إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله -سبحانه وتعالى – من قائلٍ في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ :

لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۩ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ۩ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ۩

آمين اللهم آمين، صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين.
أيها الإخوة الأحباب، أيها الإخوات الفاضلات:

بالنسبةِ للمُؤمِن الإيمان هو قضية القضايا وهو عنوان الخلاص ومفتاح الظفر والنجاح في دُنياه كما في أُخراه، فحريٌ بنا أن نحوم حول هذه القضية الأم وهى قضية الإيمان، وبالنظر السريع يضح لنا أن الناس في تدينهم أو في إيمانهم أنماطٌ ثلاثة، النمط الأول هو التدين العامي أو الإيمان العامي، النمط الثاني هو الإيمان العالم، والنمط الثالث والأخير هو الإيمان العارف.

الإيمان العامي هو إيمان العامة والذي يقوم على ويتأسَّس على التقليد والتماثل والمُحاكاة، لا على البُرّهان ولا على التجربة إنما على التقليد والمُحاكاة كضرورة اجتماعية، وهنا حديث علماء ثيولوجيا الأديان عن الدين وعن الإيمان والشعائر والطقوس كضرورة اجتماعية و كميراث وإسمنت اجتماعي، لأنك تعيش في مُجتمَع وهذا المُجتمَع يتبنى رؤية دينية مُعيَّنة أو يتديَّن بدين خاص، وحتى داخل الدين هناك تصنيفات بينية وجُزئية فلا تجد مناصاً ولا تجد بُداً من أن تُوائم نفسك وتتكيّف مع هذا المُحيط ومع هذا العالم الصغير لكي يُمكِنك أن تعيش بينهم، ومن الصعب جداً على مَن يتديَّن بدين أن يعيش بين قومٍ آخرين لا يتديَّنون بهذا الدين، وأنا أقصد أن يعيش بمعنى أن يذهب ويجيء ويروح ويُداخِلهم ويُلابِسهم ويتعاطى معهم بحميمية، فيُمكِنك في مثل حالته أن تتجاوب معهم ولكنك لن تعيش معهم، يُمكِنك أن تتعايش وأن تتكلَّف ادّعاء وجود مُشترَكات كثيرة ولكنك لا تعيش حقاً، فأنت تعيش مع أهل دينك، وداخل الدين تعيش مع أهل مذهبك وأهل طائفتك، ولذلك يندر – هذا نادرٌ جداً وليس له حُكم، فهناك حالات استثنائية ولكنها نادرة والنادر لا حُكم له – أن تجد داخل الدين الواحد – مثلاً – إماماً في مذهب الاعتزال أو في مذهب الإمامية أو الزيدية أو الإباضية وإلى آخره بين أهل السُنة، فالواقع أنه لا مقامة ولا قيمة له بل ولا حديث معه فلا أحد يُريد أصلاً أن يسمعه ولذلك تبهت قيمته ويختفي لونه، والعكس صحيح حيث أن من الصعب جداَ أن ترى عالماً إو إماماً سُنياً في وسطٍ – مثلاً – شيعي، فلا دور له، بل أن أعظم دور له هو أنه سيُحاوِل أن يتواءم وأن يتكيَّف إلى حدٍ ما مُحافَظةً على البقية الباقية من مصالحه، وليفطن كل امرئٍ لنفسه فأنا أذكر هذا وأعلم أن أكثر الناس للأسف من طائفة العوام وهم قانعون بما هم فيه ولكن إيمانهم هذا إيمانٌ تقريباً بلا طعم وبلا لون وبلا رائحة وبلا مُقوِّمات حقيقية، هو فقط مُجرَّد تقليد ومُحاكاة، وعلى كل حال هو لا يحكي حقيقة الإيمان ولا يُترجِم جوهر الإيمان كما أراده الله وأمر به سبحانه وتعالى.

والإيمان العامي – أي إيمان العوام – إيمانٌ مُعلَّل لا إيمانٌ مُدلَّل، فهو مُعلَّل ومنسوب إلى العلة – علماً بأن العلة في هذا السياق بمعنى العوامل Factors – وليس إيماناً مُدلَّلاً أي منسوباً إلى الدليل أو إلى البُرهان أبداً، فهو ليس مُدلَّلاً وإنما مُعلَّلاً فأنت – مثلاً – مسلم لوجود علل ما، فهناك العلة الجغرافية أي أنك أصبحت مُسلِماً لأنك في نطاق جغرافي ينتمي أهله إلى الإسلام، فأول علة هى أنك من العالم الإسلامي لكن لو كنت من العالم البوذي لأصبحت بوذياً أو لوجدت نفسك بوذياً بالأحرى لأنك لم تُصبِح وإنما وجدت نفسك بوذياً وربما إذا كنت من العامة فأنت لن تتساءل: لماذا أنا بوذي ولماذا غيري ليس بوذيا؟!

لن تتساءل لأن هذا لا يقع في دائرة اهتمامك، فالعامل الجغرافي إذن هو أسمى العوامل، وهناك العامل البيئي والاجتماعي، فأنت في نطاق العالم الإسلامي في منطقة سُنية فوجدت نفسك سُنياً، وفي هذه المنطقة يتعبَّدون الله بمذهب الإمام أبي حنيفة – رضوان الله تعالى عليه – فتجد نفسك حنفياً، وطبعاً لا تجد بُداً من أن تُماثِل وتُحاكي الوسط – كما قلت بدايةً – حتى يُمكِنك أن تعيش معهم، فلابد أن تتكيَّف علماً بأنك ستجد هذا سلساً وسهلاً جداً فأنت لا تُجاهِد نفسك في أن تتكيَّف لأنك لم تختر شيئاً، فهذه هى بعض العوامل المُؤثِّرة ولكن هناك عوامل أُخرى كثيرة!
بدءاً من القرن الثامن عشر الميلادي هنا في أوروبا بدأ يُقرَّر شيئ على أنه شبه حقيقة علمية أو معرفية وهو أن الناس عموماً وليس هنا العامي وليس في الشأن الديني وإنما في شأن المعرفة البشرية أصلاً تتأسَّس المعارف لديهم على العوامل، وبالتالي بدأ العلماء وبخاصة الفلاسفة والمُفكِّرون الذين يذهبون في نظرية المعرفة – الإبستمولوجي Epistemology – يتفطنون إلى أن معارف البشر تتأسَّس أكثر ما تتأسَّس على العوامل لا على الأدلة حيث تراجع دور الدليل لصالح العامل، وطبعاً هذا الوجدان وهذا الاكتشاف – إن جاز التعبير – أو هذا التنبؤ والالتفات يجد جذره في أشياء تنتمي إلى عصور خلت واستمرت عبر الوسيط أو بداية حتى عصر النهضة في القرن السادس عشر وهو عصر الإصلاح الديني مع فرانسيس بيكون Francis Bacon الذي أشار إلى أوهام الكهف أو الغار وأوهام السوق وأوهام القبيلة وأوهام البحر وإلى آخره، فبدأ الناس يتفطنون إلى أنهم ليسوا أبناء الدليل كما قال ابن سينا مرة “نحن أبناء الدليل”، فالناس ليسوا أبناء الدليل ولا أتباع أهل الدليل بمقدار ما هم أبناء العوامل، ومع كارل ماركس Karl Marx أخذ هذا المفهوم مداً جديداً وزخماً مُستجِداً وجاء الرجل ليُقرِّر بقوة أهمية العوامل الاقتصادية فأقنع كثيرين بكلامه – وبلا شك هناك جُزءٌ لا يُستهان به من كلامه وتحليله صحيحٌ تماماً – حين لفت النظر إلى أن أفكار الناس وعقائد الناس وتجربات الناس ونزوعات الناس تدين أكثر ما تدين إلى أوضاعهم الاقتصادية وليس لأنهم انتخبوا هذه الآراء أو لأنهم وازنوا بين الآراء وأرجحوا بعضها على بعض، فمَن يفعل هذا؟!

الذين يفعلون هذا من وجهة نظر كارل ماركس Karl Marx – وهو هنا يُجانِب الصواب خُطوة بخُطوة – يفعلون هذا دائماً، فهو يرى هذا ولكن هذا غير صحيح لأن الدائمية غير صحيحة وإن كانت من حيث الأصل صحيحة، لكن أن تكون دائمية وكُلية شمولية هذا أمر غير صحيح، هذا الموضع خطأ في تفكير ماركس Marx، وطبعاً بعض الناس قد يعترض قائلاً: هذا في السياق الغربي فما شأننا نحن بهذا؟!

الشأن البشري واحد ونحن لسنا بدعاً من البشر وبالتالي ما ينطبق عليهم ينطبق علينا، فمَن يقول إن العامي في العالم الإسلامي ليس كالعامي في العالم الآخر كما لو كان العامي في العالم الإسلامي يُعَد عالماً وعارفاً وكشَّافاً وبحَّاثة؟!

لا أحد يقول هذا لأن هذا غير صحيح، هذا العامي عامي وهو يُقلِّد ويُحاكي ويخضع للعوامل ليس إلا، وعلينا أن ننتبه إلى هذا لأن بعض الناس لديهم سذاجة وسخافة في التفكير ويقولون: لماذا نحن ننتحل ولماذا نقتبس نظريات غربية لا تنطبق علينا؟!

هؤلاء يُشعِرونك أن عندهم الخصوصية – ما شاء الله – قابلة لرد وصد كل تفكير وإن كان علمياً وموضوعياً وينطبق عليهم وهذا غير صحيح، ليس هكذا يُفكِّر أهل الفكر، ولكن على كل حال كارل ماركس Karl Marx أكَّد دور العوامل الاقتصادية أو ما يُسمى بالبُنى التحتية في تكوين وصياغة وتشكيل وتغيير وإعادة تشكيل وإعادة صنع – Reshaping and Remaking – البُنى الفوقية كالثقافة أو الوراثيات والأدب والشعر والفن والدين والمُعتقَدات والرؤى وإلى آخره، فقال “كل هذا يدين إلى البُنى التحتية”، وفي هذا الكلام أجزاء صحيحة ولكن فيه أجزاء أيضاً غير صحيحة!

النمساوي سيجموند فرويد Sigmund Freud – مُؤسِّس التحليل النفسي – أكَّد على دور العوامل اللاشعورية، فأيضاً هذه العوامل اللا شعورية هى عوامل وليست أدلة، ومن هنا أنت تعتقد بهذا المُعتقَد دون ذاك وتسلك هذا السلوك دون هذا السلوك ليس لأنك اخترت وقدَّمت ورجَّحت أبداً وإنما تحت تأثير عوامل لاشعورية تدفعك إلى هذا دفعاً من حيث لا تحتسب ولا تدري أصلاً، فأيضاً فرويد Freud يسير في نفس قافلة الذين يُؤكِّدون على دور العوامل وليس على دور الأدلة، ومن ثم علينا أن ننتبه إلى هذا لأن هذه هى تشكيلة الفكر في العالم الحديث حيث أن نمط التفكير مُختلِف، لكن إلى اليوم للأسف بعض علماء المسلمين وأكثر مُفكِّري المسلمين يُفكِّرون كما كان يُفكِّر الإسلام في العصر الوسيط ويعتقدون أنهم يأتون بفكر عميق ونظريات قوية وأنهم يدفعون عن دينهم وعن مُعتقَدهم بالأدلة، وهذا الكلام يحتوى على قدر غير قليل من السذاجة الفكرية وسنرى هذا حين نتكلَّم على إيمان المُتكلِّمين أو الإيمان العالم، لأن هذه سذاجة ما بعدها سذاجة، فليس الأمر على هذا النحو ولا بأي طريقة من الطرق للأسف الشديد.

بعد ذلك أتى العالم الشهير هابرماس Habermas – يورغن هابرماس Jürgen Habermas – وأكَّد على دور المصلحة ومن قبله ميشيل فوكو Michel Foucault‏ الذي أكَّد على دور السُلطة، فالسُلطة والمصلحة واللاشعور والاقتصاد والبُنى التحتية والجغرافيا والبيئة وإلى آخره كلها عوامل لا أدلة، فهى التي تصوغ قناعات الناس ومُعتقَدات الناس وتُعيد تشكيلها وليست الأدلة، ومن هنا العوام يخضعون لهذه المقولة تماماً حيث أن هذا هو الإيمان العامي، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا ۩، ومن هنا جاز لنا وساغ لنا أن نستنبط أن الإسلام من خلال المنظور القرآني اعتماداً على هذه الآية ومثيلاتها قرار، وهذا القرار لا يعكس إرادةً ولا وعياً وإنما يعكس مُحاكاةً وتقليداً، فهذا المُؤمِن بهذه الطريقة وجد الناس يقولون شيئاً فقال مثلهم، علماً بأنني قلت في خُطبة سابقة “نحن لا نُؤمِن بحقيقة المسائل والموضوعات في الإيمان، نحن نُؤمِن بالإيمان ولا نُؤمِن حقاً”، ولكن كيف هذا؟!

يجد الواحد منا نفسه بين قومٍ يُؤمِنون بكذا وكذا وكذا وكذا فيُؤمِن بما يُؤمِنون به لأنه يُريد أن يُؤمِن بإيمانهم أي بما يُؤمِنون به، ولكن هل خاض الإيمان نفسه وذاته كتجربة ذاتية وشخصية؟!

لم يخضه ولم يعرفه ولا يُريد، فهو يُؤمِن بما يُؤمِن به الآخر ولذا هو يُؤمِن بالإيمان، أي بما يُسمّى عند الناس بالإيمان، فأركان الإيمان ستة عند الناس وبالتالي هو يُؤمِن بهذا.

إذن نحن نُؤمِن بالإيمان ولا نُؤمِن حقاً لأننا لم نختبر بعد حتى الإيمان نفسه، فيا للعار ويا للخسار، ومن هنا قال الله قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا ۩ وذلك لأنهم قالوا “لا إله إلا الله” وهذا من أركان الإيمان ولكنهم قالوا هذا لا عن خبرة ولا عن تجربة وإنما عن تقليد ومُحاكاة، فالإسلام هو أن تقول “لا إله إلا الله” مع أن التوحيد ركن من أركان الإيمان، ولكن أن تقول بهذا كقرار لمُتابَعة الآخرين ومُشايَعتهم هذا يُساوي الإسلام ولا يُساوي الإيمان لأن الإيمان تجربة معيشة، فإذا جاز أن يكون الإسلام قراراً قد يجترحه المرء في ساعة فلا يجوز أن يكون الإيمان كذلك، فقد يأتي أحدهم الآن إلى هنا وقد عاش دهراً من عمره في الغرب ورفض ما كان يتديَّن به أبوه وأمه وأهله وعشيرته وذووه، وحين يُذكِّره أهله بما نشأ عليه وبالأشياء التي كان يستمع إليها من أبيه وأمه وشيخ المحلة وأستاذه في المدرسة والكتّاب وإلى آخره يقول أنا وجدت نفسي عبر عشرين سنة سالفة أو مُتصرمة قد كفرت بهذا كله – علماً بأنه لم يكفر ولم يُؤمِن أصلاً فهو لا يعرف شيئاً – وأنا الآن أُريد أن أُسلِم وأن أُعلِن إسلامي فأشهدُ أن لا إله إلا الله، لكن هذا القرار يُجترَح في خمس دقائق ومن هنا نقول له “أنت لست مُؤمِناً، أنت مسلم فقط بقرارك”، ومن ثم علينا أن ننتبه إلى حقيقة أن الإيمان لا يُمكِن أن يكون قراراً، لأن الإيمان ليس شيئاً جاهزاً وناجزاً نتعاطاه مثل صفقة ما نُريد أن نتعاطى معها وانتهت فاكتشفنا الإيمان، الإيمان ليس هكذا وإنما هو عملية مُمتَدة ما امتدَت بك الحياة حتى آخر نفس، وهذا ليس كلام فلسفة وإنما كلام القرآن الكريم الذي نُكرِّره في سبع عشرة ركعة من مفروضاتنا اليومية، وفي كل ركعة ندعو الله ونقول اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۩، إذن هو صراطٌ مُستقيم وليس نُقطة واحدة نُصبِح من خلالها مُؤمِنين، بل هو صراط والصراط لابد أن يُطوى بأن تُطوى مراحله مرحلةً فمرحلة، ولا نقف عن السير في الصراط حتى نلقى الله تبارك وتعالى، فهذه هى الهداية التي ينبغي أن تكون هداية عملية، فهى عملية سير مُمتَدة على الصراط، ومَن يسير على الصراط تُطالِعه مرائيٍ ومناظر كثيرةٌ غير التي طالعته من قبلُ، ومن هنا خُذ أي صراط مُستقيماً كان أم غير مُستقيم وسر عليه أو مارس سيراً دورانياً – أكرمكم الله – كما حمار الرحى – أعزكم الله وأعزكن – أو صراطاً مُمتَداً وسوف تجد نفسك دائماً ترى وتسطو عليك مناظر ومرائيٍ جديدة، فهكذا هو الإيمان.

الإيمان مفهومٌ نامٍ ومُتطوَر باستمرار، ولذلك الإيمان لا يُمكِن أن يكون يقيناً يُتحصَل بضربة واحدة أو بقرار أن نُؤمِن، فأنت لن تصل بذلك إليه لأن هذا من المُستحيل، ولكن هو مفهوم يزداد عُمقاً ويزداد اندياحاً وانبساطاً كلما سرت على الصراط المُستقيم، وأنا نبَّهت على هذا أكثر من مرة ولكن للأسف حتى أنا شخصياً لم أكتشف هذا إلا في آخر عُمري وتحسَّرت جداً على الطريقة التي فهمنا بها الإيمان وعشنا بها الإيمان وعُلِّمنا بها الإيمان شديد الحسرة والحُزن على ما فاتنا لأن فاتنا تقريباً شيئٌ كثيرٌ جداً إن لم يكن كل شيئ وبقينا كالعوام نُقلِّد ونُردِّد ونُحاكي فلا أدري ما الذي يُميِّزنا من البوذي واليهودي والنصراني وغيره، فهو يُحاكي ونحن نُحاكي وبالتالي نحن لم نعش التجربة ولم يفهم الواحد منا أو لم يُفهَّم بالأحرى أن الإيمان تجربة مُمتَدة وصراطٌ مُستقيم فلابد أن تُطوى مراحلها وباستمرار، وهذا معنى أنك ترغب إلى الله سبع عشرة مرة على الأقل في الركعات المفروضات أن يهديك الصراط المُستقيم، وهذا معنى أن يأمر الله المُؤمِنين أن يُؤمِنوا فيقول يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ ۚ ۩، وإلا كيف يُؤمِن المُؤمِن؟!

المُؤمِن الذي بدأ يخوض التجربة وربما عاش لوناً من ألوانها عليه أن يستكمل فالمسألة لا تنتهي لأن مُنتهاها فقط رب العالمين، فلا أحد ينتهي إليه – وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ۩ – ولذلك لو عاش حتى محمد – صلوات ربي وتسليماته عليه – إلى أبد الآبدين لظل يتعرَّف على الله ويقترب من الله باستمرار ولن ينتهي من هذا لأن الله لا تحده الحدود فهو أكبر من كل شيئ وأعظم من كل شيئ وهو ما يُسمّى في لغة الفلاسفة والمُتكلِّمين بالمُطلَق – لا إله إلا هو – في كل شيئ، علماً بأنني سأعود إلى توضيح هذا المعنى بُعيد قليل.

فهذا هو إيمان العامة إذن، أما إيمان العلماء بعامة والعلماء المُتكلِّمين في العقيدة بخاصة فهو أعلى درجة لأنهم مُتخصِّصون ومن ثم يتكلَّمون في شؤون الإيمان ويُدبِّجون ويكتبون المُجلَّدات وألوف الصحائف، وهذا هو الإيمان العالم الذي من الواضح أنه يرتقى بلا شك بدرجة أو بدرجات عن إيمان العوام، ولكن حريٌ أن نُنبِّه ابتداءاً إلى أن هؤلاء العلماء من علماء العقيدة لم يختر الواحد منهم لنفسه أن يكون مُتكلِّماً وفق هذا المنهج الذي يلتزمه، وهذا ليس في الإسلام فقط بل في كل الأديان ولكنه موجود لدينا أيضاً من خلال مَن يُسمّون لدينا بالمُتكلِّمين أو بعلماء الكلام، وعلم الكلام هو علم العقيدة بالطرق العقلية والنقلية أيضاً في نفس الوقت، أي أنه مزيج من الطرق العقلية مع النقلية لإثبات حقائق الإيمان المُختلِفة في مباحث الإلهيات والنبوات والسمعيات، لكن المُهِم هنا هو أنني أُحِب أن أُنبِّه ابتداءاً مما أشرت إليه قُبيل قليل إلى أن الواحد من هؤلاء – عالم الإسلام أو عالم العقيدة – لم يختر نفسه ليكون مُتكلِّماً وفق هذا المنهج، فهناك علماء عقيدة على المذهب الأشعري وآخرون على المنهج الماتريدي الحنفي وآخرون على المنهج الإمامي وآخرون على المنهج الزيدي وآخرون على المنهج المُعتزِلي وآخرون على المنهج الإباضي – كل هذه المناهج مناهج إسلامية ومسلمة ولكنها مناهج مُختلِفة – ولكن من الواضح أن أحداً منهم – إلا مَن رحم ربي وقليلٌ ما هم – لم يختر أن يكون مُتكلِّماً وفق هذه الطريقة التي ينتهجها، فما حدث هو أنه وجد نفسه واحداً من هؤلاء القومٍ الذين يتعبَّدون ويُخبِرون عن أنفسهم أنهم مالكية وشافعية فهم أشاعرة أو أنهم حنابلة فهم على طريقة المُحدَّثين وما يُزعَم أنه طريقة السلف أو أنهم حنفية فهم ماتريدية أو أنهم إمامية أو زيدية أو إباضية أو مُعتزِلة فيما سبق من الأيام، ولذلك ليس عجيباً أنك دائماً تجد المُتكلِّم وفق منهج مُعيَّن يسوق الأدلة والتي هى بزعمه ووفق مفروضاته ومُؤكَّداته الأدلة اللائحة المُحكَمة المُفحِمة التي تقف إلى جانبه وفي صالحه، فالأشعري يقول هذا والحنبلي يقول هذا والماتريدي والزيدي والإمامي وإلى آخره يقولون بهذا، وهذا الشيئ يجعل التساؤل بعد ذلك هو أنكم تنتمون إلى دينٍ واحد وإلى عقيدة من حيث الأصل واحدة ومع ذلك الكل يزعم أنه على حق وأنه أسعد بالحق وأدنى من الحق، فما حال الآخرين إذن؟!

ما حال الحنابلة والماتريدية وإلى آخره إذا تحدَّثنا بإسم الأشعري مثلاً؟!

فهكذا يتحرَّك السؤال لأن المذاهب أيضاً هنا لا تدور على تحقيق حقيقي ولا على بحث نزيه وموضوعي من كل وجه في الأدلة، ولكن أنا أود وأُحِب كما تودون أن نرى مُتكلِّماً كبيراً له قدم راسخة وله قدرة وتمكن في المذهب الأشعري ولكن بين الحنابلة في بلادهم، وهذا غير موجود طبعاً فكلهم هناك على الطريقة الحنبلية، وأود أن أرى مُتكلِّماً على الطريقة الإمامية الشيعية وله قدم أيضاً راسخة في الوسط الأشعري أو الحنبلي أو غير ذلك، وهذا يستحيل أن يحدث ولذلك هو غير موجود ومن هنا لن تجده لأن كل أحد في وسطه يرفع لواء الحق ويدّعي أنه على الحق المُبين وأن الأدلة تعضده وتنصره، فالمسألة إذن في جُزء كبير منها لا يُستهان بها!

ولذلك كبار المُتكلِّمين وخاصة الذين خاضوا التجربة – أي تجربة الكشف والعيان وتجربة العرفان – كأبي حامد الغزالي – مثلاً – عادوا وبدأوا يُشكِّكون في جدوى علم الكلام وبخَّسوا منه وهم الضالعون فيه والراسخو الأقدام، فقال أبو حامد “علم الكلام دواء لا إله”، أي فقط تداووا به متى أكلتهم الشكوك واجتحاتهم الريب وزلزلتهم وثقلتهم الشُبهات ولكن لا يُنصَب إلهاً فلا يُعلَّم كعقيدة ولا يجوز أن يُعلَّم كعقيدة، ولكن نحن اليوم في الأزهر والزيتونة والقرويين والديوبند ومعاهد الشام يُعلَّم لدينا علم الكلام كعقيدة ويُقال أن هذه عقيدة المسلمين، وحين يتعمَّق المرء يرى أنها لا تُفيد كثيراً وقد يجتاحه شقٌ أو تُقلقِله شُبهة في آخر حياته فيُصبِح إيمانه في مهب الريح وهذا شيئ خطير بل خطير جداً، وطبعاً تجد مُتكلِّمين في اليهودية وفي المسيحية على هذا النحو مثل توما الأكويني Thomas Aquinas وهو رجل عجيب جداً ومن أكبر مُتكلِّمي العصور الوسطى في المسيحية وله مُجلَّدات كبيرة وخطيرة، ومثل المُتكلِّم اليهودي موسى بن ميمون الذي عاش وأسلم في الأندلس ثم ارتد في مصر وادّعى أنه أُجبِرَعلى الإسلام وخرج بكتابه العظيم – علماً بأن الكتاب في مُجلَّد ضخم – دلالة الحائرين، وطبعاً هو قد تأثَّر بالفكر الإسلامي كثيراً جداً ولكنه كان يتكلَّم مُدافِعاً عن عقائد اليهودية في علم الكلام الذي هو عند المسلمين أيضاً، وهكذا يظن الكل أنه على الحق المُبين، فهل يُمكِن أن تكون قضية الإيمان قضية علم الكلام وأن يكون لها علاقة بصف الأدلة بهذه الطريقة السجالية؟!

قد يتساءل أحدكم قائلاً: إذن ما ميزة الإيمان الكلامي أو الإيمان العالم لهؤلاء العلماء المُؤمِنين العالمين؟!

ميزة إيمانهم أنهم مُقتدِرون على إفحام العوام – عوامهم وعوام المذاهب الثانية – لأن من الواضح طبعاً أن هذا المُؤمِن العالم المُتكلِّم أمام عامي يستطيع أن يُفحِمه بتبريزاته وترتيباته ومُسجالاته مُباشَرةً، ولكن لا يستطيع أن يُفحِم أقرانه ونظراءه من المُتكلِّمين دائماً فالحرب بينهم سجال، أي نصرٌ مرة وهزيمةٌ مرة، وهذا ينطبق على الكل لذلك نجد مَن يتساءلون ويقولون: لماذا لا يجلس علماء الحنابلة مع علماء الأشاعرة والماتريدية والزيدية وهم في اليمن والإباضية و الإمامية في إيران والعراق والهند معاً ليفضوا هذه الخلافات؟!

لا يفعلون هذا لأنهم يعرفون أنهم لم يعودوا بشيئ ولن يعودوا بشيئ، وتقريباً سيعودون من حيث ابتدأوا أو إلى حيث ابتدأوا، فكل أحد سيقول لك أنا على مذهبي ومذهب طائفتي وقومي وأهل بلدي لأن هذا ما يُعطيني مكانة وهذا ما يُعطيني حتى رغيف العيش بينهم وهذا شيئ صعب، ومن ثم ستظل الحرب سجال فسيفحم أحدهم الآخر في مسائل والآخر سيُفحِمه في مسائل أُخرى وعليك كمسلم أن تتأكَّد من ذلك، فلا يُمكِن أن تجد طائفة كل ما لديها منصور وحق وهذه الطائفة تستطيع أن تُفحِم طوال الوقت، هذا يستحيل ولم يحدث مرة في التاريخ، ولكن للأسف عوام الطوائف جميعاً ونحن منهم لا يستوعبون هذا، فكل طائفة تعتقد أو يعتقد عامتها وعوامها أنهم منصورون وأن لعلمائهم القدرة على إفحام الطائفة الأُخرى وهذا غير صحيح، فلم يحدث في التاريخ هذا وليس يحدث في الواقع ولن يحدث لأن المسألة أوسع من هذا.

نأتي الآن إلى النمط الثالث والأخير من تجربة الإيمان الذي قلنا أنه يُترجِم عن تجربة ذات خصوصية وهو ما أُسمّيه بالنُسخة الخاصة، أين نُسختك من الإيمان؟!

فالإيمان تجربة ذاتية تتموضع أو تقبع طبعاً داخل الإطار العام الذي أفرزه القرآن العظيم – علماً بأنني سأُوضِّح هذا بعد قليل – ولكن هذا الإيمان يكون مُتميِّزاً بحسب فردية المُجرِّب، وبالتالي إذا جرَّب كلٌ منا سيكون له تجربة خاصة وذوقٌ خاص وبعد ذلك رومانسية خاصة ولغة خاصة شديدة الخصوصية وشديدة التفرّد، فهذا هو السائر على الصراط الذي تُطالِعه معانٍ ونفحات ومنح وهبات وطوالع جديدة كل ساعة وكل يوم، ولذلك ترى إيمانه يربو ويزداد حيث أن إيمانه اليوم ليس كإيمانه قبل سنة فضلاً عن يكون كإيمانه قبل أكثر من سنة لأن إيمانه دائماً في ازدياد ومن هنا قال العارفون “كان استغفار النبي المُحمِّد – صلوات ربي وتسليماته عليه – الكثير – ورد عن النبي أنه كان يستغفر ربه في اليوم سبعين مرة، وفي حديثٍ آخر صحيح مائة مرة – لأنه في ترقٍ مُستمِر، فهو السائر على الصراط والذي قال له الله فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ۩، فالنبي إذن كان يسير ويأخذ في الثناء لأنه لم يفهم الإيمان يوماً على أنه يقين كاليقين العلمي والفلسفي والفكري، ومع ذلك بعض الناس يظنون أن الإيمان هكذا حيث صوَّر بعض علماء الكلام الإيمان على أنه يقين فكري كاليقين الفلسفي والعلمي وهذا غير صحيح، علماً بأنني سأُوضِّح لكم هذا بأسلوب مُيسَّر جداً!

الآن لو عُرِّفَ أي واحد منا عنده مباديء في العلم والاستدلال العلمي بحقيقة كروية أو كُرية الأرض – أي أن الأرض كُرة – أو حركة الأرض فسوف يُذعِن لهذا إذا قام بالدليل وينتهي الأمر، لأن هذا يقين علمي كيقيننا أيضاً بوجود النجم الفلاني على مبعد كذا وكذا مليون سنة ضوئية – مثلاً – من مجرتنا، ولكن إيماننا بالله لا يكون على نحو هذا اليقين أبداً، فهذا غير صحيح لأن الإيمان لا يُعادِل اليقين وحده بل أن اليقين وحده قد يكون عند الكافر، قال تعالى وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ۩، إذن جحدوا بهذا رغم أن عندهم يقين ولذلك هم كفّار، وبالتالي الإيمان هو شيئ مع أو زائد اليقين، وهو إذعان واستسلام فضلاً عن أنه خشوع وخضوع ومحبة وعشق وتوكل واعتماد ومعية خاصة، وهو في البداية قبل أولئكم كله إرادة، يعني فعل وليس انفعالاً، لكن أنا حين أُثبِت لك – وأنت صاحب القاعدة العلمية في التفكير – أن الأرض كُرية لن يبقى أمامك خيار أن تقتنع أنها كُرية أو غير كُرية، هذا يستحيل بل أنت ستنفعل بالنتيجة وستقول أن هذا شيئ صحيح مثل واحد زائد واحد يُساوي اثنين، فلا يُمكِن أن تقول لي أنني أُريد أن اُفكِّر وأختار لأن عندي – والله – خيار آخر، هذا لا يُمكِن أن يحدث بل أنت تنفعل مُباشَرةً مثل انفعال الضحك والحزن والبكاء والفرح، فأنت حين تُطلَق نُكتة أمامك – مثلاً – تُضحِك ولا تجد بُداً – علماً بأنك أحياناً تكون في مجلس مُحترَم ومع أُناس مُحترَمين – إلا أن تضحك وتُقهقه وتشعر بالحرج بهذا الانفعال، فالانفعال لا يحكي إرادة وبالتالي مُستحيل أن يسمع أحدهم نُكتة ويقول “انتظروا قليلاً حتى أسمعها ثم أُقرِّر فيما بعد هل سأضحك أم لا”، الانفعال لا يكون هكذا لأن الانفعال لا علاقة له بالإرادة، وكذلك قد يحدث لأحدهم – مثلاً – حادث جلل كأن تأتيه مُكالَمة – لا قدَّر الله – تُفيد بأن أباه قد مات وبالتالي سيُصدَم مُباشَرةً ويشعر بالانقباض وبالحزن وبالمكروثية، ولن يقول البعيد “لقد مات أبي ومن ثم سأُفكِّر قليلاً لأرى بماذا سأرد على هذا الخبر ثم سأُقرِّر أن أنفعل بالحزن”، هذا مُستحيل!
طبعاً المُهندِس النمساوي والفيلسوف الكبير ذو العقلية الخطيرة لودفيغ فتغنشتاين Ludwig Wittgenstein لاحظ في يوم من الأيام أن اللغات تقريباً – كل اللغات بما فيها العربية والألمانية طبعاً – لا تُميِّز حقيقةً بلحاظ الواقع – واقع الشيئ – ومدلول الأشياء بين الفعل والانفعال، وفعلاً اللغات لا تُميِّز بين الفعل والانفعال فيقولون – مثلاً – “ضحكت”، وضحك طبعاً فعل لازم ولا مُشكِلة في هذا لأنه لا يتعدى ولكنه فعل، لكن في الحقيقة الضحك انفعال وليس فعلاً، تماماً كما نقول “مات فلان”، مات فعل ولكن لا يُمكِن أن نقول أن الفاعل هو فلان فهذا غير صحيح لأن الفاعل هو الله – تبارك وتعالى – لأن الله هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ ۩، واللغة العراقية اليوم – أي اللهجة العراقية في العراق – يتجول أصحابها فوق نفس الخطأ مع احترامنا للعراق ولعظمة الحضارة العراقية فيقولون “يتعرَّق”، وهذا غير صحيح لأن يتعرَّق على وزن يتفعَّل، لكن هو لم يُقرِّر أن يعرق، فلا يُوجَد يتعرَّق وإنما أعرق، فكلمة أعرق في العربية تكون تعبيراً عن الانفعال، فالجو يكون حراً مثل هذا وبالتالي مُباشَرةً ينفعل الجسم بإفراز العرق من غير ما يأخذ إذنك، فإذن عَرِقَ مثل ضَحِكَ وحَزِنَ وفَرِحَ وفَهِمَ في إطار ما يُوجِب اليقين العلمي والفلسفي، وحتى “الفهم” هو انفعال وليس فعلاً،وهذا هو المثال الذي ضربه لودفيغ فتغنشتاين Ludwig Wittgenstein فقال “الفهم انفعال وليس فعلاً”،فواحد زائد واحد تُساوي اثنين طبعاً، وبالتالي هذا انفعال رغماً عنك، وكذلك بُرهان أن الأرض كُرية هو أيضاً انفعال، لكن هل الإيمان على هذا النحو؟!

كلا، الإيمان فعلٌ وليس انفعال، ولكن هذا الفعل حين يبدأ يتجلى ويُترجِم عن نفسه يُوجِب بعد ذلك انفعالات كالبكاء وكالخشوع وكالسجود، فتجد الواحد منا يسجد مُباشَرةً شكراً لله، فهذه هى الانفعالات وهذا هو الإيمان الصحيح، ولكن الإيمان من حيث أصله ومنشأه هو إرادة وقرار ولكن لا بمعنى قرار موضعي، فالشخص المعني أراد خوض العملية ولكن ليس بقرار كقرار إقامة صفقة ما وينتهي الأمر كأن أقول لك خُذ مني كذا وأعطني الإيمان وينتهى كل شيئ، كلا فالإيمان ليس صفقة على هذا النحو، الإيمان صفقة من نوع آخر، فهو صفقة مُمتَدة – كما قلنا – بامتداد العُمر، ومن هنا الإيمان فعلٌ وليس انفعالاً، ولذلك في القرآن الكريم يُوجَد هذا الشيئ الصادق الذي نرجوه لنا جميعاً، فإيمان القرآن ليس كإيمان علماء الكلام أبداً، إيمان علماء الكلام هو يقين على نحو اليقين الرياضي والعلمي فقط لكن إيمان القرآن يُعَد شيئاً مُختلِفاً، فحتى اليقين يُجامِع الكفر كما رأينا في سورة النمل وذلك حين قال الله وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ۩، وهذا أيضاً كان جلياً في كفر إبليس لأن إبليس كان عنده يقين ولكن كفر استكباراً وعلواً فقال الله أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ ۩، إذن الإيمان كعملية وتجربة يُوجِد آثاره وانفعالاته – كما قلت قُبيل قليل – من الخضوع والخشوع والمحبة.

لذلك علينا أن ننتبه إلى أن هذا يُعَدّ تفسيراً ربما جديداً – وبلا شك هو تفسير جديد وربما عميق أيضاً – للآيات التي تُشرِّط قضية الإيمان والتدين والغيب والسعي إلى الآخرة وغيرها بالإرادة مثل قول الله لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ ۩، فهل أنت تُريد؟!

عليك أن تنتبه إلى أن الإيمان هو فعل وليس انفعالاً، فلابد أن تُعلِن هل تُريد أو لا تُريد؟!

بعض الناس يقول لك “لا أُريد”، تماماً كالذي يُؤمِن – مثلاً – بواقع مُعيَّن مثل واقع النظام القضائي في بلد مُعيَّن فيقول “هذا موجود الآن وبكرة” في حين أنني لا أرى هذا لأنني أكرهه وبالتالي أشجبه ولا أُحِبه، ومن هنا أيضاً حديث القرآن عن الهوى في مُقابِل الهُدى، علماً بأن هذه المسائل عميقة عجيبة والقرآن لفت إليها ولكن تحتاج إلى مَن يلتفت إليها، فالهوى يعني أن الشخص المعني عنده يقين بالحق ويعرف أن هذا هو الحق ولكن لا يُريده لأنه لا يُجامِع مصلحته فلا يُحِبه.

استمعت إلى ستيفن واينبرج Steven Weinberg الحائز على نوبل Nobel في الفيزياء مع أحمد عبد السلام – رحمة الله على أحمد عبد السلام – وهو يتحدَّث فعلاً بهوى قائلاً “أنا لا أُحِب هذا الإله”، ولكن هناك جُزء من الحق في إلحاده لأنه لا يُحِب إله التوراة والإنجيل حيث قال “لا أُحِبه فهو إله مُنتقِم جبَّار عنيف”، وللأسف جمع معه إله القرآن لأنه يظن أن إله القرآن مثل إله التوراة في العهد القديم وهذا غير صحيح، فربنا رحيم وأرحم الراحمين لكنه تحدَّث عنه مرة قائلاً” أنا لا أُحِبه ولا أُريد أن أُومِن به” على الرغم من أن الرجل واعٍ وحاصل على نوبل Nobel في الفيزياء النظرية، فهو شخص خطير وذكي جداً جداً جداً ومن أكبر علماء الفيزياء في العالم الأحياء على الإطلاق ويعرف ماذا يُريد ولكنه يقول “القضية ليست قضية أن تُقنِعني بطريقة كلامية وفلسفية، أنا هذا الإله لا أُحِبه ولا أعبده”،أي أنه يتحدَّث عن الهوى، في شيئ إسمه الهوى هنا، فكل هذه أهواء تماماً كما اُقِر بواقع النظام القضائي أو بواقع الحكومة الفلانية وأعرف أنها موجودة وأُؤمِن أنها موجودة ولكني لا أُريدها وألعنها صباح مساء، وبعض الناس هكذا لا يُريد إلا أن يتعامم ويتصامم عن ما يُمكِن أن يعود به إلى جادة سواء الصراط المُستقيم.

نأتي الآن إلى الإيمان الثالث، فهذا الإيمان هو إيمان التجربة، وهذه التجربة أيضاً مُمتَدة ومُستمِرة ومُتنامية ومُتناسِخة، فقد تكتشف بعد قليل مثل بعد سنة أو سنتين أن الله الذي آمنت به بالأمس ليس هو الله الذي تُؤمِن به اليوم، فتجد نفسك كنت تُؤمِن بإله أو بصنم حتى أو بوثن، ولكن أنت تُريد الحق ومن هنا هذه الإرادة وحدها تكفل لك رحمة الله، أجمل وأبدع مَن رأيته عبَّر عن هذا المعنى اللطيف هو مولانا الرومي – قدَّس الله سره – في المثنوي، وهذا شيئ عجيب جداً حيث يقول – رحمة الله تعالى عليه – حاكياً عن موسى في قصة رمزية طبعاً أنه قعد يستمع إلى الراعي الذي يدّعي الإيمان والاتصال بالله – تبارك وتعالى – وهو يحكي عن لواعجه الإيمانية وعن همومه العرفانية فيقول: يا رب أين أنت حتى أُخدِمك الخدمة التي تليق بك؟!

ثم يستتلي قائلاً: أُريد أن أخيط رداءك وأمشط لك شعر رأسك وأخليه من القمل والحشرات، أين أنت يا مَن أفديه بكل أغنامي ويا مَن هو ذكر لساني؟!
أين أنت حتى أُقبِّل يديك وأغسل عن قدميك؟!
وهكذا بدأ يُمعِن في هذه التشبيهات والتجسيمات الكفرية، فانتفض موسى المعروف بالغضب والأسف السريع – عليه السلام – وقال له: اسكت فهو ليس كما قلت، لقد أصبحت مُخرِّفاً، وقبل أن تصير مُوحِّداً صرت كافراً، إن مَن يحتاج إلى اللبن والغذاء هو الذي ينمو ويتنشأ، وإن مَن يحتاج إلى خُفِ وإلى مخيطٍ يلبسه هو الذي له بدن وقدمان، فكيف تنزع وتُسقِط هذه الصفات البشرية الآدمية على رب العالمين وملك الملوك سبحانه وتعالى؟!

ثم استتلى قائلاً “لقد جئت شيئاً إداً، خيرٌ لك أن تسكت،اغرب عن وجهي واترك هذا التجديف والتخريف والتهريف”، فقال الراعي مُستجيباً “لقد أغلقت فمي يا نبي الله وأحرقت قلبي”، ثم أخذ ضارباً هائماً على وجهه في الصحراء يبكي وينوح على نفسه لأنه وجد نفسه كافراً وهو يظن أنه أبدع في الوصال والقرب من رب العالمين – لا إله إلا هو – ومحبة الله وعشقه، وهنا يتنزَّل جبريل – عليه السلام – على موسى الكريم – سلام الله عليه وعلى أنبيائه أجمعين ورسله – ليقول له: يا عبدي ما هذا الذي فعلت؟!

ثم يقول “لقد أفسدت ما بيني وبين عبدي، أنا لم أُرسِلك لتُباعِد عبادي عني بل لتُقرِّبهم مني، إن عليك أن تُصلِح سوء ما أفسدت وأنت تعلم أن أبغض الأمور لدي الطلاق”، أي أنك فصلت العلاقة بيني وبين عبدي، وطلَّقت بيننا، ثم يقول “يا موسى إني لم آمر بما فيه نفعي إنما آمر بما فيه نفع عبادي، فلتعلم أن لكل امرئٍ حالاته وخصوصياته ولكل إنسانٍ كلماته واصطلاحاته، إني لا أحفلُ بالقوالب والأشكال إنما أحفلُ بالنوايا”، فاستيقظ موسى من هذا العتب الشديد وعاد ليعتذر للراعي.

فإذن هذه القصة عجيبة جداً وهى تقول لنا أن كل مَن يُجرِّب الإيمان كتجربةً سيقع لا محالة حين يذهب يصوغ التجربة بلغة البشرية في أغلاط وأخطاء كُبرى، فهو سيُريد أن يصوغ ما لا يُصاغ باللغة في قالب اللغة وهو لا يُصاغ في قالب اللغة، وهذا القول يعني أن هناك ألوان من الخبرات الدينية والتجارب الإيمانية تقبع وراء وبعد حدود اللغة وقوالب الفكر، ولذلك إذا اتسع المعنى ضاقت العبر، فمثل هذه الألوان من التجارب الإيمانية والروحانية تجد خير تعبيراً عنها في الصمت، ومن هنا معنى “مَن عرف الله كَلَّ لسانه”، لأن اللغة ستُبخِّس وتختزل وتُسيء إلى التجربة نفسها، فالتجربة الآن واقعة في عالم ونحن نُريد أن ننقلها إلى عالم آخر باللغة وبالتالي يحدث خطأ كبير جداً جداً جداً وتشويه مُباشِر، علماً بأنني سأخطب خُطبة – إن شاء الله – لتوضيح هذا المعنى الدقيق، فاللغة – كما قد تعلمون وتعلمن – يسَّرها الله وهيَّأها الله – تبارك وتعالى – لتصف وتتحدَّث عن المُحدَّد فقط أما غير المُحدَّد فلا يُمكِن للغة أن تتناوله، والمُحدَّد هو المحدود ولا يُمكِن لغير المحدود أن يُحدَّد، ولذلك مَن زعم أنه يستطيع أن يُعطينا تعريفاً لله فهو جاهل لأنه سيستطيع أن يتحدَّث عن ألوان من الخبرات المُتعلِّقة بالله ولكنه لن يستطيع أن يُعرِّف الله، ولذلك الله يقول وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ۩، ومن هنا نحن نقول “لا نُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك”، فأسماؤه هى التي تصفه ولذلك قال “أو استأثرت به علم الغيب عندك”، لأن الله – تبارك وتعالى – وراء اللغة ووراء الفكر ووراء قوالب الفكر وكل القوالب وبالتالي لا يُمكِن لأحد أن يُعرِّف بالله وسأُوضِّح هذا.

إذن فالمُحدَّد محدود، وررحمة الله على سيبويه الذي يُقال أنه رؤيَ في المنام بعد وفاته فقيل له: ما فُعِلَ بك؟!

فقال “الحمد لله غفر لي وأدخلني الجنة”، فقيل: بماذا يا سيبويه؟!

قال “بقولي في الكتاب الله أعرف المعارف ولا يُعرَّف”، فلا يُمكن للغة أن تُعرِّفه أصلاً، وسأُثبِت لكم هذا بأمثلة جميلة جداً جداً جداً، فلو جاء أحد وسألك عن شخص ما وأنت قلت له أن هذا ابني سيكون هذا أمراً مقبولاً جداً ومفهوماً، وكذلك لو سألك عن شخص آخر وقلت له أن هذا ابني سيكون أيضاً أمراً مقبولاً جداً ومُمكِناً، أما لو تكرَّر الأمر مع أكثر من شخص فقلت هذا ابني وذا ابني وذا ابني وذاك ابني علماً بأن أحدهم قد يكون كبيراً وبينك وبينه ربما خمس سنوات – مثلاً – فقط فنحن سنُدرِك حينها أنك تُطلِق كلمة ابني على مليون أو على مليار من الناس وبالتالي سنُوقِن هنا أن هذه الكلمة في قاموسك ليس لها معنى، فلكي يكون لها معنى لابد أن تكون مُحدَّدة وتصف مُحدَّداً محدوداً، حيث أن الفصل بين الأشياء يكون بالحدود، فإن اتسعت وزعمت أنها تسع كل شيئ بلا حدود لم تعد لغةً بل أصبحت تخريفاً وكلاماً فارغاً.

لو افترضنا – مثلاً – أننا سألنا ستين واحداً في تخصَّص علمي أو فكري مُعيَّن وليكن الفلسفة عن تعريف الفلسفة فأُجِابنا المسؤول وقال “الفلسفة ضرب من ضروب الفكر بمناهج مُختلِفة أكثر بكثير من اختلاف مناهجها، وهى تُعنى بمباحث الوجود الأنطولوجي Ontology وبمباحث المعرفة الإبستمولوجي Epistemology وبمباحث القيم والأخلاق الأكسيولوجي Axiologie” هذا سيكون أمراً مقبولاً، لكن لو أضاف قائلاً ” والفلسفة تُعنى أيضاً ببدن الإنسان تشريحاً ونُسجاً وتكويناً ووظائف أعضاء وأمراضاً وعلاجاً” أي أنه تحدَّث عن كل تخصّصات الطب فإننا سوف نبدأ نشك ونقول: ما هذه الفلسفة الغريبة؟!

ثم جعل المسؤول أيضاً يُدخِل في مدلول الفلسفة كل ما يتعلَّق بعلم النفس وأقسامه وعلوم الاجتماع بأقسامها والاقتصاد والسياسة والجيوسياسة والتاريخ والنبات والهيدرولوجيا – Hydrology – وعلم الأجواء والأنواء وعلم الفلك والكونيات، إذن نحن سنعرف أنه يتحدَّث عن شيئ لا وجود له ولا معنى له، فالفلسفة هنا ستُصبِح لا معنى لها وستُصبِح كلمة فارغة!
فإذا أردنا أن نقول كلمة ابني عند الشخص المسؤول الفاضل لها معنى فلا بد أن يكون لهذا المعنى حدود، فلا يُمكِن أن تكون كلمة ابن تُساوي كل ما أُسأل عن نسبته لي أو نسبتي إليه ومن ثم يُصبِح ابناً لي بمُجرَّد سؤالي عنه، هذا الشيئ غير معقول ومن ثم لا يُمكِن أن تُدخِل كل شخص نسألك عنه في مدولول ابني فتقول “هذا ابني وهذا ابني”، لكن الصحيح هو أن كلمة ابني لها مدلول مُحدَّد، فابني تعني هذا الذي أنجبته من صُلبي ومن رحِم أهلي برضائها، هذا هو ابني فقط ويُمكِن أن نتجوَّز إلى مُتبنى أو إلى مُستلحَق، أهلاً وسهلاً لأن هذا شيئ آخر ويُعَد مجازاً في اللغة.

هذه هى اللغة إذن، والآن بعد هذه التقدمة نسألكم: كيف للغة وأنى للغة أن تُحدِّثنا عن الله – تبارك وتعالى – وهو غير محدود وبالتالي غير مُحدَّد؟!

من هنا كل حديث عن هذه التجربة في الاقتراب من الله – تبارك وتعالى – وكل حديث عن تجربة الإيمان والعرفان الحقيقي مع الله – تبارك وتعالى – ستخذل مَن يتحدَّث عنها، فأنت كمُتحدِّث لن تستطيع أن تستجيب لها ولن تستطيع أن تُترجِمها، ومن هنا يقول الشاعر:

وإنّ ثَوْباً خِيْطَ مِنْ نَسْجِ تِسْعَة                     وعشرينَ حَرْفاً عن معانيه قاصر.

ولكن لابد من الحديث، فيتحدَّث الله عن نفسه ويتحدَّث بالكُليات فيُخبِرنا أنه على كل شيئٍ قدير وأنه رقيبٌ على كل نفس ولا يُعجِزه شيئ وأنه رب السماوات والأراضين وهو الذي يُدبِّر الأمر وله الأمر كله، أي أنه يتحدَّث بطريقة الكُليات، وهى طريقة لا تُؤمِن بالحدود ولا بالمحدود، فيُوشِك أن يكون لها معنى ويُوشِك ألا يكون لها معنى، ولذا الاختبار يتم بالتجربة الذاتية، فلابد أن تخوض الإيمان كتجربة ذاتية حقيقية ويا ليتنا خوضناه، فحين إذن سيظهر لنا الإيمان بثوبٍ جديدٍ جداً لم نُجرِّبه ولم نعرفه تماماً كتلك الحالة الانكشافية للصاحب الجليل والشاب الشهيد حارثة الذي يُقال أنه كان في العشرين من عمره، حيث سأله النبي محمد – صلوات ربي وتسليماته عليه – قائلاً: كيف أصبحت يا حارثة؟!

فقال “أصبحتُ مُؤمِناً حقاً يا رسول الله”، أي أنني أظن أنني بلغت حقيقة الإيمان، فقال: انظر – أي تنبَّه يا حارثة – إلى ما تقول فإن لكل قولٍ حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟!

أي أنه لم يقل له “أنت كلام صحيح وعشرة على عشرة لأن الإيمان في القرآن وأنا عدَّدت الإيمان وأركانه”، لم يقل الرسول هذا أبداً لأن الرسول طبعاً يعلم وهو صاحب الإيمان أن حارثة يتحدَّث عن إيمان تجربةً، لا بُرهان كلام ولا تقليداً ومُحاكاةً للأعراب الذين قالوا آمنا فقال الله قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا ۩، فهو لم يقل له هذا لأنه يعلم أنه يتحدَّث عن إيمان تجربة ومن هنا قال له: فما حقيقة إيمانك؟!

فقال “يا رسول الله عزفت نفسي عن الدنيا فأظمأت نهاري – أي صومت وقضيت أمسي صائماً – وأسهرت ليلي – قائماً مُناجياً مُتذلِلاً – فأصبحتُ – هذا الفلاح عند الصباح، فكما يُقال وعِنْدَ الْصَبَاح يَحْمَدُ الْقُوْمُ الْسُّرَى – وكأني أرى عرش ربي بارزاً وكأن أهل الجنة عن يميني يتزاورون فيها وكأن أهل النار عن شمالي يتضاغون فيها”، فقال النبي مُؤمِّناً ومُصدِّقاً “عبدٌ نوَّر الله قلبه، عرفت فالزم، عرفت فالزم، عرفت فالزم”، إذن هذا هو العرفان مع الله وهذا هو الإيمان الذي يأمر به الله ورسوله، هذا هو الإيمان الذي نُدِبنا إليه لا إيمان القرار الوقتي ولا إيمان الحجال والسجال ولا إيمان التقليد والمُحاكاة والإيمان بالإيمان أو إيمان بما يُؤمِن به الناس، ليس هذا أبداً ولذا قال له “عرفت فالزم”، فقال “ادع الله لي يا رسول الله أن أموت شهيداً”،فدعا له بالشهادة فاستُشهِد في أُحد، علماً بأن الحديث الأول في الطبراني وهو مُرسَل ، ولكنه رُويَ أيضاً موصولاً كما قال الحافظ ابن رجب، لكن تتمة هذا الحديث في صحيح البخاري تقول: جاءت أم حارثة – هكذا في الصحيح – حين فقدت ابنها وكان وحيدها وقالت يَا نَبِيَّ اللهِ أَلَا تحَدّثنِي عَنْ حَارِثَةَ؟

وفي الحقيقة هو لم يفعل وإنما فُعِل به أيضاً، أي أننا سنرجع إلى قضية الفعل والانفعال، ولكن على كل حال قَالت: يَا نَبِيَّ اللهِ أَلَا تحَدّثنِي عَنْ حَارِثَةَ – وَكَانَ قتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ أَصَابَه سَهْم غَرب – فَإِن كَانَ فِي الجَنَّةِ أصبر وأحتسب – أي قرت عيني وطابت نفسي لأن هذا عزاء عظيم جداً والحمد لله – وإِنْ تَكنِ الأخْرَى تَرَى مَا أَصْنَع؟

أي كأنها تُريد أن تُفني نفسها أو أن تصنع أشياء بدع – كما تقول العامة – من أجل ابنها، فقَالَ “يَا أمَّ حَارِثةَ إِنَّهَا جِنَان فِي الجَنَّةِ، وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الفِرْدَوْسَ الأَعْلى”، وفي رواية أُخرى قَالَ” وَيْحَكِ أَوَ هَبِلْتِ؟ أَوَ جَنَّة وَاحِدَة هِيَ؟ إِنَّها جِنَان كَثيرَة وَإِنَّه فِي جَنَّةِ الفِردوْس”، فنسأل الله – تبارك وتعالى – بأسمائه الحُسنى وصفاته العُلا وكلماته التامة أن يرزقنا الفردوس الأعلى.

اللهم إنا نسألك بجلالك وبنورك الذي ملأ أركان عرشك وبقدسك أن تهبنا مقام العارفين بك حتى نُخبِر عنك ونُصيب في الخبر يا رب العالمين وأن تجعل مقامنا في أعلى جنان الخلد مع الذين أنعمت عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً ۩.

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

فيينا (23/7/2010)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

تعليق 1

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: