إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

 

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ۩ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ۩ إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ ۩ وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ ۩ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ ۩ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ۩ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ۩ وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ ۩ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ۩ وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الفاضلات:

لقد بلغ القرآن الكريم مبلغاً بعيداً في تهجينِ التقليد وشجبِ الآبائية، تقول الآية الكريمة إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ ۩، فلقد هجَّن القرآن في آياتٍ كثيرات هذا المسلك المقبوح ودمدم على أهله الذين يعتذرون به عن قبائح مسالكهم وخطلِ مُعتقَداتهم، ولم يكن هذا التهجين وتلكم الدمدمة تكتيكاً وقتياً ينتهجه القرآن ريثما يقضي على الوثنية التي تتذرَّع به، كلا بل إن القرآن العظيم لمَن تأمَّله بحق وبإنصاف أرسى قواعد الإيمان على أسس من التفكّر والتعقّل ومُناشَدة العقل والمُطالَبة بالبُرهان وتوقير الحُجةِ والسُلطان، الأمر الذي وبكل ثقةٍ وطمأنينة نُقرِّر لا نجدُ له مثيلاً ولا قريباً من أن يكون ضريعاً في أي كتابٍ سماوي سابق أو في أي دينٍ ينتحله البشر من لدن أنفسهم.

كتب الفيلسوف الإنجليزي المُلحِد برتراند راسل Bertrand Russell يوماً يقول “بقدرِ ما أتذكَّر لا يُوجَد في الأناجيل – Gospels – كلمة واحدة مُفرَّدة تُثني على الذكاء والتفكير”، وهذا صحيح، فلا يُوجَد كلمة واحدة تُثني على الذكاء والتفكير عندهم فعلاً، ولذلك هذا ملمحٌ ليس عادياً، إنه فوق عادي وأكثر من استثنائي أن يحفل كتابٌ إلهيٌ سماوي بمئاتِ الآي يُناشَد فيها العقل ويُطالَب فيها بالبُرهان ويُهجَّن التقليد ويُدمدم على الآبائية، وعلينا أن ننتبه إلى أن القضية إلى هنا من المُمكِن أن تُشكِّل طمأنينة زائفة لنا نحن معاشر المسلمين والمُوحِّدين، فهذه الخُطة ذاتها تنطبق أيضاً على كل صاحب عقيدة ومُنتحِل مذهب بما في ذلكم المسلمون أنفسهم، غير سائغ في نظر القرآن الكريم أن يبني المُؤمِن مُعتقَداته ودينه على قواعد وأُسس من التقليد – إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا ۩ – فيقول أنا مسلم لأن أهلي مسلمون، هذا غير مقبول ومرفوض لأن هذه الخُطة التي أشرت إلى معالمها على عجل استراتيجية ثابتة في القرآن الكريم، فممنوع وغير سائغ وغير صحيح وغير مقبول أن ينتحل المرءُ مذهباً أو ديناً أو فكرةً أو مبدأً وذريعته في ذلكم التقليد وهو باريءٌ وفقير من الحُجةِ والبُرهان لأن القرآن لا يقبل هذا أيضاً، ولكن بالمُقارَنة السريعة بين مُؤمِن القرآن ومُؤمِن المسلمين أو مُؤمِن المُؤسَّسة الدينية نرى أن الفرق وأن البون بعيدٌ وشاسعٌ جداً، مُؤمِن المُؤسَّسات عموماً الدينية والمُؤسَّسة الإسلامية ليست بدعاً في ذلكم أو من ذلكم يُرادُ للانتساب ويُراد لتكثير السواد ويُراد لفرض الهيمنة وبسط السُلطة على المُعارِضين والخارجين والمُتشكِكين والمُنتحِلين لاتجاهاتٍ أُخرى وربما تكون لا دينية أصلاً أو إلحادية، فلابد أن نكون كثيرين حتى نستطيع أن نُخيفهم وأن نُرعِبهم وأن نفرض منطقنا، ولكن القرآن بريء من هذه الخُطة، القرآن لا يُمكِن أن يقول بهذا، ولم يحدث أنه سوَّغ أن يتأسَّس اعتقاد أو دين على مثل هذه الهيمنات الزائفة الفارغة، إنما سوَّغ هذا بناء على الحُجة والبُرهان، فالله – تبارك وتعالى – ليس يحتاج ولا يُريد من أحدٍ أن ينتصر له لأنه لا أحد يجور عليه، أنت تنتصر لنفسك وتنتصر لمُجتمَعك، لكنك لا تستطيع أن تنتصر لله على سبيل الحقيقة وليس على سبيل المجاز، فنحن ننتصر لله وننصر الله مجازاً لا حقيقة بنصرتنا لأنفسنا ولمُجتمَعاتنا ولمُقدَّساتنا، لكن الله نفسه في ذاته لا يأحد يجور عليه لأنه لا يخاف عُقبى ما يفعل لا إله إلا هو – وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا ۩ – ولا يُعجِزه أحد ولا يفوته أحد، فافهموا هكذا لأن بعض الناس يظن أن علينا أن نكون مُتعصِّبين وأن نكون حتى مُغرِقين في العصبية من أجل هذا الدين الحق، الدين الذي لم يعرفوه لا ببُرهان ولا بدليل، ومن أجل ذلكم أستشعرمن سنين بعيدة – علماً بأنني ذكرت هذا في أكثر من مجلس ولا زلتُ وزاد هذا الاستشعار بعض الأحداث والوقائع التي تترا في هذه السنوات العجاف – قلقاً حقيقياً بسبب أنه يحدث لنا شيئٌ مُشابِه من وجوه عدة لما حدث هنا في الغرب الذي كان مسيحياً، فهو ليس الآن مسيحياً بمعنى الكلمة، بل بالعكس هو غرب لا ديني وعلماني حتى النُخاع، لكن على كل حال يحدث شيئ مُشابِه، فالمشابه أو وجوه الشبه كثيرةٌ جداً لو أدرنا أن نتقصاها ولكن هذا شأنٌ آخر، وأستشعر وجلاً وخوفاً من الآتي مما يحدث ومما سيتمخَّض عنه هذا الحادث الآن وذلك يوم يزداد أبناؤنا علماً وثقافةً، وهم الآن مُرشَّحون لهذا بسبب الانفتاح وبسبب ثورة الاتصالات، فهذه الثورة هى ثورة غير مسبوقة في تاريخ الدنيا، وهذه الثورة أول ما تُهيئ الإنسان تُهيئ له الانتقال بين الدوائر الحضارية والنُطق الثقافية، وأنتم الآن تعيشون هنا في الغرب ومنكم عدد لا بأس به يرتاد الجامعات ويسمع نمطاً مُختلِفاً ويتدرَّب على اكتساب أساليب مُختلِفة في التفكير، وهى أساليب تُدعى بالعلمية وهى بلا شك علمية وفق منهج العلم الحديث، ومن ثم فأولادنا يكتسبون هذا شيئاٌ فشيئاً، وكما قلت الإنترنت Internet والكتابات وكل هذه الوسائل الاتصالية تفتح الأبواب كل الأبواب على مصاريعها، علماً بأنني  لا أُحِب أن نكون دائماً كما نحن وكما كنا إلى وقتٍ قريب أو في الوقت القريب السابق فنلعب كما يُقال أو نفعل وننشط في الوقت الضائع، لكن إلى اليوم لا يزال منا علماء كبار وشخصيات شهيرة تتحدَّث بمنطق الوصاية الفكرية فيقولون “لا يجوز أن يُقال هذا على المنابر، لا يجوز أن يُقال هذا للشباب والشواب، لا يُقال هذا للعوام”، فعن أي عوام تتحدَّثون وعن أي شباب وشواب؟ العالم الآن في حالة سيولة معرفية فلا يُمكِن أن تُخبىء شيئاً ولا يُمكِن أن تسكت عن شيئ لأن كل شيئ يُقال ويُقال بألف طريقة وطريقة وليس بأسلوب واحد وإنما يُقال بألف أسلوب، فإذا كنت أنت يا مولانا لا تقرأ ولا تُتابِع وتعيش خارج التاريخ والجغرافيا وخارج عالم البشر فهذه مُشكِلتك، لكن هذه المُشكِلة ستنعكس لتُسبِّب مُشكِلةَ للجيل بل للأجيال وبالتالي للدين نفسه عبر أهله وحملته، فالقضية خطيرة جداً ولذلك علينا أن نتخفَّف بل نتحرَّر بالكُلية من منطق الوصاية البائد البالي هذا، فهذا المنطق ما عاد يُجدي.

فقد حدث في الغرب ما يحدث الآن وتوفّر قطاعات من الناس وخاصة من المُثقَّفين والعلميين على مُراجَعة ومُدارَسة شؤون كثيرة لها علاقة بالدين من حيث هو وليست بالإسلام حتى وإنما بالدين كدين من حيث هو وبالإسلام الآن على وجه الخصوص لأنه هذا ما يخصنا كمسلمين، فهم كانوا يُراجِعون أشياء كثيرة تتعلَّق بالتشريع وبالاعتقاد لكنهم يخافون ويُوجِفون من أن يُصرِّحوا بكل ما ينتهون إليه، إذن هو نوع من التشكّك أو من الإلحاد أو من الإنكار المُستحيي المُستخفي، ولكن كما حدث أيضاً في الغرب إلى أمد وبعد ذلك سيحصل الانفجار، فعلينا – كما أقول دائماً – أن نستبق هذا الطوفان، لا أقول بإقامة الحواجز والسدود والموانع، كلا لأن الطوفان قد يكتسح كل هذه السدود والموانع ولأن هذا الأسلوب أيضاً وصائي في نهاية المطاف وإنما باعتماد وتوفير أساليب جديدة في التفكير تستهدف التعمّق وتستهدف التحليل والتركيب والمنهج العلمي والمنهج حتى العقلي والمنطقي الدقيق وليس الخطاب العاطفي التهييجي الشعبوي التعبوي، فنحن نُريد أن نُعبيء الناس.

 يحدث لدينا نسبياً شيئٌ أيضاً مُشابِه لما حدث هنا وهناك، أن المُؤسَّسة الدينية تغوَّلت حقوقاً ليست لها وأن علماء الدين أصبحوا أشبه برجال دين للأسف، وليس في الإسلام رجال دين وإنما يُوجَد علماء دين، فهم بشر عاديون مثلنا ومن ثم هم ليسوا معصومين، فينبغي أن يلتزموا الحديث في نطاق اختصاصهم المُحدَّد تماماً لكي يكونوا علماء دين، أما إذا أرادوا أن يلعبوا هذه اللُعبة الخطرة جداً – لعبة رجال الدين، أي الإكليروس Klerus – مثلما حدث هنا في الغرب فسوف يكون الدين هو الخاسر الأكبر، وهم أحرار لكن علينا أن نتصدى لهم وعلينا أن نُقلِّم أظفارهم وعلينا أن نُحذِّر منهم قبل أن نُحذِّر من الملاحدة والمُتشكِّكين لأن هؤلاء يجورون على الحقيقة أكثر من الملاحدة والمُتشكِّكين، حين يأتيني عالم يرأس مُؤسَّسة دينية كُبرى في العالم العربي يتكلَّم عن الاستنساخ على أن الاستنساخ هو نوع من تهجين النباتات – شيئ مُضحِك ومُبكي – فهذه مسخرة من المساخر، أكبر عمامة دينية الاستنساخ في وعيها – ما شاء الله – العلمي هو نوع من تهجين النباتات، لأنه يتحدَّث في الاستنساخ ولا علاقة له لا باستنساخ ولا بغير استنساخ، لأنه غائب عن الزمان ةغائب عن اللحظة التي نعيش فيها وهى بالنسبة إلينا معشر العرب والمسلمين لحظة قاتمة وقابضة، فلسنا في خير الأحوال بل لسنا في حال حسنة – هكذا في العموم – لا اقتصادياً ولا سياسياً ولا فكرياً ولا ثقافياً ولا دينياً حتى، وربما ما ظنناه الفجر الصادق تكشَّف عن فجرٍ كاذب الآن، فبدأنا نشهد كأننا كنا نعيش فجراً كاذباً، ولم يطلع علينا الفجر الصادق حقيقةً، فهذا الشيخ يتكلَّم عن استنساخ بمعنى أن تُهجِّن وتُلقِّح النبتة الفلانية بالنبة الفلانية ومن ثم فهذا أمر طبيعي، فما هذا؟!

وآخر يتكلَّم في نظريات علمية كُبرى يُفني المُتخصِّصون أعماراً وأعماراً في جُزئيات منها لكي يدرسونها، وهذا يتكلَّم فيها بمنطق التحليل والتحريم، فما علاقة الدين بتحليل وتحريم مناهج ونظريات علمية؟ بل ما علاقتك أنت بالذات يا مولانا يا مَن لا يفقه كوعه من بوعه في هذه القضايا؟

لا علاقة له بهذه العلوم ويتكلَّم فيها، والغريب هو لماذا يحشر أنفه فيها؟ لماذا يدس أنفه في هذه القضايا التي لا يُحسِن فيها ولا يعرف تمييز قبيلٍ من دبير فيها ولا شمال من يمين؟ هل تعرفون لماذا؟

من أجل الهيمنة وضرورات الهيمنة، وهذا نفس ما حدث هنا من خلال المُؤسَّسة الدينية، فيُصبِح الدين مُؤسَّسة هيمنية شمولية لأنه يُريد أن يحتكر القول في كل شيئ، فهو يتكلَّم في الطب وفي الصيدلة وفي التطوّر وفي البيولوجي Biology وفي الجغرافيا وفي الفيزياء وفي الاسترونومي Astronomy وفي الكوزمولوجي Cosmology – أي في الكونيات – وفي كل شيئ يتكلَّم، ويتكلَّم طبعاً في التاريخ وهو غير مُتخصِّص حتى في التاريخ الإسلامي، فهذا ليس تخصّصه وهو ليس مُؤرِّخاً وإنما هو  فقيه ومع ذلك يفعل وإن كان عليه أن يلتزم حدوده، فهو يتكلَّم في التاريخ ويرفع ويضع ويُقوِّم ويعترض وربما ينجر إلى التكفير والتفسيق لبعض مَن يتكلَّمون في القضايا هذه، فما هذا؟ ما هذه الفوضى؟ ما هذا العبط والعبث الذي نعيشه؟ 

هذه حالة عبثية، وطبعاً حالة الجمهور غير المُثقَّف والبسيط والمُسطَّح تسمح لهؤلاء أن يلعبوا دور موسوعات حية، وهذه موسوعات في الجهل طبعاً، فهم موسوعات في الدعاوى وموسوعات في لا شيئ، والعوام المساكين الذين لا يفكون الخط يهزون رؤوسهم العوا ويقولون “يا ما شاء الله، هذا الشيخ علّامة، إنه يتكلَّم في الفلسفة  ويتكلَّم في علم الأحياء ويتكلَّم في التاريخ، هذا الرجل مُثقَّف يا أخي”، وطبعاً إذا أتى بمُصطلَح أجنبي فهذه – ما شاء الله – صاعقة، فإنه يصعقهم لأنه شيخ ومُعمَّم وبلحية ويتكلَّم بهذا المُصطلَح، وهو مُجرَّد رجل خالٍ طبِل، كالطبل يُسمَع صوته من بعيدٍ وجوفه من الخيرات خالٍ، فلا شيئ عنده، وطبعاً هذا يُغضِب ويُؤرِّق ويقض مضاجع العلميين ورجال العلم ورجال البحث ورجال الكلمة وأرباب القلم، فلا يُرضيهم هذا وإن كان يُرضي العوام نعم، لكن هؤلاء لا يرضون لأنهم هم قادة المُجتمَع الثقافيين اليوم أو غداً أو بعد غد، فهذا ما سيحدث، فعالم الدين أو رجل الدين بالأحرى الآن – أي الذي أصبح رجل الدين – سوف يبقى في جامعاته الإسلامية وفي مساجده، ولكن الجامعات الأُخرى يقودها هؤلاء المُثقَّفون والعلماء المُتخصِّصون الذين يحترمون تخصّصاتهم بدقة وبوجل فلا يتكلَّمون ولا يخطر على بالهم أن يتكلَّموا فيما لا يُحسِنون، ومَن تكلَّم منهم أيضاً فيما لا يُحسِن كأن يتكلَّم في الدين يأتي بالعجائب ويُنصِّب من نفسه مسخرة أيضاً لنا نحن أهل الدين، وهذايحصل أحياناً للأسف في المُجتمَع العربي، فنحن مَن يفعل هذا، نحن مُجتمَعات التعالم فالكل ما شاء الله يتكلَّم في كل شيئ، وهذا شيئ عجيب ومُحزِن.

لماذا أتكلَّم بهذه الطريقة؟!

أتكلَّم لأنني أشعر للأسف الشديد أن التقليد غلب على هذه الأمة للأسف بمُتدينيها وبمُتشكِّكيها بل وبملاحدتها أيضاً، فهذا مُؤمِن عن تقليد وهذا مُلحِد عن تقليد وبالتالي يستويان، وأخشى أن يكونا عند الله مُستويين أيضاً لأن هذا شيئ خطير جداً ومن ثم يجب أن ننتبه إليه، فهذا يُؤمِن عن تقليد ولا يُؤمِن بالله – كما قلت في الخُطبة السابقة – بقدر ما يُؤمِن بالإيمان بالله، وذاك لا يُؤمِن بنفي الله – أستغفر الله العظيم – بقدر ما يُؤمِن بقضية نفي الله، لأن هناك طائفة أو فاشون Fashion أو موضة -يسمونها بالشامي دُرجة بمعنى موضة أو فاشون Fashion – في مُجتمَع مُعيَّن في قطاع بسيط جامعي أو حتى  ثقافي عام كالموضة إلحادية – مثلاً – وهو لا يُريد أن يُبرَز أو أن يُصوَّر على أنه خارج هذه الصرعة، فيبدأ المسكين يُردِّد ويكتب ربما بعض الكتابات وهو لا يفقه شيئاً، فهذا مُلحِد عن تقليد وبالتالي يُردِّد أقوال الملاحدة لأنه لم يدخل ولم يُجرِّب مُعانتهم، لم يُعان كما عانوا ولم يُفكِّر كما فكّروا، فالإلحاد الحقيقي ضرب من التفكير والتفكير العميق، والإلحاد ليس غباءً، لكن الإلحاد الغبي هو إلحاد المُقلِّدين كالإيمان الغبي وهو إيمان المُقلِّدين، فهذا إيمان غبي وهذا إلحاد غبي، أما الإيمان اليقظ – كما أقول دائماً أيها الإخوة وأُكرِّر – هو درجة مُتفوِّقة جداً من العبقرية وبالتالي يكون المُؤمِن واعياً، ولذلك إيماننا هذا الذي نتكلَّم عنه يُمكِن أن نُفسِّر به عبقرية الصحابة العظام، فنموذج مثل عمر بن الخطاب ليس شيئاً هيِناً وليس شيئاً يُمكِن أن يُتناوَل باستسهلال واستخفاف، فلا يُقال أن عمر هو صاحب الدرة الذي يُقدِّم الحق على كل شيئ وينتهي كل شيئ، هذا كلام فارغ، فمن المُمكِن أن نُولِّد مائة ألف عمر ولا يفعلون شيئاً، مائة ألف مثل هذا – والله العظيم – لا يُحرِّكون حجراً، ولكن عمر هو رجل إمبراطور بلغة الآخرين لأنه ساس بضع عشرة دولة في وقتٍ واحد أعظم سياسة وأحكمها سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وإدارياً واجتماعياً، فهو دماغ عظيم جداً جداً جداً بشكل غير مُمكِنن هذا الرجل الذي كان بالأمس يُعاقِر الخمر أصبح الآن مُختلِفاً، فمن المعروف أن عمر كان مُدمِناً للخمر لأنه كان مُغرَماً بشيئين وهما النساء والخمر، وكان رجلاً طوالاً ضخماً عملاقاً قوياً، وكان مُصارِعاً من أشهر مُصارِعي قريش، فلا يكاد يصرعه أحد، وعنده فائض قوة وعنفوان كما يُقال، والرجل من المُفترَض أنه صاحب رسالة، لأن الله خلقه لكي يحمل رسالة لكنه لم يجد هذه الرسالة، وحين وجدها اضطلع بحملها وجوَّد جداً، وهذه الرسالة هى الإسلام، ولكن قبل ذلك كان يُفرِّغ الطاقة الفائضة الزائدة في النساء وفي الخمر، فكان يُعاقِر أحسن وأجود أنواع الخمور وكان يهتم بالنساء والجواري، فماذ يُمكِن أن يفعل هذا الرجل إذن؟ هذا رجل نساء ورجل كأس ورجل مُتعة ولذائذ، كيف يُصبِح أعظم إمبراطور وأعظم حاكم في تاريخ الإسلام وربما في تاريخ الدُنى حقيقةً؟ هذا رجل عجيب جداً، لكن هنا تأتي عبقرية الإيمان، وعلينا أن ننتبه إلى هذا، فهذه ليست  مُعجِزة غير مُفسَّرة أو غير مفهومة، وإنما هذه هى عبقرية الإيمان، فالإيمان خلق له دماغاً جديداً والإيمان خلق له عقلاً أو عقلية – Mentality Mentalität, – جديدة وطريقاً وسلوكاً جديداً في التفكير، ليس فقط في التفكير الديني وإنما في التفكير عموماً وفي كل شأن يتناوله، فتجوهر هذا العقل من جديد وأصبح جوهرة مُختلِفة تماماً، فلا تكاد تمس شيئاً إلا حوَّلته إلى شيئاً آخراً مُتألِّقاً وإلى خُطة عجيبة.

 فهذا هو الإيمان وهكذا صاغهم الإيمان، لكن نحن تلقينا الإيمان وأخذنا الإيمان ونأخذه ونزدرده ونبتلعه على أنه تقاليد، فمفاهيمنا التي نفوه بها هى تقاليد ومُقلَّدات، ليست خبرات حية وليست حتى خبرات وجدانية عشناها وكابدناها فتعكس السؤال والشك والحيرة والقلق والتقدّم والتأخّر.

 وأعود إلى مُؤمِن القرآن ومُؤمِن المُؤسَّسة، فمُؤمِن القرآن هو هذا الحي النابض، فهو كائن حي نابض مُتعضٍ في الفكر وفي الاجتماع، فينمو وتعتوره كل المظاهر التي تعتور وتعتري الحياة الحية النابضة النامية المُتحرِّكة مثل الصحة والمرض أو الصحة والاعتلال والقوة والضعف والتقدّم والتأخّر والحيرة والقلق وهكذا، فهذا هو الإيمان إذن، وفي نهاية المطاف هذا الإيمان يُشكِّل تجربةً – كما قلنا غير مرة – فريدةً ونُسخة ليس لها ضريع، فنعم هناك نُسخ كثيرة ولكن كلها مُتفرِّدة.

 هذا هو الإيمان الذي يُريده القرآن الكريم، وهذا النوع من الإيمان نفتقر إليه، فنحن إيماننا مُستنسَخ وإيمان تقليدي، والتقليد يُضاد الغموض طبعاً، فالتقليد يقف في جبهة على فيلق والغموض يقف في الجبهة المُقابلة تماماً، لكن بالنسبة للمُقلِّد كل شيئ واضح وكل شيئ مفهوم، فلم السؤال إذن؟ لم الشك؟

 لأن التقليد بطبيعته مسارات ومسارب محفورة ومسلوكة وطرق مطروقة، فقد طرقها الملايين قبلك والكل يسير في هذه الطريق الواضحة جداً، وهناك سوى ومنائر وعلامات وخُطط إرشادية موجودة، فتقول “امش من هنا، سِر من هنا عند جهة اليمين، اذهب ثلاث خطوات ثم سِر عند جهة الشمال”، وهكذا في العبادة وفي العقيدة وفي كل شيئ، ولذلك التقليد لا يُمكِن أن يُجامِع السؤال والدهشة والحيرة والقلق الوجودي والغموض أبداً، فالتقليد يُساوي ويُعادِل الوضوح، ولكن ليس وضوح البُرهان وإنما وضوح التسليم ووضوح الغباء، فالواحد منهم يُسلّم رقبته للمُجتمَع .

ومن هنا يُمكِن بهذا الشيئ الذي هو عدوٌ لكل سؤال ولكل شك ولكل قلق ولكل حيرة ولكل غموض والتباس أن يُفسِّر المُتعارِضات، فمن المُمكِن أن تجد امرأً يُؤمِن بعقيدة مُعيَّنة وتجد آخراً يُؤمِن بنقيضها ونُفسِّر الموقفين بنفس السبب وهو التقليد، فهذا يُقلِّد وهذا يُقلِّد بشكل طبيعي جداً وبكل سهولة، والتقليد يُعلِّمنا ألا نتساءل وأن نُبقي الأمور على ما هى عليه فليس في الإمكان أبدع مما كان، مع أن السؤال حين يثور  هو الذي يخلق العلماء والباحثين الحقيقيين والعباقرة والمُصلِحين والمُجدِّدين والثائرين، فالسؤال والغموض والدهشة من الأمور الهامة، والدهشة هى أم الفلسفة وأم الفكر.

هل خطر لكم أن تتساءلوا مرةً لم نتقزَز من الطعام الفلاني؟ لا يُمكِن لعربي الآن أو مسلم أن يأكل – نفترض مثلاً – الضفادع أو أمخاخ القردة الحية وهى حية كما يفعل الصينيون، لا يُمكِن ويقول لك هذا مُقزِّز، لكن المسألة ليست واضحة، فلماذا هو مُقزِّز؟ ما معنى مُقزِّز؟ هل جرَّبته؟ أنت لم تُجرِّبه فكيف تقول أنه مُقزِّز؟ ربما يكون طعمه مُقزِّزاً لكن حتى الطعم المُقزِّز لماذا أصبح مُقزِّزاً؟ ما أدراك أنه مُقزِّز؟

لماذا نرفض نحن البشر الطعم المر مثلاً؟ الواجب غير واضح، وهذه مسألة كبيرة جداً جداً، لكن لماذا يحدث هذا؟ لماذا نستحلي الحلو ونستقبح المر مثلاً؟ هذا أمر غير  واضح، ومن ثم سوف نذهب في خُطوة أوضح من هذه ونقول أن هذا مُقزِّز وهذا مُستلَذ بسبب التقليد، فهذا مُجرَّد تقليد إذن، والتقليد يعمل في العادات والسلوكات ويعمل في العقائد ويعمل في القيم فيُقال هذا عيب وهذا ليس عيباً، لكن في حقيقة الأمر هذا عندك عيب ولكنه في مُجتمَع آخر ليس عيباً بالمرة بل هو أمرٌ عادي، ولذلك أنتم تستغربون منهم وتقولون ما لهم؟ وهم أيضاً يستغربون منكم ويقولون مال لهؤلاء؟ وهذا بسبب التقليد، فكل شيئ عندنا تقليد، لكن جاء القرآن مُضاداً تماماً لهذه الخُطة الغبية التي تجمع المُتعارِضات والمُتناقِضات والمُتشاكِسات وهى خُطة التقليد، فجاء يُثرِّب عليها من أول يوم وإلى آخر يوم، وجاء لكي يُنشيء عقلية جديدة، وفعلاً تلكم العقلية الناشئة الجديدة هى التي أفلحت في أن تخلق وأن تُوجِد للناس حضارةً شكَّلت لُغزاً لغير المسلمين، علماً بأنهم اعترفوا بهذا، فالمُؤرِّخ الأمريكي من أصل بلجيكي جورج سارتون George Sarton اعترف في موسوعته الفريدة التي لم يُؤلَّف أوسع منها “تاريخ العلم” بأن حضارة المسلمين مُعجِزة – Miracle – لأن فيها شيئ غير مفهوم، لكن هذا الشيئ نحن نفهمه الآن بعد أن بدأنا في أن نضع أيدينا عليه، لكن إن فهمناه لابد أن نفهمه كما هو في عمقه وفي أصالته، فهناك أصالة حقيقية في العقلية المُؤمِنة الأولى وليس في عقلية المسلمين اليوم!

كل هذه كانت مُقدِّمة فقط أحببت أن أُسلِفها أو أن أُقدِّمها بين يدي حديثي عن شُبهات بعض العرب والمسلمين الآن الذين بدأت تأكلهم أحماض الفكر الآخر وأحماض الأفكار التي أصبحت مُتاحة للناس – كما قلنا – عبر هذا الفضاء السيبري وعبر ثورة الاتصالات العظيمة، ومن ثم علينا أن ننتبه إلى أن التقليد سيفقد مكانته وتتزعزع أركانه وأُسسه بسبب عوامل كثيرة في مُقدِّمتها رؤية الآخر والاستماع إلى الآخر،  ولذلك الكشوف الجغرافية في أوروبا هنا والسفر الذي تلا الكشوف الجغرافية وامتدت نُطقه كان السبب في أنهم بدأوا يتعرَّفون على حضارات أُخرى ودوائر ثقافية أُخرى، وكان هذا أحد أسباب الإلحاد في أوروبا، فهناك علاقة بين السفر والإلحاد طبعاً، لأن المسيحي الغربي هنا في أوروبا كان يظن أن العالم كله هو عالم الرب المسيح أو عالم الرب المصلوب، وأن الدنيا كلها لا تعرف إلا هذا الدين لأن هذا الدين كالفطرة وكالهواء وبالتالي الكل يعرفه ويدين به، لأنه لا يرى إلا مَن يدين به، لكن مع الكشوف الجغرافية وتطوّر الصناعات البحرية قليلاً وصناعات السفن والنقل البحري بدأوا يُسافِرون، يقول المُؤرِّخون – مُؤرِّخو الأفكار – هنا “في القرن السابع عشر عاد المُبشِّرون المسيحيون الأوروبيون من الصين ومعهم بذور الإلحاد، فالمُبشِّر عاد شبه مُلحِد”، لماذا؟!

كانت الصدمة الأولى أنهم اصطدموا بثلاثمائة مليون من البشر في المُجتمَع الصيني – كان ثلاثمائة مليون وليس ملياراً ونصف مثل اليوم، لكنه كان أكبر مُجتمَع على الإطلاق، فلم يكن على وجه الأرض أي بلد تحتوي على ثلاثمائة مليون من البشر إلا الصين فقط، فهى دائماً رقم واحد في هذه الزاوية – لم يسمعوا بالمسيح، فلأول مرة يسمعوا بالإسم هذا، ويقولون مسيح ماذا؟ وكريستوس Christus ماذا؟ فهم لم يسمعوا عنه، ومع ذلك توفَّرت لهم فلسفات ونماذج للعيش وأنماط للسلوك سليمة إلى حد مُدهِش، فبنوا مُجتمَعاً مُستقِراً مُتكافِلاً وواعياً وعنده قيم – Werte Values, – مثل القيم الأخلاقية والقيم الاجتماعية والتعاونية، وهناك إمبراطوريات تعاقبت على هذا البلد الشاسع المُترامي الأطراف، والحال أنهم لم يسمعوا بالمسيح يوماً، إذن هناك شك في أمر المسيح كله، فبدأ الشك والإلحاد إذن.

والمسلم يحدث معه نفس الشيئ الآن، فهو يأتي إلى أوروبا وإلى الغرب الأمريكي أو إلى أي مكان، ويبدأ يرى أن هناك بشراً يُفكِّرون بطريقة غير التي تعوَّد أن يُفكِّر بها وأن هناك حُججاً للإلحاد وللكفر وللعلموية تنقد الحُجج البسيطة المُسطَّحة التي يُقدِّمها علماء الدين عنده بسرعة، ومع ذلك عالم الدين المسكين عنده يظن نفسه أنه يستطيع أن يُجادِل أكبر مُلحِد في العالم، وفي حقيقة الأمر هو مسكين ولا  يُجادِل إلا  التاريخ، فهو لم يُجادِل المُعاصِرين وهم أُناس لا يُستخَف بهم في الغرب هنا ولا في غير الغرب لأنهم فلاسفة كبار جداً جداً جداً وطَّنوا أنفسهم على أن يُعيدوا السؤال في كل القضايا موضع البحث بغير مُجامَلات، لأنهم يعيشون في مُجتمَعات مُتحرِّرة طبعاً ولا يُوجَد فيها هيمنة دينية ولا حتى أي هيمنة من نوع آخر، فهم مُتحرِّرون تماماً، والآن في هذا العصر بالذات لا يتحدَّثون بما يحلو لهم الحديث لأن هناك تنافس علمي وفكري قوي جداً جداً ومُخيف لا يسمح بالألاعيب الفكرية أن تطفو على السطح، وإلا تُصبِح الأمور مسخرة مثل مساخر رجالنا، لكن لا يُوجَد أي مسخرة عندهم، فأنت حين تتكلَّم عليك أن تتكلَّم باقتدار لأن سيتصدى لك أُناس على مُستوى رفيع جداً وبالتالي سوف تتحطَّم معنوياً، فلا يُوجَد لعب هنا أبداً، لكن يأتي شبابنا المساكين – كان الله في عونهم – وخاصة الذين يقرأون العلوم الإنسانية – كان الله في عون هؤلاء والله العظيم – ويخوضون هذا، فتبدأ لديهم شُبهات عجيبة وغريبة، واليوم أنا أردت أن أعرض لشُبهة وجدت كثيرين من أبنائنا العرب والمسلمين للأسف يقعون فيها، فهؤلاء أصبحوا بين البينين ولا يدرون هويتهم العقدية ما هى حقيقةً، وربما كانوا للأسف كما يظهر أقرب إلى الإلحاد والنفي والإنكار، لكن في البداية لابد أن أُسجِّل حقيقة أعترف بها وقد ذكرتها اليوم ضمناً، فلسنا نحكم بالغباء ولا بالمرض العقلي والنفسي على كل إنسان يتساءل ويتشكَّك، بالعكس هذه وظيفة العقل، وعلينا أن نكون ذوي مصداقية حين نُجاهِر بالحقيقة القرآنية وهى أن القرآن يُناشِد العقل ويطلب البُرهان ويُوقِّر الحكمة والحُجة والسُلطان، فعلينا أن نكون مُتناسِقين مُتناغِمين مع هذه الدعوى الصحيحة وأن نحترم بالتالي من حيث الأصل ومن حيث الأساس ومن حيث أتى كل ما يتمخَّض عنه الفكر والسؤال والقلق والشك والبُرهان، لا نُسلِّم به ولكن قد نختلف معه فنقول “نحن نختلف لأن لدينا حُجة أُخرى ونحن نحترم هذا المسلك ونحترم هذه الطريقة ولكن اسمح لنا أن نُناظِرك، اسمح لنا أن نتعاطى القول معك”، وهو سوف يُرحِّب بهذا، فلا أن نحكم عليه ابتداءً كما كان يفعل الغرب بأنه كافر ومُرتَد وأنه لو أمكنتنا الفرصة لأرحنا منه البلاد والعباد ولو حكمنا بشرع الله لقطعنا رأس هذا المُرتَد، فنفس الشيئ هذا حصل في الغرب ثم خسر الدين هنا، فالعلم والفكر لم يخسر وإنما الدين هو الذي خسر، وبالتالي سوف يخسر عندنا إن ظللنا نُفكِّر بهذه العقلية.

 القرآن قال لك “أنا مع التفكّر ومع التعقّل ومع السؤال”، فالقرآن دائماً لا ينفك يطرح الأسئلة لأن أسلوبه أصلاً هو التساؤل، وبالأمس استمعت إلى تربوي كبير هنا في النمسا ضمن سيمنار Seminar علمي يطرح كلاماً قلت عنه أن هذا الكلام كله معروف لدي كمسلم تالياً للقرآن – معروف وبعمق – ولطالما درَّسته لأحبابي وإخواني، لكن ماذا كان يقول؟!
كان يقول “هناك نوعان من الثقافة: ثقافة المعلومة وثقافة السؤال”، وهو كان يسخر طبعاً بل كان مملوءً بالسخريةً من المُجتمَعات المحكومة بثقافة المعلومات –  Informations – لأنها لا تُعطي إلا المعلومات فقط، علماً بأن وضعي هذا الآن في نهاية المطاف إن بقيَ هكذا ليس صحيحاً، ولكن أنا أُخفِّف وأُلطِّف من وضعي كخطيب أتكلَّم وأنتم تسمعون على مدار ساعة لأن هذا الوضع فيه شيئ كبير لابد أن يُصحِّح بأنني أقوم بدور حتى السائل والمُتسائل على ألسنة الآخرين، فأنا لسان حالهم وأنا أعرض هنا ما يقولون، وأيضاً مثالي هنا وقدوتي القرآن العظيم، فالقرآن أكبر كتاب – ليس على المُستوى الديني فقط وإنما بشكل عام – على وجه الأرض خلَّد كتاب المُعارِضين والنُفاة والكافرين، فالقرآن فعل ذلك بوضوح، فحتى أسوأها وأبشعها وأشنأها في حق الله وفي حق الرسول وفي حق المُؤمِنين وفي حق القرآن وفي حق البعث وفي حق الإيمان وفي حق الأنبياء خلَّدها، ونحن نفعل هذا الآن ونحن مُطمئنون – بفضل الله تبارك وتعالى – لأن خُطتنا من القرآن وإلى القرآن، فهى تصب في سبيل القرآن وفي مصب القرآن نفسه، وبالتالي نُحاوِل أن نفعل هذا!

على كل حال في ثقافة إعطاء معلومات لا يُطرَح أي سؤال ويتم الاكتفاء بالمعلومات، لكن هناك ثقافة أُخرى وهى ثقافة السؤال، ووددت أن أقول لهذا المُتكلِّم  في السيمنار Seminar العلمي لكن لم يكن فرصة أن المُفكِّر المسلم الكبير عليّ عزت بيجوفيتش Alija Izetbegović  – رحمة الله عليه – علماً بأن هذا خرِّيح المدرسة القرآنية  – طرح عبارة تُكتَب بماء الذهب وذلك حين قال “فقط مَن يطرح السؤال هو الذي يسمع الجواب”، وهذا الأمر يجب أن ننتبه إليه، فأنت إن لم تطرَح سؤالاً لن تفهم الجواب عنه أصلاً، ستسمعه ولكن لن تفهمه لأن السؤال يُساوي قلقاً ومُعاناة وتجربة ذاتية في الشك والبحث، فالذي لم يمر بهذه المُعاناة لن يفهم السؤال حتى يفهم الجواب، وهو يظن أنه سمع السؤال وسمع الجواب وفقه الاثنين، وهذا غير صحيح، فوالله لا فقه لا هذا ولا هذا، وسيكتشف يوماً في يوم قريب أنه لم يفقه لا السؤال ولا الجواب وذلك حين يمر بمُعاناة السؤال ذاته فيقول “هذا هو السؤال وهذا هو الحجم الحقيقي للسؤال لكنني لم أكن أدري هذا، فيا ويله وتباً له من سؤال مُدمدِم مُزلزِل، لقد زلزلني حتى الأركان”، فهذا السؤال مُزلزِل ولكنك لم تتزلزل من قبل لأنك لم تفقهه ولم تكن قد ارتقيت بعد، ولذلك هنا أقتبس العبارة العجيبة جداً واللطيفة والعميقة للفيلسوف الإنساني الروائي العالمي ديستوفسكي Dostoevsky التي يقول فيها “يقف الإلحاد الكامل أو التام – Perfect Atheism – في أعلى السلم، ولكن في درجةٍ أدنى من تلك التي تقود إلى الإيمان التام Perfect Faith”، وهذه كلمة عجيبة جداً، فكأنه يقول “الإلحاد المُتسائل والقلق ليس غباءً وليس مرضاً وليس جنوناً، إنه درجة عالية جداً ومُتقدِّمة من الذكاء طبعاً، ولكن تبقى دائماً دون درجة عبقرية وذكاء الإيمان  الكامل”.
فالمُؤمِن الكامل لابد أن يكون أكثر عبقريةً من أي مُلحِد مهما كان هذا المُلحِد عبقرياً أو فيلسوفاً أو عالماً كبيراً جداً مشهوداً له، ولكن هذا لا يأتي عبر التقليد وإنما يأتي دائماً عبر البحث والبرهنة وعبر السؤال والقلق والشك، فهذا هو إيمان السؤال والبحث وهذا هو إلحاد السؤال والبحث، أما إيمان التقليد وشك التقليد فيستويان تماماً، ولا تستطيع أن تُفرِّق بينهما في نهاية المطاف.

 على كل حال هؤلاء للأسف يتذرعون بعبارة للعالم التطوّري الشهير طبعاً تشارلز داروين Charles Darwin يقول فيها “لا أستطيع أن أقتنع – أي أنه عقله لا يقبل هذا ولا يقدر على أن يقبله، فالرجل حُر وصادق الرجل مع نفسه – أن رباً رحيماً كُلي القدرة هو الذي قصد – أي نوى – إلى خلق الدبور أو أنواع من الدبابير –  إسمه الدبور النمسي – وجعل غذاءه في بطون اليرقانات الحية، ولا أستطيع أن أفهم أن هذا الرب هو الذي جعل القطط تلعب بالفئران”، فهويُحِب أن يقول: ما نراه في الطبيعة من صراع دموي عنيف كاسر أحمر شرس ناباً ومخلباً وظفراً من الصعب أن نُسلِّم معه بوجود رب كُلي القدرة ورحيم بمخلوقاته ورحيم بعباده، فكيف يحدث هذا؟

وطبعاً الذي ربما يُتابِع أفلام قناة البي بي سي BBC وقناة ناشيونال جيوجرافيك National Geographic  العلمية وإلى آخره سوف يثور عنده نفس الشعور،فبعض الناس عنده هواية أن يُتابِع هذه الأفلام عن عالم الطبيعة وخاصة تلك التي عن المُفترِسات Predators، ومن ثم يحدث معه الشيئ نفسه ويثور عنده نفس الشعور فيقول: أين الرحمة هنا؟ لماذا هذه الغزالة المسكينة أو هذه الظبية التي يتغزَّ بها شعراء العرب في الجاهلية أكثر منه حتى في الإسلام يفترسها هذا النمر الخبيث أو هذا الأسد الكاسر أو هذا الذئب الغدّار بهذه الطريقة الوحشية على مرأى من عيني أمها المفجوعة المكلومة المكروثة؟ أين الرحمة؟ لماذا يحدث هذا؟

فداروين Darwin المسكين فكَّر بهذه الطريقة، وهنا طبعاً ينتصب المُؤمِن ليقول “الجواب سهل وواضح وقريب جداً، فهذا المسلك الدارويني أو هذا الاعتراض الدارويني يتضمَن إسقاطاً  Projection، بمعنى طرح شيئ على شيئ أو إكساب شيئ صفة شيئ، فهو يتضمَّن إسقاطاً لمنظور إنساني قائم على تفاعلاتنا وعواطفنا وانفعالاتنا، فطبعاً نحن كبشر نتأذى من هذا، والذي يقول أنه لا يتأذى هو إنسان خالٍ من المشاعر، بل من المُمكِن أن سيكوباتياً ومُختَلاً ومَضطرباً في الشخصية، فأنت تتأذى بلا شك حين ترى هذا الضعيف المسكين يلتهمه هذا القوي الشرس بهذه الطريقة الفجة العنيفة الدموية، ويتأذى أي نسان بشكل عام بلا شك ، بل نحن نتأذى ونحزن ونتألم حين نذبح خروفاً للأُضحية، فنحن بشر وعندنا رحمة والحمد لله – اللهم اجعلنا كذلك دائماً – وبالتالي هذه هى انفعالاتنا كبشر، فيهزنا منظر الدم ومنظر اختلاجة الحياة والرمق الأخير، ويهزنا منظر الأم المكلومة حتى في الحيوانات فكيف في البشر؟ يهزنا هذا بلا شك كما هز داروين Darwin، فنحن نهتز لهذا أيضاً، لكن المُؤمِن يقول “نعم أنا أهتز ولكنني أُفرِّق وأنا واعٍ بأن هذا القول وهذا الاعتراض وهذا الشك والتشكيك هو نوع من الإسقاط والرمي، بمعنى طرح صفاتنا البشرية على رب العالمين، فنظن أن الله يتأثَّر مثلنا بالدم وباختلاجة الروح وبمنظر الأم المكلومة مثلما يتأثَّر أي كائن بشري وهذا خطأ”، وإلى هنا المُؤمِن واثق من حُجته، لكن هنا يقول له المُلحِد: تعال – Come on – لقد سقطت في يدي، سأرميك بأحجارك ، فأخبِرني أيها المُؤمِن الذكي إذن عن أي منظورٍ تتحدَّث؟ بأي منظور أنت ترى الأمور؟ بماذا تصف ربك؟ كيف ساغ لك إذن أن تصف الله – عز وجل – بأنه رحمن رحيم؟ إذا كانت الرحمة التي تصف بها الله لا تكترث بالضعيف حين يفترسه القوي ولا بالدماء ولا بالحروب ولا بالأمهات الثكالى ولا بالأيتام ولا بكل هذه الأشياء التي تهزنا من الأعماق نحن البشر الضعاف فماذا يبقى من معنى الرحمة؟ إذن ما هى الرحمة التي تُؤمِن بها؟

وهذه حُجة خطيرة، وهذا المُلحِد ليس غبياً، فإلى الآن المُلحِد أثبت أنه أذكى من هذا المُؤمِن حتى ولو كان شيخ المشائخ، فهذا المُلحِد سوف يصرعه، وبالتالي علينا أن ننتبه إلى أن هذه الحُجة تصرع هذا المُؤمِن إذا وقف لديها المُؤمِن، لأن انقطاع هذا المسكين يدل على أنه قد صُرِعَ.

 فالمُلحِد يقول له: أنت تُصر على أنه رحمن رحيم وتُعرِّفنا به وعليه على أنه رحمن رحيم، لكن ما الذي يبقى من معنى رحمته إذا اتسعت رحمته لكل هذا الافتراس ولكل هذه العذابات ولكل هذه المشاهد الدموية بالأحمر القاني؟!

سنرى هل يقف المُؤمِن؟ كلا، هنا يتقدَّم مُؤمِن القرآن، فالقرآن يبقى دائماً رائداً، وهكذا تتجلى عظمة القرآن، وسأُوضِّح لكم القضية هذه ولذلك أنا افتتحت خُطبتي اليوم بآيات آيات الوزن والميزان من سورة الحجر، فكلها تتحدَّث عن الوزن والتقدير والميزان، لأن المسألة لا تعكس لا عجزاً ولا بُخلاً وإنما تعكس حكمةً وتدبيراً، وأول ما أُحِب أن أقوله لكم هو أن الله – عز وجل –  يقول وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ ۩ وقال أيضاً وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ۩ فضلاً عن أنه القائل أيضاً في الرحمن وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ۩،  ويُبادِرنا سؤالٌ الآن – والمفروض أن نحن الذين نُبادِر هذا السؤال أو  نُبادِر به هنا – وهو: هذا الميزان من أي معيار ومن أي قياس ومن أي حجم؟!

المُشكِلة أن هذا الميزان ليس ميزاناً للأفراد ولا حتى للأنواع مثل نوع مُعيَّن فقط، ولا حتى لكوكب الأرض، والقرآن هو الذي يقول هذا، وبالتالي علينا أن ننتبه إلى هذه المسألة العجيبة جداً جداً جداً، فهنا الله يُريد أن يُحرِّرنا من المسلك الأنسني Anthropomorphisation، بمعنى أنه لا ينبغي أن نُؤنّسِن الله أو أن نتحدَّث عن الله على أنه فعلاً بشرٌ من مقاسنا نحن وبمعاييرنا نحن وبعقليتنا نحن، أعوذ بالله من هذا، فهذه وثنية ومع ذلك يقع فيها علماء دين كبار أصلاً دون أن يشعروا، فالمُلحِد معذور إذن إذا وقع فيها أو احتج بها وبلوزامها.

 في يوم من الأيام كتب الفيلسوف اليوناني كسينوفان  Xénophane  قائلاً “إن هوميروس Homer وهزيود Hesiod – شاعران شهيران جداً – يُصوِّران الآلهة على أنها من جنسنا نحن البشر، فيأكلون مما نأكل ويشربون مما نشرب، بل فضلاً عن ذلكم يلبسون كما نلبس ويُصوِّتون بالأصوات التي نُصوِّت بها، وظني أن الثيران والسباع والخيول لو أُوتيت قدرة الرسم والتصوير لرسمت آلهتها ثيراناً وتلك خيولاً وتلك أسوداً، إن زنوج الحبشة يعتقدون في آلهة سوداء اللون، أما سُكان تراقيا Thrace فيتحدَّثون عن آلهة يُؤمِنون بها شُقر الشعر وزُرق العيون”،  وهذا يدل على ذكاء هذا الرجل، فهو يتحدَّث عن هذا القصور البشري وعن هذا المسلك الإنساني الذي هو منبع الوثنيات، لكن هل القرآن كذلك؟!

أنا سأُعطيكم فقط لمحة سريعة وعلى كل شخص عنده نشاط أن يبحث وأن يُصبِح باحثاً في الأديان المُقارَنة أن يُكمِل المسيرة:

 قارِن بين إله التوراة والإنجيل وبين إله القرآن – علماً بأن إله الإنجيل كان قبل خمسمائة أو ستمائة سنة من إله القرآن – وسوف تجد قفزةً غير مُبرَّرة بحسب تطوّر الأفكار، وهذا هو المفتاح الذي سأُعطيكم إياه، فهناك قفزة غير عادية بين الأمرين، فالله الذي يتحدَّث عن نفسه في القرآن – والله العظيم – لا نجد له ضريعاً ولا شبيهاً في أي كتاب ولا فلسفة، ولذلك نحن نُؤمِن به من أعماقنا أكثر مما نُؤمِن بأنفسنا، ففعلاً هذا هو الإله، ولا يُمكِن أن يتناقض هذا الإله فيما أخبر عن نفسه وفيما أخبر به – والله – لا مع عقل ولا مع علم صحيح ولا مع منطق رجيح إطلاقاً، وهذا ليس خطاباً نقوله هكذا بل سُنبرهِنه، ودائماً نحن نُحاوِل أن نُبرهِن هذه المقولة.

 هل تعرفون هذا الميزان من معيار أو عيار ماذا؟ من عيار الكون، ولكن من أين من أين أخذت هذا؟ من الآية التي تقول وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ۩، فهذا الميزان بُنيَ به الكون، فهو ليس فقط لفأر أو لغزالة أو لأيل من الأيائيل أو لجون John أو سعيد من الناس أو لهذه الأمة أو لتلك أو للأرض كلها أو للمجموعة الشمسية أو لمجرتنا وإنما للكون كله، وسأُوضِّح هذا بخُطوة أكثر تقدّماً الآن.

 ائتوني بأكبر فيلسوف مُلحِد أو حتى مُؤمِن يتكلَّم عن مُستقبَل البشرية في البليون سنة القادمة، لا أحد يستطيع أن يفعل هذا، مَن يستطيع أصلاً أن يختط هذه الخُطة التي تتعلَّق ببليون سنة قادمة؟ لا أحد يعلم ماذا سيطوي الغيب القريب في رحمه فضلاً عن أن يتكلَّم عن بليون سنة إلى الإمام، ولكن العلماء الآن بدأوا يُعوِّدوننا أن مصير هذا الكون –  وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ۩- رهنٌ بعوامل كثيرة يتحدَّد بها ووفقها ميلاد نجم وأفول نجم  كشمسنا – Our Sun – هذه مثلاً، ولذلك يقولون مُستقبَل الشمس مُقلِق جداً، وهو مُستقبَل فانٍ في ظرف خمسة بليون سنة، فبعد خمسة آلاف مليون سنة سوف تُعاني الشمس من مشاكل، أي بعد خمسة آلاف مليون، فيا رب عن ماذا يتحدَّثون هؤلاء؟ عن خمسة آلاف مليون، ومع ذلك بعض الناس يرى أن هذا الحديث لا وزن له، وهذا غير صحيح، بالعكس هذا هو الوزن كله، فهذا الحديث يُقرِّبنا الآن مِن مُحاوَلة أن نُقارِب خُطة الله في الخلق وكيف يُدبِّر الله وكيف يرعى الله، وسلوا الآن أنتم مُدير شركة كبيرة أو رئيس حكومة في دولة كالنمسا – مثلاً – أو مصر أو سوريا أو تونس أو أي دولة أُخرى حين يختط خُطة للشركة أو للبلد مع جماعته ماذا يُراعون؟ لا يُمكِن ولا يخطر على بالهم أن يُراعوا حال السُكان فرداً فرداً فيُراعون حال هذا وحال هذا وإنما يُراعون حال السُكان ككل وكمجموعة، أي حال الأمة وحال الشعب ككل، وهذا طبعاً له تضمينات كثيرة جداً جداً جداً ولا نُحِب الآن أن نُطوِّل بذكرها، لكن كيف إذا صار الكلام عن رب كريم رحيم – لا إله إلا هو – يرعى الكون كله بميزان؟

نعود الآن إلى الشيئ الذي اشمئز منه داورين Darwin وسوَّغ للمُلحِد أن يتساءل ما الذي يبقى من معنى الرحمة التي تنعتون بها ربكم إذا تخليتم عن هذا المعنى الذي هزنا؟ وأنا سأُجيب بمنطق القرآن – هذا ليس من عندياتي أو من فلسفتي وإنما من القرآن – وأقول لكم:

يبقى التوازن Balance، أي توازن الطبيعة Balance of Nature، علماً بأننا الآن نحن نتحدَّث عن طبيعتنا وليس عن الكون كله، فالذي يبقى هو التوازن والاستمرار والكرم، فيبقى الاستمرار المُقيَّد والمشروط بالتوازن.

ولذلك لو تساءلنا – وهذا السؤال إيماني وقرآني وفلسفي إلى حدٍ ما – هل هذا التوازن رحيم أم هى رحمة مُتوازِنة؟ سوف نرى في نهاية المطاف ما هو الجواب الصحيح، وهذا السؤال عجيب وقد يبدو غير واضح لكنه يُعتبَر سؤالاً عميقاً.

إذن الذي يبقى التوازن، لكن ما معنى هذا الكلام؟!

الله حين خلق الأنواع وما تفرَّع عن الأنواع طبعاً – وهناك الآن على كوكبنا تدب وتعيش وتنشط ملايين الأنواع وملايينها – خلقها بكرمه لكي تبقى وتستمر، لم يخلقها ليُفنيها ولم يخلقها لتفنى على أيدي الآخرين وإنما خلقها لكي تبقى، والعجيب أنها تبقى وتبقى إلى مائة ألف سنة ومائتين ألف سنة وبعضها إلى ملايين وبعضها إلى  سبعين مليون سنة ولا تزال تعيش إلى اليوم، فهناك ديدان ضعيفة جداً جداً جداً تعيش من سبعين مليون سنة، وبعض الأشنات البسيطة والطحالب التي تعرفونها تعيش في ظروف صعبة جداً جداً جداً، ومع ذلك تعيش من عشرات ملايين السنين في أصعب الظروف، قال الله وَكَأَيِّن مِّن دَابَّةٍ لَّا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ۩.

فإذن يبقى التوازن، لكن هذا التوازن مشروطٌ مرهونٌ بالتدافع والصراع – صراع الناب والمخلب والظفر – وبالحرب والسلم، فهذا التوازن ولا يكون ولا يبقى بغير هذا، فلو أشفقنا كما أشفق داروين Darwin المسكين وأردنا لكل نوع أن يبقى كما هو في جنة الأرض وفي عدل الأرض الخيالية حيث لا جنة ولا عدل هنا – هذه الأرض Earth ليس فيها أي عدل – سيفنى الجميع، أنا أقول لكم أن الجميع سيفنى، فهل سيكون داروين Darwin راضياً؟!

إذن داورين Darwin يتحدَّث عن معالم خُطة لم يفقهها أصلاً، لو قال “أنا أقترح على رب العالمين إن كان موجوداً أن يُوجِد كوكباً غير هذا بالكُلية من حيث أتى” سوف يُوجَد مجال للكلام معه حين إذ، ولكنه يتحدَّث عن هذا الكوكب بأنواعه وفصوله وعائلاته وعشائره ويُريد ألا يرى الفارس والمُفترِس والصياد والطريدة والقوي والضعيف، فالرجل مُتناقِض ومسكين ولم يفهم حتى خُطة بقاء الأنواع التي حدَّثنا عن أصلها.

الكلام إلى الآن نظري، سأختم – إن شاء الله – بنماذج سريعة عملية لكي نفهم:

الحشرات – مثلاً – وهى كائنات عجيبة غريبة ومُضِرة بشكل عام للنوع البشري – هكذا نظن – لو تُرِكَت لتتكاثر وحدها فإننا سنجد بعد شهور يسيرة جداً جداً أو بعد سنة قطعياً – هذا أمرٌ قطعي وليس أمراً مُرجَّحاً – أنه لن يبقى أي نوع آخر، وسوف يكون الإنسان هو أول الزائلين وينتهي كل شيئ.

لكن أقام الله – تبارك وتعالى – لها ما يُوازِنها وما يُعدِّل نسبتها وما يُعدِّل وجودها وفاعليتها، ومن ذلكم طبعاً عشرات الأشياء مثل العناكب، فهل تعلمون أن العناكب تفترس في كل سنة من الحشرات ما يبلغ وزنه وزن ثلاثة ملايين من البشر اليافعين البالغين؟ لك أن اتخيَّل مذبحة فيها ثلاثة مليون إنسان، والعناكب تقوم بهذه المذبحة سنوياً، فالعناكب تفترس ما يُعادِل وزن ثلاثة مليون من البشر سنوياُ فيحصل هذا التعديل أو هذا التعادل.
في سهوب شمال غرب أريزونا Arizona في الولايات المُتحدة الأمريكية في أول القرن العشرين المُنصرِم كانت هناك منطقة في أحد هذه السهوب وفيها أربعة آلاف أيل Elk، وهذه الأيائيل Elks تعيش باستقرار وتوازن بحسب خُطة الله وليس بإشفاق داورين Darwin والملاحدة أو مُقلِّدي الملاحدة وإنما بحسب خُطة الله –وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ۩ – لكن الحكومت سمحت للأسف بسبب الجهل والقصور البشري للصيادين أن يقتلوا وأن يصطادوا مُفترِسات الأيائيل – Elks – كالذئاب والكَوْجر Puma – الكَوْجر Puma هو كائن معروف وهو نوع من القطط الكبيرة يُشبِه الفهد الليبورد  Leopard – فبدأوا في الصيد، وأعملوا فيها الأسلحة النارية قتلاً وفتكاً.

هذا كان في ألف وتسعمائة وسبع، لكن في ألف وتسعمائة وأربع وعشرين زاد عدد الأيائيل من أربعة آلاف إلى مائة ألف أيل، وهذه مُشكِلة كبيرة، فكيف هذا؟ كيف تتغذى؟ كيف تمتد؟

الذي درس علم التوازن البيولوجي والتنوع الحيوي أيضاً يعرف أن الكائنات تحتاج فضلاً عن الغذاء والماء إلى الغطاء – هذا شيئ إسمه الغطاء، وهذه موضوعات مُعقَّدة جداً في الإيكولوجيا Ecology – وهذا لم يتوفَّر لهذه الكائنات، ولذلك في ظرف عامين هلك نصفها – هلك خمسون ألفاً – وظل الهلاك فاعلاً فلم نبلغ سنة ألف وتسعمائة وتسع وثلاثين حتى عاد عددها إلى عشرة آلاف، فبقدرة الميزان الذي أوجده الله – تبارك وتعالى – عاد مُجتمَع الأيائيل إلى توازنه.
وفي ولاية أُخرى في أمريكا الشمالية حدث نفس الشيئ، حيث انزعج الفلاحون جداً وغضبوا من كثرة الطيور الجارحة التي تأكل أعداداً يسيرة من دواجنهم – من الحيوانات الداجنة كالدجاج وغيره – فاسترخصوا وبدأوا أيضاً يُطلِقون عليها النار، فخلا تقريباً منها الجو إلا قليلاً ومن ثم استراحوا لكن لم تطل راحتهم، فلم يُعتِّموا  بعد بضع سنين – سنوات قليلة – إلا وقد هاجمتهم جحافل مهولة مُفزِعة من الأرانب البرية – مئات الآلاف أتت – التي لا تذر من شيئ أتت عليه إلا وجعلته كالرميم، فهى تأكل الأخضر واليابس، وبالتالي غضبوا جداً جداً جداً لأن مُصيبة الطيور الجارحة كانت أحسن منها، فأعملوا فيها أيضاً الأسلحة قتلاً وذبحاً وفتكاً، وامتلأت بجثثها الأرض واسترحوا ولكن إلى حين أيضاً، فبعد بضع سنين يسيرة جداً – بعد سنتين أو ثلاث سنوات أو أربع سنوات – وإذا بجو السماء بل أجواء السماء تمتليء بالطيور الجارحة – النسور والعقبان والبوازي والشواهين – من عند آخرها، فجُنَّ جنونهم وحين إذن استنجدوا بالعلماء وقالوا لهم: أيها العلماء هذه المسألة مُعجِزة، ومن ثم أعجزتنا جداً، فما الذي يحصل؟!

فقالوا لهم “أعطوا ما لله لله وما لقيصر لقيصر، فهذه المسألة مسألة إلهية وأنتم حين  تدخلتم فيها أفسدتم التوازن Balance”، فهناك توازن لابد أن يُحترَم، قال الله مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ ۩، لذلك دائماً ما أقول “على مائدة النمر الهندي يُوجَد دائماً الطاووس ويُوجَد الأيل ويُوجَد حيوانات كثيرة صغيرة، وهذه الكائنات هكذا من ملايين السنين ولا تزال موجودة، ومع ذلك لم يفن لا الفارس المُفترِس ولا المُفترَس، فهذا موجود وهذا موجود، لأن الذي خلقها يُريد أن يُبقيها، وهو الذي يرزقها تبارك وتعالى!

إذن قال العلماء للفلاحين “دعوا ما لله لله وما لقيصر لقيصر”، فتركوها وبعد بضع سنين عاد التوازن إلى البيئة، لكن داروين Darwin لم يفهم هذه الخُطة، فالله – لا إله إلا هو – الذي خلقها يُريد أن تكون محكومة بهذه الخُطة، وهذا سر من أسرار ابتلاء العقل الإنساني، فنسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُعلِّمنا الدين وأن يُفقِّهنا في التأويل وأن يفتح علينا فتوح العارفين. 

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

أما بعد أيها الإخوة:

في الحديث الصحيح قال عليه الصلاة وأفضل السلام “لولا أن الكلاب أمةٌ من الأمم لأمرتُ بقتلها”، إذن النبي هنا يتلحَّظ أو يتلمَّح ماذا؟!

يتلمَّح انبغاء بل وجوب بقاء واستبقاء الأنواع، أو ما يُعرَف باستمرارية أو استدامة الأنواع، فلابد أن تبقى هذه الأنواع، لأن أي نوع من الأنواع خلقه الله لا ليفنى بل ليبقى.
والعجيب أن هناك مبدأً في علم الأحياء إسمه مبدأ أو قاعدة فولتيرا Volterra، وهذا المبدأ سوف نُلخِّصه ونختم به الآن، مبدأ فولتيرا Volterra – مثل فولتير Voltaire ولكن في نهاية الكلمة ألف – يقول الآتي:

يُوجَد دائماً توازن بين المُفترِس والمُفترَس، فإذا تدخَّل عاملٌ غير محسوب لإخلال نسبة عشائر الفرائس – مثلاً  – يحدث انحدار غير مُتوقَّع وغير مُتجانِس في نسبة المُفترِسات حتى يعود التوازن.

وهذا هو بعض الميزان وبعض أفعال الميزان الإلهي الذي أودعه الله – تبارك وتعالى – وأجرى الكون على سُنته ووفق خُطته.

(22/11/2013)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: