إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، و أَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المباركين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العظيم، بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ :
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ۩ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ۩ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ۩ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ ۩ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ۩ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ۩ قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ۩ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ ۩ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ۩ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ۩ قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
دأب السادة العارفون في مُختلِف الأزمان على تكريه لفظة “أنا” وتعويد الناس وتعليمهم الاستعاذة بالله منها ومن شرها، فنقول ” نعوذ بالله من كلمة أنا”، أي من شر هذه الكلمة، وذلكم لأن أول مَن نطق بها وشقى بها شقاوة الأبد هو إبليس اللعين حين قال “أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ ۩ “، فبإزاء أمر الله – سبحانه وتعالى – تسلَّح هذا اللعين بهذه الكلمة “أَنَاْ ۩”، إزاء أمر الله المُباشِر وقفت أنا لتتصدَّى لرد هذا الأمر وتبرير عصاينه “أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ ۩”، ولكن ما يأتي بعد أنا الآن ليس مُهِماً، كيف يكون التبرير ليس مُهِماً؟!
لأن المُهِم أنك قابلت الأمر الإلهي بأنا، إذن انتهى كل شيئ وبدأت اللعنة، بدأت السُخطة – أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ۩ -، من سيء إلى أسوأ، فهذا الرجل – إبليس يُسمَّى رجلاً، ويُسمَّى الجن أيضاً كقوله وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ ۩ – أو هذا الخلق كان أول عنصري بهذا التبرير الساقط المُتهافِت، فهذا التبرير عنصري، لأنه قال أنا عنصري النار، والنار أشرف من الطين، وهذا كلامٌ فارغ، ومن هنا يأتي تحذير السادة العارفين، علماً بأننا حين نتحدَّث عن العارفين بالله فإننا نتحدَّث عن أرقى ما يُمكِن أن يبلغه بشر وهو أن يكون عارفاً بالله – تبارك وتعالى -، ومعرفته بالله – سبحانه وتعالى – لن تحدث ما لم يكن أستاذاً في معرفة النفس، في معرفة باطنه، ومن قديم قال أفلاطون Plato الفيلسوف المثالي الشهير “لا يحيا إنساناً مَن لا يعرف باطنه”، فهذا ليس إنساناً، هذا لوح خشب وربما – أكرمكم الله – حيواناً من الحيوانات، ولكنه ليس إنساناً، فالإنسان هو الذي يعرف باطنه، يعرف نفسه، ومن هنا في مشهور العارفين والسائرين والسالكين “مَن عرَف نفسه فقد عرَف ربه”، علماً بان هذا ليس بحديث، ولكنه معنىً صحيح تماماً، بل من أعمق المعاني، وكريسون Cresson يقول “ومَن عرف باطنه عرَف بواطن الأشياء”، فأعمق معرفة هى أن تعرف ذاتك تماماً، ولكن سيقول قائلٌ منكم ومنكن “إذن تورَّطنا مرةً أخرى في الذات، في الأنا” وهذا غير صحيح، فالذات الباطنية – الأنا الباطنية – بعيدة عن هذه الأناوات التي نعيشها وهى أناوات زائفة ومُزيَّفة ومُزيِّفة، أقنعة نتقنَّع بها، حُجُب نحتجب بها ومن ورائها، زيف حقيقي، ثم تدهمنا ساعةُ الموت لنكتشف في تلكم الساعة – لا قدر الله – أننا لم نعش أصلاً، كنا خيالاتٍ وأوهاماً، فعلاً لم نعش، وكيف يُعَدّ عائشاً وكيف يُعَدّ حياً فضلاً عن أن يُعَدّ إنساناً حقيقياً مَن عاش ومات ولم يعرف نفسه، لم يعرف باطنه، أي عاش مُغترِباً؟!
وهذا هو مُصطلَح الاغتراب الفلسفي الشهير، أي عاش محجوباً، غير مُتأنِّس بنفسه، محجوباً عن نفسه، غير مُتأنِّس بها، غير قريب منها، لا يعرفها، جاهلاً بها، فكيف يُعَدّ هذا أنه عاش وأنه حييا وأنه إنسان؟!
لأ، ليس كذلك، نحن نتحدَّث عن الأنا الحقيقية، هبة الله – تبارك وتعالى -، الهبة الإلهية التي خلقها وأبدعها – فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ۩ -، فلب لباب الخير موجود فيها بإذن الله تبارك وتعالى -، ولذلك المُعلِّمون الكبار حول العالم في القديم والحديث، في عصرنا هذا ، في أيامنا هذه يُؤكِّدون على حقيقة أنك إذا أردت أن تصير إنساناً صالحاً، أن تصير إنساناً حقيقياً ليس زائفاً، ليس مُقنَّعاً، ليس واهماً ومُتوهِّماً ووهمياً وفراغياً فلا تُجاهِد كثيراً ولا تُحمِّل نفسك أكثر من اللازم لكي تُصبِح كذلك، وإنما ببساطة استرسل مع ذاتك الباطنية، استرسل مع جوانياتك، اترك الخير الذي أبدعه الله تبارك وتعالى – وبذره في أرض الذات – في أرض النفس – لينمو، ليزدهر شيئاً فشيئاً, وهو سيفعل وببساطة، فهذه العفوية، هذه التلقائية هى سر التدين الصحيح وسر العبقرية والإبداع، فما من عبقري إلا وهو يسلك على هذا النحو بعفوية وتلقائية، ولذلك تعدّ المُجتمَعات والثقافات المُختلِفة هؤلاء العفويين العباقرة المُبدِعين حقيقةً الذين يُثرون ويُخصِّبون ويُبارِكون ويُثمِّرون مسيرة البشرية والإنسانية شواذاً خارجين عن المسطرة، خارجين عن المعايير، عن المألوف.
قبل أيام معدودات كنت في حديث مع أحد الشخوص يشكو لي من الذوق الذي يُنكِره من أبناء هذا الجيل، فيقول “أذواقهم عجيبة غريبة فلا يعرفون الجمال، مقاييسهم حتى في معرفة الجمال منكورة – في نظره – وساقطة”، وفي البداية وافقته، وفي الحقيقة هذا هو الذي بعثني على هذه الخُطبة لأنها كانت مُراجَعة لنفسي أيضاً، ووجدتني مُتورِّطاً ككل الناس في مثل هذه الأشياء، علماً بأن الناس يظنون أن الواعظ وأن المُتكلِّم سواء وعظ بالفلسفة أو بالحكمة أو بالدين دائماً أرقى منهم وأنه يعرف ما لا يعرفون، وهذا ليس بالضرورة – بالمُطلَق ليس بالضرورة – أن يكون، فقد يكون أكثركم تورطاً وأكثركم جهلاً بما يدعوا إلى مُقارَبته ومعرفته، فيجب أن نفهم هذا حقيقةً حتى لا يزداد تورطنا، فبدل أن نتنور نتورَّط جميعاً للأسف الشديد، وهذا ما يحصل في ثقافات مُتعدِّدة أو في كل الثقافات، فقلت له “ولكن لعل هؤلاء هم الأقرب إلى الحقيقة منا فلعلنا نحن المُزيَّفون” قال: كيف؟!
علماً بأنه كان يُحدِّثني عن قريب له وله ابنة عم على قدرٍ مُحترَم من الجمال والتربية طبعاً والتدين إلا أنه لم يرغب في الزواج بها – في الاقتران بها – ورغب أن يتزوج فتاةً أخرى لا تُدانيها جمالاً، ومن هنا قال لي “ذوقٌ عجيب جداً، فهن لا يعرفون ما هو الجمال”، فقلت له “لا، لعله هو المُحِق ونحن المُبطِلون، نحن الزائفون”، قال: كيف؟!
لماذا تقول هذا؟!
قلت: على كل حال هذا الشخص يبدو أنه اختار بمحض حريتهِ ما استراح إليه، فهو استراح إلى هذا النمط، إلى هذا الضرب، إلى هذه الشخصية، استراح إليها رغم أنها في نظر أمه وأبيه وخالته وعمته وإخوانه الكبار ليست جميلة، فهم يرون أنه أخذ امرأة قبيحة، فتاة قبيحة، أي اقترن بفتاة قبيحة، ولكن هو سعيد معها، وهذا المطلوب أن يكون سعيداً، أن يكون مُتوافِقاً، فهو الذي سيتزوج، لا أبوه ولا أمه ولا أنا ولا أنت، فلماذا لا يختار؟!
ولكن في الأجيال السابقة – ونحن من أعقابها – لم تكن الأمور على هذا النحو، فكان يُختار لنا، تُفرَض لنا علينا أنماط مُعيَّنة، معايير مُعيَّنة، ونحن نتماهى معها وبها ونندمج فيها، نُخادِع أنفسنا، نُزيِّف حتى عواطفنا، رغباتنا، ولذلك حياتنا تكون دائماً قلقة ومُهتَّزة وتبرز فيها ظواهر كثيرة بالنسبة لمُعظمنا غير قابلة للفهم والتفسير، وسأحكي عن ظاهرة تتكرَّر باستمرار ووقائعها غير محصورة وهى كالآتي:
شخص يدّعي أنه يُقدِّر ويُثمِّن زوجته جداً وأنها امرأة لا ضريع ولا قريع لها، لا مثال لها في البشرية، وهو يُكثِر من تعداد محاسنها في كل مجلس – علماً بأنني أتحدَّث عن واقعة حقيقية ،وهو مُحترَم وذو حيثية في المُجتمَع -، ودائماً ما يقول “زوجتي زوجتي، أم فلان أم فلان، أم فلان أم فلان”، وفجأة بعد أن نثرت له – كما يُقال – بطنها، أي أتته بأولاد وبنات وكبروا وتعلَّموا وربَّتهم تربيةً حسنة وكانت نعم السيدة قرَّر أن يتخلَّى عنها، وبالأمس القريب جداً هو كان يتحدَّث عن محاسنها ويُثني عليها وعلى أنها من بركات الله عليه وأنها أثمن شيئ في حياته، ولكن فجأة قرَّرأن يُنهي كل شيئ، وصُدِمَت المرأة وصُدِمَ كل مَن كان في الدائرة، أي كل مَن كان يعرف طبيعة هذه العلاقة المُوقَّرة المُحترَمة الإجلالية، فما الذي يحصل؟!
في الحقيقة هذا الرجل – وليس من قصدنا لا أن نغض ولا أن ننقد، نُحِب أن نصف فقط وأن نُحلِّل، أن نفهم ما الذي يحصل، وهذا يحصل معنا في علاقاتنا بأزواجنا، بأصدقائنا، بأساتيذنا، بأشياء كثيرة – الفاضل كان بعيداً عن ذاته، مثلنا جميعاً ، مثل الكل، فلم يعرف نفسه، عاش بقناع، عاش بحجاب، عاش شخصية ليست هو ، عاش بأنا ليست أناه الحقيقية، وما ظنه حباً – أنه يُحِب زوجته فعلاً من كل قلبه – ليس حباً، لأن أناه الزائفة تتماهى مع المُمتلَكات، مع الأشياء، وسأُوضِّح لكم هذا لأن هذه المعاني تحتاج إلى توضيح بأمثلة كثيرة فاسمحوا لي بذلك.
منذ البداية الطفل يُولَد هكذا، وكلنا كنا أطفالاً وأعتقد أننا جميعاً مررنا بهذه الحالة، وهى أننا فقدنا خبرةَ الوجود والعالم وأشياء الوجود والتواصل معها حين كبرنا قليلاً، فالخبرة الأولى كانت في مُنتهى الروعة والنبض والحيوية والعمق بحيث تعجز اللغة وكل لغة عن أن تُوصِّفها، فكلنا مررنا بهذا، أنا مررت، أنتم مررتم بهذه الخبرة إزاء المطر، إزاء حديث الشجر، إزاء الرياح، إزاء قوس قزح – قوس الشيطان -، إزاء البطيخ، إزاء الموز، إزاء التراب – رائحة التراب حين يسقط عليه ماء المطر -، إزاء القمر في الليل في الليلة الضحيانة، إزاء النجوم تُوصوِص وتُوشوِش لبعضها في الليل البهيم الحندس، إزاء النغم، إزءا الصوت الجميل والصوت الحزين، وإزاء أشياء كثيرة، فهى خبرة عجيبة ومُفعَمة ومن هنا أنا لا أنساها، فدائماً تُراوِضني وتُصيبني بالحسرة، فاللغة تعجز عن أن تصفها، فما الذي حصل علماً بأن هذا وصل للخُطبة السابقة؟!
التسميات قلَّصت عالمنا، التوصيفات والتصنيفات قلَّصت عالمنا، اختزلته، جعلته جامداً، ففقد ماءه، فقد روحه، فقد حيويته، وتماهى هذا العالم الزائف مع المُلصقات – Labels – والأسماء التي وضعناها عليه وصدَّقنا أن القمر هو لفظة القمر، لا فهذا غير صحيح، القمر ليس لفظة القمر، إذا أردت أن تعرف القمر حقيقةً فالقمر أقرب بمليون مرحلة إلى الخبرة – خبرتك القمرية – مع هذا القمر وأنت صغير قبل أن تغالتك اللغة والقوالب وُتزيِّف ليس فقط وعيك الباطن وانفعالاتك الفعلية بل تُزيِّف حتى إدراكك الحسي، ولكنك ستقول لي: ما معنى الكلام هذا؟!
اللغة والثقافة والتسميات والأنماط والقوالب تُزيِّف حتى إدراكاتنا الحسية، أي أن الشيئ يكون أمامنا ولا نستطيع أن نراه أبداً، نراه رؤية بصرية وليست رؤية رؤيوية، وإنما رؤية بصرية عيانية، فلا نستطيع أن نراه كما هو، وهو ما يحدث أيضاً مع الأحداث، فلا يحصل هذا مع الشيئ فقط وإنما مع الأحداث والمعاني أيضاً،لماذا ؟!
سأوضِّح هذا، وذلك لأننا لا نعيش في علاقة مُباشرية – يعني مُباشرة – مع العالم، بل بعلاقة أو تواصل موسوط، نعيش عبر الموسوطية، المنظورية – Perspektive – في عالم مفهومي – Conceptual Reality – لا نستطيع أن نتواصل فيه على الوجه الأمثل – للأسف هذا ما تفعله اللغات والتسميات والثقافات والقوالب الجاهزة والأنماط -، في حقيقة مفهومية، واقع مفهومي، ليس واقعاً ذاتوياً، الواقع كما هو، فلا نستطيع للأسف، وربما لا نستطيع دائماً، ولكن اللغة تُقلِّص للأسف من إمكانية التواصل، والأمثلة كثيرة جداً على هذا ولكن سأضرب مثالين فقط، فهناك مثال ضربه الفيلسوف وعالم الأحياء الفرنسي المُعاصِر – لا يزال حياً فيما أعتقد – إدغار موران Edgar Morin وهو أن موران Morin كان يقف في مركز شرطة ذات يوم في أوآخر تسعينيات القرن المُنصرِم لكي يُسجِّل شاهدته في حادث سير وهى أن السيارة الحمراء هى التي صدمت الدرَّاجة – العربة – بحسب ما لاحظ الفيلسوف الفرنسي العالمي الكبير، فهذا ما رآه، ولكن بعد قليل يُصدَم إدغار موران Edgar Morin بأن جُملة من الشهود – لأن هذا كان في الشارع وفي وضح النهار – أدلوا بشهادة مُختلِفة وقالو” لا، هذا غير صحيح” وهو ما حدث أيضاً حتى مع صاحب السيارة وصاحب الدرَّاجة، فالذي حدث أن صاحب الدرَّاجة هو الذي صدم السيارة – دخل في السيارة -، فموران Morin توقَّف هنا، وقال” عجيب، أنا رأيت بعيني السيارة صدَمت الدرَّاجة عند تقاطع الطرق” ولكن الكل يُجمِع على العكس، والعكس هو الصحيح فعلاً، فباعتراف صاحب الدرَّاجة هو الذي دخل في السيارة، فقال إدغار موران Edgar Morin “هذا هو الذي حدث إذن، وهو أن النمط، الأفكار، المفهومات المُخزَّنة في دماغي شوَّهت الواقع، جعلتني أُعيد إنتاج الواقع مُشوَّهاً ليتفق معها”،لماذا؟!
لأن في أنماط الفكر المُعتادة عند البشر أن القوي والكبير والمتين هو الذي يجور على الصغير، فليس من المعقول أن درَّاجة تصدم سيارة، ولكن أن تصدم سيارة درَّاجة هذا الذي يحصل دائماً، ولذلك انقلبت الرؤية، ففي المُستوى الحسي – Sensory – رأى الأشياء مُزيَّفة حسياً.

نأخذ مثالاً أعمق من هذا – أعمق من مثال موران Morin – وهو عن لفظة الازدراء، فالازدراء – Contempt باللغة الإنجليزية، Verachtung باللغة الألمانية، презрение باللغة الروسية – لفظة واحدة فقط ولكن يُصوَّت بها بطرق مُختلِفة، فتُلفَظ هنا ازدراء أو احتقار أو تقليل احترام، أي Disrespect أو Contempt باللغة الإنجليزية، أو تُلفَظ Verachtung باللغة الألمانية، презрение باللغة الروسية، وإلى آخره، ولكن المدلول أو المصداق مُختلِف تماماً، ففي المرحلة الصوتية الفوارق هامشية ومحدودة جداً جداً وهى فوارق تعسفية اعتباطية، لأن شاء العرف أن يُسمونه ازدراءً أو تقليل احترام، وأن يسمونه الألمان Verachtung – مثلاً – وأن يُسمونه الإنجليز Contempt، وإلى آخره، فهى فقط مسألة اعتباطية، ولكن في المدلول أو في المصداق المسألة ليست اعتباطية، مسائل مفهومية ضاربة بجذرها في أرض الثقافة والتصورات الأخلاقية والمُجتمَعية، كيف؟!
يأتي شخص يُوجِّه أو يتقدَّم بعبارات لشخص آخر – علماً بأن لا نستطيع أن نقول ألا أن نستخدم لغة مُحايدة، فلا أدري كيف أقول “يُوجِّه كلاماً أو يُوجِّه عبارات أو نقداً ” لأن هذه لغة غير موضوعية، فعندما نقول أنه يُوجِّه توجيهاً أو نصحاً أو ازدراءً لشخص ما نكون استخدمنا لغة غير موضوعية، إذن لنكن مُحايدين فالوقائع المفروض أن تكون مُحايدة، ولكن قبل قليل فرغنا من ضرب مثال يُؤكِّد أن الوقائع ليست مُحايدة بالقدر الذي نحسب، فواقعة أن درَّاجة ضربت سايرة المفروض أنها واقعة مُحايدة، ولكنها لم تكن مُحايدة في تصور الفيلسوف، في الرؤية الحسية للفيلسوف، وعلى كل حال نُحاوِل أن نكون مُحايدين – وهذا الآخر يعتبر هذه العبارات وفقاً للثقافة العربية – مثلاً – السائدة فيها نوع من الاحتقار، ومن هنا يغضب هذا الذي تُوجِه إليه بهذه العبارات ويقول: إنه يحتقرني، فهذا احتقار وازدراء، كيف يجرأ على هذا؟!
مَن هو ليقول هذا؟!
وتبدأ المشاكل إذن وربما لا تُغسَل إلا بالدم، مشاكل تدخل فيها القبليات وأشياء كثيرة مُمكِنة في مثل هذه المُجتمَعات المُغلَقة، ولكن في ثقافة أخرى – نفترض ثقافة ألمانية أو إنجليزية – تجد هذا الآخر يقول لك” هذا نقد وأتقبَّله بكل صدر رحب”، فهو يتلقاه على أنه نقد – Critique – إيجابي ويقول “شكراً لقد استفدت منه”، وهذا أمرٌ عجيب، فهنا هو نقد إيجابي ومُفيد، وهناك هو ازدراء واحتقار، إذن المسألة ليست وقفاً على التسمية، المسألة وقفا على المفاهيم، والمفاهيم مسألة مُعقَّدة جداً، فتأتي التسميات فقط لكي تضع – كما يٌقال – اللمسة الأخيرة على العالم المفهومي، ومن هنا خطورة التسميات، فالتسميات إذن ليست مُحايدة، والتسميات تجد جذرها في عالم المفاهيم، وهكذا نحن نتعاطى مع عوالم ووقائع مفهومية وليس مع وقائع وعوالم مُباشِرة، وإنما مفهومية، فهذا هو.
تصالب الرجلين في بعض الثقافات العربية وخاصة في بلاد الشام يُعَد عيباً، فإذا رأوا أحدهم يفعل ذلك قد تجد مَن يقول لك:
إنه يضع رجلاً على رجل لأنه قليل الأدب، كيف يجرؤ أن يجلس أمامي وأنا فلان الفلاني وكذا كذا وهو مُصالِباً رجليه؟!
فما المُشكِلة في هذا؟!
أما في الثقافة الغربية هذا شيئ عادي بل أقل من عادي، فالكل يُصالِب رجليه، الوزير والسفير والخفير والطبيب والمُهندِس والتلميذ والطالب، ليس في وضع الرجل على الرجل أي شيئ، لكن في الثقافة العربية يُقال هذا ازدراء، هذا احتقار وتقليل قيمة، وإذا فعلتها امرأة فهذه مُصيبة المصائب، فيُظن بأخلاقها السوء، ويُقال:
كيف لامرأة أن تفعل هذا وتُصالِب بين رجليها ؟!
وهكذا هى مفاهيم، فالوقائع المفروض أن تكون مُحايدة ، ولكن في عالم زائف للأسف الشديد – وطبعاً عوالمنا مُعظمها زائف، ليس فقط عوالم العرب والمسلمين وإنما العوالم البشرية كلها هكذا، فالمُجتمَعات تُريد هذا، المُجتمَعات تتغذى على الزيف – يصعب هذا، ومن هنا قال أحد العباقرة قديماً وهو تشيسترتون G. K. Chesterton : ما بال هذا العالم ملآن بالأطفال العباقرة والكبار الحمقى؟!

البشر كما يخلقهم الله يكونون عباقرة، فكل واحد فينا كان عبقرياً، ولكن حين نكبر نُصبِح حمقى ومُغفَّلين، فالثقافة تجعلنا مُغفَّلين لأنها تكبت التواصل مع الذات الحقيقية وتخلق لنا ذوات زائفة نُصدِّق أنها نحن، وليست نحن هذه، هذه ليست أنا، هذه أنا زائفة، ولكن للأسف تبدأ المسألة منذ الصغر كما قلنا، فالطفل يُولَد هكذا بهذا الخبرة شبه المُباشِرة مع العالم وأشيائه وبقدر أقل مع أحداثه، لأن الأحداث دائماً لابد لها من مفاهيم تُفسِّرها ومن هنا تكون أقل، فالتواصل يأخذ مُباشريته أكثر مع الأشياء وبشكل أقل مع الأحداث والمجاريات، يُسمَّى” سعيد، محمد، جون John، لويس Louis”، ويسمعهم وهم يُنادون عليه عدة مرات ” سعيد، سعيد، أنت سعيد” فيقول له الأب مُنادياً “سعيد” وكذلك الأم، فأبوه وأمه دائماً يُؤكِّدان أنه سعيد، وهذا أمرٌ عجيب بالنسبة له لأن هذا الشيئ غريب عنه، علماً بأن إسمي ليس أنا طبعاً، فأنا لست سعيداً، أنا أنا كما خلقني الله تماماً، مثل قطعة من صلصال – وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ ۩ -، وقطعة الصلصال هذه ليست هى الدمغة الموضوعة عليها أبداً، ليست هى اللون التي لوِنَت به قطعة الصلصال، ليست حتى هى الشكل الذي أخذته قطعة الصلصال، ليست هى مصدر قطعة الصلصال – من أي جبل، من أي أرض، من أي منجم – أبداً، فهى هى في ذاتها، ولكن المُجتمَع الآن يُعطي الأسماء، فلابد أن نُصنِّفه وأن نُسمِّي “أنت سعيد، سعيد، سعيد”، ولذلك تُلاحِظون أن
بعض الأطفال الأذكياء الأكثر تأبياً على التنميط والقولبة – وهؤلاء واعدون فالطفل الذي ربما يُبدي مثل هذه الإشارات يكون طفلاً واعداً – تجد أن منهم في البداية مَن يُوجَد لديه بعض رضوخ لهذه التسمية ولكنه يدأب في البداية على أن يتحدَّث عن سعيد على أنه الغائب، فيقول “سعيد جاء، يا ماما سعيد جاء”، لا يقول “أنا”، فهو غير مُستوعِب أن يكون أنا هو سعيد، فمَن سعيد هذا؟!
سعيد إسم، هذا اسم، هذا مُلصَق – Label -، هذا شيئ وليس أنا، ولكن المُجتمَع يُريد أن يُفهِمك أنك سعيد، فما معنى أن المُجتمَع يُريد أن يُفهمني أنني سعيد؟!
هذا ليس مُجرَّد مُلصَقاً، فمعنى أن المُجتمَع يُريد أن يُفهمني أنني سعيد هو أن أُماهي بين هذا الشيئ الخارجي الذي هو إسمي – أي بين هذا المُلصَق – وبين أناي، بين ذاتي، أُماهي فأُصبِح أنا فعلاً سعيد وسعيد أنا ، وهذا خطأ فأنا أكبر من إسمي يا أخي، مَن سعيد هذا؟!
كان مُمكِن أن أسمَّى بألف إسم سعيد أو تعيس آخر وأبقى أنا، ولكن ما يحدث أن هنا تُخلَق لك أنا جديدة تحت هذا المُلصَق: سعيد أو جون John أو لويس Louis أو ليلى أو سعدة أو سعيد.
فإذن هذا الطفل الذكي يتحدَّث بصيغة الغائب “سعيد جاء، سعيد غضبان يا ماما ” عن نفسه، فلا يقول “أنا غضبان” وإنما يقول”سعيد غضبان”، فالطفل الذكي يفعل هذا، ولكن بعد فترة المسكين يُصبِح أحمق، يبدأ يتشرَّب الحماقة، فيقول” أنا، أنا جائع “، ثم يبدأ يتماهى ويتماشى مع الخُطة فيسير فيها قدماً، وبعد ذلك يبدأ يتورَّط – توريط Involving – أكثر وأكثر فيبدأ المسكين يُدرِك أن هذه الأنا التي تُكثَّف وتُختزَل في سعيد تتبعها أشياء ومُلحَقات وهذه المُلحَقات والزوائد يُعبَّر عنها في كل اللغات بأشياء من ضرب أو من مثيل ” لي – أي عندي -، مني، بي”، إذن أنا وُملحَقاتها، فمُلحَقاتها هى “لي وعندي ومني وبي” وكل هذه الأشياء ، ومن هنا يقول” هذه اللعبة لي، هذا الدفتر لي، هذا الشيئ مني، أنا أعطيته إياه، مني، أخذه مني، وأنا أعطيته، أو أخذه غصباً عني، من مُمتلَكاتي” وهكذا، وحين تنكسر اللعبة أو تفسد أو يُغصَبها يشعر بمُعاناة شديدة الطفل مع أنه سرعان ما ينساها ويُعوِّضها بلعبة ربما أحسن منها في نظره، ولكن لماذا هذه المُعاناة وهذه المرارة الشديدة؟!
لأن المسكين تماهى مع المُمتلَكات دون أن يدري، علَّموه أن يتماهى مع الأشياء الخارجية، فإذا كُسِرَت اللعبة فكأنما كُسِرَ هو، فكُسِرَت نفسيته وتحطَّم، ومن هنا سيقول لي أحدهم “إذن كلنا ذلكم الطفل الأحمق”، فنحن نسمع كل سنة وسنة: ارتفعت الأسهم، نزلت الأسهم، انخفضت العملة وإلى آخر هاته الأشياء فأُصيب بالجلطة المليونير الأردني أو الفلسطيني أو أي مليونير آخر مسكين، أُصيب بجلطة ومات إلى رحمة الله، فنرثي له والله، لماذا تموت؟!
فليذهب المال، أنا لست المال!
ولكن في المُقابِل تُوجَد حالات نادرة ومُسجَّلة في الشرق والغرب بسبب حدوث كارثة مُدبَّلة – Doubled – مُضاعَفة فيموت في حدث واحد كل أفراد أسرة شخص ما، زوجته وأبناؤه السبع – مثلاً – ويحترق المنزل ويكون قد خزَّن ذهبه وأمواله في منزله، وكل شيئ ينتهي، والرجل يجد نفسه – كما نقول – على الحديدة، مُربَّع صفر وليس لديه أي شيئ، ومع ذلك لا ينتحر، لا يُصاب بالسكر، لا يُصاب بضغط الدم، لا يُصاب بالاكتئاب، لا يُصاب بأي شيئ الرجل، بالعكس تحدث له حالة من السلام المُطلَق والرضا والتسليم الذي يخبر عبرهما حالة من الهناء لم تكن لتخطر على باله من قبل، ويبرز لغزٌ في حياته فيبدأ يتساءل إزاءه: لماذا فعجيبٌ هذا الذي حدث معي؟!
طبعاً وهو يُؤكِّد أنه الآن يمر بأسعد حالة خبرها في حياته بعد فقد الأولاد والزوجة والأموال والبيت، أتعرفون لماذا؟!
ببساطة يقول المُعلِّمون الكبار في القديم والحديث لأنه وُفِّق إلى أن يخبر حالة التحرَّر من كل ما ليس هو، فكل هذا ليس أنا، حتى أولادي ليسوا أنا، وفي نهاية المطاف هذا مبدأ ديني – كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ۩ -، فإياك أن تظن أن ابنك أو ابنتك إذا راهق البلوغ ثم بلغ وكُلِّفَ أنك مسئول عنه بعد ذلك مسئولية كاملة، هذا انتهى فهو مسئول عن نفسه، وإن كنت فرَّطت في شيئ فأنت فرَّطت في توجيهه، تهذيبه، تعليمه، تلقينه، وهذا يحدث عبر الأنموذج القدوة قبل كل ذلك، ولكن بعد أن كُلِّفَ أصبح مسئولاً عن نفسه، وطبعاً أنت لا تُعاني لأنك كثيراًما يعتريك الخوف أو يعتصرك الخوف والفزع من رب العالمين يوم القيامة، وإنما تُعاني بسبب الخوف من المُجتمَع، فيُقال: كيف هو شيخ وابنته غير مُحجَّبة؟!
كيف هو شيخ وابنه يُدخِّن؟!
كيف هو شيخ وانبه لا يُصلي أو رقَّاص وإلى ما هنالك؟!
ولكن ما دخلي أنا بهذا الموضوع فأنا حاولت وفرغت مما عندي؟!
ولذلك القرآن أعطانا أمثلة على هذا كمثال نوح وابنه كافر، هذا كان كافراً بالله وليس مُدخِّناً للحشيش أو شخصاً يرتكب الزنا، وإنما كافر وليس بعد الكفر ذنب، ومع ذلك ما من مُشكِلة يا حبيبي، انتهى كل شيئ فأنا عملت ما عندي، والباقي على هذا الشخص الذي هو في هذه الحالة ابني، علماً بأن الإضافات في اللغات خطيرة جداً جداً – كقولك ابني – مع أنها الأقرب إلى المُحايدة، لأنها مرنة إزاء التأويل، مطواعة إزاء التأويل، هكذا هى الإضافات، ولذلك باب الإضافة في العربية باب مرن جداً جداً جداً، ومن هنا يقولون “الإضافة لأدنى مُلابَسة” وتدور على معانٍ أربعة معروفة إذا أردنا أن نعلمها علينا أن نعود إلى كتب النحو، فأن تقول “ابني، زوجتي” هذا ليس أمراً جيداً ولكنه ضرورياً، فيُمكِن أن تُؤوَّل أن زوجتي بمعنى ملكي، فيقول لك أحدهم “لي زوجة” وهذا القول خطير بل أخطر بكثير من قولك “زوجتي”، فلماذا تقول لي زوجة، عندي زوجة ؟!
أتضعها في ملابسك كالأشياء؟!
وهناك بعض الشعوب تشعر بأنها يغلب عليها الأنانية – هذه ثقافة وليست قدر، واختبروا هذا بأنفسكم بمُمارَسة هذا التحليل – فتجد في لغة هذه الشعوب العامية مثل هذه الألفاظ ” عندي رأيٌ، لي رأيُ كذا” ، وطبعاً يقولون هذا بالعامية ولكني لن أفعل حتى لا يُفتضَح الأمر، فلديهم صيغة غريبة جداً من التملك، التملك حتى للآراء!
وطبعاً كلنا نُمارِس أيضاً أنماط أُخرى من التملك – فالأمر ليس قاصراً على تملك الزوجة والأبناء والأصدقاء والمساجد والطوائف والمذاهب والأئمة – فنقول ” إمامي – فنشعر بنشوة غريبة وبهجة، Pleasure -، إمامي جعفر الصادقي، إمامي الشافعي، إمامي زيد، إمامي عبد الله بن إباض”، ومن ثم نجد مَن يقول ذلك فرحاناً، فما معنى أن تقول أنه إمامك؟!
هل امتلكته أنت؟!
هل خلقته أنت؟!
هل خلقت له هذه الإمامية؟!
الانتساب هذا فيه نوع من التملك – أيها الإخوة – ولذلك نتعزَّى به دون أن نشعر وهو ما كنت بالأمس أُحدِّث به بعض أحبابي، فنحن – مثلاً – كمسلمين سواء كنا سُنة أو شيعةإمامية، زيدية، إباضية كلنا مسلمون – بفضل الله – وأهل “لا إله إلا الله محمد رسول الله”، والكتاب واحد والقبلة واحدة والنبي واحد والمُعتقَد الأس واحد – بفضل الله – وهذا يكفي، بل هذا أكثر من الكفاية – والله العظيم – فهوأكثر مما يكفي، ولكنه لا يكفي عند واحدٍ منهم، فلا هذا مُقتنِع ولا هذا ولا هذا ولا هذا، وكلهم لا يكفيهم أن يتعزَّوا بالقول “نحن أمة لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ربنا واحد، نبينا واحد، كتابنا واحد” فهم يرون أنه يجب أن يكون أمامنا واحداً أيضاً، لماذا يجب أن يكون إمامنا واحد؟!
هل جعلتم الإمام بإزاء الله ورسوله، وجعلتم فقه الإمام بإزاء كتاب الله؟!
هو هكذا، ما لم تكن مثلي، على طريقتي، وإمامك إماماً سُنياً من أئمتي فأنت لست بشيئ ولن ينفعك هذا، وهذا أمرٌ غريب، ما هذا التعزي؟!
لأنه امتلاك الله والرسول والقرآن مسألة صعبة، لأن هذا مُقدَّس مُطلَق لن تستطيع أن تفعل هذا، ولكن امتلاك الإمام مسألة أسهل لأنه بشر مثلنا هذا ويُخطيء ويُصيب فمُمكِن ندّعي الامتلاك لا شعوريا، ومن هنا قد تجد أحدهم يتظاهر بتعابير وانتماءات غريبة عجيبة ولكنها تُوجِب الشحناء والتكاره والتباغض والإنقسامات.
فإذن قولنا “لي زوجة، عندي زوجة، لي أبناء، عندي أبناء” يُعَد لغة غير مُحايدة، لغة تملكية خطيرة، فبعض الناس حتى يتعامل مع أصدقائه على أنهم من ملكه، خاصة إذا كان يفوقهم فيما يرى بعض الشيئ، ولذلك أعود إلى مُقدَّم – إلى صدر – الخُطبة وأتساءل: ما السبب أن هذا الجيل – جيل أبنائنا وبناتنا اليوم – تختلف معاييرهم الجمالية عنا علماً بأن السبب ليس لأن الجمال اختلف وأصبح قضية مُعقَّدة فهذا مبحث فلسفي يتعلَّق بموضوعية وذاتية الجمال وإنما هناك سبب آخر؟!
السبب هو لأنهم عاشوا نمطاً من الحياة فيه الضابط الاجتماعي أو التطبيع الاجتماعي أقل بكثير، فخفت قبضته عليهم بعكسنا نحن وبعكس والدينا ووالدي والدينا – أجدادنا -، فاليوم طبعاً المُجتمَعات – وحتى العربية الإسلامية – تقريباً أصبحت قريبة من المُجتمَعات الغربية، الأب يعمل والأم تعمل أيضاً وإذا لا تعمل فهى على مادر الأربع والعشرين ساعة في الأسواق، وتذهب وتجيئ في الزيارات وما إلى هنالك حتى أصبح البيت أصبح شبيهاً بفندق – Hotel -، ولم يعد على الحامي وعلى البارد – كما يُقال – وفي الصباح وفي المساء توجيه وافعل ولا تفعل ويا بني ويا ابنتي، لم يعد هذا الكلام موجوداً، فالولد تقريباً نشأ شبه حر، مثلما يحدث في الغرب هنا، ومن هنا يخضع ويستجيل لماذا إذن؟!
لعواطفه الحرة الطبيعية، استحسن هذه الفتاة – وهو مُحِق – لأنها في نظره حسناء فتزوج بها، فما المُشكِلة؟!
استحسنت هذا الشاب وأحبت أن تقترن به على كتاب الله وسُنة رسوله فلتفعل، لماذا نقف حجر عثرة؟!
هذا هو الصحيح، والعباقرة يفعلون هذا دائماً، فهذه استجابة طوعية فطرية غير مُؤطَّرة وتحكي الإمكان الحقيقي له، للعاطفة هنا، فألبرت أينشتاين Albert Einstein نموذج موحي جداً في هذا الصدد ومن هنا حتى العلماء المُتكلِّمون في هذه الشؤون يُمثِّلون به فكان نموذج تقريباً نادر المثال، فأينشتاين Einstein في شبابه كان شاباً على قدر عالي من الجمال – معروف هذا -، كان وسيم جداًومعشوق البنات والفتيات في الجامعة، ولكنه أحب ميلفا ماريك Mileva Maric وهى قبيحة جداً وتختلف عنه في الدين، فوهو يهودي وهى أرثوذوكسية من أصل صربي – كما يُقال – وكانت عرجاء، علماً بأن صورها طبعاً موجودة في التراجم، فهى بالنسبة إلينا – على الأقل من منظورنا – ليست ذات جمال، بالعكس هى أقرب بكثير إلى القبح، ولكنه أحبها جداً فكانت أعظم حب في حياته، أمه قالت له “بالحري أنت ستقضي علىّ، أنا سأموت يا بني، اقترانك بهذه الفتاة سيقتلني” فقال لها : وماذا أفعل؟!
يعز علىّ جداً هذا ولكنني أحبها، لن أتركها من أجلك يا أمي!
فما هذا؟!
هل أنا سأُحِب بأمر من أمي؟!
أنا أُحِب وأكره كما أُحِب وأكره!
ما في !
هذا هو أينشتاين Einstein، ولذلك أينشتاين Einstein هو واضع النسبيتين والفيزيائي العظيم، بل يُقال هو أعظم عقل فيزيائي عبر العصور، وذلك من خلال استفتاء أُجريَ وثبت أنه أعظم عقل فيزيائي باستفتاء العلماء أنفسهم، وهذا الرجل -يقول في آخر حياته: ما هى الأنا؟!
الكل يتحدَّث ويقول “أنا، أنا، أنا، أنا، أنا”، فما هى الأنا؟!
وهم بصري للواقع، توهم بصري للواقع، تزييف لكل شيئ، فقط هذه هى الأنا.
عميق جداً أينشتاين Einstein فهو إنسان عظيم، ولذلك كان عبقرياً، رأى ما لم يره أحد سواه في العالم، علماً بأن أينشتاين Einstein يقول “للأسف يتحدَّثون عن إنجازاتي ونظرياتي وفلسفتي وعن كل شيئ ليس هو أنا”، أي أنه يقول كل هذه الأشياء ليست أنا، فأنا لست النسبية العامة والخاصة، هذا كلام مش فارغ، أنا شيئ مُختلِف عن هذا، وهذا الشيئ يدل على العظمة ويقشعر له البدن، فهو عكسنا تماماً، والآن تجد شخصاً ذا حيثية إذا نزعت عنه لقبه يغضب، وقد يُعرِب عن هذا الغضب، ومن هنا حدَّثني أحدهم بمُلاحَظة ثاقبة – وأنا وافقته على هذا – عن آخر قائلاً”أنا كنت أحب فلاناً وأحترمه لسُمعته، ولكن لاحظت منه مرة شيئاً فلم أعد أحترمه بعد”، فقلت له: ما هو؟!
قال “دُعِى إلى المسجد واحتفل الناس به – في بلدة أخرى – احتفالاً عظيماً طبعاً، فهو الدكتور فلان وجاء الناس بالألوف له، واكتظ المجلس فهو كظيظ من الزحام، ووُضِعَ له كرسي كبير مُزركَّش فجلس ولكن حين جلس ضاق عنه الكرسي لأنه رجل سمين”، استتلى قائلاً:
ولكن ما ذنب الكرسي وما ذنب المُضيفين؟!
هو رجل سمين جداً – الله يزيده من خير ونعمته – فحين جلس ضاق عنه الكرسي، ومن هنا غضب غضباً شديداً وبدل أن يأخذ في المُوعَظة والدرس العلمي لكي يُعلِّم ونستفيد جعل يصرخ بأعلى صوت في الميكروفون – Microphone – ويقول كلاماً لا يليق من نوعية: كيف تجرأون على هذا؟!
أي كأنه يقول: هذه قلة أدب، فأنتم احتقرتموني ولم تُوقِّروني وإلا لماذا أتيتم بهذا الكرسي؟!
شيئ رهيب جداً يا أخي، فهذا يدل على عدم نضج في الشخصية وعلى تماهٍ مُطلَق مع أشياء زائفة ليست هى الذات الحقيقة أبداً، فلا هذا جسمي أنا ولا طولي ولا عرضي ولا جمالي ولا صوتي ولا ألقابي ولا علمي ولا أفكاري ولا ردود أفعالي، هذه ليست أنا، أنا شيئ أعمق من هذا كله، وأعمق من الدور، ومن هنا إياك أن تقع ضحية الدور – Role -، فهناك أدوار أنت تلعبها كأن تلعب دور أب، دور أم، دور زوج، دور زوجة، دور طبيب، دور مُهندِس ، دور شيخ، دور واعظ، دور عالم، دور سياسي، فهذه أدوار كلها، والدور ليس أنت، فإياك أن تغرق في دورك وتظن أن هذا الدور كل شيئ، فبعض الناس يلعب دور المُوظَّف وحين يُحال على التقاعد يكتئب،وبعضهم ينتحر، وبعضهم يموت، وبعضهم يُصاب باكتئاب إلى أن يموت ويُعجِّل حتى بموته بالاكتئاب – Depression – وهذا شيئ رهيب لأنه أصبح Useless أي غير قابل للانتفاع به، فهو غير نافع لأنه لم يعد يشتغل مُوظَّفاً، فما هذا؟!
هل أنت مُوظَّف؟!
هل الكائن المُعظَّم هذا هو مُوظَّف؟!
كان هذا المُوظَّف يُمكِن أن يلعب دور رئيس جمهورية، دور سفير، دور غفير، دور طبيب، دور مُهندِس، دور أي شيئ آخر، فأنت أكبر من كل دور تلعبه ولعبته، أليس كذلك؟!
ولكن انتبهوا فالقضية مُعقَّدة ومن هنا اسمحوا لي أن أعود لأقول – علماً بأن الوقت أدركنا، وسيقترب موعد العصر الآن – أن الذي لا يعيش أناه الحقيقيةولا يُعبِّر عنها بحرية انفعالية ويستجيب لها ويُحسِن الإصغاء والإصاخة لها – لصوت أناه الداخلية – يعيش زائفاً ومُزيِّفاً ومُزيَّفاً، فهو مُمثِّل فاشل ومن هنا يُصاب بخيبات وانكسارات وفشل دائم رغم ما قد يظهر على الساحة وعلى السطح من نجاحاته، فنعم حقَّقت نجاحات وشهادات وأموال وأشياء ولكن كل هذا يُعَد فشلاً، لأنك لم تعرف نفسك، ومن هنا لن تكون الشخص السعيد ولا الشخص الملآن ولن تُجرِّب الطمأنينة والهناء أبداً، إذن أنت أكبر من كل ما ذكرنا، افهم هذا المعنى ، وحاول أن تصل – والمسألة صعبة وليست سهلة بالكامل – إلى لحظة الوعي بالوهم، ولكن كيف هذا؟!
أن تُدرِك في لحظة ما – حاول – أن هذه الأنا مُجرَّد وهم، فإذا أدركت أنها وهم ستتبخَّر مُباشَرةً وستُعاين الحقيقة، لأن موت الأنا الوهيمة الزائفة المُزيَّفة في إدراك وهميتها، ولا تقل ” أنا أكبر من لقبي” فعليك أن تنتبه حتى لا تتورَّط أكثر في وهم أكبر، وإنما قل”أنا لست لقبي، أنا لست علمي، لست أفكاري، لست شخصي، لست بدلتي، لست سيارتي، لست زوجتي، لست أولادي، لست دوري في المُجتمَع، أنا شيئ مُختلِف عن هذا”، فهذه الأشياء قدر رباني واتفاقات حصلت، وكان يُمكِن أن لا تحصل على هذا النحو، ومن هنا أنا شيئ آخر أعمق وأكثر اشتباكاً.
هناك أُناس يتورَّطون في لعب دور واعظ – الوعاظ المساكين من أمثالي -، فعندما يصعد أحدهم على المنابر ليعظ الناس يتورَّط في مُماهة نفسه بالواعظي، ولذلك حتى في كلامه يُوجَد مرارة غريبة دائماً، لأن الواعظ لا يكفي لإصلاح المُجتمَع فهو الأقل إصلاحاً للمُجتمَعات والأفراد – الواعظ الأقل على الإطلاق -، ومن هنا يشعر بخيبة أنه يفشل، ولكن هو أيضاً راضٍ، فهو يُمارِس رغم هذه الخيبات الوعظ إلى أن يموت، ويحرص على أن يُمارِسه، واليوم في البلاد العربية في ربيع الثورات يحصل اقتتال على المنابر وضرب، وهذا حصل في العيد في أكثر من دولة، فلماذا تفعل هذا يا رجل؟!
السعيد مَن كُفِىَ بغيره، فأن تعظ في الناس وتتكلَّم ليس دوراً جميلاً، وخاصة إذا لم يكن عندك شيئ حقيقي تُعطيه للناس، شيئاً يُبارِك حياتهم ويُثمِّرها، ومن هنا تجد أحدهم يضرب الآخر من أجل أن يعظ فهو ليس عنده شيئ حقيقي ، وإلا ما كان ضرب ولا انضرب من أجل هذا الدور السخيف، فهذا المسكين خفَّض نفسه إلى مُجرَّد واعظ، ولكن الصحيح هو أنك أكبر من هذا بكثير، فأنت إنسان وليس مُجرَّد واعظ، وكان يُمكِن أن تلعب ألف دور آخر، وتبقى باستمرار أكبر من ألف دور أيضاً، ومع ذلك هو خفَّض نفسه على الرغم منه أنه بديهٌ أننا نُدرِك أن الحياة أكبر من مُجرَّد مواعظ، الحياة أطول وأعرض وأعمق وأكثر تركباً وتعقيداً من المواعظ، وللأسف نحن كمجهور أيضاً نُورِّط هذا المسكين ونجني على أناه، على ذاتيته حين نقبل أن يلعب هذا الدور ونطلب منه دائماً أن يلعبه بالقول” نُريد درِّساً يا مولانا، زدنا درساً في كذا، حدِّثنا في كذا”، فنُورِّطه زيادة ومن ثم نتورَّط نحن في لعب دور
الموعوظين، الخطاة التائبين، طالبي الصلاح والإصلاح بسماع المواعظ، فهذا ما يحدث والله، ولكن وهل هذا ينجح؟!
ومتى نجح؟!
لا ينجح، فنحن نسمع مواعظ من عشرين سنة ومع ذلك أخلاقنا كما هى، وما زلنا نكذب على أنفسنا بل ونحرص على هذا على الرغم من أن الأمور ليست هكذا، فكان يجب أن نفهم أن هذا الوعظ يُمكِن أن يُشير فقط إلى حلول ولكنه ليس الحلول، فكما يقول البوذيون ” الإصبع التي تُشير إلى القمر تُشير إليه ولكن حتماً ليست هى القمر”، ومن هنا انتبهوا فالقمر شيئ والإصبع شيئ، ومُمكِن يُشار بدل الإصبع بخشبة وبأي شيئ آخر، وباللفظ أيضاً بأن نقول “ذاك القمر”، هذا هو ولكن نحن لا نُدرِك هذا فنتورَّط في هذا الدور دون أن نُدرِكه أيضاً – علماً بأن هذا بديه أن يُدرَك – ودون أن نُدرِك أن مشاكل الحياة وأزماتها أكثر تعقيداً واشتباكاً من أن تُسوَّى وتُحَل بمُجرَّد مواعظ، ومن هنا لا تُحَل المشاكل، فكم أرثي وكم أستغرب من أب وأم وقد يكون مُثقَّفاً وشخصاً له وجاهة ومع ذلك يأتي يتوسَّل إلى عالم أو إلى واعظ أن يُصلِح ابنه بإعطائه درس عن الموضوع الفلان، فهذا غريب جداً، فأنت يا أخي رجل مُتعلِّم ولكنك تعتقد أن هذا سيُصلِح ابنك – الذي هو في العشرين من عمره – بموعظة، فالأمر أكثر تعقيداً واشتباكاً من هذا.
أقول قولي هذاوأستغفر الله لي ولكم.

الخُطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
الناس كأسنان المشط – حسبما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم -، فالإمام أبو إسحاق الشيرازي ينزل ضيفاً مرة على نظام الملك – الوزير السلجوقي – فيُقدِّم له خادم من الخدم طعام العشاء بيدهويصب عليه الماء، ثم يُناوِله نظام الملك البشكير – كما يُقال – الفوطة، فيقول له “بارك الله فيك”، ومن قبل قال للخادم “بارك الله فيك”، فيقول: مَن يعذرني من الشيخ أبي إسحاق، قدَّمت له الفوطة بيدي فقال “بارك الله فيك” وقدَّمها الخادم فقال “بارك الله فيك”؟!
الشيخ أبو إسحاق وأمثاله هم بشرٌ عارفون، وجدوا أنفسهم الحقيقية، تساوى البشر أمامهم فالرئيس كالمرؤوس، لا يُوجَد تزييف أو تمثيل أو ارتعاد أمام رئيس أو أمام عالم وأمام شيخ، فكلنا سواسية، ولكن يُوجَد أدب ويُوجَد احترام، فالرسول قال”أنزلوا الناس منازلهم”.
الراهب كاسان في بوذية زِنْ Zen يخرج مرة ليُشيِّع جنازة فيقف ينتظر مع تلاميذه، ثم في اليوم التالي يجمع تلاميذه ويقول لهم “أنا مُستقيل لأنني لم أجد نفسي، لم أجدني مُؤهَّلاً للعب دور أو لأداء دور مُعلِّم”، فقالوا: لماذا يا أستاذنا كاسان؟!
قال “بالأمس وأنا أنتظر رئيس البلدة والذوات والأعيان شعرت بتعرق في راحتي، وهذا التعرق لا يحصل إزاء الناس العاديين، فأنا لست مُعلِّماً، لم أصل إلى هذه الدرجة”، فهؤلاء هم الناس أصحاب العمق الحقيقي، نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُعلِّمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علَّمنا، وأن يزيدنا علماً.

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

فيينا (9/11/2012)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: