نظرية التطور 

السلسلة الأولى: الأدلة والمؤيدات

الحلقة التاسعة

أعمدة النظرية وأدلتها – الجزء الأول

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المُرسَلين سيدنا محمد بن عبد الله النبي الأمين وعلى آله الطيبين وصحابته الميامين وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين، سبحانك لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزدنا علماً.

إخواني وأخواتي: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم مع حلقةٍ جديدة من سلسلة نظرية التطور، السلسلة الأولى التي نُديرها على مُؤيِدات النظرية، ونُكمِل أحبتي في الله، إخواني وأخواتي من حيث وقفنا في الحلقة الماضية، باختصار تشارلز داروين Charles Darwin أصبح الآن مُهيأً لأن يكتشف الإطار النظري الذي يعمل عليه ومن خلاله، فالمُلاحَظات الجمة اللافتة التي سجلها عبر سنوات البحث وسنوات السفر فوق متن البيجل Beagle أصبحت الآن مُهيأة لأن ينظمها ناظمٌ واحد، أي نظرية تُفسِّرها، علماً بأن الذي قدح زناد ربما هذه النظرية الكامنة المأمولة عمل انبعث فيه وإليه داروين Darwin من باب التسلية، وذلك من خلال كُتيب صغير الحجم، فالأب أو القس الذي كان في البداية رجل دين وأصبح بعد ذلك من أشهر علماء الاقتصاد وأحد المُؤسِّسين بلا

توماس مالتوس Malthus R.Thomas
توماس مالتوس Malthus R.Thomas
 An Essay on the Principle of Population
An Essay on the Principle of Population

شك وهو الأب توماس روبرت مالتوس Thomas Robert Malthus كان له كتاب صغير حول مبدأ السكان An Essay on the Principle of Population، هو سماه مقالة حول مبدأ السكان، وقد قرأ تشارلز داروين Charles Darwin هذا الكتاب أو هذا الكُتيب من باب التسلية فاكتشف من خلال هذه القراءة غير القاصدة النظرية التي يبحث عنها ولما يجدها بعد، فقال “الآن وجدت النظرية التي سأشتغل عليها”، لكن ماذا كتب مالتوس Malthus في هذا الكتاب الصغير؟ مالتوس Malthus عرض لحقيقة وهى أن الطبيعة تُسرِف في التكاثر، فالطبيعة – أي طبيعة الكائنات الحية – مُسرِفة في التكاثر جداً، وفي وقت مالتوس Malthus بالضبط كان سكان العالم الجديد – أمريكا – يتكاثرون تقريباً كل خمسة وعشرين عاماً، فمالتوس Malthus بحسابات أجراها انتهى إلى أن البشر – طبعاً وسائر الكائنات – مثلاً يتكاثرون وفق مُتوالية هندسية، وأساس المُتوالية يختلف من حالة إلى حالة بلا شك، فهناك كائنات تتكاثر بمُعدَل أكثر من المُعدَل الذي يتكاثر به البشر مئات المرات، ولكن دائماً المُتوالية تكون هندسية، أي(2، 4، 8، 16، 32) وهكذا، فهذه مُتوالية هندسية إذن، في حين أن الموارد ومصادر الرزق – الغذاء من طعام وشراب – تتكاثر وفق مُتوالية حسابية، فقد يكون أساسها (1) مثلاً وبالتالي تكون (1، 2، 3، 4، 5)، وقد يكون أساس المُتوالية الحسابية (2) وبالتالي تكون (3، 5، 7، 9، 11) وهلم جرا، لكن أين التكاثر وفقاً لمُتوالية حسابية من التكاثر وفقاً لمُتوالية هندسية؟ إذن انتهى مالتوس Malthus من تقرير هاتين الحقيقتين، وهما إلى حد كبير حقيقتان موجودتان ومُدعَمتان في الخارج، وانتهى أيضاً إلى وجوب الالتفات إلى الصراع الناشب في البيئات المُختلِفة، لكن لماذا؟ لأنه لاحظ في نهاية المطاف أن عدد الكائنات تقريباً في كل زمان يبقى هو هو.

لكن عدد أفراد الأنواع المُختلِفة لا يزداد وفقاً لهذه المُتوالية الهندسية وإلا لما وسعتهم البسيطة بالمرة، فالبسيطة – الكرة الأرضية – لا تتسع لبكتيريا بل لا تتسع لنوع واحد من البكتيريا إذا بقيَ يتكاثر وفق هذه المُتوالية، ولا تتسع لمحار – مثلاً – أو لكائن دقيق، هذا يستحيل، فبعد أشهر يسيرة لن تكفي هذه الأرض كلها، فكيف تكفي كل هذه الملايين من الأنواع؟ لكن على كل حال مالتوس Malthus قال “هذا يحدث بفضل وبسبب أن هناك صراعاً على البقاء Struggle for Existence وصراعاً على الوجود Existence، وهذا الصراع يهلك فيه الذي لا يتوفر على شروط البقاء لسبب أو لآخر”، فلم يُفصِل كثيراً مالتوس Malthus في هذه النقطة كما سيُفصِل لاحقاً داروين Darwin وأتباعه وأشياعه بشكل علمي دقيق مُفصَل ومُقنِع إلى حد بعيد، لكن هذا قدح زناد النظرية في دماغ داروين Darwin فقال “لقد انتهى كل شيئ، فقدت وجدت نظريتي لأنني الآن وجدت الإطار النظري الذي سأشتغل عليه”، ومن لطيف الأقدار

ألفرد راسل والاس
ألفرد راسل والاس

أو الصدف كما يقولون ويحبون أن يقولوا أن ألفرد راسل والاس Alfred Russel Wallace أيضاً حين كان في أرخبيل الملايو Malay Archipelago وكان يُعاني طور حُمى – لا أدري إن كنت ذكرت هذا أم لا، فلعلي أشرت إليه من قبل – تجمعت لديه مُلاحَظات كثيرة ولكن لم يتوفر له الإطار الجامع الناظم الذي يقتدر على تفسيرها، فهو كان يعاني من طور حُمى وكان نائماً في كوخ بسيط بدائي وكان مِن قبل قد قرأ مقالة مالتوس Malthus عن السكان ومبدأ السكان وخطر له الخاطر نفسه، فإذن لابد أن تتدخل الطبيعة وفق هذه الآلية – آلية الصراع على الوجود وعلى البقاء – لكي تستبقي الأفضل، أي الأكثر تكيفاً والأكثر تلاؤماً، وتُقصي ضده غير المُتلائم وغير المُتكيف، فهذا هو مبدأ الانتخاب الطبيعي – Natural Selection – الذي توصل إليه الرجلان في الوقت نفسه تقريباً وفي المرحلة نفسها، والسبب هو الأب مالتوس Malthus من خلال كتابه المذكور آنفاً، وهذا شيئ غريب، فهل هناك تعالق بين الأفكار وتعالق بين الأراوح وبين العقول؟ الآن طبعاً هذه النظرية تقريباً مطروحة في الباراسيكولجي Parapsychology، فهم يُؤكِدون هذا بشكل أو بآخر، وقد حدَّثتكم مرة في خطبة جُمعية – هذا من باب الاستطراد السريع لعلي لا أُطيل – عن الكلمات المُتقاطِعة التي تُعطَى لأول مرة لجماعة من المسجونين ولم يجر حلها من قبلها فيحلونها بنسبة مُعينة – ولنقل مثلاً ينجحون في حلها بنسبة ستين في المائة – دائماً، فإذا أُعطوا – أي هؤلاء المساجين – كلمات مُتقاطِعة من جريدة أمس أو أول أمس مما تم حله تكون دائماً نسبة نجاحهم في حلها أعلى، فإذن هناك نوع من التلاقي بين الأرواح وبين النفوس وبين الذكاءات وبين العقول، وهذا شيئ عجيب وهذه تجرية مُثيرة جداً، فدائماً الكلمات التي جرى حلها تُحَل بطريقة أسرع، والتي لم يجر حلها تُحَل بطريقة أبطأ، وهذا أمر عجيب، فإذن هناك نوع من تلاقح العقول، وهذا ربما يُفضي بنا إلى الإشارة أو التأشير إلى فكرة أكثر أهمية وحيوية للاجتماع البشري بل للبشرية عموماً وهى “كلما كثرت الآراء والخواطر والهمم والإرادات الخيّرة الطيبة الصالحة خدم هذا المجموع كله”، فكلما زاد عدد الناس الطيبيين الخيّريين الصالحين المُحِبين للجمال والخير والمُحِبين للبشرية كلما استفاد الكل من هذا، والعكس بالعكس، وهذه كلها أشياء عجيبة، فإذن نحن في نهاية المطاف نفسٌ واحدة تقريباً، فقد خُلِقنا من نفس واحدة ونحن ما نزال كأننا نفسٌ واحدة، وبالتالي نتآثر دائماً، أي يُؤثِر بعضنا في بعض.

Sir John Sebright سير جون سيبرايت
سير جون سيبرايت Sir John Sebright

على كل حال مِمَن أرهص أيضاً بفكرة الانتخاب الطبيعي أحد علماء الحيوان وإسمه سير جون سيبرايت Sir John Sebright، علماً بأن له مقالة كتبها ونشرها تقريباً عام ألف وثمانمائة وتسعة، أي في السنة التي وُلِدَ فيها تشارلز داروين Charles Darwin، وقد نشر هذه المقالة بعنوان فن تحسين نسل الحيوانات المنزلية، أي الداجنة أو المُدجَنة.

خلاصة هذه المقالة أن هذه الحيوانات الداجنة أو المُدجَنة تختلف في سماتها وصفاتها وميزاتها، فمنها الضعيف ومنها القوي ومنها ما هو بين ذلك، وقد لاحظ السير جون سيبرايت Sir John Sebright أن الضعيف في نهاية المطاف يهلك، فهو لا يمتد ولا يبقى، وهذا أرهص بفكرة الانتخاب الطبيعي.

إدوارد بلايث Edward Blyth
إدوارد بلايث Edward Blyth

كنت في حلقة ماضية أشرت أيضاً إلى أن الخلقويين والذين مِن مصلحتهم أن يغضوا من قيمة تشارلز داروين Charles Darwin ومن أصالته العلمية أشاروا إلى أنه حين كان على متن البيجل Beagle وصلت إليه ورقة العالم الإنجليزي إدوارد بلايث Edward Blyth، وبلايث Blyth أيضاً كان من الذين أرهصوا بفكرة أو مبدأ أو قانون الانتخاب الطبيعي، فهم قالوا أن داروين Darwin اطلع على هذا وزعموا أنه سرق مجهوداً ليس له، وعلى كل حال هذا يحتاج إلى تحقيق، والذي انتهينا إليه من مُطالَعة عمل هذه الشخصية هو أن الرجل يتصف بمصداقية كبيرة، فليس من شأنه أن يكون مُخادِعاً أو مُدعياً أو كذّاباً، وواضح أن هذا بعيد جداً من شخصيته، ونُذكِّر بموقفه من الورقة أو المقالة التي أرسلها إليه والاس Wallace من أرخبيل الملايو Malay Archipelago – كما قلنا – وكانت أحسن تلخيص مُمكِن لعمل داروين Darwin السابق حول تطور الأنواع بآلية الانتخاب الطبيعي، ما جعله يقول “هذا الأمر غير مُمكِن وهو شيئ لا يكاد يُتصوَّر، فلو أن هذا الرجل اطلع على عملي كله وأراد أن يُلخِصه لما فعل بأحسن مما فعل”، أي أنه تلخيص مُمتاز جميل لعملي، وقد قيل له “لا بأس، تغاض عن هذا كأن الورقة لم تصلك” فقال “أُفضِل أن أموت على ان أرتكب هذه الفعلة وعلى أن ينظر إلي أحدٌ من الناس – سواء والاس Wallace أو غيره – على أنني هذا الإنسان المُنحَط، فأنا لست كذلك، أنا إنسان شريف وأتصرف بشرف، حتى لو سلبني أصالتي وأسبقيتي في تأسيس هذه النظرية فلن أفعل هذا” فداروين Darwin إنسان مُحترَم وشخصية مُحترَمة جداً، وعلى كل حال قد تكون هذه من المغامز التي أراد أن يغمزه بها هؤلاء المُعارِضون داروين .Darwin

إذن ما هى النظرية التي وجدها داروين Darwin وأشتغل عليها؟ كيف يُمكِن أن نُبسِط هذه النظرية وأن نشرحها لأولادنا مثلاً أو لمَن يُريد أن يأخذ عنها فكرة عامة بشكل مفهوم وقريب؟ لعل أحسن مَن فعل هذا العالم الأحيائي الكبير :

جوليان هكسلي Julian Huxley
جوليان هكسلي Julian Huxley

وهو حفيد توماس هنري هكسلي Thomas Henry Huxley المعروف ببولدوج داروين Darwin’s Bulldog، فجوليان هكسلي Julian Huxley من أكبر أيضاً علماء الأحياء في القرن العشرين – تحديداً في النصف الأول من القرن العشرين – وله كتابات عميقة ودقيقة جداً في تخصصه وبالذات حول نظرية التطور، وهى منشورة وموجودة ويتعاطى معها العلماء إلى اليوم، والرجل له مُساهَمات مقدورة ومشكورة في تأسيس الداروينية الجديدة Neo-Darwinism أو حتى النظرية التطورية التركيبية المُعاصِرة كما تُدعى، قال جوليان هكسلي Julian Huxley “نظرية التطور لتشارلز داروين Charles Darwin يُمكِن أن تُلخَص بثلاثة مبادئ أو تقوم على ثلاثة أعمدة،العمود الأول هو مُلاحَظة التباينات والتغايرات – Varieties – والاختلافات بين أفراد النوع الواحد”، وطبعاً التغيرات بين أفراد الأنواع المُختلِفة أمرٌ طبيعي، فهى أنواع مُختلِفة أصلاً ولكنه يقصد التغايرات أو التباينات أو الاختلافات بين أفراد النوع الواحد، فليست – أكرمكم الله – كل أفراد الكلاب مُتماثِلة أو مُتشابِهة جداً، هناك تغايرات بلا شك، وكذلك الحال مع أفراد الحمام وأفراد البشر وأفراد الثعابين، وكل الأفراد الحقيقة يُوجَد تباينات بينها، وهذه التباينات مُهِمة جداً، وطبعاً سوف يُبحَث عن أصلها وسيُشكِّل هذا البحث نُقطة ضف في نظرية التطور لداروين Darwin، ففي وقته طبعاً كما شرحها هو سيُتساءل من أين تنشأ هذه التباينات؟ إذا كان هذا كلباً وهذا كلباً وهذا كلباً فلماذا تختلف؟ أحياناً تذهب الاختلافات إلى مدى قصي، وأحياناً تكون مُشتغِلة في مدى قريب، لكن ما منشأهاو ما مصدرها؟ كيف تنشأ هذه الاختلافات؟ هذا كان تحدياً كبيراً، وفي الحقيقة لم يُفلِح – كما سيأتي بُعيد قليل – تشارلز داروين Charles Darwin في الإجابة عنه، وطبعاً قدَّم اقتراحات – سنتلوها بُعيد قليل أو نشرحها – ولكنه فشل أن يُقدِم اقتراحاً علمياً مقبولاً عن من أين تنشأ هذه الاختلافات، في حين أن النظرية اللاماركية Lamarckism كانت تُقدِّم اقتراحاً شديد السهولة وشديد الهشاشة في الوقت ذاته، فتقول أن هذه الاختلافات تنتج من الاستعمال والإهمال، فالكائن يُضطَر في بيئته لكي يُحقِق التلاؤم والتكيف أن يستخدم أعضاء مُعينة مثلاً، كالزرافة طبعاً التي أصبحت 85fad-pres49-tifأيقونة – Icon – في اللاماركية Lamarckism، فأيقونة – Icon – اللاماركية Lamarckism هى الزرافة التي تُضطَر إلى أن تمد وتمط عنقها حتى تنال غذاءها الذي ارتفع قليلاً بسبب التغيرات في البيئة، وهكذا جيلاً وراء جيل وراء جيل وراء جيل سنرى أننا إزاء زرافات بأعناق طويلة، وطبعاً هناك نُقطة الضعف في هذا، لكن هذا معناه أن البيئة هى التي تستثير الكائن لكي يُعدِل من صفاته، فكيف يتم هذا؟ هذا بحد ذاته ليس عملية مُستحيلة أو عملية غير منطقية، فهذه عملية منطقية ومعقولة جداً بدليل أننا نُلاحِظ أن الذين يستخدمون عضلاتهم كثيراً مثل لاعبي كمال الأجسام – Bodybuilders – الذين يتدربون وعندهم عضلات ضخمة وصدور ضخمة وما إلى ذلك يحصل هذا لديهم بلا شك، لكن نُقطة الضعف هى أن هذه الأشياء المُكتسَبة لاتُورَث، فنحن لا نرى أبداً أن ابن الحداد مثلاً يُولَد ويكبر هكذا من غير تدريب بعضلات قوية مثل أبيه، فابن الحداد يُولَد مثل أي إنسان آخر ومثل ابن أي إنسان آخر، إذن الأشياء التي تُكتسَب بالمران والميراث والاستعمال لا تُورَث، لكن لامارك Lamarck افترض أنها تُورَث، وهذا أكبر نُقطة ضعف في اللاماركية Lamarckism، ومن سوء حظ داروين Darwin ونظريته لأنه فشل في أن يُقدِم بديلاً مُقنِعاً في الطبعة السادسة والأخيرة من أصل الأنواع وفي أخر حياته أيضاً أنه اضطَر أن يقبل بهذا الجزء من اللاماركية Lamarckism، وهذه رِدة عن نظريته إلى النظرية الضد، وعلى كل حال العمود الأول هو وجود التباينات بين أفراد النوع الواحد، أما ما هو مصدر هذه التباينات؟ فهذا شيئ آخر، هذا تحدٍ – كما قلت لكم – كبير لهذه النظرية، أما العمود الثاني – علماً بأنني قد أشرت إليه قُبيل كبير – هو إسراف الطبيعة في التكاثر أو إسراف الكائنات الحية في تكاثرها، فتشارلز داروين Charles Darwin يضرب في أصل الأنواع مثلاً لا يزال يُردِده العلماء بالإضافة إلى عشرات الأمثلة الأُخرى – تستطيع أن تقول وتستطيع أن تُجِمع ألوف الأمثلة ولا تنتهي هذه الأمثلة بعدد الأنواع – بأنثى الفيل، فالفيل يعيش في المُعدَل مائة سنة وتلد أنثاه ست مرات، أي ستة بطون كما نقول، وتشارلز داروين Charles Darwin حسبها بالورقة والقلم وقال “لو أن أنثى فيل واحدةً أنجبت في مائة سنة ستة فقط – وهى تُنجِب كذلك – وقُدِر لهؤلاء أن يعيشوا جميعهم وأن يتكاثروا ويتناسلوا – فالأصل أم واحدة أو أنثى واحدة فقط وليس عشرة أو مائة أو ألف، وإنما واحدة فقط وتركناها هكذا تتناسل – فإننا بعد سبعمائة وخمسين سنة سوف نجد أن أحفاد أحفاد أحفاد هذه الأنثى من أولادها الأولين بلغ تعدادهم تسعة عشر مليون فيلاً” أي تسعة عشر مليون من فيلة واحدة، لكن هل هذا يحصل؟ طبعاً لا يحصل، فالعلماء حسبوها ووجدوا أن عدد الفيلة في سنة ألف وخمسين تقريباً هو نفس عدد الفيلة سنة ألف وثمانمائة، أي بعد سبعمائة وخمسين سنة بحسب بعض الإثباتات العلمية كان نفس العدد تقريباً ولم يزدد عدد الفيلة، فلماذ إذن؟ سوف نفهم لماذا لأنه مُهِم جداً، وعلى كل حال هناك أمثلة كثيرة جداً طبعاً على هذه الأنواع، فنحن لو أخذنا أي نوع حتى ولو من المحار – Oysters – سنجد الأمر ذاته، فالمحارة الواحد تضع من البيض مائة مليون بيضة، وبالتالي لو افترضنا الآن أن هذه البيوض كلها قُدِر لها البقاء وبالتالي التكاثر بالمُعدِل نفسه فإن كل محارة سوف تضع مائة مليون بيضة وهكذا، فماذا سوف يحصل إذن؟ الذي سيحصل هو أننا سنحصل بعد أحفاد أحفاد أحفاد – أي ثلاثة أجيال فقط – المحارة الأولى على عدد من المحار يُساوي ستة وستين وعن يمينها يُوجَد ثلاثة وثلاثون صفراً، أي سنحصل على ستة وستين مليار تريليون تريليون محارة، وهذا شيئ لا يكاد يُصدَق، فهذا عدد مهول ومُخيف، وهذا العدد – ستة وستون مليار تريليون تريليون محارة Oysters، فالمليار يُساوي عشرة أس تسعة، وذلك لأن اثنا عشر زائد اثنا عشر يُساوي أربعة وعشرين، والأربعة والعشرون زائد تسعة تُساوي ثلاثة وثلاثين – الذي ذكرته الآن كافٍ أن يُغطي الأرض ثماني مرات أو هو كما عبر بعضهم بحجم الأرض نفسها ثماني مرات، فالأرض كلها لا تتسع لأحفاد هذه المحارة الواحدة، وهذا شيئ مُخيف، فلماذا يحصل هذا؟ لماذا تتكاثر هذه الكائنات بإسراف؟ وحتى البشر يتكاثرون بإسراف، فلولا الأمراض والحروب والأوبئة وما إلى ذلك لربما تضيق عنهم الأرض، وطبعاً نفس الشيئ ينطبق على الأسماك، فسمكة السلمون Salmon – مثلاً – تضع ثمانية وعشرين مليون بيضة في المُوسِم، علماً بأنك تستطيع أن تحسبها طبعاً وسوف تجد نفس الشيئ سيحصل بعد كذا وكذا جيل.

ذبابة دروسوفيلا Drosophila
ذبابة دروسوفيلا Drosophila

دودة الاسكارس Ascaris هى دودة طفيلية مشهورة تضع سبعين ألف بيضة في كل أربع وعشرين ساعة، ولك أن تتخيَّل كيف تتكاثر هذه الدودة، ولذلك ذبابة الفاكهة Fruit Fly أو الدروسوفيلا Drosophila – إسمها العلمي دروسوفيلا Drosophila أو Fruit Fly – دورة حياتها مثل سائر الذباب تقريباً حوالي أسبوعين، أي من اثني عشر يوم إلى أربعة عشر يوم – فالذباب عموماً هكذا يعيش حوالي أسبوعين – لكن أنثى الدروسوفيلا Drosophila تضع حوالي مائتين مليون بيضة، فبعد سنة واحدة فقط ناتج ذبابة دروسوفيلا Drosophila واحدة سوف يُغطي الكرة الأرضية كلها، وهناك كائن طفيلي صغير إسمه براميسيوم Paramecium، هذا الكائن طوله ربع ملليمتر – أي واحد على أربعين من السنتيمتر – لأنه دقيق جداً، وهو كائن مجهري تقريباً لكنه ينقسم في السنة ستمائة مرة، وبعد بضعة أشهر الناتج عن هذه الانقسامات كلها أيضاً سوف يُغطي وجه الأرض ولن يكون هناك أي مكان لأي كائن آخر بسبب هذا الذي طوله ربع ملليمتر!
العالم الأمريكي دولسن Dolson عمل حساب على نجوم البحر- Starfishes – في مكان محدود – في جزء من الشاطئ الباسيفيكي Pacific شمال سان فرانسيسكو San Francisco – مُحدَّد، فقال لو افترضنا أن ذُرية نجوم البحر في هذا المكان الضئيل جداً ستبقى وتتكاثر وستكون نسبة بقائها دائماً مائة في المائة ولن يهلك منها شيئ فأنه بعد خمسة عشر جيلاً سيزيد عدد نجوم البحر هذه في هذه الرُقعة البسيطة جداً عن عشرة أس تسعة وسبعين، وطبعاً جيل نجمة البحر عمره سنتان، وهذا العمر يُعَد طويلاً وليس قصيراً، فهو ليس بالأيام أو بالأسابيع، إنما هو سنتان، فبعد خمسة عشر جيلاً – هذا يُساوي بعد ثلاثين سنة – سيزيد عدد نجوم البحر هذه في هذه الرُقعة البسيطة جداً عن عشرة أس تسعة وسبعين، أيعشرة مرفوعة للقوة تسعة وسبعين، وتقريباً عشرة أس تسعة وسبعين هو عدد الإلكترونات – Electrons – في الكون، وعشرة أس تسعة وسبعين رقم مُخيف جداّ وهائل جداً وهو أكثر مما يتخيل الإنسان، لكن بحمد الله نحن نرى أن هذا الكوكب الأزرق الجميل يتسع لكل هذه الأنواع دون أن يطغى نوعٌ على نوع، فلماذا إذن؟ إذن هذا هو العمود الثالث للنظرية، فنحن سنأتي الآن إلى العمود الثالث، وطبعاً السبب – كما شرحت قُبيل قليل – هو الصراع على البقاء والصراع على الوجود، فإذن هناك صراع – Struggle – طبعاً، وهذا الصراع بحسب نظرية تشارلز داروين Charles Darwin أنواع، فأولاً منه ما يكون صراعاً بين أفراد النوع الواحد، لأن طبعاً في النوع الواحد يتصارعون على الموارد وعلى الغذاء وعلى المأوى وعلى أماكن التكاثر وعلى الشراب، فهذه كلها أشياء يتم الصراع عليها، وثانياً يُوجَد صراع يتم بين أفراد الأنواع المُختلِفة، وهذا أمر طبيعي وأكيد، وثالثاً يُوجَد صراع يتم مع البيئة ومع الطبيعة، فالكل يتصارع أيضاً مع الطبيعة، لكن من المُهِم أن نُشير وأن نلفِت – لأن هذا مما يُوجِب دائماً سوء الفهم للنظرية وقد قلته غير مرة – أن هذه النظرية على بساطتها ووضوحها وعبقريتها أيضاً – في الحقيقة هى فعلاً نظرية عبقرية بل هى من أكثر النظريات عبقرية على الإطلاق، وأعتقد أنه سوف يضح لكم عبقرية هذه النظرية كلما تقدمنا إلى الأمام في شرحها وشرح طريقة عملها وشرح مُؤيِداتها، فهى شيئ غريب – نظن أن هذا الصراع لابد أن يكون دائماً صراعاً عنيفاً دامياً، فيكون ناباً ومِخلباً أو أي أداة من أدوات الدفاع والتسلح، وهذا ليس بالضرورة أن يحدث، فمفهوم الصراع في نظرية التطور أوسع من هذا بكثير وأشمل، لكن كيف هذا؟ في بيئة – مثلاً – أُصيبَت بالجفاف وتراجعت الموراد الغذائية فيها من الطبيعي جداً أن نتحدث عن كلبين يتصارعان على الغذاء، فهذا صراع إذن، وهو صراع بين فردين من نوعٍ واحد، كما مثلاً يتصارع كلبٌ مع ضبع – Hyena – على الغذاء مثلاً، أو كلبٌ مع ابن آوى مثلاً وإلى آخره، فهذا الصراع طبيعي جداً، ولكن ليس هو الصورة الوحيدة للصراع، فلو أن هناك شجرة مُنتصِبة على طرف صحراء وأصابها أيضاً نقص في الغذاء الذي تستمده فإنه يُقال باللغة التطورية إنها تُصارِع، فهذه الشجرة الواحدة التي تقف وحدها تُصارِع لأجل البقاء، أي لأجل أن تبقى، وفي الغابات المطيرة وغير المطيرة كل الأشجار في حالة تصارع، ويُمكِن أن ترى هذا بالعين، لكن كيف؟ الأشجار أكثر شيئ حيوي بالنسبة إليها هو ضوء الشمس لكي تُنجِز عملية التمثيل الضوئي، لكن حين تكون هناك غابات – الغابات في الأسفل لا يصل من ضوء الشمس إلا الأقل لكثافتها واشتجارها – يتم صراع مُستمِر بين هذه الأشجار، وكان العلماء يتساءلون لماذا تُهدِر هذه الأشجار طاقتها في الاستطالة بغير فائدة؟ وهذا غير صحيح، فهذه الاستطالة مُفيدة جداً جداً، لكن العلماء كانوا يتخيلون هذا كانوا يقولون كان الأولى لهذه الأشجار بدل أن تذهب عالياً إلى السماء لمسافة عشرين أو ثلاثين أو أربعين متراً أن تُنفِق هذه المواد في الأوراق والفروع، فلماذا تُنفِقها في هذه الساق العظيمة، ولكنها تفعل هذا لإنها تُريد أن تنال حظاً أوفر من ضوء الشمس، وتتسابق معها جارتها الثانية والثالثة والرابعة وهكذا على هذا دائماً، فهناك سباق مُستمِر، والذي يصل إلى الكشاف وإلى السماء وجو السماء هو الذي سوف يفوز، فهذا صراع إذن، ولكنه ليس بالناب والظفر، فهو ليس صراعاً دامياً أو أحمر قانياً أبداً، ولكنه صراع طبعاً،
وذاك صراع شجرة في طرف الصحراء مع البيئة ومع الموارد، وهو صراع أيضاً، فالصراع في النظرية التطورية أوسع بكثير من أن يكون فقط صراعاً عنيفاً مُباشِرةً تنتج عنه أو تنجم عنه ضحايا دائماً مُدمَاة، فالصراع أكبر من هذا بكثير، ولكن نأتي الآن لنتساءل حين يتم هذا الصراع عن ماذا يتمخض؟ نحن قلنا بوجود صراع من أجل البقاء وصراع من أجل الوجود – Struggle For Existence – لكن الآن سيأتي جوهر النظرية ولُب النظرية وهو الانتخاب الطبيعي Natural Selection، فالانتخاب الطبيعي ينتقي وينتخب ويُفوِّز – أي يُعطي الفوز والجائزة – الأصلح، وبذلك نكون قد دخلنا في مفهوم الصلوحية أو اللياقة Fitness، فالـ Fitness هى اللياقة أو الصلوحية، والـ Fittest هو الأصلح، ولذا يُقال لك Survival Of The Fittest، أي بقاء الأصلح أو البقاء للأصلح، فالذي يعيش ويمتد ويستمر هو الأصلح، ولكن أيضاً هذا من مواطن الاشتباه والخطأ وسوء الفهم الذي يتكرر باستمرار إلى اليوم في فهم النظرية، فهناك مَن يقول لك “داروين Darwin هو الذي أسس للفاشية والنازية بل وهو الذي أسَّس حتى الأفكار النيتشوية – نسبة إلى نيتشهNietzsche – لأنه قال البقاء للأقوى” وهذا غير صحيح، فلم يقل مرة داروين Darwin البقاء للأقوى، بل بالعكس هذا يُدمِّر نظريته أصلاً، فسوف تُصبِح نظريته نظرية ساذجة ومُفرَّغة وسخيفة، ولذا لم يقل هذا أبداً وإنما قال البقاء للأصلح، والأصلح هنا – كما قلت لكم من الصلوحية ومن كلمة Fitness – المقصود به مثل صلوحية المفتاح للقفل أو صلوحية قطعة البازل Puzzle – مثلاً – لمكانها حتى تكتمل الصورة المُجزأة، فهذه الصلوحية إذن، فمثلاً لو افترضنا أن لدينا قفلاً وأن لدي مفتاحاً كبيراً من الفولاز وهو مُفتاح ضخم وقوي وكلَّف مبلغاً من المال لشرائه لكنه غير صالح لأنه لا يفتح هذا القفل، في حين أن لديك مفتاحاً صغيراً بسيطاً من الألومنيوم مثلاً أو من الحديد القابل للصدأ لكنه يفتحه، فأي المفتاحين أصلح؟ مفتاحك طبعاً، وهذا هو معنى الصلوحية، فليس المقصود هو الأقوى والأشرس وإنما الأصلح، وإلا فالديناصور Dinosaur هو الأقوى، وبمعيارية الأقوى كان هو أقوى من الثدييات الصغيرة، ولكن الثدييات الصغيرة بقيت والديناصور Dinosaur هلك وانتهى، بصرف النظر عن سبب هلاكه وعن ما هى الكارثة، سواء كارثة بيئية أو كارثة خرجية، فبغض النظر عن كل هذا الديناصورDinosaur لم يبق في نهاية المطاف، وكذاك المَامُوث Mammoth سيفي الأنياب لم يبق، وهذا ما حصل مع كائنات قوية كثيرة، ومن هنا تسعة وتسعون في المائة من الأنواع – كما قلت لكم – التي شهدتها الأرض قد انقرضت، والآن طبعاً نحن نعيش في عصر لم يمر تقريباً على الأرض نسبة انقراض كالتي تشهدها البيئة الآن للأسف، وهذا بفعل الإنسان وبفعل مدنية وحضارة الإنسان، فمن هنا إلى تقريباً ألفين وخمسين سيكون قريب من الخمسة وأربعين في المائة من الأنواع الموجودة حالياً قد انقرضت، وهذا شيئ خطير جداً جداً، فالذي يحصل من انقراض يُعَد شيئاً مُخيفاً ومُرعِباً، وطبعاً قيل أن حتى الإنسان يبدو أنه سينقرض في نهاية المطاف، فهو ليس استثناءً، والانقراضهو مصير مُعظم الأنواع على وجه هذه المعمورة.

إذن هذا معنى الأصلح ومعنى الأكثر لياقةً – علماً بأننا سوف نفسِّرها الآن بتفسير أبسط وأعمق قليلاً أيضاً – والأكثر صلوحية، فالتطور لا يعني بقاء الأقوى، والتطور لا ينبغي أيضاً أن يكون خطياً ونحو الأرقى دائماً، فمن المُمكِن حتى أن يكون تدهوراً، فيحدث تطور ويحدث نوع من اختزال بعض الأعضاء ونوع من التدهور في بعض الأشياء حتى يتحقق التواؤم والتكيف مع البيئة، إذن التطور ليس دائماً خطية، كما أنه لا يسير بسرعة واحدة، وهو ليس بقاء الأقوى بالمرة، هذا خطأ وسوء فهم على نظرية داروين Darwin ينبغي أن نتنبه إليه، لكن كيف نقول ونُفسِّر مقولة البقاء الأصلح؟ فما هو تعريف البقاء للأصلح بالضبط؟

من الصعب وضع تعريف يجتمع عليه مُنظِرّو هذه النظرية ويجتمع عليه كل العلماء، لأن كثيراً من الكتب وبعضها حتى كتب مدرسية – أي كتب جامعية دراسية Textbox – تدخل في تعريف دائري، فهذا تعريف خاطئ تماماً، والمخرج من هذا ما انتهى إليه بعض المُحقِقين والمُدقِقين في فهم هذه النظرية، حيث قالوا أن البقاء للأصلح أو الفرد الأصلح هو الذي يكون له ميزة بقاء تفاضلي – Differential Survival – فيهلك غيره ويبقى هو، لكن كيف هذا؟ حيث يُترجَم هذا الأصلح أو تُترجَم هذه الصلوحية في شكل البقاء التفاضلي ولكن لا تُعرَّف به، فلا ينبغي أن تأتي وتقول أن البقاء للأصلح هو أو يُساوي أو يتحدد بالبقاء التفاضلي، فهذا غلط، ولكنه يُترجَم بالبقاء التفاضلي، وهذا فعله العلماء هرباً من التعريف الدائري، لأنها مسألة مُعقَدة جداً ومُركَبة، لكن باختصار حتى لا نُعقِد المسألة نقول أن هذا هو المقصود من الصلوحية، فالمقصود من الصلوحية أن تكون المُلاءمة أكثر وأن يكون التكيف أكثر مع البيئة وتحدياتها وشروطها وظروفها، فيُتاح لهذا الأكثر تكيفاً وتلاؤماً أن يستمر وأن يتكاثر ويمتد، حيث يهلك ويُقصى أو يُستبعَد الذي لم يتوافر على شروط تكيفية مُماثِلة لأنه لم يقدر على البقاء، فالذي عنده شروط أقل سوف يُستبعَد فقط، وهذا هو الذي يحصل في الحقيقة، وهذا يحصل – كما أشرنا قُبيل قليل – حتى مع الحيوانات الداجنة، وهو يحصل أيضاً في المجتمع البشري، وللتبسيط سوف نفترض أن كارثة ما وقعت في مكان، كأن نفترض أن حريقاً وقع في غابة مثلاً، والآن فرصة النجاة لا تتحدد أبداً بالضخامة أو بالرشاقة أو بالجمال أو بقوة الأسنان وقوة أسلحة الدفاع، وإنما بقوة الركض، أي الذي سوف يكون أسرع سوف ينجو، فإذن الأصلح في ظل هذا الشرط الجديد الكارثي هو الأكثر سرعةً، فالأسرع سينجو طبعاً، تماماً مثل جماعة على قارب أو متن سفينة وانكسرت بهم هذه السفينة وغرقت بهم، ومن ثم الآن الشرط أو الصلوحية سوف تتحدد بمعرفة السباحة، فالذي يُحسِن السباحة سيكون هو الأصلح الآن، وقد لا يكون الأصلح دينياً وقد يكون الأفجر – قد يكون سُكرجياً وخمورجياً ومُلحِداً – ولكنه يُحسِن السباحة، وهناك آخر أصلح دينياً – تقي وعابد وزاهد وحافظ لكتاب الله وللأحاديث – لكنه لا يُحسِن السباحة، ومن ثم سوف ينجو هذا وسوف يموت ذاك، تماماً كما سُئل مرةً أحد العارفين بالله – وكان عارفاً بالله حقاً – عن فاجر وصالح انكسر بهما قارب، أيهما سوف ينجو؟ فقال الذي يُحسِن السباحة، فهذا العارف بالله كان منطقياً جداً، فهو لا يتحدَّث إلا عن القاعدة، وهذه هى القاعدة، لكن إذا حصل استثناء بكرامة أو معجزة إلهية فهذا شيئ آخر، لكن عموماً القاعدة هى أن

محمد رشيد رضا
محمد رشيد رضا

الذي يُحسِن السباحة سوف ينجو، ومن هنا نزع بعض العلماء حتى من علماء التفسير المُسلمين وخاصة المُعاصِرين مثل رشيد رضا وغيره إلى أن الصلوحية المذكورة في قوله تبارك وتعالى وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ۩ هى الصلوحية العمرانية، فهذه الأرض خلقها الله وهيأها لكي تُستعمَر، فأحد أهداف ومقاصد وغايات الاستخلاف هو الاستعمار لأن الله يقول هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ۩، فالأقدر على استعمار الأرض واستخراج طاقاتها وذخائرها في البر والبحر والجو هم الذين يرثون هذه الأرض، وهذا تفسير جميل ومعقول جداً، فهذا معنى سُنني ومعنى عمراني وحضاري للصلوحية، لأن قطعاً لا تتعلَّق الصلوحية بالذي يُصلي أكثر أو الذي يتعبد أكثر أو الذي يذكر أكثر وهو تارك الدُنيا كما هى دون أن يدرسها ودون أن يستخدِمها، فهذا لا يُمكِن أن يحصل، فإذن هذا هو معنى الصلوحية ومعنى بقاء الأصلح على كل حال.

أعتقد أننا بهذا العرض المُبسَط المُقتضَب جداً للعمد أو الأعمدة الثلاثة لنظرية داروين Darwin كما عرضها جوليان هكسلي Julian Huxley ومن والاه بعد ذلك نكون قد مهدنا للجواب عن الأسئلة التي طرحناها في الحلقات السابقة وغير مرة، لكن كيف يُمكِن لهذه النظرية إذن بهذه المبادئ الثلاثة أن تُجيب عن الأسئلة التي لفتت وحيرت تشارلز داروين Charles Darwin سنين عدداً؟ وهل يُمكِن هذا أصلاً؟ يُمكِن وبسهولة، وهذا ما سنراه شيئاً فشيئاً بإذن الله تبارك وتعالى.

أولاً بهذه المبادئ الثلاثة استطاع داروين Darwin أن يُفسِّر خلو مناطق على سطح الأرض تصلح لمعيشة أو عيش أنواع عديدة من الحيوانات إلا إنها في الواقع تخلو منها تماماً، لأن نظرية الخلق المُستقِل أو الخلق الخاص – Special Creation – لا تُفسِّر هذا، لأن بعيد جداً من الحكمة الإلهية أن الله – تبارك وتعالى – يُخلِق بيئات ويُهيئها لعيش أو معيشة حيوانات مُعينة – أي أنواع حية مُعينة – ثم لا يحشر إليها ولا يخلق فيها أياً من هذه الحيوانات، فهذا لا يُفسِره القول بالخلق الخاص لكن نظرية التطور يُمكِن أن تُفسِّره، وكذلك الحال مع سؤال لماذا اختلفت حيوانات القارة الأفريقية عن حيوانات قارة أمريكا اللاتينية أو الجنوبية رغم أن المناخ كان واحداً وهو المُناخ المداري – Tropical – ورغم المُشابَهة في الشروط البيئية والمُناخية؟ فكما قلت في الحلقة السابقة أو في حلقةٍ سابقة أن نظرية الخلق الخاص لا تُفسِّر هذا، وذلك لأن كل المُتكلِمين واللاهوتيين عبر العصور يرون أن من مُقتضى حكمة الله التسوية بين المُتماثِلين والتفرقة بين المُتخالِفين والعكس لا يكون، فالله خلق هذه البيئة وخلق على النحو نفسه هذه البيئة فإذن من المُفترَض أن تقتضي الحكمة أن يحشر في هذه من الحيوانات مثل ما يحشر في هذه تماماً، لكن الحاصل هو الوضع المُختلِف تماماً، فهناك بيئتان مُتشابِهتان من أكثر من وجه ومع ذلك الحيوانات مُختلِفة، لكن كيف فسَّر داروين Darwin هذا؟ فسَّره استناداً إلى مبدأ الانعزال أو مبدأ الانفصال Isolation، فهذه البيئة مُنعزِلة عن هذه بلا شك بالمُحيط الأطلسي – بحر الظلمات – الذي يُمثِّل حاجزاً فيزيقياً، فهذا حاجز طبيعي كبير جداً وبالتالي من الصعب اختراقه، ومن هنا يقول داروين Darwin يقول “الحيوانات أو العشائر – العشيرة Population هو مُصطلَح في علم الأحياء، فمن المُهِم أن نعرف ما المقصود بالعشيرة لكي نستطيع أن نفهم حين نقرأ الكتب المتخصِصة، وهذا المُصطلَح المقصود به جماعة من أفراد نوع ما يتم عزلهم في بيئة ما، فعندما نأخذ أي نوع من أنواع الحيوانات ونأخذ عدداً منه قد يصل إلى ألف أو ألفين أو عشرة آلاف ونضعهم في مكان مُعين معزول مفصول هذا يُسمى عشيرة Population، وهناك مَن يقول التجمع السكاني لكن كلمة عشيرة أحسن لأنها مُصطلَح حيوي – حين تُوضَع في بيئات مُتشابِهة وشروط مُتشابِهة ولكنها معزولة فإنها حسبما ذكرت في نظريتي تُظهِر وتُعرِب عن وتُكشِف عن تكيفات واستجابات مُختلِفة، لكن هنا استجابات على نحو ما وهنا استجابات أخرى – أي استجابات أخري – وكأن المسألة غير مُصمَمة أصلاً، فلو الحيوان مخلوق لكي يذهب دائماً إلى غاية مُعينة ويستجيب على نحو مُقدَر أو مُصمّم بغض النظر تضعه هنا أو هنا أو هناك فإنه سيستجيب بنفس الطريقة، ولكن المسألة ليست هكذا، فالاستجابة تكون كيفما اتفق له، أي بالصدفة وبالاعتباط، فهناك حيوانات استجابت للبيئة بطريقة مُعينة وبعد مئات ألوف وعشرات ألوف الأجيال انتهت إلى أن اكتست صفات مُعينة واتسمت بسمات Traits مُحدَّدة كما يُقال باللغة الوراثية، في حين أن نفس الحيوانات التي في الأصل كانت تُشبهها لأنها من نفس الأصل ومن نفس النوع انتهت عبر الاستجابة المُختلِفة إلى أن أصبحت أنواعاً أخرى، ومن هنا هذا هو الانتواع Speciation، فالانتواع هو تطور نوع إلى نوع وخروج نوع من نوع”، وطبعاً إن شاء الله في وقته وفي إبانه سوف أشرح لكم أنماط الانتواع، فهناك تقريباً أربعة أو خمسة أنماط لكن نحن نحتاج فقط أن نفهم النمطين الرئيسين منه، أي الانتواع الذي يكون مع الاختلاف في المكان من خلال انفصال جغرافي حقيقي Allopatric Speciation، والانتواع الذي يكون أحياناً في نفس المكان ولكن لا يكون الانفصال فيه جغرافياً وليس بحواجز فيزيقية Sympatric Speciation، فسوف نشرح هذا وذاك ولكن كل شيئ سيكون في وقته.

للأسف أدركنا الوقت، إلى أن ألقاكم في حلقةٍ مُقبِلة أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

(تمت المُحاضَرة بحمد الله)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: