة، وإن هرف بما لا يعرف، فقط لأن عنده أموال، كلامه – ما شاء الله – مُهم، وهو يهرف بما لا يعرف! وإن خطب، أن يُزوَّج. فقال – عليه الصلاة وأفضل السلام – فإن ذاك – أي الفقير، أو قال هذا؛ لأنه كان هو المار الثاني – خيرٌ من ملء الأرض من أمثال ذاك – أي الغني -.
لا تستطيع أن تحكم على الناس من مظاهرها ولا من سُمعتها ولا حتى من ظاهر تدينها أبداً. وطبعاً أنت مُطالَب كمُسلِم بتحسين الظن، لكن لا تقطع، لا تقطع! لا تحتكم في مقادير الناس، ومَن أرجى مصيراً، ومَن أحسن عاقبة، ومَن أثقل في الميزان! الصحابة لما ضحك بعضهم من دقة ساقي ابن مسعود، ماذا حصل؟ كان يتسلق نخلة، وساقاه دقيقتان جداً، فتضاحك بعضهم، فقال النبي أتضحكون من دقة ساقيه؟ فإنهما أثقل عند الله في الميزان من جبل أُحد. ساقا رجل حافظ كتاب الله، أخذ سبعين سورة من فم رسول الله مُباشَرةً، سبعين سورة من فم رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -، سبعين سورة! هذا الشرف، هذا المجد، رجل من رجال الآخرة.

ولذلك وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ ۩، الله يُعلِّم ويُؤدِّب نبيه، زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۩، قال وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۩. ثم وصمهم القرآن، فقال كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ۩، هؤلاء حيطان. القرآن يقول، خُشُبٌ ۩ هؤلاء، لا تُعجَب بأجسامهم وهيئاتهم وملابسهم، لأنهم لا قلوب لهم ولا عقول عندهم، لا حجى ولا لُب حقيقياً لديهم، فلا تُعجَب بهم.
على كل حال هذا ليس أقل ما نتورَّط فيه، أيضاً نتورَّط في الأدعية، ونحتكم فيما ينبغي أن يحل من مثولات ومن عقوبات بالظالمين والمُعتدين والصائلين والطاغين، إلى آخره! وهذا ليس لنا، هذا لله، ليس لنا! إذا ظُلمت أو اعتُديَ عليك أو هُضمت حقك، فقل اللهم خُذ لي بحقي، اللهم أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ۩. إذا أردت أن تُسامِحه وتعفو، فهذا أفضل ويُعلي منزلتك عند الله. إذا لم تستطع وكنت عبداً ضعيفاً، فقل اللهم إني لم أُسامِح بحقي، اللهم انتصر لي، اللهم خُذ لي بحقي. لكن إياك ثم إياك ثم إياك أن تقول اللهم دمِّره، اللهم أعمه، اللهم أصبه بكذا، اللهم… إياك، إياك! لأنك هنا تفتئت على الله. الله هو الحكم العدل، الذي يُقدِّر العقوبات. أنت قد تكون ظُلمت شبراً، فلماذا تدعو عليه بذراع أو بباع؟ أنت ظُلمت شبرا! ظلمت خردلة، أتدعو عليه بقنطار؟ هذا ظُلم، وهذا يُوجِب غضب الله عليك، يُوجِب غضب الله عليك ومنك، فلا تفعل هذا، إياك أن تحتكم على الله بذلك.

ولذلك صح الآتي في البُخاري، وعند النسائي، وعند أحمد، وعند كثيرين، الحديث مشهور جداً! في الصحيح أنه – عليه الصلاة وأفضل السلام – كان يدعو بعد الركوع – أي بعد القيام من الركوع، في الركعة الثانية من الفجر، بعد أن يقول سمع الله لمَن حمده، ربنا ولك الحمد – اللهم العن فلاناً، اللهم العن فلاناً، اللهم العن فلاناً. وفي رواية أبي هُريرة، وهي في الصحيح (في البُخاري)، دعا على أحياء من العرب، ودعا على مُضر، وهو مُضري، وليس من ربيعة، قال اللهم اشدد وطأتك على مُضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف. اللهم العن فلاناً، والعن فلاناً. يقول أبو هُريرة لأحياء من العرب. في حديث آخر في الصحيح أنه سمى أُناس بأعيانهم؛ اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم العن سُهيل بن عمرو، اللهم العن صفوان بن أُمية. يلعن أُناساً ظلموه وقتلوا أصحابه وظلموا الإسلام والمُسلِمين، فماذا أنزل الله – تبارك وتعالى -؟

طبعاً معنى أنك تدعو باللعن على أحياء، أنك تحتكم في مصائرهم، أنهم سيموتون كفّاراً ملعونين مطرودين من رحمة الله، ما أدراك؟ ولكن هذا سُهيل بن عمرو، وصفوان، والحارث بن هشام، من رؤوس وصناديد الكفر وسدنة الكفر والوثنية، أيضاً ما أدراك؟ القلوب بين أُصبعين من أصابع الرحمن. اليوم هو أمسى كافراً، وقد يُصبِح مُسلِماً، ما أدراك؟ فأنزل الله – تبارك وتعالى – ماذا؟ والحديث يرويه عبد الله بن عمرو أيضاً، عن سالم، عن أبيه، عبد الله بن عمر، فأنزل الله – تبارك وتعالى – لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ۩.

انتبهوا، إياكم والافتئات على الله، أمة تقوم بدور الله وهي قاعدة! تقوم بدور الله، تنصب للناس محاكم في الدنيا والآخرة، ما هذا؟ هذا ليس من الدين، ليس لمحمد – عليه الصلاة وأفضل السلام -، وهو رحمة العالمين. قال له لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ۩، قال السادة المُفسِّرون أي الحُكم على عبادي. ليس لك شيئ من الحُكم على عبادي، أنا الذي أحكم على مصائرهم وعواقبهم، أنت لا تدري ولا تعلم. لَيْسَ لَكَ ۩… انظر، انظر إلى هذه، الآية مُخيفة، هكذا استُهلت! لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ۩، لو عذَبهم، فإنهم مُستحقون لهذا.
يقول أبو هُريرة – رضيَ الله عنهم وأرضاهم – فتيب عليهم كلهم. الله أكبر! هؤلاء المذكورون أسلموا؛ الحارث بن هشام أسلم أسلم، سُهيل بن عمرو – صاحب الحُديبية مُفاوِض قريش في الحُديبية – أسلم، صفوان بن أُمية أسلم بعد حُنين، وليس في مكة حتى، بعد حُنين أسلم، تخيَّل! أسلموا، وتيب عليهم، وأصبحوا صحابة.

درس وتعليم لنا، سُبحان الله! تأديبٌ لرسول الله وتعليمٌ له، ونحن لم نتأدب بهذا الأدب ولا تعلمناه، ونحتكم في البشر. وحدَثتكم مرة عن سيدة، قف شعر بدني مما سمعت وقُمت من المجلس، لم أستطع أن أُتابِع الجلوس في المجلس، تدعو على شعب مُسلِم؛ عشرات الملايين، أن الله يفعل بهم ويفعل، وأن يُذيقهم كذا وكذا، وأن يُصيّرهم إلى حالة يتمنون معها الموت فلا يجدوه – فلا يجدوه، وليس فلا يجدونه -. الله أكبر! لم أستطع أن أفهم هذا، وسيدة تزعم لنفسها أنها صوّامة قوّامة، وتشهد لنفسها بطريقة أو بأُخرى، أي بالصلاح، عجيب يا أخي، عجيب! كيف تعلَّمتم الدين؟ أين تعلَّمتم الدين؟ ما هو الدين الذي يربطكم بالله – تبارك وتعالى -؟ لو تديَّن هؤلاء تديناً صحيحاً جُزئياً، لرقت قلوبهم، ولوفرت شفقتهم، وعظمت رحمتهم بالخلق، وخاصة بأمة محمد، أليس كذلك؟ ولتواضعوا، وتطامنوا، ولم يفتئتوا على الله، ولم يقولوا على الله بغير علم.

بالله أقول لكم إخواني وأخواتي، ما الفرق بين مَن يزعم أن الله أنزل كذا وكذا وقال كذا وكذا وأن الله لم يُنزِّل هذا – يفتري على الله، الله لم يقل هذا في كتابه -، وبين مَن يزعم أن الله أراد كذا وحكم بكذا وسيفعل كذا وسيُحدِث كذا في فلان وعلان أو في القبيل الفلاني من الناس أو في الشعب الفلاني؟ أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْدًا ۩، من أين لك هذا؟ تفتئت على الله، تكذب على الله.

فنحن أحياناً نتورَّط، نُمارِس الافتئات والكذب على الله دون أن ندري، ونظن أن هذا من حقنا، نحن ندعو ونحن نقول. غير صحيح!

أيضاً من أبواب الخلط المعيب الانفجاري المُخيف الافتئاتي على رب العزة – لا إله إلا هو -، أن نخلط بين أعمالنا وبين عمل الله. وعلى كل حال هذا موضوع الخُطبة الرئيس، كل ذلكم كان تقدمة للخُطبة، موضوع الخُطبة هو موضوع الآيات، وأقول هذا وطبعاً سيفقهه جيداً مَن تشوَّش تفكيره، عن حُسن نية وعن محبة لله ولرسوله وللإسلام وللمُسلِمين، لكن تشوَّش تفكيره، واختُلط عليه، وشُبّه عليه، ولُبّس عليه. وهذا الاختلاط، والتشبيه، والتلبيس، والالتباس، أوجب فتنة أنفار من الناس، أعداد لا يعلمها إلا الله – تبارك وتعالى – من الناس فُتنت، فُتنت في دينها.

انتبهوا، نحن نشأنا، وعبر أربعين سنة نسمع في المنابر دائماً وفي المواعظ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۩. ولم يحدث شيئ من هذا، الذي يحدث دائماً هو العكس، وضع الأمة من سيء إلى أسوأ، من سيء إلى أسوأ باستمرار! ففُتن كثيرون من الناس. ولطالما استشعر الألباء والصُلحاء من هذه الأمة خطورة الكذب على الله ورسوله، إن في التنزيل، وإن في التأويل؛ لأن هذا يُعرِّض ضعاف العقول وضعاف الإيمان لفتنة عظيمة. فمن أخطر ما يكون أن يُعلَّم الناس – والآن يُعلَّمون كثيراً، وخاصة في النت Net هذا وفي اليوتيوب YouTube – أن مَن دعا بهذا الدعاء، آتاه الله كذا وكذا، وهذا الدعاء لا يتخلَّف ومُجرَّب وما إلى ذلك. يأتي المسكين، ولا يحدث أي شيئ، فيُفتن! ويُعلَّم أن هذا الدعاء ثابت عن رسول الله، والرسول قال هذا، صل ركعتين، وادع بهذا الدعاء، يحدث لك كذا وكذا. ولا يحدث شيئ، كذب على الله ورسوله، تكذبون! فتنة للناس، وطبعاً الزنادقة وضعوا هذا من قديم، لفتنة هذه الأمة عن دينها.

ماذا عن أصحاب ما يُسمى بالفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية؟ الفكر والثقافة وما إلى ذلك شيئ، والعلم الحقيقي المُؤصَّل المُؤسَّس على أُسسه العتيدة شيئ آخر. فنأتي إلى الآيات: وَعَدَ اللَّهُ ۩، وَعَدَ ۩، هل نحن موعودون؟ هل عندنا وعد؟ ثم مَن الموعود في هذه الآيات؟ بصراحة، ودعونا نرى سياق الآيات، وسياق الآيات كما فهمها كل مُفسِّر لبيب. سياق الآيات يُفيد ويُجدي ويُعطي أنها نزلت في الصحابة، في الصحابة! وقد حقَّق الله وأنجز لهم عِدته، نعم! لم ينقرض جيل الصحابة، آخرهم أبو الطُفيل، عامر بن واثلة – رضوان الله عليه -، حتى مكَّن الله لهذه الأمة، وضرب الإسلام بجِرانه، وأمن الناس، وبالعكس؛ وأصبحوا قوة مهيبة الجانب، يخشاها الكبار، بدل أن تخشاهم، وأبو العالية – رضيَ الله عنه وأرضاه – أفاد في أثره هذا، كما أورده أبو جعفر بن جرير الطبري في تفسيره، قال مكث رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – عشر سنين في مكة خائفاً، يدعو إلى الله سراً وجهراً. ولكن هناك خوف، حتى حين استعلن بالدعوة، كان خائفاً. وطبعاً صحابة من أصحابه رجالاً ونساءً قُتلوا، وهناك هجرتان إلى الحبشة، وستكون الثالثة إلى المدينة – على مُنوِّرها ألف مليون تحية وسلام -. عشر سنين – يقول – يدعو سراً وجهراً، ثم هاجر. هاجر مع أصحابه، هاجروا ولم تبق إلا بقية قليلة من المُستضعفين في مكة، مذكورون في سورة النساء وفي غيرها. قال كانوا لا يضعون سلاحهم. في الصلاة السلاح معهم، وهم قاعدون السلاح معهم، فهناك خوف، خوف أن يدهمهم الكفار المُشرِكون، قريش وغير قريش، هم في خوف، في حالة خوف. فقال أحد الصحابة يوماً ألا يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع هذا السلاح؟ ما هذه الحياة؟ ليل نهار هناك خوف خوف خوف، تركنا لهم كل شيئ، تركنا بيوتنا وأملاكنا وعقارنا وأتينا هنا، ومع ذلك مُهدَّدون؟ أي أنه مُتألِّم، وحُق له أن يتألَم، حُق له الألم.

فقال – عليه الصلاة وأفضل السلام وآله – إنكم لا تغبرون – من غبر، إذا مكث، أي لن تمكثوا – إلا يسيراً، حتى يجلس الرجل مُحتبياً في الملأ العظيم ليس فيه حديدة. لا يُوجَد فيه أي قطعة سلاح، جالس هكذا، مثلما نجلس الآن. نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُعمِّم السلام على أمة محمد وعلى العالمين، وأن يقطع دابر مُسعِّري الحروب ومُثيري الفتن من الشرق والغرب، من المُسلِمين وغير المُسلِمين، وأن يكفي الله الدنيا شرهم. هؤلاء أشر عباد الله، مُسعِرو الحروب والفتن! فالنبي قال لا، قريباً سيحصل هذا.

يقول أبو العالية – بمعنى كلامه – وهذا الذي كان. لم يمكثوا إلا يسيراً، حتى وطأ الله للإسلام في جزيرة العرب. وما بعد الجزيرة، وأبعد من الجزيرة بكثير! وأمن الناس، وانقطعت الفتنة. كما قال ابن عمر في الحديث المُخرَّج في الصحيح، أمن الناس، لم تكن فتنة. أنت تُسلِم وتستعلن بدينك، ولا يستطيع أحد أن يُرهِقك ولا أن يفتنك عن دينك وفي دينك – بفضل الله تبارك وتعالى -.

فواضح إذن من هذا الأثر ومن سياق الآيات، أن الوعد هنا بخصوص مَن؟ جيل مُحدَّد. وأنجز الله عِدته، انتبهوا! واحد هنا قد يسأل، أي قد يقول ويثور سؤال من تلقائه؛ ما الفرق بين هذا الوعد، وبين السُنن؟ هناك سُنن ربانية، ومن سُنن الله – تبارك وتعالى – أن الأرض لله يرثها عبادها الصالحون، في سورة الأنبياء وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ۩، سُنة كونية، الأصلح في دينهم وعملهم يرثون الأرض – بإذن الله تعالى -، فما الحاجة إلى هذا الوعد؟ لا، تُوجَد حاجة، ويُوجَد فرق كبير جداً بين السُنة وبين الوعد. انتبهوا، من هنا نشأ الاختلاط، والاشتباه، والتلبيس علينا. لُبس على الناس، وفُتن – كما قلت – بعضهم في دينهم.

فرق كبير بين عمل السُنة، وبين مُقتضى ولازم الوعد. السُنن بالذات تختلف، أي ما يدرسه الآن العلماء أو الدارسون تحت عنوان فلسفة التاريخ، وهذا هو المُراد على فكرة، حين تقول لي السُنن في كتاب الله؛ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ ۩ سُنَنٌ ۩، ما هذه السُنن؟ هذه هي، أي فلسفة التاريخ، أن هناك قوانين حاكمة، تحكم حركة المُجتمَعات والتاريخ. انتبهوا! واضح أن هذه القوانين، دائماً دائماً ما تتمتع بهوامش عريضة ولينة، تمنع التحتيم وتمنع التقدير الكمي الدقيق في الزمان والمكان والقدر. من الصعب جداً، لأنها تتعامل مع عالم ماذا؟ الاختيار والحرية، مع عالم البشر، مع الروح الإنساني. ولذلك لا يُوجَد قانون، لا يُوجَد قانون – مثلا نفترض – يُفيد أن المُسلِمين إذا فعلوا كذا وكذا، في ظرف ثلاث سنوات، لن تزيد، أو ثلاثين سنة، لا تزيد، فسيحصل لهم كذا وكذا. لا يُوجَد الكلام هذا، لا يُوجَد الكلام هذا أبداً.

ولذلك أخطأ حزب مشهور جداً من أحزاب المُسلِمين في القرن العشرين، وقالوا لك نحن سنسير كما سار رسول الله، ونطلب النُصرة، ونفعل كما فعل، وحتماً سنُقيم دولة الخلافة – مع ما في هذا المُركَّب من تناقض صارخ ومُضحِك؛ دولة الخلافة! لا يُوجَد شيئ اسمه دولة الخلافة، المُهِم هذا هو، لأن الدولة شيئ والخلافة شيئ. دولة الخلافة أو الخلافة – ونستعيد مجد الخلافة الإسلامية في هذه المُدة التي نجح فيها الرسول. ومرت عقود وعقود وعقود، ولم يحدث شيئ من هذا. وطبعاً يأتيك الترقيع، يقولون نعم، أكيد تخلَّفت الشروط، أكيد!

فرق كبير بين عمل السُنة المرن هذا، صعب القياس، صعب التوقيت والتقدير، على أنها في ذاتها صحيحة، وبين الوعد. حين قال الله – عز من قائل – وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ ۩، كان الخطاب للصحابة، الخطاب للصحابة! ما معنى هذا؟ معناه أنه لن ينقرض جيل الصحابة، حتى تتحقَّق ماذا؟ العِدة. وهذا الذي كان، والله لا يتخلَّف قوله، وعده! سوف تقول لي إذن هذا الوعد حتماً محكوم بالسُنن؟ أكيد طبعاً. ولذلك العلاقة بين السُنن وبين الوعد الإلهي، ليست علاقة تعارض، على أن السُنن أعم، والوعد أخص. الوعد يقول بمُقتضى السُنن أن تكونوا صالحين مُصلِحين؛ صالحين في أنفسكم، مُصلِحين في غيركم، سيُمكَّن لكم، وستأمنون. جميل، لكن ما فائدة الوعد إذن هنا؟ ما الخصوصية في الوعد؟ تُشتَم منه رائحة ماذا؟ رائحة أن الصحابة يتحقَّقون بالشروط، في جُملتهم مُتحقِّقون بالشروط. حين قال الله لهم سأفعل لكم هذا، فهمنا أن هذا الجيل الأكرم في حياة الأمة بلا شك والأفضل والأفخم والأجل – رضوان الله عليهم -، مُتحقِّقون بهذه الشروط، وفي رأسها إفراد الله بالعبادة، ومحضه العبودية، من جهتنا، يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۩، وبعد ذلك قال الآتي، أي بعد أن قال وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ۩، وهنا الألف واللام للاستغراق، أي عملوا كل الصالحات، لكنه بلا شك استغراق عُرفي، لأن من المُحال أن يعملوا كل الصالحات، فهو استغراق عُرفي، والمُراد به هنا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ۩ التي هي معاقد الدين والخير والصلاح، الأُسس! لم يُضيِّعوا الأُسس. ولذلك أعقب هذه الآية بقوله – تبارك وتعالى – وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ۩.

والسياق الكريم من أوله إلى آخره، مُفيد – كما قلت – ومُعطٍ ومجدٍ أنه في الصحابة، الخطاب للصحابة! فبأي حق تُؤخَذ هذه الآية الجليلة، وتُوعَد بها أجيال الأمة، وأننا أيضاً ندخل في الوعد، وكأن الوعد سُنة؟ السُنن شيئ، والوعد شيئ آخر، انتبهوا! من هنا جاء الخلط، فصرنا كأننا موعودين بما وُعد به جيل الصحابة، ولم يتحقَّق الوعد، وغبر جيل وجيل وجيل على مدى قريب من مئة سنة، ولم يتحقَّق الوعد، بل تحقَّق العكس تماماً – كما قلت -، مزيد من التآكل، مزيد من التفكك، مزيد من الذل والخزي، للأسف! نسأل الله أن يُكرِمنا وأن يُعِزنا بعد هذا الخزي والذل، وأن يُؤحِّدنا وأن يلم شعثنا. خلط!

ثمة أمر خطير جداً، لا يُمكِن أن أُغادِر هذا المقام دون أن أُشير وألفت إليه، وهو أين عمل الله وأين عملنا في الآية؟ الله يقول وَعَدَ اللَّهُ ۩، ما هو مضمون الوعد؟ وعد بالاستخلاف، أنه يُورِثهم الأرض. وفعلاً هناك أرض كان يحكمها الكفّار والمُشرِكون، فصاروا ساستها وملوكها وقادتها، ونوَّروها بأنوار الحق – بفضل الله -.

وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ ۩، توطئة الدين، توطئة وتوطين أيضاً، توطئة وتوطين وتمكين للدين، والأمن أيضاً، تعميم الأمن. هذه الأفعال أفعال البشر أو أفعال الرب – لا إله إلا هو -؟ أفعال الله. الله هو الذي سيستخلف، الله هو الذي سيُمكِّن، الله هو الذي سيُؤمِن – يُعطي الأمان، ويُحدِث الأمن، لا إله إلا هو -. هذا فعل الله! الذي يحدث – انتبهوا، يحدث معنا جميعاً – أننا نُفرِّط فيما علينا، ولا نُباليه كثيراً. هناك شروط، وهناك أعمال منوطة ومعصوبة بجبين كل واحد في هذه الأمة، علينا أن نستغرق وقتنا وجُهدنا في أدائها والتحقق بها وإنجازها. لا! نُفرِّط فيها، نستخف بها بطريقة أو بأُخرى، ونبدأ نقف نتمدَّح ونتغزَّل ونُمني النفس، بماذا؟ بالموعود، بالفعل الإلهي. نحن نطلب النُصرة، نطلب التمكين – إن شاء الله -، نطلب كذا. يا أخي هذا فعل الله، أنت لا تهتم به كثيراً، افعل ما عليك، والباقي كما تقول العامة على الله، أنت افعل ما عليك. لا! نُريد أن نغتصب التمكين، أي كأننا نُغاصِب الأقدار، والأقدار غلّابة. أنت لا تستطيع أن تفتك شيئاً من بين يدي القدر، لم يأذن به الله. والله لن يأذن بتمكين أمة وتأمين أمة، لم تتحقَّق فيها الشرائط. اذهب واشتغل بما عليك يا رجل.

وعلى فكرة أن تشتغل بهذا الموعود وبمضمون الموعود، وتجعله ملهاتك ومسلاتك وأمنيتك في الليل والنهار، يُشبِه أن يكون دغلاً في عملك واعتقادك. أنت ليس هدفك إرضاء الله، ليس هدفك التحقق بالعبودية لله، ليس هدفك تغيير حتى الذات. هدفك أن تتمكَّن وأن تأمن، تُريد شيئاً لنفسك، والله لا يُريد هذا، انتبه! الله يقول لك قُم بما عليك، وأنا سأقوم بما وعدت به. وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ۩، لمَن تحقَّق بالإيمان، بشروطه. وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ۩ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ۩ وَإِنَّ جُنْدَنَا – تحقَّق بالجُندية الحقة لله – لَهُمُ الْغَالِبُونَ ۩. لم يحصل هذا عبر مئة سنة؛ لأن هناك كذباً على النفس، وكذباً على الحقائق، وعدم إمعان في إنجاز ما هو مطلوب منا. المطلوب منا ليس أن نُمكِّن لأنفسنا، الله هو الذي يُمكِّن، هذا عمل الله، لا تخلط يا رجل، لا تخلط يا مُسلِم، هذا عمل الله وليس عملك أنت. هل تستطيع أن ترزق نفسك؟ أنت يُمكِن أن تذهب تتعاطى كل الأسباب، ثم تعود محروماً، أليس كذلك؟ ويذهب أخوك أو جارك يتعاطى أقل الأسباب، ويعود موقراً بالأرزاق، أمر الله! الرزق على الله، حتى العامة لدينا يا أخي تقول هذا، والله في مرات كثيرة أقول ما أحسن إيمانهم! أحسن من إيمان بعض العلماء والمشايخ. العامي يقول هذا، العامي يقوله، وكم سمعنا هذا من جداتنا ومن أجدادنا! تُعطيك حبة الأسبرين Aspirin أو حبة الدواء، وتقول لك اللهم اجعل فيها الشفاء. الله أكبر، هي تعلم أن هذا دواء، وأن الشفاء من عند الله، سبب! أليس كذلك؟ السعي على الرزق سعي، سبب! والرزّاق هو الله.

ولذلك كان المُنافِقون يأتون إلى المرأة المُسلِمة – مرأة الصحابي أو التابعي -، ويقول لها أحدهم ذهب زوجك مع محمد، وسيُقتَل، مَن يرزقكم؟ تقول له تعساً لك، أفٍ لما قلت، فإني لم أعرف زوجي رزّاقاً، إنما عرفته طعّاماً. الرزّاق هو الله، وهو فقط يُطعِم.
وكذلك الهذه الأدوية، وللأسف بعضهم يتساهل ويُسميها أشفية. ليست أشفية! وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ۩، الشافي هو الله، وهذه أسباب، تنجع هنا ولا تنجع هناك، بأمر الله، وكله بأمر الله – تبارك وتعالى -. اللهم اجعل فيه الشفاء.

ولذلك موضوع التمكين، مثل موضوع النصر، أنت لا تستطيع أن تنصر نفسك، قال – تعالى – إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ ۩. مَن الذي ينصر؟ الله. لست أنت مَن سينصر نفسك. إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ – اللهم لا تخذلنا وخذِّل عنا – فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ ۩، لن تستطيعوا! وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ ۩. إذن فما لنا في قضية النصر؟ ما لنا في قضية النصر، هو ما لنا في قضية التمكين؛ أن نستفرغ وسعنا وجهودنا وأوقاتنا، في ماذا؟ في إنجاز ما علينا، ما ينبغي أن نُنجِزه. ثم بعد ذلك نحن غير مسئولين، حصل النصر وحصل التمكين، أم لم يحصلا، نحن أفرغنا ذمتنا.

سوف تقول لي هذا المنطق – والله – أشبه بالحقيقة. ليس أشبه، هو الحق – إن شاء الله تعالى -، لأنه منطق القرآن، والقرآن دل عليه وشايعه وأسعده بنصوص أيضاً، فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ ۩ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ ۩ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ۩. يا أخي – والله العظيم – اقشعر بدني، هل هذا كلام بشر؟ لا يشك في هذا إلا أبله مغلوب على عقله، هل هذا كلام بشر؟ الله يقول له فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ ۩. وكأنه يقول له مرة أُخرى الأمر ليس لك، أن أنصرك، أن أُعاقِبهم، أن كذا، ليس أمرك. أنت افعل بما عليك، افعل بما أنت مُلزَم به. إذن يا رب ما الذي أنا مُلزَم به؟ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ ۩. قال له استمسك. قال إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ۩. قضية متى أنصرك؟ متى أنتصر لك؟ تتبع حكمتي وتقديري. فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ ۩ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ ۩ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ۩ في الزُخرف، ومثلها – قريب جداً – أيضاً في يونس، هو هذا! إذن لابد أن نُعيد طريقة تفكيرنا يا إخواني.

أختم هذه الخُطبة الأولى بقصة جميلة من الأدب الرمزي. تحكي القصة أن هناك عاملاً كان لدى سيده، وفي الحقيقة كان عبداً، اشتراه سيده، لكي يخدمه في كبر سنه. كبير قليلاً في السن، وسيد غني، وإنسان مُحترَم ورحيم وطيب. والعامل بدأ مشواره بداية طيبة، كان يعمل بجد واجتهاد، ولا يلقى من سيده إلا كل تكرمة وإحسان. حتى إذا كان حين أو حتى إذا مضى حين من الدهر، أغراه شدة إحسان سيده ووفور شفقته عليه، فبدأ يركن إلى الدعة والتكاسل، وصار يُقصِّر كل يوم في عمله، وسيده الكريم الخُلق، الطيب المعشر، لا يُعاتِبه، ولكن يُشيح عنه، بدأ يُشيح عنه بوجهه. إذا لقيه، يُشيح عنه. حتى انتهى الأمر إلى ترك هذا العبد كل عمله، ما عاد يعمل، ما عاد يقوم بأي شيئ، تقريباً كأمة محمد اليوم، تقريباً! لم يعد يقوم بشيئ، انتهى، قاعد هكذا، وعلى ماذا هو قاعد؟ على الأماني، وعلى حُسن الظن. وسيده يُشيح عنه، ولا يعتب عليه. فكبر عليه هذا، ثقل عليه أن سيده لم يعد يبش في وجهه، لم يعد يُحادِثه ويُؤانِسه، فذهب إلى جماعة من خلصان معارف وأصدقاء صاحبه، ورجاهم وتوسَّل إليهم أن يُحنِّنوا قلب سيده عليه، وأن يُصلِحوا من خاطره إزاءه، ففعلوا، فاستدعاه سيده بعد أن ذهبوا، وقال له عجيب أمرك، غريب ما تأتيه وتفعله، أنت عندي، ليلي ونهاري، لِمَ تستشفع بأصحابي علىّ؟ هلا أتيتني مُباشَرةً؟ ائتني عامداً إلىّ، وقل لي ما تُريد. فسكت، لم يحر جواباً، ثم انصرف. وأيضاً استرسل فيما هو فيه، لا يُوجَد عمل، قاعد! ونوم الأضاحي؛ ينام إلى الساعة التاسعة أو الساعة العاشرة، وسهر الليالي؛ يسهر إلى الساعة الواحدة أو الساعة الثانية، ولا يُوجَد عمل، والسيد الكريم ساكت، فقط مُكتفٍ بالإشاحة عنه، مُعرِض عنه، كما أن رحمة الله اليوم مُعرِضة عنا، ويد الله مرفوعة عنا، نحن اليوم متروكون، متروكون لشياطين الإنس والجن تعبث بنا، لأن لا تُوجَد حالة صدق حقيقية مع الله، لا تُوجَد حالة تدين حقيقية مع الله.

المُهِم، بعد ذلك ماذا فعل هذا؟ خطر له خاطر آخر، ذهب إلى فراخ سيده، فجمع ما وضعت من بيض، ووضعه في سلة، زيَّنها وحسَّنها، ثم قال يا سيدي هذه هدية مني إليك. قال له هذه أغرب. سيده قال له هذه أغرب، لم تأتني بما ليس لي. هذه ملكي – قال له -، فراخي هذه ودجاجي، وهذا بيضي، أي لي هذا. أنت تأتني – قال له – بمالي؟ تتملقني به؟ قال له، أمرك غريب. سكت ولم يحر جواباً، ثم انصرف، وجعل يقدح زناد الفكر؛ ماذا أفعل؟ ماذا أفعل؟ خطر له خاطر ثالث.
عنده موهبة أدبية هذا العبد، نظم قصيدة شعر طويلة، في ممادح سيده، حتى إذا فرغ منها، أتى وجلس بثقة أسفل نافذة سيده، وجعل يتلو هذه القصيدة ويتنغم بتلاوتها، يذكر ممادح ومزايا وكرم وإحسان سيده ووفور شفقته وعِظم رحمته و… و… و… إلى آخره! فاستدعاه سيده، قال يا فلان، هذه الثالثة أغرب من الأوليين، فعلت كذا وكذا، والآن تأتي تنظم قصيدة، تمدحني فيها وترفعني إلى السماء السابعة، ولا علم لك بحقيقتي. حقيقتي وجوهري أنا أعرفه، أي فهل أنت أعلم بي من نفسي؟ أأتيت لكي تمدحني وما إلى ذلك؟ أي هل أتيت وأنت تُريد أن تغرني عن نفسي؟ رجل حكيم!
يا بُني – قال له – لا أُريد منك شفاعة الشافعين، ولا أن تُهديني ما هو من مالي وفي ملكي، ولا أن تتمدح بي، كل ما أُريده منك ما أنت مُرصَد له أصلاً، وما لأجله كنت. أنت صرت عبدي، واشتريتك، ودفعت فيك الأموال، من أجل هذا! أتعلم ما هو؟ قال ما هو يا سيدي؟ قال عملك. العمل! أنا أُريد العمل، لا أُريد لا هذا ولا هذا ولا هذا.

ونحن كذلك، يُوشِك أن نكون دون أن ندري مُتملقين لله، بالصلوات والحج إلى مكة والعُمرة واللحى والجلابيب، وكله جميل، هذا من الدين، ولكن كلها قشور وأكسية، غير حقيقة عمل الصالحات. الله يُريد من وراء كل هذه القشور والأكسية والمظاهر ماذا؟ قلوباً صالحةً، ونفوساً بارئةً، ومسالك مُستقيمةً، ونوايا وقصوداً تمحضه العبادة والقصد والتوجه – لا إله إلا هو -.

نسأل الله أن يُصلِحنا بما أصلح به عباده الصالحين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

 

الخُطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

لا شك إخوتي وأخواتي أن قضية الخلط والافتئات على الله والانشغال بأعمال الله عن أعمالنا، أوسع بكثير من أن يفرغ فيها الكلام في خُطبة واحدة، أو حتى سلسلة خُطب، وأنها تحتاج إلى كُتب ودراسات استقصائية كثيرة، لكن سأختم هذه الخُطبة الثانية بمثال واحد فقط، تعرَّضت له في خُطب في سياقات وموضوعات أُخرى.

ألا وهو موضوع أننا أيضاً نفعل الآتي باسم الدين وباسم أننا مُهتمون – وهذا حسن في ذاته – بأمر المُسلِمين؛ لأن في الحديث الضعيف الذي أخرجه الطبراني والحاكم وابن عدي في الكامل، عن حُذيفة وأبي ذر وغيرهما، مَن لم يهتم – وفي رواية وأصبح وأمسى ولم يهتم – بأمر المُسلِمين، فليس منهم. والحديث ضعيف بإجماع العلماء والأئمة، على أن معناه صحيح، ويُغني عنه قوله – تبارك وتعالى – إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ۩، وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۩، أليس كذلك؟ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ ۩، أي ويُوالي بعضكم بعضاً، يُحِب وينصر بعضكم بعضاً، أيها المُسلِمون وأيها المُؤمِنون، تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ۩. وهناك الحديث المُخرَّج في الصحيحين؛ المُؤمِن للمُؤمِن كالبُنيان المرصوص، يشد بعضه بعضاً. ثم شبَّك بين أصابعه. في الصحيحين ويُغني عن هذا، وحديث النصيحة في صحيح مُسلِم يُغني عن هذا الحديث الضعيف؛ مَن لم يهتم بأمر المُسلِمين، فليس منهم. ألا وهو الدين النصيحة. قلنا لمَن؟ قال لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المُسلِمين وعامتهم. لأئمتهم وعامتهم النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة! وحديث مثل المُؤمِنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالحُمى والسهر. إلى غير هذه الأحاديث، وحديث لا يُؤمِن أحدكم حتى يُحِب لأخيه ما يُحِب لنفسه. أحاديث صحيحة، صحائح! كلها صحائح، قوية، ولا يُوجَد كلام عليها، تُغني عن هذا الحديث الضعيف.

لكن انتبهوا، باسم هذه الأحاديث وباسم ذاكم الحديث الضعيف – انتبهوا – تُسقَط وُتهدَر أمور كثيرة، يظن العاملون بحُسن نية في الأغلب – وربما في بعض الحالات التي فيها تدخل استخبارات عالمية واستعمارية بسوء نية، لزيادة أوضاعنا خبالاً على خبالها. وهو ماذا؟ يظنون الآتي – أن هذا يُعطيهم فيزا Visa، يُعطيهم رُخصةً، أن ينتهكوا القوانين الدولية والدولتية، محلية وإقليمية وعالمية، باسم ماذا؟ أننا أمة واحدة، وأن مَن لم يهتم بأمر المُسلِمين، فليس منهم. لكن يا أخي دولتك أو بلادك عقدت مُعاهدات وعقدت مُعاقدات مع دول أُخرى! قال لك ليس لي علاقة، لا مُعاهدات ولا مُعاقدات، قال أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن كذا، وقال ابن تيمية كذا. ما هذا الفقه؟ ما هذا الخبال؟ ألم تقرأ القرآن؟ ألم تقرأ السُنة والسيرة؟ إذن انتبه، قف قليلاً، قف قليلاً! ألم تسمع وأنت لا تزال طري العود، في أول سنك وغضارته قصة الحُديبية؟ كلنا نتحفظ هذه القصة. في هذه الواقعة العظيمة، على ماذا وافق النبي ضمن الشروط التي وافق عليها – شروط سُهيل بن عمرو مندوب قريش -؟ أن أي مُسلِم يأتي محمداً – أي رجل أو امرأة، يأتي محمداً – من قريش مُسلِماً، على محمد ماذا؟ أن يرده، ويقول له لم أقبلك ولا أقبلك، اذهب. عجيب! تردني وأنا مُسلِم، أتيت أستعلن بالإيمان والتوحيد؟ تردني إلى مُعسكَر الكفر، إلى قريش؟ قال لك الآن نحن في حالة سلام مع قريش، سلام ومُسالَمة. لكن قد يفتنونني في ديني! والنبي علَّم هذا، نعم، إذا عاد، قد يفتنونه. قد يقول لي أحدكم نعم، انتهى الأمر، إذا فتنوه، هنا المُعاهَدة تُنبَذ إليهم على سواء وينتهي كل شيئ؟ غير صحيح، غير صحيح! قال – تبارك وتعالى – في آخر سورة الأنفال الآتي.
وعلى فكرة أُريد أن أسألكم – قبل أن أنسى؛ لأن هذا خطر لي الآن – هل تعرفون ما هذه الدلالات في الكتاب والسُنة – والآن سآتي بقرآن كريم وواضح لائح -؟ معنى هذا أن هناك حدود للديني والسياسي، وأن أحياناً الشأن السياسي؛ مُعاهدات، مُعاقدات، وتحالفات سياسية، تحكم على ماذا؟ على عموم النص الديني. نعم هو أخوك، وله عليك حق النُصرة وحق الموالاة، ولكن ضمن ماذا؟ حدود مُعيَّنة. بعد ذلك يسقط هذا الحق، عجيب! القرآن! هذا القرآن. قال – تبارك وتعالى – وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ ۩، مُؤمِن هو، ولكنه لم يُهاجِر وظل مع الكفّار، مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ ۩. الله أكبر، القرآن هذا! لأن القرآن لا يُريد أن يُكبد مُعسكَر التوحيد ومُعسكَر النبي والصحابة، أن يدخلوا كل يوم في معارك، والعالم كله مُؤتمِر بنا، ماكر بنا. ندخل في معارك مع الشرق ومع الغرب، ومع العالم كله، ونُقسِّم العالم إلى فسطاطين، من أجل هذا وذاك، مِمَن صعب عليه أو كبر عليه أن يترك نخلاته وزرعاته وبيته أو زوجته وأبناءه، ويأبى أن يلتحق بالمُسلِمين في مُعسكَره. قال لك لا، أنا أُريد الدنيا. خلك مع الدنيا، وأنت مُؤمِن، وأمرك إلى الله، لكن ليس لك علينا حق ماذا؟ حق النُصرة، حق الولاية. قال العلماء مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ ۩، النُصرة، لبُعد الدار. وقيل الميراث، لانقطاع السبب. عجيب! أي لا هذا ولا ذاك. قال مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ ۩.

قال وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ ۩. هذا الفرض الآخر، هو مُقيم بين الكفّار آمناً، والآن لم يعد آمناً، فتنوه في دينه وعذَّبوه؛ إما تكفر، وإما ذبحناك أو قتلناك أو سجناك أو أرهقناك أو… أو… أو… استنصر، فهو بعث إليكم؛ انصروني، أُفتن في ديني. اسمعوا القرآن الكريم، شيئ عجيب! وهذا لم نسمعه على فكرة، تسعون سنة أو مئة سنة ولم نسمع هذا الفكر، وهذا القرآن وليس فكراً. هذا لا يُقال لنا، يُقال لنا العكس، لأن هناك إرادة – كما قلت لكم – بتمزيق الأوطان وتمزيق هذا العالم، ولذلك ليس بعيداً وليس غريباً أن تكون بريطانيا (أم الاستعمار وأم الخبائث في عالم الاستعمار) وراء كثير من حركات ما يُعرَف بالإسلام السياسي، تدعمها ولا تزال تدعمها. فاهمون في ماذا يشتغلون في يا أخي، هم فاهمون! والأمر يشتغل تماماً كما يُريدون، ونحن أيضاً في غفلة، إلى الآن عمهون.

قال وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ ۩. إذا كان هناك مُعسكَر كفر ومُعسكَر شرك، يفتن المُؤمِنين عنده في دينهم، وبينكم وبين هذا المُعسكَر مُعاهَدة، فلا، لا تنصروا هؤلاء المُؤمِنين المفتونين، اتركوهم. عجيب! قرآن كريم، بإجماع المُفسِّرين حتى تنقضي مُدة العهد، أو يُنبَذ إليهم على سواء، إذا آنسنا منهم خيانة. يا الله! ويا أخي قال لك الإسلام كذا وكذا. أرأيتم القرآن؟ واقعي جداً، ليس مثالياً مُحلِّقاً، خُطب ومواعظ وتعميمات وتُشعِل الأرض كلها حرباً عليك وعلى أمتك، باسم أنك لا تفهم حتى النص الديني يا رجل، اقرأ كتابك، واقرأ سُنة نبيك.

نسأل الله أن يُعلِّمنا، وأن يُفقِّهنا، وأن يُرشِّدنا.

اللهم اهِدنا إلى أرشد أمورنا يا رب العالمين، علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً وفقهاً ورشداً. اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المُنكَرات، وحُب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بعبادك فتنة، فاقبضنا إليك غير مفتونين ولا خزايا ولا نادمين ولا مُبدِّلين مُغيِّرين يا رب العالمين.

اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربونا صغاراً، اجزهم بالحسنات إحساناً وبالسيئات مغفرةً ورضواناً، واغفر اللهم للمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات، بفضلك ورحمتك إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من أفضاله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

 

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

 

تكملة مُفيدة للموضوع

أحببت فقط أن أُذكِّر بحديث مُهِم، في موضوع الحُكم على مصائر الناس، على مصيرك حتى أو مصير غيرك، وأنك ينبغي أن تكون حذراً في هذا الباب، ترجو الخير لنفسك ولغيرك، ولكن دائماً تعرف حدك في هذا الباب.

هناك حديث في صحيح مُسلِم، يقول فيه – عليه الصلاة وأفضل السلام – إن رجلاً قال والله لا يغفر الله لفلان. يبدو أن فلانا الآخر هذا كان مُقيماً على معاصي غليظة وفواحش كبيرة، فاستُثير الأول الصالح، فقال والله لا يغفر الله لفلان. قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – فقال الله – تبارك وتعالى – مَن ذا الذي يتألى؟ وكلمة يتألى معناها يحلف، فانتبهوا إذن، تُستخدَم كثيراً الآن بطريقة خاطئة، أي الناس لا يعرفون ماذا يقولون، يقول لك أحدهم إنه يتألى وهو لا يعرف التألي. الألية هي الحلف، أي مَن هذا الذي يحلف؟ وليس معناها الذي يمنع أو كذا، لا! الألية هي الحلف. مَن الذي يتألى علىّ ألا أغفر لعبدي – أو قال لفلان -؟ قد غفرت له، وأوجبت لك النار. ذهب وانتهى!

الصالح هذا أهلك نفسه بماذا؟ بأنه تدخَّل في عمل الله. أرأيتم؟ موضوع خُطبة اليوم، القضية خطيرة! لا تحكم على الناس. وهذا الحديث يرويه ابن حبان في صحيحه بسياق أوسع وجميل، وأيضاً صحيح، عن أبي هُريرة – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، يقول قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – كان رجلان متواخيين. ومعنى متواخيين هنا أنهما آخذان في طريقين مُتقابِلين؛ هذا قاصد وآخذ في طريق الخير، وهذا قاصد وآخذ في طريق الشر، هذا المعنى، أي ليسا مُتآخيين في الله، لا! كانا مُتواخيين؛ هذا مُقيم على الطاعة، وهذا – والعياذ بالله – مُصِر على المعصية. فكان الذي يأخذ في الطاعة يقول للذي يُصِر على المعصية اتق الله وأقصِر. يقول اتق الله وأقصِر. فالإقصار هو الترك أو الكف، الكف عن الشيء وأنت بمقدورك أن تفعله، أنت تقدر عليه ولكنك تكف عنه، فهذه معناها هنا ماذا؟ الإقصار. قال له وأقصِر. حتى رآه مرة مُقيماً على معصية، فقال له اتق الله وأقصِر. قال خلني وربي، إنك لم تُبعث علىّ رقيباً. قال له ما هذا؟ وعلى فكرة – انظر – النبي هذا لفظه، هذا لفظ النبي، قال له إنك لم تُبعث علىّ رقيباً. لأن بعض الناس يشتغل كأنه رقيب على الناس، والله! ليس لك علاقة بالناس أنت، أي هل أنت رقيب على الناس؟ لا. اترك الناس، إنك لم تُبعث علىّ رقيباً. مع أن هذا يُجاهِر بمعصيته، فعلاً! لكنك أيضاً لست رقيباً علىّ، أنت تعظ وتُذكِّر، وينتهي الأمر، لا تغلبني.

المُهِم، فقال والله لا يغفر الله لك. أو قال له ليدخلنك النار. أو كلمة كهذه. يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – فقبض الله أرواحهما. أُميتا! فأوقفهما بين يديه. النبي يقول، انظر، مشهد مُخيف، مُخيف ومُرعِب. وقال – تبارك وتعالى – للأول الذي حلف أن الله لن يغفر لصاحبه أكنت بي عالماً؟ أي هل أنت عندك علمي – ما شاء الله – وتعرف كيف أُريد أن أتصرف وماذا أُريد أن أفعل؟ أكنت بي عالماً، أم على ما في يدي قادراً؟ أي أم هل كنت أنت قادراً على رحمتي، وتتصرف بالنيابة عني؟ انظر إلى الله، هذا يُغضِب الله. كما قلت لكم الله جعل القول عليه بغير علم قرين الشرك بالله. أنت لست شريكاً لله، ولست إلهاً معه، تتحكَّم في مصائر الناس؛ هذا في الجنة وهذا في النار؟ ما أدراك يا رجل؟ أنت نفسك لا تعرف إلى أين أنت ستذهب. نسأل الله العفو والعافية يا إخواني وحُسن الختام.

أكنت بي عالماً، أم على ما في يدي قادراً؟ يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – ثم قال للعاصي اذهب، فقد غفرت لك. أي ادخل الجنة. وقال للملائكة اذهبوا به – للثاني الطائع – إلى النار. أوه! قد يقول لي أحدكم كيف؟ هل تعرف لماذا؟ لأنك أصلا لا تملك بعبادتك وذكرك وتسبيحك وأعمالك الصالحة أن تُصبِح نداً لله أو شريكاً لله، أي هل أنت غرتك نفسك وأعجبتك نفسك كثيراً، حتى تخيلت نفسك شريكاً لله في الحُكم على عبادك يا رجل؟ أي أهكذا ذهبت بك نفسك؟ معناها أن عبادتك هذه لم تكن لله، عبادة تُغذي فيك الأنانية والنرجسية والأنا، الأنا! أنا أحسن منهم، هم عُصاة، هم فسقة، أنا الأفضل، أنا الطاهر، هم المُلوثون، أنا… الدين ليس هكذا، الدين ليس كذلك أبداً، أي الدين الصحيح. وهذا معيار لك يا أخي الكريم، معيار لكشف الحقيقة من الوهم.
كلما تدينت أكثر، ماذا يحصل؟ إذا كنت ترى من نفسك، أنك أصبحت أرحم وأحب للناس وأعذر لهم وترجو الخير لهم، فأنت – بعون الله – في الطريق الصحيح. وكلما رأيت نفسك مع دينك الزائف – صلاة وقيام وصيام وعبادة وصدقة وقرآن وعلم وكُتب وحج وعُمرة، فرأيت نفسك يوماً عن يوم -، وأصبحت أكثر عُجباً بنفسك، أقسى على الناس، تدعو عليهم، تحتكم فيهم، فاعلم أنك في الطريق الغلط، كل هذا غلط، كل طريقك غلط.

مسألة ثانية، قد يسأل سائل؛ فلماذا إذن؟ لماذا النبي – عليه السلام – خوَّفنا من أن نحكم على أحد بأنه شهيد؟ يا أخي هذا مات، مات في سبيل الله! وهذه سهلة، سهلة جداً جداً، لأن إنما الأعمال بالنيات. عندك وعندي وطبعاً عند الإعلام الرسمي والإعلام الوطني، طبعاً الكل شهيد، حتى ولو كان مُلحِداً، لا يُؤمِن بالله أصلاً ولا بجنته، شهيد! يقولون الشهداء وما إلى ذلك، يُريدون هذا، يُريدون أن يخوضوا معارك ويُريدون أن يربحوها، أي وكأنهم يربحونها أيضاً بمُغاصَبة الأقدار وبالكذب على الله ورسوله! لن تربحوها بالكذب على الله ورسوله، تواضعوا قليلاً، وتحقَّقوا بدينكم. لذلك النبي ماذا قال – عليه الصلاة وأفضل السلام -؟ ما من رجل يُقتَل في سبيل الله – وانظر إلى الجُمل الاعتراضية -، (والله أعلم بمَن يُقتَل في سبيله)… النبي قال هذا، وهذا في البُخاري. النبي قال الحكاية ليست أن تموت وأنت مع المُسلِمين، لا! تموت ونيتك ما هي؟ يُمكِن أن يكون أحدهم مع المُسلِمين، ويُحِب الإسلام، ويُحِب الله والرسول، ولكن ما نيتك؟ انظروا إلىّ، كم أنا شجاع! كم أنا قوي! كم أنا قلبي حديد! ضاع عليك الثواب، جزاؤك أنهم رأوك وقالوا عنك يا أخي إنك أسد، أسد ونمر. إذن انتهى، هذا جزاؤك، ليس لك أي شيئ عند الله، ضاع عليك الثواي. يُمكِن أن يكون ما تُريده بعض الغنائم، نعم! قديماً ربما ترغب في أن ترجع ببعض السبايا وملك اليمين، يُمكِن أن يكون هكذا. إذن ضاع عليك الثواب، وليس لك إلا ما أخذته. هل هذا واضح؟

ولذلك قال أيضاً ماذا؟ ما من كلم – أي الجُرح – يُكلَم في سبيل الله – وانظر إلى هذه، جُملة اعتراضية، نقولها بين قوسين -، (والله أعلم بمَن يُكلَم في سبيله)، إلا جاء يوم القيامة، كيوم كُلم، اللون لون دم، والريح ريح مسك. لكن الجُملة الاعتراضية مُهِمة جدا؛ (والله أعلم بمَن يُكلَم في سبيله). يا رسول الله، الرجل يُقاتِل حمية، والرجل يُقاتِل عصبية، والرجل يُقاتِل ليُرى مكانه، أيهم في الجنة؟ قال مَن قاتل لتكون كلمة الله هي العُليا، فهو في الجنة. فقط، هذا هو. أما إن كنت تُقاتِل عصبية، وتُقاتِل حمية، ومن أجل أن تُرى شجاعتك، ومن أجل سُمعتك، ومن أجل كذا وكذا، ضاع عليك الثواب، هذا ما لك، وليس لك غير هذا، ولا تقل لي شهيد.

ولذلك هذا الدين دين يُعلِّمنا أن نُراقِب ماذا؟ القلوب، والنوايا. وأن نفحص أنفسنا باستمرار، لا يُعلِّمنا أن نكون شكلانيين، وقشوريين، وزُخرفيين (أصحاب زخارف)؛ لحيته طويلة، جلبابها مُمتاز، وهذا معناه أنهما – ما شاء الله – من الصالحين. لا، لا يا حبيبي، لا! راقب ضميرك، لا تُراقِب مشهدك ومنظرك فقط دون الباطن والضمير.

 

(انتهت التكملة بحمد الله)

فيينا 11/10/2019

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: