إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

 

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ۩  وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ۩  وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لّا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ۩  قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ ۩  وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ۩ 

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:

من هذا الاستهلال المُبارَك بهذه الآيات النيِّرات يضح أن خُطبة اليوم ستكون وصلاً للخُطبة السابقة بحول الله تبارك وتعالى، ولكي لا نُضيع الوقت ونُسجيه في مُقدَّمات وتذكيرات أُلخِّص بجُملةٍ فأقول:

أفعاله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – الجبلية باستثناء ما ظهر منه وجه القربة لله – تبارك وتعالى – ليست باباً من أبواب التشريع، فليست باباً من أبواب التشريع أفعاله الجبلية من أكله وشربه ونومه ويقظته وإلى آخر هذا النمط من الأفعال، وهناك أفعاله العادية في مُعتاد أحوال الناس وشؤونهم وآراؤه وأنظاره المبنية على التجاريب – أي على التجارب والاختبارات، فهذه أيضاً من حيث الأصل ليست من باب التشريع، وقد يطلِبُ أو يطلُبُ المُستمِعُ والمشاهدُ مثلاً أنموذجاً لذلكم، والمثل الأشهر هو الطب، فالطب النبوي له – عليه الصلاة وأفضل السلام – ليس طباً تشريعياً إنما هو من هذا النمط، آراء وأنظار له عليه الصلاة وأفضل السلام – مبنية على التجارب وعلى المعتاد، وأكثر طبه على الإطلاق – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيرا – إنما هو طب العرب، فهم يعرفونه قبل أن يقوله النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – طبعاً، ولذلك الإمام ولي الدين العلَّامة ابن خلدون – رحمة الله تعالى عليه – في مُقدِمته حين تناول وعرض لهذه المسألة جعل طبه – عليه الصلاة وأفضل السلام – من جنسِ طب عجائز ومشائخ العرب لأنه معروف ومزبور ويُشافِه بعضهم به بعضاً، ولا نُريد أن نُمثِّل لطبه فكلكم تعرفون نماذج وأمثلةٍ كثيرة كالحبة السوداء وكألية الشاة العربية دواءً لعرق النسا وهذا مرض يُعاني منه الناس إلى يوم الناس هذا، فوصف ألية شاة عربية يُذابُ شحمها – وهى شحمٌ محضٌ – ثم تُجزَّأ ثلاثة أجزاء، ويشرب كل يومٍ على ثلاث مرار ثلثاً منها، وهذا الطب من طب العرب لكنه ورد عنه عليه الصلاة وأفضل السلام، وأيضاً قوله – عليه الصلاة وأفضل السلام – فيما صح عنه “لا عدوى”، فالنبي يُنكِر أن هناك عدوى لكن الطب والتجربة والحس الآن يُثبِت العدوى، ولا نقول بالضرورة – من ناحية فاسفية هذا ليس بالضرورة – ولكن بالتجربة، فبالتجربة العدوى موجودة، والعجيب أنه صح عنه – عليه الصلاة وأفضل السلام – أنه قال وهو القائل “لا عدوى” – ينفي العدوى وينفي حصولها ووقوعها ووجدها – في الصحيحين “فر من المجذوم فراراك من الأسد”، فإذا كان الجُذام لا يُعدي فلماذا نفر؟ فالنبي قال “فر من المجذوم فرارك من الأسد”، كما صح عنه – عليه الصلاة وأفضل السلام – قوله “لا يوردن مُمرِضٌ على مُصِح”، رجلٌ أو راعٍ عنده وله إبلٌ صحاح، النبي نهى أن يوردها على مورد الماء الذي وردت عليه إبلٌ مِراض – إبلٌ مريضة – لأجل ماذا؟ لأجل ولمكان العدوى، لذلك قال “لا يوردن مُمرِضٌ على مُصِح”، ولذلك جالت أنظار العلماء في التوفيق بين هاته الأحاديث، فهذه أحاديث ثابتة وهذه أحاديث قويمة صحيحة، ولكن كيف؟!

العلَّامة الإمام ابن القيم أو ابن قيم الجوزية – رحمة الله تعالى عليه – في كتابه الحفيل مفتاح دار السعادة عرض لآراء ووجوه تأويلات السادة العلماء – رحمة الله عليهم جميعاً – وكان من ضمنها هذا المسلك الذي استحسنه بقوله “وهذا المسلكُ حسن”، والإمام ابن القيم فقيهٌ نستطيع أن نقول أثريٌ واسع، ويعتبر الآثار والأخبار جداً لأنه – رحمة الله عليه – حنبلي، لكن ما هذا المسلك الذي استحسنه العلَّامة ابن القيم الجوزية؟ مسلك مَن قال قوله عليه الصلاة وأفضل السلام “لا عدوى” إنما هو من باب اجتهاد الرأي في مسائل العادة والتجارب، أي في هذه المسائل الطبية، وهو من باب قوله الثابت عنه في الصحيح في قضيةِ أو واقعة تأبير النخل، وذلك حين مر عليهم وهم يُؤبِّرون وينقلون من ذكر النخل إلى أُنثاه – أي يُلقِّحونه – فقال “لو لم يفعلوا لكان أحسن”، فتركوه فشيَّص، أي أنتج وأخرج شيصاً، تمراً رديئاً جداً يُقال بلا نوى، فراجعوه في ذلك فقال عليه الصلاة وأفضل السلام “إنما حدَّثتكم عن رأيي، أما فلا تأخذوا به”، أي هذا نظر نظرته ورأيي في مسألة دنيوية فهل جعلتموه تشريعاً وديناً يُتبَّع وطريقةً تُسلَك؟ كلا، ولكن ما حدَّثتكم عن السماء وعن الله فلن أكذبكم، ففي الوحي أنا مُبلِّغ ولابد أن تأخذوا به على وجهه حسبما يقتضيه النص،ولكن هذه من قضايا الدنيا، وقال في رواية في قضية تأبير النخل أنتم أعلم بأمور دنياكم”، فهذا شأن دنيوي زراعي أو طبي أو طبابي أو صيدلي أو عسكري أو أي شيئ وبالتالي أنتم أعلم، فلم أُبعَث لأكون طبيباً ولا زارعاً ولا صانعاً ولا تاجراً ولا مُضارِباً ولا ما إلى هنالك، وإنما بُعِثت لتبليغ الرسالة وأداء الوحي، علماً بأن الحديث مُخرَّج في مسلم من حديث عائشة وأنس وأبي طلحة ورافع بن خديج وغيرهم، رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين وصلى الله تعالى عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً. 

وفعلاً هذا قريبٌ من قريب، لأن هذا أخذٌ من الذكر في تأبير النخل ووضعٌ في الأنثى، وكذلك العدوى، حيث ينتقل شيئٌ من المُعدي إلى المُعدَى كما ينتقل شيئ من الذكر – من ذكر النخل – إلى أُنثاه فيحصل ثمرةٌ ما أو تحصل ثمرةٌ ما، وبالتالي هذه قضية دنيوية، فلابد أن نلتفت إلى هذا.

إذن لا يجوز أن نُثرِّب على الناس ولا أن نُعظِّم عليهم النكير لأنهم لم يأخذوا بشيئ من الطب النبوي أو أجروا عليه فحوصاً وتجاريب، وأغتنم هذه الفرصة لأُعقِّب بكلمة على الحديث الذي أقام الدنيا ولا يزال ولم يُقعِدها طيلة العشرين – أي من بداية القرن العشرين – إلى اليوم وهو حديث الذباب الذي يقول إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه فإن في أحد جناحيه – الجناح مُذكَّر – داءً وفي الآخر دواءً، علماً بأن هذا الحديث من المُخرَّج في صحيح البخاري من حديث التابعي عُبيد بن حنين، لكن هذا الحديث فرد، ولابد أن أقول هذا، فهذا الحديث فردٌ وغريبٌ جداً، لكن لماذا؟ لأن لم يروه عن أبي هريرة إلا عُبيد بن حنين، وعُبيد بن حنين ليس له إلا هذا الحديث، أي أن هذا التابعي لم يرو من السُنة كلها إلا حديثاً واحداً وهو حديث الذباب، فإذن هذا الحديث نموذجي للحديث الفرد والغريب، على أنني لن أخوض الآن في التفرقة النسبية بين الفرد والغريب، لكن على كل حال هذا حديثٌ فردٌ أو غريب  من حديث عُبيد بن حنين عن أبي هريرة – رضيَ الله تعالى عنهما – مرفوعاً إلى رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه ومَن والاه – وهذا الحديث من باب طبه، وقد كان الزاد في وقته وعصره قليلاً، فمن باب المصلحة ومن باب استصلاح أزوادهم  ذكر لهم هذا الشأن، لكن إنسان ينبو ذوقه عن تناول مثل هذا الطعام والشراب نقول له لا حرج ولا تثريب، أرِقه – أرِق هذا الطعام والشراب – ولا شيئ عليك ، فمُعظمنا الآن –  وقد كثر الزاد بفضل الله وتوفَّر ما يُشرَب – لا تستسيغ نفسه بالمُطلَق إذا وقع ذباب في إنائه أن يأكله بعد، فهو لا يستطيع بل ربما أدته هذه الأكلة إلى حالة نفسية ذرية فتُحدِث له مُضاعَفات نفسية حتى إزاء هذا الأكل بالذات، فما في مُشكِلة في أن نقول له أرِقه ولا تلو على شيئ بإذن الله تعالى، لكن هم لم يكونوا من السعة بحيث يُريقونه ثم يمضون بل ربما هذا كل ما عندهم، فالنبي أرشدهم إلى أمرٍ الآن للحفاظ على الطعام، ولكن نحن أشرنا إلى أن في الحديث مغمزاً على أنه في البخاري، ولكن القضة أصبحت واضحة، فليس البخاري مُنزَّلاً وبالتالي لا مُشكِلة، فالحديث في البخاري وهو مُتفرَّدٌ به، ففيه فرادة وفيه غرابة، وبالتالي الحديث أقرب إلى أن يكون ضعيفاً، وعلى كل حال هذا الحديث في الصحيح  فيه ناحيةٌ لا تكون عن تجربة ولا عن شأنٍ مُعتاد وإنما عن وحي، فمن أين عرف – عليه الصلاة وأفضل السلام – أن في أحد جناحيه داءً وفي الآخر دواءً؟ مُستحيل أن الميكروبيولوجي Microbiology العربي الجاهل كان مُتطوِّراً بحيث عرفوا هذه الحقيقة، هذا مُستحيل وبالتالي هذا كان عن وحي، فإن ثبت هذا إمبريقياً وتجريبياً فهذا من باب أعلامه وأنه سولٌ من عند الله، وإلا من أين عرف هذا؟ هذه حقيقة جرثومية دقيقة جداً، وبعض الأبحاث تقول أنه ثبت لكن نحن لا ندري ولم نستوثق لحد الآن، فليس لدينا ثقة مُطلَقة بكل ما يُنسَب إلى الإعجاز العلمي في القرآن والسُنة، فنحن نُريد الأمر أن يكون على وجهه وأن يُحكَّم عالمياً في الدوائر العلمية على مُستوى العالم ويُعترَف به، فلا نظل نُردِّد ونقول “لقد أُجريت تجربة في مصر وفي السعودية وثبت علمياً هذا”، وبعضهم قال لقد أجرى تجربة وفيها علاج السيدا ثم أن السيدا لم تُعالَج، وبالتالي لا نُحِب أن نجعل أنفسنا بموطن تندر من الآخرين ونحن بموطن نظر وترقب، فللإسلام شانئون وللإسلام قالون مُبغِضون ومن ثم علينا أن نكون مُدقِّقين، وعلى كل حال قضية طب النبي في العموم وفي الجُملة هى من شؤون العادة والتجاريب وليست من شؤون التشريع، وهذا يحل لنا مشاكل كثيرة وهذا هو كلام العلماء، وأنتم رأيتم كلام ابن القيم الآن، فهو لم يقل هذا رد الحديث وهذا في الصحيح أو غير ذلك وإنما قال هذا المسلك حسن، فالنبي يُخبِر عن رأيه وعن تجربته زعن اعتقاده في شؤون دنيوية، فمرة يقول “لا عدوى” ومرة يُثبِت العدوى،وقد ثبت في حديث عمر وطاعون عمواس وقصة عبد الرحمن بن عوف والمُهاجِرين والأنصار، علماً بأن الحديث في الصحيحين، فالنبي أخبر – وعمر لم يكن يعلم ذلك،رضيَ الله تعالى عنه، ولكن باجتهاده أصاب السُنة وأصاب رأي رسول الله في شأن دنيوي أيضاً لأن هذه السُنة ليست تشريعية – أنه إذا وقع الطاعون بأرضٍ فمَن كان بها فلا يخرجن منها حتى  لا يُعدي الآخرين، ومَن كان خارجاً عنها فلا يقدمن عليها ولا يدخلن في هذه الأرض، وهذا من باب الحجر الصحي Quarantine، فهذا حجر صحي بدائي أرشد النبي إليه، وكل هذا من شؤون العادة والنظر في أمور الدنيا.

إذن خرجنا من هذين البابين – باب الجبليات وباب الاعتياديات والتجريبيات – وبقيَ الآن باب التشريعيات، فباب التشريعيات هو كل ما ورد عنه من قولٍ أو فعلٍ أو إقرار – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – وكان تشريعاً لنا، وهو يرد عنه بوجوه  – علماً بأننا ذكرنا هذا على سبيل العجلة والإجمال في الخُطبة السابقة – فهناك ما يصدر عنه بصفته رسولاً، وصفة الرسالة هى صفة تبليغ  – وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ۩ – طبعاً، وما صدر عنه على جهة الرسالة والتبليغ مُلزِم لنا، فصفته الأصيلة الرئيسة الأساسية هى صفة الرسالة وصفة التبليغ، ولذلك قال الله إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا انظر إلى هذا القصر أو الحصر، وهو طبعاً ليس على بابه وإنما إضافي، فهذا حصرٌ إضافي – الْبَلَاغُ ۗ  ۩، كأنه يقول للرسول – صلى الله عليه وآله – ما أنت إلا مُبلِّغ أو إن أنت إلا مُبلِّغ، وهو القائل أيضاً إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ ۩، فهذه هى الصفة الرئيسة وهى أوسع الصفات وألزمها لنا، أما الصفة الثانية فهى صفة المُفتي، علماً بأنني ذكرت لكم المواضع التي تكلَّم فيها الإمام الشهاب القرافي عن هذه العناوين والوجوه للتصرّفات النبوية سواء في الإحكام أو في الفروق، فالإمام القرافي “الشهاب” – رحمة الله تعالى عليه – ساوى بين صفة التبليغ والرسالة من جهة وبين صفة الإفتاء من جهة آخرى من حيثية ما يترتَّب عليهما، وإلا من باب الماهية ومن باب الطبيعة التبليغ شيئ والإفتاء شيئٌ آخر، فالتبليغ ابتدائي، حيث يُوحَى إليه بشيئ فيُلقيه إلى أصحابه، فهذا هو التبليغ، أما الإفتاء فيكون بعد الإلقاء، حيث يأتي أحدهم يستفتيه في مسأله ومن ثم النبي يُفتيه بما ثبت وحياً، فيُقال هذه فتوى أو فُتية أو فتاوى، وهذا الفرق بين التبليغ والفُتية، ولذلك من جهة ما يترتَّب عليهما يُوجَد شيئٌ واحد، فأنت مُلزَم بما بُلِّغت وأنت مُلزَم بما أُفتيت من رسول الله، فهذه فتوى والفتوى تُعادِل التبليغ من باب أو من جهة الآثار والتوالي.
بعد ذلك تُوجَد تصرّفاته – عليه الصلاة وأفضل السلام – من باب القضاء أو بعنوان القضاء، فالنبي اشتغل قاضياً وله قضاة – النبي كان له قضاة من أصحابه وله مُفتون – من الصحابة، وأُلِّفَت رسائل في المُفتين من الصحابة، وذُكِرَ القضاة من الصحابة، وأشهر القضاة من الصحابة الأئمة الأربعة “أبو بكر وعمر وعثمان وعلي” رضوان الله عنهم أجمعين، ومنهم زيد ومنهم أُبي ومنهم أبو موسى وكثيرون، وعلى كل حال  النبي أيضاً كان يقضي بين الناس، وسبيل القضاء في الدعوى فصل الحكم في الدعوى بالبيّنات – يعني الشهود – وبالأيمان والنقول، فينقل عن يمينه وينقل عن شهادته، هذا هو باب القضاء، والنبي – عليه السلام – تصرَّف كقاضٍ في مرات كثيرة، وهناك بعض الكتب عن هذا مثل أقضية النبي لمحمد بن الفرج القرطبي المالكي، وهو كتاب حفيل في أقضية النبي.

أخيراً هناك تصرّفاته – عليه الصلاة وأفضل السلام – بالإمامة، لكن ما معنى تصرفاته بالإمامة؟ أي بالرئاسة العُظمى، لأنه أعظم سُلطة تنفيذية في الدولة، فالنبي كان رئيس الدولة المسلمة، لكن هل كان له دولة؟ طبعاً كان له دولة وهى الدولة النبوية، والعلَّامة الإمام أبو الحسن الخزاعي في القرن الثامن الهجري له كتاب تخريج الدلالات السمعية، وهذا الكتاب في الحكومة النبوية وقد طبعته دار الغرب الإسلامي، ثم في القرن الرابع عشر الهجري جاء العلَّامة المُحدِّث الحافظ الكبير عبد الحي الكتاني المغربي – رحمة الله عليه – وشرحه وهمَّش عليه ووسَّعه وبسطه ومده في كتابٍ كبير في مُجلَّدين حفيلين بعنوان أو تحت عنوان التراتيب الإدارية، فمَن أنكر أن النبي أقام دولة نُحيله على التراتيب الإدارية وعلى أصله في تخريج الدلالات السمعية، فالنبي أقام دولة فعلاً ولكنها ليست دولة دينية بمعنى الدولة الثيوقراطية، ولكنها دولة بين الدولة الإمبراطورية وبين الدولة المدنية الحديثة، وهذا ثابتٌ عنه عليه الصلاة وأفضل السلام، فإذن له تصرّفات بالإمامة، وهناك تصرّفات بوجوه أخرى.

العلَّامة المُجتهِد الإمام الجليل الشيخ الطاهر بن عاشور في مقاصد الشريعة بسط أيضاً ونوَّع وقسَّم مُتوسِّعاً وجوه تصرفات النبي – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً – فبلغ بها اثني عشر وجهاً، تكلَّم عن الأربعة المذكورة “التبليغ أو الرسالة والفتوى والقضاء والإمامة” ثم ذكر الشفاعة والصلح بين الناس والإشارة على المُستشير والنصيحة والهدي وتعلم الحقائق العالية وتأديب النفوس والتجرَّد عن الإرشاد، فعودوا إلى كتابه، وهو كتابٌ عظيمٌ جداً، فهو من أعظم ما أُلِّفَ بطريق التكثيف والتركيز وضرب الأمثلة المُبتكَرة أحياناً والتي لم يُسبَق إلى مثلها مقاصد الشريعة الإسلامية، وقد عُقِدَ أكثر من مُؤتمَر وأكثر من ندوة لمُدارَسة هذا الكتاب وإدارة القول حوله وحول ما أتى به، فجزاه الله عنا وعن الإسلام والعلم جزاء شاكر.اللهم آمين.

لماذا ذكرت ابن عاشور وهذه الوجوه المُتعدِّدة؟ لأن بعض وجوه تصرّفات النبي ليست بالتبليغ وليست بالفُتية أو بالفتوى وليست بالقضاء وليست بالإمامة وإنما بالإرشاد، فالنبي يُرشِد وأحياناً تكون بالصلح والشفاعة، مثل الحديث الثابت في الصحيح وهو حديث بريرة وزوجها مُغيث، فبريرة  كانت أمة وتزوَّجها أيضاً عبدٌ مملوك إسمه مُغيث ثم ملكت نفسها بالمُكاتَبة وأدت نجوماً – أقساطاً – عن نفسها – قال تعالى  فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ۖ  وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ۚ  ۩ – فلما قضت نجومها أو أقساطها تحرَّرت وأصبحت حرة، والآن لا يجوز أن تبقى الحر تحت عبدٍ فاختارت نفسها وطلَّقت نفسها، وكان مُغيث – رضيَ الله عنه – يهواها هوىً عظيماً جامحاً، حتى ورد في صحيح البخاري أنه كان يطوف في الكعبة حولها وتطوف قبله ويبكي ويُرسِل دموعه على عينيه، فالنبي لما رأى هذا وكُلِّمَ فيه -كلمه مُغيث أن يشفع له – دعا بها وقال لها يا بريرة لماذا لا تعودين إلى مُغيث فهو يهواكي؟ واستمعوا الآن جيداً لأن النبي الآن يتكلَّم ويطلب شيئاً، فبأي صفة يطلبه؟  عليكم أن تنتبهوا، هل يطلبه كمُبلِّغ؟ أي هل الله أمره بذلك وبالتالي ينتهي كل شيئ فلا معدى عن البخوع والخشوع لأمره والصدع به مُباشَرةً؟ أم هل يطلبه كقاضٍ؟ هل هذه فُتية أو فتوى؟ هل يطلب هذا كإمام؟ الصحيح هو أن النبي يطلب هذا كمُصلِح وكشافع، وهذا عنوان خامس، لذلك تقسيم العلَّامة ابن عاشور لا يخلو من فوائد -جزاه الله عنا خيراً – فعلاً، فهذه شفاعة، والشفاعة تكون من الرسول ومن وجوه الناس منا أيضاً، فأي إنسان له مكان وله وجهٌ بين الناس ومن علية القوم بسبب علم أو مال أو صلاح أو مركز أو هيئة أو حيثية اجتماعية يستطيع أن يشفع، والنبي قال اشفعوا تُؤجَروا ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء، علماً بأن الحديث في الصحيح، والنبي دعانا وندبنا أيضاً أن تستشفع به فنقول له يا رسول الله اشفع لي عند فلان في المسألة الفلانية، وهو القائل اشفعوا – وأيضاً أنتم اعملوا بهذه الشفاعة واشفعوا أيضاً في بعضكم البعض – تُؤجَروا ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء. صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

المُهِم قالت بُريرة  يا رسول أشافعٌ أم آمر؟ أي هل أنت الآن تشفع أم تأمر؟ فإذا للأمر فإنه يأخذ صبغة تكليفية وصبغة تشريعية تكليفية وبالتالي ينتهي كل شيئ وأعود إليه وإن كنت لا أهواه، لكنه قال لها بل شافع، فقالت لا حاجة لي به، أي لا أريده.

إذن هى هنا ردَّت شفاعة النبي، والنبي لم يُنكِر عليها وتركها وانتهى الأمر لأنها لا تُريد، وهذا ما يجب أن ننتبه إليه حتى نفهم الدين، ولكن هذا الموضوع بعض الناس ربما لم يبد له وجه الفائدة منه، ويتساءل لماذا طرحت هذا الموضوع؟ هذا الموضوع مُهِمٌ جداً جداً جداً لكي نتفقَّه تفقّهاً حسناً في الكتاب والسُنة، فليس الفقه – كما قلت لكم في مُقدِّمة الخُطبة السابقة – أن تأتي تقول هذا نص وقال الله  وقال الرسول ولابد أن نفعل وألا نفعل ثم  نبداً نُثرِّب ونُدمدم، ليس هكذا الفقه، وإلا فهذه صحابية وردَّت شفاعة النبي لأنها شفاعة غير مُلزِمة لها.

ثبت في الصحيح أن جابر بن عبدالله بن حرام الأنصاريين – رضيَ الله تعالى عنهما -بعد أن قضى أبوه عبد الله بن حرام شهيداً في أحد وترك أربعة من البنات وليس عليهن من قيّم ولا مُنفِق ولا مُعيل إلا جابر الذي كان قليل ذات اليد، فليس عنده مال، بل تركه والده الشهيد عبد الله بمغارم وديون، فجاء الغرماء يطلبون دينهم ويقولون أعطنا يا جابر، لكن هو ليس عنده أي تراث – أي ميراث من أبيه – أبداً، عنده شيئ قليل جداً جداً جداً، ومن ثم قال فذهبت إلى رسول الله وطلبت منه أن يشفع لي عندهم، أي طلبت منه أن يطلب إليهم أن يحطوا عني بعض الدين، فيُسامِحونه في بعض الدين، مثل ربعه أو نصفه أو ثلثه أو في أي شيئ لكي يُخفِّفوا عنه، فكلمهم النبي لكن يعود السؤال الآن بأي صفةٍ كلَّمهم؟ هل كلَّمهم بصفة المُبلِّغ أم بصفة المُفتي أم القاضي أم الإمام؟ ليس بكل هذا وإنما كلَّمهم بصفة المُصلِح وبصفة الشافع لأنه يُريد أن يُصلِح بين الناس، لكن هل هذه مُلزِمة أو غير مُلزِمة؟ غير مُلزِمة، لكنه كلَّمهم وقال لهم حطوا عن أخيهم كذا لأنه مدين ومسكين، وليس عنده شيئ وعنده أخوات أربعة وإلى ما ذلك.

يقول جابر فلما كلَّمهم – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – كأنهم أُغروا بي، أي زادوا تشدَّداً وقالوا هيّا نُريد ديننا الآن والساعة فلن نُسامِح في شيئ، فهم تشدَّدوا جداً، وأنا لا بد أن أنتهز هذه الأشياء لأنني أُحِب أن اُفكِّر تفكيراً علمياً واقعياً ومنهجياً وأقول  كيف هذا يا أخي؟ إذن كيف يُقال الصحابة كذا ويفدون الرسول بأنفسهم وما إلى ذلك؟ لو جاء الآن رجلٌ صالح أو عالمٌ فاضل أو رجل من وجوه الناس وشفع في بعض الناس عند بعض الناس لشفَّعوه، ومن هنا أنا أقول لك ليس الصحابة كلهم شيئاً واحداً، فهم يعلمون أن هذا غير مُلزِم ولذلك هنا لم يأخذوا بشفاعة النبي، وطبعاً كان خيراً لهم مليون مرة أن يأخذوا بشفاعته وأن يقول الواحد منهم لا والله أنا لا أُعيد النبي هكذا أصفر الوجه وأُخيِّبه في شفاعته ولو بعت ما علىّ، لكن بعض الصحابة لم يفعلوا هذا، فهل هم مأثومون؟ ليسوا مأثومين – رضيَ الله عنهم – طبعاً، ولكن هل تصرّفهم هذا تصرّف نموذجي؟ ليس نموذجياً، هل تصرّف أخلاقي عالٍ؟ ليس أخلاقياً عالياً وإنما هو تصرّف عادي لأن هذا من حقهم!

إذن ليس كل الصحابة أبا بكر وعمر وعليّ وعثمان ومعاذ وفلان، ولنكن واقعيين ولنكن دقيقين، وبالتالي يجب أن ننتبه إلى هذاحتى لا يأتينا ما يُشوِّش علينا، فلابد أن نبني النظرية حول الصحابة وعاداتا الصحابة وفضل الصحابة بطريقة علمية تستقرأ النصوص، فلا نأتي بنظرية من الفضاء ونقول هكذا كان الصحابة، فهذا كذب ولكن يجب أن نأتي بنظرية مُؤسَّسة على الوقائع الثابتة في الكتاب والسُنة الصحيحة ثم نقول هذا هو، وهذا لا يُؤذي لأن الصحابة كانوا بشراً وبالتالي لم يكونوا شيئاً واحداً،  وهنا رفضوا شفاعة النبي – صلى الله عليه وآله – وأعادوه صفر اليدين وأصفر الوجه، فقال له يا جابر لا يُريدون، بل بالعكس زاد الأمر سوءً، لأن جابر قال فلما كلَّمهم فىّ كأنهم أُغروا بي، أي زادوا شراسةً وإلحاحاً في الطلب، فهم يريدون أن يستوعوا دينهم عن آخره أو من عند آخره حتى آخر مليم كما نقول، ومن هنا الشيخ ابن عاشور حين تكلَّم هنا ذكر هذا، وهذا الشيئ جيد يا إخواني.

هناك مسائل فيها وجه للقربة وفيها وجه عادي أو اختباري أو إرشادي، لكن كيف هذا؟ 

يعني مثلاً في مسألة السواك قال النبي لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة، فهو لم يأمرنا وإنما ندبنا، وأنا هنا أقول لكم هذه المسألة لها وجهان، علماً بأنني لم أُسبَق إلى هذا التفكير، فإن كنت  أصبت فمن الله وله الحمد والمنة، وإلا فمن نفسي ومن الشيطان، والله من ذلك بريء – سبحانه وتعالى – ورسوله.

النبي ندبنا إلى أن نشوص أفواهنا ونستاك فنُنقي اللثة والأسنان، وأرشدنا إلى وسيلة نصطنعها، فما هى هذه الوسيلة؟ الأراك ، فنستاك بعودٍ من أراك، لكن هل يُسمَّى هذا مسواكاً؟ طبعاً هذا مسواك، ولكن هل المسواك هو عود الأراك؟ لا، فالأراك مصداقٌ للمسواك، لكن هل فرشاة الأسنان اليوم مسواك؟ نعم مسواك، ومن أحسن المساويك لأنها تشوص الأسنان واللثة وتُنقي الفم، وبالتالي علينا أن ننتبه إلى أن أمره بأن نشوص أفواهنا وبأن نستاك هو أمرٌ للندب، لكن ما معنى للندب؟ هناك ندبٌ وهناك إرشاد، وقلنا هناك الإرشاد مثل  قول الله في القرآن وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ۚ ۩، علماً بأن هذا في آية المُداينة وهى أطول آية في كتاب الله وتُوجَد في آخر البقرة، فهل هذا الأمر للوجوب؟ كلا، بل من العلماء مَن قال هذا الأمر ليس للندب بل للإرشاد، وهذا هو الدقيق وهو الذي أرتاح إليه، فهذا ليس أمراً للندبِ بل هو أمرٌ للإرشاد، لكن ما الفرق بينهما حتى نفهم؟ الندب يعني الاستحباب والفضيلة، فالندب لخير الآخرة، بمعنى أن فيه أجر، فيُطلَب به الأجر وبالتالي يُوجَد فيه وجهٌ للقربة الدينية، أما الإرشاد فهو لمنافع الدنيا، وهو ليس فيه أجر، إذن هذا هو الفرق بينهما، فهذا هو الإرشاد وهذا هو الندب، وطبعاً هذه مسألة حقوق “مالك ومالي” وبالتالي حتى لا تضيع الحقوق وتنضبط أرشدنا الله إلى كتبها –  أي إلى كتابتها، فالكتب مصدر – فقال تعالى وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ۚ ۩، أي ندبنا إلى الكتب وإلى الإشهاد في التبايع، فهذا إذن للإرشاد لأن فيه ضبطاً للحقوق الدنيوية، فلا يُوجَد هناك مسائل شرعية تتعلَّق بالآخرة وما إلى ذلك وإنما يُوجَد إرشاد.

الآن أمر النبي بالاستياك، فهل هذا إرشاد أو ندبٌ؟ ندبٌ لأن فيه أجر، وبالتالي هل الذي يتسوَّك عند الصلاة مأجور أو غير مأجور؟ مأجور، لكن علينا أن ننتبه إلى أنه إن استاك في غير وقت الصلاة سوف يكون هذا من باب الإرشاد والمنافع دنيوية مثل منافعه لرائحة الفم ولجمال  الأسنان، فهذا أمر دنيوي وبالتالي هذا إرشاد ليس فيه أي أجر، ولكن إن استاك من أجل الصلاة أو قراءة القرآن سيُوجَد الأجر، علماً بأن الملائكة يطيبُ لها ذلك، والنبي كان يتعفَّف عن أكل الثوم والبصل، ولم يُحرِّمهما قطُ وإنما كان يقول فإني أُناجي مَن لا تُناجون، ويقول أيضاً لا أُحِب أن تجد الملائكة مني ريحاً غير طيبة، فهو – عليه الصلاة وأفضل السلام – كان يُناجي الملائكة طبعاً، فإذن هنا يظهر وجهٌ للقربة، لكن في غير الصلاة وفي غير هاته الأحوال يبقى الأمر للإرشاد، ولكن للتفكيك سوف نتساءل ونقول أنه – عليه الصلاة وأفضل السلام – الآن أمرنا  -على الأقل بفعله ووضَّح لنا ذلك – بأن نستالك باستخدام الأراك، فهل هذا للندب أم للإرشاد؟ هذا للإرشاد، فاستخدام الوسيلة للإرشاد، أما أصل الاستياك فللندب، فالاستياك للصلاة ولقراءة القرآن للندب، أما الوسيلة المُتغيِّرة فهى للإرشاد، لأن المنفعة لا تحصل إلا به، ولذلك العلماء الكبار المُحقِّقون كالعلَّامة النووي والعلَّامة ابن قدامة المقدسي صاحب المُغني في الفقه المُقارَن ذهبا إلى أن إنقاء الفم وتنظيف الأسنان بأي وسيلةٍ حصل مُجزيء، بل قرأت قبل مُدةٍ مديدة للإمام النووي في منهاجه – رحمة الله عليه – على ما أعتقد لأنني لم أُراجِع هذا من سنين بعيدة  أنه ذهب إلى أن مَن كان إصبعه أو كانت إصبعه خشنة وشاص بها أسنانه فإنها تقوم مقام الاستياك، فإذن إن يُمكِن أن يستاك أحدهم بخرقة خشنة، ولكن ماذا عن الفرشاة؟ سوف يكون الحال أحسن وأحسن، وعموماً عملياً الفرشاة تُنقي أحسن من من خشبة الأراك طبعاً لأنهاوتتخلَّل ما بين الأسنان، فضلاً عن وجود الفراشي الطبية والمُختبَرة والدقيقة ولذلك هى أفضل، وإلا لماذا لا؟ فلا ينبغي أن نرفض هذا ونقول هذا لم يثبت، ولذلك أيضاً أهتبل هذه الفرصة لأُذكِّر بما قرأته لبعض العلماء الأفاضل مثل العلَّامة القرضاوي – حفظه الله – حيث ذكر أن بعض العلماء حدَّثه أنه وجد في دورات مياه – أعزكم الله واعزكن جميعاً وجمعاوات  – في بعض الدول الإسلامية الأسيوية حجارة صغيرة مركومة ومُكدَّسة في كل دورة، فوجد حجارة هنا وهنا وفي كل مكان، وبالتالي استغرب الرجل من وجود هذه الحجارة في  كل دورة مياه، فسأل فقالوا هذه نُكدِّسها لنُصيب بها السُنة، فنحن نستجمر بالحجارة، ومن ثم علَّق العلَّامة القرضاوي قائلاً “جميل وحسن – طبعاً هو يمزح  – ولكنهم نسوا أيضاً أن يفرشوا مساجدهم بالرمل والحصباء حتى يُصيبوا السُنة، وألا يُضيئوها بثريات الكهرباء لأن النبي أضاءها بمصابيح الزيت، وألا يجعلوا لها أبواباً تُفتَح وتُوصَد لأن مسجد النبي كان بغير أبواب، وأن يسقفوها بسعف وجريد النخل لأن النبي سقف مسجده بذلك وكانت إذا أمطرت أصابهم البلل  وربما تطيَّن الرمل”، فهم نسوا كل هذا وأخذوا بالسُنة في الاستجمار بالحجارة، لكن النبي  استنقى واستجمر  بحجارة لأن هذا المُتوفِّر في وقته، لكن الآن يُوجَد ورق تواليت Toilet وتُوجَد وسائل كثيرة، لكن في وقت النبي لم يكن هذا بل أن حتى الماء كان قليلاً.

أهل مسجد قباء كانوا يُتبِعون الحجر الماء، فيستخدمون الحجارة ولا يكتفون لأنهم كانوا يستخدمون الماء إذا كان عندهم،  فأنزل الله – تبارك وتعالى – فيهم – وإن كان في الحديث كلام من جهة إسناده – فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ۩، واليوم لا يُوجَد لدينا فقط الماء بل لدينا الورق الذي نستعمله في البداية ثم أن لدينا الماء والخراطيم، وبالتالي هذا أفضل وأفضل، وكما تقول العامة زيادة الخير خيران، فهذا نور على نور، لكن ما شأن هذه الحجارة المُكدَّسة؟ هذا هو الفقه الصبياني في الدين، فالواحد منهم يأخذ بشيئ على ظاهره ولا يأخذ بأشياء أخرى، ويُغضي وبيني ويقول هذه السُنة، وهذا غير صحيح، فأنت أخذت هنا بالسُنة  وضيَّعت هناك مائة سُنة، وبالتالي يجب أن يكون لك طريقة واحدة وأن يكون لك نهجٌ قاصد في فهم الدين، ولكن هذه الانتقائية الصبيانية والعملية البهلوانية لا تليق بفقهاء الإسلام وعلماء الدين الحنيف، فنسأل الله أن يزيدنا علماً وفقهاً.

نعود إلى مسألتنا الآن وهى مسألة التصرّفات الأربعة لكي نُوضِّح، فالأمثلة طبعاً على تصرّفاته – عليه الصلاة وأفضل السلام – بالتبليغ وبالرسالة كثيرة، ومن ثم  ليس بالضرورة أن نذكر شيئاً منها لكنها هى الأصل، وكل ما قاله النبي إلا ما استُثنيَ بالأوصاف الثلاثة أو أكثر من الثلاثة على طريقة ابن عاشور الأصل فيه أنه تبليغٌ ورسالة، وطبعاً ماذا يقتضي عنه؟ الذي يقتضي الحرمة يكون مُحرَّماً طبعاً، والذي يقتضي الوجوب أو الفرضية عند الأحناف أو يقتضي الندب أو يقتضي كذا وكذا يكون كما أراد النبي، فهذا لا يعني أن كله يُعَد واجباً، ولكن هذه رسالة وشريعة ثابتة.

قد تقول لي لكن هل بعض هذه الشرائع الثابتة التي بلَّغها النبي تتوسَّل وسائل غير ثابتة؟ وأنا بدوري أقول لك أحسنت فعلاً بهذا السؤال وبهذا الاستفصال والاستبصار، وهذه المسألة لابد أن يكون للعلماء فيها قول، ولهم فيها قولٌ واضح، فالنبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – يقول مثلاً – فيما أخرج البخاري وغيره “الخيل معقودٌ بنواصيها الخير إلى يوم القيامة أجرٌ ومغنم”، وذلك لأنها أداة الحرب ومن هنا قال “أجرٌ ومغنم” أي في الحرب والجهاد، لكن اليوم لا يُوجَد مكان لهذه الخيول، فاليوم يُوجَد الدبابات والطائرات والعربات مُصفَّحة وغير المُصفَّحة وما إلى ذلك، فقال العلماء الفقهاء – جعلنا الله علماء فقهاء، وليس علماء حفَّاظاً فقط فنحفظ ولا نفقه ما نقول، وولذلك الفقه في الدين شيئ مُختلِف ومن هنا قال النبي  من يُرِد الله به خيراً يُفقِّهه في الدين، وتقول الآية الكريمة فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ۚ  ۩، فلابد من التفقيه والتفهيم، وليس أخذ المعلومات وتحفظ النصوص فقط لأن هذا لا يكفي وإن كان خيراً كثيراً إن شاء الله أن هذا يقوم مقامه بل هو أفضل منه في عصرنا، يقصدون اتخاذ العربات المُصفَّحة والدبابات والراجمات والصواريخ والطائرات وكل المركبات هذه، لأن هذه أداة الحرب اليوم طبعاً، فلا تقل لي أنا سوف آخذ بالسُنة لأن النبي قال “الخيل معقودٌ بنواصيها الخير إلى يوم القيامة أجرٌ ومغنم”، ومن ثم أنا أقول هذا مسكين لا يفقه شيئاً، فهذا أخذ الجسد وأخذ الجثة وضيَّع الروح، فبالحري يُهزَم في كل معركة، وطبعاً لا أحد يفعل هذا اليوم، فلا يُمكِن لأحد أن يخوض الحرب بالخيول الآن وأن يترك الدبابات، هذا مُستحيل لأن هذا سيُهزَم في أول دقائق، وبالتالي هذا الأمر من المُهِم أن ننتبه إليه، فقضية الوسائل في غاية الأهمية، علماً بأن الصحابة – رضيَ الله تعالى عنهم  وأرضاهم  – كانوا فقهاء في هذه الناحية جداً، ولكن لا نُطوِّل بذكر أمثلة على هذا الموضوع – موضوع قضية الوسائل – لأنها كثيرة، فحتى الضرب بالسهم له علاقة بمسألة الوسائل، حيث قال النبي مَن رمى بسهمٍ فله كذا وكذا وكذا، ويأجر الله في السهم ثلاثة، ومَن تعلَّم الرمي ثم تركه فليس منا، فضلاً عن أنه قال ثلاث مرار في صحيح مسلم ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، علماً بأن الرمي كان بالنشاب عن قسي، فيرمون عن الأقواس أو يرمون بالنشاب عن قسي، لكن اليوم ولا نشاب ولا قسي، لكن اليوم يُوجَد  رمي بالآلات المُختلِفة، من المدافع الرشاشة إلى البواريد إلى المُسدَّسات إلى آخره، فحتى رمي الصواريخ –  تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ ۩ – يندرج تحت هذا الرمي، فسجيل العصر هو الصواريخ مثلاً، وكل هذا يدخل في مُسمّى الرمي باختلاف الوسيلة، وهو أعظم مرات لا تُقادَر – لا يُقادَر قدرها – من الرمي بالنشاب عن قسي، فهذا من باب تغير الوسائل لكن يبقى الجوهر واحداً.

هناك مسألة تتعلَّق أيضاً بهذا الموضوع وهو أن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – حين يُبلِّغ الحكم أو يُفتي به فإنهما من حيث الآثار الخارجية – كما قلنا – يتعادلان ويتساويان كما ساوى بينهما الشهاب القرافي، وحتى تتحفَّظوا هذا التقسيم البديع الجميل عليكم أن تعلموا الآتي:

تبليغ الأحكام والفُتية بها هو تعريفٌ بالأحكام، أما القضاء بالأحكام واصطناعها إمامةً هو تنفيذٌ للأحكام.

إذن ماذا نقول عن التقسيم إذا أردنا أن نُكثِّفه ونُركِّزه؟ نقول أن النبي إما أن يُعرِّف الحكم وإما أن يُنفِّذه ويُطبِّقه، فإن ذهب يُعرِّفه فهو – روحي له الفدا وأرواح العالمين ،صلى الله عليه وإله وسلَّم – إما أن يُبلِّغه بصفة الرسالة ووصفه الرسول وإما أن يُبلِغه بصفة الإفتاء ووصفه المُفتي، وكلاهما تعريفٌ للحكم، فمن غير تبليغ ومن غير إفتاء هل نعرف الحكم؟ لا نعرف، فالحكم يبقى في حيز العدم وفي حيز المجهول، ولكننا عرفنا الحكم إما بتبليغه رسالياً وإما بإفتائه به عليه الصلاة وأفضل السلام، والآن التطبيق، فالنبي أخذ هذا الحكم وطبَّقه قضائياً، إذن تطبيقه وتنفيذه قد يكون بعنوان ماذا؟ القضاء ووصفه النبي القاضي، وقد يكون بعنوان الإمامة التي تتعلَّق بالتصرّف الإمامي الرئاسي الميري الحكومي التنفيذي والسُلطة التنفيذية، ومن هنا يُحدِّثونك عن الحكومة، فالسُلطة التنفيذية هى الحكومة بجيشها وشرطتها وأجهزاتها المُختلِفة، وذلك بإزاء الشريطة التشريعية وهى البرلمان فضلاً عن السُلطة القضائية، فهذا تنفيذٌ وتطبيقٌ للحكم.

إذن إما تعريفٌ بالحكم أو تطبيقٌ للحكم، وبالتالي النبي  – عليه الصلاة وأفضل السلام –  حين يُبلِّغ الحكم بوجهٍ من الوجهين – الرسالة أو الفُتية أو الفتوى – قد يُعلِّل الحكم بعلة وقد يكون الحكم مُعلَّلاً بعلة قد يُصرِّح بها النبي وقد تُفهَم وتُستنبَط أو تُستخرَج بطريق من طرق استخراج أو فهم العلة المعروفة في كتب أصول الفقه، والآن المسألة هى إذا كان الحكم مُعلَّلاً بعلة ظرفية قد لا تتكرَّر هل نأخذ بهذا الحكم؟ كلا، وكأن النبي ما بلَّغه، فهذا لا يعنينا لأنها علة لا تتكرَّر، ولكن ماذا إن كانت العلة تتكرَّر؟ تكرَّر الحكم بتكرّر العلة، وهذا إسمه مبدأ الدوران في الأصول، لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فإذا وُجِدَت العلة وُجِدَ الحكم، وإذا فُقِدَت أو غابت العلة فُقِدَ الحكم، فالعلة مُهِمة إذن، والنظر في علل الأحكام الثابتة عن المُشرِّع – صلى الله عليه وآله وسلم – يُعتبَر أمراً هاماً، علماً بأن الرسول هو مُشرِّع مجازاً، فالمُشرِّع حقيقةً هو رب العالمين، لكن النبي يُسمّى مُشرِّعاً في كتب الأصول  لأنه بلَّغ التشريع، وله أيضاً هامشٌ ضيق يتحرَّك فيه بإنشاء تشريعات ليس من عند نفسه وإنما بتفويض من الله، فهذه تُسمّى في أصول الفقه مسألة التفويض أو مسألة التشريع تفويضاً، والأمثلة كثيرة على هذا وربما اجتزأ بواحدة أو باثنين، فمثلاً في صحيح البخاري عن أنس بن مالك – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضهم أجمعين – في معركة خيبر في السنة الخامسة كان يقول أنس جاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مَن قال له – أي من رجال الصحابة – يا رسول الله أُكِلَت – أكرمكم الله وأكرمكن – الحُمر، أي أن الحمير أُكِلَت، لكن ما معنى اُكِلَت؟ أي ذُبِحَت وأكلها الناس، والمقصود بالحُمر  الحُمر الأنسية والحُمر الأهلية، أي الحمار العادي وليس الحمار الوحشي Zebra، فهم كانوا يذبحونها ويأكلونها لأنها كانت حلالاً، المُهِم  سكت النبي ثم أُوتيَ الثانية حيث قال أحدهم يا رسول الله اُكِلَت الحمر، فهم يذبحونها ويأكلونها لأنهم يُريدون طعاماً، وطبعاً لا تُذبَح الأفراس والخيول لأنها كانت ثمينة جداً وهى أداة الحرب الحقيقة، فهى أهم كثيراً من الحُمر، وعلى كل حال سكت النبيثم أُوتيَ الثالثة حيث قيل له يا رسول الله أُفنيَت الحمر، أي أن الحمر الأهلية التي مع الصحابة في هذه الغزاة أو الغزوة سوف تنتهي وسوغ تفنى من عند آخرها، فهذا هو معنى أُفنيَت الحمر، فأمر النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – من أصحابه مَن يقوم في الناس مُنادياً – فهو يُبلِّغ الآن أمر النبي – إن الله ورسوله ينهيانكم – أي يُحرِّمان عليكم – الحُمر، فأصبح  مُحرَّماً أكل الحمار، أي لحوم الحُمر.

قال أنس بن مالك – رضيَ الله عنه – فأُكفئت القدور، وإن اللحوم فيها لتفور أو قال وهى تفور باللحوم، لأن كان فيها لحوم الحُمر تُطبَخ لكن النبي قال هذا منهيٌ عنه ومُحرَّم فأُكفئت القدور، لكن ما المُشكِلة الآن؟ المُشكِلة الآن أن أنظار الصحابة والأئمة ولتابعين وتابعي التابعين وغير هؤلاء اختلفت، فهل كان النهي منه – عليه الصلاة وأفضل السلام – نهياً على سبيل التأبيد؟ أي هل الحُمر مُحرَّمة إلى يوم القيامة؟ فهل كان تبليغياً مُطلَقاً أم كان نهياً دار على علة ظرفية؟ فالذي فهمه الحبر العيلَّم ابن عباس – رضيَ الله عنهما – أن النهي كان لعلة ظرفية، لكن ما هى العلة الظرفية؟ الآن في صحيح البخاري عن عبد الله بن عباس – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – أنه قال لا أدري أنهى رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – عن الحُمر من أجل أنها حمولة الناس – لأنها كانت مراكب  تحلملهم، وإلا كيف يعودون إلى المدينة المُنوَّرة الآن إذا قتلوا وذبحوا وأفنوا الحُمر؟ – أم أنه نهى عن الحُمر الأهلية، بمعنى أنه  لا يدري هل  فعلاً حرَّمها أم لا، فمعنى نهى حرَّمها، فكأن ابن عباس إذن لا يدري هل هنا يُوجَد تحريم أم لا، ولكن الذي يترشَّح من نصوص أخرى في الصحيح أيضاً أن ابن عباس كان يميل إلى أن النبي نهى لعلة ظرفية، ومعنى ذلك أن رأي ابن عباس أن الحُمر ليست  مُحرَّمة  سيما وأنها حيوانات عاشبة، فهذا الحمار غلبان لا يأكل إلا التبن وما كان على شاكلته، فلماذا يُحرَّم إذن؟!

ولذلك في صحيح البخاري عن عمرو بن دينار – رضيَ الله تعالى عنه – أنه قال قلت لجابر بن زيد –  أي لأبي الشعثاء وهو جابر بن زيد – إن أصحابك – جابر كان في البصرة – يزعمون أن النبي نهى عن الحُمر الأهلية، أي نهي تحريم، فماذا قال جابر بن زيد؟ قال قد كان يقول ذلك عندنا بالبصرة الحكم بن عمرو الغفاري فأبى ذلك الحبر – مَن هو الحبر؟ عبد الله بن عباس، وواضح من هذا النص أن هذا كان في خلافة مَن؟ عليّ بن أبي طالب عليه السلام وكرَّم الله وجهه، لأن ابن عباس كان والي عليّ على البصرة وأنتم تعرفون هذه القصة – وتلى قول الله تعالى قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ۩، علماً بأن هذه الآية من سورة الأنعام، أي أنه يتساءل أين التحريك هنا؟ القرآن يقول لا حرام إلا هذا، والحُمر ليست في هذه الأشياء المذكورة في الآية، فكيف يُقال أنها حرام؟

فإذن هو أخذ بالآية على وجهها، وهذا فيه مبحث طويل، وللشافعي فيه كلامٌ مُستطيل – رحمة الله عليهم جميعاً – وعلى كل حال هذا التعليل كان بعلة ظرفية.

المثال الثاني – كما قلت لكم سنذكر مثالاً أو مثالين إن شاء الله – هو ما خرَّجه أيضاً البخاري وغيره في الصحيح عن سلمة بن الأكوع – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم – أنه قال قال النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – في عيد أضحى – في أحد أعياد الأضاحي – من ضحَّى منكم فلا يُصبِحن بعد ثلاث وفي بيته منه شيئٌ، فهذا نهيٌ عن ماذا؟ نهيٌ عن ادخار لحوم الأضاحي، والعرب كانوا – كما قلت لكم – قليلي ذات اليد، أي أن هذه كانت فرصة لكي نُضحِّي ونُعطي الفقراء والمساكين ونُهادي – أي نُهدي – ثم  ندخر على الأقل ثلثاً وبالتالي نستفيد منه نحن وعوائلنا، لكن النبي في ذلكم العام قال مَن ضحَّى منكم فلا يُصبِحن بعد ثلاث وفي بيته منه شيئٌ، أي أنه حرَّم عليهم أن يدخروا بعد ثلاث، فطبعاً أُنفِذَ كل ما عندهم، ولكنهم سألوه في العام التالي أنهم ضحوا في هذه السنة فهل ممنوع أن ندخر؟ فالنبي استغرب من السؤال، فلماذا تسألون والادخار هو سُنتي؟ وقال لهم ادخروا، فقالوا أنت نهيت عن هذا، فقال إنما نهيت لأجل فاقة – جوع حلَّ بالناس – فأردت أن تُعينوا فيه، وفي رواية أخرى في الصحيح إنما نهيتكم لأجل الدافة التي دفَّت، فكلوا وادخروا.

إذن هو قال لهم لا مِشكِلة في أن يدخروا، فهذه علة ظرفية، لكن ما معنى الدافة التي دفَّت؟ معنى الدافة التي دفَّت أن هناك جماعة من الناس نزلوا بأهل المدينة ضيفاناً – ركب ويبدو أنهم كانوا كثيرين، فعددهم كان كبيراً طبعاً – وبالتالي  كيف نُضيِّف هؤلاء؟ نهى النبي عن الادخار بعد ثلاث لكي يقوموا بماذا؟ بحاجة الضيفان، فهذا هو معنى قوله الدافة التي دفَّت، فكلوا وادخروا.

الإمام عليّ – عليه السلام – في خلافته ورد عنه أنه نهى الناس ذات عامٍ عن أن يدخروا، وبعض الناس استنكر هذا، فلماذا ينهي والسُنة ليست هكذا؟ فالسُنة أن نأكل ونُهادي وندخر أو أن نأكل وندخر لأن هناك تصنيف وتقسيم ثنائي أو ثلاثي وهذا أمر معروف، فأذكرهم – أي ذكَّرهم – بما فعله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قائلاً النبي نهى، فالآن هل الإمام أبو الحسن – عليه السلام – اعتقد أن النبي نهى عن هذا على جهة التأبيد – أي التشريع المُؤبَّد – أم كما فهمنا قبل قليل وصُرِّحَ به في حديث سلمة  في حديث سلمة بن الأكوع؟ مثل هذا لا يغيب عن عليّ – عليه السلام – وهو الفقيه الفقيه، كل الفقيه، قال العلَّامة الحافظ بن حجر العسقلاني – رحمة الله تعالى عليه – وجزم به أيضاً العلَّامة أبو محمد عليّ بن حزم في المُحلى  – أي جزم ابن حزم ورجَّح ابن حجر – أن عليّاً – عليه السلام – إنما فعل ذلك لمعنىً قريب من المعنى الذي لأجله نهاهم النبي عن الادخار فوق ثلاث، أي كانت تُوجَد حاجة أو كان يُوجَد جوع أو مُشكِلة اجتماعية ولذلك نهاهم، والجميل في كلام الحافظ بن حجر – جزاه الله خيراً – يمثل في قوله والتقييد بثلاثة أيام واقعة حال، ولن أشرح لكم الآن ما معنى واقعة حال لأنني فعلت هذا في الخُطبة السابقة عندما ذكرت وقائع الأحوال وقضايا الأعيان، وعلى كل حال هو قال واقعة حال، فما معنى واقعة حال؟ أي أن  الأمر وتقدير النبي للأمر اقتضى أن يكون ثلاثة، فماذا لو كانت الدافة التي دفَّت  أكثر؟ ماذا لو  نزل من الضيفان – مثلاً – مائتان أو ثلاثمائة؟ كان النبي فيما رجَّح ابن حجر ونُرجِّح حقيقةً معه – بأبي وأمي عليه الصلاة وأفضل السلام – سينهاهم عن الادخار حتى لليلة واحدة، ولذلك قال ابن حجر وربما اقتضى الأمر الادخار حتى ليومٍ واحد، فالتقييد بالثلاثة واقعة حال لا عموم لها، ولذلك قال العلماء وقائع الأحوال  لا عموم لها، أي أنها ليست عامة دائماً، ومن ثم لا ينبغي أن تقول لي أن هذه واقعة وان النبي قال كذا وكذا، فهذه واقعة حال ومن ثم الآن في زماننا ممنوع أن تدخر يوماً واحداً، كُل فقط للغذاء وما إلى ذلك ثم تصدَّق بالباقي، فهذا هو الفقه وهؤلاء هم العلماء، هذا الفرق بين واعظ ومُتكلِّم بسيط  وبين عالم فقيه كأمثال هؤلاء – أعاد الله علينا من بركاتهم – العلماء.
نترك هذا المكان ونأتي الآن إلى تصرّفاته – عليه الصلاة وأفضل السلام – بالفُتية أو الفتوى، فيُوجَد – مثلاً – قوله – عليه الصلاة وأفضل السلام – مَن أحيا أرضاً ميتةً فهى له، فهل تعرفون الأرض الميتة؟ هى قطعة من أرض ملكيتها مُشاعة، والآن طبعاً لا يُوجَد ملك مُشاع، لأن الآن كل شيئ تضع الدولة يدها عليه، ولكن إذ ذاك أو أيام ذاك كان الأمر على هذا النحو فكان مشاعاً مفتوحاً وليس لأحد فيحق للنبي أن يقول هذا، فهناك سُلطة مركزية وهناك سُلطة الدولة، والنبي – الله أعلم قال هذا كرئيس دولة أو كمفتي أو كمُبلِّغ، نحن لا ندري – قال مَن أحيا أرضاً ميتة – أي جاء فاستصلحها واستزرعها ووصَّل وأجرى فيها الماء أو إليها الماء – فهى له، أي يتملَّكها باستحيائها، وطبعاً واضح هنا أن الحكمة هى ماذا؟ الحكمة هى الرغبة في أن يستبحر العمران بالتعمير والازدراع وما إلى ذلك، فالإسلام دين حضارة طبعاً، فهو لم يأت لكي نصلي ونصوم وننام فقط، فلابد من الحضارة والعمران، ومن هنا كان لعبد الله بن عمرو تقريباً مليون كرمة، حيث كان له أرض يزرع فيها الكروم، وكان في نيته أنه يتقرَّب إلى الله بهذا لأن النبي قال مَن زرع زرعا أو غرس غرسا فأكل منه إنسان أو بهيمة فهو له صدقة، فهو كان عنده هذه النية، ومن ثم استصلح الأراضي لكي يستفيد الكل، فلم لا؟

إذن نحن لدينا عقلية حضارية تمدينية، فهذا دينٌ وتمدين، لكن اختلف السادة الأئمة هل قوله عليه الصلاة وأفضل السلام من أحيا أرضاً ميتاً فهى له هو قولٌ بصفة الرسالة والتبليغ  أو بصفة الفُتية أو الفتوى أو بصفة الإمامة؟ وطبعاً واضح أن هذا ليس بصفة القضاء لأنه لم يقل هذا في  واحد من خصمين وإنما قال “مَن”، وهذا لفظ من ألفاظ العموم، فإذا سيكون قال هذا إما من باب التبليغ أو الفُتية أو الإمامة وليس من باب القضاء، وعلى كل حال اختلف العلماء، فالإمام مالك والشافعي قالا قوله هذا قولٌ بصفة التبليغ والفُتية، أي أن هذه فتوى، وعلى طريقة مالك والشافعي المفروض إلى اليوم أي أحد يستحيي أرضاً تكون له، لكن لا تُوجَد دولة واحدة الآن  تسمح لك بهذا، فسوف يضربونك على أم رأسك ولو قلت لهم مائة مالك، لأن الدولة لا ترضى بهذا، فلا يُمكِن لكل أحد أن يضع يده على الأرض التي يُريدها، ولكن قد تقول لي “بعض الدول تفعل”، وقولك أن  بعض الدول تفعل أو بعض الحكومات تفعل يدل على أن المسألة إمامية، ولذلك بقيَ رأي الإمام الأعظم أبي حنيفة – قدَّس الله سره – فماذا قال؟  قال هذا تصرّفٌ منه بالإمامة، لكن عملياً كيف يختلف الأمر؟ لو كان بالإمامة لن يسوغ لأحدٍ منا أن يفعل هذا ويستجيزه إلا إذا سمحت له الحكومة البلدية حين تقول له هذا جائز ومن ثم خُذ هذه القطعة استصلحها وهى لك، لكن لو لم تأذن له فهو غير مأذون مع أن النص موجود، فلا تقل لي هناك نص وهناك حديث صحيح لأنني سوف أقول لك الحكاية لا تتعلَّق بنص ولا بكونه صحيحاً أو غير صحيح، فالمسألة هى بأي عنوان يُفهَم هذا النص؟ هل يُفهَم بعنوان الفتوى والتبليغ أم بعنوان الإمامة؟  وطبعاً الآن الأرجح في عصرنا أنه بعنوان الإمامة، وهذا ما يجب أن ننتبه إليه.

ثانياً تُوجَد  مسألة الظفَر، حيث جاءت هند بنت عُتبة أم معاوية بن أبي سفيان – خصمي – إلى رسول الله وقالت يا رسول الله إن أبا سفيان رجلٌ شحيح – أبو سفيان رجل بخير مسّيك كزاز – ، لا يُعطيني وولدي ما يكفيني من النفقة من المال، وهذا شيئ عجيب، فهو شيخ قريش وعنده الكثير من الأموال ولكنه لا يُعطيها لأنه كان رجلاً بخيلاً، علماً بأن هذا الحديث صحيح ، فقال – عليه الصلاة وأفضل السلام – لها  خُذي من ماله ما يكفيكِ وولدكِ بالمعروف، وهذا شيئ عجيب، أي خُذي من غير ما  استئذان منه ولكن بالمعروف، فلتذهب إلى الخزنة – Geldschrank – أو ما إلى ذلك وتأخذ بالمعروف، فهذا هو معنى خُذي من ماله ما يكفيكِ وولدكِ بالمعروف، لكن ما معنى بالمعروف؟ أي بحسب العرف، فأنتِ هند بنت عُتبة ومعروف ما هى الحيثية الاجتماعية لكِ ولزوجكِ في المُجتمَع، فأنت لست من فقراء الناس وهذا شيخ قريش، وبالتالي السؤال هو كم تُنفِق طبقة مثل طبقة هند وأبي سفيان على عائلة مثلاً؟ لو هناك عائلة من خمسة أنفار سوف يُنفِقون كذا وكذا ديناراً في الشهر، وبالتالي سوف تأخذ هالكذا وكذا ديناراً شهرياً – مثلاً – أو أسبوعياً ولكن بالمعروف، فلا تتعدى، وهذا صحيح لأن هذا هو العدل، لكن هل هذا حكم من النبي أم فتية؟ سوف نرى، لكنه على كل حال قال خُذي وولدكِ ما يكفيكِ من ماله بالمعروف، فقط كلمتان وانتهى الأمر، لكن اختلف العلماء هل قال هنا – عليه الصلاة وأفضل السلام – هذا القول كفتوى وتبليغ أو كقضاء؟ وطبعاً لا يُمكِن أن نقول أن هذا من باب الإمامة، فهذه القضية ليست سياسية، والتصرّفات الإمامية تصرّفات لها علاقة بالدولة وأملاكها وسياساتها والجيش والولاة وتعيين الولاة وتعيين القضاة، هذه هى التصرّفات الإمامية، لكن قضايا الخصومات بين الناس هى تصرّفات قضائية، أما الحكم شرعي  قد يكون فُتية أو تبليغ، وهما مستويان أثراً، فإذن هذا إما أن يكون تصرّفاً بالفُتية أو تصرّفاً بالقضاء، ومرة أخرى ماذا قالا الإمام الشافعي والإمام مالك؟ قالا هذا تصرّف بالفُتية لكن أبو حنيفة قال هذا تصرّف بالقضاء، ونحن نُرجِّح أن هذا التصرف بالفُتية وليس بالقضاء كما ظن أبو حنيفة، لكن هل تعرفون لماذا؟ لأن من أبسط بسائط وأوضح شروط القضاء والتقاضي حضور الخصمين، فهل النبي أمر بحضور أبي سفيان هنا؟ لم يأمر، هى فقط سألته ثم أجابها، فإذن هذه فُتية وليست قضاء.

سامحوني أيها الرجال لأن النساء سوف يفرحن وسوف تقول الواحدة منهن سننتقم من كل زوجٍ مسّيكٍ كزازٍ شحيح، وأنا أقول لها عند – والله – هذا الحق على طريقة الإمام مالك والشافعي وأنا حتى أرتاح إلى هذا، فافعلي هذا ولكن بالمعروف، والله حسيب كل منكن، لا تأخذي فتوى دون أن تفعلي هذا بالمعروف، ونحن نقول هذا لأن بعض الرجال لديه بخيل عجيب جداً جداً جداً، فخُذي ولكن بالمعروف، وهذه المسألة تُسمى مسألة الظفَر، أي إنسان له حق مُتقرِّر شرعاً ولكن – سبحان الله – خصمه لا يُعطيه إياه ومنعه إياه بأي طريقة، فلو وقع هذا على حقه هل يأخذه أو لا يأخذه؟ مَن قال تصرّف النبي هنا كان قضائياً يقول لا يأخذه لأن لابد أن يقضي لك الحاكم – أي القاضي – بهذا، ومَن قال تصرّف النبي كان  إفتائياً أو فتوياً وتبليغياً يقول له أن يأخذ هذا الحق، فهذه مثل هذه لأنها مهيعٌ واحد، وعلى كل حال هذه إسمها مسألة الظفَر.

المثال الثالث والأخير هو مثال مشهور، علماً بأن هذه الأمثلة ذكرها  القرافي وغير القرافي رحمة الله عليهم أجمعين، حيث قال عليه الصلاة وأفضل السلام مَن قتل قتيلاً فله سلبه، لكن ما هو السلب؟ السلب ما يكون على الجندي من آلة الحرب والمتاع، مثل اللباس والذهب والخواتم والخنجر وما إلى هنالك، فكل هذا يُسمى سلب الجندي، والنبي يقول مَن قتل قتيلاً فله سلبه، لكن متى قال النبي هذا؟ قال هذا النبي في حنين، واختلف السادة العلماء هل هذا تصرّفٌ بالتبليغ أو بالفُتية أو بالإمامة؟ والمرفوع عنها هو القضاء، لأن هذه المسألة ليست مسألة اختصام، فإما بالتبليغ أو بالفُتية أو بالإمامة لأن هنا تُوجَد دولة ويُوجَد إمام ورئيس جيش، فالقضاء ليس وارداً من أصله، وعلى كل حال اختلف العلماء، والشافعي على طريقته في الأولى والثانية والثالثة –  وهذا يُسهِّل لكم حفظ هذه المسائل – ظل يقول فُتية، فُتية، فُتية، تبليغ، تبليغ، فهو كان مُتعصِّباً للتبليغ، ومبدئياً عنده الحق لكن تفصيلياً يُوجَد نقاش معه رضوان الله عليه، واحفظوا هذه القاعدة الجميلة في أصول الفقه التي تقول الدائرُ ببن الغالب والنادر يُحمَل عند الاختلاف على الغالب، أي الأمر المُتردِّد بين الغالب والنادر، فيغلب على هذا الأمر أن يكون كذا، ويندر ويتفق أحياناً أن يكون كذا ، فالآن وقع الاشتباه هل هو كذا أو كذا، فماذا نجعله؟ نجعله حسب الغالب وليس حسب النادر، والآن هذه المسائل الغالب فيها أصلاً – كما قلت لكم في أول المقام – أن تكون إبلاغية تبليغية رسالية إفتائية أم أن تكون قضائية أم أن تكون إمامية؟ تبليغية، لأن الصفة الأعظم للرسول أنه مُبلِّغ ورسول، قال الله  إنْ أنْتَ إلاَّ نَذِيرٌ ۩، فالنبي رسول لكن اشتبه علينا الأمر، أما الشافعي فيقطع بسهولة ويقول هذا نُديره مع الأغلب، فإذن هو تبليغي وهذه فُتية، فُتية، فُتية، لكن مالك هنا رضوان الله تعالى عليه قال عكس هذا، فمالك وافقه في الأولى ووافقه في الثانية وخالفه في الثالثة، لكن في الحقيقة الشافعي هو الذي خالف شيخه مالك طبعاً، فمالك هو أستاذ الشافعي، وعلى كل حال مالك هنا خالف قاعدته، فمالك يأخذ بهذه القاعدة – قاعدة الدائرُ ببن الغالب والنادر يُحمَل عند الاختلاف على الغالب، أي أن الدائر بين الغالب والنادر  يُعزى إلى الغالب – لكنه خالفها هنا وقال  في هذه المسألة التصرّف كان إمامياً، ولم يكن فتوياً أو إفتائياً تبليغياً، لكن لماذا قال هذا؟ 

 مالك فقيه كبير، والمالكية هم فقهاء المقاصد وفقهاء المصالح، فأكثر مذهب أخذ بالمصلحة المُرسَلة هو المذهب المالكي، وأقل المذاهب وأكثر المذاهب تشدّداً هو المذهب الشافعي، ولذلك من جُبة الشافعي خرج الظاهرية، فداود بن عليّ كان شافعياً ثم تظهَّر، ولذا هذا مذهب ابن حزم رضيَ الله عن الجميع وأرضاهم.
فلماذا خالف مالكٌ أصله؟  خالف مالكٌ أصله – وأختم به وأرجو ألا أكون أطلت وأمللت – لأنه قال أن فيه إفساد للنية، ومن أعظم القربات إلى الله الجهاد في سبيل الله –  الجهاد عظيم لكن الآن حين يكون هذا من باب الفُتية والتبليغ فتُصبِح قاعدة أن مَن يقتل أي أحد في المعركة يأخذ سلبه دائماً سوف يكون هذا بمثابة إفساد للنية، فهذا سوف يُفسِد النية لأن سيغلب على نوايا بعض المُجاهِدين دائماً طلب السلب، فهو سوف يُقاتِل لا من أجل الجهاد وإنما من أجل أن يأخذ السلب – لكن هذا يُفسِد نية المُجاهِدين ثم يُوقِع فيهم وبينهم التخاذل، لكن ما معنى التخاذل؟ أن يصير وكده وتحرجيهم على قتل مَن يكون عليه سلبٌ أروع وأعظم، فيتركوا الفقير ولو كان فارساً لعدم وجود سلب عنده، لكن مَن عنده السلب سوف يذهبون لقتاله ومن ثم يقع التخاذل، أي أنهم ربما تركوا مثلاً الأشد فروسية والأقوى والأنكى في المسلمين وذهبوا إلى الضعيف من أجل سلبه، ولذلك باختصار كان هذا رأي الإمام مالك.

أما الإمام أحمد فعنه روايتان في هذه المسألة كما قال في زاد المعاد، فهذه المسألة يُقال فيها هل يُؤخَذ السلب بالشرعي أم بالشرط؟ إذا قلنا بالشرعي سوف يعني هذا الفتوى والتبليغ، وإذا قلنا بالشرط سوف يعني هذا أن لابد من أن يَشرطه – من الفعل شَرَطَ – ويشترطه الإمام، ولكن تحقيقاً لكلام مالك نقول أنه قال  لابد أن يشرطه – يعني يشترطه – الإمام بعد القتال، فإن شرطه قبل القتال فلا عبرةً به ولا سلب لك، لكن  لماذا؟ لأجل المعنيين الذين ذكرت لكم، أي حتى لا تفسد النية وحتى لا يقع التخاذل، ولكن يأتي الإمام بعد  أن تضع الحرب أوزارها ويقول “بيان عام عسكري رقم واحد، مَن قتل قتيلاً فله سلبه” ويذكر  طبعاً الحديث المروي عن رسول الله “مَن قتل قتيلاً له عليه بيِّنةٌ فله سلبه”، لكن لابد أن تأتي بيِّنة طبعاً وبشهود.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، فيا فوز المُستغفِرين!

(8/6/2012)

http://www.facebook.com/Dr.Ibrahimadnan

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: