إيمان العار خطبة متشعبة تهم الجميع، وتتعلق بحياتنا العملية والعقدية والإيمانية بتوضيح من تنطبق عليه الآيات المتعلقة بتوقير الله والصورة المعتقدية عنه عند أكثرنا وكيفية تصديرنا إياها للآخرين، وحظنا من الإيمان وتجلياته مع نصيحة ثمينة بأن لا نكون عبادا للعناوين.

إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد: 

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ۩ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ۩ لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ۩ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ۩ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ۩ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ ۩ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ۩ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ ۩ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ۩ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

إخواني وأخواتي:

وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ۩، من سياق الآية الكريمة يضح أنها في الكفّار الذين أشركوا مع الله غيره، وعبدوا من دونه سواه، وأنكروا البعث والنشور، هؤلاء – يقول المولى جل مجده – ما عظَّموا الله حق تعظيمه، أو حق عظمته، من قولنا فلان له قدر، فلان له قدر أي مكانة وعظمة، فــ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ ۩ أي ما عظَّموه، إذ أشركوا معه غيره، وعبدوا سواه، وأنكروا لُقياه – سُبحانه وتعالى -.

وهذا التعبير الإلهي الجليل تكرَّر في كتاب الله – تبارك وتعالى – في موضعين آخرين، فهي إذن ثلاثة مواضع، في سورة الأنعام وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ ۩، هذه الآية إذن في الربوبيين، هذه الآية في الربوبيين الذين يقولون نُؤمِن بالله، الله مووجود – تبارك وتعالى – رباً، خالقاً، أبدع ودبَّر هذه الأكوان، لكنه لا يتواصل مع عباده، موضوع الرسالة هذا لا يدخل أو لا ينسلك في أذهاننا، لا رسالات! الله يقول هذا – والعياذ بالله – مينٌ وانحرافٌ وإلحادٌ في أسماء الله وصفاته وفيما يجب لعظيم جلاله ومثابته، وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ۩، لماذا؟ لأنهم يزعمون إذن – إخواني وإخواتي – أن الله – تبارك وتعالى – الذي خلق ودبَّر وسوَّى ترك خلقه هملاً، خلاهم سُدىً، فهم مخلوقون عبثاً، أَفَحَسِبۡتُمۡ أَنَّمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ عَبَثٗا وَأَنَّكُمۡ إِلَيۡنَا لَا تُرۡجَعُونَ ۩، مخلوقون عبثاً، سُدىً، لأنهم: قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ ۩، أبداً! أنكروا الرسالات.

هؤلاء إذن ما وقَّروا الله حق وقاره، وما عظَّموه حق عظمته، وما قدَّروه وقدَروه حق قدره – لا إله إلا هو -، وأيضاً هناك آية في سورة الحج، آية المقام التي افتتحت بها الخُطبة من سورة الزُمر، أيضاً في سورة الحج هناك آية، وحتى نفهم السياق هي التي ولت قوله – تبارك وتعالى – يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ۩… الآية! ثم قال مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ۩، قال مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ۩، إذن مرة أُخرى في الذين يعدلون بالله، في الذين يعدلون بالله، يجعلون له أنداداً، يجعلون له شركاء، الله يقول هؤلاء الأنداد والشركاء لا يستطيعون أن يستنقذوا ما يأخذه الذباب منهم، لو سقطت ذبابة على صنم مهما كان هذا الصنم كبيراً وجليلاً في نظر الواهمين وفي نظر الضالين من عبّاده وسدنته، لو سقطت ذبابة عليه فأخذت ما عليه من عسل أو من سكر أو من حلوى لا يستطيع – أي هذا الصنم – أن يستنقذ من الذبابة ما أخذت، فالذبابة أقوى منه وأحيل، الذبابة أقوى منه وأوسع حيلة، أي من هذا الذي عدلتهم الله به – والعياذ بالله -.

إخواني وأخواتي:

مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ۩، يبدو أنها تنطبق أيضاً بمعنى وسيع على مَن أعلنوا إيمانهم وإسلامهم لله، ومن أسف شديد، وبأكثر من معنى.

أُريد أن أُوضِّح هذا المعنى بطريقة أرجو ألا تكون صادمة – إخواني وإخواتي -، وفي الحقيقة الذي أوحى وألهم بهذه الخُطبة ما صار مُتواتِراً ومُتردِّداً جداً من فظائع بعض المُسلِمين، ذاك الذي يقتل أباه، ذاك الذي حطَّم جمجمة أمه بفأس، تلك التي تحيَّلت على قتل زوجها مع عشيقها، تلك التي قتلت ابنها من أجل عشيقها. أشياء فظيعة مُخيفة، وهذه مُحجَّبة، بحجابها! وذاك ربما اعتمر خمس عُمر أو ست عُمر أو ربما في الصفوف الأولى، يفعلون هذه الفظائع! وطبعاً هناك ما هو دون ذلك، مِمَن يحلف بالله كاذباً، من أجل أن يتغوَّل مالك وحقك، كأن يتغوَّل خمسين يورو أو مائة يورو، يحلف بالله، أعظم وأوثق وأغلظ الأيمان، إنه لمُحِق وإنك لمُبطِل، من أجل مائة يورو، فما هذا؟ هل هؤلاء يُقدِّرون الله حق قدره؟! وأيضاً جمّاء غفير مِمَن لا يبخعون لأمر الله، يستكبرون، يأبون، يعصون، يقول لك لا، لا يخرج من نفسي، لا أستطيع، لماذا لا تستطيع؟! لا أستطيع أن أفعل هذا الشيئ الذي أمر الله به، لا أستطيع أن أنتهي عن هذا الشيئ الذي نهى الله عنه، لا أستطيع، عظيم، عظيم! هل أنت مِمَن يقدر الله حق قدره إذن؟! شيئ مُخيف، نُريد أن نفهم هذه الحقيقة.

فعن لي – إخواني وأخواني عن لي الآتي – أن من الناس – لا نقول كثيراً ولا نقول قليلاً، فالنسبة عند الله تبارك وتعالى، حتى لا نقع في الغلط، أقول فعن لي أن من الناس، وأعني بالناس هنا المُسلِمين طبعاً، أي أن منا معاشر المُسلِمين – مَن يُمضي حياته تقريباً عملياً أو بشكل عملي وكأن الله غير موجود، وغير مُطلِع، وغير سميع، وغير بصير، وغير عليم، وغير مُحيط بما يفعل، كأن الله غير موجود، يتصرَّف ويحيا تماماً كمُلحِد بحت وكمُلحِد صرف لم يُؤمِن بالله طرفة عين، مع أن هذا مُسلِم، ويُصلي، ويفتح المُصحف، ويحج، وربما – كما قلت – يأتي في الصفوف الأولى، لكن حياته العملية كما ذكرت، شيئ مُخيف مُرعِب، شيئ مُخيف ومُرعِب حقاً – إخواني وأخواتي -.

ما الحاصل؟ ما الذي يحصل؟ ما الأمر؟ طبعاً هناك مُستوى ربما أكثر عُمقاً وأكثر استخفاءً: الصورة المُعتقَدية “كما أُحِب أن أدعوها” لله، الصورة المُعتقَدية لله – تبارك وتعالى – التي يُصدِّرها ويُوصِّلها ويُدافِع عنها بعض المشايخ وبعض علماء الدين، صورة مُعتقَدية أيضاً بطريقة أو بأُخرى وبمعنى أو بآخر تُغري بالإلحاد، تجعل الملاحدة والمُرتدين من أبناء هذه الأمة وبناتها يطمئنون إلى أنهم لم يغلطوا، في الطريق السليم!

وأيضاً هذا الكلام أقوله بمرارة وبألم شديد – علم الله -، لأنني استمعت قبل أيام إلى رجل كان في قومه داعيةً، من أهل الكتاب والسُنة، لديه شهادات شرعية علمية من جامعات، الرجل ألحد بالكامل، وتجرأ على أن يقول الله – أستغفر الله العظيم، اللهم غفراً، أعوذ بالله من زلات اللسان وزلقات الجنان – الذي بشَّر أو أخبر عنه محمد والقرآن لا يستحق أن يُعبَد ثانية! شيئ تقشعر له الأبدان، هذا كان شيخاً، وكان داعيةً، وكان كبيراً في قومه، كبيراً في قومه! لماذا؟! لماذا؟! أُحاوِل أن أفهم هذا الكلام بأي طريقة، لا يتجه لي بادئ الرأي، لأن الله الذي أعرفه وأُؤمِن به وأرى أن القرآن دل عليه وعرَّفنا عليه – لا إله إلا هو – ليس كذلك، بالعكس! يستحق ألا يُنسى لحظة – والله العظيم -، يستحق أن يُذكَر، فلا يُنسى، وأن يُشكَر، فلا يُكفَر.

إذن يبدو أن الخلل في الصورة المُعتقَدية التي آمن بها هذا الرجل – أي هذا الداعية – وبشَّر بها ودعا إليها، فجأة استيقظ ورأى – بالعكس – أنه يدعو إلى كارثة، يدعو إلى شيئ يُمزِّق وحدة الإنسانية، وحدة البشرية، وحدة المُجتمَع الواحد، ووحدة ربما الأسرة الواحدة، باسم الله! ما الذي يحصل؟

الكلام إلى الآن في العموميات، وليس واضحاً اتجاهه ومساره، الآن بضرب الأمثال يضح المقال كما يُقال، لنبدأ واحدة واحدة، والموضوع مُتشعِّب وطويل، وعلى فكرة الموضوع مُهِم وخطير، هذا الموضوع يُهِم كل واحد منا، بالمُطلَق مُهِم هذا الموضوع، ولابد أن يقف الواحد منا مع نفسه وَقفةً، بل وِقفةً، طويلة مُتأنية، ليُسائل نفسه مُساءلة الشريك الشحيح: ما هي الصورة المُعتقَدية لله – تبارك وتعالى – التي أصدر عنها والتي أُؤمِن بها؟ كيف أنظر إلى الله؟ ما حظي من الإيمان؟

في الحقيقة يا إخواني القرآن حين يُقدِّم لنا الإيمان تماماً كما يُقدِّم لنا الكفر، يُقدِّم كلاً من هذين المفهومين من خلال تجلياته، لا يُوجَد كفر مُجرَّد هكذا وينتهي الأمر أو إيمان مُجرَّد وينتهي الأمر، لا يُوجَد! يُوجَد إيمان له تجلياته، وللأسف هذه التجليات عُلِّمنا ودُرِّسنا أنها تقع في مُقابِل الإيمان، أي أشياء غير الإيمان، لا تتناقض معه، ولكنها غير الإيمان، لا! هذا غير صحيح، مَن قرأ القرآن وتفحصه يرى ويخلص إلى أنها تجليات الإيمان، هذا هو، حين يُوجَد إيمان هذه الأشياء تظهر كتجليات، أي حين يُوجَد إيمان أو إذا وُجِد الإيمان وتحقَّق الإيمان فهناك الصبر وهناك الشكر، أعظم تجليات للإيمان! والإيمان شطران: صبرٌ وشكرٌ، يُوجَد صبر، صبر على طاعة الله، صبر على أقدار الله المكروهات، غير المرغوبات، ويُوجَد شكر، شكر على النعماء، دقيقها وجليلها، صغيرها وكبيرها، سرها وعلانيتها.

وإذ نحن في ليلنا ونهارنا، بل في كل أوقاتنا، مشمولون بنعم الله – تبارك وتعالى -، كل لحظة وكل ثانية من ثواني حياتنا – والله – هي عطية من الله وهدية منه، أننا نعيش هذه اللحظة، هذه اللحظة تستحق شكراً، إن لم يكن باللسان فبالأفعال وبالأركان، أو باستحضار القلب، أننا مشمولون بنعم الله، فهل يُعصى الله بنعمه؟! هل نستغل هذه النعمة – هذه الساعة الجديدة في عمرنا، فضلاً عن اليوم، فضلاً عن ما هو أطول من اليوم – لكي نعصي الله ونُرتِّب لمعاصيه؟!

إذن تجليات الإيمان صبر وشكر، يقين، توكل، خوف، رجاء، اعتماد، ثقة، إحساب، محبة، خشية، خوف، رجوع، إنابة، إلى آخر ما ذُكِر في كتاب الله، تجليات الإيمان! هذا هو، وفي المُقابِل ماذا هناك؟ سيسألك المُلحِد والربوبي والمُتشكِّك وفي المُقابِل ماذا هناك؟ ماذا هناك؟! هذا هو المربط، وهذا هو المعيار، وهذا هو – إخواني وإخواتي – كما يُقال مربط الفرس، الذي يستطيع كل واحد منا أن يُعيِّر وفقه وبه – بإذن الله – إيمانه، حظه من الإيمان، المعيار الأول تجليات الإيمان علىّ، عليكَ، وعليكِ، إذا كان هناك قدر أكبر من التجليات وتحقق أكبر بهذه المعاني التي يتجلى بها الإيمان، فإذن هناك إيمان، والشيئ الثاني من طرف السماء، من طرف الله، وهو إجابة الدعاء، إجابة الدعاء لأنك تدعو مَن تعرف، أنت تُخاطِب مَن تعرف، وأنت تُخاطِب مَن يسمعك، لأنك استمعت إليه، كما قال صُهيب نعم الرب ربنا لو أطعناه ما عصانا، وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ ۩… إذن الدعاء المُستجاب دعاء مَن؟ المُتواضِعين لله، الباخعين لأمر الله، الصادرين عنه، الذين لا يستكبرون.

اليوم ترى إيمان بعض الناس – كما قلت لن أقول هذا كثير أو قليل، سأقول بعض الناس، الله أعلم هل هم الأكثرون أم الأقلون، إن شاء الله يكونون الأقلين، إن شاء الله يكونون كذلك، نتأمَّل في رحمة الله وفي جوده – على النحو الآتي، بعض الناس – إخواني وأخواتي – يأخذ من الدين ما يُوافِق هواه، ما أُشرِب هواه، الشيئ الذي يُحِبه يعمله، حتى ولو كان حجاً وعمرةً فيها تعب، يُحِب هذا، والله أعلم الآن لماذا يُحِب، وطبعاً واضح لكل واحد منا لماذا يُحِب، يُحِب أن يحج ويعتمر ويتعب ويُنفِق الألوف، وما شاء الله يقضي حياته في الغيبة والنميمة والعصيان وأكل حقوق الناس، يدفع في الحج خمسة آلاف يورو، ويأكل عليك وعلىّ مائة ومائتين وثلاثمائة وألفاً وألفين، شيئ لا يكاد يُفهَم، حالة من العمى، حالة من الضلال المُدلهِم – والعياذ بالله -، وينبغي أن يُقال هذا لنا، ينبغي أن نُخاطِب أنفسنا بهذا بوضوح وبصراحة يا إخواني، نعم! يكفي أن نُجامِل أنفسنا، كفى مُجامَلات وتكذيب بالحقائق وغش، نغش أنفسنا في الحقائق، نُعمّيها على أنفسنا – إخواني وأخواتي -.

هذا إذا خُوطِب بأمر الله، إذا ذُكِّر بخطاب الله – تبارك وتعالى – فيما لا يُوافِق هواه، يقول لك خل عني، ما معنى خل عني؟ يا أخي الله يأمرك بهذا! يقول لك خل عني، لا يُوافِق هواه، يُوافِق هواه أن يحج ويتعب وأن يُصلي في الصف الأول، يُوافِق هواه، ولكن لا يُوافِق هواه أن ينزع عن المعصية الفلانية، أن يدع الناس من شره وظلمه ولسانه الطويل القرّاض، الذي يقرض الأديم على مدار الأربع والعشرين ساعة، ونازل في الحساب، وعنده موازين يُوزِّن بها الناس: هذا صالح، وهذا طالح، وهذا مُؤمِن، وهذا مُنفِق، وهذا مُلتزِم، وهذا غير مُلتزِم. ما شأنك وشأن البشر؟ ما شأنك والناس؟ اعتن بنفسك يا رجل، خلِّص نفسك، فك رقبتك، دعك من الناس.

والنبي بشَّر بأن الذين ينجون في آخر الزمان هم هؤلاء، الذين تركوا الناس من شرهم، تركوا الناس من شرهم تماماً، مأمونو الجانب، يقول لك خل عني، يستكبر هذا، يستكبر! 

الآن الشيئ المُثير والمُخيف يا إخواني: تأتي إليه وتقول له يا رجل اترك ما أنت فيه واتق الله – تبارك وتعالى -، العمر قصير، والموت يأتي بغتة، عُد إلى الله، تُب إلى الله، واستسمح مَن أسأت إليهم، وأعد إليهم حقوقهم، يقول لك اتركني، عجيب! تقول له قال الله تعالى… ويُكمِل لك الآية، وأنت تُعلِّمه، هذه المُصيبة، تُعلِّمه وهو يُكمِل لك الآية، تقول له النبي قال… ويُخرِّج لك الحديث، فهذا فاهم، لأنه من عشرين أو ثلاثين سنة في المساجد، شيئ لا يكاد يُصدَّق، وهو مُستعِد أن يُدرِّس لك في الدين، يُكمِل لك الآية والحديث مُباشَرةً، وربما يأتيك بقصة وبأبيات من الشعر في الموضوع المُتكلَّم فيه، ولكنه لا يفعل ولا يرعوي.

السؤال: تخيَّل أن هذا المرء بين يدي ملك من ملوك الدنيا، مهيب ومُسلِّط وذو نوال، كريم أيضاً، ندي اليد، يُعطي إذا رضيَ، ويبطش إذا سخط، وهذا الملك قال لهذا الإنسان وهو من السوقة ومن عامة الناس يا فلان أطلب منك أن تفعل كذا وكذا، مُباشَرةً يبخع، أليس كذلك؟ يبخع، ويشعر أنه يبخع لأمر هذا الملك من حُشاشة قلبه كما يُقال، أي من الداخل (من جوا) يبخع، يبخع ويقول هذا هو طبعاً يا أخي، ما أمرني إلا بخير، أمرني أن أصطلح مع أخي، وأن أُعيد إلى جاري الحق يا أخي، بارك الله فيه، ملك صالح هذا.

لماذا يفعل هذا؟ طمعاً ورهباً، رغباً ورهباً، وهو ربما يرهبه، إذن يا أخي الله أليس أحق أن يُطمَع في عفوه ورحمته ونواله؟! وأليس أجدر وأقمن أن يُرهَب جانبه وعقابه وسطوته؟! يا رجل… يا رجل واضح – واضح كما نقول دائماً – أن الله في قلبك ويقينك ليس هو الأكبر، باختبار بسيط! اتضح أن بشراً عادياً أكبر في قلبك منه، وهو ليس عادياً طبعاً، هذا ملك، أي إنه عنده ليس شيئاً عادياً، لكن عند الله في الأخير كل هذا عادي وكل هؤلاء بشر، تخيَّل!

إخواني وأخواتي:

هل تدعون عالماً – أي هل تسمون امرءاً عالماً، هذا عالم في الفيزياء أو في الرياضيات أو في الطب أو في أي شيئ – وهل تسمون عالماً مَن كلما إذا سُئل في علمه لم يُجِب وأخطأ؟ حين تسأله سؤالاً لا يعرف، وكذلك مع السؤال الثاني والثالث والرابع والمائة والمائتين، دائماً يغلط ولا يعرف هذا غلط أم لا، هل تسمونه عالماً؟! إذن لماذا نُصِر على أن نُسمي أنفسنا مُسلِمين؟ وطبعاً لسنا من المُكفِّرين ولا التكفيريين ولا هذا طريقنا إطلاقاً أصلاً، ولكن نُريد أن نُحاسِب أنفسنا – كما قلت – مُحاسَبة دقيقة، لكي نُوقِظ الإيمان، نستزرع هذه البذور البسيطة، لعلها تُثمِر، لعلها تُثمِر دوحة، كما قلت مرة دوحتنا التي لا تُثمِر، لعلها تُصبِح دوحة وتُثمِر في يوم من الأيام، نُريد أن نستحييها، أن نستبعثها، أن نُوقِظها، وأن نستثمرها بمثل هذه المُحاسَبة، وإلا لا علاقة لنا بقضية التكفيريين هؤلاء وتكفير الخلق، حاشا لله، بالعكس! نحن ندعو أن يُترَك الخلق لله – تبارك وتعالى -، هو أعلم بهم وأرحم بهم وأعدل في حقهم – لا إله إلا هو -، ليس لهم منا إلا النصح والمحبة والدعاء الصادق فقط، أكثر من هذا لا، لا نجور على أحد من خلق الله ولا نشنأه.

فلم إذن ندعو أنفسنا مُسلِمين ومُؤمِنين وربما صالحين ونحن نفشل في الاختبار كل مرة؟! كل مرة نفشل في الاختبار، قد يقول لك أحدهم لا، لا يا أخي، ليس كل مرة، بالغت، ننجح فيما يُوافِق أهواءنا، أي فيما أُشرِبنا من الهوى ننجح، هذا نُحِب أن نعمله فنعمله، نُحِبه واعتدنا عليه وهو سهل، والشيئ الذي لا نُحِبه لا نعمله، حتى وإن كان – كما قلت لكم – شيئاً بسيطاً جداً جداً، كإرجاع بعض الحقوق إلى الناس، الكف عن أعراض الناس، لا! نحن نُحِب هذا، الفاكهة! هذه فاكهتنا، نتفكه بها.

إذن أمر إيماننا محل تساؤل يا إخواني، أمر تديننا – يقول أنا مُتدين – محل تساؤل، وطبعاً في مثل هذه البيئة وفي مثل هذا الفضاء الثقافي – إن جاز التعبير يا إخواني – ينمو الإيمان الطقوسي، وفعلاً تصير الناس تُعيَّر بماذا؟ يصير المرء يُعيِّر الناس ويزن الناس بماذا؟ بالمظاهر، هذا عنده لحية، وهذا لابس جلباب، وهذا لحيته طويلة، وهذا عنده هذه الطبعة السوداء، وهذه مُحجَّبة، وهذه مُنتقِبة، وهذا الدين! لكن انظر ماذا يفعل بعض هؤلاء، يفعلون ما لا يُفعَل، أي دين؟! طبعاً لأننا لم نختبر الإيمان والتدين في مُستواه الروحي الحقيقي العميق، فساد وشاع ماذا؟ الإيمان الشكلاني الطقوسي، يصير هو الإيمان طبعاً، انتهى الأمر، المسألة شكلية، فتعساً لمثل هذه الحالة، تعساً لهذا الوضع.

الله أكبر، مرة أُخرى يا إخواني ما معنى أن الله أكبر – لا إله إلا هو -؟ انظر إلى هذا، في كل صلاة عند كل انتقالة نقول الله أكبر، الله أكبر… لماذا؟ كان يُمكِن أن يأمرنا ربنا بأن نقول سُبحان الله، سُبحان الله… وذلك عند كل انتقالة، كله تسبيح، أليس كذلك؟ تكبير، الصلاة – انظر إلى هذا – أكثر ذكر يتكرر فيها التكبير، تكبير، تكبير، تكبير، تكبير… عند كل انتقالة، تكبيرات مُستمِرة!

وسوف نختبر أنفسنا الآن، أنا وأنتم وأنتن، هل فعلاً الله في وجداننا وفي ضمائرنا أكبر أم أنه – لا إله إلا هو وحاشاه – ليس الأكبر؟ هذا في وجداننا، كحقيقة مُطلَقة هو أكبر من كل شيئ – لا إله إلا هو -، لا شيئ مثله، لا شيئ أصلاً يأتي عند الله ولا يُقاس أبداً بعظمة الله، لكن هذا في وجدانك أنت، اليوم الحديث عن مُحاسَبة مفهوم الإيمان كما نعيشه، كما نُعايشه، وكما نختبره.

ما بال الرجل إذا زاد ماله ظهر كبره؟! حين يصير عنده بعض الملايين يصير مُستكبِراً، يستكبر على جيرانه وعلى إخوانه وعلى أصدقائه، لأن عنده بعض المال، بعض الملايين او بعض مئات الألوف، يستكبر! ما بال الرجل إذا زاد علمه يستكبر ويتعجرف؟ لأنه قال إنه عالم، وعنده شهادات عُليا وألَّف كُتباً، يتعجرف على الناس، يصير عنده عجرفة، ما باله؟! سوف نرى، باله هو أن إيمانه مُثقَّب مُخرَّم، لا يُوجَد إيمان حقيقي، كله! وهذا المسكين لا يدري هذا عن نفسه، وربما يأتي مثلي هكذا ومن المُمكِن أن يخطب في الناس ويتكلَّم في قضايا الإيمان، وهو إيمانه مُثقَّب مُخرَّق أصلاً، ويُكلِّم الناس بعجرفة، ما باله؟! ما باله إذا سُلطاناً ومثابةً – أخذ منصباً ما – يظلم؟ ترى بعض الناس يا رجل وهو يظلم حين يُصبِح ضابطاً في المباحث – وليس وزيراً -، يا ويل الناس منه، ويلٌ للناس منه، جبار عنيد مُجرِم مُخيف، ويفرح إذا استشعر أن الناس يهابونه ويخافونه ويُحيِّونه مخافةً وهيبةً، عجيب! هذا ضابط، مُجرَّد ضابط هكذا، فهل صار إذن شيئاً كبيراً؟ وطبعاً يظلم الناس بيده وكذا، وربما تأدى الأمر حتى إلى القتل، يُزهِق النفوس ويهتك الأعراض، فكيف لو صرت وزيراً أو رئيس حكومة أو رئيس بلد أو ملكاً على الناس؟! سيتضح أن نمروذ كان بالنسبة إليك ربما مُتواضِعاً.

تعرف الجامع المُشترَك بين هؤلاء جميعاً أن الله ليس الأكبر في وجداناتهم، فقط ببساطة! هؤلاء لو أيقنوا، لو اختبروا، لو رُبوا، ولو عاشوا مُنذ الصغر أو بواكير الشباب على أن الله هو الأكبر حقاً – لا إله إلا هو – لاختلف الأمر، فهو في باب العلم هو الأكبر، وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ۩، علم ماذا؟ دعوا هذا الكلام الفارغ، علم ماذا؟ لا يقل لي أحد أنا عندي علم، علم ماذا؟ علم ماذا يا مسكين؟ هذا هو والله يا إخواني، أنت حين تقيس علمك بعلم البشر ترى أنك من أجهل الجاهلين، حتى ولو كنت حاملاً لجائزة نوبل Nobel خمس مرات، أيضاً تظل من أجهل الجاهلين، لأنك حامل لنوبل Nobel خمس مرات في علم أو علوم مُحدَّدة، وهناك علوم أُخرى أنت صفر فيها، ولا تعرف فيها شيئاً، أليس كذلك؟

قبل يومين كنت أُحقِّق مسألة في علم العيون، فراجعت موسوعة من ستة آلاف صفحة، فقط فيما يختص بالعين ووظائفها وتشريحاتها، والله ستة آلاف، شيئ مُخيف مُرعِب، قلت يا الله، ما أجلهنا! ما أجهل البشر! وهذا ليس بشيئ، هذا ليس كل علم العين إلى الآن، هذا مرجع عالمي في علم العيون، تخيَّل! ستة آلاف، فإذن متى سوف ننتهي منها؟ ربما طالب الطب في كل دراسته لا يدرس ثمانية آلاف صفحة، وهذا فقط في علم العيون الآن، ونفس الشيئ في العلوم الثانية، فعلمك بالنسبة إلى علم البشر والعلم الموجود الآن والمُتاح للبشرية قطرة في بحر، والأرض قطرة في الكون، بل والله أقل، كيف تكون قطرة؟ أستغفر الله، اللهم قد كذبت، الأرض ليست بشيئ، قطرة ماذا؟ لا يُمكِن هذا، والله لا يُقال حتى إنها حبة رمل في الكون، أقل! شيئ رهيب، طبعاً هذا بالقياس، واعذروني على المُبالَغة، فهذه هي الأرض، وهناك رب الأكوان كلها، ما علمنا منها وما لم نعلم، لا إله إلا هو! هذا حين قال لك قال لك العلم عندي، أنا العليم، الله هو العليم، لا إله إلا هو! فلا يُوجَد مُؤمِن يقول غير هذا، طبعاً هذا غير المُؤمِن العادي، نعم المُؤمِن العادي يستكبر ويتبجَّح، طبعاً يتبجَّحون، عندهم تبجح رهيب، بعض غير المُؤمِنين عندهم هذا، لكن المُؤمِن بالذات لا يُمكِن أن يصل إلى هذه الحالة مهما حصَّل من علم، وهو يعلم أن هذا ليس بشيئ، حبة رمل أو قطرة في بحر علم البشر، فكيف بعلم رب الأكوان – لا إله إلا هو -؟ فيبقى مُتواضِعاً، باستمرار باستمرار يبقى مُتواضِعاً، والناس تغرب أو تستغرب من تواضعه، يقول لك أحدهم هذا عالم كبير، لا! هو فاهم، لكن هم غير فاهمين، هو فاهم، وبالذات لأنه صار عالماً كبيراً هو فاهم ما العلم وأنه ليس بالشيئ، والعلم مُؤشِّر على الجهل على فكرة، تزداد علماً – كما قال الشافعي – فتزداد علماً بجهلك، تعرف كم كنت جاهلاً! وتزداد أيضاً عجباً واستغراباً من جسارتك، كيف أنا كنت قبل سنتين أو ثلاث سنوات أتنطَّع للعلماء في تخصصاتهم وأزيِّف وأقول نعم، هذا صحيح، وهذا غلط؟! والآن اتضح أنني أجهل من شراك نعلي، فهمت هذا الشيئ حين تعلَّمت، حين صار عندك علم حقيقي على الأقل أو بعض العلم في هذا الجانب بدأت تفهم قدرك، ولذلك أجسر الناس وأكثر الناس تنطعاً الجهلة، العلماء مُتواضِعون، مُتواضِعون جداً، العلماء الحقيقيون مُتواضِعون.

ونفس الشيئ في المال، مال ماذا؟ مال ماذا؟ مال ماذا يا أخي؟ لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء، الدنيا وما فيها، وليس مُلك بلد مُعيَّن أو دولة مُعيَّنة، لا! الدنيا كلها، كل هذه الأرض على بعضها لا تزن عند الله جناح بعوضة، ولذلك لا تستحق أن تكون جزاءً لمُؤمِن صادق يوم القيامة، طبعاً! وتأتي يوم القيامة بأحسن زُخرفها وزينتها، أحسن شيئ! الدنيا تأتي وتقول يا رب اجعلني جزاءً لأحسن عبادك، فيقول لها – تبارك وتعالى – اسكتي يا لا شيئ، اسكتي يا لا شيئ.

النبي قال – وأقسم بالله النبي، أقسم – والذي نفسي بيده لموضع سوط أحدكم في الجنة – هذا السوط، كم تبلغ مساحة هذا في الأخير؟ ثلاثين سم مُربَّع، سيتضح أن هذه هي مساحته، كله على بعضه! ثلاثين سم مُربَّع – خير من الدنيا وما فيها، هذا الجزاء الموجود عند الله، أعده لعباده – اللهم اجعلنا منهم يا الله، وأعنا على ذكرك وشُكرك وحُسن عبادتك -، هو هذا، هل هذا واضح؟ إذن لا يُمكِن لمَن يزداد ماله أن يستكبر ويطغى، كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ ۩ أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ ۩، يستغني فيطغى، يطغى بلسانه، يطغى بأفعاله، يطغى باعتقاداته، بنظرته لنفسه، وبنظرته للآخرين، وهذا لا يُمكِن، المُمكِن لا يُمكِن أن يصل إلى هذه الحالة، لأنه مُؤمِن، يعلم أن الله أكبر، انتهى، هذه هي القضية، فقط! الله أكبر، انتهى، أكبر من العلم، أكبر من المال، أكبر من السُلطة، سُلطة ماذا؟ سُلطة ماذا؟ يُقال إن هذا ضابط أو وزير أو رئيس حكومة أو رئيس أو ملك أو أياً ما كان، سُلطة ماذا؟ سُلطة ماذا؟ أليس يمرض؟ أليس يشيخ؟ أليس حتماً سيموت؟ لا تُوجَد سُلطة، هذا كلام فارغ، كلام فارغ! هذا غداً حين يعتل بدنه – أي هذا العظيم المُسلَّط في قومه، والعظيم ربما في نظر العالم، فقد يكون إمبراطوراً كبيراً، هذا إذا بقيت الإمبراطوريات، ولكن هي بقيت، وتستخفي وتتقنَّع – يبقى يئن، هذا فقط حين يضربه الله بمرض بسيط، لا علاج له، يبقى يئن ويصيح ويستنجد ليل نهار، ولا يُوجَد حل، لا يُوجَد مخرج، ماذا يفعل؟ سُلطته أين هي؟

الكبر لا يليق بالإنسان، فقط لأن المُؤمِن يعلم أن الله أكبر لا يُمكِن أن يتهوَّر، لا يُمكِن أن يقع في هذه الوهدة – بإذن الله -، إذن هذا معيار نختبر به أنفسنا.

نأتي فيما بقيَ من الوقت – لا أُريد أن أُطيل عليكم – إلى الصورة المُعتقَدية التي نُصدِّرها للعالم عن ربنا – لا إله إلا هو -، الذي هو رب العالمين، ندعو الناس أن يُؤمِنوا بالله كما نُؤمِن به، ما هذا الإله الذي نُؤمِن به؟ كيف نحن تصوَّرناه؟ كيف فهمناه؟ 

أزعم – أحبابي، إخواني وأخواتي – أن الزاوية بهذا الخصوص انفرجت مرتين، في المرة الأولى انفرجت الزاوية بفهم بعض علمائنا – أيضاً مرة أُخرى بعض، بعض علمائنا وبعض أئمتنا – للكتاب والسُنة، حين صوَّروا هذه الصورة المُعتقَدية لله، تُوجَد هذه، تُوجَد زاوية مُنفرِجة، كيف هي مُنفرِجة؟ بين ما يُمكِن أن يُفهَم من النص وبين ما فهموه هم بالفعل، لا! ليس مائة في المائة، هذا الفهم ليس دقيقاً، طبعاً في بعض جوانبه، في بعض جوانبه ليس دقيقاً، في بعض جوانبه ليس صحيحاً.

الآن على فكرة تجد شاباً في العشرين من عمره أو ربما أقل – وكذلك شابة، في بواكير شبابهما – يعترض لك على مثل هذه التصاوير لله، يقول لك هذا غير مقبول عندي، كيف؟ غير مقبول – يقول لك -، وكأنه يُخيِّرك: إما أن تُعطيني فهماً جديداً للنص، وبالتالي إما أن تُضيف وتحذف وتُعدِّل في الصورة المُعتقَدية لله، وإما سأُغادِر هذا الدين، كهذا الداعية الذي غادر وقال – أستغفر الله – ما قال، لا أستطيع أن أُعيده مرة أُخرى، تُوجَد مُشكِلة هنا.

وانفرجت الزاوية – وهذه داهية أكبر – مرة ثانية بين واقع ما يحياه المُسلِم ويعيشه وبين الصورة المُعتقَدية التي أنجزها وجهَّزها له الأئمة والعلماء، حتى هو بهذه الصورة لا يعيش، يعيش دونها كثيراً، أقل منها كثيراً، فالمُصيبة مُدبَّلة Doubled، أي مُضعَّفة، المُصيبة مُضعَّفة!

هناك كان ينبغي أن يحدث تعديل، وهنا ينبغي أن يحدث تعديل أكبر، الأمران تقريباً شبه متروكين إلى الآن، شبه متروكين! وسأُوضِّح أيضاً مرة أُخرى بالمثال.

بالله عليكم سلوا ضمائركم عن الآتي، وعلى فكرة نحن – إخواني وأخواتي – الذين نعيش في الغرب بالذات لدينا اللياقة والأهلية أن نفهم مثل هذه التساؤلات أكثر من الذين يعيشون في أوساط إسلامية صرفة، الذين يعيشون هناك يعيشون بطريقة – طبعاً ليس الكل، لكن المُعظَم على كل حال، أستثني الشباب المُتواصِل مع العالم – بطريقة انغلاقية، هؤلاء المُنغلِقون والجامدون على أنفسهم فعلاً يرون أنفسهم شعب الله المُختار، والله مُتحيِّز لهم هم فقط، والله ما أنشأ الجنة إلا لهم فقط، وأن العالمين كلهم في الجحيم وفي لعنة الله وغضبه، وفقط! وهم مُرتاحون ومُصدِّقون لأنفسهم، لكن الأمر يختلف عند الذين يعيشون هنا ويتواصلون مع العلم وقد رأوا ما في العالم وما في الناس الآخرين من طيبة ومن خيرية ومن تواضع ومن أدب ومن جمال بصراحة لم يروا بعضه أو كثيراً منه في الدول والمُجتمَعات الإسلامية الصرفة، ولن أُفصِّل أكثر من هذا، لأننا نعيش هذه الحالة، ستُتهَم بأنك تمدح وما إلى ذلك، وهذا لا يهمنا على فكرة، لا تهمنا ولا تُخيفنا ولا تُزعزِعنا يا إخواني العنوانات ومثل هذه الترهيبات الرمزية، أنه كذا وكذا، لا يهمنا! يهمنا أن نقول ضمائرنا، وأن نصدح بما نراه حقيقة، وقد نكون مُخطئين، هذا الذي يهمنا، هل هذا واضح؟! إياك إياك أن تكون عبداً للعنوان.

أقول هذا على فكرة وفي ذهني موضوعة مُهِمة تستأهل وتستحق وحدها خُطبة يا إخواني، وهي قضية ماذا؟ قضية أن بعض الناس اليوم أصبحوا مُبشِّري ودُعاة بل عبيد عنوانات، فهناك مَن يُسمي نفسه ليبرالياً، وهذا حلو، حلو هذا وجميل جداً، كُن ليبرالياً، لا! الليبرالية عنده تعني تقريباً أن يتهجَّم على المُعتقَدات الدينية للآخرين، أن يتهجَّم على الأديان، أن يسخر من المُتروحِنين، أي من أهل الله، من الصُلحاء، ومن كل شيئ، هذه الليبرالية! فهل راجعت نفسك؟ هل درست الموضوع من ناحية علمية؟

قبل فترة كان بيني وبين أحد الأفاضل حوار قصير وسريع، فتكلَّم في مثل هذه الموضوعات، قلت له هل تعلم أن الاتحاد الأمريكي لعلم النفس وقبل شهور يسيرة اعترف بالظواهر الخارقة لأول مرة؟ قال لا، قلت له هذا موجود، الآن ماذا يفعل هؤلاء الليبراليون إذن والملاحدة؟ وهم يتكلَّمون باسم العلم، ويقولون إن هذه خُرافة، والأديان خُرافة، والدين يعد بالخُرافة، ويُطرِّق لها، خُرافة ماذا؟ لأنه فقط هو عبد للعنوان، هو أحب أن يكون ليبرالياً، ولكي تكون ليبرالياً لابد وأن تكون كذلك، فعند بعض الناس على فكرة لكي تكون ليبرالياً – هذا عند بعض الناس – لابد من هذا، ودعونا لا نقول كلمة ليبرالي، كلمة تنويري أحسن، يُقال لك هذا مُنوِّر وهذا مُفكِّر تنويري، عندهم لكي تكون تنويرياً يجب أن تسخر من الأديان، هكذا صار التنوير، لكن نحن لسنا كذلك، بكل بساطة تنويرنا ديني، نُريد أن نُنوِّر وأن ندعو إلى قيم وقيم مُطلَقة، تسع البشرية كلها، اعتماداً على الدين وعلى النص الديني وعلى اليقين الكامل التام – بإذن الله – بوجود الله – لا إله إلا هو – وتواصله مع عباده عبر رُسله وأنبيائه، ما رأيكم؟ هذا تنويرنا، لكن هم ليسوا كذلك، يقولون لك ما دامت هكذا فأنت لست تنويرياً، يا سلام، عادي! لا يعنيني، أن أفقد لقب تنويري لا يعنيني، والله لا يُحرِّك في شعرة، في مُقابِل ماذا؟ خطر أن أفقد إيماني الذي أنا أعتقد به وبيقين وبدليل وربما أيضاً بتجربة، مَن يعلم؟! هذا سرك بينك وبين الله – تبارك وتعالى -، أليس كذلك؟ كما قلنا كيف السماء تستجيب لك؟ تستجيب لك – هذا من جهتها – عن طريق إجابة الدعوة، التنوير، زيادة الهداية “تعرف خيرك من شرك” كما تقول العامة – بإذن الله تبارك وتعالى -، الإلطاف واللُطف بك والصُنع لك والكيد لك، كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ۩، تصير تجربة، تجربة روحية عميقة، أعمق من أي بُرهان فلسفي وأعمق من أي جدل كلامي وعقدي، ما رأيكم؟ انتهى، أنت تدخل الآن إلى مرحلة تتجاوز الجدالات الفلسفية والكلامية، هذه جائزة ماذا؟ جائزة مَن عاش بالإيمان حقاً، ليس مَن عاش بصورة مُعتقَدية فاسدة مُهترئة رثة بالية، وكذباً أيضاً، كما قلت الزاوية مُنفرِجة جداً أيضاً، لا! هذا ما عرف الإيمان.

ولذلك أنا أقول لكم بصراحة وقد خطر لي هذا بعض الناس الذين يُعلِنون إلحادهم ينبغي أن يُراجِعوا أنفسهم: هل كان عندهم إيمان ليُلحِدوا أصلاً؟ مَن قال لك إنك كنت مُؤمِناً أصلاً؟ أنت كنت تعبد وثناً، تعبد وهماً، سموه لك إلهاً، أو الله – أستغفر الله -، هذا ليس الله، ليس الله الذي ينبغي أن يُعبَد وأن يُقادَر قدره – لا إله إلا هو – وأن يُوقَّر وقاره، لا! غير صحيح، هذا وهم، خلقه المُجتمَع، وسموه إلهاً، وأنت صدَّقته ثم ألحدت به، أنت ما ألحدت لأنك ما آمنت أصلاً، ولذلك بعض الأذكياء قال وهو من الغربيين، قال ليس عندي ما يكفي من الإيمان لأُلحِد، ليس عندي ما يكفي من الإيمان لأُلحِد! وهذا أعتبره أكثر مصداقيةً، لماذا؟ الذي قال هذه المقولة يبدو أنه قضى وقتاً طويلاً في مُساءلة الصورة المُعتقَدية لله لديهم هنا في الغرب، ما الإله هذا؟ يُسائلها، ووجد أنها لا تستحق أن يُؤمَن بها، ولذلك قال ليس عندي ما يكفي من الإيمان لكي أُلحِد، أما صغارنا وأولادنا المساكين – هدانا الله جميعاً – فالواحد منهم يُلحِد بسرعة، بسرعة! يقول لك ألحدت، لم أعد أُؤمِن، وكذا! ويا ويلنا ويا ويل المُؤمِنين إذا كان هذا المُلحِد مُتديناً في يوم من الأيام، ويقول لك أنا أعرف الدين، أتعرف الدين؟ عجيب! أنت تعرف الدين تماماً كما يعرفه كثير من المُتدينين ويفعلون السبعة وذمتها كما تقول العامة، كثير من المُتدينين وكثير من ذوي المظاهر الدينية يفعلون أفعالاً فظيعة جداً، فظيعة! أفظعها القتل والفتاوى بالقتل والذبح والتفريق وتمزيق الأمة، هل فهمتم قصدي!؟ يفعلون هذا، نعم هذا حين يُلحِد نقول إن هذا عادي، حين يترك دينه نقول إن هذا عادي طبعاً، حقيق أن يكفر بما لا يستحق أن يُؤمَن به، بهذا الوهم الذي أفهموه أنه هو الله.

الآن السؤال – إخواني وأخواتي -: هل الله – تبارك وتعالى، خالق العالمين، مُدبِّر كل هذه الأكوان، والأرض كما قلنا تقريباً يُشبه ألا يكون لها أدنى موضع في هذا الكون لصغرها وضئالتها – هذا تعرَّف إلينا على أنه مُتحيِّز لأمة دون أمم، ومُتحيِّز لشعب ضد الشعوب الأُخرى، ومُتحيِّز لفئة من الناس ضد الفئات الأُخرى؟ مُستحيل، الأب لا يفعل هذا، الأب الصالح لا يتحيَّز لابن ضد أبنائه الآخرين، فالرب الكبير – لا إله إلا هةو – لا يفعل هذا، لا يُمكِن أن نقبل هذا، وهذه واحدة.

ثانياً – طبعاً هذا موضوع جدلي، يحتاج إلى نقاش طويل، لكن اتجاهه واضح جداً – هذا الإله الكريم هل يُمكِن أن يحكم عليك بالكفر والمروق والانحراف والضلال ويغمسك في جهنم إلى أبد الآبدين لمُجرَّد أنك سمعت بمحمد ولم تُؤمِن به؟ ما هذا؟ قال هذا حديث في مُسلِم، ما سلَّمنا به، في مُسلِم وما سلَّمنا به، وحاشا لله أن أُسلِّم به هكذا على عواهنه، اذهب وأوِّله، إذا أوَّلته تأويلاً يجعله مقبولاً ومُلتئماً برحمة الله وبعدالة السماء أقبله، وإلا لا أُلقي إليه بالاً، لا يعنيني أنه في مُسلِم أو في غير مُسلِم، قال لك والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودياً كان أو نصرانياً ثم لا يُؤمِن بما جئت به إلا حق على الله أن يُدخِله النار، ما هذا؟ ما معنى يسمع بي؟ هل مُجرَّد أنه سمع؟ اذهب وأوِّل السماع، أوِّل السماع وقُل إن هذا سماع يُلزِمه الحُجة، أهلاً وسهلاً، أقبل هذا، لكن ليس مُجرَّد السماع هكذا، لماذا؟ القرآن الكريم في عشرات الآيات أفهمنا أنه حُجة قاطعة وبالغة على العرب الذين بُعِث فيهم رسول الله – لماذا؟ – لأنه نزل بلُغتهم، فهم جديرون أن يعقلوه، لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ۩، لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ۩، فماذا عن هذا الأجنبي وهذا الهندوسي وهذا البوذي وهذا الغربي وهذا الشرقي الذي لا يعرف اللُغة العربية؟ أصلاً أبناء العربية الآن أكثرهم لا يعرفونها ولا يتذوقونها، فكيف بهذا غير العربي الذي لا يعرفها بالكامل؟ فما هذا؟ سمع عن محمد وعن قرآنه، ما هذا؟ كيف ستلزمه الحُجة بمُجرَّد السماع؟ انتبهوا وعاودوا أنفسكم، المسألة ليست بالبساطة هذه، ليست بالبساطة هذه! ليس هذا الله الذي ندعو إليه – لا إله إلا هو -، ليس هذا الله الذي تعرَّف إلينا في كتابه العزيز.

إخواني وأخواتي:

أختم بكلمة، وليست لمُسلِم، يا ليتها كانت لمُسلِم، لكن القرآن فيه ما هو أبلغ منها بمراحل، كلمة لفيلسوف إنجليزي وهو فرانسيس بيكون Francis Bacon، قال مرةً – وأنا في ضوء القرآن أُوافِقه على هذا وأواطئه – الذي يصف الله بما لا يليق به شرٌ عندي من الذي يجحد الله، لأن الذي يجحد الله ويُنكِره كافر، والذي يصفه بما لا يليق به عار، عار! لذلك خُطبة اليوم هذه سأُعنونِها إيمان العار، عار! عار أن ندعو إلى الله ونُجهِّز له صورة مُعتقَدية لا تليق به – لا إله إلا هو -، تجعل غير المُسلِمين وأبناء المُسلِمين اليوم الأحرار الذين يتواصلون مع العالم والذين يقرأون ويدخلون في نقاشات وجدالات يقول لك الواحد منهم لا، هذا الإله لا أقبله، هذا إله واضح أنه ليس عنده من العدالة ما يكفي، ومن الرحمة ما يكفي، انتبهوا يا إخواني بالله عليكم، والقضية ليست قضية أن نغيظ الآخرين وأن نحج الآخرين وأن ندمغ الآخرين، وكأن الانتصار لله والانتصار للسماء والانتصار للدين لا يكون إلا بماذا؟ إلا بقطع الوصلات مع الآخرين وإظهار التميز على الآخرين وأننا نحن وفقط، ليس بهذا المنطق، هذا المنطق – إخواني وأخواتي – واضح جداً أننا إذا استرسلنا معه وتمادينا عليه، واضح جداً بل أكثر من واضح لمَن يُتابِع أنه مُنذِر بأن يتفلَّت أبناؤنا وبناتنا أزيد وأزيد وأزيد، باستمرار!

نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُعلِّمنا، وأن يُفقِّهنا، وأن يُلهِمنا رُشدنا، وأن يُعيذنا من شر نفوسنا.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

                                                                    (الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

أما بعد، إخواني وأخواتي:

قبل أن نمضي وننتهي فقط أُحِب أن أُركِّز وأن أؤكِّد على نُقطة مُهِمة، ذكرتها في الخُطبة ولم أقف عندها طويلاً:

حين تتحقَّق أنتَ/ أنتِ بالإيمان الحق كما يُريده الله، حين تُوقِّر الله وتقدره حق قدره – لا إله إلا هو -، وتعيش بهذا – أقول وتعيش هذا وتعيش به – ضمانة أنك ستفهم أموراً كثيرةً، غير مفهومة الآن، وغير واضحة حتى لكبار العلماء والمشايخ غير مفهومة، حين يكونون صادقين مع أنفسهم، غير مفهومة! ستُصبِح مفهومة لك، هل تعرف لماذا؟ من خلال تجربتك الفردية الروحية الذاتية سترى كيف تعمل العدالة الإلهية، ما رأيك؟ والله العظيم، وسترى كل شيئ في مكانه.

أحياناً – هذا كان يقض المضاجع يا إخواني، كان يُدير الرؤوس – ترى شخصاً مُصلياً صائماً طيباً، يُبتلى ببلية عظيمة، يحترق بيته، ويحترق ثلاثة من أبنائه وكذا أمام عينيه المسكين، وأنت تبدأ تتساءل: لماذا يا رب؟ طبعاً هناك نوع من ماذا؟ من التساؤل الداخلي، وبين قوسين أقول (وهو في الأخير ليس تساؤلاً، هو اعتراض)، لماذا يا رب؟ فهذا في الصفوف، هذا إنسان طيب، هذا كذا، وهذا كذا، مُمكِن – هذا مُمكِن – في يوم من الأيام تسمع كيف أكل هذا الرجل حقوق أيتام، أو كيف ضحك على أرملة، حين باع لها سيارته التي تسوى سبعة آلاف بسبعة عشر ألف يورو، أنا أحكي لك عن وقائع فانتبه، هذا؟! هو هذا، هو هذا! وكيف حين أكل أموالها اضطر ابنها – أي هذه المسكينة – أن يترك المدرسة التي كان فيها ويعمل لكي يُعيل، دمَّرت عائلة أنت، دمَّرت مُستقبَل أُناس بالكامل، يا أبا لحية ويا مَن تقف في الصف الأول ويا غشّاش، والناس مغشوشون، يقولون هذا طيب و”غلبان” ومُلتحٍ وكذا، أنت لا تعرف، أنت لا تعرف وهذا لا يزال جُزءاً، بعض هؤلاء تسمع بعد ذلك عنه كيف أنه كان – والعياذ بالله، والله يقشعر البدن قبل أن أقول هذا الشيئ، أُقسِم بالله – يأتي ابنته، والله العظيم أحكي لكم – حسبي الله ونعم الوكيل – عن إمام مسجد، وطبعاً أحكي هذا، لكن هل تعرفون لماذا أحكي هذا؟ لأنه فُضِح أصلاً، وهو في بلد غربي هنا، فُضِح! في التلفزيون Television جاء وفي الجرائد، ولفرط… لفرط… ماذا أقول؟ شقاوته – والعياذ بالله، نعوذ بالله من الشقاوة ومن الخذلان – حين قالوا له في التلفزيون Television – هذا في لقاء – ما هذا؟ أنت رجل دين، وأنت في الصف الأول وما إلى ذلك، قال أنا أحق بها، أستغفر الله، بابنته! يتحدَّث عن ابنته، أي دين هذا عرف؟! أي رب عبد؟! أرغب في أن أفهم، أرغب في أن أفهم وأرغب في أن أشق عن دماغ هذا الإنسان الفاسد والرديء جداً، لكي أرى الصورة المُعتقَدية التي كان ينطوي عليها لله، كيف هو كان ينظر إلى الله؟ 

ثم تتساءل لِمَ وقعت المُصيبة لفلان؟ لا! أنت لا تعرف كل شيئ، وتقيس بنفسك، خُذوها مني – من أخيكم الصغير أو الكبير، كما تُحِبون – حين تستقيمون تتغيَّر الأمور، وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً ۩، لا! القرآن لا يكذب أبداً ولا يلتوي، نحن الذين نلتوي في تجاربنا وبأُخدوعاتنا، نعيش أخاديع فقط، حين تعيش الحقائق يلوح لك وجه الحقيقة، فقط! انتهى. 

عش حقيقة الإيمان، سترى الحقيقة أمامك – بإذن الله تعالى -، وستُملَخ جذور الاعتراض، سيصير عندك تسليم، لأن من تجليات الإيمان تسليم كامل ورضى بما قضى الله وقدَّر – لا إله إلا هو -، لأن كل شيئ في مكانه، فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ۩، أنت ترى أنه يُصلي، ولكنك لا تعرف ماذا يفعل هذا في الليل وفي الخبايا وفي السر، أنت تراه، لكن لست أنت مَن يحكم عليه، ولذلك لا تحكم على أحد من الناس، لا على صالح ولا على طالح، دع الخلق للخالق، ربما هذا الطالح المسكين لو كنت مكانه أنت وفي ظروفه لكنت أسوأ منه، أليس كذلك؟ وأردأ منه، فسل الله له العافية، وسل الله له الصلاح والانصلاح، وسل الله لنفسك ذلك.

اللهم إنا نسألك بأسمائك الحُسنى وصفاتك العُلا وكلماتك التامة ألا تُزيغ: قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ۩.

اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.

آت نفوسنا تقواها، زكها أنت خير مَن زكاها، أنت وليها ومولاها.

نعوذ بالله من قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن علم لا ينفع، ومن دعوة لا تُسمَع.

ونعوذ بك من عمل لا يُرفَع، ومن الجوع، فإنه بئس الضجيع، ومن الخيانة، فإنها بئست البطانة.

اللهم اهدنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت، اكفنا ما أهمنا يا مولانا من أمر دُنيانا وأمر أُخرانا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا وبالسعادة آجالنا، وتوفنا وأنت راضٍ عنا، بحق لا إله إلا الله، محمد رسول الله.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩.

_________

فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۩، وأقِم الصلاة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

                           

(تكملة ألقاها مولانا بعد الصلاة)

فخطر لي شيئ – سُبحان الله – في هذه السورة وهو شيئ عجيب، ولأول مرة أيضاً أرى هذا الشيئ، مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا ۩، ما معنى هذا؟ لم يعملوا بما فيها، مثَّلهم بالحمار الذي يحمل أسفاراً، كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۩، وبعد ذلك قال لك ماذا؟ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ۩، شيئ غريب! بمعنى ماذا؟ لماذا؟ لماذا نعت الله – تبارك وتعالى – عدم العمل بآيات التوراة بأنه تكذيب بها؟ شيئ خطير، هذا موضوع الخُطبة اليوم والله، لكن هذا شيئ خطير، بل أخطر ربما من كثير مما ذكرت.

الله قال أن تزعم أنك مُؤمِن بشيئ – بالقرآن – ثم لا تعمل به، أنت مُكذِّب، كيف؟ كيف أنا مُكذِّب؟ لا، أنا مُصدِّق ولكن أنا لا أعمل، لا! هل تعرفون كيف؟ بالمثال، بالمثال – سُبحان الله – يضح.

الآن – كما قلنا في الخُطبة – لو كنت بين يدي ملك عظيم مُسلَّط، وهّاب نهّاب – كما يُقال -، وأمرك بشيئ، مُباشَرةً تصدع بأمره، أليس كذلك؟ لأنك تعلم بل مُوقِن أن هذا الملك قادر، قادر! إذا قال فعل، فقد يُعطي ويُغني، وقد يسطو فيُفني، أليس كذلك؟ ولذلك أنت تصدع بأمره، مُستحيل أن تفعل غير هذا، مهما قال من شيئ أنت تصدع به، أليس كذلك؟ الآن ماذا لو عندك مثل هذا الإيمان – ليس أكبر منه حتى، تخيَّل! لو عندك مثله -؟ لو عندك إيمان بالله، بقدرته وحضوره ورقابته – لا إله إلا هو – بمقدار ما عندك من إيمان بهذا الملك الدنيوي البشري لكان ماذا؟ لعملت بكل ما قال الله، أليس كذلك؟ لما ترددت، إلا أن تُغلَب على أمرك، أليس كذلك؟ أو تضعف بمرض أو بسفر أو بسجن، لكن فيما عدا ذلك أنت دائماً تصدع بأمره.

إذن القضية في جوهرها ليست قضية أنه آمن ولم يعمل، لا! قضية تصديق وتكذيب، الآية خطيرة، لأول مرة أفهم هذه الآية من سورة الجُمعة، والحمد لله على ما هدى إليه بهذه الطريقة، قال لك لم يعملوا بها، هم مُكذِّبون، لأن لا يُوجَد تصديق بحضور الربوبية، هذه ليست قضية أنك تُصدِّق بشراً عادياً أو تُكذِّبه، قضية تصديق بماذا؟ بحضور الربوبية، والأمر من الله، والذي يطلب الله – عز وجل -، مَن يأمر الله، ومَن ينهى الله، وأنت تقول أنا مُصدِّق، لو كنت مُصدِّقاً لتغير الأمر، مُستحيل غير هذا، ستفعل، لن تتردد، كما ستفعل هذا مع ملك دنيوي، أليس كذلك؟ فيبدو فعلاً أن الله ليس الأكبر إلى الآن بالنسبة إلينا، القضية خطيرة، القضية خطيرة فنسأل الله أن يُعيننا على أن نتحقَّق بالإيمان على الوجه الذي يرضاه ويُرضيه – لا إله إلا هو -، وبارك الله فيكم.

(7/9/2018)

إيمان العار خطبة متشعبة تهم الجميع، وتتعلق بحياتنا العملية والعقدية والإيمانية بتوضيح من تنطبق عليه الآيات المتعلقة بتوقير الله والصورة المعتقدية عنه عند أكثرنا وكيفية تصديرنا إياها للآخرين، وحظنا من الإيمان وتجلياته مع نصيحة ثمينة بأن لا نكون عبادا للعناوين.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: