إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ۩ وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ۩ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ۩ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:

السابقون الأولون من المُهاجِرين والانصار وعدهم الله – تبارك وتعالى – وعداً عظيماً مُبارَكاً طائلاً وتوَّجهم وحلَّاهم بأعظم حلية وقلَّدهم أرفع النياشين والأوسمة، رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۩، وحقاً هذا هو الفوز العظيم، أما الذين عقَّبوهم وأتوا من بعدهم – ليسوا من السابقين الأولين من المُهاجِرين والأنصار وإنما من الذين عقَّبوهم وأتوا من بعدهم – سماهم القرآن الكريم التابعين، فهؤلاء هم التابعون، ليسوا التابعين بالاصطلاح العلمي الذين لم يروا الرسول وإنما رآوا الصحابة، كلا هؤلاء أيضاً رآوا الرسول ولكنهم ليسوا من السابقين الأولين من المُهاجِرين والأنصار وإنما أتوا من بعدهم وفي أرجح الأقوال أنهم هم الذين أتوا بعد الحديبية، فكل مَن أسلم بعد الحديبية هو من التابعين، لماذا؟ لما صح عنه وثبت عليه الصلاة وأفضل السلام أنه لا هجرة بعد الفتح، فإذن انقطعت الهجرة – وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ ۩– لأنها انتهت الآن، وأما الأنصار فهم أهل المدينة، فمَن الذين سبقوا منهم لأن القرآن يتحدَّث عن السابقين أيضاً منهم؟ أما مَن جاءوا من بعد الحديبية فهؤلاء ليسوا من السابقين من المُهاجِرين والأنصار إنما هم من التابعين بنص كتاب الله تبارك وتعالى، وهذا هو أرجح أقوال أهلم العلم والتفسير في حدِ ما بين هؤلاء وهؤلاء، لأن الأرجح أن المُراد بالفتح ليس فتح مكة إنما فتح الحديبية كما في حديث البراء بن عازب في صحيح البخاري وهذا أقوى أقوال أهل التفسير كما قال أئمة التفسير أنفسهم، رحم الله الجميع.

التابعون قيَّد الله – تبارك وتعالى – الوعد في حقهم، يُمكِن أن يكون المرء من التابعين مِمَن رأى رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – ولكن لكي يكون مشمولاً بهذا الوعد الإلهي العظيم الباذخ لابد أن يكون من التابعين بإحسان، هذا الشرط لم يذكره الله في حق السابقين الأولين من المُهاجِرين والأنصار، لماذا؟ شفع لهم سبقهم بالإسلام والإيمان والهجرة والنُصرة والإيواء إلا ما استُثنيَ من المُنافِقين، فعبد الله بن أُبي من رؤوس المُنافِقين وشهد الحديبية وشهد بعض المشاهد قبلها ولكن هذا مُستثنىً والعياذ بالله – تبارك وتعالى – من حاله وحال أمثاله، أما الذين أتوا بالأثر أو أتوا على الأثر لا يكون أحدهم مشمولاً بالوعد الإلهي حتى يكون مُتبِعاً بإحسان، ومن مُقتضيات هذا الإحسان أن يُحسِّن الظن ويُعظِّم الولاء والحب لإخوانه الذين سبقوه بالإيمان كما في سورة الحشر حيث تحدَّث الله عن المُهاجِرين وتحدَّث الله في الحشر عن الذين آووا وآثروا على أنفسهم وبهم الخصاصة ثم تحدَّث عن التابعين والذين جاءوا من بعدهم هم هؤلاء التابعون منهم مَن اتبع بإحسان ومنهم مَن لم يُحسِن الاتباع مِمَن أساء الظن بالأولين وعدى عليهم وظلمهم وسبهم ولعنهم وتنكَّر لهم، فهذا من التابعين ورأى الرسول ولكن لن ينفعه ذلكم شيئاً لأنه لم يتبع بإحسان ولم يُحسِن إلى مَن سبقه بالإيمان، هذا هو المنطق القرآني، وعلى كل حال ليس هذا موضوع حُطبة اليوم مع أنه موضوعٌ حقيقٌ بالدرس والتحقيق وتطويل النفس في تقرير حقائقه، فموضوع خُطبتي اليوم عن أحد هؤلاء السابقين من المُهاجِرين، أحد الأعاظم النُجباء وأحد الأصحاب الأوفياء الذين ظلوا مُعتصِمين بعروة الاقتداء بسيد المُرسَلين صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، إنه رجلٌ نسيج وحده بشهادةِ الرسول عليه الصلاة وأفضل السلام، من الصعب أن تجد له ضريباً أو ضريعاً أو مثيلاً، إنه رجلٌ مشى حياته في طريقٍ مُتوحِّداً فيها إلا من قليلين، طريق مُوحِشة لا أنيس فيها، إنها طريق الحق ومُلازَمة الحق المُر، ودفع أثماناً باهظة وضرائب طائلة ولم يُثنه ذلك، لم تنفع فيه لا ترغيبة ولم تُثنه عن ما هو بسبيله ترهيبة، وبقيَ على ما هو عليه حتى لقيَ الله واجتمع بحبيبه صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، إنه جُندب بن جُنادة أبو ذر الغفاري رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه.

وعجبتُ لمَن يُترّجِم لأصحاب رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً – فيجعل أبا ذر بعد المرتبة الستين أو السبعين مع أنه رابع أربعة أو خامس خمسة – كان الخامس في الإسلام – في الإسلام، وهذا أمر عجيب، فقد أسلم هكذا مُبكِّراً على أنه ليس قرشياً وليس من أهل مكة، لكن لماذا يا تُرى؟ أبو ذر الغفاري من تلكم القبيلة المهيبة الباطشة من حلفاء الشر وأهل الليل والظلام الذين يسطون على القوافل إن لم تُؤد ما عليها من فريضةٍ وضريبة أو أدّت ما لا يُرضي، إنهم قومٌ أولوا بأسٍ شديد، من قطّاع الطريق في وادي ودان الذي يصل مكةَ – شرَّفها الله وصانها وحرسها – بالعالم الخارجي، فهناك يقبعون بهذه القبيلة الأيّدة القوية مهيبة الجانب، وأبو ذر كان علماً من أعلامهم، وهو رجلٌ جسيم كث اللحيةن خشن الثوب وأخشن الوجه وأخشن الجسم، فارس يُشكِّل وحده غارةً، تنقطع له قلوب الفرسان على أنه رجلاٌ مُتألِّهٌ ومُتربِّب، وكان ثائراً على الأصنام وعلى عُبَّادها فلا يراها إلا صوراً من صور الزيف ولوناً من ألوان الأباطيل، حجارة مُكوَّمةً وأخشابا مُنضَّبةً عمر عابديها أطول من أعمارها وميلادهم قبل ميلادها، فلماذا تُعبَد؟ ولماذا تعنو لها الأجبهة والجبين؟ ومن ثم كان كافراً بها، فلا يفتأ يسخر منها ولم يعن لها مرةً، وكان يطلب الله – تبارك وتعالى – مُوقِناً بأن الخالق المُدبِّر العليم الحكيم لابد أن يكون خالقاً مُتفرِّداً بالوحدانية – لا إله إلا هو – ولابد أن يكون رباً واحداً وإلهاً معبوداً لا شريك له ولا معه، فلما تنامى إلى سمعه وتناهى شيئٌ من نثرات الأخبار أن رجلاً يُدعى محمد بن عبد الله خرج بمكة يدعو إلى دينٍ جديد بعث أخاه أنيساً وقال له اذهب واستطلع لي خبر هذا النبي المبعوث في العرب في مكة، فذهب أنيس وغاب غير طويل ثم عاد فقال له ماذا وجدت؟ قال وجدت رجلاً يدعو إلى الخير وينهى عن الشر، قال ما شفيتني،هذا هو؟ قال فأخذت جرابي وعصاي – هكذا أبو ذر مُتقلِّل زاهد – ونزلت مكة – وهذا في أول أيام الإسلام، فلقد كان الخامس وفي بعض الروايات الرابع لكن على كل حال هذا في أول أيام الإسلام، وهذا شيئٌ عجيب، فقد قاده بحثه المُضني عن رب العزة والجلال سبحانه وتعالى إلى أن يكون من المُبادِرين المُسرِعين، وشاءت له العناية الإلهية أن يكون في الرعيل الأولين من السابقين، فرضيَ الله تعالى عنه وأرضاه إذن نحن في العهد السري، والرسول لا يستعلن بل يستكتم ويستخفي هو وأصحابه ويجتمعون حين يجتمعون في دار الأرقم – لست أسأل عنه وأُحاذِر من كل أحد، ومكث أياماً هناك، وفي بعض الروايات ثلاثون يوماً وليلة، ليس له طعام إلا زمزم، فقط يشرب من زمزم ويطوف بالبيت ويترصَّد ويترقَّب وينظر – لأنه لا يعرف محمداً، يسمع عنه ولا يعرفه – لعله يلقاه، فلم يلقه ولم يتفق له، ورآه الإمام عليّ – عليه السلام – الشاب – هو أول مَن أسلم من الصغار على الأقل – فقال الرجل غريب؟فقال أبو ذر نعم، قال هلم إلى المنزل، فالإمام عليّ فتى ولكن فيه رجولة، هذا الهاشمي ربيب محمد – عليه الصلاة وأفضل السلام – فيه رجولة وثقة بالنفس وكرم وأريحية، فمُباشَرةً ضافه عنده وقال له هلم إلى المنزل، والرجل مكث مُدةً مُتمادية لم يضفه أحد لكن عليّ أول ما رآه قال له هلم إلى المنزل، قال فاتبعته لا يسألني ولست أُخبِره، فهو لا يعرف مَن هو هذا، وكرم العربي يأبى عليه أن يسأل ضيفة مَن أنت؟ولم؟ وفيم؟ ولذا لم يسأله، ثم قراه – قدم له قرى الضيف وأكرمه – بعد ذلك، فلما أصبح الصباح انطلق أبو ذر مُباشَرةً إلى البيت يطوف ويترقَّب لعله يرى محمداً أو لعله يسمع إسمه، فهو له بالأشواق، تحنان غامر يدفعه وشوقٌ لاهب، حتى إذا أبت الشمس وغابت رآه عليٌّ مرةً أخرى فقال لم تجد ما تُريد، أما آن للغريبِ أن يتعرَّف منزله؟ قال لا، فقال هلم إلى المنزل، فضافه الليلة الثانية ولم يسأله عليّ ولم يُخبِره أبو ذر، وهكذا فعلا في صباح اليوم الثالث حتى إذا غابت الشمس وغربت قال له عليّ عليه السلام أما آن للغريب أن يتعرَّف منزله؟ فيما أنت؟ قال إن أخبرتك تكتم علىّ؟ قال نعم، أي أنه سوف يقول له سراً، فقال سمعت برجل يُقال له محمد بن عبد الله خرج نبياً، قال قد رشدت يا رجل، فوجهتي إليه – عليّ يقول أنا كنت قاصداً إليه، أي أنا الآن ذاهب إلى محمد – فهلم معي، اتبعني فإن أحسست بشيئ ملت إلى الحائط كأني أُصلِح نعلي وامض أنت، وذلك بسبب الخوف من عُتاة سدنة الشرك والكفر أن يسطو بهما، فمضى به حتى أدخله على رسول الله، فلما دخل قال السلام عليك، فكان أول مَن حيا بتحية الإسلام أبو ذر، فهذه من أوائله إذن، لأن أول مَن طرح هذه التحية هو أبو ذر الغفاري حين قال للنبي السلام عليك، فرد النبي المُجتبى وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، ثم قال أسمعني يا محمد، فتلا عليه شيئاً من القرآن العظيم الكريم، فأعلن بإسلامه من فوره وسعته قائلاً أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبد الله ورسوله، مُباشَرةً فعل هذا لأن الفطرة سليمة والشخصية قويمة تتعشّق الحق وتتماهى به ومعه، ثم قال ما تأمرني يا رسول الله؟ قال :ارجع إلى قومك وبلاد أهلك وكُن هناك حتى يبلغك ظهوري – وفي رواية أمري، فالنبي لم يكن يعلم أنه سيُهاجِر بعد حين طويل، ولكن قال له كُن هناك حتى يبلغك ظهوري أو إن ظهر أمري – واستتب فائتني ثانيةً، فلحكمة عجيبة سيَّره النبي مُباشَرةً إلى أهله، لكنه قال لا يا رسول الله، لا والذي نفسي بيده حتى أصرخ بها بين ظهرانيهم، فليس أبا ذر مَن يتكتّم على دعوة الحق، أنا أبو ذر الرجل الجسور الشجاع الجيّاش الصدوق المُستقِل الشخصية، فقال أنا لا أستكتم، وقبل أن أُغادِر إلى أهلي لابد أن أصرخ بكلمة التوحيد بين ظهراني هؤلاء المُشرِكين، فجاء المسجد من تاليه ووقف وقال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قال فضربوني لأموت، أي ضرب موت، مُباشَرةً تكعكوا عليه واجتمعوا وجعلوا يضربونه ضرباً مُبرِّحاً، ضرب موتٍ وهو لا ينثني ويُردِّد شهادة التوحيد، فرآهم العباس وتعرَّف إليه، وهم لا يعرفون هذا الغريب، مَن هو ومِن أين ولم؟ فقال لهم ويحكم يا معشر قريش، هذا جُندب بن جُنادة من غفار، ومتجركم وممركم عليهم، يقطون عليكم قوافلكم، فتركوه – خافوا فتركوه – حين إذ، ولم يُغادِر أبو ذر وبقيَ لليوم الثاني، بقيَ يوماً آخر وخرج أيضاً في المسجد وصرخ بها بين ظهرانيهم فضربوه ضرب موت، فجاء العباس فأكب عليه وأنقذه للمرة الثانية ثم إنه غادر إلى قومه فسأله أخوه أنيس ماذا وجدت يا جُندب؟ قال ما وجدت إلا خيراً، وما صنعت إلا أنني أسلمت، قال فلستُ أرغب عن دينك وأنا أشهد أن لا إله إلا الله – هذا أخوه لأنهم من قبيلة طيبة – وأن محمداً عبده ورسوله، ثم قصدا إلى أمهما – رضيَ الله تعالى عنهم أجمعين – فأسلمت من فورها، ثم جعلوا يُعلِنون بدعوة الحق في غفار حتى أسلم شطرها – نصف القبيلة بيسر وسهولة وعن سماح – بأكمله، وأما النص الآخر فأرجأ إسلامه حتى يرى الرسول، فهم قالوا نُريد أن نُسلِم بين يدي رسول الله، إن ظهر ذهبنا إليه وأعلنا إسلامنا، فنحن على موعد مع الإسلام، وكأنهم مسلمون مع وقف التنفيذ، ولم يكتف أبو ذر – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – بهذه النتيجة بل ذهب إلى أسلم – قبيلة أسلم – يُضيء فيها مصابيحه فأسلمت أسلم، وكرّ الدهر ومرّت السنون، ثلاث عشرة سنة وأذِن الله – تبارك وتعالى – لنبيه وصفيه أن يُهاجِر إلى مُهاجَره، أرضٍ ذات نخل بين لابتين، إنها المدينة التي نوَّرها بأضوائه – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً – طبعاً، وكانت بدر وكانت أُحد والخندق وفي الإبان والأثناء أرادت غفار وأسلم أن تُعطي الرسول البيعة على الإسلام وعلى النُصرة وفي ذات يوم من الأيام المُبارَكة رأى الراءون موكباً جليلاً أثار النقع على مشارف المدينة ولولا التكبيرات المُتعالية الصادحة لظن الظان أنهم جيشٌ غازٍ ولكنهم يُكبِّرون “الله أكبر ولا إله إلا الله” حتى إذا استبانوا وظهروا فإذا هم غفار وأسلم، قبيلتان من الرجال والنساء والكبار والصغار وفي المُقدَّمة أبو ذر الغفاري رضيَ الله عنه وأرضاه، فأتوا النبي وأعطوه البيعة وأعلنوا بإسلامهم بين يديه وقام النبي يدعو ويُخبِر غفار غفر الله لها، أسلم سالمها الله، ما قلت هذا ولكن الله قال هذا.

الله أكبر، غفار من ثمرات أبي ذر، إنها من أثماره الطيبة اليانعة المُبارَكة الهادية، وأسلم من ثمار أبي ذر رضيَ الله عنه، فما أبرك هذا الرجل وما أعظم هذا الفارس وأعظم بركاته وأبعد أثره في أمة الخير، فالنبي يقول غفار غفر الله لها، أسلم سالمها الله، ما قلت هذا ولكن الله قال هذا، فالنبي يقول هذا ليس من عندي، إنما قاله الله – تبارك وتعالى – وليس أنا مَن قال هذا، فما الظن بأبي ذر؟ فاتته بدر وأُحد والخندق وعظم عليه الأمر، حزن ووجد وقرَّر أن يلتحق بالنبي، أي أن يُهاجِر إليه ويختص به ويلزمه يُعوِّض ما فاته منه، وقد قضى ذمته وحق الدعوة في غفار وأسلم، هو علَّمهم واستوثق من إيمانهم ودينهم وبقيَ الآن أن ينظر إلى نفسه وأن يستوفي حظه من حبيبه وخليله صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، فما رآه النبي إلا هشَّ له وابتسم في وجهه، لأن النبي كان يُحِبه، ساعة أسلم من فوره في مكة النبي عجب وقال من غفار؟ فقال من غفار، فيتبسَّم النبي لأن هذا أمر عجيب، فهو من قبيلة ودان قاطعة الطريق، ثم قال اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ۩، فأمرٌ عجب هذا، وتواصل العجب العاجب فأتى النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – واستأذنه أن يكون في خدمته قائلاً أنا أريد أن أكون خادماً لك يا رسول الله لكي أختص بك وأتقرَّب وألزمك في ليلك ونهارك، فأذِن له النبي أن يكون من خدّامه، ولكن أبو ذر بلا زوجة وبلا ولد وبلا خادم وبلا مال وبلا تلد وبلا أي شيئ، فقط الجلباب البسيط الذي يستر به جسمه ويواري عورته فانضم إلى أهل الصفة، أولئكم المساكين من المُهاجِرين الذين لم يجدوا مأوىً لهم ولم يكن لهم لا أهلٌ ولا مالٌ ولا ولد، فانضم إذن فكان من أهل الصفة لكي يكون في خدمة رسول الله في الليل والنهار فإذا غلبته عيناه نام في صفة المسجد المُنوَّر، ويقول – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – خرجتُ مع النبي إلى حائط بني فلان مرةً فكنتُ معه – والمعنى وحدنا – فقال لي يا أبا ذر ويحك بعدي، قال فبكيت وقلت وإني لباقٍ بعدك يا رسول الله؟ أي ه أنا سأعيش بعدك وأنت سوف تموت قبلي؟ فهذا الذي أبكاه، فقال نعم، فإذا رأيت البناء بلغ سلعاً فالحق بالمغرب أرض قضاعة، أي أن هذه فتنة، سيسيل سيل فتنة عمياء طخياء ظلماء بالمدينة وأهلها، وأعطاه الرسول – صلى الله على مَن ينظر الغيب من ستر الرقيق – أمارة، فهو أعطاه علامة وأي علامة؟ قال له إذا رأيت البناء بلغ سلعاً – سلع جبل من جبال المدينة، وفي حديث أُبي حتى أوفى على سلع، أي أشرف واطلع، وهو حديث مشهور – فالحق بأرض المغرب، أرض قضاعة، أي اترك المدينة ولا تبق فيها، ومرةً قال له يا أبا ذر إنك لرجلٌ صالح وستُصيبك بعدي محنة، فقلت يا رسول الله في الله؟ قال في الله، فقلت مرحباً بأمر الله، إي إذا كانت المحنة في الله ومن أجل الدين وفي وجه الله فأهلاً وسهلاً بالمحنة، وكان شعاره مرحباً بالمكروهان: الفقر والموت، فهو قال لا أخشى الفقر ولا أخشى الموت، ولذلك لما هدَّده بنو أُمية بالشام ومنعوا عنه رزقه لم يُبال ولم يُثنه ذلك، فمُعاوية منع عنه رزقه ثم هدَّدوه بالقتل – أي أن يُغتال – فقال لهم الفقر: والله للفقر أحب إلىّ من الموت، والموت: لبطن الأرض أحبُ إلىّ من ظهرها، فلستُ أُحِب الحياة ولا أُريد من الحياة شيئاً، وأما الفقر فالفقر أحب إلى من الغنى، وهذا شيئٌ عجيب، فهذا الرجل لا تُثنيه عن ما هو بصدد بدرٌ حاضر ولا تفزِعه ولا تُرهِبه سيوف شاهرة، فلا ترغيب ولا ترهيب معه، إنه يمضي لا يلوي على شيئ، لا يستطيعُ أحد أن يغمز قناة ثباته وصموده وصبره – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – أبداً، إنه أبو ذر، وصدقت فيه نبوءة رسول الله – صلى الله عليه وآله – في الحديث الذي أخرجه بن سعد وإسناده صحيح إلا أنه مُنقطِع عن مالك بن دينار وذلك حين قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – مرةً لمَن حوله – كان في نفر من أصحابه، الله أعلم بهم ولكن فيهم أبو ذر – مَن يوافيني – أي يوم القيامة – على الحال الذي يُفارِقني عليه؟ يعلم النبي أن مِن أصحابه مَن سيُغيِّر ويُبدِّل بعده وصح عنه ذلك، صح عنه في أحاديث صحاح جياد أن منهم مَن سيُغيِّر ويُبدِّل وسيزاد عن حوضه يوم القيامة زود غرائب الإبل، ستزوده الملائكة وترمي بهم في أسحق مكان وأبعده كما في الصحيحين فأقول سحقاً سحقاً، فالنبي يدعو يوم القيامة بعد أن يعلم قول الملائكة إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك، إنهم لم يزالوا مُرّتَدين على أعقابهم ولم يزالوا يرجعون القهقرة، وهذا في رواية لحديث في الصحيح، وفي رواية عند مسلم فأقول سحقاً سحقاً، أي إلى الجحيم، فالنبي يخاف من هذا والآن يستوثق ويقول لهم مَن يوافيني على الحال الذي يُفارِقني عليه؟ أي حين أموت، فقال أبو ذر من فوره دون جمجمة أو تلعثم أنا يا رسول الله، أنا أوافيك، فأنا سأبقى وفياً لك قدوةً وأسوة كما أنا الآن، فقال – عليه الصلاة وأفضل السلام – مُباشَرةً – ولم يطلب منه برهاناً ودليلاً، لم يقل له هات البرهان أو هات الدعوى أو هات لي برهان الدعوى أبداً – ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجةٍ أصدق من أبي ذر، الله أكبر، يا للشهادة، فالرسول يقول ما أظلت الخضراء – أي السماء – ولا أقلت الغبراء – أي الأرض – من ذي لهجة – أي يعني مُتكلِّماً ناطقاً – أصدق من أبي ذر، الله أكبر، وانتبهوا فأنتم الآن ونحن الآن مع المفتاح، إنه مفتاح الشخصية، فمَن أحب أن يقرأ السير وأن يُفسِّر التاريخ وأن يُعيد فهم الأحداث عليه دائماً أن يبحث عن مفتاح الشخصية، فهناك شخصيات دينها وديدنها المال والسُلطة والشهوة والمتاع، وهناك شخصيات دينها وديدنها وحمياها وهجيراها الحق حتى تلقى الله، وأبو ذر منهم بل إنهم في مُقدَّمهم، وإلا كيف يقول الصادق الأبر المصدوق – صلوات ربي وتسليماته عليه – أُمِرت بحب أربعة وأخبرني الله أنه – تبارك وتعالى – يُحِبهم؟ الله أكبر، فالله قال له أربعة أنا أُحِبهم وأحبهم يا خليلي ويا حبيبي، فالنبي أُمِرَ أن يُحِبهم لأن الله قال له التفت إليهم، لكن مَن هم يا سيدنا يا رسول الله؟ قال عليّ وأبو ذر وسلمان والمقداد، فالله يقول عليّ، وعليّ له اختصاص بأبي ذر من أول يوم فهو الذي ساقه إلى رسول الله، فإذن أبو ذر من هؤلاء الأربعة العظام الباذخين الذين يُحِبهم الله، لكن لماذا نُترّجِم له على عجل؟ لماذا نضعه في المُجلَّدات الثانية والثالثة رقم ستين وسبعين في سبع صفحات وثمان صفحات؟ نحن نخاف من أبي ذر إلى الآن، فمُعظم الناس يخافون من الحق ويخافون من منطق الحق، يخافون من الصدق الجسور والصدق المُضيء المُتلهِّب في قول الحق والعيش بالحق والزود عن الحق وسدانة الحق، فهم لا يُحِبون هذا، وهذا المنطق لا يُعجِبهم كما لم يُعجِب كثيرين أيام أبي ذر رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، وقال عليه الصلاة وأفضل السلام لا أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجةٍ أصدق من أبي ذر، فمفتاح شخصيته الصدق الصدوق والصدق المُضيء والصدق الجسور، أبو ذر لا يرى الصدق فضيلةً خرساء بكماء، أي أن تكون صادقاً في نواياك وفيما بينك وبين الله فقط، كلا ما هكذا يتقوَّم الصدق، الصدقُ كلمةٌ مُستبسِلة وكلمةٌ مُستشهِدة تُصك بها الأسماع وتُجرَح بها كبرياء المُستكبِرين ويُتحدّى بها عتو العاتين والمُتجبِّرين، فهذا هو الصدق، ليست من السيف في شيئ فلن أشهر سيفي ولن أشق عصا الطاعة على أميري وإمامي ولكن سأظل أصك مسامعهم بكلمات الحق والصدق كبروا أم صغروا، سواء كانواأمراء وأولياء وخلافاء أم عامة وسوقة فسأظل أحكي الحق، هكذا كان أبو ذر، وهذه عظمة أبي ذر، فأبو ذر لم يُصبِح من الخوارج أبداً، ولا سيماه سيماء الخوارج، هو صاحبٌ سابقٌ مُهاجِرٌ جليل ومشهود له – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – طبعاً.

قال أوصاني خليلي بحب المساكين وأن أدنو منهم – وهذه طبيعته، فلديه التواضع والصدق والذلة لله تبارك وتعالى – وأن أنظر – أي في شأن الدنيا وحطامها الزائل الفاني – إلى مَن هو دوني ولا أنظر إلى مَن هو فوقي – أنظر دائماً إلى مَن هو أفقر مني وليس إلى مَن هو أغنى مني – فذلكم أجدر ألا نزدري نعمة الله علينا.

رآه صاحبٌ له يوماً وعليه جلبابه القديم من خلقان الثياب البالي الرث فقال له يا أبا ذر يرحمك الله أما لك غير هذا الثوب؟ قال ما لي، أي أن هذا هو الثوب الوحيد، فقال رأيت قبل أيام معك ثوبين جديدين، قال يا ابن أخي أعطيناهما مَن يستحقهما من الفقراء، فقال أنت والله أحق بهما، قال كلا، اللهم غفراً – يقول أبو ذر اللهم اغفر لي ولأخي -، لا تقل هذا، إنك مِن مَن يُعظِّم الدنيا – أي أنه يقول له هذا المنطق هو منطق إنسان يُعظِّم الدنيا لأنك تقول لي أنا أجدر بهذا الثوب الجليل، فاللهم غفراً -، لي ثوبٌ أغدو به وأروح – هو هذا الخلق القديم – ولي ثوبٌ آخر لصلاة الجمعة، إذن لي ثوبان، ولي عنزة أحلبها وأتان أركبها، فمَن مِن الناس في مثل فضلي ونعمتي؟ أي أنه يقول أنا ملك، فهذه عظمة وهذه نعمة واسعة سابغة، ماذا تُريد أكثر من هذا يا رجلظ ولكن أنت رجل تُعظِّم الدنيا فتستقل وتزدري النعمة الإلهية.

قال أبو ذر زادني رسول الله وصاية بحب المساكين وأن أدنو منهم، وأن أنظر لشأن الدنيا وحطامها الزائل إلى من هم دوني وأن لا أنظر إلى من هم فوقي، وأن أصل الرحم وإن أدبرت، وأن أقول الحق ولو كان مراً وأن أكثر من قول “لا حول ولا قوة إلا بالله”، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!

يروي الإمام أحمد عنه – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – أنه قال بايعني حبيبي خمساً وعاهدني سبعاً وأشهد الله علىّ سبعاً، أن أقول الحق لا أخاف في الله لومة لائم، فالنبي أخذ عليه العهد سبع مرات، لكن لماذا يا رسول الله؟ لماذا يا حبيب الله؟ لأنه – صلوات ربي وتسليماته عليه – يخشى على دينه، يخشى على الحق الذي بُعِث به أن تدوسه المطامع وأن يتغافل عنه دنس الدنيا والحطام، ولكن أبو ذر ليس من هذه الفئة، أبو ذر يُعاهَد طبعاً فلنُعاهِده إذن، ولذا عاهده سبع مرات، ولذلك شهد فيه أخوه وإمامه الإمام عليّ – عليه السلام وعليه الرضوان والرحمات – في مُدة عثمان قائلاً لم يبق اليوم – ذلكم في خلافة عثمان، لأن أبا ذر تُوفيَ في خلافة عثمان قبل شهادة عثمان بثلاث سنين، رضيَ الله تعالى عنهما – أحد يقول الحق لا يُبالي في الله ولا يخاف لومة لائم غير أبي ذر، فأبو ذر يقول لكن الكل يُجمجم ويُتعتِع ويقول شيئاً ويكتم شيئاً، دُنيا أقبلت على الناس وطمت وسال سيلها وطمت بالناس، وتُوفيَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وبُويع لأبي بكر، وكان أبو ذر في الجماعة الذين أبوا البيعة في البداية، فهو كان مع عليّ ومع سلمان ومع عمَّار ومع المقداد ومع الأسود ومع الزُبير بن العوَّام ومع العباس ومع أهل البيت جُملةً من الذين أبوا أن يُبايعوا، ثم أن الإمام عليّاً بايع وبايع هؤلاء ومَن امتنع ورأى أبو ذر كيف يسير الصديق في الأمة سيرةً أرضته وقرَّ بها عيناً وعلم أن هذا الرجل مأمونٌ على تراث محمد فجاهد معه وذهب وهو قرير مسرور، وتُوفيّ أبو بكر – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – فهاجر إلى الشام لأنه يخاف أن يُخرَج بالقوة، يقول – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – كنت يوماً في المسجد – ليس لي بيت إلا هو – فغلبتني عيناي فنمتُ فإذا برسول الله يمكت في رجلي برجله، فقال لا أُراك نائماً، قلت يا رسول الله غلبتني عيناي وليس لي بيتٌ إلا هذا – أنا أنام هنا وأنت تعرف – فجلس إلىّ وقال – النبي يحبه ويوده ويُحِب أن يجلس إليه جلسة خاصة يختصه به – يا أبا ذر كيف بك إذا أخرجوك منها؟ أي سيأتيك يوم وتُخرَج من هذا المسجد، فقال يا رسول الله إذا أخرجوني قصدت الشام فإنها أرضُ الهجرة وأرضُ المحشر وأرضُ الأنبياء فأكون بها، قال فكيف إذا أخرجوك منها؟ أي من الشام وهو فعلاً أُخرِج، وهذه من نبوءات النبي العجيبة، فالنبي يرى الغيب حين يُريه الله تبارك وتعالى ولذا رأى كل هذا، فالنبي كان يراه وكان يتحسَّر ويتألَّم على أصحابه ولذا قال له كيف بك إذا أخرجوك منها؟ أي من الشام، فقال أعود إليه فيكون منزلي، قال فكيف إذا أخرجوك منه الثانية؟ قال إذن أشهر سيفي يا رسول الله، أي أشهر سيفي فأُقاتِل حتى أموت، فهذا ظلم بواح صُراح، ثم قال فكشر إلىّ النبي – ابتسم – وقال له أوغير ذلك يا أبا ذر؟ أي هناك ما هو خير من ذلك، فقلت نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله، بماذا تنصحني؟ قال تسمع وتُطيع، اسمع وأطع لإمام زمانك وكَن معهم حيث وجَّهوك حتى تلقاني، ولكن كُن كما أنت، ولم يفهم أبو ذر الرجل الصدوق اللهجة – رضوان الله تعالى عليه – من هذه الوصاة الكريمة الحانية أن يصمت ويسكت، فهو لم يسكت يوماً لأنه لم يفهم هذا، ولكن فهم أنه لا ينبغي أن يثور إلى سيفه، فالخروج المُسلَّح ممنوع ولا يجب أن نكون من الخوارج، لكن لا نبتلع ألسنتنا، سنظل نتكلَّم – كما قلت – في وجه الأكابر قبل الأصاغر، ولذلك لم يسكت أبو ذر- رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – مرة، وعلى كل حال تُوفيَ الصديق وبُويع عمر فسار إلى الشام وظل هناك، وذات مرة جاء الفاروق – رضوان الله تعالى عليه – إلى الشام في زيارة فرأى أبا ذر فابتدره واعتنقه ثم صافحه واعتصر يده فقال خل عني يا قفل الفتنة، وعمر أول مرة يسمع هذا التعبير، هل أنا قفل الفتنة؟ ما معنى هذا الكلام؟ قال وما ذاك يا أبا ذر؟ قال يا أمير المُؤمِنين كنا حول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ذات مرة فتأخَّرت ولم تُرِد أن تُؤذي الناس في المجلس فجلست في أواخر القوم – كأنه جلس في النهاية عند الأحذية – فرمقكك النبي، أنت لم تسمع ونحن سمعنا – يقول صادق اللهجة أنا سمعت – فقال – عليه الصلاة وأفضل السلام – لا خوفٌ عليكم ما دام هذا فيكم، أي لا فتنة وهو ما حدث فعلاً، ففي أيام الفاروق كان يُوجَد الشيئ العجيب، فوُجِدَ الاستقرار وضرب الإسلام بجِرانه وفُتِحَت الفتوح وفاض المال وعمَّ الدين، وهذا شيئ عجيب، فما دام عمر حياً لا خوف، ولذا قال أبو ذر له أنت قفل الفتنة يا ابن الخطّاب، إلا أن عمر ابتأس وحزن، فقال ما يُحزِنك؟ قال وليت بشراً على صدقات هوازن فراث علىّ فأرسلت في طلبه فقلت له يا بشر ألستُ لك بأمير؟ أما لي عليك سمعٌ وطاعة؟ فقال بلى يا أمير المُؤمِنين، ولكني سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول مرةً مَن وليّ من أمر الناسِ شيئاً أُوتيَ به يوم القيامة فوُضِع على جسر جهنم – على الصراط – فإن كان مُحسِناً نجا بإحسانه وإن كان مُسيئاً انخرق به الجسر فهوى في جهنم سبعين خريفاً، ثم قال فهذا الذي أحزنني يا أبا ذر، فقال يا أمير المُؤمِنين ما سمعت هذا الخبر أو هذا الحديث من رسول الله؟ فقال عمر لا لم أسمعه، قال أما أنا فوالله لقد سمعته منه يقول مَن وليّ أحداً من المسلمين – ليس مَن وليَ من أمر الناس كأن تُصبِح أميراً أو حتى مُصدِّقاً على صدقات قوم فضلاً عن أن تُصبِح خليفة وإنما لو جُعِلت أميراً على واحد من الناس فقط، ولن أقول على جماعة لأن هذا أصعب وأصعب، فهذه قد تكون من عشرة أو خمسة أفراد وإنما على واحد فقط – وإلى آخر الحديث إلى أن قال انخرق به الجسر في نار جهنم فهوى بها أو فيها سبعين خريفاً وهى سوداء مُظلِمةٌ، فإذن زاد أبو ذر، ثم قال له يا أمير المُؤمِنين انظر أي الحديثين – انظر أي الحديثين أو الخبرين – أحزن لقلبك، فقال كلاهما أحزنا قلبي، مَن يأخذها بما فيها؟ عمر الآن لا يُريد الخلافة وإنما يُريد أن يستقيل، ومن ثم قال مَن يأخذها بما فيها؟ فقال له أبو ذر مَن سلط الله أنفه وجعل وجهه في الرغام، أي أنه قال له رجل أحمق مهبول فلا أحد يأخذها لكن لا يُقال لنا هذا، فنحن لا نأخذ هذه الخلافة وبالتالي لماذا نُبتلى بها؟ مَن يأخذها بما فيها؟ فقال مَن سلط الله أنفه – أي مَن جدعه، فهو مُجدَّع الأنف – وأرغم وجهه أيه في التراب، أي جعل وجهه في الرغام وفي التراب، ثم يستتلي أبو ذر قائلاً يا أمير المُؤمِنين ما رأينا إلا خيراً – أنا لا أُجامِل ولا أُداهِن ولكن إلى الآن ما شاء الله أنت على الجادة – وإنك عساك إن تركتها لغيرك أن لا يعدل فيها فتُصيب إثمه، أي أنه قال له لا تفعل، لا تعتزل وابق خليفة ولكن داوم على هذه المعدلة، واستُشهِدَ عمر – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – قفل الفتنة، فبدأت الآن الفتنة، علماً بأن هذا في الصحيحين، أي أن عمر قفل الفتنة مُخرَّج في الصحيحين، وهذا الحديث معروف وصحيح من حديث حُذيفة، وهذا حديث أبي ذر، وهُرِعَ أبو ذر من الشام إلى المدينة مُوقِناً أن الخلافة ستنعقد بيعة للإمام عليّ، أي لحبيبه وصفيه، فسمع أنها صارت إلى عثمان – رضيَ الله تعالى عنهم – فعجب وقال لماذا؟ عجب وحزن ولكنه بايع مع مَن بايع، فهذا شأن الأمة وهذا الأمر بالاختيار وبالشورى وليس بالإكراه، ولكن الأمور بعد سنين – بعد ست سنين من خلافة ذي النورين رضيَ الله عنه وأرضاه – لم تسر على ما يُحِب أبو ذر، أي لم تسر على خُطةٍ يرضاها أبو ذر، فلم تسر كما سارت في أيام الشيخين الجليلين أبي بكر وعمر فجعل يُنكِر، وقد رأى الأموال يُستأثَر بها طبعاً، فمروان بن الحكم الوزغ بن الوزغ – الطريد بن الطريد الذي لعن الله أباه وهو في صلبه كما عن أم المُؤمِنين عائشة – يُعطى خُمس خراج إفريقيا، فلماذا؟ وبعض الناس افتقروا جداً حتى ما يجدون القوت في بيوتهم، فكان أبو ذر يصيح بين ظهرانيهم قائلاً عجبتُ لمَن لم يجد في بيته قوته وقوت عياله كيف لا يخرج شاهراً على الناس سيفه، فهو يقول لهم فيم هذا القعود؟ لم أنت قاعدون؟ يجب أن تُنكِروا ويجب أن تثوروا ويجب أن تتحرَّكوا بسبب هذا الفقر، وكان يصرخ في وجه مُعاوية ويقول له :يا مُعاوية أغنيت الغني وأفقرت الفقير، وقال له هذه سياستك – ما شاء الله – وهى غير سياسة أبي بكر وعمر، فأنت تُغني الأغنياء ويزداد الفقراء فقراً، وهذا معنى قوله أغنيت الغني وأفقرت الفقير، لكن المُهِم هو أنه عاد إلى الشام ولكن لم تُعجِبه الأوضاع، فمُعاوية يتصرَّف في مال الله كما يشاء ويخطب الجمعة في الناس ويقول لهم المال مال الله وأنا خازنه، أضعه حيث شاء الله، وذات مرةً قال لهم إنما هذا المال مالنا والفيء فيئنا، فمَن شئنا أعطيناه ومَن شئنا منعناه، فقام له أحد المسلمين من عرض الناس وقال له بل هذا المال مالنا والفيء فيئنا، فمَن منعناه حاكمناه إلى الله بسيوفنا، فعلم مُعاوية أن هذا من أثر أبي ذر، وأبو ذر لا يفتأ يجلس في كل مجلس وفي الطرقات والنواحي إلا ويقول بشِّر الكانزين بمكاوٍ من نار، تقول الآية الكريمة وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ۩، فكان يقول هذا دائماً حتى أُولِع أو وُلِع الناس به لأنهم أحبوا هذا المنطق، فالناس بعضهم صار في حالة فقر ولذا أحبوا هذا المنطق الثائر، منطق المُساواة والمعدلة، فعلم مُعاوية أن هذا من أثر أبي ذر فاحتال بمكره ودهائه المعروفين عنه فقال له أمام الناس أيها الناس إن هذا الرجل أحياني أحياه الله – لماذا أحياك؟ -، سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – مرةً يقول سيكون أمراء يقولون فلا يُرَد عليهم يتقحَّمون في النار تقاحم القردة، والحمد لله أنا لست منهم، على الأقل هذا ردَّ علىّ، فهو خرج منها بدهاء ومكر، ولكنه كتمها على أبي ذر، فهو عرف هذا وجعل يحتال، لكن ماذا يفعل بهذا الرجل؟ وأبو ذر لا ينفع معه لا ترغيب ولا ترهيب أبداً، سيَّر إليه مرةً مع أحد رجاله ثلاثمائة دينار وقال أعطها إلى أبي ذر، فأدركه الخادم في الطريق وقال يا أبا ذر هذه من الأمير – من مُعاوية بن أبي سُفيان – لك، فقال لا حاجة لي بها إن كانت منكم، أما إن كانت من عطائي الذي منعتموني إياه العام – سنة كاملة منعتموني عطائي – فأنا آخذها، أما إن كانت منه فلا حاجة لي بدنياكم، فعاد الخادم بها لأنها ليست من عطائه وخاب السهم – سهم مُعاوية طاش وخاب – طبعاً، وهذه المرة احتال له بحيلة أذكى – مُعاوية داهية – حيث سيَّر إليه تحت جنح الليل في موهٍ من الليل ألف دينار – ستة آلاف درهم وهذه ثروة طائلة – وقال هذه هكذا حلال زلال، فأخذها أبو ذر ولم يُصبِح عليه الصباح وفي بيته منها دينار واحد، هذا هو أبو ذر فقد أنفقها كلها، وكيف لا؟ وقد حدَّث بهذ الحديث عثمان – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – وقال له يا أمير المُؤمِنين كنت مع النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – فقال لي يا أبا ذر أترى أُحداً؟ – علماً بأنه حدَّث بهذا الحديث غير مرة، فكان يُحدِّث به الناس كثيراً – فقلت نعم، فنظرت – فنظرت إلى أُحد – ما علىَ من الشمس وأنا أظن أنه يبعثني في حاجةٍ له، فقال والذي نفسي بيده ما أُحِب أن يكون لي مثل أُحدٍ ذهباً أُنفِقه كله في سبيل الله غير ثلاثة دراهم، فالنبي يقول لا أُحِب هذا، ولذا قال هذا خليلي وهكذا علَّمني، فأنا لا أستبقي ولا أكنز شيئاً، والمُهِم هو أن بعد الفجر صلى مُعاوية الصبح بالناس وصلى أبو ذر فجاءه رسول مُعاوية مرةً أخرى وقال يا أبا ذر أنقذ بدني من عذاب مُعاوية لأنه سيُلهِب ظهري بالسياط، فقال لم؟ قال أرسلني بالألف الدينار إلى غيرك فأخطأت فيك، أي أنا اعطيتك إياها خطأً، فقال قل له والله ما أصبح عندنا منها دينارٌ واحد ولكن ليُؤخِّرنا ثلاثة أيام نجمع له دنانيره، فعلم مُعاوية أن هذا الرجل خطرٌ جداً وأنه يُصدِّق أقواله بأفعاله، فهذا الرجل صادق وخطير ولا يُمكِن أن يُفلِح معه، ومُعاوية أحب أن يقف منه على دعوى أو على زيف ليقول لهم انظروا إلى هذا الذي يعظكم فقد أخذ الألف واغتالها دونكم ويدّعي الزهد ويدَعي أنه لا يكنز وهو من الكانزين، لكن عَضُلَ الأمر، فماذا يفعل ؟ سيَّره إلى قبرص وقال له يا أبا ذر أنا أحببت أن أغزو قبرص أيام عمر ولكن هذا الداهية الثاني – أي عمرو بن العاص – سأله عمر عن البحر فوصفه له وصفاً حمل عمر على أن يقول لا والله لا أُركِبه مسلماً أبداً، أي لا قبرص ولا مبرص فهذا البحر شيئ مُخيف، فهو خوَّف عمرو بن العاص من البحر، ثم قال مُعاوية وأنا أريد في نفسي أن أفتح قبرص، هل تذهب إليها؟ قال نعم، فأبو ذر مُجاهِد ومن ثم قال أفتح، فذهب إليها وفتح الله عليهم قبرص ولكن لم يمكث بها، عاد إلى الشام وعاد إلى مجالسه وهو يقول لهم كذا وكذا وبشِّر الكانزين بمكاوٍ من نار كما قال الله، فعلم مُعاوية أنه لا ينجو منه فبعث إلى عثمان ومُلخَّص رسالته أن أبا ذر يجمع الجموع فإن كان لك بالأمر وبالناسِ شأنٌ فأمر به أُسيِّره إليك وإلا فره أمرك أو ره رأيك، وهذه مُشكِلة كبيرة، فأرسل إليه عثمان – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – من فوره قائلاً أن سيِّر إلىّ أبا ذر واجعل معه دليلاً وأمر به حسنة، أي فليُعامَل مُعامَلة حسنة لأن أبا ذر أخي وحبيبي، وفعلاً جاء وأول ما أشرف على المدينة رأى المجالس والأبنية وقد بلغت سلعاً فقال بشِّر أهل المدينة بغارةٍ شعواء وحربٍ مِذكار، أي أنه قال جاء كلام الرسول، فهذه هى العلامة، وقد استبحر العمران – ما شاء الله – وظهرت الأموال والدنانير وبلغت المجالس سلعاً، ومن ثم قال بشِّر أهل المدينة بغارةٍ شعواء وحربٍ مِذكار، ودخل على عثمان وكان بينهما كلام ومُؤخَذات ، وأبو ذر مُعتصِم بمنطقه فتركه عثمان، أراد أن يحتمله فهو أخوه وحبيبه، وكان يقول له مرحباً بأخي ويعتنقه دائماً، فهو يُحِبه ويعلم أنه رجل رباني صدوق ولكنه وفي لمبادئه، ودخل عليه مرةً وعنده كعب الأحبار – أبو إسحاق المعروف بكعب الأحبار وهو الحبر اليهود الذي أسلم – وعبد الرحمن بن عوف وأموال تُقسَم، فنظر أبو ذر لكي يعلم أين تذهب هذه الأموال، فسأله عثمان – رضوان الله عليه – يا أبا ذر ما تقول فيمَن أصاب من هذا المال فأنفق وتصدَّق ووصل الأرحام؟ فقال له إن كنز منه شيئاً فبشِّر الكانزين بمكاوٍ من نار، أي أنه قال هكذا النبي قال وهكذا الله قال، فقال لكعب الأحبار ما تقول يا أبا إسحاق؟ فقال إن كان أنفق وتصدَّق يا أمير المُؤمِنين فأرجو له، فقال أبو ذر فقال يا ابن اليهودية تُعلِّمنا ديننا؟ وضربه بدرته على رأسه، ثم قال ووالله ليتمنين صاحب هذا المال يوم القيامة أن كان عقارب وحيات تلدغه وتلسعه، فأنت تقول يعطي بعضه ويترك الباقي له وهذا غير صحيح، علماً بأن منطق أبي ذر فيه نقاش، ولكنه وفيٌ لمنطقه وفهمه – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – على كل حال، وهنا لم يبق في صبر قوس عثمان منزع فقال له يا أبا ذر قد أكثرت علينا وعظم أذاك لنا ولجلسائنا، فقال له يا أمير المُؤمِنين تظنني منهم؟ أي هل تظن أنني من الخوارج؟ وحسر عن رأسه، فانظر إلى الفقه، وقد كان عالماً كبيراً وليس مُجرَّد رجل ثائر وجيّاش وعاطفي، هو عالم كبير جداً ويفهم جيداً ما يقول لأنه مفتوح عليه، وقد سُئل عنه الإمام عليّ – عليه السلام – مرةً فقال ذاك رجل وعى علماً عجز عنه الناس ثم أوكى عليه فلم يُخرِج منه شيئاً، أي أن عنده علم كثير جداً، وكان يُفتي كما قال الذهبي الناس في عهد أبي بكر وعمر وعثمان، وفي عهد عثمان لقيَ الله – تبارك وتعالى – سعيداً حميداً، فإذن أبو ذر وفيٌ لمنطقه، وعلى كل حال هو قال له أوتظنني منهم؟ وحسر عنه رأسه، يقول شوذب لماذا؟ لأن سماهم – سماء الخوارج – التحليق، فقال له أنا لست من المُحلِّقين، رأسي مُشعِر، أي أن شعري على رأسي، فأنا لا أُحلِّق كالخوارج الذين سيأتون، ولم يكونوا قد أتوا بعد، وعثمان يعرف وأبو ذر يعرفان هذا، ولذا قال له عثمان لست منهم يا أبا ذر، لست منهم يا أخي، فقال والله يا أمير المُؤمِنين لو أمرتني أن أحبو على بطني لحبوت، ولو صلبتني على أطول خشبة أو على جبل لسمعت وأطعت، أنت أميري لكن أُنكِر عليك أشياء وأبدهك بها في وجهك، وأُنكِر على عُمّالِك أمثال مُعاوية، لكن لا أنزع يداً من طاعة، وهذه وصية نبيي إلىّ، فهذا الرجل يفهم ويعرف جيداً ما يقول، ولذا يقول أنا لا أسكت عن الحق، أتكلَّم وإن أذاك الحق وأحزنك، لأن لابد أن أتكلَّم، فقال عثمان له فابق إلىَ جانبنا هنا يا أبا ذر – نوع من الإقامة المُحدَّدة ولن نقول الإقامة الجبرية – تروح عليك اللقاح وتغدو ونجعل لك هكذا نوق تشرب من ألبانها وتروح وتغدو وتُخدَم، فقال لا حاجة لي بدنياكم يا أمير المُؤمِنين ولكن ائذن لي يا أمير المُؤمِنين بالربذة، والربذة هى فلاة صغيرة أو قرية صغيرة إلى جانب المدينة، فهو طلب الأذن لكي يذهب إلى الربذة، ولذا يقول له إذا كنت قد أذيتك وأنت لا تحتملني وأنت الآن أميري فأنا أُريد أن أذهب إلى الربذة، فقال قد أذِنت لك، وسيَّره إلى هناك، وفي رواية أنه أخرج معه مروان بن الحكم، ومنع الناس أن يسيروا معه خشية اللغط والفتنة أو أن يُشيِّعوه، ولكن الإمام عليّ لما سمع خرج هو والحسن والحسين وعقيل أخوه وعمَّار بن ياسر وعبد الله بن جعفر قاموا بتوديعه، فقال لهم مروان بن الحكم عودوا، قد أعلنتكم – أي أعلمتكم – بأمر أمير المُؤمِنين، فقال له عليّ عُد إلى النار وضرب ما بين عيني فرسه، فخاف المروان الجبان وعاد إلى أمير المُؤمِنين عثمان يشكو ويبكي، فعليّ قال له هذا أبو ذر وسوف أذهب معه إلى الربذة أُشيِّعه، فكيف يُمكِن أن يخرج هكذا وحده؟ وجلسوا سويعات حتى إذا انقضى شيئٌ من الوقت أحب أبو الحسن أن يعود قافلاً مع إخوانه فغلبته غُصة لأبي ذر في حلقه فبكى وقال يا أبا الحسن والله ما رأيتك والحسن والحسين إلا ذكرت بكم رسول الله، رحمكم الله أهل البيت، أي أنكم أُناس مُختِلفون تماماً، أنتم شيئ مُختلِف، فاعتنقه عليّ ودعا له ثم تركوه وحده، علماً بأن زوجته إلى الآن في الشام عند مُعاوية وبعد ذلك سارت إليه، وهى امرأة ليست على شيئ من الجمال أبداً وإنما أقرب إلى الدمامة، وقد رآها أحدهم ذات مرة فقال له يا أبا ذر أهذه زوجك؟ اتخذ زوجاً غيرها، فقال يا أخي لإن أتزوَّج امرأةً تضعني خيرٌ من أن أتزوَّج امرأةً ترفعني، ليس مِمَن يرفع خسيسته بالزوجة، أي أن منطقي مُختلِف، وكان قد قدَّم ولداً له بالمدينة، أغارت عليهم قريش مرة فقتلوا ابنه، وماتت ابنته الأخرى بالشام, وقيل بقيت عنده بنت لما توفاه الله – تبارك وتعالى – ضمها وأهله عثمان إلى عياله – رضيَ الله عنه وأرضاه -، وقيل لم تبق له ابنة ولا أحد من الذُرية، والمُهِم الآن هو أنه كان بالربذة وكان يختلف إلى المدينة كل حين وآخر – بين الحين والآخر – مخافةَ الأعرابية، لأن النبي نهى عن التعرب في الإسلام، فممنوع أن تعود إلى البداية وتعيش فيها بعد أن كنت من أهل الحضر، فخشية أن يقع في الأعرابية والتعرب كان مرةً ومرة ينزل إلى المدينة، فيمكث قليلاً – رضيَ الله عنه وأرضاه – ثم يعود إلى الربذة!

أدركنا الوقت وأدرك الوقت والعمر أبا ذر فلنرى نهايته – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – بالربذة، كيف كانت نهايته المُحزِنة الأسيفة والمُشرِّفة في الوقت والآن احتُضِرَ – رضيَ الله عنه وأرضاه – فجعلت زوجه تبكي فقال ما يُبكيكِ يا فلانة؟ قالت أبكي، أعلم أنك لابد أن تُغيَّب، لابد أن تُدفَن وتُجَن، وليس عندنا ثوبٌ نُكفِّنك فيه إلا ثوبك هذا الذي لا يسعك، أي أن هذا لا يكفي فهذا بالكاد يستر العورة ولا يصلح ككفن كامل، وهذا الذي يُبكيني، فقال لا تبكي وقد سمعت النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – يقول مرةً أيما مسلمين مات بينهما واحدٌ أو اثنان أو ثلاثة من الولد إلا كانوا لهما ستراً من النار يوم القيامة، وقد قدَّمنا يا فلانة من أولادنا ولله الحمد، بُشرى لكِ ولي الحمد لله، فنحن قدَّمنا من أولادنا وماتوا في حياتنا، ويا فلانة كنت مع النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – مرةً في نفر من أصحابه فقال لنا يموت أحدكم بأرضِ فلاة تشهده عصابةٌ من المُؤمِنين، علماً بأن العصابة جماعة بين العشرة والأربعين، ثم قال أبو ذر لها وقد مات كل مَن كان معي – من أولائك النفر – بالقرى والحواضر ولم أبق إلا أنا بأرض فلاة، فإذن ستحضرني عصابة من المُؤمِنين، لا تخافي، فانظروا إذن إلى الإيمان واليقين والفهم عن رسول الله، فهو قال كل مَن كان معي مات بقريته أو بحاضرته إلا أنا إذن، وأنا بأرض فلاة بالربذ ، فإذن لابد أن تشهدني كما قال رسول الله – يقولها بضرسٍ قاطع – عصابة من المُؤمِنين، سيلون أمري ويُكفِّنوني، لا تخافي وارقبي لي الناس، فقالت له وأين الناس وقد انقطع الحج؟ أي ان موسم الحج انتهى ولا يُوجَد حجّاج يذهبون ويؤبون، فقال لها والله ما كذبتُ ولا كُذِبت – ألا تفهمين؟ الرسول قال هذا الكلام، وأنا ما كذبت ولا الرسول كذب علىّ – فارقبي لي، قالت فإذا بقومٍ على رواحلهم كأنها الرخم – جمع رخمة وهو طائر كبير كالنسر ولكنه مُبقَّع أسود أبيض، فالرخمة تُجمَع على رخم مثل تمرة وتمر – تعج عجيجاً وتقطع الفلاة، فقالت يا أبا ذر ها هم، ها هم، قال ألم أقل لكِ؟ ألم أقل لكِ؟ ولا يُوجَد وقت للناس، فعرضت لهم وقالت يا أيها القوم هل لكم إلى خير؟ قالوا وما هو؟ فقالت رجلٌ مسلم يُحتضَر في السياقة تُغسِّلونه وتُكفِّنونه، تلون أمره وتُجِنونه في ترابه، فقالوا مَن؟ قالت أبو ذر، فبكوا من عند آخرهم وفدَّوه بآبائهم وأمهاتهم، أبو ذر صاحب رسول الله الذي طبقت شهرته الآفاق هنا وحده؟ فقالت وحده، قالوا فدىً له أباؤنا وأمهاتنا،فنزلوا حتى كادوا أن يطأوا سريره أو نعشه برواحلهم من شدة اللهفة، فقال لهم بُشرى لكم، يا بُشراكم، أنتم القوم الذين قال فيكم رسول الله كذا وكذا، وحدَّثهم بالحديث الذي يقول يموت أحدكم بأرضٍ فلاة تشهده عصابةٌ من المُؤمِنين، فإذن هنيأً لكم، أنتم من المُؤمِنين ومشهود لكم بالإيمان، وكان فيهم مالك بن الحارث الأشتر – رضيَ الله عنهم وأرضاهم – أيضاً، ثم أقبل عليهم فقال قد أصبحتُ يا إخواني ولا كفن لي إلا هذا الثوب الذي لا يسعني كفناً، ووالله لو وسعني ما كُفِّنت إلا فيه، ولكن عزمت عليكم وسألتكم بالله ألا يُكفِّنني أحدٌ – لا أحد يُكفِّنني – وقد عمل أميراً أو عريفاً أو بريداً، أي أحد تولى ولاية عامة للمسلمين في هذه الأعمال والوظائف العامة لا أُريده لأن هذه شُبهة،فما منهم أحد إلا وقد وليَ من هذه الأمور شيئاً إلا فتىً من الأنصار قال له أنا صاحبك يا أبا ذر، أنا لم أل، لم أكن أميراً ولا عريفاً ولا بريداً أبداً، لم أشتغل في هذه الوظائف السياسة والحكومية، لم أشتغل وعيبتي فيها ثوبان من غزل أمي، أمي غزلت ثوبين أحدهما كفنك يا أبا ذر، فدعا له بخير، ثم أقبل جمعٌ آخر في رواية – وقُبِض أبو ذر وكفَّنوه ولكنه لم يُوار التراب – فهل تعلمون مَن كان فيه؟ عبد الله بن مسعود، فسأل ما الأمر؟ ما الخطب؟ قالوا رجل مات وكُفِّن الآن، فقال مَن هو؟ قالوا أبو ذر، فبكى بكاءً طويلاً مُراً وقال صدق رسول الله، تمشي وحدك وتموت وحدك وتُبعَث وحدك، وقصَّ عليهم النبأ، وحكى لهم الحكاية التي سنسمعها – إن شاء الله – في الخُطبة الثانية.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

 


الخُطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً.

ما هى الحكاية إخواني وأخواتي؟!

الحكاية في السنة التاسعة من هجرة المُصطفى – صلوات ربي وتسليماته عليه – حين ذهب إلى تبوك لمُلاقاة الروم – غزوة تبوك العُسرة – وجعل كما يقول ابن مسعود بعض الرجال يتخلَّفون فيقولون يا رسول الله – والجيش ذاهب والقافلة مُتحرِّكة صوب تبوك – تخلَّف فلان، فيقول دعوه، إن يكن فيه خيرٌ فسيلحقكم، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم الله منه، قال عبد الله بن مسعود وتخلَّف أبو ذر، أبطأت به راحلته، لأن ليس عنده راحلة جيدة، مركبه لم يكن مركباً هنياً قوياً أبداً، وإنما تلبَّث به ومكث حتى أنه أعجزه فتركه، ترك دابته وأخذ متاعه ووضعه على ظهره وفي قيظ وجمارة الصيف – كانوا في الصيف في الحر، قال الله لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ ۩ وتبوك أو العُسرة كانت في الحر – وجعل ينهب الأرض، يمشى حيناً ويعدوا حيناً راجلاً كيما يلحق برسول الله وأصحابه.

إذن أبو ذر ليس من المُتخلِّفين – جمعنا الله به في عليين بحق سيد المُرسَلين وآله الطيبين الطاهرين. اللهم آمين – بالطبع، أبو ذر لا يتخلَّف، هو كان يمشي مشياً والناس ركوب والأرض بعيدة، وهذا أبعد سفر قصده النبي – بعد سفر قصد إليه النبي هو تبوك – حينها، وهكذا في ساعة من الساعات قالوا يا رسول الله ظلٌ، سوادٌ بعيد يمشي على الطريق، انظر ولكن لا يُعرَف مَن هو، فقال عليه الصلاة وأفضل السلام كُن أبا ذر إن شاء الله، فلما اقترب واستبان إذا هو أبو ذر، فضجوا يا رسول الله إنه كما قلت، إنه أبو ذر، قال يرحم الله أبا ذر، يمشي وحده ويموت وحده ويُبعَث يوم القيامة وحده، رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، إنه أمةٌ وحده، وقد قال عنه مرةً مَن سرّه أن ينظر إلى عيسى بن مريم في زهده فلينظر إلى أبي ذر الغفاري.

اللهم ارض عن أبي ذر وعن إخوانه الصحابة المُبارَكين السابقين الطيبين والمُتبِعين بإحسان وارض عنا وعن المسلمين والمسلمات معهم أجمعين بفضلك ومنّك وكرمك.

اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزدنا علماً وفقهاً وديناً، اللهم أصلِحنا واصلِح بنا واهدنا واهد بنا، اللهم اهدنا إلى أرشد أمورنا.
(انتهت الخُطبة بحمد الله)

فيينا  (7/10/2011)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

تعليقات 3

اترك رد

  • السلام عليكم.
    تحياتي لكم و لجهودكم و جهود الدكتور عدنان الذي اعنبر وجوده في وقتنا الحاضر ليس امراً عاديا و محض صدفة.
    اسوقفني سؤال عند قال الدكتور بايمان قبيلة اسلم.
    الله فطرنا على توحيده ولكنا نحتاج الى التعرف على الله ليصبح ايمان معرفي وعقلي و ليس امرا وراثياً
    كيف اسلمت هذه القبيلة قبل التعرف على الله و رسوله؟

%d مدونون معجبون بهذه: