إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الحق – سُبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ۩ وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاء أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ۩ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ ۩ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ ۩ فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الفاضلات:

تأملت في قوله – سُبحانه وتعالى – بصدد زوج زكريا عليهما السلام، حين ابتهل إلى ربه – سُبحانه وتعالى – طالباً الولد، طالباً المولى الذي يلي ويرث تراثه الروحي والمعنوي، لباه الله تبارك وتعالى، وأخبر – عز وجل من مُخبِر – أنه أصلح له زوجه، وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ۩، وهذا مُدخَل مُناسِب لإعادة النظر في مفهوم الصلاح لدينا، إذ كاد يقتصر هذا المفهوم على ما له علاقة بأمور التعبد والتزلف إلى الله عن طريق العبادات وما شاكل، في حين أن القرآن الكريم في مواضع يُوحي ويُلهِم أن هذا المفهوم أوسع بكثير من أن يقتصر على خصوص العبادة وما شاكلها.

في اللُغات الأجنبية يروق للمرء أن تُستخدَم كلمة مثل كلمة Good – مثلاً – بمعنى جيد وصفاً لشيئ وبمعنى صالح وصفاً لسلوك ووصفاً لإنسان، فالأب الصالح يُقال عنه إنه Good father، أبٌ صالحٌ! لأن ما يعنيني كولد – كابن أو بنت – في نهاية المطاف من صلاح أبي أن ينعكس صلاحه علىّ إرشاداً وتوجيهاً وعنواً وحياطةً ومحبةً ونفعاً، هذا الذي يعنيني من صلاحه، هذا هو الأب الصالح، أما أن يكون أكثر من غيره عبادة وزُلفى إلى الله وهو لا يستطيع أن يتواصل معي تواصلاً فاعلاً وصحيحاً وصالحاً فهذا لا يعنيني، لا يعنيني من صلاحه شيئ إذن، ولن يكون أباً صالحاً، حقيقةً لن يكون أباً صالحاً.

أيهما أقرب إلى الصلاح: الأب الذي يتمتع بمهارات تواصلية عالية مع أولاده – وهكذا يستطيع أن يُساعِدهم وأن يُعنيهم على أن يُوسِّعوا أُفق رؤيتهم، وأن يُوسِّعوا مجال خياراتهم وأفضلياتهم، وأن يسيروا ويسلكوا بطمأنينة بعيداً عن القلق والتوتر والتشوش العاطفي والعقلي – أم الأب المُستغرَق في العبادة وفي الذكر وفي الصلاح الذاتي أو في الصلاح الفردي أو في تخليص نفسه وهو عاجز تماماً عن أن يتواصل مع أولاده؟ في نهاية المطاف لابد أن يتشبَّث بل لابد أن يُعتقَل في التقسيم الثنائي الصارم والخاطئ الفاشل في نفس الوقت، إنه تقسيم مُذنِب أو بريء، مَن المُذنِب؟ أينا المُذنِب؟ طبعاً لابد أن ينتصر دائماً الأب صاحب السُلطة، وأن يكون هو البريء وابنه هو المُذنِب، صحيح أو خاطئ هو سلوكه الصحيح وسلوك ابنه دائماً هو الخاطئ، إلى آخر هذه التصنيفات!

طبعاً ويغفل مثل هذا الأب أو مثل تلكم الأم عن أن العلاقة كلما كانت تشاركية أكثر وتبادلية أكثر كلما أصبح من غير المُجدي اصطناع التقسيمات الثنائية، لأنها تقسيمات غير جدلية، كلما كانت العلاقة تشاركية وتبادلية لابد أن نصطنع تقسيماً جدلياً، ليس من السهل أن يُحكَم على أحد بأنه المُذنِب والآخر بريء، مُستحيل! في كل الحالات تقريباً الكل يكونون مُذنِبين، الكل يكونون مُخطئين، الكل يكونون مُقصِّرين، الأب والأم والابن والبنت وربما أصدقاء العائلة وربما الأقارب أيضاً وربما الآباء الروحيون أيضاً، الكل! لأنها مسألة جدلية، فيها نوع من التبادل المُعتمَد أو اعتماد التبادل بشكل مُتواصِل في كبير الأمور وصغيرها، لكن نحن للأسف الشديد – وهذا الذي يُحزِن ويُقلِق – حين تقع مُشكِلة وحين يحدث نوع من الأزمة في علاقة الآباء والأمهات بالأولاد يفزع الآباء والأمهات دائماً إلى مُحاوَلة إراحة ضميرهم، هل قصَّرنا؟ نحن لم نُقصِّر، أليس كذلك؟ ويُحِبون مَن يُطمئنهم، نحن فعلنا وعملنا الذي علينا كما يُقال، أليس كذلك؟ نعم كذلك، إذن لا بأس! لكن هل ستُحَل المُشكِلة بهذه الطريقة؟ نعم أنت الآن مُغرَم بإصدار الأحكام، أنت بريء وهو مُذنِب، هل هذا سيحل مُشكِلته؟ هل ما ينتظره ابنك أو ابنتك أن تُبرهِن له بطريقة سجالية أو حجاجية أو جدالية أنك بريء وأنه مُذنِب؟ هل ستُحَل المُشكِلة؟ لن تُحَل، بالعكس! هذا سيُشعِره بالمرارة وبالشعور الطاحن بالفشل ربما، كما يُمكِن أن يُشعِره برغبة زائدة في التمرد والمُشاغَبة والمُشاغَلة والمُشاكَسة، وأن يخرج عن الطوق، بعضهم يهرب من البيت للأسف، هذا الآن ليس فقط في بيوت غير المُسلِمين، في جميع البيوت! بيوت مُسلِمين وغير مُسلِمين، بنات وأولاد، في أول فُرصة تلوح له في الأُفق ينتهزها ويخرج من البيت، وربما إلى غير عودة، لأنه لا يُريد أن يعود إلى هذه المحكمة الدائمة، محكمة دائمة وتُصدِر الأحكام فقط، ودائماً الأب هو المُنتصِر أو الأم ربما، ودائماً هو المُذنِب وهو الخاطئ!

طبعاً ليس هناك مَن هو كامل، بالذات في هذه المرحلة، مرحلة النُضج أو التوجه إلى النُضج، مرحلة المُراهَقة بالضبط، وهي مرحلة برزخية، مرحلة برزخية بين الطفولة وبين النُضج، بين الطفولة وبين الرجولة، يا ما أُحيلا مرحلة الطفولة! هذا الطفل الصغير الوادع مهما كان مُشاكِساً من السهل جداً إرضاؤه، من السهل جداً إسعاده، من السهل أحياناً إقناعه، قد تُرضيه وقد تُسعِده بقطعة حلوى، بنُزهة خلوية إلى أي مُنتزَهPark، ويسعد ويرضى، وهذا يوم من عمره، وهذا مطلوب، يرضى بسرعة، ولكن إذا ما بدأ يُراهِق البلوغ فإنه يُصبِح من الصعب إرضاؤه، من الصعب جداً إسعاده، إنه يرفض هذه الأساليب الطفولية في نظره لإسعاده وإرضائه، لأنه شخصية الآن برزخية، ومن هنا مأساته ومأساة مَن حوله، وخاصة الأب والأم وربما الإخوة والأخوات، لأنهم لا يزالون يتشبَّثون بالنظر إليه على أنه طفل، ولم يعد طفلاً، وهو مُصِر على أنه ناضج، وفي الحقيقة هو ليس ناضجاً، هو لا يعي هذا وهم لا يعون هذا، هو في مرحلة برزخية بين الطفولة والرجولة، لكنه يبتعد عن الطفولة يوماً فيوماً ومرحلة فمرحلة ويقترب من النُضج، يقترب من الرجولة أو الرجولية، لكن يظن نفسه أنه الرجل الكامل، وأنه على خبرة بكل شيئ، ويرى نفسه بمنظور مثالي، ولذلك يُكثِر الانتقاد، يُكثِر التمرد، يُكثِر السُخرية والاستهزاء، حتى من قيم آبائه وأمهاته، من قيم المُجتمَع، من القيم السائدة، من الأعراف، من الأفكار، ومن المبادئ، لا يُعجِبه شيئ، لا نظام سياسي، لا نظام اجتماعي، لا نظام قيمي، وربما لا رجال دين، ولا علماء دين، لا يُعجِبه شيئ! مع أنه يعجز طبعاً عن أن يُقدِّم البديل الحقيقي، إنه يُقدِّم بديلاً مُبتسَراً فورياً في شكل جُمل غير مُترابِطة، ثم مأساته أيضاً أنه هو نفسه ليس مثالياً ويُخطئ ولا يصدر عما يدعو إليه أيضاً، وهو عالم بهذا، هذا هو المُراهِق!

المُشكِلة تبدأ – كما قلنا قبل أسبوعين أو ثلاثة أسابيع – من أننا ما زلنا نتشبَّث بطريقة كيف نتصرَّف؟ لا كيف نفهم؟ كيف نُفكِّر؟ لابد أن نتخلى عن طريقة كيف نتصرَّف؟ كيف نتعامل؟ وأن ننطلق من جديد من طريقة ومن استراتيجية كيف نفهم؟ تستطيع أن تستخلص من أيٍ كان – رجلاً كان أو امرأةً، صغيراً أو كبيراً – أحسن وأفضل ما عنده إذا عملت على فهمه، إذا نجحت في فهمه، تستطيع! تستطيع أن تجعله يعتمد بعد ذلك في الانطلاق وفي الفعل وفي التعاطي على مبدأ ماذا؟ على مبدأ العمل بدافع ذاتي، لا مبدأ الإكراه.

في الحقيقة ربما السبب القريب لهذه الخُطبة مع أنها تُشكِّل تواصلاً مع الخُطب التربوية الأخيرة وهي هامة بلا شك هو ما جرى قبل أيام، حالة زميل أو صديق من أصدقائنا وأخ من إخواننا، الرجل مُثقَّف ثقافة عالية، صاحب منصب رفيع، أكاديمي من درجة مُمتازة جداً، ناجح في عمله تماماً، لا ينقصه المال، مُتزوِّج ولديه مجموعة أطفال، لن أُحدِّد العدد، لكن فُوجئت – فُوجئت لأن هذا الأخ والصديق العزيز دائماً يُرينا أنه يُعامِل أولاده مُعامَلة مثالية، وكذا زوجته، وكنت أضرب به أحياناً المثل، لكن فُوجئت بعد ذلك – بشكوى من أهله – أولاده وزوجه – أنه شخصية قهرية وعُصابية، وأنه لا يُطاق، وأن الأمر الآن كما يُقال بلغ السيل الزبى، هكذا عبَّرت زوجته، قالت بلغ السيل الزبى، شخصية لا تُطاق إطلاقاً، هل هذا صحيح؟ تُجمِع العائلة على ذلك، فقط هو كان يُمثِّل أمامنا.

طبعاً دائماً مثل هؤلاء يفشلون، ماذا تُريد من التمثيل أمامي أو أمام غيري؟ يجب أن نُدرِك شيئاً واحداً، صدِّقوني! أنا من أمس كنت أُعاني من حموضة في المعدة، حموضة في المعدة فقط! شيئ بسيط جداً، ويُداوى بأبسط الأسباب، ولكن يُحدِث للإنسان عذاباً وألماً، ويُنغِّص عليه يقظته ونومه ودرسه وتفاعله، وهذه مُجرَّد حموضة في المعدة، فكيف بأزمة عائلية حقيقية؟ أزمة عائلية مُستمِرة، أزمة قد يدفع ثمنها الولد أو البنت مُستقبَله، أن يكون فاشلاً، ألا يستطيع أن يبني أُسس مُستقبَل ناجح، والأب طبعاً يُمرِّره بل يقتله ويُعذِّبه هذا، الأم – نفس الشيئ – يقتلها هذا، أن تفشل ابنتها أو يفشل ابنها في الحياة.

التربية طبعاً ليست مسألة سهلة، وليست مسألة سلسة، وليست مسألة مكاسبها أو مُخرَجاتها يسيرة، أن يكبر وأن ينمو بدنياً، لا! ليس هذا ما ننتظره من أولادنا، شيئ أكبر من هذا بكثير، كلٌ منا يُحِب لأولاده أن يُصبِحوا ليس فقط ناضجين بل عظماء، كباراً في المُجتمَع، كباراً في التاريخ، أن يُؤدوا رسالتهم بشرف وبأهلية، لا لنرفع رؤوسنا، بل ليرفعوا هم رؤوسهم، هذه نرجسية أن نرفع رؤوسنا، لا! ليرفعوا هم رؤوسهم، ليستفيدوا هم، ليستقروا هم، ليسعدوا هم، ويُسعِدوا مَن حولهم، هذا ما نُحِبه، فالتربية مسألة صعبة، ولذلك قال أفلاطون Plato في إحدى مُحاوَراته من بين جميع أطفال الحيوانات الصبي الإنساني – يعني المُراهِق اليافع – هو الأصعب قياداً، هذا هو طبعاً!

حين كنت صغيراً كنت أُعجَب بعبقرية الغربيين، كيف يُروِّضون الحيوان؟ شاهدت مُباراة كرة قدم كاملة بفريق التصوير حتى وبالحكم من الكلاب، نعم ينجحون في هذا، ثم لما نضجت ودرست وتعلَّمت أكثر وجدت أن هذا أسهل بكثير من تربية الأولاد، أن تُروِّض مائة كلب وأن يقوموا حتى بمعركة ناجحة أسهل بكثير من أن تُربي – ولا أقول تُروِّض، الحيوان يُروَّض، والطفل يُربى – ولدك، أسهل بكثير! إنك أمام عالم من الحريات، عالم مُعقَّد من الانفعالات والأحاسيس والمُدرَكات العقلية، عالم من التنامي الدائم، من التنشؤ والتزيد، عالم من الاستقلالية، وعالم من العلائقية، عالم مُعقَّد هذا الإنسان!

وتحسب أنك جِرم صغير                                 وفيك انطوى العالم الأكبر.

هذا هو، فالمسألة ليست سهلة على الإطلاق، ولذلك لابد أن نبدأ مرة أُخرى من الفهم ومن العلم، بعض الناس – كما أقول دائماً، وقلتها ربما للمرة العاشرة – صدِّقوني لا يُكلِّف خاطره أن يتأمل حتى في خُطبة كهذه، هو يُحِب أن تنتهي وينتهي كل شيئ، فضلاً عن أن يُكلِّف خاطره أن يقرأ كتاباً من ألف صفحة أو خمسمائة صفحة أو ثلاثة أجزاء في فن التربية – مثلاً – أو في سيكولوجيا Psychology – مثلاً – المُراهِق، ليعلم مَن هو المُراهِق، هذا لم يعد طفلك الصغير الذي كنت تسلى عليه، انتهى! هذا شخص آخر، ينظر إلى نفسه من موقع المُكافأة، من موقع أنه كفؤ، من موقع الندية، أنه ند لك أو يُعادِلك على الأقل، هكذا! أنت تأبى طبعاً – خاصة الأب التسلطي العُصابي القهري – أن تعترف بهذا الخاطر، لكن هذا ليس خاطراً، هذه حقبة جديدة في حياة الولد، الابن خصوصاً والبنت أقل من ذلك فهي دائماً هي أسهل قليلاً، لكن هذه هي الحقيقة!

للأسف فكَّرت كثيراً في حالة هذا الصديق العزيز، الذي أرجو وأدعو له حقيقةً بكل خير ولأمثاله، ما الذي يحدث إذن؟ طبعاً وجدت أن هذا الرجل عنده ثقافة واسعة وعنده تحصيل أكاديمي في غير هذه الشؤون، في هذه الشؤون مُقصِّر تماماً، مُقصِّر تماماً! غير واعٍ بذاته، وغير واعٍ بالصيغ الصحيحة للتواصل مع مَن حوله، خاصة – عجيب – هو معنا كأصدقاء مُمتاز، مع مرؤوسيه في عمله مُمتاز، وهذا العجيب، هذا المُحيِّر! أي لا تظهر هذه التسلطية بشكل فاقع لا مع أصدقائه ولا حتى مع مرؤوسيه وهذا العجب، مع أنه في موقع سُلطة، لماذا تظهر إزاء أهله، زوجه وأولاده؟ فكَّرت في هذا، وخطر لي خاطر لابد أن يُجرَّب وأن يُمتحَن، لكن هذا ما خطر لي.

خطر لي أن المسألة ثقافية، المسألة ثقافية! ربما هذه مع مُحلِّل غربي ستبدو عجيبة الآن بالذات، أي في النصف الأخير من القرن العشرين وفي بداية القرن الحادي والعشرين، قبل ذلك لم يكن الأمر كذلك، عندهم أيضاً كانت طبيعية، مَن يقرأ تاريخ ثقافتهم بالذات وأفكارهم يعرف هذا، عندنا إلى الآن مسألة عادية تماماً، لماذا؟ سأطرح الجواب من زاوية تمثيلية.

أولاً هل تظنون مثلاً – هل نجد هذا في أنفسنا كآباء وأمهات مثلاً – أن عيباً أو حراماً أو جريمةً أو كبيرةً من الكبائر أن يغتاب أحدنا ابنه؟ بالعكس! كلنا نفعل هذا، العاثر، السخيف، الوقح، قليل الأدب، الذي يظن نفسه كذا وكذا، الفاشل، علماً بأنه سيبقى فاشلاً أمام إخوته وأخواته، وهو غير موجود! شرعاً هل تظنون أن الأب يمتلك هذا الحق؟ قطعاً لا، ولا يُمكِن أن يُفتي بهذا فقيه، غيبة ابنك وابنتك وزوجك وزوجتك كغيبة أيٍ من الناس، بل لعلها أغلظ في ميزان الله – تبارك وتعالى – وفي حساب الله، ممنوع! هذا أحد الأخطاء التربوية القاتلة التي نحتقبها والتي نقع في فخها للأسف الشديد، أننا نُبيح لأنفسنا أمام أفراد العائلة الآخرين أو أفراد الأسرة الآخرين أن نغتاب الغائب منهم، وهذا لا يجوز، هذا أول ما يُقوِّض يُقوِّض شعور كل أفراد الأسرة – كل الذين يستمعون إلى هذه الغيبة مثلاً – بالأمان، لماذا؟ هناك مبدأ في علم التربية يقول الرسالة التي تُرسِلها إلى شخص أنت تُرسِلها في نفس الوقت إلى سائر الأشخاص، سيعلم الطفل الآخر أيضاً أنه حين يُخطئ أو يتجاوز أو لا يكون في المُعدَّل وفي المُستوى سيُغتاب أيضاً في ظهره، وسوف يفقد الشعور بالأمان، تماماً كما حكيت لكم قبل أسابيع عن الشخص الذي عبَّر عن كرهه الشديد لأحد الناس، وهو من الأجانب، ليس من الأسرة، فهُرِعت ابنته الصغيرة – بنت سبع أو ثماني سنوات – وقالت له يا أبتاه وهل تُحِبني أنا؟ فهمت هذا بالفطرة، لأنها تعلم أن شخصاً قادراً على تجسيد مشاعر الكره يُمكِن أن يُسقِطها أو يُوجِّهها نحو أي شخص، حتى نحو حبوبته الصغيرة، ابنته! فهي بالغريزة فهمت هذا، هل فهم هذا هو أو لم يفهم؟ لا ندري، فهمت هذا مُباشَرةً!

مُشكِلة الكائن الإنساني كما يُحدِّثنا علماء الحيوان – الزولوجي Zoology – وحتى علماء النفس الإنساني أنه يُولَد على غير ما نظن مُزوَّداً بقدر محدود جداً من الغرائز، علماً بأن غرائزنا قليلة، لذلك هذا الإنسان لو تُرِك وحده في الغابة لغرائزه لا ينجح، ينتهي مُباشَرةً هذا، لكن حيوان صغير أياً كان يعيش، تتعايش هذه الحيوانات بين فارس ومُفترَس أو مُفترِس ومُفترَس من ملايين السنين، لكن الإنسان لو عاش هناك لا ينجح أبداً، حكمة الله – تبارك وتعالى – شاءت أن تجعله مُجهَّزاً ومُزوَّداً بعدد قليل من الغرائز، لماذا؟ وهذه رسالة إلهية كونية قدرية، تقول له ليس بالغرائز – وهي مُهِمة – وحدها تعيش، عليك أن تتعلَّم اكتساب المهارات، مهارات التفاعل والتواصل، مهارات العيش والتكيف والتلاؤم وإعادة التلاؤم.

على ذكر إعادة التلاؤم – مثلاً – أنت أب ناجح مع طفلك الصغير، هذا الطفل الذي آض – أي صار – الآن مُراهِقاً، عليك أن تُعيد تعيير أبوتك، على هذه الأبوة الآن أن تتغيَّر، حتى مفهوم الأبوة عليه أن يتغيَّر الآن، لكي يتكيَّف مع وضع جديد، فأنت الآن تقريباً أمام ابن جديد، ليس ابن الأمس، في نهاية المطاف هو ابنك، لكنه ليس طفل الأمس، إنه كائن جديد، انتبه! وهذا الذي يُثير الحيرة – بعضهم يقول إلى حد الجنون – لدى الأب والأم، يقول كأنني لا أعرفه، إنسان جديد، هو أصلاً مُرتبِك، هو أصلاً مُشوَّش، المُراهِق إنسان مُشوَّش على جميع المُستويات، إنه إنسان – كما قلنا – يعيش حائراً بين عالمين، بين ضفتين، بين فيلقين، هذه واحدة! يبحث عن هُوية، هو لم يستقر الآن على هُوية، وإن ادّعى أنه يمتلكها، هو لم يستقر على هُوية، وفي مشوار بحثه عن هُويته يُجاوِز الوالدين، يُجاوِز الأب والأم، إلى مَن؟ إلى الأساتيذ والأصدقاء والشلة ونجوم المسرح ونجوم التلفزيون Television والسينما Cinema والمجلات والأبطال التاريخيين والأسطوريين، بحثاً عن جوابات لسؤالاته المُؤرِّقة، يُجاوِز! طبعاً وأنت كأب خاصة إذا كنت – حاشاك – أباً نرجسياً لا تُسعِدك هذه الفكرة، لا! تُريد دائماً أن تحتكر أنت الدور، أنا البطل وأنا النبي وأنا المثال – الــ Symbol – وأنا كل شيئ، لا! لم تعد، شئت أم أبيت لم تعد، انتبه! وانتبه إلى قاعدة مُهِمة جداً في التربية مع الكبار ومع الصغار ومع الأصدقاء ومع الأولاد أيضاً، ما هي؟

حُب السيطرة أو النزوع نحو السيطرة أو نزعة السيطرة نزعة إدمانية، أنا هكذا أُسميها نزعة إدمانية! أي لا تقف عند حد، إذا كان هاجسك هو السيطرة وترى أن سُلطتك كأب وقدراتك الهيمنية أو الهيمنوية في محل اختبار الآن فأنت ستُشيع في البيت روحاً من التحدي، والخاسر الجميع، بما فيهم ابنك المسكين، هو سيخسر أيضاً، لأنك أب لا تفهم كيف تتعاطى مع وضع جديد، كل ما يهمك هو أن تُسكِت هذا الهاجس ببراهين عملية، هاجس ماذا؟ أن السُلطة والقدرة والسطوة في محل اختبار الآن وسأنجح كأب، سأُثبِت أنني ما زلت الأب والرأس الكُبرى في هذا المنزل، مَن رضيَ فليرض ومَن سخط فليس له إلا السخط، ما هذا؟ أسلوب سخيف، أسلوب جاهل، لأنك لم تستطع أن تُعيد مُلاءمة أبوتك.

سأطرح سؤالاً على نفسي وعليكم، كيف خدمنا آباؤنا؟ نحن كيف خدمنا آباؤنا؟ وتقريباً هذا ينطبق على كل هذه الأجيال المُتعايشة تحت سقف واحد، الذي أدريه أن آباءنا خدمونا ليس عبر المُداعَبة والمُلاعَبة والمناهج العلمية والتواصل الفاعل والجلوس معنا وقتاً زائداً وإضافياً ومُدارَسة مشاكلنا والإفضاء إليهم والإفضاء إلينا أبداً أبداً، إنما خدمونا بالعرق، وهم دائماً يمتنون – ولهم الحق أن يمتنوا بلا شك، ولهم المنّة بعد الله عز وجل – ويُكرِّرون خدمونا بالعرق، بالعمل عشرين ساعة، لكي يُوفِّروا لنا الوضع المُناسِب المعيشي والتعليم المُناسِب وكذا المُناسِب، خدمونا بالبُعد عنا طبعاً وبإرهاق أنفسهم بدنياً أو عضوياً بالعمل المُتواصِل، هذه صورة الأبوة كما تلقيناها نحن، التحدي الآن ما هي صورة الأبوة التي نُريد أن نُعطيها؟ المسألة خطيرة يا إخواني، ليست سهلة! هل تظن نفسك ستكون أباً صالحاً وناجحاً بمُجرَّد أن تُقرِّر ذلك؟ لا، لأنك ستنطلق من صورة أبوة هي نفسها منقوصة ومُبتسَرة وغير ناجحة، طبعاً نستطيع أن نقول إنها غير ناجحة، ليست هذه الأبوة الحقيقية!

أمس خطر لي هذا الحديث الصحيح العجيب الذي ذكرته أكثر من مرة وهو مبعث إعجابي بشخصية النبي العظيم، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، لكن لأول مرة قرأت فيه شيئاً لم أقرأه من قبل، ما هو؟ حديث أنس، خدمت الرسول – صلى الله عليه وسلم – عشر سنين، فما قال لي لشيئ فعلته لِمَ فعلته؟ ولا لشيئ تركته لِمَ تركته؟ وما قال لي أُفٍ قط، الذي قرأته لأول مرة أن أنس حين التحق بخدمة الرسول كان تقريباً دون العاشرة، ابن تسع سنوات أو ثماني سنوات تقريباً، وخدم النبي عشر سنين، وهذا يعني تماماً أنه قضى مرحلة المُراهَقة، وتبدأ هي من الحادية عشرة وتنتهي عموماً في الثامنة عشرة، إذن قضى مرحلة الخدمة مُراهِقاً بين يدي رسول الله، هذا الحديث منجم في نظري، منجم! هذا يُعطيني مفتاحاً سحرياً ربما للطريقة الأمثل لمُعامَلة المُراهِق، النبي لم يقل له يوماً لِمَ فعلت؟ أو لِمَ تركت؟ أو أفٍ أبداً، تركه في حرية، لكن النبي يُوجِّه طبعاً من طرف خفي، وعنده طرائق أُخرى في التوجيه، ليس بهذه الطريقة، إلى أين أنت ذاهب يا ولد؟ من أين أتيت؟ لماذا تأخَّرت إلى هذه الساعة؟ ومع مَن كنت؟ هذا أسلوب فاشل أبداً! أنصحك يا ابني، ليس هذا في مصلحتك، ينبغي عليك أن تعلم أن الأفضل لك كذا وكذا، كل هذا يُبغِضه المُراهِق.

المُشكِلة أننا نزعم دائماً أننا كنا مُراهِقين أما الآن فصرنا آباءً لمُراهِقين، بمعنى أننا نزعم ضمنياً أننا مررنا بهذه التجربة واكتسبنا هذه الخبرات ونعرف تماماً ما هي المُراهَقة، صدِّقوني هذا غير صحيح، إطلاقاً غير صحيح! مَن منا يجرؤ أن يزعم أنه فهم نفسه ووعى ذاته حقاً حين كان مُراهِقاً، أي كما يقول الأجانب حين كان في الصندوق؟ لا أحد، هل يزعم أحد هذا حين خرج من الصندوق؟ كلكم الآن خارج الصندوق، وأنا خارج الصندوق أيضاً، مَن منا يزعم أنه حين أصبح Out of the box كما يقولون – أي خارج الصندوق – استطاع أن يُطوِّر منظوراً علمياً وموضوعياً ووقائعياً لفهم ما كان داخل الصندوق؟ لا أحد أيضاً، هذه مأساة، دراما Drama هذه!

ولذلك عليك دائماً أن تتقمص – التقمص الــ Empathy – حالة الآخر، تُحاوِل! لذلك المفاتيح السحرية في الإسقاط، في الاستماع الطويل، مُحاوَلة التفهم، والقبول، القبول! قبول المشاعر وقبول الأشياء، اقبلها على ما هي، إن لم تقبلها الرسالة التي سيفهمها ابنك عاجز عن فهمه، أنت ستقول له لا، غير صحيح، أنت يا ابني لا تعرف، أنت تعمل من الحبة قبة، هذا الأمر أسخف مما ترى، هذا الأمر أخطر مما تظن، وهو يقول أبي لا يفهم، لا يستطيع أن يفهمني، مُشكِلته أنه لا يفهمني، وأنت تقول هو لا يفهم، هو عنيد، هو مُشاكِس، هو لا يُريد أن يتعلَّم من أصحاب العلم والخبرات، مُشكِلة! طريق مسدود، انتبه! وهكذا تُسَد قنوات التواصل.

أعود إلى زميلي هذا، أعود إلى زميلي وأقول مرة أُخرى للأسف المعايير التي يُمكِن أن تنجح في بناء علاقات سليمة وصحية بيننا وبين المُجتمَع الخارجي من أصدقاء ومعارف ورؤوساء ومرؤوسين نحن لا نصطنعها في التواصل مع أولادنا بالذات، وطبعاً مع أزواجنا بقدر كبير أيضاً، لكن مع أولادنا أكثر، هل تعلمون لماذا؟ لأن الذي يغلب علينا في ثقافتنا أن أولادنا تقريباً ملكنا، أنت ومالك لأبيك، يُغرينا هذا الحديث، أليس كذلك؟ نُحِبه، نُحِبه جداً! أنت ومالك لأبيك، إذن مفهوم تملكي، وفي نهاية المطاف كل مفهوم تملكي ليس فقط هو تسلطي وقهري، بل هو أكثر من ذلك، مفهوم تشيئي، أنت ستُحوِّل هذا الكائن صاحب العواطف والأحاسيس والعقل والطموحات والآمال والأزمات والخيارات الكثيرة المُتضارِبة إلى شيئ، وتُريد أن تُشكِّله كشيئ، وستفشل حتماً، وطبعاً هو سيفشل، المسكين أيضاً سيفشل، أنت تسبَّبت في فشله!

قرأت مرة لعالم كبير جداً أسترالي جُملة – والله – تُحزِن، تُحزِن وتجعل الإنسان يُفكِّر كثيراً، اليوم جاء ابني الصغير – ابن أربع سنوات – وأعطاني أو مد إلى زجاجة عطر صغيرة هي لأخته، قال تعطَّر بابا، وذلك بعد الحمام، فقلت له لا، ثم شعرت بتأنيب ضمير، ثم قلت له لا، أُريد قليلاً من هذا، مع أنها لبنت، هي عطر نسائي، لماذا؟ هذا سيُؤثِّر أيضاً، في المُستوى البعيد وفي المُستوى القريب.

مثلاً ماذا تفعل لو جاءك مُراهِق وحياك بطريقة غير لائقة؟ حياك بطريقة غير لائقة بسنك مثلاً، كان جالساً أمامك وكان يضع رجلاً على رجل وقال لك مرحباً يا عمو، طبعاً كيف يقول لك يا عمو؟ أنت شيخ مثلاً، لحيتك إلى سرتك مثلاً، وعندك شهادة دكتوراة ومُحترَم، والناس يُقبِّلون الأيادي والأرجل، وهو يقول لك مرحباً يا عمو! الرسالة الخاطئة أن تقول له أهلاً يا ولدي، ابن مَن أنت؟ في المرة الثانية عليك أن تتعلَّم – لكن الحق ليس عليك وإنما على مَن رباك – كيف تُخاطِب الناس الذين هم أكبر منك يا ولد، وبالتالي أنت دمَّرته وقطعت كل إمكانية للتواصل الإيجابي بينك وبينه، ذهب ولم يستفد لا من علمك ولا من مشيختك ولا من لحيتك، انتهى كل شيئ، لأنك فاشل، طبعاً كثير من الناس – وخاصة بعض المشايخ – يشكون أمثال هذه السلوكات، وعلى مرأى من الناس للأسف، بعضهم قبل أيام حكى لي فضيحة أحدثها أحد هؤلاء أمام الناس له حين كان مُراهِقاً، فضيحة! قال لي فضيحة، بسبب بسيط جداً جداً جداً، لا يُساوي كل هذا، ما هو السبب؟ قال جاء هذا الشيخ الجليل، وأنا قدَّمت له شيئاً ليجلس عليه – شيئاً وثيراً مثل مرتبة صغيرة أو مثل مسند ليجلس عليه – حين يتناول طعام الغداء، وإذا به ينبعق – انفجر كالقنبلة الموقوتة – أمام الناس، قال لا يجوز يا ابني، وهذا مُخالِف للسُنة، وليس من السُنة، والسُنة أن نجلس هكذا، النبي كان كذا وكذا، يا أخي فضحته، فضحته! ما المشيخة هذه؟ ما العلم هذا؟ لا يُمكِن! وهذا يتحدَّث عن التربية، ويُمكِن أن يُؤلِّف لك عشرة مُجلَّدات عن التربية وعن أساليب النبي في تربية الأولاد، أساليب ماذا؟ أنت يا مولانا لا تعرف شيئاً، نستسمحك أنت لا تعرف شيئاً!

كان من المُمكِن – بالعكس – أن ترد له التحية، تقول له عليكم السلام ورحمة الله يا عمو، كيف حالك؟ ما شاء الله، كذا وكذا، ثم بعد ذلك يُمكِن أن تُبلِغ والده أو تُبلِغه بطريقة مازحة ولطيفة – وهذه مسألة حرجة جداً جداً جداً – كيف ينبغي حفظ المراتب، لكن بطريقة لا تجرحه، إن أخرجتها مخرج النُكتة أو التظرف يكون أفضل، وهكذا تُبقي على قناة الاتصال مع هذا دائماً، بالعكس! قد يكون هذا سبباً في إكساب هذا بعض مهارات التواصل الجيد مع الغرباء – مثلاً – والذين هم أكبر منه، لكن للأسف فُرصة وضاعت، طبعاً لم تفعل هذا أنت، وقلت يا ولد والحق على مَن علمك، فُرصة وضاعت! وأثَّرت على شخصيته، أنت أثَّرت عليها للأسف، ولذلك أنت مُذنِب، ليس هو المُذنِب فقط، وليس أبوه هو المُذنِب فقط لأنه لم يُؤدِّبه، أنت أيضاً مُذنِب، لم تتصرَّف بالطريقة الصحيحة.

المُشكِلة من أين تأتي؟ تأتي – كما قلت – من أننا نشعر دائماً أن سُلطتنا وهيبتنا ومثاباتنا الاجتماعية في موضع اختبار، يا أخي ليست في موضع اختبار، أنت عالم كبير، عمرك ستون سنة أو سبعون سنة، لحيتك طويلة، ليس موضع اختبار أن يُحييك بهذه الطريقة أو لا يُحييك أصلاً، أليس كذلك؟ ألا يُعجِبك كل هذا الاعتراف من الناس وكل هذا الإقرار؟ أتطلب حتى الإقرار من هذا الطفل؟ يبدو أنها إذن نرجسية أو ضعف في الشخصية أو عُقدة نقص يتعانى منها الشخص فينا للأسف الشديد، بالعكس! لذلك فعلاً الذي يكون كبيراً يكون كبيراً في كل شيئ، وكما تقول العامة الإناء الواسع دائماً يسع الإناء الضيق، مُستحيل أن أكسره، لن أكسره لأنني سأتسع له، سأحتازه لأنني كبير، لأنني أوسع، لأنني أفهم، ولأنني أكثر نُضجاً، فهذه مسألة مُهِمة!

إذن مسألة النزعة التملكية، هذا لا يجوز في التعامل مع أزواجنا ومع أولادنا، وخاصة مع المُراهِقين، طبعاً حين تنجح مع الأطفال في نهاية المطاف ستفشل مع المُراهِقين وستهيئهم أن يكونوا مُراهِقين فاشلين، هذه النزعة التملكية! انتبه، هه النزعة التملكية.

نحن ذكرنا أننا تقريباً نتعامل مع كائن جديد، هل هذا الكائن الجديد بالمرة جديد؟ لا طبعاً، بالعكس! كل ما زرعته سوف تحصده ولو بعد حين، في إحدى الدراسات المُعمَّقة – واستمرت لسنوات طويلة – وضح وتبيَّن أن الذين يعتدون على الأطفال الصغار ويتحرَّشون بهم جنسياً من الذكور والأناث – كبار يفعلون هذا للأسف الشديد، هذا العدوان الجنسي على الصغار من الذكور والإناث – يفعلون هذا لأسباب، وجد هؤلاء الباحثون أن جميع هؤلا بلا استثناء – كل الأسباب الأُخرى المذكورة في التعليل بقيت نسبية وغير شاملة، تنطبق على حالات دون حالات، إلا سبباً واحداً، وُجِدَ سبب واحد انطبق على الجميع بلا استثناء، سبب انطبق على كل هؤلاء الذين يُمارِسون العدوان والتحرش الجنسي بمَن هم أصغر سناً منهم – لم يعيشوا طفولة فيها جرعات وافية من الحُب والحنان والأمان، أي عاشوا تحت سُلطة آباء قهريين عُصابيين – آباء قُساة – أو تحت لا سُلطة منهم، أي لم يكن هناك آباء، كانت هناك أمهات، انتبهوا! هذه مسألة خطيرة، مَن يُفكِّرون في الطلاق والذين يُطلِّقون والذين يفعلون كذا وكذا – والمُجتمَع الغربي يُعاني من هذا طبعاً من سبعين سنة تقريباً ولا يزال وتكبر المُعاناة – لابد وأن ينتبهوا إلى هذه النُقطة، إذا فقد الطفل أباه بالذات – وأتحدَّث عن الطفل الذكر – هو مُرشَّح أن يكون أحد رجلين، إلا أن يلطف الله – عز وجل – به، وهو لطيف خبير، إما أن يكون شخصاً مُخنَّثاً، وهذا معروف! يتشبَّه بالإناث ويفعل أفعالهن ويسلك سلوكهن، معروف الشخص المُخنَّث هذا، الدلوعة! مُراهِق دلوعة، مُراهِق مُتخنِّث، وطبعاً قد يستمر ليكون شاذاً جنسياً والعياذ بالله، وقد يكون شاذاً بالمعنى السلبي أيضاً وليس بالمعنى الإيجابي، وكله طبعاً أسوأ من بعضه، بسبب ماذا؟ فقدان سُلطة الوالد أو وجود هذه السُلطة لكن في شكل ضعيف جداً، انتبهوا! كنت أُحِب أن أقول مُنذ سنوات، غير مرضي وغير سليم وغير صحي وغير تربوي أن تكون الأم هي المُسيطرة في الأسرة، طبعاً لأنها جاءت من أسرة أيضاً أمها كانت فيها مُسيطرة، والأب طرطور العائلة، ليس القوّام في العائلة، وإنما الطرطور، نقول لهذه السيدة بالذات حتى هذا الطرطور عليك أن تُنقذيه، تجعليه من طرطور رأساً لمصلحة أولادك على الأقل، اخسري هذه السُلطة التعبانة التي أرهقتكِ، طبعاً المرأة في نهاية المطاف لا تكون سعيدة بطرطور، أنا مُتأكِّد، مُتأكِّد! ولا يملأ عينها ولا يُعجِبها إطلاقاً هذا، وترى نفسها كأنها غير مُتزوِّجة، وتندب حظها العاثر ليل نهار، إن لم تفعل هذا فهي في داخلها تعيش هذه المُعاناة، الطفل المسكين مُرشَّح أن يكون مُخنَّثاً، هذا ليس كلامنا، هذا ما فهمناه من التجارب، لكن هذا كلام علام نفس كبار، أمريكان وأوروبيون وغيرهم أكَّدوا هذا عبر التجارب والإحصاءات يا حبيبي.

الشيئ الثاني إذا سُلطة الأب ضعيفة هو الآتي، لكن طبعاً لماذا تكون سُلطة الأب ضعيفة حين تكون موجودة؟ قد يكون عاجزاً، أي قد يكون المسكين مشلولاً أو عاجزاً جنسياً أو بدنياً، أو يتعانى عُقدة ضعف في الشخصية، أي عُقدة نقص، بعض الرجال يكونون هكذا، بعض الرجال يُضرَبون في عائلاتهم، ما رأيكم؟ بعض الرجال لا تُؤخَذ لهم مشورة ولا رأي ولا كلمة، ليس لهم شيئ أبداً، بعض الرجال دائماً خانعون خاضعون لسُلطة التهديد من المرأة، تُهدِّد بالطلاق، تُهدِّد بكذا، تُهدِّد بكذا، ما هذا؟ لا يُمكِن! الشيئ الثاني: وإما أن يستحيل هذا الولد إلى شخصية ضد المُجتمَع، نعم ليس من نوع اضطراب الشخصية المعروف – أي السيكوباتي Psychopath، لأن هذا له أسباب أُخرى، أكثرها فطري جيني – لكن هو شخصية ضد المُجتمَع بمعنىى أقل، لكنه أيضاً خطير ومُؤشِّر غير مُطمئن وله دلالة.

الدلالة الأولى تكمن في أنه يُبرِز ذكوريته بشكل مُبالَغ فيه، مثل حُب العضلات، يُحِب هذا الشيئ كثيراً جداً جداً، يُحِب العضلات وما إلى ذلك، يُحِب العدوان، الضرب، ولعب مُسدَّسات، في البداية طبعاً تكون مُسدَّسات من طين وعجين وبلاستيك Plastic، وبعد ذلك تكون مُسدَّسات حقيقية مُهرَّبة أو غير شرعية، طبعاً يُحِب هذا الشيئ، وكذلك الحال مع السكاكين والخناجر، المسكين يُحِب هذه الأشياء، وطبعاً الناس يظنون أنه شخص قوي وعنيف وواثق بنفسه، بالعكس! كل هذه المظاهر تبرير وتُنبئ عن ماذا؟ عن عدم ثقته بنفسه، المسكين غير واثق، يشعر بأنه مُهدَّد، لماذا؟ لأن الأب صاحب السُلطة وصاحب القوامة سُلطته ضعيفة، هل فهمنا الآن لماذا قال الله تعالى الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ۩؟ ليس من أجل قهر النساء، والقوامة ليست قوامة قهر، من أجل اعتدال التربية وأن يكون لدينا أولاد – أبناء بالذات – ناضجين ورجالاً، ليسوا مخانيث وليسوا ضد المُجتمَع أيضاً، سر كبير في هذه المسألة يا إخواني، سر كبير جداً!

لذلك إذا تحدَّثنا عن المُراهِقين بشكل عام – أي من حيث أتى كما يُقال – فالمُراهِقون يُعوِزهم دائماً أن تكون الهيراركية أو الهرمية – هرم السُلطة – واضحة ومُحدَّدة، طبعاً هم يتمرَّدون على هذا الهرم، لكن هذا أكثر ما يُعوِزهم، وحين يتحدَّد تماماً وبشكل صارم فإنهم يخضعون له وينضجون عبر هذه الهرمية المُحترَمة، يُحِبون هذا! هذا ما تُعلِّمه الكشّافة، هذا ما تُعلِّمه التربية الرياضية الحقيقية في المدارس، أليس كذلك؟ يتعلَّمون هذا أبداً، طبعاً لا تُوجَد فوضى مُطلَقة، تُوجَد هيراركية تُحترَم وتمضي على الجميع، لكنها عادلة.

المُهِم في هذه الهرمية ألا يتصرَّف وألا يصدر المسؤول دائماً من منطق أنه مسؤول، أنت لست فقط مسؤولاً، أنت مسؤول بلا شك، وفي نفس الوقت أنت ماذا؟ أنت صديق، وأنت صدر حنون، وأنت مُستمِع جيد، وأنت مُرشِد، وأنت أب روحي أيضاً، ينبغي أن تلعب هذه الأدوار بتناغم في نفس الوقت حتى تنجح، وإلا فإنك تُغري هذا المُراهِق في نهاية المطاف أن يتمرَّد على سُلطتك، طبعاً كل عوامل التمرد حتى الهرمونية موجودة عنده، وهذه مُشكِلة! تسمع بهرمون الذكور، أي التستوستيرون Testosterone، هذا الهرمون مُشكِلته مُشكِلة، هذا الله ميَّز به الذكور هكذا، الطفل الذكر حين يُولَد يكون في دمه – في أول أيامه وأشهره – هذا الهرمون تقريباً أربعة أو خمسة أضعاف ما سيكون بعد سنين يسيرة، وبالتحديد يكون في دمه من هذا الهرمون ما سيكون في دمه في سن الثانية عشرة، لماذا؟ حتى يستكمل نموه الذكوري، وبعد أشهر – قريب من مرحلة الحبو – تنخفض هذه النسبة إلى الخُمس، ولذلك لا نُلاحِظ فروقاً تُذكَر أو ذات بال بين الحُباة من الذكور أو الإناث، نفس الشيئ! يتصرَّفون بنفس التطريقة، لأن هناك تعادلاً هرمونياً، في سن الرابعة تقفز هذه النسبة بشكل دراماتيكي، بشكل حاد! ويبدأ الطفل بالذات في سن الرابعة في المُشاكَسة وفي الألعاب الخشنة، ويُصبِح شيطان البيت الصغير، العجيب ولأسباب – يقول العلماء – غير مفهومة أن في سن الخامسة – سنة واحدة – تعود هذه النسبة إلى الانخفاض، وتبقى هكذا إلى سن الحادية عشرة، تعود تقفز الآن بشكل حاد، وتصل في سن الثانية عشرة أو الثالثة عشرة إلى ثمانمائة في المائة، أي ثمانية أضعافها عما كانت في مرحلة الحبو، تبلغ أعلى شيئ – ذروتها – في سن الرابعة عشرة، مع نمو الأعضاء شبه الكامل أو الكامل مع حب الشباب ومع الطول المُفرِط الأحمق للأعضاء الظاهرية، حتى يُنظَر أحياناً إلى هذا المُراهِق على أنه أهطل – أي هطلاوي كما يُقال – أو أهبل وما إلى ذلك، لماذا؟ لأن المسكين طبعاً لا يستطيع أن يتكيَّف مع هذا الطول المُفاجئ في أعضائه وفي قامته، فيتعثَّر بالأشياء ويضرب ما حوله، وتقع الأشياء من يديه، وحتى البنت يحدث معها نفس الشيئ، ويُعاني المسكين تشوشاً وارتباكاً حقيقياً طبعاً، يُصبِح عنده ارتكاب حقيقي، وطبعاً الأب يبدأ يصرخ ويلعن، ما هذا؟ لا! هذا شيئ يحدث رُغماً عنه، المُخ لا يستطيع أن يُواكِب – بل الجهاز العصبي كله لا يستطيع أن يُواكِب – هذا الطول المُفرِط والمُفاجئ للأعضاء، يبدأ الجهاز العصبي في مُلاحَقة هذا التطور بقدر ما عنده، داعس على البنزين إلى النهاية، لكنه لا يقدر للأسف في البداية، هذا يحتاج إلى بضع سنين يسيرة، بعد سنتين أو ثلاثة تستقر الأمور، في سن الخامسة عشرة أو السادسة عشرة يستقر هذا الهرمون وينزل قليلاً، ويبدأ – طبعاً هو لا يختفي، هو عالٍ أيضاً، لكن فقط يبدأ – هذا الشاب المُراهِق في الهدوء قليلاً، في ضبط نفسه، وفي التكيف مع الوضع الجديد.

هذا الهرمون ليس هرموناً للنمو فقط، بل إنه هرمون للإبداع، للدافعية، للإنجاز، للثقة بالنفس، للعنف، وللقيادة، معروف علمياً هذا! أي مُراهِق عنده هذا الهرمون بنسبة زائدة مُؤهَّل للقيادة بنجاح أكثر من غيره.

هناك تجربة لطيفة جداً أجروها في مُختبَر، من أعجب ما يكون! على مجموعة ذكور قردة، أعزكم الله، طبعاً الهرمية في عالم القرد الذكور مُحدَّدة ومُلتزَمة، في عالم القردة الإناث موجودة لكنها سهلة وليست تُطبَّق بشكل صارم، تعتمد على شيئ واحد، على معيار مشهور، هو مَن تفلي شعر قرينتها، الفلي! الأقوى قليلاً يُفلى لها، الأضعف هي التي تفلي، مسكينة! هذا هو، هؤلاء مُتواضِعات، أعني إناث القرود، أما ذكور القرود فالمسألة مسألة سُلطوية، هناك رئيس القبيلة، هناك نائب الرئيس، هناك أدنى من ذلك، إلى أن ننزل إلى أدنى درجات هذا السلم الاجتماعي.

أتوا بقرد ضعيف مهزول زاوٍ وحقنوه بكمية من هذا الهرمون، أي هرمون التستوستيرون Testosterone، حقنون به! وعنترة القرود هذا في لحظة اختلفت معه القضية تماماً، وبدأ يُشاكِس مَن هو أعلى منه بدرجة، ويا لهول المفاجأة غلبه مُباشَرةً، لكنه لم يكتف بذلك، فالسُلطة كما قال سبينوزا Spinoza لا تعرف حدوداً، الحيوانات كلها لا تعرف حدوداً، ونحن طبعاً من هذه الحيوانات العاقلة لا نعرف حدوداً، إن لم يُحدَّد لنا لا نقف عند حدود، كما قلنا حُب السيطرة مسألة إدمانية، تطلب المزيد حتى يُحطِّم كل شيئ، يُحطِّم نفسه ويُحطِّم ما حوله للأسف الشديد، وهتلر Hitler أكبر أمثولة وستالين Stalin وأمثال هؤلاء، المُهِم لم يكتف بذلك، ومُباشَرةً قفز إلى مَن هو أعلى وهزمه، وفي ظرف عشرين دقيقة كان عنترة القرود الزاوي هذا قد وصل إلى رئيس القبيلة، ليهزمه بالضربة الصاعقة أيضاً، واقتعد المكانة وأصبح هو القائد، التستوستيرون Testosterone! مسألة هرمونية، مسألة ربانية، لكن للأسف – لأسف هذا القرد المسكين، عنترة المُزيَّف – بعد أيام بدأت تنخفض النسبة، عادوا الجولات، بدأ ينهزم وينهزم، ثم عاد وتأخَّر إلى حيث أخَّره الله وأخَّرته بنيته.

حين يفهم الأب هذا الشيئ أو الأم سيُدرِك أن هناك جانباً إلهياً، جانباً وراثياً، جانباً لا نستطيع نحن أن نتحكَّم فيه، مسألة ربانية هذه! الله هيأه لذلك، وأنت مررت بهذا لكنك تتنساه، على كل حال كل هذا يُشكِّل مُقدِّمة بسيطة فقط لكي تقول لنا شيئاً واحداً فقط، طبعاً هذه الخُطبة لا يُمكِن أن تُعتبَر مصدراً للتعامل السليم مع المُراهِق، لا! هذا كلام فارغ، لكن ماذا تُعتبَر؟ تُعتبَر إيقاظاً وإلماعاً وتنويهاً بشأن أن نكتسب فهماً علمياً، فهماً مُجرَّباً، وفهماً مدروساً لهذا الذي نرتبك ونتحيَّر إلى حد الجنون في التعامل معه، لكن كيف نفعلها بالتفصيل؟ كيف نفعلها بالتفصيل؟ هذا يحتاج إلى سلسلة، لعل هذه السلسلة – إن شاء الله – نُنجِز مُعظَمها أو أكثرها في الجلسات العائلية التي وعدنا بها، كآباء وأمهات – إن شاء الله – نجلس سويةً في حلقات طويلة أحياناً في نهاية الأسبوع لثماني ساعات أو لتسع ساعات أو ليوم كامل، ونتدارس هذه المسائل مسألة مسألة، مُشكِلة المواقف، مُشكِلة المسئوليات داخل البيت وخارج البيت، مُشكِلة المُواعَدات، مُشكِلة الالتزام، مُشكِلة القيم الخُلقية عند المُراهِقين، ومُشكِلة الانحراف عن القيم الخُلقية، والانحراف طبعاً يأخذ خمسين شكلاً من أشكال، في أسوأها الفاحشة أو الشذوذ أو تعاطي المُخدِّرات أو العدوان العنيف على الآخرين بالسلاح أو باليد، هناك انحرافات كبيرة نُعاني منها ويُعاني منها أولادنا، طبعاً والمُربي أو الدارس الموضوعي حين يطرح الموضوعات للمُدارَسة عليه أن يطرح كل ما هو موجود، لا ما يُحِب أن يكون موجوداً، أي بعض الناس – وخاصة ربما أصحاب النزعة المُتدينة أو المشائخية – لا يُحِب أن يُناقِش مسألة أن المُراهِق أو مُراهِقه هو يُمكِن أن يكون شاذاً جنسياً، يا حبيبي هذه وقائع، كله لابد أن يدرس، كل شيئ لابد وأن يدرس، وضع احتمالاً لكل شيئ، احتمال أن يرتكب ابنه أو ابنته الفاحشة موجود، الاحتمال واقع، انتبه! لا تقل لي إنك تطلب دائماً الأمثليات، هذه الأمثليات غير موجودة، هذا مُهِم لكي تكون موضوعياً، لكي لا تُصدَم، ولكي لا تكون المغدور أو المغرور، ادرس كل شيئ بواقعية!

وكذلك مُشكِلة الالتزام بالمواعيد، مُشكِلة الزيارات، كأن يستضيف أصدقاءه أو يحل ضيفاً عليهم، مُشكِلة السهر والتأخر ليلاً، كأن يأتيك مطلع الفجر كما يُقال، وأين كان؟ هذه مشاكل مع المُراهِقين بالذات، مُشكِلة الدراسة، مُشكِلة المُستقبَل الأكاديمي، مُشكِلة المُستقبَل المهني مع هذا الشاب حين يُغادِر حتى مرحلة المُراهَقة بقليل، سوف نجد عشرات – إن لم يكن مئات – القضايا والمشاكل، مُشكِلة المظهر والملبس، المظهر والملبس! أكثرنا حتى يضيق صدره عن أن يتقبَّل لبسة ابنه، ما هذا اللباس السخيف؟ أنا هذا لا أشتريه بفرنك مصدٍ، هل ترى كيف تظهر؟ بالعكس! أنت الآن تقطع قنوات التواصل معه وتسدها، تسد قنوات التواصل! هذا غير صحيح.

أنا سأسألكم سؤالاً، لينظر كل واحد منكم إلى صورة قديمة هكذا – أسود وأبيض – لأبيه مثلاً، خاصة الأجيال القديمة! هل الآن أنتم مُستعِدون أن تلبسوا لبسة أبيكم؟ أنا غير مُستعِد، أنا غير مُستعِد أن ألبس حطة وعقال، لا! ليست مُستعِداً، لا أُحِب هذا، وهذه لبسة أبي، أليس كذلك؟ وأنتم تفعلون نفس الشئ، ولذلك قال الإمام عليّ – عليه السلام – في القول المأثور والشهير عالمياً – أي هذا القول – لا تحملوا أبناءكم أو قال أولادكم على خلائقكم – أي أخلاقكم – فإنهم خُلِقوا لزمان غير زمانكم، تبقى هناك القيم الكُبرى المُطلَقة ثابتة، لكن أشياء كثيرة تتحرَّك، أكثر ما يتحرَّك الموضة واللباس هذا، وهذا يُشكِّل عند المُراهِق مسألة مُهِمة جداً، لماذا؟ لأن المُراهِق في جُزء كبير منه هو شخص مُتشبِّه، شخص مُحاكٍ، يُحِب المُحاكاة! يُحاكي مَن؟ يُحاكي مَن يُعجَب بهم، إذا أُعجب بشيخه يُحاكيه، إذا أُعجب بأستاذه يُحاكيه، إذا أُعجب بسيلفستر ستالون Sylvester Stallone يُحاكيه، رامبو Rambo! يُحاكي رامبو Rambo دون مُشكِلة، إذا أُعجِب بشوارزنيجر Schwarzenegger يُحاكيه، طبعاً وهو قبل ذلك ومع ذلك ودائماً وأبداً يُعجَب بشلته، أي بالزُمرة، انتبهوا! ولذلك يُحاكيهم، يُحِب أن يلبس كما يلبسون، هم يلبسون هكذا، ألأني مُسلِم لابد أن ألبس لباساً أقرب إلى كذا وكذا؟ لا، سألبس مثل زملائي، أنت اخترت له أن يدرس في هذه المدرسة تأميناً لمُستقبَله، الولد يقع تحت ضغوط، ضغوط الشلة! ضغوط مُؤرِّقة وصعبة جداً جداً، يُمكِن أن ترضى له أن يلبس هذا اللباس، طبعاً عندك نصائح وعندك تحفظات، لابد أن تتخيَّر – كما قلنا نحن لم نعد الآن أن نتحدَّث بالتفصيل – الأسلوب والطريقة والمنهج حتى تُوصِلها إليه، وعموماً المُراهِق لا يُحِب النصائح ولا يُحِب الوعظ، لا يُحِب صيغة عليك أن تعرف وينبغي أن تعرف والأحسن لك والأفضل لك وقال الله وقال رسوله وقال الإمام، المُراهِق لا يُحِب هذا مُطلَقاً، فقط إذا هو طلب منك ذلك فأسدِه إليك ولكن باقتصاد أيضاً، فهو لا يُحِب هذا، أي المُراهِق، انتبه! هكذا شخصيته، لأنه شخصية مُستقِلة.

تقولون وماذا عن العقاب أيضاً؟ العقاب ربما كان ينجح نسبياً مع الأطفال الصغار، فهل ينجح مع المُراهِقين؟ لا، ليس بنفس النسبة، في أكثر الأحوال العقاب يفشل، خاصة إذا كان العقاب العربي – ما شاء الله – أو العروبي الفاشل، العقاب الصحيح مع المُراهِق إذا أردته – والأحسن دائماً أن تُقلِّل منه إلى الحد الأدنى – فليكن العقاب بطريقة تحمل نتائج أفعاله هو الطبيعية، بمعنى ماذا؟ سأضرب مثالاً واحداً، المُراهِق معروف أنه كائن غير مُرتَّب – انتبهوا – وغير مُنظَّم، هو مُنظَّم ومُرتَّب في لباسته وفي سيارته أمام زملائه، لكنه في البيت غير مُرتَّب البتة، المُراهِق يرمي ملابسه الداخلية والخارجية في الــ Korridor وفي غُرفته وفي كل مكان، وصعب عليه أن يلتقطها وأن يضعها – مثلاً – في الإناء الخاص بالملابس – أي بالأواعي كما يُقال – المُتسِخة، لا يُحِب هذا الشيئ، ولا يُحِب مَن يُوجِّهه، ونحن نُريد حلاً وسطاً، علماً بأن هذا مثال بسيط فقط، ما الحل الوسط؟ إذا كان بالإمكان أن يكون له غُرفة فهذا سيكون أفضل، والمُراهِق يطلب هذا، مُشكِلة الخصوصيات الآن مُشكِلة كبيرة جداً جداً، خصوصيات المُراهِق! وماذا يقرأ؟ وعلى أي صفحات شبكية يدخل؟ وأي مجلات يتعاطى أيضاً النظر فيها؟ وأي كُتب؟ وأي كذا وكذا؟ خصوصيات المُراهِق! طبعاً التجسس هذا أسلوب سخيف مُخابَراتي عربي يُدمِّر كل شيئ، لا يُمكِن! ممنوع الكلام هذا، ممنوع أن تفعل هذا في حق ابنك، ممنوع أن تبحث في أغراضه وما إلى ذلك، ممنوع! وحين تُصدَم كيف تتصرَّف؟ قصة كبيرة تتعلَّق بالخصوصيات، ولذلك الأفضل أن يكون له غُرفة خاصة، حتى إذا صُدِمت بفعل أنت تراه فعلاً غير أخلاقي وما إلى ذلك مما يتعاطاه المُراهِقون ربما كل ليلة – انتبه! خاصة في هذه الفترة الهرمونية – لا تفعل كأنك مصدوم أبداً، بالعكس! اخرج واعتذر، قل عُذراً واخرج، واجعله يتحمَّل عاره الصغير، هذا ليس عاراً كبيراً، ليس شيئاً خطيراً جداً جداً، انتبه! يتحمَّل هو عاره الصغير، لا تفعل كأنك مصدوم ولا تقل أنت صدمتني وما إلى ذلك، وإلا سوف تُدمِّره، ليس هذا الأسلوب الصحيح.

المُهِم كيف نُعاقِبه الآن على مسألة الملابس هذه؟ نقول له لنتفق على قاعدة، لن نسمح لك – لا أنا ولا أمك ولا أخواتك ولا إخوانك – بالآتي، من العيب – عندك اخوات أيضاً بنات – أن ترمي ملابسك الداخلية والخارجية في الــ Korridor وفي كل مكان، لن نسمح لك بهذا، وأعتقد أنك لا تسمح لنفسك بهذا، يقول جيد، مُمتاز! ماذا تُريدون؟ نقول له غُرفتك أنت حر فيها، إذا كنت تُحِب أن تملأها بالزبالة وبالملابس فأنت حُر، لكن – العقاب يأتي – لن نلتقطها بالنيابة عنك ولن نغسلها، وبالتالي لن تُكوى أيضاً، إذا أردت لها أن تُغسَل فلابد أن تأخذها وأن تضعها في المكان المُخصَّص للمُتسِخات، بعد ذلك نحن سنقوم بالباقي، سنغسلها – الأم ستغسلها – وسنكويها، غير ذلك لن نفعل، مهما هددت ومهما صرخت لن نفعل، فليتعلَّم هذا!

مسألة الاستيقاظ، الأطفال طبعاً الآن يُبرِموننا ويُتعِبوننا باستيقاظهم المُبكِّر، أليس كذلك؟ والأب طبعاً يُريد يوم عطلة أسبوعي، والطفل من الساعة السابعة جالس أمامه، مثل القرد عند الطاحونة كما يقولون، جالس أمامه! المُشكِلة هذه تُصبِح معكوسة مع المُراهِق، المُراهِق لا يجلس أمامه، لا يستيقظ مُبكِّراً حتى في أيام المدارس، يُحِب أن ينام أكثر، نقول له يا ابني استيقظ فالساعة السابعة والنصف وهذا لا يصح، لكنه لا يُحِب أن يستيقظ مُبكِّراً، فماذا نفعل معه إذن؟ هل نُعامِله كالأطفال؟ هل نستيقظ بالنيابة عنه؟ هل نقف عند رأسه؟ لا أبداً، الأسلوب الصحيح – هذا هو العقاب – هو أن نُنادي عليه مرة واحدة، حتى إذا أدركنا أنه سمع نتركه، وإذا فاته الدوام اليومي فليتحمَّل هو المسئولية، ولن أكتب كأب تبريراً، هنا يطلبون هذا، لو تغيَّب – وهذا والله انضباط، أحسن من بلادنا – ساعة واحدة يطلبون تبريراً من ولي أمره، لِمَ تغيَّب؟ حتى ولو ساعة واحدة! ولابد أن يكون خطياً وبإمضائه، لن أكتب له هذا التبرير، سأقول له لا، اعترف بالحقيقة وأنك نمت، لأنك كنت سهران لكي تُشاهِد الأفلام مثلاً، وهكذا سيتعلَّم، هذه ساعة الحقيقة، حقبة الحقيقة، إنها حقبة تعلم المسئولية، روح أن يُصبِح هو مسؤولاً، نُخطئ نحن للأسف كآباء – بعضنا أو كثيرٌ منا آباء رحيمون رؤومون طيبون، وكذلك الأمهات – ونُمثِّل دائماً دور الشهيد، تقول له أنت لا تُريد أن تضع ملابسك في المكان المُناسِب لكن أنا سألتقط هذه الملابس وحسبي الله ونعم الوكيل، ثم تأخذها! لا تلتقطها يا حبيبي ولا تكن شهيداً، أنت شهيد لا أجر لك، أنت أفسدت ابنك، نُمثِّل دائماً دور الشهيد، لا تقل سنفعل هذا وسنقوم بهذا وحسبنا الله ونعم الوكيل، أنت الآن أفقدته فُرصة أن يكون شخصاً مسؤولاً.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

اللهم إنا نسألك في هذه الساعة المُبارَكة في هذا المكان المُبارَك القدسي في هذا اليوم الكريم المُبارَك ألا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرَّجته، ولا كرباً إلا نفَّسته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا غائباً إلا رددته، ولا أسيراً إلا أحسنت فكاكه، ولا مديناً إلا قضيت عنه دينه، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة لنا فيها صلاح ولك فيها رضا إلا أعنت على قضائها وتيسيرها بمنّك يا أرحم الراحمين.

اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم، ولا تُعذِّبنا فإنك علينا قادر، والطف بنا فيما جرت به المقادير، لا تُؤاخِذنا بما فعل السُفهاء منا، وارفع مقتك وغضبك عنا، اللهم إنا نسألك أن تُكرِمنا في أزواجنا وفي زوجاتنا وفي أولادنا، أبنائنا وبناتنا، رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ۩، اللهم انصر الإسلام والمُسلِمين، وأعل بفضلك كلمتي الحق والدين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من أفضاله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

فيينا 13/07/2007

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: