إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد: 

 

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ۩ وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ۩ وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى ۩ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ۩ فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى ۩ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ۩ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ۩ وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ۩ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ۩ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ۩ وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى ۩ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى ۩ وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالأُولَى ۩ فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى ۩ لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى ۩ الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى ۩ وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى ۩ الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ۩ وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى ۩ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى ۩ وَلَسَوْفَ يَرْضَى ۩ 

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.

 إخواني وأخواتي:

نحن في شهر رمضان، شهر الجودِ والعطاءِ والكرم، الشهر الذي يُزاد فيه في رزق المُؤمِن كما أخبر المعصوم – صلى الله تعالى عليه وآله وأصحابه وسلم -، الشهرُ الذي مَن أدَّى فيه فريضةً كان كمَن أدَّى سبعين فريضةً فيما سواه ومَن تطوَّع فيه بخصلةٍ من خصال الخير كان كمَن أدَّى فريضةً فيما سواه، وهذا يُعرِب عن مقدارِ عظم وشرف أداء الفرائض ولا جرم فالله – تبارك وتعالى – لا يقبل نافلةً حتى تُؤدَّى الفريضة، ولكن من أخص خصائص هذا الشهر – إخواني وأخواتي – أنه شهرُ العطاء والجود والكرم، فالله – تبارك وتعالى – يُعطي فيه ما لا يُعطي في سواه، يُعطي فيه عطاءاتٍ ماديةً وعطاءاتٍ معنويةً وروحية، ولذلك كان حرياً بالمُؤمِن الفطن، بالمُؤمِن اليقظ الذي يبغي نفسه الخير أن يُقابِل هذه النعمةَ الفائضة وهذه الموهبة الجزيلة بشيئٍ من جنسها فيكرم ويجود ويسترسل.

 كان – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – كما صحَّ في حديث ابن عباسٍ – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – أجود الناس، كان أجود الأجودين وأكرم الأكرمين من المخلوقين، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يأتيه جبريل – عليه السلام – يُدارِسه القرآنَ، فلرسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – أجود بالخير من الريح المُرسَلة.

يقيني أن أحداً لا يستطيع أن يتصوَّر مقدار جوده في رمضان، لا يُمكِن أن نضرب له الأمثال لأنه كان في غير رمضان – وفي رمضان يتضاعف جوده أضعافاً – لا يعرفُ كلمةَ لا، لا يرد سائلاً – النبي لا يرد سائلاً – حتى أن أحدهم مرةً سأله شيئاً فأعطاه ثوبه، ولم يكن عنده إلا ثوباً فأعطاه ثوبه، فأرادوه عليه بمالاً جزيل فأبى، أبى ذلكم الصاحب الفطن الذكي الأريب لأنه ثوب المُصطفى الحبيب. صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم .

كيف لا ؟!

كيف لا وهو الذي قال لأخيه أبي ذر  يا أبا ذر ما أُحِب أن يكون لي أحدٌ ذهباً وفضة أنفقه كله في سبيل الله، أموتُ يوم أموت وأترك منه قيراطاً ؟!

يقول عبد الله بن عباس فيما أخرجه البزار بإسنادٍ حسن: قال لي أبو ذر يا ابن أخي كنت مع رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – آخذاً بيده فقال لي ” يا أبا ذر ما أُحِب أن يكون لي أحدٌ ذهباً وفضة أنفقه كله في سبيل الله، أموتُ يوم أموت وأترك منه قيراطاً”، فقلت يا رسول الله قنطاراً؟!

أي كأنك تعني قنطاراً، فهل سمعتها قنطاراً؟!

قال ” لا ، أذهب إلى الأقل وتذهب إلى الأكثر، أُريد الآخرة وتُريد الدنيا يا أبا ذر، قيراطاً، قيراطاً، قيراطاً”، قال “فأعادها علىّ ثلاث مرات”.

ما هذا؟!

ما هذا اليقين؟!

ما هذا العطاء؟!

ما هذا السخاء؟!

ما هذه الهزة؟!

ما هذه الأريحية؟!

ما هذه النفس المُبارَكة المُتلألئة المُتعالية المُضيئة؟!

ما هذا؟!

هذا رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه ومَن والاه –  وهو الذي إذا قال صدق وإذا حكم عدل وإذا ادّعى برهن – صلوات ربي وتسليماته عليه – ليس كمَن عاهد الله كما هو في القرآن لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ۩ ولكنهم عادوا فأخفروا ونكثوا ونقضوا وأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه، هو ليس كذلك، بل هو إذا قال صدق وهو يعرف ما يقول – صلوات ربي وتسليماته عليه – ومن هنا قال  ” يا أبا ذر ما أُحِب أن يكون لي أحدٌ ذهباً وفضة أنفقه كله في سبيل الله، أموتُ يوم أموت وأترك منه قيراطاً”، ومَن زار مدينته المُنوَّرة – على مُنوِّرها مليون تحية ومليون سلام – عرف مقدار جبل أحد، ومع ذلك قال لو استحال هذا كله ذهباً وفضة لأنفقته من عند آخره في سبيل الله، لا أترك قيراطاً.

قبل أن يتوفاه الله حميداً سعيداً – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – كان يدخل ويخرج في غرفة يقول “إنما ألج هذه الغرفة خشيةَ أن يكون فيها شيئٌ أتركه من بعدي “، فهو لا يُحِب أن يترك كسر درهم ولا أي شيئ آخر، والآن يأتي بعضهم من بعض قصار اليقين وبعض مهزوزي الإيمان وبعض ضعاف الدين ليقول: ولكن أين الاقتصاد ؟!

أين التوسط؟!

أين التدبير؟!

أين حظ أهلينا وأولادنا؟!

نقول له أنت لست هناك، من الصعب عليك أن تفقه هذا المنطق أصلاً، أنت محروم أن تفقه هذا المنطق النبوي، والنبي لا يتحدَّث إلى أمثالك، النبي يتحدَّث إلى نفوس باذخة، إلى أرواح ماجدة، إلى شخصيات هائلة، إلى أطواد ورواسخ يُمكِن أن يفقهوا عنه ويتمثلوا به، فالنبي لا يتحدَّث إلى مسلم أو مسلمة يُخرِج زكاته حين يُخرِجه بشق الأنفس، يحسبها بعُشر الدرهم واليورو فهو لا يُريد أن يغلط ويزيد في زكاته يورو واحداً، النبي لا يتحدَّث إلى مَن يُخرِج زكاته ويأتي يسأل: تبرعت بمائة يورو لفلسطين أو مائة يورو للعراق أو ليبيا أو سوريا فهل أقتطعها من الزكاة؟!

يا رجل لعنة الله على البخل، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – “ما من داءٍ أدوى من البخل “،وإنما تبخل عن نفسك  يا رجل، فلمَن تترك هذا المال؟!

لمَن تُجمِّع وتُراكِم يا رجل ؟!
ألم تسمع قول ربك – لا إله إلا هو – في عليائه وهو يقول “يا ابن آدم، أَفْرِغ مِن كنْزِك عندي، ولا حرَقَ ولا غرق ولا سرق؛ أُوَفِّيكه أَحْوَج ما تكون إليه”؟!
أنت لا تُفرِغ في الهواء أو في الماء، أنت تُفرِغ في يد الله السحَّاء التي لا يغيضها شيئ في الليل والنهار، والنبي يقول: ألم تروا أنه لم ينقصه ما أعطى مُذ خلق السماوات والأرض ؟! 

لأنه يُعطي من خزائن كُنْ فَيَكُونُ ۩ – لا إله إل هو – فالدرهم عنده كبليون درهم، ومن هنا أنت تُنفِق وتُفرِغ في يد المليء الغني الحميد الشكور –  لا إله إلا هو – لذا قال الله”يا ابن آدم، أَفْرِغ مِن كنْزِك عندي، ولا حرَقَ ولا غرق ولا سرق؛ أُوَفِّيكه أَحْوَج ما تكون إليه” أي يوم القيامة.

أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عدي بن حاتم – رضيَ الله تعالى عنه – أنه قال: قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم -“أيها الناس ما منكم من أحدٍ إلا سيُكلِّمه الله يوم القيامةِ ليس بينه وبينه ترجمان – أي  كفاحاً عياناً مُواجَهةً من غير ترجمان -، فينظر أيمن منه – العبد – فلا يرى إلا ما قدَّم – أعماله الصالحة -، وينظر أشأم منه – أي أيسر منه – فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة”

لماذا يا سيدي ويا حبيبي يا رسول الله لم تقل ” فاتقوا النار ولو بركعة، فاتقوا النار ولو بحجة، فاتقوا النار ولو بعمرة، فاتقوا النار ولو بضربةٍ في سبيل الله”  وقلت “ولو بشق تمرة”؟!

لأنه يعلم أن أعظم ما يقي من لهب جهنم وحسيسها ومسيسها الصدقات، العطاء، إنفاق المال.
كم ذا رأينا وترون مَن يُقطِّع الليل والنهار في الصلوات وفي حفظ الأحاديث والآيات ولكنه كزاز بخيل؟!

أقول له أنت لست هناك، فالظن الغالب أن هذا لا ينفعك كثيراً لأن البخيل بعيدٌ من الله، بعيدٌ من الجنة، بعيدٌ من الناس، قريبٌ من النار يا بخيل، فلا تبخل على نفسك يا بخيل، أين اليقين في الله؟!
منع الموجود سوء ظنٍ بالمعبود، ولكن أين اليقين؟!

نسأل الله أن يُعظِّم يقيننا فيه، فبعض الناس لا يُعطي ويحسب كل شيئ بالورقة والقلم وهو يتساءل كيف يُعطي كذا وكذا وهو عليه ديون كذا وعليه كذا وكذا حيث أن فلان يتقاضاه كذا، وإلى آخره، فأين اليقين يا مسكين؟!

الدين ليس كلاماً، الدين ليس لعباً، الدين ليس أماني وخُدعاً، هو ليس أماني وخُدعاً وكلاماً على المنابر وفي المحافل وفي المُنتديات، والدين ليس دعاوى تدعيها أمام زوجك وأولادك وأصحابك وإخوانك وتلاميذتك، الدين حقائق بينك وبين الله – تبارك وتعالى – فهو حقائق مبعثها ومثارها اليقين الراسخ الثابت.

كان عمر – رضى الله تعالى عنه وأرضاه – إذا استحسن شيئاً من ماله وأحبه لأنه طائل ومُجدٍ وعظيم تصدَّق به، فإذا آتاه مال عظيم أو شيئ كبير يقول هذا لله، وهكذا كانوا!

أمر عمر بن الخطاب مرةً أن تُشترى له جاريةٌ حسناء من سبي  جَلُولَاءَ  فاشتُريَت له بمال عظيم فلما رآها هكذا أعجبته فقال مُباشَرةً”أنتِ حُرة لوجه الله تبارك وتعالى”، لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ ۩، فالنار تُتقى بالصدقات أكثر ما تُتقى، أكثر ما تُتقى جهنم بالعطاء وبالكرم، وعليكم أن تنتبهوا إلى أنني لا أتحدَّث عن الصدقات فقط  بل أتحدَّث عن العطاء، أن تُعطي أهلك وولدك وأبناء عمك وأبناء خالتك وصديقك وجارك وإخوانك، فهذا كله عطاء وهذا كله مقبول وعظيم عند الله، فبعض الناس لا يُعطي إلا صدقة، لا يُعطي إلا فقيراً أو مُحتاجاً، ولكن لم لا تُعطي أرحامك؟! 

لم لا  تُعطي إخوانك وأشقاءك وأخواتك؟!

لم لا تُعطي أصدقاءك وجيرانك وأحبابك؟!

لم لا يا بخيل؟!
لم يا كزاز يا قصير اليقين؟!

لم؟!
سيُبخَل عليك!

 أسماء بنت أبي بكر – رضيَ الله عنهما – كانت آيةً كأختها عائشة الصديقة – رضوان الله تعالى عنهما وعن أبيهما – في البذل والعطاء والجود، شيئ لم يُسمَع بمثله، واقرأوا عن أسماء واقرأوا عن جود عائشة، فهذا شيئ عجيب لا يكاد يُصدَّق، والله العظيم لا يكاد يُصدَّق، وكانا كذلك حتى لقيتا الله فرضيَ الله تعالى عنهما وعن أبيهما الذي كان يُعطي  مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى۩- أبو بكر – إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى ۩، قال تعالى  وَلَسَوْفَ يَرْضَى ۩، فمَن طمح وأراد أن يُرضيه الله فليتوسَّع في العطاء، ولا أقول يتوسَّع في الصلاة والصوم والحج والعمرة بل في العطاء، فبعض الناس يحج كل سنة ويعتمر كل سنة وفي أقربائه وفي إخوانه وأخواته مَن هم أحوج إلى بعض هذا المال، وكم أحتقر الذي يأتي يسألني: أخي مُحتاج، أخي مُعتل، أخي ذهب بصره، أخي أُقعِدَ، أخي عنده الهيباتايتس Hepatitis، أخي كذا، فهل أُعطيه من صدقة مالي؟!

أحتقره – والله العظيم – وأقول له مُباشَرةً يا أخي إربأ بنفسك عن هذا، هذا لأخوك فاستح أن تقول أتصدَّق على أخي، يا أخي استح على نفسك يا بخيل، استح أن تُعطي أخاك وهو لحمك ودمك  صدقة أو زكاة، بل شاطره مالك، إعطه من مالك – من حُر مالك – ولا منّةَ لك  فالمنّ لله.

قال الفضيل بن عياض “يحملون أزوادنا إلى الله – تبارك وتعالى – بغير نولٍ – لا يأخذون منا نقوداً على ذلك، فهم يأخذون هذه الصدقات وهى زادنا نحن يا أخي في الآخرة حين تُوضَع في الميزان – حتى يضعوه في موازيننا بين يدي الله يوم القيامة” ومن هنا قال “لهم المن”.

كانت عائشة وأم سلمة – رضيَ الله تعالى عنهما وأرضاهما – إذا بعثتا بصدقة إلى فقر أو مسكين قالتا للرسول “انظر ماذا يدعو”،وطبعاً الفقير يدعو “بارك الله فيها، أخلف الله عليها، عوَّضها الله كذا وكذا”، فيعود الرسول فيقول لهما “دعا بكذا وكذا”، فتدعو له بمثل ما دعا وتقول “هذه بتلك حتى تخلص لي صدقتي”، فهى لا تُريد أن يُكافئها حتى بالدعاء، والناس الآن يغضبون إذا لم يُشكَروا فيقول لك أحدهم “أعطيت ولم أُشكَر، أعطيت ولم أُذكَر”، فيا رجل أنت أعطيت لله أم أعطيت للناس؟!

يا أخي أين الدين؟!

لا أدري كيف يفهم الناس الدين – والله – يا أخي، فتجد أحدهم يُصلي عشرين سنة ويسمع الخُطب ثم يصدر منه هذا الكلام، يُصلي عشرين سنة ثم يعطي ثم يبدأ يمنّ ويقول “أعطيت فلاناً وفلاناً وهو لا ينظر إلىّ نظر الاحترام والتجلة”، فأنت تُريد أن يسجد لك لأنك أعطيته، إذن أنت لم تُعط لله.

 التابعي الجليل الأوّاه المُخبِت المُنيب الربيع بن خثيم – رضيَ الله عنه وأرضاه – كان كلما رآه ابن مسعود يقول “الله أكبر، وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ ۩، والله يا ربيعُ لو رآك رسول الله لأحبك” لأنه كان آية من آيات الله، علماً بأنه تابعي وليس صحابياً، فهذا الرجل كان من أهل الصدقات وأهل العبادة وكان يُخفي صدقاته، أمر أهله يوماً أن يصنعوا خبيصاً – هذا مُستجاد الطعام – فصنعوا خبيصاً فدعا عليه رجلاً مخبولاً – رجل أهبل مخبول ولعابه يسيل – وجعل يُلقِمه ولعابه يسيل، وهو يُطعِمه بيده الخبيص – هذا الطعام الهنيء العالي -حتى شبع المخبول وخرج، فقالت له أهله ” يا ربيع غفر الله لك، تكلَّفنا وصنعنا هذا الطعام – لا يصنعون مثله ربما في السنة مرة لأنهم زهَّاد، فهذه عائلة رجل زاهد وهو الربيع بن خثيم الذي هو من كبار زهَّاد أمة محمد – ثم أطعمته مَن لا يدري ما أكل”، قال “إن كان لا يدري فالله يدري”، أنا لم أُطعِمه له بل أنا أطعمته للملك – لا إله إلا هو -، يقول الله  وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ۩، قال الحافظ بن كثير – رضوان الله تعالى عليه – مُعلِّقاً “يُخلِفه في الدنيا بالبدل وفي الآخرة بالثوابِ والجزاء”، الله أكرم منك، فلا تُعطي إلا أعطاك وضاعف عليك، والله إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ۩، وعزة جلال الله  إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ۩ فالله هو الذي قال هذا، هو الذي قال وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ۩، ومن هنا قال الحافظ بن كثير – رضوان الله تعالى عليه – مُعلِّقاً “يُخلِفه في الدنيا بالبدل وفي الآخرة بالثوابِ والجزاء”، فلم الإمساك إذن؟!

ونعود إلى أسماء لأننا لم نذكر حديثها المُخرَّج في الصحيحين وهو الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أسماء بنت أبي بكر – رضيَ الله عنهما – حيث قالت “قال لي رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً – يا أسماءُ أنفقي أوانفحي أو انضحي – لعلها هى التي نسيت أو لعل الأمر اشتبه على الرواة أو بعضهم في هذه الألفاظ الثلاثة – ولَا تُوكِي فَيُوكَى عَلَيْكِ  – أي لا تسدي وتربطي، فإذا ربطتي ربط الله عليكِ فالرزق مربوط – وَلا تُوعِي – لا تضعي الماء في وعاء، في Treasure، في خزنة وتسكّري عليه بأرقام سرية لأن الله سيُسكّر عليكِ – فَيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ”، أي أن الرسول أمرها بأن تُنفِق وتُعطي وترضخ وتنفح وتنضح.

إذن لا يجوزأن نُعطي أقرباءنا وإخواننا وأخواتنا وأبناء عمومتنا وإخواننا في الله الذين نُجلِّهم صدقات، بل نُعطيهم من حُر المال.

انظروا إلى هذا المثل الباذخ العجيب من جود عُبيد الله بن عباس، فكان من أجمل الناس مثل أخيه الفضل ومثل أخيه عبد الله بن عباس، فعُبيد الله بن عباس وعبد الله والفضل من أجمل عباد الله، علماً بأنهم من بني هاشم من الدوحة – من الدوحة الباسقة النبوية الهاشمية الكريمة – فهم كرماء المحتد وأطهار الأنساب والأحساب،  فعُبيد الله بن عباس كان يُضرَب به المثل في الجود والكرم ومن هنا يقول خازنه مقسم حيث أنه كان عبداً له، مولى: كنتُ مع عُبيد الله في سفر، فأصابتنا السماء –
أُمطِرنا – فأردنا أن نؤوي، ولكن أين نؤوي ونحن في كفر من الأرض؟!

فرُفِعَت لنا نار، قال “فلنقصد إليها”،فإذا بشيخ ومعه أهله، فنزلنا به – حللنا به ضيفاناً، ضيوفاً – فقال الشيخ لزوجه وعُبيد الله يسمع: أين المعز؟!

حيث كان عندهم عنز، فقالت زوجته: هل ستذبحها؟!

قال “نعم”، فقالت “تموت ابنتنا” – إذن ستموت ابنتهما لأنها تشرب من لبنها وليس عندهما شيئ آخر إلا هذه العنز فقط لأنهما يعيشان في الصحراء -، فقال “تموت خيرٌ من اللؤم”.

وهذا ما يدل على نبل العرب آنذاك يا أخي – اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ۩ – حيث الكرم والشهامة والرجولة المُتوفِّرة في هذه النفوس العجيبة، ومن هنا قال “تموت خيرٌ من اللؤم”، علماً بأن اللؤم في العربية هو البخل وليس المكر، لأن هناك أُناس يستخدمون كلمة لئيم بمعنى مكّار، وهذا غير صحيح لأن لئيم تعني بخيل، فاللؤم هو البخل، ولذا قال “تموت خيرٌ من اللؤم”، ثم قام إليها فشحذ شفرته وذبحها وبدأ في تجهيزها وهو يُكلِّم عُبيد الله حتى نضجت، فأصاب ومقسم منها هنيأً مريئاً ثم ناما، فلما أصبح أراد أن ينتقل وأن يرتحل فقال لمقسم: يا مقسم كم عندنا من نفقتنا؟!

قال “قلت له خمسمائة دينار”، فقال “ادفعها للشيخ” – أي أنه أنفقها كلها وهو في الصحراء، فلم يقل له ادفعها إلا عشرة دنانير نتبلَّغ بها، وإنما كلها ما يدل على الكرم وبخاصة الكرم النبوي الهاشمي -، فقال: هل ادفعها يا سيدي كلها؟!

فكان يكفيه أن تُضعِف له ثمن عنزته بأن تُعطيه ثمنها مرتين، فقال ” يا مقسم هو أجود منا – هذا البدوي أجود مني، أكرم مني – فهو ذا رجلٌ ليس عنده من الدنيا إلا عنز ذبحها لنا ونحن أعطيناه بعض دنيانا فهو أجود مني”.

يا سلام، ما هؤلاء البشر؟!
هم لا ينظرون إلى المسألة من زاوية كثير وقليل، علماً بأنها كانت لا تُساوي كما يقول الرواة خمسة دراهم، ولكنه أعطاه خمسمائة دينار، اضرب في ستة أي ثلاثة آلاف درهم، فالنسبة من خمسة إلى ثلاثة آلاف، أي أضعاف بالمئين بل كادت أن تكون بالآلاف، ومع ذلك لا ينظر إلى أن هذه خمسة دراهم وهذه ثلاثة آلاف، فليس الأمر هكذا، فعُبيد الله بن عباس هذا كان فقيهاً وهو ابن عم رسول الله فهو مُطّلِبي، وقد روى الإمام النسائي وغيره عن أبي هريرة – رضيَ الله تعالى عنهما – أنه قال: قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – سبق درهمٌ مائة ألف درهم، فقال رجلٌ: وكيف ذلك يا رسول الله؟!

أي أن كيف درهم يسبق عند الله مائة ألف درهم؟!

فقال – عليه الصلاة وأفضل السلام – رجلٌ له مالٌ كثير – عنده ملايين – أخذ من عُرضِ ماله مائة ألف وتصدَّق بها، ورجلٌ ليس له إلا درهمان تصدَّق بأحدهما” إذن هذا تصدَّق بنصف ماله، لأن عند الله لا معنى أن يُقال هذا درهم وهذا مليون، فمَن أصلاً الذي أعطاك المليون والملايين والدرهمين؟!

الله.

وأنت تصدَّقت ربما بواحد على ألف من ثروتك، بمائة ألف فقط، لكن هو تصدَّق بخمسين في المائة، إذن عند الله هذا يسبق هذا.

ولذلك أنا أُواجِه الأغنياء – أغنياء العرب ما شاء الله كثيرون في البلاد العربية – وأُخاطِبهم بهذا، فعليهم أن يفقهوا هذا الحديث النبوي جيداً عن سيدنا رسول الله وأقول لأمثالهم: انتبه فلا تُنظِّر نفسك ولا تُقارِن نفسك ولا تقس ذاتك بأمثالنا من الغلابة فقراء اليد فتقول هم يُعطون بالمئات وأنا أُعطي بالألوف لأن هذاغير مقبول منك، فأنت بخيل كزاز وإنسانٌ لئيم لأنك تُعطي ألوف من مليارات!

قبل يومين وصلنا إيميل  Email – لعله وصل الكثير – مُبكٍ ومن ثم صدمنا عن
أن السيد ناصر الخرافي – رحمة الله تعالى عليه –  انتقل إلى رحمة الله، ولم أكن أعلم هذا، علماً بأنه ثاني ملياردير عربي بعد الأمير السعودي الشهير الوليد بن طلال ويُقال أن ثروته تصل إلى بضعة عشر مليار دولار، ولكنهم قالوا عنه “رحمة الله عليه”، فانتقل إلى رحمة الله وبقيت المليارات لورثته، والآن يأتي الحساب الذي نسأل الله له فيه الرحمة الواسعة، وإن شاء الله يكون عند الله من المُحسِنين، فنحن لا ندري ولا نعرف عنه شيئاً، فإن شاء الله يكون من كبار المُحسِنين ويتقبَّل الله عنه أحسن ما عمل، ولكنه مات وترك المليارات وهذا الشيئ صدمني.

قيل “يا رسول الله فلان”، فقال: ما له؟!

قالوا “عنده كذا وكذا”، فقال: أليس من ورائه الموت؟!

فلا تقل لي عنده وعنده فهذا المنطق لا يهز النبي ولا يُحرِّكه، وإنما قل لي كم يُعطي؟!
في صحيح مسلم عن أبي هريرة – رضيَ الله عنه وأرضاه – أن الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – قال “يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدَّقت فأمضيت؟!”، وفي رواية له “وما سوى ذلك فذاهبٌ وتاركه لغيرك”.

فلا تقل لي مالي، فهذا المال لا يعني شيئاً لأنك ستموت حتى ولو عشت ستمائة سنة وهذا مُستحيل، أنت ستموت قريباً كما سيموت الملياردير الغني الذي وصل عمره إلى سبعين سنة فهو على شفا القبر يا أخي ويا سيدي، ومن ثم عليك أن تفتح دماغك، ابك إلى الله، أضرع إليه أن يبسط يدك وأن يفتح قلبك وأن يُنوِّر عقلك حتى تخدم نفسك يا مسكين، اخدم نفسك ولا تخدم أحداً، اخدم نفسك واعمل لنفسك، هذا إذا كان عندك يقين بالله وباليوم الآخر، ولكن أنا لا أدري لماذا بعض الناس يتصرَّف كأنه لا يقين عنده، ويسمع هذا الكلام ويقعد هو كما هو – والله – فلا يتأثَّر فيه شيئ، وهذا شيئ عجيب يا أخي فنسأل الله السلامة ونعوذ بالله من عمى القلب – والله العظيم – وعمى البصيرة.

ونعود إلى عُبيد الله بن عباس – رضيَ الله تعالى عنهما وأرضاهما – الذي وصله كتاب من ابن عمه أبي عبد الله الحسين – ابن فاطمة، ابن محمد رسول الله وريحانة رسول الله من الدنيا عليه السلام ورضيَ الله عنه وأرضاه، وهو الشهيد وسيد شباب أهل الجنة هو وأخوه – وذلكم أن مُعاوية بن أبي سُفيان – وكان هو الخليفة في ذلكم الوقت – منع الحسين صلاته وعطاؤه، أي عاقبه على شيئ بدر منه فقال له لا صلات، وطبعاً الحسين لا يسأل ولا يتكلَّم ولا يكتب كتاباً يسترضي مُعاوية أو غيره، لا يفعلها فهذا مُستحيل، العلويون لا يفعلون هذا لأن عندهم عزة نفس وعندهم شرف وعفة، فلا يفعلون هذا حتى لو ماتوا جوعاً، ومن ثم ضاقت به الحالُ جداً فساءت حالة الحسين، فقال له أحدُ مواليه ” يا أبا عبد الله لو كتبت إلى ابن عمك عُبيد الله بن عباس – لأن معروف أنه من أجود العرب على الإطلاق، وهو واحد من اثني عشرة أجود الخلق في عصرهم ولعله كان في مُقدَّمهم، وهذا شيئ عجيب فهو ابن عم رسول الله وأخو عبد الله بن عباس – فإنه قد بلغني أنه أتاه مال ، ألف ألف”، أي مليون – جاءه مليون – ولكن لا ندري مليون دينار ذهبية أم مليون درهم فضية معناها، ولكن حتى لو مليون فضية فألف ألف كثير جداً، فقال أبو عبد الله الحسين – عليه السلام – وهو يعلم مَن هو ابن عمه و يعلم جوده وكرمه وشهامته ونخوته: وما عسى ألف ألف تسدُ من عُبيد الله؟!

أي أنه يقول أنه يعرفه، فهذا المبلغ لا يكفيه حين يُعطي، فهذا شيئ عجيب ولا يكاد يُصدَّق، ولكنه كتب إليه الكتاب على كل حال، فلما وصل الكتاب وبلغ به الرسول عُبيد الله بن عباس بكى، بكى لأنه كان من أرق الناس قلباً وألينهم عطفاً وأسرعهم دمعاً، ولذلك الله أعطاه هذا الخير والكرم والجود والسعة والغنى لأنه يستحق،إنما يرحم الله من عباده الرحماء.

فبكى لأن كيف يكون أبو عبد الله الحسين ابن فاطمة وابن عليّ في ضائقة وهو لا يدري، ثم قال لكهرمانه أو لخازنه – خازن ماله – ” أي فلان سيِّر إلى ابن عمي أبي عبد الله شطر ما أملك من ذهبٍ وفضةٍ ولباسٍ ومركبٍ وجواهرٍ وإماء – أي خُذ خمسين  في المائة إلى الحسين – فإن رضيَ به فذاك وإلا فسيِّر إليه الشطر الباقي”

أي نخرج عن كل مالنا لأبي عُبيد الله، فلما بلغ الحسين شطر مال عُبيد الله – ملايين وصلت إليه وهو يعلم طريقة لإنفاق عُبيد الله فلا يسد عنده شيئ، فضلاً عن أن عُبيد الله يعرف قدر الحسين طبعاً فسيَّر إليه شطر ثروته – قال “إنا لله، قد حملنا على ابن عمنا”، أي قد أثقلنا عليه، فكان أول مَن خرج – هذه أول مأثرة وأول خالدة من الخوالد – عن شطر ماله، فمَن يفعلها غيره؟!

ولكن تلاه الحسن أخو الحسين فخرج عن شطر ماله ست مرات وخرج عن ماله كله ثلاث مرات، الحسن من أجود عباد الله فهو مثل جده وأُوتيَ خُلق جده المُصطفى،  ومن هنا كان عنده هذا الجود، فالحسن أبو محمد – عليه السلام – أقل ما يُعطي حين يكون معه مال مائة ألف، تخيِّلوا معنى أن يُعطي مائة ألف فضية، أي مائة ألف درهم لأي سائل، وكان هذا أقل ما يُعطي إذا كان عنده، وهذا كرم لا يكاد يُصدَّق، فهم يُعطون والله يُعطيهم، يُعطون والله يُعطيهم، وهكذا – فرضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين -، فكانوا آيات من آيات الله تبارك وتعالى، آيات حقيقةً لأنهم ينظرون ويتلمحون ما لهم عند الله تبارك وتعالى.
شيخ الإسلام وشيخ الحفاظ المُحدِّثين في عصره عبد الله بن المُبارَك الخراساني الذي كان يُلقَّب بشيخ الإسلام – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – قال مرةً لأخيه العابد الزاهد الراهب الفضيل بن عياض أبي عليّ – رضيَ الله تعالى عنهما – لولاك وإخوانك لما اتجرت يا أبا عليّ.

الله كان قد أوسع على عبد الله بن المُبارِك ومن ثم عنده تجارات فهو يكسب في السنة بمئات الألوف ولكنه يعيش حياة الفقراء ولا يُخرِج زكاة المال، لماذا؟!

لأنه لا يحول الحول على نصاب، فلا مكان للادخار وللـ Einsparung والكونتو  Conto والتسكير عند ابن المُبارَك رغم أنه يكسب كل سنة مئات الألوف، ولكن كل هذا يُنفَقه إلى أن لقيَ الله، فلم يفتقر قط بل كان يدعو إلى مائدته العشرات من الناس الفقراء ويُقدِّم لهم أطيب الطعام وأهنأه بيديه، فهو علَّامة بل هو شيخ الإسلام ورجل غني جداً جداً جداً ومع ذلك يُقدِّم الطعام بيديه ثم ينتحي ناحيةً فيأكل الخبر والزيت زهداً وتأديباً لنفسه، فيُطعِم الناس الدجاج المشوي بيديه، ويأكل هو الخبز والزيت.

قال القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين –  وهو أحد الفقهاء السبعة: كنت مع ابن المُبارَك مرةً في سفر وقلت بم فضلنا هذا الرجل؟!
أي أنابن المُبارَك أفضل منا – سبحان الله – عند الناس وله هيبة وله جمال وله جلال والكل يُحِبه فيتحدَّثون بإسمه “وابن المُبارَك وابن المُبارَك”، فكيف يرقى إلى هذه الدرجة؟!
فالمسألة ليست في العلم، فنحن عندنا من العلم ما عنده بل ما هو أكثر منه، وليست المسألة أيضاً في الدين فقط، فنحن أيضاً أئمة ومُتدينون وأتقياء ورعون، ومن هنا قال: هذا الرجل فيه سر لم أفهمه ، فبماذا فضلنا؟!

قال: فكنت معه في سفرة إذ طفأ السراج – نفذ الزيت – فلما عاد الغُلام بالزيت وأشعلناه وهو لا يدري وجدته وقد فاضت عيناه، فقلت فضلنا بهذه الخشية.

رجل خاشٍ ولكن حتى دموعه يُسِرها من الخلق فلا يبكي أمام الناس، يبكي بينه وبين الله تبارك وتعالى، فعرف الرجل أن هذا هو الجواب، فهو عنده نوع من الخشية القوية جداً من الله تبارك وتعالى، ومن هنا يقول لأخيه الفضيل ” لولا أنت وأمثالك أو لولا أنت وإخوانك ما اتجرت”، أي أنه يتجر من أجلكم لأنهم طلاّب علم وطلاّب عبادة، فهو يُنفِق عليهم ولا يُريد لهم أن يبذلوا ماء وجوههم على أبواب السلاطين أو الأغنياء، فنحن كعلماء مع بعض نُنفِق على بعض ونُصرِف على بعض، فمَن عنده يُعطي الآخر، ونحترم العلم والزهادة، وهذا الشيئ عجيب يدل على عقلية غير عادية!

الإمام الهُمام والإمام العظيم الجليل، إمام أهل مصر الليث بن سعد – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه –  قال فيه إمامنا الشافعي “الليث أفقه من مالك ولكن أصحابه لم يقوموا به”،وفي رواية “ضيَّعوه”، أي أنه لو حُفِظَ علمه وفقهه لكان  الإمام الخامس في الإسلام بلا تردد فهو أفقه من مالك، وكان آية عجيبة من آيات الله في  الكرم والعطاء والرضخ، علماً بأنه كان مُتموِّلاً مُثرياً فعنده ثروة هائلة لأنه كان يتجر وكان عنده حدائق تغل عليه غلى عظيمة، وهناك قصه جميلة لليث بن سعد مع منصور بن عمار، ومنصور بن عمار هو شيخ الوعاظ في عهده، بل هو أحسن مَن وعظ وذكَّر بالله فيكاد يُبكي الخشب والجبال إذا سمعته يعظ ويُذكِّر بالله، وسمعه هارون الرشيد فبكى بكاءاً مُراً وقال: يا منصور من أين لك هذا الوعظ والتذكير؟!

فهذا الشيئ لم يُسمَع بمثله من قبل فالرجل صادق ومن هنا استعجب من وعظه، قال منصور بن عمار “فقلت له سنح لي رسول الله في المنام فتفل في فمي وقال لي قُم يا منصور فقُل”، أي قُم وتكلَّم مع الناس، وهذه الرؤيا هامة لمَن يُنكِرون رؤية الرسول فبعض الناس للأسف يُنكِرون حتى أن رؤية الرسول في المنام حق، ولكنه قال أن السر في هذا فقط تفلة مُصطفوية كريمة في فمه ثم قال له الرسول “يا منصور قُم فقُل”، ولما توفاه الله – تبارك وتعالى – رؤيَ في المنام  حيث رآه بعض إخوانه من الصالحين فقال: قلت له يا أخي يا منصور ما فعل الله بك؟!

قال “أوقفني بين يديه وغفر لي وأجزل لي وأدخلني الجنة”، ولكن بم؟!

قال “لأنك كنت تُحوِّش عبادي في الدنيا على ذكري يا منصور”، أي كنت تُهيّجهم وتبعث هممهم على ذكري وحبي، فيذكروني بوعظك هذا ومن ثم فلتدخل الجنة.

فالليث بن سعدد كان لأول مرة يسمع منصور بن عمار في مصر، ومن هنا يقول منصور “فبكى الشيخ – عن الليث – بكاءً عظيماً، ثم دعا بي ،وغمز بخادمه فخرج” أي أن هذا الأمر كالسر بينهما، ثم استتلى قائلاً “ودفع لي كيساً فيه ألف دينار ذهبي”، فقلت “بارك الله فيك يا إمام قد أحسن الله وأنعم”، أي أنني غير مُحتاج إلى هذا، فقال “لا ترد ما أصلك به”، أي أني حين أُعطيك شيئاً كصلة وكهدية مني  لا ترده، ثم قال “ولكن لا تمدح بعد اليومِ بعد أن مدحت رب العالمين أحداً من المخلوقين، ولا تقف بالكلام على أبواب السلاطين”، أي أنه سمع بأن منصور بن عمار يذهب إلى الخلفاء وقد يمتدحهم ومن ثم نهاه عن هذا حتى ولو كانوا من الخلفاء وحتى لو أعطوه مالاً، وأمره بأن يمدح فقط الله، لأن الذي يستحق الحمد هو الله وليس البشر، فالله هو أهل الثناء والمجد، هو أهل الحمد – لا إله إلا هو – ومن ثم امدح الله فقط – وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ  فَمِنَ اللَّهِ ۖ  ۩ ، وذلك لأن الليث يغار على الله، فالليث بن سعد يغار على الله أن يُمدَح غيره، ثم قال له: وتأتيني ولك في كل سنة مثلها، ولكن ما دُمت مُقيماً الآن بمصر متى تأتيني؟!

فقلت “الجمعة الداخلة”، أي الجائية أو القادمة، ثم قال منصور بن عمار “فإذا به ينتظرني وقال لييا منصور قُل وذكِّرني بالله، فتكلَّمت فبكى بكاءً أشد من الأول ثم قال 

انظر يا منصور ما في ثني هذه الوسادة، فنظرت فإذا صرة فيها خمسمائة دينار فقلت يا سيدي عهدي بصلتك الأمس – أي أنك قبل أسبوع أعطتني  ألف ذهبية – فقال خُذه ولا ترده”، أي لا ترد ما أصلك به، وهذا ما يدل على كرم الرجل العجيب، فهو يُعطي لله حباً في هذا الواعظ، حباً في هذا المُذكِّر لكي يجعله عفيفاً فيستعف عن أرزاق الناس.

قال منصور بن عمار ثم سالني: متى تأتيني؟!

فقال: قلت الجمعة الداخلة – علماً بأنه ما زال مُقيماً – ثم أتيته فأمرني أن أُذكِّر فذكَّرت فبكى بكاءً مُراً ثم قال يا جارية هاتي الثياب، فأتت بإزار فيه أربعون ثوباً، قلت: ما هذا يا سيدي؟!

قال “للحج، أعدّها لحجتك”، فقال “يا سيدي يكفيني ثوبان”، قال “يا منصور إنك رجلٌ كريم وإنه يصحبك الكرماء فإعط الناس – أي أُريدك أن تتكرم على الناس أنت أيضاً – وانظر ما في ثني الوسادة”،قال “فنظرت فإذا ثلاثمائة دينار” وحين حاول أن يرفض قال له “لا ترد، ولا تُحدِّث أحداً، ولا تدع ابني يعلم، فلا أُريد أن ابني قدامة يسمع بهذا فتهون في عينه”.

 يا الله، هو يُريد من هذا الواعظ، من هذا المُذكِّر أن يظل في أعين الناس عزيزاً شريفاً حتى في عين ابنه، ومن هنا قال “لا أُريد أن ابني يعلم أنني أعطيته نقوداً فيقول لو كان واعظاً حقيقياً، لو كان صاحب يقين، لو كان صاحب زهادة ما أخذ نقوداً من أحد ولا من أبي فتضع في نظر ابني”، وهذا شيئ لا يُصدَّق، فما هذه النفوس والعقول والأراوح الطيبة؟!

فأفٍ لي، أفٍ لنا وتف، فنحن لسنا هناك ولا نُفكِّر بهذه العقلية، اللهم اجعلنا مثلهم واسلك بنا سبيلهم وارض عنا كما أرضيتهم وإعطنا كما أعطيتهم.  

 أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

                                                                      (الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له – أهل الثناء والمجد – وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.

أما بعد إخواني وأخواتي:

قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – في حديث عُقبة بن عامر “لا يُخرِج عبدٌ صدقةً حتى يفك عنها لحيي سبعين شيطاناً”، فحين تُفكِّر أن تتصدَّق بصدقة لا يأتيك شيطان واحد بل سبعون شيطان وكلهم يُوسوِسون لك: إياك أن تُعطي وأنت عليك وعليك وعليك وهناك التزامات فضلاً عن الزمان ونوائب الزمان ومصير الدولار ومصير اليورو ومنطقة اليورو حيث أن هناك أزمة قادمة، فلم تُعطي؟!
سبعون شيطاناً، فيربحون الأشرار الشياطين وتخسر أنت، ومن ثم عليك أن تنتبه وعليك أن تتحدَّى نفسك، قال الله  فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ۩، فهذه قفزة كبيرة  تُريد تدريباً روحياً خاصاً، ولكن أن تُعطي العشرات والملاليم وتقول لي أنا أعطيت فهذا كلام فارغ، أنت لم تعط شيئاً تشعر بقيمته، فعليك أن تُعطي شيئاً تشعر بوزنه بحسب ما أعطاك الله، فأعطاك الله ألفاً وأعطيت أنت عشرة فهذا قليل، أما إذا أعطيت مائة  فهذا معقول لأن العُشر معقول إلى حدٍ ما، وكذلك إذا أعطاك الله مليوناً عليك أن تُعطي مائة ألف فهذا سيكون معقولاً لأنه العُشر، ولا تقل لي الزكاة اثنين ونصف في المائة، التزما بالاثنين ونصف في المائة وإن شاء الله ربنا هيسكرها – والله العظيم – عليك بعون الله تعالى، قسمأ بالله -ولا تشك في هذا  – الله سيُسكّرها عليك بل ويُمكِن أن تعود تمد إيدك للناس، ولكن الصحيح هو أن تُعطي كما أعطاك الله، فإذا زادك الله فزد، ونحن لا نقول لك إعط نصف الثروة وكل الثروة مثل الحسن وعُبيد الله لأن هذا صعب جداً جداً جداً جداً جداً على مُعظم خلق الله، ولكن نقول إعط العُشر، ووالله العُشر قليل، فإذا أعطاك مليوناً فلتُعط مائة ألفاً، وإذا أعطاك ملياراً فلتُعط ألف مليون، فأنت  لا تُعطي هذا للشياطين وإنما تُعطيها لعباد الله لأن هذا من أعظم ما يُتقرَّب به إلى الله، ألا تسعد حين تشعر بأنك أسعدت العباد؟!

فلا أدري كيف يُنكِر هؤلاء الأغنياء الحمقى البُله هذا، مَن يُنكِرون هذا والله بُله وأُقسِم بالله على هذا، فأسعد ما تكون يا عبد الله ويا أمة الله حين تشعر أنك بهذا المال بنيت مساكن للفقراء في البلدة الفلانية، فالآن سكن ما شاء الله ألف شخص في بيوت خاصة بهم – الله أكبر – بعد أن كانوا في الشوارع، بعد أن كانوا على النهر وفي الجبانات، فتقول “الآن أنا كنت سبباً في هذا، فالله – تبارك وتعالى – رضاً منه عني وكرامةً لي وتشريفاً وحباً في ولي جعلني أنبوبة وجعلني واسطة بها عبرت رحمته إلى عباده، يا ربي لك الحمد” ومن ثم اسجد له ألف ساعة حتى – قسماً بالله- فلا تر الفضل لنفسك، ره الفضل لله فهو الذي يسَّرك إلى هذا، قال الله  فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ۩، فضلاً عن أن هناك ألف شخص يا حبيبي يدعون لك باللهم كذا واللهم كذا.

قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – لمُعاذ بن جبل في الحديث الذي أخرجه الترمذي وقال حسنٌ صحيح: ألا أدلك على أبواب الخير ؟!

قلت “بلى يا رسول الله”، قال “الصوم جُنة – ونحن في شهره – والصدقة تُطفيء الخطيئة كما يُطفيْ الماءُ النارَ”، أي أن بالصدقة تُطفيء خطاياك بإذن الله تعالى.

في حديث أنس وغيره “وصدقة السر تُطفيء غضب الرب – فالله يكون غضباناً عليك فإذا تصدَّقت لوجه الله وأسررتها طفأ غضب الله وتحوَّل إلى رضا وربما محبة – وتقي ميتة السوء”، فقد يكون مكتوباً لك أن تموت بالسرطان أو بالإيدز أو بالهيباتايتس Hepatitis أو أن تموت مدهوساً مدعوساً أومحروقاً أوغرقاً أو مردوماً، ولكن الله يأبى هذا فيموت في أحسن ميتة –  بإذن الله تعالى – بين أهله وأحبابه في أحسن صحة عزيزاً كريماً، بفضل ماذا؟!

صدقاته، بفضل الصدقة والعطاء.

النبي يقول “والصدقة برهان”، روى ابن حبان في الصحيح عن أبي ذر أنه قال: قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه – عبد عابدٌ من بني إسرائيل ربه ستين سنة في صومعته، ثم إن الأرض أُمطِرَت فاخضرت فنظر من صومعته فقال ” لو نزلتُ، لو انحدرتُ فذكرت الله فازددت خيراً”، فنزل من صومعته فلقيته امرأة فلم يزل يُكلِّمها وتُكلِّمه حتى غشيها.

فعل هذا بسبب الشيطان، ولذلك عليكم أن تنتبهوا إلى أنه لا طرق زائدة مع النساء، فنصيحتي لنفسي ولكل إخواني “لا تقف كثيراً ولا تتكلَّم مع النساء”، فلماذا تفعل هذا يا أخي وأنت لست امرأة؟!

فإذا افترضت أن إحداهن أرادت أن تسألني عن شيئ فيكون ذلك عبر التليفون أو بواسطة الورقة، وهنا يعرفون أنني أكره من أي أخت أن تأتي تقول لي أُريد أن أتكلَّم معك، أُقسِم بالله أكره هذا فلا مجال للكلام، فعليها أن تتصل بالتليفون أو تبعث لي بورقة وسيأتيها الجواب، فلماذا الكلام والمُواجَهة؟!

عليك أن تُبعِد النار عن البنزين، فابتعد عن كل خُطوات الشيطان ولا تتوسَّع فيما لا يُرضي الله – تبارك وتعالى -، فهذا عابد ستون سنة ومع ذلك زنى، ويقول الرسول عنه فنزل يستحم المسكين ومع رغيف أو رغيفان، إذ جاء فقير المسكين – يُريد طعاماً – فأومأ إليه أن خُذ الرغيف أو الرغيفين، فأخذهما وذهب بهما، ثم إنه مات، ولكن لا ندري مات بعد شهر أو شهرين أو سنة، الله أعلم مات متى، يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – فبُعِثَ يوم القيامة – أي سيُبعَث يوم القيامة – فُوضِعَت عبادته ربه ستين سنة في كفة الحسنات، والزنية وُضِعَت في كفة، فرجحت الزنية بعبادة ستين سنة.

أقول هذا لمن يستسهل الزنا، فأنا يقشعر شعر قلبي وبدني من مسلم يُصلي ويحضر الجُمع ثم تسمع أنه يزني ويقول لك يا أخي الله غفور رحيم، فيا أخي يا جاهل، يا مَن لم يعرف ربه ولم يخشه أين خشية الله ؟!

أما تستحي على عِرضك؟!

أما تخاف على زوجك أن تفجر؟!

أما تخاف على بناتك أن يُفجَر بهن؟!

أما عندك حياء ورجولة وماء في وجهك؟!

أما تخشى الله؟!

قال الله عن الزنا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً ۩، فادع على نفسك أن تموت قبل أن تزني ولا تزن، فبعض الناس يعتقد أن الزنا شيئاً عادياً، كأنه أكلة يتناولها عند أحدهم، ولا أفهم كيف هذا، لا أستطيع أن أفهم – والله العظيم – طيلة حياتي هذا، فهو يُصلي ويحضر الخُطب ويزني، فمَن يفعل هذا عليه أن ينتبه وأن يستمع إلى هذا الحديث الصحيح، فعبادة ستين سنة يا مسكين – فالأمر ليس أنك حجيت واعتمرت فتدل على الله بهذا، ولكن عبادة وصلت إلى ستين سنة من راهب عابد صالح مسكين في صومعة من غير رياء – وُضِعَت في كفة وتلك الزنية – يقول النبي – وُضِعَت في كفة، فرجحت الزنية بعبادة ستين سنة، أي أن مصيره إلى النار، فلماذا تزني وقد أحل الله الزواج يا حبيبي؟!
سيقول لي أحدهم مُصيبتي أنني مُتزوِّج ومع ذلك أزني، ومن هنا أقول له لقد ذهبت في ستين مليون داهية، أُقسِم بالله ذهبت في ستين مليون جهنم يا أهبل يا أحمق يا مَن لا عقل له، فلماذا تزني ودينك أحل لك الزواج مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ ۩؟!
فيقول لي لأنه من غير المُمكِن أن أتزوَّج مَن زنيت معها لأنني زنيت في مُزوَّجة، فأقول له “لعنة الله على أمثالك”، فما هذا؟!

لم يبق إلا أن تزني في المحارم، فكل شيئ عندك حلال وتقول لا أستطيع أن أتزوَّجها لانها مُزوَّجة، أي أنك تهتك أعراض الرجال المُكرَّمين يا نذل، وهذا شيئ لا يُصدَّق!

يا إخواني هذه فرصة لكي تُأدِّبوا أولادكم وصغاركم الآن على هذه المعاني، فحين تتحدَّث عن الشرف والعفة والزنا تحدَّث بلغة قوية مُفعَمة بالصدق مع أولادك حتى حين يكبر ابنك أو بنتك يعرف معنى العفة ومعنى الاستقامة ومعنى الشرف، وإلا تضيع وتُضيِّع – والعياذ بالله – مَن هم معك.

المُهِم الآن أن المُصطفى – عليه السلام – يقول عن هذا الراهب “ثم إن الرغيف أو الرغيفين أمر الله أن تُوضعا أو يُوضعا في كفة الحسنات – الله قال هناك عمل بسيط قام به ولم تنتبه له الملائكة وهو أنه تصدَّق مرة برغيف بعد ما زنى، فضعوا على الحسنات هذا الرغيف – فوُضِعَ الرغيف أو الرغيفان فرجحت كفات الحسنات، فدخل الجنة”.

أرأيت أهمية الصدقة؟!

النبي يقول “فاتقوا النار ولو بشق تمرة”، فالصدقة والعطاء شيئ جميل جداً، ولكن قد يقول لي أحدهم ويده على قلبه وعلى دزدانه: هذا الكلام جميل ومُثير ولكن كيف لي هذا وأريد أن تتعلَّم ابنتي في جامعة كذا وكذا وهذه الجامعات تُكلِّف كثيراً؟!

فأقول له: وأنت مَن علَّمك ورزقك يا رجل؟!

ألم تر لطف الله بك في حياتك؟!

اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ۩، فهل الله سيُضيِّع أبناءك؟!

أنا أقول لك أنك الآن مَن تُضيِّعهم، لأن هذا المنطق يُضيِّع أبناءك، واسمع كلام حبيبك وسيدك رسول الله – وبه أختم – فهو – والله – من أجمل ما تسمعون في حياتكم من حديث، هذا الحديث لا أكاد أنساه فدائماً يتراءى لي وذكرته على المنبر مراتٍ معدودة وهو حديث أخرجه الطبراني في الأوسط والصغير عن عبد الله بن مسعود – رضيَ الله تعالى عنهما وأرضاهما  – قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – نشر الله – أي بعث يوم القيامة – تبارك وتعالى رجلين أكثر لهما من المالِ والولد – أموال كثيرة وأولاد كثيرون ما شاء الله وهذه هى نعمة الدنيا التي ذكرها الله بقوله الْمَالُ وَالْبَنُونَ ۩– فأُوقِفَ الأول بين يديه فقال له – تبارك وتعالى – أي فلان ابن فلان، قال لبيك ربي وسعديك، قال له ألم أُكثِر لك المالَ والولد؟!

فقال “بلى يا رب”، قال: فما صنعت أو كيف صنعت فيما آتيتك؟!

أي أن هذه ليست شطارة منك أنك رُزِقَت المال والولد بل هذا ابتلاء –  لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ۩ – واختبار، فالله يختار أن يكون هذا غنياً وهذا فقيراً لحكمة عند الله وليس من أجل سواد أعيننا – والله العظيم – أبداً ولا لأسمائنا ولا لأبداننا ولا لأحسابنا، لا والله الذي لا إله إلا هو، فأنا أُقسِم بالله على هذا، ولكن هذا اختبار، أي أن الله فعل ذلك ليختبرنا فحياتنا كلها اختبارات، ومن هنا قال الله في الحديث لهذا العبد: فكيف صنعت  فيما آتيتك ؟!

قال ” يا رب تركته لأولادي – أي أنه أمسك ولم يُعط شيئاً، فليس له صدقة أو حج أو وصية، لم يفعل شيئاً وأمسك – خشية العيلة” أي أنه خاف عليهم الفقر من بعده وترك كل المال بل وكل شيئ لأولاده، فقال له تبارك وتعالى ” يا فلان أما إنك لو تعلمُ العلمَ لضحكت قليلاً ولبكيت كثيراً، أما إن الذي تخوَّفت عليهم منه قد أنزلته بهم”، أي أنك خشيت الفقر ولكن أنا أفقرتهم لك وأنت لا تعلم لأن طبعاً الذي يموت ينقطع عن الدنيا، وهذا أمر هام لابد أن ننتبه إليه، فلا تظن أنك ستطمئن على أولادك وأنك ستراهم كل يوم في منامك في البرزخ، لن تراهم ولن تعرف عنهم شيئاً، فالنبي – عليه السلام – يوم القيامة يُبعَث ويُختلَج أناسٌ – والحديث في الصحيحين وفي موطأ مالك – عن حوضه فيقول “يا رب أصيحابي، أصيحابي”، فيُقال “إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك”، أي أن النبي وهو نبي لا يدري ولا يعرف شيئاً عنهم بعد وفاته، فقال “فلا أقول إلا كما قال أخي العبد الصالح – يعني عيسى – وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ۩”، فاتركوا هذه الأحاديث الضعيفة والقصص التي يقصها بعض الوعاظ في كتبهم الصفراء عن أن الميت يعرف كل شيئ، فهو لا يعرف ولا يدري شيئاً، ويا حسرة، فهذه حسرة فعلاً نحن – والله – تحسَّرنا بسببها لأننا لن نعرف مصير أولادنا بعد وفاتنا ولكن نستطيع أن نعرف الآن ونحن أحياء لم نمت بعد، ولكن سيقول لي أحدهم كيف؟!

عليك أن تعمل للآخرة، اتق الله وتصدَّق ونم وأنت مرتاح – أي مُت وأنت مرتاح – فوالله العظيم لن يضيع أولادك، سيعزون في الدنيا وإن شاء الله في الآخرة ببركة صالحك، قال الله  وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا ۩، فأنت لن تستطيع أن تعرف مصير أولادك إلا الآن ولكن إذا مُت فلن تعرف، فالله يقول لهذا العبد “أما إنك لو تعلمُ العلمَ – أي أن الله يقول له أنه جاهل فلم يعلم ما سيحدث لهم – لضحكت قليلاً – وتأمل هذا الحديث العظيم -ولبكيت كثيراً، أما إن الذي تخوَّفت عليهم منه قد أنزلته بهم”، أي أنني أفقرت لك أولادك كلهم فأصبحوا مثل الصعاليك من ورائك، ويُوقَف الثاني بين يديه فيقول له “أي فلانُ بن فلانٍ”، فيقول “لبيك ربي وسعديك”، فيقول: ألم أُكثِر لك المالَ والولد؟!

فيقول “بلى يا رب”، فيقول له: فكيف صنعت فيما آتيتك؟!

فيُجيب ” أي رب أنفقته في سبيلك – أي أنا أنفقت أموالي كلها تقريباً في سبيلك ثقةً – مني بطولك”، أي لأنني أعلم أنك قوي مُعطٍ كريم جبَّار، ومن ثم لن تُضيِّع أولادي، فأنا ثقةً مني في هذا أعطيت ما عندي كله في سبيلك، فيقول له ” أي فلان أما إنك لو تعلمُ العلم – اللهم اجعلنا منهم بحق لا إله إلا الله، بحق لا إله إلا الله اجعلنا من هذا النمط يا رب – لضحكت كثيراً – افرح بهذا – ولبكيت قليلاً، فإن الذي وثقت به قد أنزلته بهم”، أي أنني قد أغنيتهم ورفعتهم وأعززتهم، ولكن يا إخواني هذا كله يحتاج إلى يقين، فاللهم اجعلنا من أهل الإيمان الصادق واليقين النافذ، اللهم إذا أقررت أعين أهل الدنيا من دنياهم فأقر عيوننا بعبادتك يا مولانا يا كريم، يا حرز المُؤمِنين، يا كهف السائلين، يا أمان المُستأمِنين، يا كريماً، يا جواداً، يا رب العالمين.
12/08/2011

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: