إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد: 

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ۩ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ۩ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ۩ 

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.

 إخواني وأخواتي:

هذه الآية الجليلة من سورة البقرة “يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ۩” تحتوي على بدل اشتمال، فقوله تعالى قِتَالٍ فِيهِ ۩ هو بدل اشتمال من قوله الشَّهْرِ الْحَرَامِ ۩،ثم يقول الله قِتَالٍ فِيهِ قُلْ – أي يا محمد يا خيرتنا – قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ۩ أي عظيم ومن الذنوب العظيمة ولكن مع ذلكم نبِّه وقل على أن المسجد الحرام وإخراج أهله منه وهم الرسول وأصحابه – رضوان الله تعالى عليهم – والكفر بالله – تبارك وتعالى – والصد عن سبيله أعظم وأغلظ حُرمةً وأعظم جُرماً، يقول الله  قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ – مُضاف على الضمير في بِهِ –  الْحَرَامِ  – أي يسألونك عن الشهرِ والمسجدِ – وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ  ۩ أي أن يُفتَن المُؤمِنون في دينهم وفي اعتقادهم حتى ينثنوا عنه وينكصوا عنه أعظم من هذا الذي دمدمتم به وثرَّبتم على فاعليه.

سبب نزول هذه الآية أن رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – حين هاجر إلى المدينة المُنوَّرة – وهذا كان قبل وقعة بدر – بعث عبد الله بن جحش – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – على رأس سرية إلى بطن نخلة – مكان – ليتحسَّس ويستطلع أخبار الكفار، وشاء الله – تبارك وتعالى – بحكمته أن يُصادِف عيراً لقريش فاشتبك معها فقتل رجلاً يُدعى عمرو بن الحضرمي وأسر رجلين واستاق العير ثم عاد بها إلى المدينة، وكان ذلكم وذلكن في اليوم الأخير من جُماد الآخرة أي لأول ليلة من رجب الأصم – أي ليس في يوم من أيام رجب ولكن لأول ليلة، وطبعاً هذا يُبتنى على أن الليلة تتبع اليوم ولذلك ليلة القدر هى ليلة مثلاً السابع والعشرين، فتتبع اليوم وهذا هو الأرجح – فدمدمت قريش وجعلت تُثرِّب على رسول وتُشنِّع وعلى أصحابه وتقول “محمد يُحل الشهر الحرام، محمد وصحبه يُحلون الشهر الحرام، يقتلون الناس في شهر الله الحرام” وذلك لأول ليلة وليس حتى في أول يوم، وردَّد هذا وأرجف به المُنافِقون واليهود في المدينة المُنوَّرة فقالوا “هذا هو محمد الذي يدّعي الحُرمات وتعظيم الشهر الحرام ولكنه يستحل هو وأصحابه الشهر الحرام”، فأنزل الله هذه الآية يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ۩ وذلك لأن الثوابت ثوابت فلا تتزعزع ولا تُنسَخ، ومن هنا نجد أن الله يقول إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ  ۩ فهذا لا يتغير ولا يُنسَخ، ولكن الله – تبارك وتعالى – مع قوله  قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ۩ قال وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ ۩، لكن لماذا بدأتُ بهذه الآية الجليلة؟!

بدأتُ بها لأنني أُريد أن أُعقِّب وأهمِّش على الحوادث التي يُتابِعها العالم كله وليس عالم العرب والإسلام محبوس الأنفاس ومُختلِف التقديرات ومُختلِف الآمال في تونس الخضراء الجريحة الحبيبة، لا أُريد أن أسوق الحديث سوقاً إعلامياً فكلنا نُتابِع وسائل الإعلام على مدار الأربع وعشرين ساعة ومن ثم هذا ليس مُفيداً في هذا المقام فضلاً عن أنني لا أُريد أن أبيع أحلاماً وأوهاماً لنفسي ولإخواني ولأمتي، كلا وإنما أُريد فقط أن أُعلِّق على أمر لي به لون اختصاص وهو أمر الفتوى والتعليق الديني في مثل هذه الأحداث حيث طالعنا غير واحد يقول “محمد البوعزيزي – رحمة الله تعالى عليه ورضوان الله تعالى عليه إن شاء الله – مُنتحِر، فلقد انتحر والانتحار حرام”، وكتب بعض البُله من العامة يقول “لا أُريد أن أُناقِش كفر الرجل وشركه” كأننا أصبحنا خوارج وحرورية فيظن أن الذي ينتحر هو كافر مُشرِك حرامٌ عليه الجنة، كأننا أصبحنا خوارج ومن ثم نُردِّد كلامات الخوارج، فمن أين لكم هذا؟!

في صحيح مسلم عن الدوسي الذي نحر نفسه وقطع يديه بمشاقص فأُريه النبي، وبعد أن دعا له أخرجه الله – تبارك وتعالى – وأودعه في جنات النعيم ولكن بلا يدين، ولكنه دخل الجنة إذن، ثم قال عليه الصلاة والسلام “اللهم وليديه فاغفر” حتى تعود إليه في الجنة بإذن الله تعالى!

فالمُنتحِر مثله مثل غيره، علماً بأننا تكلَّمنا عن موضوع خلود المُوحِّدين في نار جهنم، فلا يخلد مُوحِّد في نار جهنم رغم أنف الخوارج والوعيدية، وهذا ما قام عليه الدليل الرجيح الصحيح الفصيح بحمد الله تبارك وتعالى، فليست مسألة عظيمة الآن، ثم أن ما هذه الفتوى البتراء؟!

هذه الفتوى مبتورة عن ومن سياقاتها، فتقع خارج السياق بل خارج كل سياق، ولذلك الأمة فهمتها ولم تتفهمها، فالطفل الصغير يفهم ما معنى هذا، حيث أن محمد البوعزيزي حرق نفسه بالبنزين والنار فأصبح مُنتحِراً والانتحار حرام، الأطفال الصغار يعرفون هذا قبل الكبار، فما الجديد؟!

لا جديد، فالصغير يعرف هذا قبل الكبير!

ماذا يُريد هذا المُفتي الأبله أو العبقري – عفواً – اللوذعي الجهبذ الفطحل أن يقول لنا؟!

ماذا يُريد أن يُعلِّمنا؟!

ماذا يُريد أن يفتح أعيننا عليه وآذاننا عليه؟!

لا شيئ، بالعكس هذا مُخادِع، هذا أحد المُخادِعين وأحد الكذبة هو وأمثاله وهم  كثيرون طبعاً، أو هو أحد التائهين الضائعين وما أكثرهم في هذه الأمة، التائهون الضائعون والمُضيِّعون كثر في هذه الأمة ومن هنا الأمة فهمت الفتوى – الطفل الصغير يفهمها – ولم تتفهمها، فهناك فرق بين أن تفهم وبين أن تتفهم، نحن لا نتفهم هذه الفتوى، وكأين من أمرٍ نفهمه ولا نتفهمه فنحن لسنا قادرين على أن نتفهمه، والدليل أن الأمة لم تتفهمها أن أحداً لم يُلق إليها بالاً، وقد يكون من الخطأ أنني ألقيت إليها بالاً ولكن أنا أُريد أن أُهمِّش فقط وأُريد أن أهتبلها فرصة وانتهزها سانحة لكي أفتح الأعين حتى أعين بعض علماء الدين وأهل الفتوى والفقه لكي يفهموا القضية من جوانب أكثر جدية وعمقاً ومنهاجية أيضاً، هذا الذي أُريده وإلا ما كان ينبغي أن نعبأ بها ولا أن نشغل أنفسنا وإخواننا بهذه الفتوى البتراء المقطوعة من وعن كل سياق أصلاً، إذن فكأين من أمرٍ نفهمه ولا نتفهمه، والشعب التونسي العظيم المناضِل من أجل حريته وكرامته ووجوده الأصلي مازال لم يتفهم هذه الفتوى كأنه لم يسمع بها ولن يتفهمها يوماً بل سيدمغ وسيصم كل مَن تجرَّأ وتواقح وتساخف وتراقع وأصدر أمثال هذه الفتاوى البتراوات وربما يفعل هذا، ولذلك نحن هنا جئنا لندمغ هذا الشيئ ولندمغ هذا المسلك الذي يتكرَّر بطريقةٍ أو بأخرى، فقبل سنتين في مذبحة غزة حين كان يُحرَق الناس بالفسفور الأبيض خرج من رجال الإفتاء والعلم وهم على مكانة عالية سامقة في بلادهم يُحرِّمون التظاهرات وقالوا “التظاهرات ليست من الإسلام، التظاهرات بدعة”، وهذه أيضاً إحدى البتراوات الأخرى، ونحن نفهم هذا ولا نتفهمه تماماً، ولكن عليكم أن تنتبهوا الآن لأنني سأسأل سؤالاً هاماً وهو: هل يُمكِن أن يكون مُصلٍ من المُصلين بصلاته في سياقٍ ما – Context  ما – داعراً قوَّداً أو مُخادِعاً أو حليفاً للمُخادِعين أو لصاً من اللصوص أو قاتلاً من القتلة؟!

نعم، يُمكِن أن يكون بصلاته هكذا، بل بصلاته في أول وقتها وذلك بسبب السياقا، الفقه كله تقدير للسياقات ومن هنا أين فقه الرخص إزاء فقه العزائم؟!

أين فقه التيسير والتخفيف والضرورات؟!

هذا فقه السياقات، وبالتالي لماذا أوقف عمر حد قطع السارق في عام الرمادة؟!

بسبب فقه السياقات.

إذن هذا هو الفقه الذي يهتم بالسياقات، ولكنهم يتكلَّمون بإسم الفقه ولا ذوق لهم في الفقه ويتكلَّمون باسم الدين ولا فهم لهم لجوهر الدين، وسنرى بُعيد قليل ما هو جوهر الدين الذي ضيَّعه هؤلاء وأمثالهم وزيَّفوا وعي الأمة واستنزفوا البقية الباقية من هذا الوعي.

 إن جاء أحدٌ يدعونا إلى الصلاة لأول وقتها – في أول وقتها – وأمامنا رجل يغرق فهذا قاتل، أي أن هذا الذي يدعو إلى الصلاة في أول وقتها هو أحد القتلة وسيُبعَث قاتلاً يوم القيامة مع أنه صلى الصلاة لأول وقتها قاتلاً، فليس هذا الآن وقتها ولكن هذا وقت إنقاذ الغريق يا سيدي وليس وقت الصلاة في أول وقتها، ما هذا؟!
إن كان يُعتدى على عرض امرأة، 
إن كان هناك مالٌ عام أو خاص يُسرَق – مال الأمة يُسرَق ويُتغوَل – ويأتي يدعونا إلى الصلاة في أول وقتها فسنقول له: أنت أحد اللصوص، كم لك في غنيمة اللصوصية هذه؟!

أخبرنا أيها اللص المُقنَّع بإسم الدين وبإسم المشيخة وتحت عمامة وفوق لحية، فأن تجلس فوق لحية شمطاء أو سوداء لا يعنينا الأمر ولكن أخبرنا كم لك في غنيمة اللصوص؟!

وهكذا وهكذا، إذن يُمكِن أن يكون المُصلي أحد هؤلاء ويُمكِن أن يكون حليفاً للمُخادِعين ويُمكِن أن يكون حليفاً للكذَّابين وللذين أرادوا أن يأتوا على البقية الباقية أيضاً من ثروات ومُقدَّرات وكرامة الأمة فيضعون أيديهم في جيوبنا ولكن بعد أن وضعوها في أدمغتنا، حيث أنهم عبثوا في أدمغتنا وسرقوا وعينا وإدراكنا وقدرتنا على الفهم والتحليل والتفسير وقدرتنا على أن نرى وأن نسمع وأن نشعر وأن نتحسس وأن نُحسِّس الآخرين، سرقوها بالعبث في أدمغتنا وبعد ذلك طاب لهم وتأتى لهم أن يضعوا أيديهم في جيوبنا ويأخذوا كل شيئ، وأصبحنا نستجدي السماء ونتكفَّف أهل الأرض من اللؤماء!

إذن هذه أشياء نفهمها ولا نتفهمها ولسنا مُستعِدين أن نتفهمها، لا نُريد أن نتفهمها لأن تفهمها – أي قبولها – انتحار، انتحار حقيقي وتصويب للسلاح إلى صدورنا، حيث أننا سنقتل أنفسنا ونذبح وعينا ونستنزفه، والشعب التونسي الآن ليس مُستعِداً لهذا، فنسأل الله أن يُتمِّم جهاده ونضاله حتى يحوز استقلاله الثاني كما وصفه أحد الأحرار فيه، فهذا هو الاستقلال الثاني لكن هذه مسألة ثانية على كل حال، فما هذا الفقه إذن؟!

ما هذه الفتوى؟!

أولاً أُحِب أن أقول للأسف الشديد أنني لا أحسب أنه في عصر من الأعصار من تاريخ هذه الأمة استفحلت الفتوى إلى حد لا أقول الإشباع بل التضخم – Inflation – مثل هذا العصر، فهناك حالة تضخم في الفتوى حيث أن المفاتي كما يُسمونهم – المفتون يعني المُعتمدون الرئيسون – يفتون صباح مساء، وطبعاً على قد هوى السُلطة فيقدون الفتاوى قداً على قد هواها وأحلامها وأمانيها، وبالتالي هؤلاء لا يُعبأ بهم بل يُسخَر منهم صباح مساء، ومن هنا الشعوب نفضت أيديها منهم لأنها تعلم أنهم كذبة وأنهم يأكلون بدمائها وأعراضها وقضاياها، فضلاً عن أن هناك مَن يتبرَّع بالفتوى فضولياً، فتجد الواحد منهم لم يستفته أحد ولكنه شخص فضولي ويُريد أن يُفتي، فهل تظنون بالله عليكم أن الشهيد الكبير – إن شاء الله – البوعزيزي – رحمة الله عليه – طلب فتوى من أحد؟!

لم يطلب فتوى من أحد لأنه لم تطوَّع أحدٌ من قبل بالفتوى لمُناصَرة قضاياه وقضايا أمثاله، لذلك الرجل لم يطلب الفتوى من هؤلاء ولا من غيرهم، علماً بأنني لا أُريد أن أُناقِش قضية البوعزيزي وظروفه الخاصة ومدى قيام عذر له عند الله لأن هذه من صلاحيات الله وليست من صلاحياتنا، لكن من صلاحياتنا أن نقول كل مُرتكِب كبيرة أياً كانت هو في مشيئة الرحمن الرحيم – لا إله إلا هو – مادام مُوحِّداً، هذا من صلاحياتنا أن نقوله أما أن الله يغفر له فهذا من صلاحيات الله، والله غفورٌ رحيم.

علينا أن ننتبه إلى أن الرجل قد يكون بلغ إلى حد لا يُكلَّف معه فقد يكون فقد وعيه أو جُنَّ لأنها ظروف تُجنِّن بلا شك، مَن يسمع هذه الظروف يُجَن فكيف بمَن يعيشها؟!

تأتي شُرطية حاصلة على شهادة من الصف السادس الابتدائي – ويُقال أنها كانت راسبة في الصف السادس الابتدائي – فهى لم تُكمِل إعدادية لأنها راسبة وتبصق في وجه جامعي وتصفعه على وجهه بعد أن ألقت بالخضر وبالفواكه التي يبيعها، فالجامعي كان يبيع الغلال في محلته بين أهل حارته ليتكسَّب له ولأمه ولأخواته، فقالت الشرطية أن هذا غير مُرخَّص، ولكن سرقة أموال الشعب مُرخَّصة والحمد الله، سرقة المليارات والآن الهرب بها إلى استراليا وكندا مُرخَّصة، فهم هربوا وخرجوا بالأموال من تونس وبالتالي الآن ليس في تونس إلا الرئيس زين العابدين لكن هذا مُرخَّص، أن تسرق المليارات وأن تسرق الناس في أرزاقهم بلا أي رُخصة من سماء أو أرض هذا شيئ مُرخَّص، حيث أن هؤلاء السرّاق كانوا يدخلون معك في أي مشروع ويحصلون على خمسين في المائة سواء شئت أم أبيت وإلا لا مشروع، لن تُفلِح أن تُقيم أي مشروع إذا لم يحصلوا على خمسين في المائة في كل مشروع، فهذا – ما شاء الله – مُرخَّص، ولكن أن تبيع الغلال وأنت أكاديمي جامعي بعد أن احتزت شهادة عُليا هذا غير مُرخًّص، بل وتُضرَب وتُصفَع على وجهك ويُبصَق في وجهك.

يذهب البوعزيزي إلى المُحافِظ  – عُمدة البلدية – لكي يُقدِّم شكوى فلا يُسمَح له، ومن هنا الرجل قطعاً بلغ حد الشعور بالعدم واليأس العدمي، فأحرق نفسه أكيد في لحظة غياب وعزوب للوعي، حيث أن المسكين عزب عنه عقله فألهب الضمائر وأنار بشُعلة جسمه ضرب الحرية للأحرار، فهذا هو ما فعله حيث أنار بشُعلة جسمه أو
بجسمه المُشتعِل درب الحرية للأحرار – بإذن الله – ليس في تونس وإنما في بلدان أخرى.
قبل سنوات يسيرة حدث شيئ مُماثِل في مصر ولكن لم يفعل شيئاً، ومن هنا كنت دائماً أقول أن مهما غلبنا اليأس لابد أن نُقرِّر حقيقة يُقرِّرها كل مُؤرِّخ مُتواضِع وهى أن لا أحد لديه من القدرة والعبقرية والاستشرافية ما يسمح له بأن يتنبَّأ متى تفور ثورة أو متى ينتفض شعب لأن لا أحد يعرف هذا، وإذا سمعتم غير ذلك فهو كذب وبالتالي كل الذين حاولوا أن يتنبَّأوا كانوا في مُعظم الأحوال يفشلون لأن هذا شان الله تبارك وتعالى، فهذه هى اللاخطية في الاجتماعات والإنسانيات، أي أن هذه أمور لاخطية لا يُمكِن أن تُحسَب ولا يستطيع أحد أن يعرفها وأن يحسبها إلا رب العالمين لا إله إلا هو، فقط عند الله هى بحساب فيعلم متى تفيض كأس الشعب ومع أي قطرة، وكان إحراق البوعزيزي لجسده المُحبَط اليائس المعدوم هو القطرة التي فاض بها إناء التوانسة دون أن يعلم أحد هذا، وهو قطعاً لم يعلم هذا، هو فقط أدرك أن باطن الأرض خيرٌ له من ظاهره، فأراد أن يُولّي من هذا العالم المهين المُذِل، العالم الذي شعر فيه البوعزيزي أنه لا بقية من ضمير ولا من كرامة ولا من عدالة عند هؤلاء المُتنفِّذين ولا في أي مُؤسَّسة من مُؤسَّساتهم، فوالله لو ظل عنده بصيص أمل في واحد من هؤلاء لما أحرق أنفسه، ولكنه يعلم أن لا أمل، لذلك لا يُمكِن ولا يجوز لهؤلاء المُفتين التائهين الضائعين المُضيَّعين أن يُصوِّروا الأمر على أنه مسألة شخصية أو مسألة فردية تخص البوعزيزي، فهذه ليست مأساة شخصية ولكنها مأساة أمة ومأساة شعب مطحون مُكمَّم الأفواه ومُصادَر الحريات ومُتغوَّل الأموال ومعصوب العينين ومسدود الأذنين، شعب لا حق له أن يقول كلمة في شأنه ومصيره وهذا شيئ عجيب، بل أن منهم مَن لا يجد شيئاً يتبلَّغ به في حين أن منهم مَن لا يعرف كيف يُحصي ثرواته وأمواله، لا يستطيع أن يُحصيها بسبب كثرتها ومع ذلك مسموح له بهذا، قال الله وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ۩، فالماء غير موجود ولكن يُوجَد قصور فارعة ذاهبة في السماء، وهكذا تحل لعنة الله وغضب الله على الناس!

أقول لهذا المُفتي التائه وأمثاله: بالله عليك أيها العبقري الفطحل أوجدني من كتاب الله أو من سُنة الحبيب المُصطفى آيةً أو حديثاً يقول إن المُنتحِر ملعون، فإذا انتحر تحل عليه اللعنة!

لا يُوجَد هذا، إن كنت تعلم الكتاب والسُنة  فستعلم أنه لا يُوجد وإلا أوجدني دليلاً أن المُنتحِر ملعون، لكن أنا سأقف بك على غير دليلٍ صحيحٍ أن الذي يحضر ويشهد ويُشاهِد مظلمة المظلومين ثم لا ينتصر لهم تنزل عليه اللعنة من رب السماء، علماً بأن الحديث صحيح عن رسول الله، فأنت من الملعونين إذن، وعليك أن تكف لسانك عن هذا الشهيد، أنت ملعون أنت وأمثالك لأنك سكت عن الظلم، حين تسكت عن مظالم المظلومين وعذابات المُعذَّبين وآنين المكروبين ومطحونية المطحونين ثم تأتي تتبرَّع بالحُكم أنه من أهل جهنم لأنه مُنتحِر فأنت ملعون، أما هؤلاء المُنتحِرون فليسوا ملاعين لأنه لا دليل يقول أنهم ملاعين، إنما أنت ملعون لأن الساكت عن الظلم والساكت عن تغول حقوق العباد ملعون.

 ومع ذلك تجدهم يتحدَّثون عن الدين وجوهر الدين، لكن نحن لا نُريد مثل هذا الدين، لا نُريد دين هؤلاء أعوان السلاطين وأذناب السلاطين وأحذية السلاطين ووعاظ السلاطين، لا نُريد دينهم لأن دينهم – والله الذي بعث محمداً بالحق – ليس هو دين محمد، والله العظيم ليس هو دين محمد، دين محمد هو هذا الدين الذي يقول لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ  ۩، فجوهر الدين هو العدل.

دعوة إلى إخواني المسلمين وإلى الجماعات الإسلامية على اختلافها: بالله عليكم كفاكم رفعاً لشعارات جنائية حيث أنكم تُنادون بتطبيق الشريعة بمعنى الحدود، كفوا عن هذه البلاهة لأن آخر شيئ يُمكِن أن نُفكِّر فيه الحدود ولكن أول شيئ ينبغي أن نُفكِّر فيه الحريات والعدالة، حريات الشعوب المقهورة المُضيَّعة والعدالة المدوسة بكل حذاء وبكل نعل، ومن هنا لابد أن نهتم بالعدالة لأن جوهر الدين هو العدالة، فإن كنت تُريد أن تُقيم حُكماً وتُريد أن تدعو إلى شرع وتُريد أن تكون وارثاً للمُرسَلين سالكأ ضربهم متقيلاً خطتهم ومنهاجهم عليك أن تستمع إلى قول الحق تبارك وتعالى في القرآن الكريم: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّوَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ۩

هل سمعتم مَن هم الذين يسيرون في دروب الأنبياء؟!

هل علمتم مَن هم ورثة المُرسَلين؟!

إنهم الداعون إلى القسط، إنهم الآمرون بالمعدلة والآمرون بأن تُوضَع الأمور في أنصبتها وأن يأخذ كل أحد حقه ولا يتجاوز على حقوق الآخرين، فهذا هو الدين وهذه هى الرسالة الإلهية وهذا هو وارث النبي محمداً وعيسى وموسى وإبراهيم وكل السلف الصالحين من الأنبياء والمُرسَلين، فالوارث الذي يسير في طريق الأنبياء هو الذي يأمر بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ ۩ .

يوم أرى شيخاً وفقيهاً ومُفتياً يُبرِّر للظلم والعار والشنار والذلة والمهانة بإسم الدين أعلم أنه كذَّاب وبريء من محمد ومحمد بريء منه، هذا أحد الذين لديهم – كما أقول دائماً – استعداد أن يبيعوا جُبة محمد لتشبع بطونهم التي لا تشبع – لا أشبعهم الله – ولتمتليء أرصدتهم التي لا تمتليء – لا ملأها الله – وبالتالي هذا شيئ مجنون وشيئ عبثي غير معقول، ولكن هذا كله يحدث بإسم الدين، فهذه هى رسالتي إذن وهذه هى  رسالة الخُطبة لكم ولمَن بلغ، فاحذروا هؤلاء ألف مرة واحذروا الحكام الظلمة مرة، احذروهم ألف مرة لأنهم هم الأعوان الحقيقيون ولأنهم هم الذين يُعبِّدون الطرق لهؤلاء الظلمة، أمثال هؤلاء يفعلون هذا سواءٌ أكانوا علماء دين أو مُثقَّفين حتى علمانيين كذَّابين، فاحذروا من هؤلاء المأجورين أيضاً من وعاظ السلاطين بغض النظر عن نحلتهم ومذهبم ودينهم.

إذن الآمرون بالقسط هم الذين فهموا جوهر الدين، فالله قال  لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ  ۩، أي من أجل هذا أنزل الله الكتب ومن أجل هذا بعث المُرسَلين، ومن هنا ألا تباً لنا وألف تبٍ وتباب إذا دعونا إلى الدين وفهمناه وفهَّمناه الناس على أنه طقوس وشعائر ولحية وحجاب وصلوات وجماعات وخُطب ومنابر بعيداً عن الحريات والعدالة، والله لنا التب ولنا التباب إلى يوم الدين، ولن ننتظر إلا الخسار والعار كما نحن الآن والغون فيه.

 قبل سنوات في مصر – كما قلت – حدث شيئٌ مُشابِه تماماً حين انتحر عبد الحميد شتا، ولكن لحكمة لا يعلمها إلا الله لم تفض كأس الشعب المصري فلعلها تفيض قريباً بإذن الله، إذن هما رمزان أحدهما ميت والآخر حي، فمحمد البوعزيزي حي ليس لأنه أكثر جرأة أو أعظم يأساً من المصري عبد الحميد شتا ولكن لأن على ما يبدو أن منسوب الوعي في هذه اللحظة عند الشعب التونسي كان يعلو قليلاً، ومن علينا أن ننتبه إلى أن هذه القضية هى  قضية وعي وإحساس لا يحتمل مزيداً من الظلم، وبالتالي كان باطن الأرض خيرٌ من ظاهرها لأمثال هؤلاء، فهذه هى القضية وهذه هى المُعادَلة ببساطة!

عبد الحميد شتا هو الشهيد الآخر والمُنتحِر أيضاً – رحمة الله تعالى عليه – وهو خريج كلية الاقتصاد والعلوم السياسية والأول على دفعته، ولكن هذا المسكين أخطأ خطأً لا يُغتفَر حين ظن المسكين لأنه مُثقَّف – Intellectual  – ومُتعلِّم أنه سيُكافأ في بلد لايزال فيه شيئ من عقل بحيث يُكافأ النبوغ ويُكافأ الذكاء والعبقرية، فكان ينبغي أن يُقال له “أنت نابغة والأول على الدُفعة وشاطر وبالتالي لابد أن تُكافأ هذا، فأنت أكيد عندك أولوية على الراسبين والسُقّط وسقط المتاع من البشر” ولكن هذا لم يحدث، حيث ذهب إلى الخارجية ومعه أوراقه وشهاداته المُشرِّفه لأنه الأول على الدُفعة لكنهم نظروا إليه باحتقار، فكما صفعت الشُرطية الراسبة في الصف السادس الابتدائي بوعزيزي هؤلاء صفعوه ولكن صفعة معنوية لا تقل عن صفعة الشُرطية التونسية وقالوا له: أنت غير لائق اجتماعياً، فكيف لك تتقدَّم لكي تلتحق بالسلك الدبلوماسي؟!

فمُصطلَح “غير لائق اجتماعياً” دائماً ما يُستدعى من المُعجَم العفن البائد للعبودية والتمييز العنصري في داخل الشعب المسلم العربي الواحد، ما معنى غير لائق اجتماعياً؟!

هل أنا منقوص الإنسانية أو شهاداتي لا تصلح أو علمي لا يصلح؟!

ما القضية إذن؟!

 الرجل لم يستطع أن يفهم هذا حين قالوا له “أنت مُجرَّد فلاح ابن فلاح فلا تحلم بأن تلتحق بالسلك الدبلوماسي المصري” ثم طردوه، فمُباشَرةً ذهب إلى كوبري أعلى النيل وألقى نفسه في النيل فمات غريقاً.

ذلك حدث لأن عبد الحميد شتا صُعِق ولم يُصدِّق أن هذا هو وطنه وأن هذه هى بلده وأن هؤلاء هم أهله، هؤلاء ليسوا أهله لأن ليس هكذا يُكافأ الذكاء والنبوغ والعبقرية، فكأنهم يقولون له “عليك أن تنتبه وأن تحذر من أن تكون الأول لأنك ستكون الأخير أو المُنتحِر الأول، فيجب أن تكون – أكرمكم الله – مثل هؤلاء المُنحنين، وبقدر ما تنحني يُمكِن أن تُحصِّل ما تُريد”، لكن هناك مَن لا يُؤمِن بفلسفة الانحناء ومن هنا يكتب المُصلِح الديني الكبير مارتن لوثر Martin Luther “لا يُمكِن لأحد أن يمتطي ظهرك ما لم تكن مُنحني الظهر”، فلا تسمح لأحد أن يمتطي ظهرك، أفضل لك بكثير أن تموت وأن تنتحر من أن تسمح لأحد أن يمتطي ظهرك، مليون مرة الانتحار أشرف من هذا، وهذا ما أدركه الآن الشعب التونسي، فالانتحار والموت بالرصاص الحي على طريقة الفلسطيني والإسرائيلي الصهيوني أشرف ألف مرة من أن نعيش الذل القاتم الأغبر لأننا لا نُريد أن نُواصِل هذا الذل، لا نُريد هذا فكفى، طف الصاع وفاض الإناء!

نعود إلى المفاتي العباقرة الجهابذة فنقول لهم: بالله عليكم مَن تظنون أنفسكم؟!

يثور حديث في الغرب والشرق عن نرجسية المُثقَّف دائماً، وعموماً الأكاديميون والمُثقَّفون وأهل الفكر والعلم والذكر لديهم نوع من الشعور الزائد بالذات، وأنا من هذه القبيلة ولكن الحمد لله على الأقل أنا أُدرِك هذا لأن ينبغي أن أعرف قدري، فأقول لمثل هذا العالم: مَن أن ؟!

ماذا تظن نفسك ؟!

 أنت تظن أنك أصبحت عالماً كبيراً أو مُؤلِّفاً أو فيلسوفاً أو أكاديمياً أو غير ذلك ولكن هذا كله ليس له قيمة وليس له وزن ما لم تصطف إلى جانب الجماهير وإلى جانب شعبك وإلى جانب أمك وأبيك وعمتك وخالتك وجارك وجدك وإخوانك وأصلك وفرعك، وإلا فأنت إنسان تافه من التافهين الكثر في هذا العالم ولا تُساوي شروى نقير بل لا تُساوي أي شيئ، فأنت مُستعِد أن تبيع نفسك لكل نعل مليء ذهباً لكي يُغدِق عليك هذا النعل بعض الذهب وبعض الدنانير، أنت تبيع نفسك وتبيع كرامتك وعلماتك الفارغات – سواء كانت علمات دينات ولا علمانيات – من أجل أمور دنيوية، فهذا كله علم فارغ  ولا قيمة له، كل هذا لا قيمة له!

فهذه هى نرجسية المُثقَّف الذي يظن نفسه – ما شاء الله – شيئاً غير العباد، علماً بأن الفقيه هو ليس مُثقَّفاً، فالفقيه قد يكون عالماً وقد يكون حافظاً – فقط يحفظ له بعض الكتب والأحكام – وقد يكون حتى عالماً ومن ثم يستطيع استنباط واستخراج الأحكام من أدلتها التفصيلية بالطرق المُصطنَعة التقليدية، لكنه يظل عالماً نمطياً وعالماً واحدياً، فهو من ناحية معرفية عالم واحدي وبالتالي – صدِّقوني – لا يستطيع أن يرى العالم إلا من زاوية واحدة ضيقة، فالزاوية الفقهية أضيق الزوايا علماً بأنني سأُوضِّح هذا لأن هذه الجُظئية تُعتبَررسالة أساسية في خُطبة اليوم أيضاً، لكن قبل أن أتكلَّم في نُقطتي هذه وما أُريده  لهؤلاء الفقهاء أو مَن يظنون أنفسهم فقهاء سوف أعود إلى قضية التضخم – Inflation – في الفتوى، فلماذا كثر فقهاء الفضائيات؟!

ما دلالة هذا التضخم؟!

لم يحدث في عصر من العصور أن تضخَّمت الفتوى كما نرى اليوم، فالإمام الجليل ابن حزم – رحمة الله عليه – الظاهري في كتابه أصحاب الفتيا من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم ذكر أن من بين ألوف الصحابة وُجِد مائة وستة وأربعون فقط يشتغلون بالفتوى، ففي الكتب التي بلغتنا والتي تُترجِم لأصحاب رسول الله كان هناك ما يزيد عن ثمانية آلاف ترجمة، وتقول هذه الكتب أن الرسول تُوفيَ عن مائة وأربعة عشر ألف صحابي، ومع ذلك سنقول تنزلاً أن عددهم كان عشرة آلاف وليس أربعة عشر ألفاً وهو عدد كبير جداً لكن عدد المُفتين من هؤلاء الصحابة الذين تصدَّروا الفتوى والقول في الدين والحُكم على الناس والأفعال والأحداث والظواهر والأشياء لم يبلغ ألف أو ألفين بل وصل العدد إلى مائة وستة وأربعين فقط بحسب استقصاء ابن حزم الذي استقصاهم وذكرهم من عند آخرهم واحداً واحداً حتى ذكر مَن ليس له إلا فُتية أو فتوى واحدة، وهذا يدل على وجود اقتصاد في الفتوى لأنها كانت أمة عمل، وبالتالي ليس غريباً أن يكون جيل الصحابة – رضوان الله تعالى عليهم – هو الجيل الذي فتح شرق الدنيا وغربها وشمالها وجنوبها، هم هؤلاء الذين فعلوا هذا لأن ليس عندهم وقت للكلام ولإصدار الأحكام على البشر والظواهر والأشياء وعلى الكون كله وعلى الدنيا بل وعلى الآخرة أيضاً فيقولون هذا في الجنة وهذا في النار، ليس عندهم وقت لهذا الكلام الفارغ، ومن هنا وصل عدد من اشتغلوا بالإفتاء إلى مائة وستة وأربعين، سبعة منهم فقط مُكثِرون وهم “عمر وعليّ وعائشة وابن عمر وابن عباس وزيد وابن مسعود”، سبعة فقط كانوا يُكثِرون الفتوى وغير هؤلاء كان بعضهم مُتوسِّطاً وكان أكثرهم مُقِلّاً جداً من الفتوى، لذا أنا أقول لكم أن العلاقة عكسية بين العمل والكلام، فمَن كثر كلامه قل عمله طبعاً، ومن هنا مَن كثر الكلام في الدين لمدة أربع وعشرين ساعة في الفضائيات لم يعد هناك أي عمل، وإلا أين العمل؟!

أين الدنيا ووقت الدنيا؟!

أين وقت التثمير والتعمير والإنجاز والإنتاج والتوليد والتكثير والتثمير؟!

أين ؟!

لا يُوجَد وقت لهذا، إذن هذه هى الدلالة الأولى، علماً بأنه  لا يُوجَد أمة قلَّ عمليها مثل أمتنا اليوم، فلا يُوجَد أي عمل تقريباً، هذه الأمة مُعدَمة ولا تعمل شيئاً، حتى أن تجد من علماء الدين هؤلاء مَن يشتغل بالعلم ويتكلَّم في العلم ويرتزق بالعلم رزقاً حسناً جداً – علماً بأن  بعضهم يُدخِّل مئات الألوف وبعضهم ملايين الدولارات في السنة بسبب الكلام في الدين – ولكنك لو سألته عن حفظه لكتاب الله لقال أنه لا يحفظه وليس ضرورياً أن يفعل هذا فهو موجود هو على الإنترنت – Internet – وكذلك الحال مع الأحاديث التي لا يستطيع أن يسوقها بنصها وفصها فضلاً عن أن يسوقها – والعياذ بالله – بأسانيدها، وطبعاً لا يقرأ في العلوم ويدّعي أن هذا ليس شرطاً فهو مُجرَّد داعية ممُثقَّف إسلامي، فما شاء الله على هذا العلَّامة الكبير ولكن لماذا كل هذه الملايين إذن؟!

بإسم ماذا تستحقها أو استحققتها يا مَن تقول هذا؟!

بإسم الضحك على هؤلاء المُغفَّلين، أنت تضحك عليهم وتبيعهم الأوهام والأحلام، وهناك مَن يُلحِّن لك ويُغني لك.

إذن مفاتي الفضائيات والتلفزيونات – Televisions – صباح مساء بمثابة كارثة حقيقية، أما الدلالة الأخرى هى أننا نُريد أن نُعوِّض – دلالة تعويضية – الفشل في الحياة بالنجاح الموهوم بالكلام في الدين، ولكن هذا ليس نجاحاً ولا يُمكِن للكلام في الدين أن يُعَد هو النجاح أبداً، لكن النجاح يتمثَّل في خدمة جوهر الدين وخدمة مقاصد الدين وفي رأسها – كما قلنا – الحرية والعدالة، هذه هى خدمة الدين، فخدمة الجماهير إذن لا تكون بالكلام في الدين وكثرة الفتاوى والخُطب والتأليفات والمُحاضَرات والكاسيتات – Cassettes – والسيديهات – CDs – أبداً، فليس هذا هو!

ثالثاً وأخيراً حتى لا نُطوِّل لابد أن نُشير إلى الرغبة في طلب السُلطة، فالفتوى سُلطة ومن هنا تجد العاجز الفاشل – ليس كلهم هكذا ولكن كثيرٌ منهم هكذا حقيقةً فأنا لا أُحِب أن أُجامِل – يضع رجل على رجل ويتكلَّم في العاملين وفي العاجزين من أمثاله والفاشلين فيحكم عليهم ويُصدِر الأحكام، ولكن هل تعلمون أن إصدار الأحكام قد يُعتبَر خطيئة عند الله؟!
إصدار الأحكام قد يُعتبَر خطيئة وأي خطيئة، وذلك ليس لخطورة الفتوى في حد ذاتها وإنما لجوانب سيكولوجية وروحية ومعنوية، فإصدار الأحكام على الناس خطيئة ولذا قال عيسى “لاَ تَدِينُوا لِكَيْ لاَ تُدَانُوا”، وأخرج الإمام مالك في الموطأ أن النبي قال “لا تُعامِلوا الناس على أنهم أرباب، عاملوهم على أنهم عبيد مثلكم”، نحن عبيد ولسنا أرباباً، فلماذا نُصدِر الأحكام على الناس؟!

أسخف شيئ وأظلم شيئ وأقتم شيئ أن تُصدِر الأحكام على الناس من خلال مُلاحَظة الوضع الشخصي لذاتيتك المُبجَّلة، فأنت ما شاء الله رجل العلم وفقيه أو مُفتي رسمي أو غير رسمي وجماهيري ومُرتاح وشبعان وريان ومُمتليء الجيب والكونتو Conto بفلوس الناس وبفلوس الجماهير – الحمد لله – وكل شيئ ممتاز ولك الحرية أن تقول ما تشاء لأنك لا تقول شيئاً مفيداً ومع ذلك تأتي وتُصدِر أحكاماً على الناس، فحتى الحكومات الظالمة تُعطيك كل حرية لأنك لا تقول شيئاً يُفيد الشعوب ويُزلزِل الثقة بهؤلاء الظلمة ، ولذلك يعطونك الفرصة – ما شاء الله – وتُستقبَل من بلد إلى بلد ومن عاصمة إلى عاصمة فتُصبِح نجماَ تلفزيونياً، ومن ثم عليك أن تنتبه إلى هذا وأن تفهم هذا، ونحن أيضاً نُحِب أن نفهم وأن نُفهِّم الآخرين هذا الذي يحدث، ولكن رغم هذا كله فأنت تأتي أيها العالم وتقول: هذا مُنتهى المُراد مَن رب العباد، فماذا تُنكِرون أنتم؟!

الأمور مُمتازة جداً جداً جداً، تسخطون على ماذا إذن؟!

“بلدنا – ما شاء الله – مُطبِّق لشرع الله وعدالة الله وصل تطبيقها تقريباً إلى تسعة وتسعين في المائة – الحمد لله – فبقيَ واحد في المائة الذي يُعَد مسئولية هذه الجماهير الملعونة، لكن الحاكم بريء الذمة والحمد الله، وبالتالي على الجماهير الملعونة هذه أن تستكمل الواحد في المائة المنقوص من تطبيق دين الله في الأرض”، وهذا غير صحيح طبعاً بل أن هذه أكبر خطيئة ولكن هل تعلمون كيف يكون مصير علماء السوء هؤلاء عند الله؟!

هم أول مَن تُسعَّر بهم نار جهنم.

عليك أن تُلاحِظ حين تتكلَّم وحين تُفتي وتُصدِر الأحكام نكبات المنكوبين – كما قلت – وعذابات المُعذَّبين ومرارات الممرورين وكوارث المكروثين، عليك أن تفتح العينين جيداً على هذا، ويا ليت لك عشرة أعين لكي ترى أكثر ثم تتكلَّم، لكن هذه مسألة أُخرى ومن ثم سأعود إلى قضية الفقه والفتوى وهى رسالة – كما قلت – رئيسة في خُطبة اليوم.

أولاً الفقه زاوية نظر واحدة يُمكِن أن ننظر إلى الأشياء والأحداث والظواهر والأشخاص من خلاله، وهذه الزاوية الواحدة ليست تُعوِّض عن سائر الزوايا، فيجب على الفقهاء أن يفهموا هذا جيداً – والله العظيم – حتى يُريحونا من كثرة كلامهم وكثر شقشقاتهم اللفظية الفقهية، ولكن كيف؟!

الفقه أيضاً ليس قادراً أكثر من غيره أو بطريقة أنجع من غيره على فهم الواقع وتفسيره وتحليله حتى وإن اعترض أحدهم واعتبر أن هذه حرب على الفقهاء وهى ليست كذلك وإنما هى نوع من تقييد غرور الفقهاء من الذين يتكلَّمون بإسم الفقه وهم ليسوا فقهاء حقيقيين أصلاً، وبالتالي لابد من تقييد  لحدودهم وتقييد لغرورهم.
بعض الأذكياء اقترح أن نُقيِّد حريات الرجال بدل أن نتكلَّم عن إعطاء النساء مزيداً من الحريات، فقال: مُعظم هذه الحريات المطلوبة إنما جار عليها الرجل بتوسع حرياته فلماذا لا ندعو إذن إلى تقييد حريات الرجال؟!

هذا هو، فمن المُمكِن أن ننظر إلى المسائل من زوايا مُختلِفة جديدة وفيها طرافة وفيها جدة ومع ذلك تُشكِّل حلاً، وسأُبرِّر مقولتي هذه التي يرفضها كل فقيه ابتدءاً ولكنه ربما يقبلها بعد أن يسمع إن كان عنده التواضع الحق وسأقول: أولاً هل تظنون أن الفقيه إذا تعلَّق الأمر بالفهم والتحليل والتفسير يُمكِن أن يسد مسد عالم النفس وعالم الاجتماع ورجل الاقتصاد ورجل الدولة السياسي الاستراتيجي وإلى آخره؟!

لا يسد طبعاً، هذا مُستحيل لأن هناك مسائل لا يفهمها إلا السياسي ولا يستطيع أن يتكلَّم فيها الفقيه حتى ولو بكلمة واحدة.

الآن السودان ضاع جنوبه منا – واضح أنه ضاع للأسف الشديد – ولذلك قبل أشهر كلَّمت أحد الساسة السودانيين في محضر من إخواني وقلت له: بالله عليكم قل لي عن أي سياسة إسلامية تتحدَّثون؟!

ما هى السياسة التي مارستموها في السودان؟!

أنا اُحِب أن أكون واضحاً مع نفسي ومع إخواني أصحاب العلاقة، فقال: ماذا تُريد يا شيخنا أن تقول؟!

علماً بأن هذا السياسي لعله يحضر معنا الآن هنا، على كل حال قلت له: أنا لا أفهم معنى السياسة الإسلامية، فأنت حين تأتي لتقود شعباً ستُضطَّر على الرُغمِ منكَ أن تدخل البوتقة وأن تدخل المعمل وبالتالي إما نجحت وإما فشلت، فالنجاح ليس برفع شعارات مثل شعار الإسلام، وإلا ماذا أُريد من سياسة إسلامية؟!

تأمَّلت في الكتب التي تتحدَّث عن السياسة الإسلامية المُعاصِرة وهى لأذكياء هؤلاء المُفكِّرين فوجدت على الأقل خمسين في المائة في الكتاب يتحدَّث في موضوع غير ذات موضوع الآن مثل: هل يجب أن يكون هناك خليفة؟!

وإذا كان يجب أن يكون هناك خليفة هل يتعدَّد الخليفة أو لا يتعدَّد؟!

ما هذا الكلام؟!

لا يُوجَد خلافة الآن، نحن نتحدَّث عن سياسة، ثم ما أهمية موضوع تعدَّد الخليفة أو توحَّده؟!

 ثم يذكرون صفات الخليفة ويقولون ينبغي أن يكون مُتميِّزاً بالزكانة وبالفطانة وأن يكون كذا وألا يكون، فما هذا الكلام الفارغ؟!

لم يعد هذا موجوداً، هذا كان يُوجَد قديماً حين كان يحكم الحاكم بأمره، أما اليوم فيُوجَد مُؤسَّسات ودول وحكومات، ومع ذلك تجد نصف الكتاب في مسائل غير ذات موضوع اليوم، فما هذا الكلام؟!

ثم يتحدَّثون بعد ذلك عن السياسة الإسلامية وأن مَن يعتدي علينا لابد أن نعتدي عليه لأن من حقنا أن نُدافِع عن أنفسنا، ولكن هل نحن نحتاج إلى نصوص لكي نُقرِّر هذه الحقائق؟!
كل الشعوب والدول تفعل هذا، فلماذا مثل هذا الكلام؟!

قلت له :

للأسف رفعتم شعار دولة إسلامية وتطبيق شريعة، وكان شعاراً في غير محله وفقدتم لأول مرة جنوب السودان، فلأول مرة في سنة ألف وتسعمائة وثلاث وتسعين يُقرِّر الجنوبيون رغبتهم في عدم البقاء تحت سُلطة هذه الدولة التي ستكون دولة إسلامية وستُطبَّق فيها الشريعة.

أنا أرى أن الطيب أردوغان – طيَّب الله عمره وأوقاته – هو أنجح سياسي مسلم الآن على وجه الأرض، هذا هو العملاق الحقيقي – والله العظيم – فلا يُوجَد سياسي مسلم أنجح من الطيب أردوغان، ساهم في تقدم تركيا دون أن يتكلَّم أبداً ودون أن يقول قال الله وقال الرسول وقال الطبراني والطبري وقال المُلا فلان والمُلا علان، الرجل – ما شاء الله – عنده تنمية تُسابِق الريح، وهذا شيئ غير طبيعي فمُستوى الدخل زاد بشكل مُعجِز لم يحصل من قبل – حقيقةً مُعجِز – وأصبح هناك آمالاً غير عادية ولكنها تتحقَّق بكل سلاسة وسهولة سنةً فسنة، وهذا يُعَد أكبر خدمة للإسلام وأكبر خدمة للشعب المسلم التركي – الشعب التركي عموماً مسلماً كان أو غير مسلم  – طبعاً، لكن لماذا؟!

ما معنى التنمية ؟!

ما معنى ارتفاع الدخل القومي؟!

ما معنى ارتفاع دخل الفرد السنوي؟!

معنى ذلك قلة الدعارة وقلة العهارة وقلة السرقة وقلة الجريمة وقلة الإحباط وقلة اليأس وزيادة الإنتاج والعمل والأمل والعدالة، وهذا هو الذي يُريده الله تبارك وتعالى حين قال لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ  ۩، فهذا هو أنجح شيئ!

إذن حقَّق غايات الإسلام دون أن يتكلَّم كثيراً بإسم الإسلام مع أنه مرجعيته قولاً واحداً بلا مثنوية هى الإسلام لأن الرجل يحفظ كتاب الله وهو رجل كريم وخريج المدارس القرآنية.

كنت في تركيا قبل أسبوع وبكيت – والله العظيم – وأنا أمشي في هذا البلد العظيمة الذي فعلاً تشعر به بالنبض وبالحياة وبالتعمير وبالتثمير في كل مكان وبراحة الناس، فالناس مرتاحة وتمشي بهدوء وتتكلَّم بهدوء حيث لا ضغط ولا توتر أبداً وهذا شيئ عجيب، ومن ثم بكيت وقلت “هذا هو الزعيم الذي دافع عن شعبنا يوم خذله العرب، الزعيم الوحيد الذي مرَّغ أنف إسرائيل في التراب أمام العالم وسماهم قتلة الأطفال حين قال أمام العالم لبيريز Peres أنتم قتلة الأطفال، علماً بأنه فعل هذا – والله العظيم – دون أن يكون له مصلحة مع غزة أو مع شعب غزة وإنما لأنه رجلٌ شريف، وأنت تشعر بأن هناك رجولة وأن هناك بطولة وزعامة حقيقية، فالرجل زعيم حقاً حق الزعامة”، هذا هو السياسي الناجح، ولكن أن ترفع شعار ولا تستطيع أن تدفع أعباءه ولا تدرأ مخاطره وتفقد نصف بلدك هذا يُعَد خطأً كبيراً جداً ولا يُغتفَر، فما هذا؟!

ما الذي يحدث؟!

أقول للإسلاميين: بالله عليكم دعونا من هذه الأشياء وارفعوا شعاراً آخر ينضوي ويسعد بالانضواء تحت لوائه العلماني والاشتراكي والشيوعي والمسيحي واليهودي العربي أيضاً إلى جانب المسلم، نادوا بالعدالة والتداول السلمي على السُلطة والديمقراطية والرقابة على الأجهزة كلها وتوسيع دائرة وميدان مُؤسَّسات المُجتمَع المدني، فيُوجَد أكثر من خمسين ألف هدف ينبغي أن يتم تحقيقه، ارفعوا هذا وستكسبون كل شيئ، واجعلوا مرجعيتكم الإسلامية – إن كانت تصلح – مرجعية صامتة إن كانتم تفهمونها بطريقة صالحة لإعادة إنتاج الحياة.

أعود وأقول: هل تظنون أن الفقيه يُجدي عن السياسي  والاقتصادي والاجتماعي والمُهندِس المعماري والمدني والمُحلِّل وغير ذلك؟!

هذا مُستحيل، ومن هنا لا يُجدي طبعاً لأن هذه الأشياء تحتاج أهلها لكي نفهمها، إذن دور الفقه في الفهم – في فهم ما يحدث – ضئيلٌ جداً جداً جداً جداً إلى جانب دور السياسة والاجتماع والاقتصاد وعلم النفس.

من السهل جداً على الفقيه أن يُصدِر حكماً على ظاهرة ما ولكن من الصعب أن يُقدِّم تفسيراً لها، فالآن – مثلاً – ينتشر الشذوذ الجنسي في العالم العربي وينتشر زنا المحارم – والعياذ بالله – بشكل مُزعِج جداً جداً جداً، فلأول مرة في التاريخ المُعاصِر تُعقَد عشرات المُؤتمَرات في دول عربية كثيرة عن ظاهرة – علماً بأن معنى أن إسمها ظاهرة أنها تفشت  – زنا المحارم، فالفقيه الواحد النمطي يستطيع أن يقول هذا مُحرَّم بل هو من أفحش المُحرَّمات جزاؤه كذا وكذا وكذا، ولكنه لا يستطيع أن يُفسِّر لنا لماذا استشرت هذه الظاهرة وما أسبابها وعللها ودوافعها فضلاً عن أن يُبيِّن سبيل العلاج الحقيقي غير هذه المواعظ التي لا تُفيد ولا تُجدي، وبالتالي هنا يتقدَّم عالم الاجتماع السوسيولوجي ويتقدَّم عالم النفس ومن ورائهما الاقتصادي الذي يعلم أن سرقة مليارات الأمة بحيث لا تجد ملايين الأمة بعد ذلك ما تسد به عورتها وخلتها ولا ما تُحصِّن به فروجها هو السبب الحقيقي في هذه الظاهرة.

قلت مرة بعبارة ملآنة وهى عبارة للأسف يستعر منها المرء أن حقوق الحيوان – صدقوني – الآن في العالم كله – والله العظيم  – أوفر من حقوق الإنسان العربي، وقلت لكم أيضاً أن الهر والهرة والقرد والقردة ليس عندهم مُشكِلة جنسية فكل حيوان يجد ما يُفرِّغ طاقته، إلا الإنسان العربي مُحرَّم عليه أن يُفرِّغ هذه الطاقة، فلا تستطيع أن تتزوَّج قبل أربعين هذا إن استطعت، فسن الأربعين أصبح هومُتوسِّط سن الزواج الآن، فماذا يفعل المسكين هذا الذي راهق من سن الثالثة عشرة إلى الأربعين؟!

يُجَن طبعاً، يركبه ألف شيطان وليس شيطاناً واحداً فيقع مرة على أمه  ومرة على بنته ومرة على جاره، على الفقيه هنا أن يتقدَّم ليفهم أسباب الظاهرة بدل أن يدمغ ويحكم ويقول ” الشذاذ الملاعين لعنة الله عليهم، إن وقع رجل على رجل يُلقى به من حالق وأبو بكر حرَّقهم وفلان حرَّقهم”، فما هذا الاستهبال؟!

اذهب وافهم يا حبيبي قبل أن تحكم على الناس لأن حكمك هذا جريمة، افهم أولاً لماذا استشرت هذه الظواهر، واستعن في ذلك بإخوانك من علماء الاجتماع والنفس حتى يشرحوا لك ما السبب، ثم  بعد ذلك سوف ترى مَن هو أحق بالوصم والدمغ، هل هو هذا الفاحش المُجرِم أم السبب الأكبر والشيطان الأكبر الذي يقف وراء كل هذا العار؟!
لذلك علينا أن ننتبه إلى أن أي ظاهرة أو أي أمر أو أي حدث يُمكِن أن يُنظَر إليه من زوايا كثيرة، مثل زاوية المنشأ والمبنى وزاوية المعنى وزاوية الغاية والهدف وزاوية الباعث والدافع وزاوية العلاقة وهى زاوية المُقارَنة – علاقة الشيئ بالأشياء الأخرى في سياق مُختلِف  – وغير ذلك، فالله – مثلاً – حرَّم الخمر ولحم الخنزير والميتة ولكنه في ظروف أخرى أحلها وأباحها بقدر مُعيَّن لأن السياق اختلف، فحين يختلف السياق يختلف كل شيئ، إذن علينا أن ننتبه إلى زاوية العلاقة جيداً لأن  الفقه كله مُقارَنة وبالتالي لابد من الفهم والذكاء والقدرة على التسييق والمُقارَنة ووضع الشيئ في سياقات مُختلِفة، ومن هذه الزوايا أيضاً زاوية الحكم الفقهي بالصيغة التكليفية التي تتعلَّق بالحلال والحرام والواجب والمكروه والمندوب والمباح، ولكن حتى الأصوليون ومن ورائهم الفقهاء أدركوا أن مُعجَم اللغة التكليفية غير كافٍ للتوصيف، فبذكائهم – فعلاً – العبقري المُؤسِّس ابتدعوا مُعجَماً جديداً أيضاً يُكمِّل ولا يتناقض وله قدرة تفسيرية عالية وسمّوه مُعجَم اللغة الوضعية، وهو مُفيد لمعرفة الأحكام الوضعية، فالشيئ ليس بالضرورة أن يكون حلالاً وحراماً وواجباً ومكروهاً وإنما من المُمكِن أن يكون سبباً في شيئ آخر أو شرطاً له أو مانعاً منه أو يكون صحيحاً أو باطلاً فاسداً أو يكون رخصة أو يكون عزيمة، وهذه كلها إسمها الأحكام الوضعية، وهكذا حتماً ولزاماً انداحت واتسعت دائرة التوصيف وغدونا نُوصِّف الأشياء بلغة أخرى غير لغة التكليف، وطبعاً لا يخفاكم ولا يخفاكن أن الأسباب والشروط والموانع – حتى صحة الشيئ وبطلانه – أوسع من أن تكون مُجرَّد شرعية، فهناك أسباب كونية قدرية وأسباب تتعلَّق بالطب وبالفسيولوجيا – Physiology – وأسباب تتعلَّق بالهندسة وأسباب تتعلَّق بالاقتصاد وأسباب تتعلَّق بالسياسة والاستراتيجية و الـ Geopolitic وبخمسين ألف زاوية وزاوية للنظر والحُكم، إذن اللغة الوضعية لغة واسعة جداً جداً جداً جداً وتسمح لعشرات الصنوف والألوان من الثقافات غير الفقيهة أن تتدخَّل وأن تُوصِّف وأن تتكلَّم دون أن تقتصر على الفقهية فقط، ولذلك نقول للفقيه “عليك أن تُدرِك دورك وحجمك وهو حجم محدود إلى حدٍ ما وأن تحترم حدودك، ويُمكِن بعد ذلك أن تقول قولاً مُفيداً في سياق فهم ما يقوله الآخرون من أهل الذكر والنظر والفهم والتقويم والحُكم من ذوي الاختصاص، ويُمكِن أن تُصبِح إنساناً مُحترَماً فتتكلَّم لصالح الجماهير ولصالح أمتك ولصالح شعبك فتفرض احترام اللغة الدينية أيضاً التي عرفت قدرها على الآخرين”.     

 أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.

أما بعد، إخواني وأخواتي:

رأى الحسن البصري ذات يوم رجال الشُرطة وقد ألقوا القبض على رجل سارق من عامة الناس فلم يقل أبداً “اقطعوه قطعه الله اللعين”، وإنما قال “سارق السر يقطع سارق العلانية”، فهو تكلَّم في المكان تماماً وتكلَّم بما ينبغي أن يُتكلَّم به، فقال: أي شريعة وأي تطبيق حدود هذا والذين يسرقون الملايير يقطعون مَن يسرقون الملاليم؟!

الحسن البصري قال “هذا غير مقبول”، وكذلك العز بن عبد السلام لما قيل له “حث الجماهير على أن تتبرع لكي نتفادي ونتصدَّى لغزو المغول المُجرِمين” قال  “لن أفعل، على مَن سرق أموال الجماهير وجعلها جواهر ودُرر في أعناق وأيدي وأرجل الغلمان والجواري أن يُعيد هذا ويُجيِّش به الجيش، وإن نقص بعد ذلك أمرنا الجماهير أن تُساهِم بالعون”، فهكذا هو الفقيه وهكذا هى الفقاهة الحقيقية بأن تنحاز إلى أمتك وأن تنحاز إلى شعبك وأن تتكلَّم بصدقية بما يُرضي الله ويُرضي الضمائر الحية.

(14/1/2011)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: