إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَحَبِيبَنَا ونَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله عز من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد: 

أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: 

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ۩ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ۩ مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ ۩ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ۩ أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الفاضلات:

مأساة هذا الإنسان مأساة عجيبة وغريبة ودائمة يبدو، يعيش هذا الإنسان وتنقضي حياته الدنيا أو الدنيوية ليُفضي إلى رحاب حياة أبدية، ليس لها انقضاء.

إذن هناك ما هو مُؤقَّت، وهناك ما هو مُؤبَّد، جُزء من مأساة الإنسان أن ما هو مُؤبَّد هو رهن بهذا المُؤقَّت اليسير، سنوات معدودات وأيام منزورات! لكنها تُحدِّد مصيره الأبدي.

جُزء آخر من مأساة هذا الإنسان أنه ليس كائناً أصيلاً تماماً، ليس يتمتع بصفة الإطلاق، إنه كائن محدود، محدود في الزمان، محدود في المكان، محدود في إمكاناته وقُدره، ومحدود في لياقاته وأهلياته، محدود! جُزء ثالث من مأساته – وهو مربوط بهذا الجُزء الثاني – أنه رُغم محدوديته يتطلَّع دائماً إلى الكمال، عجيب شأن هذا الإنسان.

إن طلب العلم لا يُمكِن أن يقف عند عتبة مُعيَّنة، لا يُمكِن أن ينتهي إلى غاية مُحدَّدة، لو عاش ليس عمر نوح وإنما لو عاش بلايين السنين سيظل طالباً لمزيد من العلم والمعرفة، يستحوذ عليه نزوع إلهي رباني غير مُفسَّر إلا فقط بُمجرَّد تقرير – تقرير إيماني – النفحة والنفخة الإلهية، وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ۩، إن الله خلق آدم على صورة الرحمن، فينا جانب إلهي ربوبي، هذا الذي يُفسِّر نزوع هذا الإنسان إلى معرفة لا تنتهي، لا يتوقَّف – مُستحيل – إن كان طالب علم، لا أتحدَّث عن طلّاب شهادات، كمَن يدرس خمس سنوات أو حتى عشرين سنة ثم يتوقَّف، هذا طالب شهادة، طالب العلم لا يتوقَّف، بالعكس! هو يبذل شهادته وماله ووقته ووقت مَن يُحِب – يجور أحياناً على وقت زوجته وأولاده وأصدقائه وذويه – من أجل أن يُواصِل طلب المعرفة، وليس شرطاً أن يطلبها من أجل أن يكون لها مردود مادي، بالعكس! هو يطلبها لذاتها، هذا نزوع إلهي.

إن طلب المُلك والمال لا يُمكِن أن يقف أيضاً طلبه عند حد، في البداية يود أن يكون وزيراً، ثم يود أن يكون أكثر من وزير، رئيساً أو ملكاً، لكنه لا يكتفي بأن يكون ملكاً إن واتته فُرصة، وهو على كل حال واتته أو لم تواته يتهمم دائماً بهذا، هذا همه، هذا توقه أو توقانه، أن يُصبِح إمبراطوراً، الإمبراطورية هي الدولة الكُبرى التي تتوسَّع خارج حدودها، بمعنى أن يُصبِح حاكماً عالمياً، أي كوزموبوليتياً كما يقولون، إن واتته فُرصة كالإسكندر الأكبر Alexander the Great لن يتردَّد في أن يُحاوِل تحقيق طموحه في حُكم العالم، حتى هذا لن يكفيه، لو تم له حُكم العالم هو سيتطلَّع إلى أن يحكم الكواكب الأُخر، سيبدأ يُفكِّر في المريخ، والآن طبعاً المريخ ثبت أنه لا حياة عليه، لكن هكذا إلى وقت قريب يتحدَّثون عن المريخ، سيبدأ يُفكِّر في حُكم المريخ وحُكم وغزو الكواكب البعيدة، ما هذا السر؟ شيئ عجيب، رُغم أنه محدود.

على كل حال بعض الناس يقول ليس عندي مثل هذا التهمم، لا أتميَّز بمثل هذا التوقان، لا في العلم، لا في المال، ولا في المُلك، نقول له أنت ممروض، أنت مريض، منقوص الإنسانية، هناك مُشكِلة في إنسانيتك، أنت أشبه بآلة أو أشبه بالأنواع الأُخرى من مملكتنا الحيوانية، لست إنساناً حقيقياً، الإنسان الحقيقي يتحدَّد دائماً بين عالمين وبين حدين، بين التحديد الواقعي وبين التحديد المثالي، أو كما يقول الفلاسفة بين الوجود الأنطولوجي وبين الوجود الأكسيولوجي، بين الوجود كما هو وبين الوجود المثالي – وجود عالم القيم والرغائب العُليا أو ربما غير العُليا -، بين الواقعة وبين القيمة، وبين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، يقف دائماً بين هذين العالمين، بين الفيلفين، في برزخ بينهما، وهو مشدود دائماً إلى ما هو أبعد وإلى ما هو أكمل.

وطبعاً كماله الحقيقي إن حصل إنما يحصل في توقه إلى الكمال، وفي سعيه إلى ذلك، لكنه لن يصل، لأنه حالما أو حالة ما يشعر بأنه قد اكتمل فإن حياته تتجمَّد ويفرغ جدول أعماله، وهكذا يبدأ في رحلة النقصان الرجعية، لأنه في الحقيقة لم يكمل، لأنه ليس مخلوقاً ليكون كاملاً بالمُطلَق، الكمال المُطلَق لله، وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ۩.

ولذلك الإنسان يعيش هذه المأساة ذات الوجوه المُتعدِّدة واعياً بها أحياناً – وهذا خيرٌ له – وغير واعٍ بها في أحيان كثيرة، أحياناً بسبب عدم وعيه بوجوه مأساته هذه يُحطِّم نفسه، يُدمِّر نفسه، إن بالقصور وإن بالتطرف أو بالطُغيان بلُغة القرآن، يطغى! بالقصور يشعر لمحدوديته أن هذا قدره، بعض الناس عندهم هذا المنطق السوداوي  بالمُناسَبة، يقول أحدهم هذا قدري، هذا ما أعطاني إياه القدر، فلأقنع به، منطقهم منطق قناعة فقط، منطقهم منطق قناعة! أما منطق الطموح والتهمم فليس منطقهم، كما قال الشاعر الضليل امرؤ القيس لصاحبه:

لاَ تَبْكِ عَيْنُكَ إنّمَا                                          نُحَاوِلُ مُلْكاً أَوْ نَمُوتَ فَنُعْذَرَا.

لما رأى صاحبه يبكي قال له:

لاَ تَبْكِ عَيْنُكَ إنّمَا                                          نُحَاوِلُ مُلْكاً أَوْ نَمُوتَ فَنُعْذَرَا.

في سبيل هذا متنا وهذا شرف، أما الآخر فيقول:

مشيناها خُطىً كُتِبتْ علينا                              ومَنْ كُتِبَتْ عليهِ خُطىً مشاها.

هذا القابع والقانع! أيضاً هذا حطَّم نفسه للأسف وظلمها، بلُغة القرآن – كما أشرنا غير مرة – ظلمها، ومعنى ظلمها لم يستثمر قُدرها وإمكاناتها، لم يُوظِّف لياقاتها في الحدود القُصوى أو قريباً من ذلك، لم يفعل! كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئًا ۩، الشجرة إن لم تأت أثمارها كاملةً فقد ظُلِمت، ظلمها هذا الزارع، ظلمها هذا الفلّاح، أنت أيها الإنسان، بالذات أنت أيها المُكلَّف، أنت أيها المُؤمِن، أنتِ أيتها المُؤمِنة، إن لم تستطع استثماء إمكاناتك ولياقاتك في الحدود البُعدى أو القُصوى فأنت ظالم لنفسك، ظالم! أنت ظالم ومظلوم، لكن أنت الظالم، أنت مظلوم الآن لكن أنت الظالم لهذه النفس.

والآخر لأنه لا يشعر بأنه محدود – تستولي عليه بالكُلية هذه النفحة الإلهية – فلا يقف عند حد من شرع أو عقل، وكل وسيلة عنده مُبرَّرة، والعلة الأولى هي تحقيق الذات، يُريد أن يُحقِّق ذاته، كما قلت يُريد أن يُصبِح إمبراطوراً مثلاً، يُريد أن يُصبِح عالماً، كصاحب جوته Goethe، أعني فاوست Faust، أحب أن يتحصَّل على المعرفة كلها، فباع نفسه للشيطان، اليوم بعض العلماء قد يبيعون أنفسهم للشيطان، في سبيل معرفة أيضاً، وهي في الأغلب الأعم معرفة مُدمِّرة، ليست واعدة بخير، إنما تعد بشرور كثيرة ومُتكاثِرة، مُمكِن أيضاً في طلب العلم يبيع نفسه للشيطان، يتحطَّم كما تحطَّم فاوست Faust، مأساة جوته Goethe الشهيرة! يتحطَّم في النهاية، مأساة حقيقية، مأساة وجودية، أي مأساة هذا الإنسان.

أما الذين – كما قلت – لا يدرون ولعلهم لا يُريدون أن يدروا بهذه المأساة ولا يستشعرونها ولا يُكابِدونها فهؤلاء للأسف وبكل أسف نقول لهم لم تصلوا بعد إلى أن تكونوا أناسي أو ناساً، أنتم عضويات أو نُظم عُضوية قانعة بالحاجات الحيوية، هذا تعبير مُلطَّف جداً جداً، نُعبِّر به عن شيئ لا نُريد أن نفوه به كما هو، فالإنسان الحقيقي عرَّفه بعض المُفكِّرين بأنه هو الذي يستبدل بالحاجات الحيوية نظاماً للقيم، نظام القيم يُمكِن أن تُعطينا إياه أيديولوجيا حتى مُلحِدة، كالماركسية وكالعدمية، أي أيديولوجيا! وقد تكون أيديولوجيا شمولية، أيضاً واعدة بالشرور، لا! هنا مرة أُخرى تستمر مأساة الإنسان وفي درجات أكثر حدة وشراسة، تستمر مأساة الإنسان في درجات أكثر حدة وخطورة وشراسة، لماذا؟ سيتمزَّق الإنسان مرة أُخرى.

مأساة الإنسان – كما قلت – أنه يُريد أن يُحقِّق ذاته، هل تعرفون لماذا؟ لأن هذه الذات غير أصيلة، هذه الذات – الأنا، أناي أنا، أناك أنت، أناها هي – غير أصيلة، أنا غير أصيلة! مَن أنت؟ مَن أنا؟ هذه أنا مُعطاة لنا – كما قلنا مرة في خُطبة – على سبيل الإعارة هكذا، طبعاً أُعيدت لمَن؟ إذا كانت هي الأنا مُعارة فلمَن أُعيدت؟ لُغز كبير! هل أُعيدت للعدم؟ هذا الجوهر، هذا جوهر المأساة!

ولذلك هذه الأنا تُريد بتأثير من الروح الإلهية أو من هذه النفخة والنفحة الربانية أن تُحقِّق ذاتها، تُريد أن تصعد في درج الكمال، تُحِب هذا وتُريده، وهذا مطلوب ومحبوب ومُراد لله تبارك وتعالى، وهو من خُطة الله، ربما هذا جوهر خُطة الله في خلق هذا الإنسان.

سأجعل من هنا البداية الحقيقة لخُطبة اليوم، ما سبق هو مُقدِّمة، كيف؟ السؤال أكثر بساطة، طرحناه أكثر من مرة، ويُطرَح باستمرار على ألسنة الواعظين، والجوابات معروفة للأسف على مهزوليتها وعدم جديتها وعلى عدم عُمقها، لِمَ لا نستفيد من العبادة؟ لماذا نحن بالذات العبّاد الذين نُصلي ونصوم ونطوَّع ونقرأ القرآن ونذكر الله لا نشعر أن هذه العبادة تُؤثِّر فينا تأثيراً حقيقياً؟ الجواب هذه المرة كالآتي، الإنسان قد يستولي عليه شعور بأنه يعبد الله – عز وجل – لله، لأن الله يُريد هذا الشيئ لنفسه، لذاته، ولمعنى ربما لا يُدرِكه الإنسان، الله يُريد هذا! هو طبعاً ينطوي على شبه شعور أن هذه العبادة لله، لتُرضي الله عز وجل، تُرضيه لماذا؟ لا يعنيه، هذا لن يقنع – انتبهوا، بأصل خلقته، بأصل ضعفه وهشاشته، صاحب الأنا المُعارة أو العارية، إنها عارية، أي شيئ مُعار، صاحب هذه الأنا العارية لن يقنع – بأن يتذوَّق ولا بأن يستحلي هذه العبادة، لذلك هو يُؤديها طقوسياً، يُؤديها بطريقة تشريطية فقط، أي دخل وقت الصلاة، وهو تعوَّد أن يُصلي، فيقوم ويُصلي، طريقة تشريطية! رأى الناس يُصلون، فيقوم يُصلي معهم، سمع الأذان، فيقوم يُصلي، لكن لا يُصلي بدوافع وفي إطار آخر أبداً، ولذلك هو لا يكاد يشعر بأن هذه العبادة لها تأثير، قطعاً هي حتى في الحدود الدنيا لها تأثيرات، لكن هذا ليس التأثير المطلوب.

حدَّثني أحدهم عن رجل، لا أُحِب أن أذكر تفاصيل، لكن هذا يبدو مُقيم حتى في بلد مُقدَّس، مُلتزِم بلا شك، حين أفضى الأمر إلى مسألة مادية بسيطة فعل الآتي، وهو مسؤول – مثلاً – في شركة، وهناك إنسان بسيط مسكين صاحب عائلة يعمل عنده، عمل عنده أكثر من سنة، لم ينقده ولم يُعطه أجره ولا لشهر واحد، وبعد أكثر من سنة تقريباً بقليل أراد أن يُحاسِبه، قال له لنجعل الثمانية الأشهر الأولى هباءً، كأنها غير موجودة، ولنبدأ بعد ذلك، لماذا؟ ما هذا؟ قلت له لا يكون إلا عربياً للأسف، هكذا نحن بالذات، قال لي ندمت أنني لم أعمل مع أجنبي، قلت له أنت غلطان، وصيتي هي اعمل مع أجنبي، لأنه لن يفعل هذا، قال لي نعم، وهذا فعلاً ما لم يفعلوه، للأسف المُسلِم المُتعبِّد في جوار الله – في مكة عند الكعبة – يفعل هذا وهو مُرتاح ومعه السبحة يُطقطِق بها، وبعد قليل هذا مُستعِد يأتي هنا ويقف هنا مكاني أو مكانكَ أو مكانكِ ويُلقي موعظة عن تقوى الله، عن الإخلاص، عن الصدق، عن العبادة، عن عظمة الإسلام وكيف سيكون مُنجِداً ومُنقِذاً للبشرية جمعاء، وهذا الإسلام لم يُنقِذه هو حتى من أدوائه وأمراضه وضعفه ونصبه ونفاقه، لأنه نصّاب، العبارة الجافة الفظة أنه شخص نصّاب، كبير في السن، عمره سبعون سنة لكنه نصّاب، بلحية ونصّاب، معه مسبحة ونصّاب، من مكة ونصّاب، وهذا الذي يُشكِّك الآخرين في جدوى الإسلام أو جدوى الدين من حيث أتى وجدوى العبادة بشكل خاص، يقولون عبادة ماذا؟ انظر إلى هؤلاء!

تعرفون أن أكثر الناس يا إخواني وأخواتي ليسوا فلاسفة، أين الفلاسفة؟ قليل جداً! الفيلسوف وحده هو القادر على أن يسمو إلى أُفق التفكير التجريدي، بمعنى أنه لا يتأثَّر – هذا المفروض – لا قليلاً ولا كثيراً بالأحوال العيانية المُشخَّصة، وبتراجم الأفكار والقيم، لا يهتم بهذا، هو يهتم بالفكرة، بالقيمة، وبالمعنى من حيث هو، بغض النظر عن ترجمته، لكن أكثر من تسعة وتسعين فاصل تسعة تسعة تسعة في المائة من الناس ونحن منهم ليسوا كذلك، نحن لا نتأثَّر بالأفكار المُجرَّدة قدر ما نتأثَّر بماذا؟ بترجمة الأفكار، ولذلك الشعراء والفنّانون – مثلاً – لا يُمكِن أن يكونوا فلاسفة، لأنهم يتأثَّرون دائماً بماذا؟ ليس بهذا المُجرَّد – بالعكس! هذا يفعله الفيلسوف – وإنما بالنماذج الحية، هذا عمل الفنّان، يتأثَّرون بالنماذج الحية وبالنماذج النابضة، كيف كانت؟ أكانت سوءى أو حُسنى؟ يتأثَّرون بها.

من هنا في تحليلي المُتواضَع نجد فيلسوفاً مُلحِداً ومُحطَّماً أيضاً – قد تحطَّم – مثل نيتشه Nietzsche، مُشكِلته أنه ليس فيلسوفاً حقيقياً، هو شاعر أكثر منه فيلسوفاً، وطبيعي جداً في هذا الإطار أن نفهم لماذا اعتبر أخلاق الكرم، الجود، العطاء، التضحية، المُسامَحة، المغفرة، الرحمة، والتواضع، أخلاق المهزومين، أخلاق الضعفاء، وأخلاق العبيد، ليست أخلاق السادة، أخلاق السادة هي القوة، النفاذ، الفتح، والقهر، أي الظلم، بلُغة الدين هي أخلاق الظلم، قال هذه هي الأخلاق، طبعاً مثل هذا التفكير هو الذي ولَّد النازية والفاشية وحركات عنصرية عرقية مُخيفة كثيرة، مثل هذا التفكير!

أنا أتفهَّم نيتشه Nietzsche تماماً لأنه لم ير في واقع الحياة هنا في الغرب للأسف – على الأقل ضمن الإطار البسيط الذي تعاطى معه – أقوياء نافذين ناجحين، سواء أكانوا رجال دين أو رجال سياسة أو رجال مال واتجار، لم ير منهم مَن يرطن ومَن يُجيد لوك لُغة التسامح، التواضع، العطاء، التضحية، المغفرة، والرحمة، لم يجد! ولذلك أدرك أن هذه اللُغة لا يرطنها إلا الضعفاء والمسحوقون، أما الأقوياء فلا يعرفونها، لكن نحن أمة بحمد الله – للأسف ربما إلى وقت قريب نسبياً – كان فينا النافذون والأقوياء والناجحون، الذين يُدمِنون – بفضل الله – عملاً وليس تنظيراً لُغة التسامح، لُغة العطاء، لُغة التضحية، لُغة الرحمة، ولُغة الشفقة، موجودون! لذلك فلسفتنا في الحياة مُختلِفة تماماً، عندنا ثقتنا بأنفسنا كبشر، ثقتنا بالإنسان، أُؤمِن بالإنسان، كتب أحدهم لا أُؤمِن بالإنسان، لا! نحن نُؤمِن بالإنسان، والإنسان الأصل فيه بفضل هذا السر الإلهي أنه قادر – لأنه توَّاق – على أن يتصالح أو يُحدِث مُصالَحة بين هذا الجانب الحيوي الغرزي في تركيبته وبين الجانب الإلهي السامي الراقي، قادر! وفي النهاية ستكون الغلبة للجانب السامي، لن يُسحَق الجانب الأول، مطلوب! لكن ستكون الغلبة والقيادة والريادة والدفة بيد الجانب الثاني، هذا ما يُسميه القرآن بالنفس المُطمئنة.

كما تطمئن الدابة في مراحها أو في مُناخها – مُناخ الدواب، حيث تُناخ – وتطمئن السفينة في رسوها في مرفئها ويطمئن الإنسان في فراشه تطمئن النفس على قاعدة، قاعدة من ماذا؟ قاعدة من عمل الخير ونيته وقصده والتهمم به والاستخطاط له، جعله خُطة دائمة، تقود الإنسان، تُلهِمه، وتجذبه، قال – تبارك وتعالى – وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ ۩، هذا هو! وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ ۩، يُريد أن يُثبِّت نفسه، أن يُحدِث لها ماذا؟ يُحدِث لها قوةً ورسوخاً في معنى الخير وقصده والتهمم به، سينتهي بعد حين – قد يطول وقد يقصر بحسب إدمانه هذا المعنى الشريف ومُمارَسته – إلى أن يطمئن، ستطمئن هذه النفس، هل ستزول المُجاهَدة؟ غير صحيح، بعض الناس يظن أن النفس المُطمئنة أو صاحب النفس المُطمئنة لا جهاد ولا مُجاهَدة عنده، غير صحيح! الجهاد مُستمِر والمُجاهَدة مُستمِرة للنفس وهواه وأغراضها وألاعيبها وتلبيساتها وحيلها ومُداخَلاتها أيضاً وللشيطان – لشيطان الإنس وشيطان الجن – وللحياة بضغوطاتها، سيستمر هذا! هذا استمر مع الأنبياء وهم معصومون، فكيف لا يستمر مع أصحاب النفوس المُطمئنة؟ انتبهوا! يستمر، ولكن القيادة بيد بمَن؟ بيد نفس مُطمئنة، أي هذه نستطيع أن نقول عبرت أو تجاوزت أو اقتحمت العقبة، هي الآن بلا شك اقتحمتها، لكن الرجوع والنكوص مُمكِن، مُمكِن دائماً، انتبهوا! حتى آخر لحظة في عمر الإنسان الرجوع والنكوص مُمكِن، هناك مَن ارتدوا في آخر شهر من أعمارهم، ليس شرطاً أن يكون ردة عن الإيمان بالله، لا! ردة عن عمل الخير، ردة عن مسلك شريف، ردة عن فلسفتهم الخيّرة الطيبة في الحياة، ارتدوا! وآضوا شياطين – والعياذ بالله – مردة عُتاة في آخر حياتهم، فهذا هو، وهذا لابد أن يُفسَّر أيضاً، لا يُمكِن أن يكون ضربة لازب هكذا، لماذا ارتدوا؟ لأن المُعاناة لم تكن سليمة ولم تكن صحيحة، كانت مُزيَّفة، كانت المُعاناة مُعاناة رياء وتظهر ودعاوى كاذبة، ليست تثبيتاً من أنفسهم.

على كل حال لهذا المعنى في الإنسان نحن نستطيع أن نتفهَّمنا، أن نتفهَّم أنفسنا، نتفهَّم الإنسان! هذا يليق به، يجوز له، ويجمل منه، ويليق به بل يجب عليه أن يُحاوِل استكمال هذه الذات المسكينة، لكي يُعطيها قناعة أنها موجودة، تنمو، تتزيَّد، تتنشأ باستمرار، وتزداد، لابد! الله لا يحتاج إلى هذا المعنى أبداً ومُطلَقاً، لا إله إلا هو! لماذا؟ لأنه الكمال المُطلَق، وجوده وجود أصيل بإطلاق، هو الوجود الأصيل والوحيد، كل وجود آخر غير وجود الله من عرشها إلى فرشها أو من عرشه – أعني الكون – إلى فرشه هو وجود مُفاض، هو عارية! يُمكِن أن يعود إلى هُوة العدم في أقل من لحظة، يُمكِن إذا أراد الله ذلك، لكنه لا يُريد تبارك وتعالى، لماذا؟ لأنه كريم، والكريم إذا وهب لا يعود في هبته، أليس كذلك؟ قال – عليه السلام – مثل العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه، إذا أعطى الكريم شيئاً – أي وهب شيئاً – لا يُمكِن أن يعود فيه، حتى ولو كان حياته، أما اللئيم فقد يُعطي ويمن، أكثر من ذلك أنه قد يعود، يقول لا، لا أُريد، توقَّفت عن هذا، أنا غضبان، أعد لي هبتي أو أعد لي هديتي، النبي شبَّهه بالكلب، قال كالكلب يعود في قيئه والعياذ بالله، رب العالمين هو الكرم ذاته، لا إله إلا هو! هل يعود؟

ولذلك – انتبه – من كرمه أنه وهبنا الحياة، لن يسلبنا إياها، ستقول بالموت، موت ماذا يا مسكين؟ هل إلى اليوم لم تفهم فلسفة الموت؟ بالعكس! هذا الموت هو بوّابة لحياة أطول وأرحب – إن شاء الله – بكثير وأنعم بكثير، طبعاً قد يكون العكس، اللهم عياذاً بك، إن شاء الله لنا جميعاً، ولجميع المُسلِمين والمُسلِمات، الصادقين والصادقات، حياة أرحب وأوسع وأجمل بكثير، لأنه لا يعود في هبته، أعطاك الحياة ولن يسلبكها، أنت مُخلَّد، مُخلَّد في الجنة إن شاء الله تعالى، وهناك الأبعدون، مَن هم مُخلَّدون في النار، لكن لن يسلبكها، موجودة أيضاً، انتهى الأمر، هذا كرم، انتبه، ما أعظم هذا الكرم! عظيم جداً حين أعطانا هذه الحياة من عدم، من لا شيئ، ماذا بعد هذه العظمة؟ ماذا بعد هذا الكرم؟ وعظيم جداً هذا الكرم حين استمرت هذه الهبة، لن تُسلَب، هي موجودة وستستمر إن شاء الله تعالى.

هو – كما قلنا – مُطلَق الكمال، مُطلَق في كل صفاته، لا يحتاج أن يُثبِّت ذاته، مُستحيل! هو الثبات نفسه، لا إله إلا هو، بتعبير أرسطو Aristotle المُحرِّك لا يتحرَّك، أي لا يعرض له أي شيئ مما يعرض للحوادث مُطلَقاً، ثبات! لا إله إلا هو، سُبحانه وتعالى، لأنه كمال، كمال مُطلَق، يتحرَّك لماذا؟ شوقاً لماذا؟ وطلباً لماذا؟ هو الكمال المُطلَق، أما أنت يا صاحب الأنا المُعارة أو العارية فتحتاج إلى أن تفعل هذا، لذلك دائماً تشرئب إلى ما لم يكن، إلى ما لم يحصل، وهذا سبب ما يُسميه علماء النفس باكتئاب النجاح، أي Success depression، اسمه هكذا، اكتئاب النجاح! سيقول لك أحدهم هل يُوجَد اكتئاب للنجاح؟ طبعاً، كلنا جرَّبناه ونُجرِّبه تقريباً دائماً.

قلنا مرة في خُطبة هناك إنسان يجعل خُطته لخمسة أشهر قادمة أن يُعيد تعفيش أو تأسيس بيته، وهو إنسان مُتوسِّط الحال ومسكين، وهذا مشروع، وقد يعمل على هذا لثلاث أو أربع سنوات، المسكين يشتري تلفازاً جديداً، موبيليا جديدة، أشياءً جديدةً، وسجّاداً جديداً، يحلم بهذا ويُخطِّط هو وأولاده وزوجته لستة أشهر، والآن يبدأ تنفيذ المشروع قليلاً قليلاً مع Kredit وما إلى ذلك، مسكين! على كل حال هذه حاجة وستُقضى إن شاء الله، وبعد أن يفعل هذا يفرح قليلاً، هو فرحه حين يشرع في فعل هذا أكبر من فرحه حين يتم هذا، هذه المُشكِلة! دائماً نشعر بهذا، بعد أن يتم كل شيئ – العفش موجود، الآلات الجديدة موجودة، والسجّاد موجود – نجلس ونشعر بحزن، هذا هو اكتئاب النجاح.

يعمل ليتحصَّل على الدكتوراة، يدرس ويقرأ أبحاثاً ويُسافِر ويُترجِم ويُجيد لُغات أُخرى لسنوات، ربما بعضهم يمكث عشر سنوات لكي يُنجِز دكتوراة حقيقية، ليس دكتوراة مسروقة ومسلوقة، وإنما دكتوراة حقيقية، يُريد المسكين هذا ويتطلَّع إليه، طالب علم جاد وصادق، وحين يتحصَّل على الدكتوراة ويستلمها وربما يُلقي كلمة في حفل يُقيمه له أصدقاؤه وذووه والمُحِبون له الخير يشعر في نفس المجلس بنوع من الإحباط، وبنوع من الحزن، هذا اسمه اكتئاب النجاح، وهلم جرا، لماذا؟ هل تعرف لماذا؟ لأنك لست مخلوقاً لتقف عند هذا الإنجاز، ليس هذا الإنجاز، هناك ما هو أكبر، تُريد ما هو أكبر، النفس لا تشبع بهذا، ليس هذا! لست مخلوقاً لهذا، أنت مخلوق لماذا؟ البعض يُضِل عنه الجواب، يعمى عن الجواب، لا يعرف الجواب، لأنه ضل المُعادَلة الحقيقية، مُعادَلة الإيمان، لذلك يعيش ليس في اكتئاب فقط وإنما في تمزق، يبدأ المسكين يُهرَع إلى ماذا؟ إلى حرق إمكاناته وحرق صحته وعافيته العقلية والنفسية والجسدية في مُمارَسة أشياء قد تعود عليه بالضرر العاجل وليس الآجل فقط، لماذا؟ وهماً منه أن هذا قد يُحقِّق له الإرواء والإشباع.

بعض الناس يقول والله أنا غضبان جداً على نفسي – سمعت هذا من كثيرين -، أنا ألعن نفسي، طبعاً لا تلعن نفسك، أعوذ بالله! يقول ألعن نفسي، ألعن مسلكي، أنا أفعل أشياء جنونية، لا أرضاها، لا أُحِبها، ولا أحتاجها، بعض الناس يُمارِس عادات في مُنتهى السوء والرداءة، الفحشاء مثلاً! وهو مُتزوِّج، يستطيع أن يُغني نفسه بالحلال، ويقول نعم، وزوجتي لا ينقصها أي شيئ، لكنني لا أدري لماذا أفعل، لأنك مُحبَط يا مسكين، ليست المسألة لأنك أكثر فحولة منا، بالعكس! قد تكون أضعف بكثير، وأنت تعرف هذا، بعض الناس لضعفه يفعل هذا، يُريد أن يُثبِت لنفسه مائة مرة أنه صالح وأنه قادر، مسكين هذا، يُدمِّر نفسه مزيد تدمير، لا! ليست هذه القضية، ليست قضية فحولة، لا! ليست قضية شهوة تُحرِّكه وتدفعه، لا! شهوته مُعتدِلة أو أقل حتى من مُعتدِلة، خاصة لو تقدَّم في سنه قليلاً، ما القصة إذن؟ القصة هي وهم ماذا؟ الوصول، وهم الطمأنينة، وهم الإشباع، ووهم السعادة، أنني وصلت، هذا ما أُريده، لكن ليس هذا ما تُريده للأسف، ليس هذا!

ولذلك الأبحاث العلمية وخاصة السيكولوجية كلها تتوراد على تقرير هذه الحقيقة، في أوقات الإحباطات الكُلية – خسارة مال، خسارة عزيز، وفي الحروب – يزداد نشاط الإنسان الجنسي مثلاً، لماذا؟ من باب التعويض، يظن أن هذا قد يُسليه عما هو مُقدِم عليه، عما هو غارق فيه حتى ذقنه أو أُذنيه، لا! ليس هذا، وبالعكس هذا يزيده تعاسةً، ليس هذا، انتبه! أنت ضللت الجواب، عميت عن الجواب، المُعادَلة! أين المُعادَلة؟ سنرى أين المُعادَلة.

المُعادَلة في الإيمان، كنت أقول هذا وأنا صغير كالواعظين، لم أكن أفهمه، وأكثرهم لا يفهمون ما يقولون، صدِّقوني! نقول هذا ولا نفهمه، نقول هذا كتعابير، مانشيتات محفوظة نُكرِّرها، لذلك لا قيمة لها حتى حين نقولها ولا حين نُكرِّرها، لا! الآن أقولها بوعي مُختلِف تماماً، كيف؟ إذا عبدت الله – تبارك وتعالى – وأنت مسكون بوهم وبخطأ وبغلط أن الله يُريد هذه العبادة له بأي معنى من المعاني لن تُحِب هذه العبادة، وسيختلف الأمر إذا قيل لك هذه العبادة لك، ليست لله، ليس لله منها شيئ، لا يُريد منها شيئاً هو، لكن يُريدك أن تعبده، لماذا؟ ليُكمِّلك، هذه العبادة لك، هذه العبادة هي التي ستُشعِرك بثبات وإن كان نسبياً لكنه أحسن ثبات مُمكِن لأناك، فعلاً ستطمئن إلى نفسك، إلى وجودك، إلى أناك، وإلى هذه العارية الهشة، الضائعة تقريباً في ساح الوجود، العريضة، والمُترامية، هذه العبادة أو هذا الذكر سيُكسِبك سكينة الإيمان، أعظم ما في الإيمان سكينته، والسكينة سحر، سحر ولغز وكنز لا يُمكِن أن يُعطى خارج الإيمان، مُستحيل! 

قال تعالى على لسان يعقوب المنكوب – عليه السلام – الصابر والمُحتسِب إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ۩، بلُغة العصر أو بلُغة العلم وعلم النفس بالذات هذه الآية تقول الإيمان يُساوي الثقة بالنفس، الثقة بالنفس مُستمَدة من أين؟ من الإيمان، أي من الله تبارك وتعالى، من الإيمان بالله، كما قلت أكثر من مرة نُقطة ارتكازي الداخلية من أين أستمدها؟ من نُقطة الارتكاز الخارجية المُطلَقة، من الله! ولذلك أنا سأقلب – مقلوب هذا – العبارة الصوفية الشهيرة الصحيحة تماماً مَن عرف نفسه عرف ربه، مقلوبها لا يقل عنها صحةً، يُضارِعها صحةً وصدقاً، مَن عرف ربه عرف نفسه، وبرهان هذا قرآني، قال تعالى وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۩، مَن ضل الله ضل نفسه، مَن جهل ربه جهل نفسه، ضاع، راح، وانتهى!

لذلك هذه العبارة ومقلوبها كلاهما صحيحان تماماً، درجة واحدة نظائرية من الصحة، مَن عرف ربه عرف نفسه، وبالتالي مَن عرف نفسه عرف ربه، لكن البداية من أين حتى لا نقع في مثل أُحجية البيضة والدجاجة؟ البداية مَن عرف ربه عرف نفسه، ثم بعد ذلك يُمكِن أن يصح بلا شك في مُستوى أدنى مَن عرف نفسه عرف ربه، ازداد معرفةً بربه، لكن البداية هي نُقطة الارتكاز الخارجية.

علَّقت في درس السبت على كلمة الفيلسوف – أبي الوجودية الروحية – سورين كيركغور Søren Kierkegaard، الدنماركي الذي قال كان أرشميدس Archimedes اليوناني يزعم أنه لو وجد نُقطة ارتكاز خارجية خارج الأرض – خارج كوكبنا – لاستطاع وبكل يسر أن يُحرِّك هذا الكوكب كيف شاء، وهذا صحيح، طبيعياً صحيح مائة في المائة، كلام علمي! قال وأنا أبحث عن نُقطة الارتكاز هذه، لكن هذه المرة ليس خارج الأرض وإنما في باطني، قلت وأسأل مَن قرأ كيركغور Kierkegaard وكُتبه هل وجدها؟ لا، لم يجدها، ومات أيضاَ شبه مُحطَّم الرجل، مع أنه كان مُؤمِناً بالطريقة المسيحية، كان مُؤمِناً بالله، لم يجدها! هل تعرفون لماذا؟ شرط وجدانها الحقيقي مُعادَلة إيمان حقيقية وتامة بالله تبارك وتعالى، إذا لم تجدها لن تجد نُقطة الارتكاز الداخلية، سيكون مُنتهاك أن تكون هباءً، لا شيئ!

قال وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ۩، انتهيت! أنت هباء وفتات، قال فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۩، إنسان ينسى نفسه! بعض الناس يقول فلان هذا لا ينسى نفسه، بالعكس! هو أكبر ناسٍ لنفسه، على مدار الأربع والعشرين ساعة في المُتع، في قرع الكؤوس، مُغازَلة الغواني، جمع الأموال، الرحلات، الأسفار، والسوح في الأرض، كل ما خطر على باله لا يمنع نفسه منه، لكن سلوه بالله هل هو سعيد؟ هل هو سعيد؟ وهل ستُحقِّق له سعادة اللحظة الهاربة – تُسمى السعادة الهاربة هذه اللحظة، المُستحيلة – ثبات سعادة؟ هل ستُثبِّت له شعوره بأناه؟ مُستحيل، بالعكس! صدِّقوني بعض الناس يكبر، ويصير في مثل أعمارنا، يكون في العقد الرابع من عمره، وبعضهم يكون في العقد الخامس، وكل همه هم لا يُشغَل به إلا مُراهِق غِر، هناك مُراهِقون واعون، هناك مَن هو ابن ست عشرة سنة أو سبع عشرة سنة وعنده مشروع حياة وخُطة، طبعاً سيتم تعديلها أكثر من مائة مرة، ولكن هي خُطة تشي باحترامه وأنه إنسان جاد وعنده تصور صحيح وصحي للحياة ولرسالته، لكن ابن الأربعين هذا ماذا عنده؟ ماذا يفعل؟ إلى اليوم هو مشغول بحاجات نستطيع أن نُسميها حاجات غرزية، لن أقول دنيا ولا حيوانية، لكن حاجات غرزية، مشغول بها بطريقة صبيانية، ويستخدمون أدويةً وأجهزة وألعاباً وسخافات وإثارات، ما هذا؟ أين أنت؟ هل ستلقى الله بهذه الحالة، بهذه العقلية، وبهذه الشخصية؟ هل خُلِقت لهذا؟

كما قلنا في الخُطبة قبل السابقة هذه ضرورات تُتجاوَز قبل أن تصل إلى أول درجة من أُفق الإنسانية الحقة، تُتجاوَز هذه! وتجاوزها – كما قلت – يحصل دائماً، نعم! لكن تُتجاوَز، لا تُجعَل هدف الحياة الحقيقي بأي معنى من المعاني، مُستحيل! أنت مخلوق لغير هذا، ولن تجد السعادة ولا السكينة ولا الاستقرار ولا الإيمان بالنفس ولا الثقة بالنفس، شك في نجاعة وفي سياسة وفي إدارة كل مَن ليس عنده إيمان بنفسه، انتبه! ستقول لي هذا القائد العظيم الذي أهلك الحرث والنسل أليس عنده إيمان بنفسه؟ لا، ليس عنده إيمان بنفسه، لأنه لم يعرف نفسه، عرفها – كما قلت في أول الخُطبة – من جهة مُحدَّدة، ولم يعرفها من سائر جهاتها، فتحطَّم وحطَّم مَن معه ومَن حوله، لم يعرف نفسه المسكين!

المُؤمِن الحق – ليس كأمثالنا، ليس المُؤمِن الضعيف، والمُحطَّم أيضاً هو الآخر، لا! المُؤمِن الحق، وفق الفلسفة الحقيقية للإيمان، وفق الفهم الحقيقي للإيمان، هذا مَن عنده إيمان بنفسه، لأنه عنده نُقطة ارتكاز داخلية – يُفيض الرضا والسكينة والسرور والفلسفة الحقة، ليس فقط على نفسه وإنما على مَن حوله، يستمدون منه هذا، يشعرون بأن لديه القدرة على أن يفعل هذا وبسلاسة، بيسر! هل تعرفون لماذا؟ لأن الإيمان أولاً وأخيراً هو تجربة معيشة.

يتحدَّث فلاسفة الأخلاق عما يُعرَف بالخبرة الأخلاقية، أي الــ Moral experience، لا! هناك الخبرة الإيمانية، الإيمان خبرة، خبرة وتجربة روحية مُمتَدة، يحدث فيها ارتكاسات وانتكاسات ونكوصات، ولكن مع المُؤمِن الحق هي دائماً في ازدياد، المُؤشِّر في ارتفاع باستمرار، مثل هذا قادر على أن يُعلِّمنا ما لا يستطيع أعظم ولا أضخم فيلسوف أخلاقي أن يُعلِّمناه، لو أصبناه، انتبهوا! لو أصبنا مثل هذا الشخص، موجودون بحمد لله – كثَّرهم الله – لكن على قلة، موجودون!

نعود مرة أُخرى، لماذا؟ لماذا مُعادَلة الإيمان الحقيقية هي ما يُعطي الإنسان هذا الثبات المشهود؟ لأن مُعادَلة الإيمان الحقيقية تُوحِّد الإنسان، كل نظام للقيم خارج الإيمان – أنا أقول لكم – لا يُجدي، أنا أُؤمِن بأن هناك نظامات للقيم، وهذا هو الجمع الصحيح لنظام، أحسن من أنظمة، هناك نظامات للقيم، موجودة وكثيرة! وكثير منها جيد نسبياً، لكن علتها الأولى والكُبرى أنها ليست مُوحَّدة، طبعاً! الشخص المُوحَّد هو شخص واحد، المُؤمِن بالواحد! لذلك حتى إيمانك بآحادية الله ووحدانية الله ينعكس مُباشَرةً في توحيد ماذا؟ في توحيد ذاتك، في توحيد همك وقصدك وسيرك، بلُغة القرآن إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩، كلها لله!

المُؤمِن الحق في عباداته كما في أعماله العادية – حتى حين يأكل، حين يشرب، حين يبيع، حين يشتري، حين يلبس، وحين يمزح ويتظرَّف، أي في كل شيئ – دائماً قصده واحد، لا يغيب عنه، إنه الله تبارك وتعالى، هذا جوهر العبادة، جوهر العبادة ألا يغيب عنك الله، لماذا؟ لكي تجد نفسك، إذا وجدته وجدتك، إذا وجدته وجدتك، أي وجدت نفسك، إذا نسيته نسيتك، أي نسيت نفسك، مُباشَرةً! ولذلك ذكر الله الذي هو هدف العبادة ليس هو شقشقة اللسان، هذه علامة الذكر، انتبهوا! هذا إذا وجدنا رجلاً مُستهاماً – كما قال النبي – ومُستهتَراً، قال سيروا، هذا جُمدان، سبق المُفرِّدون، قالوا مَن المُفرِّدون؟ قال المُستهتَرون بذكر الله، يضع عنهم الذكر أوزارهم أو قال أثقالهم، أي سيأتون خفافاً، خفاف الأحمال والأثقال والأوهاق، هذا هو الذكر، شقشقة اللسان هو علامة الذكر الحقيقي، لماذا؟ أقول هذا إنسان ذاكر، أو أسألك هل تذكرني؟ لأن الذاكر ضد ماذا؟ ضد الناسي، أليس كذلك؟ الذاكر ضد الناسي، هناك ذكر ونسيان، والإنسان حين ينسى الله ماذا يعني هذا؟ يعني أنه يغفل عن الله، حين يغفل عن الله لا يعني أنه يغفل أن يركع لله ركعات، لا! يغفل عن أن يستمد من الله ما يُعطيه ثباته، ما يُعطيه قوته، ما يُعطيه امتداده، ما يُعطيه شِحنةً – أي Charge، شِحنةً بالكسر – جديدةً لكي يستمر في طريق الاستكمال، استكمال ماذا؟ كمالاته، استكمال كمالاته هو، وليس كمالات الله تبارك وتعالى، هذا هو! لأن الله في نهاية المطاف هو الغني، الله غني عنا جميعاً، بمعنى لا يُريد منا شيئاً لذاته، ولا شيئ!

معنى هذا أن كل ما يطلبه الله – تبارك وتعالى – ماذا يُريد منه؟ يُريد أن يعود أثره علينا، يُريد أن ننتفع به، يُريد أن نستكمل به أنفسنا نحن، كل ما طلبه منا هو طلبه لنا، انتبهوا! هذا هو، لذلك افهموا هذا تماماً حين تقومون للعبادة في الليل، وهذا هو السر البسيط الذي يجعل بعض الزاهدين، بعض العبّاد، وبعض الذاكرين، لا أقول يستحلون بل يتعشَّقون عبادة الله، هل تعرفون لماذا؟ يجدون إنسانيتهم، يشعرون بثبات غير طبيعي وبقدرة غير عادية على المُواصَلة بعد ذلك، عملية سهلة وسلسة، محبوبة ومعشوقة عندهم، أما الذي لا يفهم العبادة من هذا المنظور يستثقل، حُقَّ له – أنا أقول حُقَّ له – أن يستثقل، طبعاً! لأن الإنسان لا أُحِب أن أقول إنه أناني، لكن هو مسكين مُفرَغ وهش، كما قلت بذات مُعارة لا تتماسك، ليس لها ثبات، ويُريد لها الثبات، ولذلك هو يُحِب دائماً ويُمعِن في أن يعمل ما يعود على هذه الذات، لكن هل يعمل في الاتجاه الصحيح؟ وهل يعمل العمل الصحيح؟ هما سؤالان، انتبهوا! الشيئ الصحيح وفي الاتجاه الصحيح، أيضاً هذان تحديان، سؤالان يُشكِّلان تحديين حقيقيين، أنا أقول مع مُعادَلة الإيمان والعبادة يفعل الصحيح وفي الاتجاه الصحيح، يفعل الصحيح وفي الاتجاه الصحيح ويُثبِّت نفسه، وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ ۩، تطميناً لأنفسهم!

ولذلك لا تُوجَد مُشكِلة، الله الذي خلقنا يعلم ضعفنا هذا، أنتم تقولون هذا ليس ضعفاً، هذا طمع، هذا أنانية، هذا جشع، وهذا فراغ، الإنسان يدور حول نفسه، معذور المسكين! هو هكذا، هو وجوده ظلي، وجوده هوائي، المسكين إذا أراد أن يتحقَّق له بعض هذا الثبات والتماسك فلابد أن يعمل في نهاية المطاف لنفسه، كأنك في نهاية المطاف أنت لا تعمل إلا لنفسك، لكن من منظور العبادة والإيمان هذا العمل في نهاية المطاف مُقدَّس لأنه مُراد لله عز وجل، مُراد! تقول لماذا مُراد؟ لأنه كرم، كرم منه عز وجل، كما أكرمك وأحدثك من عدم أكرمك وأعطاك هذه النفحة الإلهية، أكرمك وقال لك اعمل في هذا الاتجاه، كمِّل نفسك، وهي الطريق الوحيدة لتكميل نفسك، كل طريق أُخرى ستضل فيها وتضيع وتتيه وتتحطَّم في النهاية، كل طريق أُخرى! 

يا حسرتاه والله! يا حسرةً على مَن علت أسنانهم وضاعت سنوهم أو سنونهم وأيامهم وهم لا يعرفون هذه المعاني ولا زالوا يجدون في الجمع والمنع والتهارش والتصارع على ماذا؟! على أعراض الدنيا، على قاذورات الدنيا، هذه القاذورات مطلوبة – كما قلنا – في حدود دنيا، مهما استكثرت منها تبقى في حدود دنيا، هذه لا تُكمِّلك، انتبه! هذه شرط فقط للتجاوز، حتى تُتجاوَز، لكن هذا ابن الستين، ماذا يفعل اليوم المسكين هذا؟ هذا صاحب المسبحة المكية الذي يأكل حقوق الناس، ماذا يفعل؟ ما الذي فهمه من الدين هذا المسكين؟ يا حسرةً أيضاً على مَن أعجبه كلامي هذا كتنظيرات فلسفية وفكرية! يا حسرةً عليه! ويا سُعدى مَن أخذ هذا ليُجرِّبه، مَن بدأ يُعيد منظوره العبادي والمُعامَلاتي ومنظوره السلوكي كله ضمن فلسفة كهذه! ستختلف معه الأمور كلها، والله العظيم ستختلف كل الأمور، سيُطلِق تحدياً كالذي قرأته لأحد هؤلاء وأعجبني جداً، قال أنا أتحداكم – إن شاء الله تعالى – بالآتي، ائتوني ساعة موتي وسترونني أبتسم ابتسامة عريضة جداً، ثقةً مني بالله تبارك وتعالى، لماذا؟ لأن هذه الثقة أعطته ثقة في نفسه، هو مُتصالِح تماماً ومُتكامِل، يتكامل! وهو شاعر أنه يسير في الطريق الصحيحة، لماذا؟ لأنه يسير بوعي حقيقي مُنذ البداية، بوعي! وكما قلنا أكثر من مرة في الخُطب الأخيرة الوعي الوعي الوعي، الوعي بالذات! 

من هنا أُحِب أن أُفضي إلى آخر نُقطة في خُطبة اليوم، وهي تقريباً حوصلة أيضاً وتلخيص ومَدخَل أو مُدخَل جديد لموضوع اليوم، إنه موضوع القيمة والأهمية والمنزلة التي أولاها الإسلام – قرآناً وسُنةً وآثاراً طبعاً من العارفين والواصلين والمُجرِّبين وأصحاب المُعاناة الإيمانية – لما يُعرَف بالنية، النية! لِمَ هي خطير إلى هذه الدرجة؟ النية! إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرؤٌ ما نوى، الحديث الذي أخرجه الشيخان وأصحاب السُنن إلا ابن ماجه، حديث عمر المشهور جداً، وهناك حديث آخر عن النية، الحاكم يروي عن مُعاذ بن جبل – رضوان الله عنهم أجمعين -، قال حين بعثني النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى اليمن قلت يا رسول الله أوصني، أي أُريد وصية أو وصاة، نصيحة! قال يا مُعاذ أخلص دينك، يكفك العمل القليل، النية! محّض نيتك لله، اجعلها مُخلَصة لله، يكفك العمل القليل، القضية ليست كثرة طقوسيات وأعمال ظاهرية، العمل مطلوب، لكن شرط أن نُتوئم بينه وبين روحه، عمل بلا روح جثة عفنة، بعض الناس تشعر أنت للأسف من تدينه ومظاهر تدينه ومع سلوكه أنه مُتعفِّن، وتجتاحك أحياناً مشاعر مُزدوَجة كما يُقال، أي هناك Ambivalence، تقول كيف أحترمه؟ ينبغي أن أحترمه وأُحِبه لأنه مُتدين، يرتاد المساجد، عنده لحية، يلبس الجلباب على السُنة، وعنده مسبحة، لكن أنا أحتقره، أشعر أنه إنسان مُتعفِّن، طبعاً سلوكه يُؤكِّد هذا، سلوكه، طرائقه، وفلسفته في الحياة تُؤكِّد أنه مُتعفِّن، هذا لم يُؤمِن حقاً ولم يعبد حقاً، لم يفهم شيئاً هذا، هذا مُقلِّد!

وبالمُناسَبة أمثال هؤلاء لا رحمة عندهم بالخاطئين، يا ويل الإنسان لو ضُبِط بين أيديهم أو على أيديهم مُتلبِّساً بجريمة أخلاقية! سيُشهِّرون به على رؤوس الخلائق، لا يتسامحون، هل تعرفون لماذا؟ لأنه لا وعي لديهم ببساطة، مسألة الوعي والنية! كيف لا وعي لديهم؟ لو كانوا واعين بسلوكهم الأخلاقي ويفعلون كل فعل مُبرَّراً دائماً ضمن صراع الإرادات والرغائب والمُشتهيات لعلموا كيف يكون الالتزام، صعب! الالتزام صعب، أن تسير بطريقة صحيحة صعب جداً، الله يعلم أنه صعب، لذلك يُسمى في الأخير الخضوع لأمر الله التكليف، أي إلزام ما فيه كُلفة، فيه كُلفة، وفيه مشقة، الله يعرف هذا!

يقول أبو القاسم الجُنيد – شيخ الطائفة بل شيخ الطائفتين، قدَّس الله سره – فيما رواه أبو القاسم القُشيري في الرسالة القُشيرية، يقول الجُنيد – قدَّس الله سره – الصادق يتقلَّب في اليوم أربعين مرة، والمُرائي يثبت على حالة واحدة أربعين سنة، ما معنى هذا؟ معنى هذا أيضاً بلُغة الفلسفة الأخلاقية أن الصادق – الصادق طبعاً تفكيراً ونيةً، ظاهراً وباطناً ومسلكاً – لا يبدر منه أي شيئ إلا ضمن ماذا؟ ترجيح خيارات، بعض الناس يتحدَّث عن وفاء الكلب، هذا حديث شعراء، كأحمد شوقي وحافظ إبراهيم، كلام فارغ هذا، انتبهوا! لا يُوجَد كلب وفي، لا يُوجَد! كلمة وفاء تنتمي إلى المنظومة الأخلاقية، الكلب – أكرمكم الله، أعزكم الله، وأعزكن – كالخنازير، كالحمير، كالفهود، وكالسباع، لا تعرف المنظومة الأخلاقية، لماذا؟ في نهاية المطاف كل ما هو أخلاقي هو اختيار إرادي، أليس كذلك؟

لو أن هناك إنساناً أتيته أنت وهو نائم – عنده نُقطة ضعف مُعيَّنة معروفة – وطلبت منه شيئاً – قلت له يا فلان أُريد كذا – فأجابك – بعض الناس ينام هكذا، نصف نوم، قلت له يا فلان أعطني مائة يورو، فقال لك خُذ مائة يورو -، هل يُعتبَر هذا مُتصدِّقاً؟ هل يُعتبَر هذا كريماً؟ لا، لأنه أعطى بلا إرادة، لو نوَّمته تنويماً مغناطيسياً – فصار الآن مُنوَّماً مغناطيسياً – وطلبت منه أن يعمل عملاً من أعمال الشجاعة وأقدم على هذا العمل، هل يُعتبَر شجاعاً؟ لا، لأنه بلا إرادة، وكذلك لو طلبت منه أن يعمل عملاً من أعمال الكرم والتضحية، وعمل هذا، لا يُعتبَر كريماً ولا مُضحياً، انتبه! لأنه لا إرادة.

الحيوانات كل أفعالها ببساطة هي عبارة عن أفعال مشروطة، مُنعكَسات شرطية فقط! لذلك القط – مثلاً – هنا في أوروبا يأكل بين يديك، وهذا لا يعرفه بالمُناسَبة مَن كتب قصة القط، القط الذي يخطف السمكة ويأكلها بعيداً، والذي يُعطى السمكة ويأكلها بين يديك، هذا التبسيط الفلسفي المُخِل والمُضحِك، لا! القط هنا في النمسا دائماً يأكل بين يديك، لأنه لم يعش تجربة ماذا؟ أنه إذا سرق سيُضرَب، هذه مسألة شرطية، انتبه! فلا تقل لي عنده ضمير والكلب عنده وفاء، لا هذا ولا هذا، لأنها كائنات بلا خيارات أخلاقية.

ما هو الخيار الأخلاقي؟ هو ما يُفسَّر بالفعل الإرادي، ما هو الفعل الإرادي؟ ببساطة فلسفية تماماً هو الفعل الذي يُمكِن أن يُقال إن صاحبه كان مُقتدِراً على فعل سواه، كالذي عف – مثلاً – عن الحرام، لا يُريد – والعياذ بالله – أن يُواقِع هذه الغانية – مثلاً – بالحرام، وعف عنها، هذا عفيف، والعفيف في ظل الرحمن، اللهم اجعلنا أعفاء ظاهراً وباطناً، هذا عفيف، لماذا؟ لأنه كان قادراً، قال ورجلٌ دعته امرأةٌ ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله، ذات منصب يمنعه، لا يخاف، لا يُوجَد خوف، لا يُوجَد عقاب، انتبهوا! لن يُضبَط مُتلبِّساً، ولن تأتي شرطة الآداب لكي تأخذه بالملابس الداخلية مثلما يحدث في الأفلام المصرية، كل هذا غير موجود، لأنها ذات منصب، وجمال! هي جميلة، تُغري وتشتهيها النفس التوّاقة، لكن عندها منصب يمنعك ويمنعها، أي تفعل وهي مُطمئنة، ما الذي منعه؟ إني أخاف الله، هذا الخيار الأخلاقي، كان يستطيع أن يفعل الشيئ الآخر، أليس كذلك؟ يستطيع أن يفحش والعياذ بالله، يستطيع أن يفسق بها أو يفحش بها، لكن لم يفعل، لماذا؟ لأنه يخاف الله.

انتبهوا، كل ما دون هذا الأُفق أو هذا الصفيح الأعلى – الله، رغبة الله، حُب الله، والخوف من الله – مشوب بشوائب تجعله لا أخلاقياً، عجيب! لن أقول مَن الذي قال هذا وكيف قاله، هو من الغربيين أنفسهم، ولن أُفسِّر هذا، لأنه مُفسَّر تقريباً لكل مُؤمِن واعٍ بإيمانه.

في أنا كارينينا Anna Karenina لليو تولستوي Leo Tolstoy عبارة جميلة جداً، لذا أعجبتني، قالها أحد أبطال القصة، وكان مُحتاجاً مُعوزاً لأخيه، وكان صاحب أطيان وعقارات وأموال، جاءه وهو المُدمِن على الخمر، أي هذا المُحتاج المُعوز، جاءه وهو مُعتَل، ودفع له مبلغاً طائلاً من المال، فقال له هذا المُعوز حسنٌ يا أخي، سأُعطيك ما تُريد، فقال له هل قلت سأُعطيك؟! قال نعم، أنا سأُعطيك، وهو مُحتاج إلى فلس، إلى روبلة واحدة! قال سأُعطيك ما تُريد، أنت تُريد أن تشعر بأنك شهم، سأُعطيك هذا الشعور وسآخذ المال، أخذه! تولستوي Tolstoy يفهم هذا جيداً، انتبهوا! هؤلاء عباقرة، يفهم هذا! لذلك المُؤمِن إذا أعطى لا يُعطي ليقول لنفسه أنا كريم أبداً، هذا ليس كريماً أبداً، وليس هذا غاية عنده، أن يقول لنفسه أنا كريم، هل تعرفون لماذا؟ هذا ضعيف وهش، لأنه إن أعطى بهذا القصد وبهذا الدافع سيمشي بعد ذلك مُنتفِخاً، ما يُعطيه هذا الصغار وهو الانتفاخ أن مسلكه لم يكن أخلاقياً، لأن الناس بالمُناسَبة يستصغرون كل مَن يتطاول إلى مقام ليس له، مَن يُرينا أنه أطول مما هو عليه، انتبهوا! يستصغرونه، أليس كذلك؟ يحتقرونه مُباشَرةً، الذي أكسبه هذا الصغار أو أغرقه في هذا الصغار ما هو؟ أن مسلكه لم يكن أخلاقياً، وهو ضعيف، مسلك ضعيف، ومسلك هش، عكس الذي يُعطي لله، لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ۩. 

أكثر ما تجدون شكاوى المُعطِين من مواقف المُعطَين، يا أخي أعطيته وتعدى علىّ، يا أخي أعطيته وقابلني بكذا وكذا، ماذا تُريد إذن؟ أنت أعطيته وتُريد أن تستعبده، هذا بغض النظر عن مسلكه، فمسلكه أيضاً لا أخلاقي بالمرة طبعاً، كافر النعمة! ولكن لو كان مسلكك أنت أخلاقياً أعط – كما يُقال – وانس، لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ۩، كل ما نطلبه هو عند الله، ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ۩، انتبهوا! هو لا يرضى لأنه كمَّل نفسه وهو الكامل المُطلَق، بالعكس! هو يرضى لأنك نجحت في أن تُكِّل نفسك في هذه الحيثية وفي هذه النُقطة الجُزئية، وأنت – وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ۩ – شعرت بهذا، هذا مطلوب، لا تُوجَد مُشكِلة إلى الآن، لا تُوجَد مُشكِلة! 

قال أبو عليّ الدقّاق الإخلاص هو التوقي من مُلاحَظة الخلق، والصدق هو التنقي من مُشاهَدة النفس، فالمُخلِص لا رياء له، والصادق لا إعجاب له، كيف؟ المُخلِص لا ينظر إلى الخلق، لا يهمه الخلق، انتبهوا! هو مُخلِص لمَن؟ للكُلي، لا إله إلا هو! للمُطلَق، لرب العالمين.

يا إخواني:

الآن نفترض مثلاً أن إنساناً خطب امرأةً وأحبها جداً، ولا أُحِب أن أتحدَّث عن حُب في غير إطار شرعي، وإن كان هذا مسألة فطرية، لكن هو أحب فتاةً وخطبها، وملكت عليه قلبه، وأصبحت ليلاه وهو مجنونها، هذا المجنون حين يتوجَّه إلى ليلاه يعمى عن العالمين، يعمى عن العذّال، هناك العذول – كما يُسمونه بالمصرية – أو العاذل، أي الذي يعذل، أَقِلّي اللَومَ عاذِلَ وَالعِتابا, فهو يعمى عن العذّال، يعمى عن اللوّام أو اللائمين، يعمى عن مصلحته المسكين، يعمى عن صحته، عن نومه، عن أكله، وعن شربه، يعمى عن نفسه، يفنى! يفنى في محبوبه، إذا كان يُحِبه حُباً حقيقياً، يفنى في محبوبه، أي الحُب جاذبية، ما بالكم – بالله عليكم يا إخواني وأخواتي – بمَن أحب الله ومَن قصد الله وتوجَّه إلى الله؟ أليس لله الجاذبية المُطلَقة؟ جاذبية مُطلَقة، تأخذك من كل شيئ، أسقط كل الحسابات، كل الدوافع الأُخرى، وكل شيئ مُستحيل! جاذبية غير عادية، هذا هو ببساطة.

سُئل النبي عن الإيمان، قيل له يا رسول الله ما الإيمان؟ فقال الإيمان الإخلاص، لو هناك إيمان حقيقي مُباشَرةً يتعادل بالإخلاص، يتظهَّر بالإخلاص، ويُترجِم نفسه بالإخلاص، إيمان بلا إخلاص ليس إيماناً حقيقياً، انتبهوا! إيمان منقوص، إيمان مع كفر، كفر نعمة، كفر غفلة، كفر من نوع آخر، إيمان مع شرك، وهناك أنواع من الشرك.

روى أبو سعيد الخُدري، قال كنا – كما أخرجه ابن ماجه – مرةً جلوساً نتذاكر المسيح الدجّال – أعظم فتنة خلقها الله المسيح الدجّال – إذ طلع علينا – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – فقال ألا أُخبِركم بما هو أخوف عليكم عندي من الدجّال؟ قلنا بلى يا رسول الله، قال الشرك الخفي، قلنا يا رسول الله ما الشرك الخفي؟ قال يقوم الرجل فيُصلي، فيزيد من صلاته لما يرى من نظر الرجل، يرى أن هناك أُناساً جالسين ويرونه أو أن هناك أُناساً مُحترَمين عنده، مثل شيخه أو أستاذه أو أي شخص آخر، فيزيد من صلاته، يُحسِّنها! قال شرك خفي هذا، قال الله – تبارك وتعالى – في الحديث القدسي الجليل – كما أخرجه البيهقي والبزّار – أنا غنيٌ عن الشريك، فمَن عمل عملاً أشرك فيه غيري، فهو لشريكه، أي ليس لي منه شيئ، لا أقبله! أي عمل تعمله لي ولغيري لا أُريده، قال لا، هذا ليس لي، ثم توجَّه النبي إلى الناس فقال – في الحديث نفسه – يا أيها الناس أخلصوا أعمالكم لله، فإن الله لا يقبل إلا ما كان خالصاً له، ولا تقولوا هذه – أي هذه الفعلة أو هذه المحمدة أو هذه الخصلة من خصال الخير المفعولة – لله وللرحم، فإنها للرحم وليس لله منها شيئ، الله لا يقبلها، لا تقل أنا – والله – قمت بصلة رحم لأرحامي وفي نفس الوقت لله، الله يقول لك لا، ما معنى صلة الرحم هذه؟ مطلوبة شرعاً، صلة رحم عملها حتى يتحدَّثوا عنه، حتى يُشعِرهم بأنه يصلهم وبأنه كريم وبأنه مِعطاء، وحتى يُذكَر أحسن مِن ذكر – مثلاً – أخيه أو ابن عمه الآخر مثلاً، لا! الله يقول هذه ليست لي، أنت لم تعملها لي، عملتها لهم هم، حتى يذكروك، حتى يحمدوك، خُذ جزاءك منهم كما في الحديث الآخر، يُقال للمُرائين يوم القيامة اذهبوا إلى ما كنتم تُراءونهم، فاطلبوا ثواباً، هل تجدون عندهم ثواباً؟ عندي لا يُوجَد ثواب، قال لهم هذا، كيف هذا؟ أتغفل عن رب العالمين، عن الكمال المُطلَق، عن الغنى المُطلَق، عن الكرم المُطلَق، الذي أوجدك وأعطاك وخوَّلك، أوتُراقِب الناس معه تبارك وتعالى؟ مَن هم الناس؟ مثلك، ضعاف مثلك، فقير يتعلَّق بفقير، وغريق يتعلَّق بغريق، ولا تقولوا هذه لله وهذه لوجوهنا، ما الوجوه؟ كما قلنا شيخ القبيلة أو رئيس الدولة أو وزير أو ضابط استخبارات أو شيخ مسجد أو إمام أو علّامة، كلام فارغ! للوجوه، أي للأعيان كما قال، نحن عملنا هذه لله ولهذا أيضاً، غير مطلوب هذا، وغير مقبول أبداً، قال فإنها لوجوهكم، وليس لله منها شيئ.

قال أبو الدرداء – رضوان الله عليه – جاء رجل فسأل النبي، قال يا رسول الله رجلٌ غزا – أي ذهب ليُقاتِل بنفسه المسكين، مُمكِن هذا يموت في كل لحظة – قاصداً الله – تبارك وتعالى – والذكر، هو يُريد أن يُرضي الله ويُريد أن يُذكَر عند الناس، أنه – ما شاء الله – بطل الأبطال، هِرَقل Heracles زمانه، شمشمون Samson أوانه، أي شيئ كبير، علىّ بن أبي طالب مُدته، طالب هذا ماذا؟ تشريك في النية، ما له؟ قال لا شيئ له، النبي قال ببساطة ومن غير تردد، الفلسفة عند الرسول واضحة تماماً، قال لا شيئ له، وبالمُناسَبة انظر إلى كلمة له، ما له؟ القضية هذه كلها في النهاية هي ما لك، كل شيئ ما لك؟ ماذا سيكون لك أنت؟ هل تسعى فعلاً في أن يكون لك؟ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ ۩، سيكون لك، ستُثبِّت نفسك، وستتكامل، لو كنت تعمل للناس سيذهب للناس، ولن يكون لك منه شيئ، صدِّقني! لأن محمدة الناس بهذا الفعل الذي كان ينبغي أن يُرجا به وجه الله وتثبيت النفس ستضرك – أي هذه المحمدة – ولن تنفعك، ستزيدك – والعياذ بالله – رياءً على رياء، ونفاقاً على نفاق، وهشاشة شخصية وذات، ستُصبِح أكثر ضعفاً.

أستغرب وتستغربون معي من شخص في السبعين أو في الثمانين من عمره يشوقه المدح، مثل طفل صغير، يُحِب المدح، أنت سيدنا وتاج رأسنا وفوق فوق وعلى رأسنا وأنت كذا وكذا ويا حبيبنا يا مُعلِّمنا ويا شيخنا، ما هذا؟ ويهزه هذا المديح ويستخفه، يستخفه فيبدأ يتحامق ويتصابى، ما هذا؟ ما القصة؟ ابن ثمانين أنت! لأنه لم يترب، لم يُثبِّت نفسه هذا، ولم يتكامل، هذا فطير، حصرم كما يقول العرب، حصرم! لم ينضج، فطير المسكين، ابن ثمانين سنة لكنه فطير، متى ينضج؟ لا نُضج له، انتهى! ضاعت إمكاناته المسكين هذا، عمره ثمانون سنة، ضاع كل شيئ، يستخفه المدح كالأطفال وكالمُراهِقين، لا! انتبه، لكن إن عملت لله اختلف الأمر تماماً.

قال لا شيئ له، قال حتى سأله ثلاثة مِرار، والنبي يقول لا شيئ له، ثم قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – مَن عمل عملاً لله أشرك فيه غيره فليس لله فيه شيئ أو كما قال، قال أنا أغنى الأغنياء عن الشرك، وفي رواية قال أنا خير شريك، هل فكَّرتم في دلالة هذا الشيئ؟ ما معنى أن الله خير شريك؟ كأن يقول لك عاملني أنا، أنا! أتُريد شريكاً؟ أنا، أشترك معك في المُعامَلة هذه، أنا وأنت نشترك، ما رأيك؟ الله أكبر! ماذا نُريد أحسن من هذا؟ الله أكبر! رب العالمين هو الذي يقول هذا، أتُريد شريكاً؟ أتُريد واحداً يسمعك، يراك، يذكرك، ويمدحك؟ أنا، الله أكبر! قال فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ۩.

وبالمُناسَبة ما معنى فَاذْكُرُونِي ۩؟ كيف نذكره؟ لا ننساه كما قلت، لا نغفل عنه، ويُترجِم اللسان عن هذا الحضور القلبي، فعلاً نبدأ دائماً نستغفره ونُسبِّحه بتفكّر وبتمعّن، نفهم لماذا نُسبِّح ولماذا نحمد، على أنعام سابغة لا تنتهي، لكن أَذْكُرْكُمْ ۩ ما معناها؟ كيف يذكرك هو؟ كيف يذكرك عز وجل؟ انتبه! لو أن هناك شخصاً غنياً، وقال لك والله أنا ذكرت فلاناً، ماذا سيكون معنى هذا؟ هل هو ذكره بمعنى أنه قال هذا فلان الفلاني أو هذا فلان ابن فلان وابن فلانة؟ لا، هذا الغني الكريم – غني كريم، انتبه! ليس كأغنياء العرب إلا مَن رحم الله منهم، موجودون والحمد لله – إذا ذكره مُباشَرةً يصله بصلة، يبعث له عشرة آلاف يورو، يقول لأنني تذكَّرته والله، إنسان طيب هذا، قبل عشرين سنة عمل لي شيئاً في فيينا، والآن تذكَّرته، مُباشَرةً! فكيف إذا ذكرك رب العالمين يا حبيبي؟ ستأخذ الكثير، كلما ذكرك أعطاك وأحسبك وكفاك ومنعك وقوّاك وأمدك وبسط لك وحاطك وكلأك، أليس كذلك؟ هذا هو، هذا معنى أَذْكُرْكُمْ ۩، أي لن يذكر اسمك، كأن يقول فلان الفلاني، ما هذا؟ لا! هكذا يذكرنا عز وجل، يُعطينا! يُعطينا كل ما يخطر وما لا يخطر على بالنا، ويمنع عنا كل ما نُحِب منعه وما لا يخطر على بالنا منعه.

والله أنا دائماً أحمد الله على ما لا أعرفه، أقول قطعاً اليوم دفع الله عني ما لا أعرف، كنت في رحلة سفر أمس، وقلت كان من المُمكِن أن يحدث لي حادث سفر، من المُمكِن أن يحدث هذا في خمسة آلاف موضع أو في خمسة آلاف نُقطة في الطريق، كان من المُمكِن في كل نُقطة أن يحدث لي حادث، في كل نُقطة! مَن الذي درأ عني كل هذه الحوادث؟ رب العالمين، العوام يفهمون هذه الفلسفة العميقة، وهي عميقة جداً، يقولون كل خُطوة تحتاج إلى سلامة، كل خُطوة! ولذلك لا تقل وصلنا بحمد الله، قل سنصل إن شاء الله، ما لم تصل أنت لم تصل، انتبه! ما لم تكن في بيتك أنت لم تصل، مُمكِن – لا قدَّر الله – قبل بيتك بعشر خُطوات يحدث حادث وتذهب فيه أو يذهب بعض مُرافِقيك، فكل خُطوة تحتاج إلى سلامة، فهذا الذي يُمنَع عنا ويُدرأ يُدرأ بماذا؟ برحمة الله، بكرم الله، بعطاء الله، وبذكر الله لنا، لأننا نذكره ولا نغفل عنه، وهو لا يغفل عنا، لا إله إلا هو! والجزاء من جنس العمل.

ومن هنا خطورة النية، هل تعرفون لماذا – حتى نخرج بفائدة – أولى الإسلام النية كل هذه المكانة وهذا المقام الرفيع؟ لأن الله في الأخير لا يحتاج ولا يُريد منا شيئاً عز وجل، لكن هو يُريد منا قلوبنا، يُريد هذا القلب، يُريد أن يسكن في هذا القلب، لا إله إلا هو! أي ذكره طبعاً، ذكره، لم تسعه سماواته ولا أراضوه عز وجل، فوق المكان وفوق الزمان، من أين أخذنا هذا المعنى؟ من قوله – عز من قائل – لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَآؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقْوَىٰ مِنكُمْ ۩، والتقوى أين؟ النبي قال محلها القلب، ألا إن التقوى ها هنا، الله يُريد منا هذه اللطيفة، يُريد هذا القلب، عبدي حسَّنت منظر الناس – أين ينظرون؟ إلى جسمك – خمسين سنة، هلا حسَّنت منظري ساعةً واحدةً؟ هنا التقوى، الله يُريد – عز وجل – يُريد هذا، أي القلب.

ولذلك النية لها وقع كبير عند الله، النية! قال الحسن البِصري إنما خُلِّد أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار بالنوايا، كيف إذن؟ هذا كلام جميل أيضاً، وله معنى، أنت عبدت الله ثلاثين سنة، لماذ تبقى في الجنة إلى الأبد؟ بالنية، لأن الله يعلم أنه لو قضى عليك أن تعيش في الدنيا بليون – Billion – سنة كنت ستعبده بليون سنة، لو قضى عليك أن تعيش في الدنيا مائة بليون سنة كنت ستعبده مائة بليون سنة، لأنك عبد عارف وواعٍ، لست عبداً تنتظر أن تموت وتأخذ الجائزة، لا! أنت عارف ماذا تُريد تماماً، عارف ما لك وما له، لا إله إلا هو! انتبه، تعرف هذا تماماً، لذلك تُخلَّد بالنية، فحقك أن تُخلَّد بها في الجنة، والذي كفر بالله الله يعلم – قال وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ۩ – أنه لو عُمِّر بليون سنة كان سيكفر بالله بليون سنة، لذلك حقه أن يبقى في النار مُخلَّداً، هذا معنى كلمة الحسن البِصري.

قال – صلى الله عليه وسلم – مَن أتى فراشه وهو ناوٍ أن يُصلي من الليل فغلبته عيناه حتى أصبح كتب الله له ما نوى – يأتي يوم القيامة وعنده صلاة قيام ليل، لأن كان عنده النية – وكان نومه صدقةً عليه من ربه، الله أكبر، ما أكرم هذا الإله! ألم أقل لكم هو الكرم نفسه؟! هو الكرم المُطلَق.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، فيا فوز المُستغفِرين!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

                                                                     (الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

أما بعد، أيها الإخوة والأخوات:

أخرج البخاري عن معن بن يزيد، قال أخرج أبي مالاً أراد أن يتصدَّق به، فأودعه عند رجل في المسجد، قال فجئت فأخذته، قال هذه صدقة وأنا أولى بها، قال هذا ابنه، أي معن بن يزيد، ثم أتيته به فقال والله ما إياك أردت، أنا أردت أن أتصدَّق على غيره وليس على ابني، قال فخاصمته إلى الرسول، قال أنا نيتي أن أتصدَّق على غير ابني، فقال – صلى الله عليه وسلم – يا معن لك ما أخذت، ويا يزيد لك ما نويت.

اللهم إنا نسألك أن تجعل نيتنا وهمنا وقصدنا كله أنت، اللهم اجعلنا من عبادك الصادقين المُخلِصين المُخلَصين، وأخلصنا لك بخالصة ذكرى الدار، واجعلنا من عباد المُصطفين الأخيار، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اغفر لنا ولإخواننا وأخواتنا ولمَن حضر، ولآبائنا وأمهاتنا، وللمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات، بفضلك ورحمتك، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩.

____________

فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۩، قوموا إلى صلاتكم ليرحمني ويرحمكم الله.

(24/8/2007)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: