إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَحَبِيبَنَا ونَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه سبحانه ومُخالَفة أمره لقوله سبحانه من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – جل مجده – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ:

وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ۩ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۩ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ ۩ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ ۩ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ۩ قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۩ قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ۩ قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ۩ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

  إخواني وأخواتي:

وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء ۩، إلى هنا وليس ثمة جديد، الله – تبارك وتعالى – هو الملكَّ الذي إن شاء غفر وإن شاء عذب، وقد ورد هذا المعنى في سياق القوم، أعني في سياق اليهود والنصارى، إن شاء – تبارك وتعالى – غفر لمَن شاء منهم وإن شاء عذَّب مَن شاء منهم، لكن الجديد سيظهر بُعيد قليل، علماً بأن هذا كان في المائدة، في آل عمران لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ – على مَن؟ على  كفّار قريش الذين خرجوا يُحارِبونه عليه الصلاة وأفضل السلام في أحد، ومن أسف هزموه وأصحابه عليه الصلاة وأفضل السلام – أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ۩ وَلِلَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ۩، الآن بدأ يظهر أمر عجيب، قال الله رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ ۩، بدأ الأمر يتسع قليلاً، يبدو أن مشيئته – تبارك وتعالى – أن يغفر لمَن يشاء – هو شاء هذا – وأن يُعذِّب مَن يشاء ليست تقتصر فقط على المُؤمِنين بل تعم خلقه أجمعين، هل يتناقض هذا مع القاعدة التي أسَّس لها مثل قوله تبارك وتعالى إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ ۩ ومثل قوله إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ۩ إلى آيات أخر كثيرة؟ لا يتناقض،هذه هى القاعدة، جزاء الشرك هذا هو وجزاء الكفر هذا هو، فهذه هى القاعدة، لكن ما من قاعدة إلا ولها تفاصيل واستثناءات، عيسى – عليه الصلاة وعلى نبينا والتسليمات – ماذا يقول؟ يقول إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ۩، يغفر لمَن؟ هل يغفر لمُوحِّدين أخطأوا؟ لا، لقوم عبدوه وأمه من دون الله، قال الله أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ۩، السياق كله في هؤلاء، عيسى يقولإن تُعذِّبهم وإن تغفر لهم، وهذا أمرٌ عجيب، هل يُمكِن أن يحتمل عيسى – يضع في حيز الاحتمال – أمراً يعلم أنه مُحال وأنه غير وارد؟ لا يُمكِن أبداً، هو نبى من أنبياء الله، عيسى قطعاً عليم بالقاعدة، قال الله إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ ۩ وقال أيضاً إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ۩، إذن ما معنى وما موضع قوله وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ ۩؟ كيف؟ أتغفر لمَن أشرك؟ أتغفر لمَن أشرك بك؟ ما القضية؟ ما القضية أيها الإخوة والأخوات؟ يبدو أننا نحتاج الآن إلى منظور جديد وإلى مُقارَبة جديدة لهذه الآيات الكريمات لقضية الرحمة والمغفرة والعذاب والانتقام في كتاب الله تبارك وتعالى،  نموذج يختلف عن السائد الذي ورثناه وقلَّدنا فيه باستمرار، هذا النموذج سيظهر إن صح – والله تبارك وتعالى عنده العلم والحكم – أنه يُعطي تصوراً لله تبارك وتعالى – باللغة الفنية الحديثة صورة لله، باللغة التقليدية عقيدة، أي صورة مُعتقدية أو اعتقاد – ويُعطي اعتقاداً في الله أكثر رحمةً وأكثر مرونة  وأكثر مُلاءمةً ومُناسَبةً للألوهية الرحيمة، وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا ۩، وبالرحمة فاض الكون كله، هذا الكون كله فضلاً عن الإنسان المسكين الضعيف هو من فيوضات الرحمة الإلهية، نموذج مُهِم وسوف نراه بُعيد قليل وهذا الذي يهمنا أكثر وإن كان هذا مُهِماً جداً، لكن يهمنا أكثر مدى التأثير المُقترَح والمُرجَّح لهذا النموذج في أفكار ومن ثم في سلوك المُؤمِنين وفي سلوك المسلمين وفي سلوكنا كأمة، نموذج جديد سيجعلنا ننظر نظرةً أكثر عدلاً وإنصافاً وعلمية وواقعية وموضوعية إلى الآخرين، لا كما نفعل الآن، إذ ننظر نظرة مُتحجِّرة جامدة حصرية مُتبجِّحة وبعيدة جداً من العدل والإنصاف والتواضع والرحمة،  ننظر إلى كل مَن عدانا وكل مَن سوانا على أنهم كفّار لا قيمة لهم عند الله لا في الدنيا ولا في الآخرة، لذلك يُمكِن أن نستبيحهم حتى، وطبعاً أتحدَّث عن طوائف من المُسلِمين وعن أعداد منزورة من المُسلِمين ينطلقون من مثل هذا المنظور، لكن لأكون أميناً معكم أقول أن اعتقادنا أيضاً وصورة الله – تبارك وتعالى – لدينا تحتاج إلى تعديل قرآنياً، لا أتحدث بلغة فلسفية وما إلى ذلك، قرآنياً تحتاج إلى تعديل، نحتاج أن نعيد النظر ليس مرة وليس كرة بل مرات وكرات ومرات وكرات وباستمرار في كتاب الله – تبارك وتعالى – لنُعدِّل هذه الصورة، لنُعيد مُلاءمة هذه الصورة قرآنياً  لتتلاءم مع القرآن ذاته.

مرةً اقترح عالم الفيزياء الدنماركي الكبير نيلز بور Niels  Bohr – أبو النموذج الحديث في الذرة وأحد مُؤسِّسي ميكانيكا الكم كما تعلمون طبعاً – أننا لكي نفهم البنية الذرية قد نحتاج إلى تعديل مفهوم الفهم، طبعاً البنية الذرية اتضح أنها أكثر تعقيداً وروغاناً بمراحل مما كان يُظَن، ليست ذلك  كنموذج دالتون Dalton –  مثلاً – البدائي أو رذرفورد Rutherford البسيط المتواضع مثل المجموعة الشمسية، بنية الذرة مُعقَّدة جداً جداً جداً أكثر مما يظن أي عالم، أكثر مما كان يظن ألبرت أينشتاين Albert Einstein نفسه بمراحل، شيئ مُعقَّد روغاني سحري يقوم على الاحتمال، الاحتمال وفقط، لا يُوجَد أي نوع من التحديد، فاقترح نيلز بور Niels  Bohr في هذا المعمعان الذي صدَّع أذهنة العلماء ثم الفلاسفة من بعد في الثلث الأول من القرن العشرين ولا يزال إلى اليوم أننا لكي نفهم بنية الذرة قد نحتاج إلى تعديل مفهوم الفهم،  ما معنى أن تفهم أصلاً؟ ما معنى الفهم أصلاً؟ هو هذا، وأنا أقول أيضاً بالإزاء أنت لكي تفهم صورة الله – تبارك وتعالى – ولكي تعرض هذه الصورة تحتاج أن تُعدِّل مفهوم الفهم لديك، كيف أُعدِّل مفهوم الفهم؟ إذا انطلقت ابتدائياً كما يفعل علماء الدين عموماً في كل الأديان من أن صورة الله ناجزة وبسيطة وواضحة ويمكن التأشير عليها بالإصبع – هذه هى في الكتاب المُقدَّس أو هذا هو الله كما يعرضه الكتاب المُقدَّس أو  هذا هو الله كما يعرضه القرآن – هذا سوف يكون غلطاً، هذا غير صحيح، إذا انطلقت من هذا المُنطلَق لا يُمكِن أن يتوصل معك إلى جديد وسوف تدأب على اجترار نفس الأخطاء القديمة أو الأخطاء القديمة نفسها،  نعود مرة أخرى إلى المُعتقَدية – Dogmatism – وإلى النقدية، نحتاج إلى عقل نقدي، عقل نقدي – انتبهوا ودائماً استحضروا هذا – يُدرِك أن كل ما نفهمه وكل ما نقوله إنما نفهمه ونقوله كبشر من خلال موقعنا الآن وهنا ومن خلال ما تحصَّل لدينا ومن خلال ما نتوفَّر عليه من آليات علمية ومعرفية وفهمية وتأويلية فقط، ولأن كل هذا الذي يُشكِّلنا ونتوفَّر عليه هو دائم التغير والتبدل والتعديل والمُواءمة والتطور والمُراكَمة إذن نحتاج إلى هذه العقلية النقدية لكي نكون مُتواضِعين ونكون مطواعين مرنين لكي نُعدِّل في نماذجنا وفي تصوراتنا وفي مفاهيمنا باستمرار، قال الله وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ۩ وقال أيضاً وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ۩، أما أن تعتقد أن لديك القدرة الجامدة الساذجة التي إن لدت فلا تدل إلا على سذاجتك وبساطتك، أنك إنسان بعيد جداً من الفهم، بعيد جداً من العمق ومن الأعماق، أنت إنسان سطحي، تغرق – كما أقول دائماً – في شبر ماء، إن كنت تظن أنك كإنسان تستطيع بكل بساطة أن تُؤشِّر على الحقائق بإصبعك وتقول ها هى وانتهى كل شيئ فأنت مُعتقَدي – Dogmatist – صاحب ذهن مُغلَق، أنت تُوِّلد الكوارث والمآسي والمشاكل، لابد أن تتحوَّل إلى إنسان نقدي مُتواضِع مطواع مرن مُنفتِح باستمرار، لابد أن تُعدِّل نفسك باستمرار وشعارك الله أعلم، قال الله وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ۩ والمأمور بهذا القيل هو محمد عليه الصلاة وأفضل السلام، قال الله وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ۩، هذا محمد وليس عالماً أو شيخاً أو مُؤوِّلاً أو مُفسِّراً، قال الله وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ۩ ومعنى وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ۩ أنك لم تصل إلى نهاية العلم، إذن أنت لا تزال تتعلَّم، ينبغي أن يكون لديك القابلية لأن تتعلَّم، تحتاج أن تكون ذا قابلية لأن تتعلَّم، إن ظننت أنك المُعلِّم فقط فأنت الجاهل، أنت الجاهل الحقيقي، مَن ظن أنه علم فقد جهل كما قال علماؤنا، إذن نحتاج أن نُعدِّل هذه الصورة باستمرار، ندخل الآن في نقاش مُعتقَدي أو في نقاش عقائدي فينبغي أن يتسلَّح كلا المُتناقِشين وكلا المُتحاوِرين بهذا المبدأ وأن ينطلقا من هذا المُنطلَق، بحيث أنه بعد ربع ساعة أو بعد نصف ساعة أو بعد عشر ساعات أو بعد عشر سنين يُعدِّل كلٌ من الطرفين بعض مقولاته وبعض مفروضاته وبعض مُتبنياته ويُعدِّل من الصورة المعتقدية عنده، صورة الله أو صورة الأنبياء أو صورة النبوةأو صورة كذا وكذا من المُفرَدات العقدية المختلفة، نحتاج إلى هذا.

نعود إذن إلى القرآن العظيم الذي ذكر ما تلوته عليكم قُبيل قليل، بالقرآن نفسه سوف يضح لنا أن الله – تبارك وتعالى – هو العدل المُطلَق، إني حرمت الظلم على نفسي، قال الله، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩ وقال أيضاً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ ۩، الله لا يُمكِن أن يظلم، هو أمَّنك، قال لك كُن في أمان، لن تنتظر مني ظلماً، خُذ هذا، قال لك أنا رحمةٌ مُطلَقة وأنا علمٌ مُطلَق وأنا عدلٌ مُطلَق، لا إله إلا هو، هذه صورة جميلة يُشوِّهها التأويل أحياناً الناقص والساذج والبسيط والمُبتسِر أو المُختزِل، وبالحري أن هذه الصفات الإلهية تعمل دائماً مُتآزِرة، لا تعمل تفاريق متنازعة، إنما تعمل مُجتمِعة  مُتآزِرة باستمرار، إذن الله يغفر لمَن يشاء، قال الله أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ ۩، تركها بالمُطلَق، لم يقل يغفر لمَن يشاء مِن المُؤمِنين ويُعذِّب مَن يشاء مِن المُؤمِنين وغير المُؤمِنين، لم يقل هذا، وإنما قال لِمَنْ يَشَاءُ ۩ بالمُطلَق، وهنا قد يقول لي أحدكم  حتى وإن دخل في هذا المُطلَق وفي هذا العموم كافر مُشرِك؟ طبعاً، حتى إن دخل كافر مُشرِك، كيف وهو الذي قال إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ۩ وهو الذي قال إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ۩؟ كيف تقول أنه مُمكِن أن يغفر؟ مسألة مُعقَدة بلا شك ولكي نفهم القرآن فهماً أدق غير الفهم التقليدي الآن نحتاج أن نُقارِب المسألة بطريقة جديدة، كيف؟ بما أن الله – تبارك وتعالى – هو العدل الكامل التام المُطلَق فالعدل يقتضي مُقتضيات، وإياك أن تتحدَّث عن عدل لا تفهمه، إياك أن تقول لي عدل الله أنا لا أفهمه، لا تفهمه ربما في بعض التفاريق والتفاصيل لكن في الجُملة ومن حيث هو لابد أن يكون مفهوماً لديك وإلا ما وُجِدَ معنى من أصله – ليس ثمة معنى – لأن يُخبِرك الله عن عدله، تماماً كما أخبرك عن قدرته وعلمه وإرداته وفضله ورحمته، هذه الأشياء نفهمها، وحتماً الله – تبارك وتعالى – صاغ العقل الإنساني والإدراك والفاهمة الإنسانية بحيث يمكن أن تستوعب هذه المعاني إجمالاً، ما معنى أن يكون الله عدلاً؟ البشر يقول لك بعض المعايير، مسألة العدالة مُعقَّدة جداً لكن هناك بعض المعايير، مثل وضع كل شيئ في موضعه وأخذ كل عنصر فاعل في الحسبان من الاعتبار، أليس كذلك؟ هذا العدل، نحن كبشر نُحاوِل دائماً أن نقترب من هذا المفهوم لكن بشكل مُتزايد، اسأل فقيهاً قبل مائة سنة وربما الفقيه الجامد الآن في القرن الحادي والعشرين عن الجريمة، هذا الفقيه التقليدي ليس عنده مجال ومُتسَع حين يتعاطى مع جريمة – جريمة دينية بلغة الشرع هى جريمة من الجرائم، إحدى الجرائم الحدية أو جرائم الحدود مثلاً – أن يتكلَّم عن تأثير عوامل غير الجريمة ذاتها، إلا في الجنون لماذا؟  عنده نص، رُفِعَ القلم عن ثلاث ومن ضمنهم المجنون حتى يعقل، قال هذا مجنون، وهذا المجنون غير مُكلَّف، لكن هناك تبعات أخرى طبعاً، العلم الآن يقول لك تقريباً كل مَن يرتكب جريمة هو مجنون نسبياً، هو مجنون بمعنى ما من معنى الجنون، وجد علماء الأعصاب أن هناك علاقة حقيقية وليس مجرد اقتران ظاهري بين البنية الإحيائة والبنية الدماغية والعصبية وكيمياء الدماغ للمُجرِمين وبين كونهم مُجرِمين، يُوجَد عنصر، لماذا – مثلاً – أكثر المجرمين من الذكور وليس الإناث؟ أكثر المُجرِمين ذكور، الآن يقول لك العلماء أنك قد تُنجِب طفلاً – الطفل ذكر وأنثى – أو ولداً – الولد ذكر وأنثى –
يحمل كروموسوم (Y) Chromosome، ما معنى (Y)؟ أنه ذكر، إذا كان (XY) فهذا يعني أنه ذكر، إذا كان (XX) فهذا يعني أنها أنثى،  على كل حال هو ذكر وعنده هذا الكروموسوم Chromosome، هذا المسكين أنت تفرح به كثيراً طبعاً، لكن لأن عنده هذا الكروموسوم Chromosome إحصائياً وعلمياً هو مُؤهَّل جينياً ووراثياً وبُنيوياً أن يكون مُجرِماً وأن يرتكب جرائم ثمانية أضعاف أكثر من أخته الأنثى، هذا الهرمون Hormone قاتل، ولذلك القيادات العسكرية ومُؤسِّسو الأفكار الكُليَّانية والديكتاتوريين القتلة والمُجرِمون الكبار  كلهم من الذكور تقريباً، في السجون الآن تصل نسبة المحكوم عليهم بالإعدام من المسجونين الذكور إلى ثمانية وتسعين فاصل أربعة من عشرة في المائة، والباقي إناث بنسبة واحد وستة من عشرة في المائة، من كل مائة يُحكَمون بالإعدام من المساجين أقل من اثنين في المائة من النساء، والبقية رجال ذكور، لماذا؟ يُؤثِّر عليهم هذا الكروموسوم Chromosome، لأنه ذكر والبنية ذكورية مُعيَّنة أصبح مُؤهَّلاً للجريمة أكثر، الاعتداءات خطيرة تصل إلى ثماني مرات أكثرمن الإناث، القتل يصل إلى عشر مرات أكثر من الإناث، أنثى واحدة وعشرة رجال، السطو المُسلَّح يصل إلى ثلاثة عشر مرة  أكثر من الإناث، الاعتداء الجنسي والاغتصاب جنسي يصل إلى أربعين مرة، هذا شيئٌ عجيب لكن هكذا الحاصل، إذن نحن نُدلِف ونأتي ونَقدَم إلى الوجود وإلى الكون وإلى الحياة وإلى المسرح – إلى مسرح الحياة – ونحن غير مُتساوين وراثياً، لسنا مُتساوين في الاستعدادات، لا تقل لي استعدادتنا واحدة، هذا غير صحيح، لكن هل مثل هذه الأشياء يأخذها الله في الاعتبار؟ حتماً، إذا كان المُشرِّع الآن وإذا كان القانوني الآن وإذا كان القاضي الآن يُحاوِل باستمرار وخاصة في أمريكا أن يأخذ هذه الأشياء بعين الاعتبار، فحتماً الله يفعل، الآن تُوجَد كتب ومُجلَّدات عن علم الأعصاب والقانون وعن علم الأعصاب والقضاء وعن علم الأعصاب والعدالة وعن علم الأعصاب والأخلاق، أي الأخلاقيات العصبية كما يُسمونها، هذه علوم كاملة، لأن هذا الإنسان بمعنى ما من المعاني قد يكون ضحية لهيجان مُوصِّلات عصبية في دماغه زائدة عن اللازم، كذاك المسكين الذي حٌقِن بنسبة عالية من التستوستيرون Testosterone – ونقول هذا لأبطال كمال الأجسام الذين يأخدون منه – فخضع لحالة اهتياج، وقع تحت سطوة اهتياج فقتل امراءته وأم زوجته وأطلق النار وفعل كذا وكذا، دخل في حالة جنونية وانتهى الأمر بسبب هذه النسبة العالية، بعض الناس عندهم هذه النسبة أكثر فيكون أشد انفعالية، بعض الناس يُصاب بأمراض مثل Huntington’s disease،  والعجيب أن هذا المرض – أعني Huntington’s disease –  مُسبَّب عن جين Gene واحد، أي مُورِثة واحدة فقط، وهذه حالة نادرة جداً، الأمراض عموماً تُسبِّبها مجموعة من الجينات Genes، أحياناً مئات الجينات Genes من أربعة وعشرين ألف جين Gene، وهذا ثبت الآن في حق الإنسان، كانوا يقولون بوجود أربعين ألف ثم بوجود من أربعين لستين لكن الآن قالوا يُوجَد مائة ألف جين Gene، الآن كل شيئ أُحصيَ، مشروع الجينوم البشري Human Genome Project، على كل حال يُوجَد  أربعة وعشرون ألف جين Gene فينا، أحياناً مئات الجينات Genes تُسبب مرضاً مُعيَّناً، أحياناً ليست الجينات Genes وحدها وإنما الجينات Genes والبيئة، مثل فصام الشخصية، أي الشيزوفرينيا Schizophrenia أو السكيزوفرينيا، هذا المرض مسؤول عنه مُورِّثات أو جينات  Genes  مُعيَّنة والبيئة مُهِمة جداً، العجيب أن الفصام يزداد في المُهاجرين غير المُندمِجين والمساكين الذين يخضعون لضريبة رُهاب الأجانب، أتى الواحد منهم إلى بلد مُعيَّن فيه نزعات تعصبية ونزعات استعلائية ولذا يحتقرون صنفاً من البشر، قد يحتقرون السود أو يحتقرون العرب أو يحتقرون المُسلِمين أو يحتقرون السلاف أو يحتقرون المكسيكيين أو يحتقرون الـ Hispanic وإلى آخره، هذا المسكين غير مُندمِج وغير ناجح فاحتمالية أن تُفصَم شخصيته خاصة إذا كان حامل الجينات Genes طبعاً أكثر بكثير مما لو ظل المسكين قاعداً في داره في بلاده أو في وطنه، لكنه جاء وأصبح يُعاني من هذا الطرد ومن هذا الإبعاد ومن هذا الاستعباد ومن هذا الاستبعاد ومن هذا الاحتقار ومن هذا الازدراء ولذا تُفصَم شخصيته ويُصاب بالشيزوفرينيا  Schizophrenia، فالبيئة مُهِمة أيضاً، هل هذه الأشياء تُؤخَذ بالاعتبار؟ تُؤخَذ بالاعتبار، إذا الإنسان أخذها في اعتباره أليس من الأولى أن تكون مأخوذة في اعتبار حساب الله بتارك وتعالى؟ حتماً حتماً حتماً، كل الرحمة الإنساينة تقتضي هذا، طبعاً ستقول هذا قاضي رحيم هذا مُشرِّع رحيم وهذا فكر رحيم وهذه فلسفة رحيمة وهذا قانون رحيم وهذا فهم رحيم، لماذا؟ لأنه يُحاوِل أن يتعاطى مع الوقائع بموضوعية، موضوعياً هذا أحواله غير هذا، لو كان هذا مكانه سيكون مثله وربما أسوأ، أليس كذلك؟ فكيف لا آخذ هذا بالاعتبار؟ لذلك الإنسان الفقير المُضطَر – مثلاً – الآن في الشرع وفي القانون وضعه مُختلِف، وهنا قد تقول لي هذه أحكام الاضطرار التي نفهمها، لكن أنا عندي فلسفة أعمق من هذا، أنت الآن تُتاخِم هذه الفلسفة، أحكام الاضطرار عن أي إنسان مُضطَر مُكرَه، مُضطَر لأنه سوف يموت ومن ثم ذهب وسرق أكله، اغتصب أكله حتى اغتصاباً، ضرب صاحب الأكل وربما شجه أو أدماه وربما أودى بحياته، وهنا قد تقول إذا قتله ما حكمه؟ ابن حزم قال إذا كان إنساناً جائعاً ولم تُعطه ثمن الضيافة وليس عنده ما يشتري به وأوشك على الموت ونازعك وقتلك فأنت دمك هدر، ليس لك دية، ذهبت كما يقولون بالعامية طشاش، ولك أن تتخيَّل هذا، هذا المسكين مُكرَه لأنه جائع، الإنسان الذي يعتدي – يعتدي طبعاً على أموال الغير وليس على الأعراض – ويغتصب ويسرق لأنه جائع ليس مثل الإنسان الشبعان الذي يسرق أموال الناس ويُريد أن يزداد شبعاً ويزداد تخمة، وهنا قد تقول لي هذا ليس النموذج الوحيد، من المُمكِن أن يكون kleptomaniac، وهذا صحيح، إذا كان هذا المسكين مُصاباً بمرض جنون السرقة وهوس السرقة – الـ Mania هى الهوس – وكان مُهوَّساً أو مهووساً بالسرقة فهذا يُؤخَذ في الاعتبار، هو ملياردير أو مليونير ومع ذلك يُحِب أن يسرق، ولذا هذه  kleptomania ومن ثم هو kleptomaniac، أي أنه مهووس بالسرقة، وطبعاً القانون يأخذ هذا بالاعتبار، الفقيه سوف يقول ما هذا الكلام؟ أنت ستفتح لنا أبواباً لا تُسَد الآن، وهذا يعني أننا الآن سنتخلى عن الطريقة البسيطة الأحادية الخطية في مُعالَجة الجرائم عقابياً طبعاً، أعني المعالجة الجزائية الجنائية للجرائم، نحن عندنا إذا سرق أحدهم تُقطَع يده وإذا فعل كذا يُرجَم وهكذا ينتهي الأمر ببساطة، بساطة فقه القرون الوسطى، يا أخي هذا فقه القرون الوسطى، وهنا قد تتهمني بالتشكيك، لكنني لا أُشكِّك يا رجل،  الله هو الذي علَّمنا وهو الذي أرشدنا إلى أن نكون عادلين وأن نُقارِب العدالة دائماً في أرقى مستوياتها بحسب الإمكان، يُوجَد فرق بين هذا وهذا،  النبي كان يقول ليس مَن علم كمن جهل، حساب العالم غير حساب الجاهل، الشريعة تقول حساب المُضطَر غير حساب المُختار، إذن من معاني الاضطرار إني أخضع لتأثيرات هرمونية ليس لي أي يد فيها أويدان، من معاني الاضطرار والإكراه أن أخضع لتأثيرا عصبية مثل السيروتونين Serotonin والدوبامين Dopamine،  علماً بأن المُوصِّلات بالعشرات لكن أشهرها السيروتونين Serotonin والدوبامين Dopamine، حين أخضع لها تُؤثِّر على سلوكي وتجعلني أحياناً شخصية عُنفية وشخصية مُنفلِتة الأعصاب  وغير مُدبَّرة العواطف والانفعالات،  هذا ليس بيدي، لو أنت خضعت لنفس المُؤثِّرات سوف تكون مثلي وأسوأ ربما، أليس كذلك؟  فالشريعة حين قالت لك أن مبدأ الإكراه ومبدأ الضرورة يُؤخَذ في الاعتبار كانت تُريد أن تقول لك أنها وسَّعت، العلم الآن وسَّع لنا أشياء ما كان يدريها أبو حنيفة والشافعي ومالك الصادق وزيد ولا تخطر لهم على بال، أصلاً ما كان يدريها العلماء قبل ثلاثين وأربعين سنة يا إخواني، والآن اكتشفوا أشياء عجيبة جداً جداً،  على ذكر مرض Huntington الذي يتعلَّق بمُورِّثة واحدة يقول أحد كبار علماء الأعصاب هذا أمر مثير جداً، يكفي فقط أن تعبث بجين Gene واحد أو بمورِّثة واحدة حتى تتبدل حياة إنسان بالكامل، أي إنسان يُمكِن أن يعيش حياة هادئة ويكون مُندمِجاً اجتماعياً وصالحاً اجتماعياً – إنسان صالح – – Good Man لكن حين تعبث له بهذه الجينة Gene سوف تظهر عليه بعد فترة هذه الأعراض العنيفة، سوف يُصبِح عنيفاً فيعتدي جنسياً ويتعدى على الأخرين وبعد ذلك تبدأ الاضطرابات الحركية المعروفة بمرض Huntington، هذا كله سبب جين Gene واحد ليس له علاقة به، هذا داخل البنية التكوينية، الله خلق هذا المسكين وقدَّر له هذا، ألا يُؤخَذ هذا بالاعتبار؟ ينبغي أن يُؤخَذ بالاعتبار، مثل قول الله لَيسَ عَلَى الأَعمىٰ حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى المَريضِ حَرَجٌ ۩، إذن لابد أن نُوسِّع مفهوم المرض، ليس شرطاً أن يكون المرض مرضاً عضوياً ظاهراً، هناك أمراض كثيرة نفسية المنشأ،  الأمراض العضوية ذات الأسس النفسية – Psychosomatic  Diseases – تدخل في مفهوم المرض، هذا لابد أن يأخذه الفقيه اليوم، هذه المسائل لا ينبغي أن تبقى وقفاً على علماء القانون الوضعي، ينبغي أن يأخذها علماء الفقه الشرعي، وطبعاً ينبغي أن يستعينوا بأحدث الأبحاث والدراسات،  لابد من شغل حقيقي تقوم به الدول والحكومات عندنا،  لابد من فقه إسلامي حقيقي مُتطوِّر نامٍ ويتناسب مع العصر، ينبغي أن نُطوِّر مفهوم المرض، وهنا قد تقول لي نفس الشيئ ينطبق على بعض الانحرافات الجنسية  والانحرافات المسلكية، كل هذا لابد أن يُؤخَذ بعين الاعتبار.

الشريعة أدلت وأومضت وأرسلت لنا عشرات إن لم يكن مئات الرسائل القصيرة الذكية السريعة التي تجعلنا نستوعب منطق هذا الموضوع كله برمته، منه ما ذكرت لكم، مثل قوله عليه الصلاة وأفضل السلام سبق درهم مائة ألف درهم، كيف؟ قال أبو هريرة يا رسول الله كيف يسبق درهم مائة ألف درهم؟ شخص تصدَّق بدرهم عند الله أثقل من شخص تصدَّق بمائة ألف درهم، كيف؟ رجعنا إلى المشروطية، إذن هذا هو العدل الإلهي، قال نعم، رجل ليس لديه إلا درهمان تصدَّق بأحدهما، فهذا تصدَّق بنصف ماله – شخص فقير كل ثروته عشرة آلاف يورو فذهب وتصدَّق بخمسة آلاف مثلاً -ورجل له مال كثير فأخذ من عرضه مائة ألف فتصدَّق بها، فالدرهم سبق المائة ألف،  أنت عندك مليون – مثلاً – وتصدَّقت بالعشر – مائة ألف – لكن هو تصدَّق بالخمسين في المائة، لذا هو عند الله أعظم منك أجراً، وكلاكما مُحسِن، كلاكما على خير، لكن الله يأخذ الأمور من هذه الزاوية، لأن الله هو الملك، الله لا يأخذ الأشياء بالكثرة والقلة،  هذا كله عند الله لا شيئ، المائة ألف والمائة مليار والدنيا كله عند الله لا شيئ، لكنه ينظر إلى الظروف، الله لا يُريد مالك، ماذا يُريد من مالك أو من الدنيا والكون كله أصلاً؟ هذا من خلقه بقوله كُنْ فَيَكُونُ ۩، لكنه يُريد أن يُعلِّمك كيف تتصرف، يُريد وعيك الديني ووعيك الإنساني ونضجك الروحي، كيف تتصرَّف أنت؟ أنت تتصدَّق بنصف ثروتك وهذا عظيم، وهنا قد تُدخِلني في فلسفات وتقول لي هذه لا تهون إلا على الفقير كما يقول إخواننا المصريون لأن عندما يكون عنده مليون لن يتصدَّق لكن هذا شيئ ثانٍ، كل شيئ بحسابه فليس لنا علاقة، لما يُصبِح عنده مليون سوف نرى، الله سوف يُحاسِبه ويُجازيه بحسب ما يُعطي، ربما أعطى ثلاثة أرباع المليون، مَن يدري يا أخي؟ الله أعلم ،  لكن كل هذا يُؤخَذ في الاعتبار.

ذات مرة حدَّثتكم بكلمة ألقيتها قائلاً أن الله – تبارك وتعالى – يُكافئ عفيف مكة وعفيف القدس طبعاً وعفيف القاهرة وعفيف تونس وما إلى ذلك بطريقة مُختلِفة عن التي يكافئ بها عفيف فيينا وبرلين ونيويورك وواشنطن طبعاً، أكيد عفيف عاصمة غربية أعظم في الميزان من عفيف مكة والقدس والقاهرة وما إلى ذلك، هناك المُؤثِّرات والمُغريات قليلة لكن هنا كثيرة جداً ومجانية، كل شيئ يُنادي عليك لانتهاك هذه العفة وأنت تستعصم بالله، تقول إِنِّي أَخَافُ اللَّـهَ ۩، إني أرجو وجه الله تبارك وتعالى، أرجو رحمته وأخاف عذابه، أنت أعظم بلا شك، لا يُمكِن أن يُقال أنت عفيف وهو عفيف، وهنا قد تقول لي بهذا المعنى وضح لماذا يُضاعِف الله أيضاً لِمَنْ يَشَاءُ ۩، الله يُضاعِف لهذا عشرة أضعاف ولهذا سبعة أضعاف ولهذا سبعين ضعفاً ولهذا سبعمائة ضعف ولهذا أضعاف أكثر ولهذا لا يُضاعف، هو حُر، لماذا؟ انتبهوا إلى هذا،  يُضاعف الأعمال مُضاعَفات كثيرة مُتعدِّدة ومُتباينة، قال الله يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ ۖ ۩، إذا كنت تظن يا أخي المُسلِم ويا أختي المُسلِمة أنه – جل مجده – يفعل هذا اعتباطاً أو بطريقة لا ينبغي أن تكون مفهومة لك فأنت واهم،  لو كان يفعل هذا بطريقة لا ينبغي أن تكون مفهومة لك أصلاً لما أخبرك به، أليس كذلك؟ أنا مُتأكِّد أن أشياء مُعيَّنة يفعلها ويقوم بها لم يخبرها بها لأننا لن نستوعبها، نحن غير مُؤهَّلين يخلقتنا أن نستوعبها، لكن كل ما أخبرك عنه أنت مُؤهَّل مبدئياً أن تستوعبه إجمالياً، ليس شرطاً بالتفاريق وبالتفاصيل كأن تستوعب كل حالة، لكنك إجمالياً ستفهم، ينبغي عليك إجمالياً أن تفهم أنه لا يُضاعِف لمَن يشاء دون غيره ولا يُعذِّب مَن يشاء دون غيره ولا يرحم مَن يشاء دون غيره اعتباطاً لأنه الملك، هذا غير صحيح، يكون ظالماً إذن، لو فعل هكذا اعتباطاً دون أي مُبرِّر يكون ظالماً ويكون عابثاً، والله هو الحكيم الحكمة المُطلَقة، والحكيم يضع كل شيئٍ في موضعه، إذن هو قال يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ لأن لابد أن تكون هناك أسباب مُعيَّنة – وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ ۗ ۩، لم يقل يغفر للمُؤمِن فقط وإنما قال وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ ۗ ۩، حديثي الآن عن شخص غير مُؤمِن، أنا لا أقول الآن أنه كافر أو مُشرِك حتى وإنما أقول شخص غير مُؤمِن، وأحياناً حتى يكون أشرك مثل الذين اتخذوا عيسى وأمه إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ  ۩، عيسى قال وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ ۩، يُوجَد احتمال أن يغفر لبعضهم، وهذا شيئٌ عجيب، كيف؟ هو هذا، فرق بين إنسان كفر وأشرك وجحد وعَنَدَ عن سبق إصرار كما يُقال وترصد وعن وعي وكان يفهم أنه يشرك وأنه يكفر وأنه يجحد بالحقائق وأنه يكابر عليها لتعلات ومعذرات عنده هو يعلمها والله يعلمها وربما الناس يعلمون شيئاً منها – هذا طبعاً وضعه والعياذ بالله قاعدي، أي Standard، هذا لا يُغفر له ولا يُرحَم، هو قطع سبيل الرحمة على نفسه إلا أن يتوب طبعاً، نحن نتحدَّث عن من لقى الله بهذا الذنب – وبين إنسان أُلقيَ إليه هذا الشيئ وتقلَّده هذا المسكين تقليداً، هو وُلِدَ في قوم يقولون بهذا وخاصة العلماء ورجال الدين والكبار وما إلى ذلك يقولون بهذا، العلية وأصحاب الفكر وأصحاب كذا وكذا كلهم يقولون بهذا، قالوا هذا الدين وهذا الخلاص وهذا الحق ولا حق سواه، قلَّدهم في هذا وقال به ولم يبد له ما ينقض هذا الاعتقاد، هل تقول لي أن هذا سيضعه الله في جهنم؟ حاشا لله، هذا مُهِم لكي تفهم القرآن الكريم، ولذلك قال الله لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ ۗ ۩ ، لا إله إلا هو، وقال أيضاً رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ ۖ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ ۚ ۩، فالله يقول هو أَعْلَمُ ۩، إذن المسألة تتبع ماذا الآن؟ العلم، ما يعلمه الله منك مما لا تعلمه أنت من نفسك ولا الناس يعلمونه منك، هو الذي يعلم، يعلم كل مشروطياتك وكل العوامل التي أثرت فيك، العوامل الظاهرة والباطنة والواعية وغير الواعية.

فقط سأُعطيك لمحة سريعة عن تاثير التقليد والترديد وإنه ليس من السهل بالمرة – كما أقول دائماً – أن توُلَد في مُجتمَع يُردِّد عقيدة مُعيَّنة أو فكرة مُعيَّنة فتتعالى عليها وتنقدها وتُجاوِزها إلى شيئ ربما يكون أصح منها، ليس بالمُمكِن هذا وليس بالسهل بالمرة إلا لمَن شاء الله وقليل ما هم، المسألة مُكلِّفة جداً، يُوجَد شيئ في العلم يُسمونه  أُثر – Effect – وهم الحقيقة أو ضلال الحقيقة، أنت تتوهَّم أنه هذه حقيقة، هذا إسمه أثر وهم الحقيقة Illusion of Truth Effect، عن ماذا يتحدَّث أثر وهم الحقيقة؟ يتحدث باختصار عن أنك ستكون أكثر قابلية للتصديق بشيئ ما إذا سبق لك أن سمعته من قبل، لمُجرَّد أنك سمعت به من قبل سوف تكون أكثر قابلية للتصديق به، وهذا أمرٌ عجيب، ولو لمرة أو مرتين؟ ولو لمرة أو مرتين، سوف تُصبِح أكثر قابلية للتصديق به، قام العلماء – علماء الأعصاب طبعاً – بهذه التحربة الجميلة والمُثيرة على مجموعة أيضاً من المُختبَرين، قالوا لهم كل أسبوعين سنتلوا عليكم بعض الجُمل، بعضها صحيح وبعضها غالط، وأنتم قيِّموا وافرِزوا لنا، قولوا لنا هذه صحيحة وتلك غالطة وهكذا، جيد؟ قالوا جيد؟  كان المُختبِرون – ليس المُختبَرون وإنما المُختبِرون، أي العلماء الذين صمَّموا هذه التجربة –  في أثناء كل أسبوعين يُلقون لهؤلاء المُختبَرين عن عمد طبعاً وعن تصميم وعن قصد بجُمل مُعيَّنة بعضها صحيح وبعضها غالط في أثناء الكلام، هذه الجُمل سيتم السؤال عنها وكأنها لم تُلق، هى تُلقى على الهامش، فقط يجعلونهم يتعرضون لسماعها، هامشياً أثناء مُحاضَرة أو أثناء كلام كثير أو أثناء عجيج الكلام يتعرضون لها، وجد العلماء – سبحان الله – أن الجُمل بالذات التي تم الاستماع لها وإن أقسم المُختبَرون أنهم لم يسمعوا بها من قبل – قالوا لم نسمع مع أنهم سمعوا لكنهم نسوا الجُملة لأنها كانت هامشية، سمعوا بها مرة بشكل عرضي كما قلنا – أميل إلى إعطائها علامة الصح، أي أنها صحيحة، قالوا هذه جُمل صحيحة، أحياناً كان المُختبِرون يُخبِرونهم ويقولون لهم هذه جُمل غالطة فانتبهوا ومع ذلك يقولون لا، عندنا حدس وعندنا قوة داخلية تقول هذه جُمل صحيحة، ومن ثم يُعطونها علامة الصح، استغرب العلماء واستنبطوا هذه القاعدة التي تقول مُجرَّد أنك استمعت الشيئ ولو لمرة من قبل يجعلك أكثر قابلية للتصديق به، أي للمُصادَقة عليه لأنك استمعت إليه، وهنا ستقول يا ويلتاه، إذا ما  مصائر البشر الذين لم يستمعوا لمرة أو مرتين بل الذين استمعوا من يوم ولادتهم؟ أول ما يُولَد المسكين ويبدأ يسمع ويفهم يُعلِّمونه أن ربك كذا ودينك كذا والأخلاق كذا والصح كذا والغلط كذا ونحن كذا وهم كذا وإلى آخره باستمرار، يُقال له هذا في عشرة وعشرين وثلاثين مرة إلى أن يموت، من المهد إلى اللحد وهو يُزَق بهذه المفاهيم والقيم، وطبعاً كل أهل دين دين وكل أهل ثقافة ثقافة وكل أهل فكر فكر وكل عادات عادات وكل مُجتمَع مُجتمَع وكل ثقافة ثقافة، هذه حالة صعبة، وهنا ستقول لي هذه – والله – محنة، وهى فعلاً محنة كبيرة جداً، محنة عليك وعلىّ حقيقةً، لكن بالنسبة إلى الله الأمر مُختلِف، الله يُعامِل كل هذا بالعلم وبالعدل، لا يُوجَد شيئ يُمكِن أن يُخرِجه – تبارك وتعالى – من العدل إلى الظلم فلا تخف، أنت الذي تعكس صورة لله كريهة، أنا أقول لك بصراحة  أنت يا مسلم أو يا مسيحي أو يا يهودي أو يا كذا الذي تعكس صورة كريهة، أتحدَّث عن أهل الأديان وعن علماء الأديان بالذات، أنتم الذين تعكسون صوراً كريهة لإله مُتزمِت جامد ميكانيكي، وهذا أحياناً طبعاً وليس دائماً، أحياناً تعكسون صورة كريهة لإله مُتزمِت جامد ميكانيكي كأنه يزن الأشياء بميزان بشري، نحن مَن يفعل هذا،  أحياناً يأتيك القانوني أو القاضي – مثلاً – ويُطبِّق القانون بحرفية، هذا القاضي أجدر أن يكون ظالماً، هذا القاضي يقولون عنه ليس عنده مهارة، عنده إرادة Will، لكن ليس عنده مهارة Skill، ليس عنده مهارة قضائية ومهارة قانونية ومهارة عدلية، أرسطو Aristotle في يوم من الأيام تحدَّث عن ماذا؟ عن الحكمة العملية Practical Wisdom، هو تحدَّث عن الحكمة Wisdom، ما هى الحكمة؟ قال الحكمة شيئان، إرداة الأخلاقي ومهارة الأخلاقي، أن يكون لدي إرادة لأفعل الشيئ الأخلاقي، أي الـ Moral Will، ثم قال لا تكفي الإرادة، القاضي يقول أن عنده الإرادة لأن يُطبِّق العدالة، يقولون القانون والقضاء ميزان العدل، أليس كذلك؟ هو ميزان معصوب العينيين، كن أنا أقول بصراحة لا ينبغي أن يكون معصوب العينيين، ينبغي أن يكون عنده أربعة عيون، ينبغي أن يرى الأشياء التي ربما حتى المُجرِم نفسه ومحاميه لم يرها، يُحاوِل أن يراها القاضي ويقول هذه ستعمل لصالحك أو ستعمل ضدك، لابد أن يرى القاضي اشياء لا تُرى في العادة، لابد حتى أن يكون مُثقَّفاً، الآن في أمريكا يُحاوِلون أن يُثقِّفونهم ثقافة علمية أيضاً، القُضاة عندهم دراية بعلوم الأعصاب ويدرسونها ويُحاوِلون أن يتعرضوا لها، هذه قصة كبيرة، لكن لن يمر الأمر إلا عبر التشريع طبعاً، السلطة التشريعية في الأول لابد أن تعترف بهذا، فهذه قضية كبيرة، لكن عندنا كل شيئ مُعطَّل، هذه الأشياء لا نكاد نسمع بها، إذن لابد يكون عندك إرادة الأخلاقي Moral Will، أي الإرداة الأخلاقية، وقال أرسطو  Aristotle يُوجَد شيئ ثانٍ –  بنسبة خمسين في المائة وخمسين في المائة – وهو مهارة الاخلاقي  Moral Skill، أي المهارة الأخلاقية، فإذن عندي الإرداة الأخلاقية والمهارة، المهارة ستجعلني لا أُطبِّق القانون حرفياً، ستضطرني ألا أُطبِّق القانون حرفياً، هذه هى القاعدة، لكن عند التطبيق العملي تولد وتنبثق بطريقة الانبثاق لها استثناءات تفرض نفسها، حالة جديدة لأول مرة القاضي ربما يُلاحِظها، حالة جديدة وتفعل فعلها، هى لها تأثيرها، لابد أن آخذها كقاضٍ يتحرى العدالة بعين الاعتبار،  فكيف رب العالمين – لا إله إلا هو – لا يأخذ هذه الأشياء بعين الاعتبار؟ طبعاً يأخذ هذه الأشياء بعين الاعتبار، هذا الإنسان أنت تراه كافراً كشيخ أو كقسيس أو كرابي لأنه على غير دينك وتقول ليس له عند الله إلا جهنم دون كلام وتقول أن الأمر انتهى ولا ينبغي أن نتفلسف لأنك طبعاً رجل – كما قلت – ضيق العطن وفاقد لهذا المنظور المرن المطواع الواسع والإنساني.

في يوم من الأيام قال توماس بين Thomas Pain – وقد حدَّثتكم عن هذا مرة – الإيمان بإله قاسٍ يجعل المرء قاسياً، Belief in a cruel God makes a cruel man، هذا يخلق إنساناً قاسياً، طبعاً أنت تتبنى صورة لله وعقيدة في الله على أنه – سبحان الله – إله ميكانيكي كما قلت لكم، فيضع جريمة زنا في كفة وجريمة زنا في كفة أُخرى ويقول النتيجة واحدة، لكن هذا غير صحيح، زنا هذا غير زنا هذا، إحسان هذا غير إحسان هذا، جريمة هذا غير جريمة هذا غير جريمة ذاك وهكذا، ولذلك حدَّثتكم مرة عن الموازين، قال الله وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ ۩، لم يقل الله يُوجَد ميزان واحد، قال تُوجَد موازين، الذي أعتقده وأنا مُطمئن إليه وقد أكون مُخطئاً أن لكل أحد منا ميزان، ما رأيكم؟ هذا هو طبعاً، ولذلك قال فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ۩ وقال أيضاً  وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ۩، بل لكل أحد منا موازين، عودوا إلى خُطبة (كافر بالإنسان… كافر بالرحمن)، لكل أحد منا موازين، لماذا إذن تُوجَد موازين؟ حتماً س من الناس وهو سعيد أو مسعود أو متعوس من الناس يختلف الآن عنه قبل سنة، وبالحري يختلف عنه قبل خمس أو عشر سنوات، ويختلف عنه قبل عشرين وقبل ثلاثين سنة وهكذا، هو يختلف يا إخواني، لكن غالبية الناس لا تُدرِك هذا، نحن الكائنات الجحدة العققة، كما قال ديستوفسكي Dostoevsky الإنسان هو الكائن الجاحد الماشي على قدمين، أكبر جاحد هو الإنسان، الإنسان جاحد، جاحد في حق الله، جاحد في حق البشر، جاحد في حق إخوانه من بني الإنسان، هو جاحد، حقه يوم كنتم في شرخ الشباب أو ميعة الصبا أو أيام ما كنت ابن سبع عشرة سنة أخطأ في حقك خطاً واضحاً ثم تراه الآن وهو في الخمسين ومع ذلك تكرهه وتُبغِضه وتنبذه أيضاً ببعض الكلمات، تقول هذا الحقير الكذا والكذا، يا أخي عمره وصل إلى خمسين سنة وهذا كان من خمس وثلاثين سنة، فالرجل قد يكون تغيَّر، ألم تتغيَّر أنت؟ ألا تلحظ أنك تغيَّرت وتغيَّرت كثيراً؟ وقد يكون هذا التغير نحو الأسوأ للأسف وقد يكون نحو الأحسن إن شاء الله فهذا المأمول.

في القرن السادس عشر كان يعيش الشكّاك الكبير – قبل رينيه ديكارت René Descartes، نحن نسمع برينيه ديكارت René Descartes وأنا أشك إذن أنا موجود وأنا أُفكِّر إذن أنا موجود، لكن هذا قبل رينيه ديكارت René Descartes  – الفرنسي ميشيل دي مونتين Michel de Montaigne، هذا الرجل كان شهيراً وكان ذا ثراء مادي،  وهو رجل مُفكِّر وواعٍ وذكي ويشتغل بوظيفة عامة، في الثامنة والثلاثين من عمره قال انتهى الأمر واعتزل العمل العام، في آخر ضيعته هناك برج اعتكف فيه مع مكتبة فيها ألف كتاب، وطبعاً هذا شيئ كبير جداً في القرون الوسطى، هذا شيئ عظيم جداً في عصر النهضة طبعاً، اعتكف مع ألف كتاب وقال سأقرأ الألف كتاب، سأقرأ ليل نهار وسأكتب عن موضوع مُهِم جداً، ما هو الموضوع؟ قال نفسي، أنا، مَن أنا؟ الإنسان، ماذا أعرف عن نفسي؟ ماذا أكون؟ كيف أتكوَّن؟ كيف أتطوَّر؟ كيف أتغيَّر؟ مَن أنا؟ حاول أن يفهم نفسه، وظل الرجل سنوات يكتب مقالات ودراسات وأشياء ويُحاوِل ويُناقِش وانتهى به المطاف إلى أن أقرَّر أغبى سؤال، أغبى مسألة يُمكِن للإنسان أن يشتغل بها هى هذه المسألة، لماذا يا مونتين Montaigne؟ قال لأن النفس روّاغة جداً،  مُعقَّدة مُركَّبة وعاصية سابقة على كل توصيف توصف به، مهما تُحاوِل أن تُوصِّفها سوف تجدها في مكان ثانٍ باستمرار، نعود إلى حديث النبي، القلوب أشد تقلباً من القدر إذا اجتمعت غلياناً، يتقلَّب بسرعة الإنسان، هناك تقلبات ليست انفعالية فقط وجدانية وهكذا وإنما هناك تقلبات معرفية وفكرية، وطبعاً هناك تقلبات عصبية وهرمونية وبنيوية، وجسدك بلا شك يُؤثِّر على مزاجك، كما أن المزاج أيضاً يُؤثِّر على الحالة البدنية، عمليات مُعقَّدة جداً ومُركَّبة، ولذلك كتب  ميشيل دي مونتين Michel de Montaigne ذات مرة شيئاً جميلاً، انظروا إلى الجمال والفكر لدى هؤلاء الناس، نعشق هذا العمق ولابد أن تعشقوه أيها الإخوة، هذا عمق حقيقي، لابد أن نكون عميقين، لا أن نكون سطحيين سُذج مُغفَلين، خاصة إذا تكلَّمنا بإسم الله وبإسم الأديان يجب أن نكون على عمق غير طبيعي لكي نُفهِم الناس أن هذه الأديان تُعَد شيئاً نبيلاً جداً، أنبل ما في حياتنا الفكرية والثقافية الأديان، وسوف نرى ما أكبر مُعترِض يعترض أنبل ما في الأديان كلها بعد قليل، وإذا نسيت ذكِّروني، ماذا كتب ميشيل دي مونتين Michel de Montaigne؟ كتب يقول بين الإنسان وبين نفسه من الاختلافات – أنت تتناقض مع نفسك، أنت تختلف مع نفسك، أنت عندك عدة شخصيات وعدة تطورات ومراحل ومُستويات لشخصيتك – مثل ما بين غيره من الاختلافات،  أنا واحد الآن وأُخاطِب – مثلاً – ألف واحد، بيني وبينهم ألوف الاختلافات، مع كل أحد الله أعلم بمقدار الاختلافات، وكذلك الحال مع الثاني والثالث وهكذا، وتختلف اختلافاتي مع كلٍ عن أخيه وعن صاحبه، قال بينك وبين نفسك مثل هذه الاختلافات كلها، هذا هو الإنسان، لماذا تحكم على الأخرين حكماً جامداً؟ تُجمِّده وتقول أخطأ في حقي أو أخطأ حتى في حق الأمة وفي حق الناس من خمسين سنة وسيبقى مدموغاً بهذا الخطأ، هل الله يفعل هذا؟ الله قال لك لا،  قال لك  أنا عندي مفهوم المغفرة والصفح، أنا أقول لك تُب، وإذا تُبت سأُعفيّ على ذنوبك، أنا أستر وأنا أعفو وأنا أغفر، يا الله، هذا يعني أن ربنا فعلاً أكثر – إن جاز أن نستخدم هذه اللغة وأستغفر الله على كل حال – واقعياً منا، وطبعاً هو أكثر عدلاً بلا شك، هو أكثر موضوعية ولذا يُلاحِظ الأشياء كما هى، كل شيئ يضعه في الاعتبار ويضعه في الميزان وفي الحساب، لكن أنت لا تضع، أنت تضع الشيئ الذي يتناسب مع هواك فانتبه، كما قلنا الإنسان أناني، عنده أنانة ضمنية ضيقة جداً، ويضع كل شيئ على هواه ويُعيد تقييم كل شيئ باستمرار على حسب هواه،  ولذلك انظر إلى نفسك واختبر نفسك وقل كيف تطوَّر ويتطوَّر بل يتحربأ –  في الحقيقة لا يتطوَّر، يا ليت يتطوَّر، وإنما يتغيَّر ويتبدَّل ويتحربأ، أي من حرباء – موقفي من فلان من الناس؟ كيف يتغيَّر باستمرار ويتبدَّل ويتحربأ؟ سوف نعرف هذا يحصل بحسب ماذا، سوف نرى ما العامل المُشترَك المركزي فيه دائماً، العامل هو أنت، بحسبي موقفه مني، يُحسِن إليّ أو يُسي إليّ أو يفيدني أو يضرني أو ما  موقفه مني أو ماذا قال عني وإلى آخره، أنت هكذا باستمرار، تدّعي أنك مركز الكون، الحمد لله أنك لست إلهاً، الحمد لله أنك بشر ضعيف ومُحتاج ومُفتقِر وتموت أيضاً ونتخلَّص منكَ ومني طبعاً، لو كنت بهذه الطريقة إلهاً وتحكم فعلاً الكون لسوَّدت حياة الناس كلها والبشرية كلها والحيوانات والنباتات، لكن يُوجَد رب مستغنٍ، هو ملك لا إله إلا هو، وهو ليس ملكاً فحسب وإنما هو ملك وعليم، علماء الكلام عندنا وعلماء اللاهوات حتى النصراني قالوا هو ملك،  وبما أنه ملك إذن يتصرَّف في ملكه، فأي شيئ فعله هو عدل، وهذا غير صحيح، هذا قلب للمفاهيم وقلب للدين، ليس هذا العدل الذي أخبر الله عن نفسه به ووصف نفسه الكريمة المقدسة به أبداً، العدل نفهمه يا أخي، وضع الشيئ في غير موضعه ليس عدلاً، إذن هو لا يتصرَّف هكذا – يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ ۩ – فقط لأنه ملك، هو يتصرَّف لأنه ملك ويتصرَّف كذلك لأنه عليم، رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا ۩، الذي يسع كل شيئ مَن هو؟ الملك، طبعاً هو مالك، قال الله أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۗ ۩ ولذلك قال يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ ۩، لأنه ملك،  ملك وسع كل شيئ، كل شيئ في ملكه وفي قبضته لكن بماذا؟ رَّحْمَةً وَعِلْمًا ۩، نعود مرة ثانية إلى قول الله رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ ۖ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ ۚ ۩، وذلك بحسب علمه،  هو وحده القادر على هذا، وحتى لا نضل نعود قليلاً إلى نُقطة هامة ثم نرجع مرة أُخرى إلى مونتين Montaigne الذي – كما قلنا – حدَّثنا عن تناقضاتنا مع أنفسنا، جميل يا إخواني أن يُدرِك الإنسان وأن يعي تناقضاته، كلما وعيت تناقضاتك ستُدرِك أنك إنسان نسبي مُتطوِّر وضعيف ومُحتاج إلى أن تتعلَّم دائماً، ولكن أيضاً كلما وعيت تناقضاتك وكنت واعياً بها ستصير أكثر تركّباً وأكثر غنى، ستكون شخصية خصبة ثرية وغنية.

في القرن التاسع عشر الشاعر الأمريكي العظيم – كان أستاذنا عبد الوهاب المسيري مُعجَباً جداً به وعنه دراسات له – والت وايتمان Walt Whitman كتب يقول ماذا؟ يقول Do I contradict myself?، أي هل أتناقض مع نفسي؟ كأنه يرد على شخص يتهمه بالتناقض، قال له أنت تتناقض مع نفسك، علماً بأن هذه التهمة يتهموت بها أي مُفكِّر، وهى شرف أي مُفكِّر وأي فيلسوف وأي إنسان ناضج ومُتروحِن، أن يكون مُتناقِضاً، ليس تناقض الجنون وإنما تناقض التطور وإعادة المُلاءمة والنضج والتخصب الدائم والإثراء الدائم، ليس الفقر القاحل الجديب الجامد الضحل والساذج، قال Do I contradict myself? Very well, then I contradict myself, I am large, I contain multitudes، قال هل أتناقض مع نفسي؟حسنٌ جداً، أنا اتناقض مع نفسي، إذن أنا كبير، أنا أنطوي على تعدد، قال أنا كبير وضخم، أنا أنطوي على تعدّد، هذا شاعر فيلسوف، التناقض وإعادة المواءمة خصب دائم وإثراء دائم.

نعود الآن أيها الإخوة إلى موضوعنا من زاوية أخرى، رجل القانون الآن يُريد أن يتوخى أكبر قدر ممكن من العدالة في إصدار حكمه على مجرم ما ثبت أنه ارتكب هذه الجريمة، لكن سيدفع – يأتي الدفاع الآن ويأتي المحامي – بالاختلال وبعدم السوية وبعدم الطبيعية، بعدم طبيعية ذهن أو عقل أو إدراك هذا المُتهَم، سوف يقول هذا غير طبيعي، وهذه لغة مُهذَبة لكلمة مجنون عند العوام وعند الفقهاء، لكن ليس هكذا، الجنون طيف طويل مُمتَد، عندك في أقصى اليمين هنا عقل فيلسوف كبير، يُوجَد كانط Kant أو أرسطو Aristotle أو ابن رشد أو أينشتاين Einstein، وعندك في أقصى اليسار رجل مُصاب بالهبل، الشيخ فلان أو فلان بن فلان الأهبل أو عطا الله الذي تعرفه في الحارة عندك وإلى آخره، إذن يُوجَد طيف، يُوجَد أُناس أقرب إلى أقصى اليمين ويُوجَد أُناس أقرب إلى أقصى اليسار ويُوجَد أُناس في المُنتصَف يتذبذبون، من المُمكِن بعد قليل أن يُصبِح الواحد منهم إلى اليسار أو يعود أقرب إلى اليمين بحسب الظروف وبحسب الجينات Genes وبحسب عوامل لا يعلمها إلا الله – لا إله إلا هو – وبحسب أشياء لا تخطر على بالك، ولك أن تتخيَّل هذا، إذا كان أبوك يسمح بطلاء بيته بطلاء مُحتوي على مادة الرصاص وبنسب غير مسموح بها فهذا سيُؤثِّر على سلوك ابنه وبنته المولودة اليوم بعد أن تستنشق هذا، ولا يخطر لا على بال الأب ولا الأم ولا الدنيا كلها إلا العلماء طبعاً أنه سيُؤثِّر على سلوك الولد وسيجعل عنده مُستوى من الاستعداد للعنف أكثر من أخيه الذي لم يتنفَّس هذه السموم، ما رأيك؟ وهذه لا تزال أمور بسيطة جداً، كيف بالرصاص الذي تُوجَد فيها الماء ونشربه منه في الأحياء القديمة في أوروبا وفي العالم العربي؟ أنابيب من الرصاص ونشرب منها، هذا كله يُؤثِّر على سلوكك وعلى جنونك وعلى تخلفك وعلى أشياء كثيرة، فالجنون مسألة مُعقَّدة أكثر مما تتخيَّل، مثل العقل نفسه، هو مُعقَّد جداً بتعقيد العقل، لكن سيدفع المحامي بأن هذا عقله غير طبيعي قليلاً يا أخي، وإلى وقت قريب كان عندنا قياس مُعامِل الذكاء(IQ)، قالوا هذه عملية سهلة، نأتي ونقسي فإذا حصلت على سبعين فيما فوق لن نُبرِّأك، سوف نُنهي حياتك وتأخذ إعدام لأن الجريمة تستوجب الإعدام، إذا حصلت على تسعة وستين فما أدنى نجوت، هل يا رجل المسألة تتوقَّف على رقم واحد؟ هذه اختبارات مُصمَّمة بذكاء ومن ثم لا يُمكِن أن تضحك عليها مهما كنت ذكياً،علماء كبار وضعوها ومن ثم يقدرون على أن يعرفوا إلى حدٍ ما، يقول العلماء المُشكِلة أن الواحد أو الاثنين أو الثلاثة أو الخمسة هى مجال – Range – قابل للتذبذب دائماً بحسب حالة الإنسان، ما رأيكم؟ هذا بحسب حالة الإنسان، السيدات اللائي يُعانين الدورة الشهرية كل شهر كلهن يُجمِعن على تغير حالتهن، تقول لك أنا في هذه الأيام لست أنا، أنا شخصية مُختلِفة، في هذا الأسبوع أنا شخصية ثانية، وهذا صحيح فعلاً، تحدث اختلالات هرمونية، الأم حين تضع ابنها تحدث عندها اختلالات هرمونية، هذه المسكينة وهى حامل تحدث عندها تغيرات هرمونية جامحة، كل هذا يُؤثِّر في شخصيتها، وكذلك الرجال تحدث عندهم تغيرات في أشياء كثيرة، حين تختبره الآن يحصل على اثنين وسبعين على مقياس الذكاء إذا كان مُتهِماً وحين  تختبره بعد أسبوع يحصل على ثمانية وخمسين ثم يُعدَم، الآن مَن الذي يستطيع أن يقيس هذا بعدالة حقيقية مرة وإلى الأبد؟ مَن يقول هذا يستحق أو لا يستحق؟ البشر ليس بوسعهم هذا، ربنا بوسعه هذا لا إله إلا هو، أرأيتم؟ لكن الجميل – أنا هذا يُثيرني حقيقةً – أن البشر يُحاوِلون أن يقتربوا دائماً من معيار أعلى للعدالة، بهذا المعنى كأن البشر يقتربون باستمرار مِن مَن؟ مِن الله لا إله إلا هو، بهذه الطريقة أنت تُحاوِل أن تفهم الله أكثر، أنا مُتأكِّد لو أن إنساناً درس هذه الأشياء وتعمَّق فيها – كأن يكون رجل قانون أو قاضياً كبيراً أو عالماً في الأعصاب ضخماً أو فيلسوفاً مُهتمَاً بهذه الأشياء – وكان مُؤمِناً بوجود الله في نفس الوقت وليس مُلحِداً أن قطعاً ستكون لديه قدرة على أن يُبلوِر صورة لعدالة الله ولرحمة الله أكثر مِن إنسان لا يعلم هذه الأشياء، أليس كذلك؟ طبعاً معرفته تُؤثِّر، لذلك هذه العلوم وهذه الفنون وهذه الآليات وهذه المُقارَبات   بشكل أو بآخر تُقرِّبنا مِن مَن؟ مِن الله، لكي نُحاوِل أن نفهم الله أكثر وبطريقة أكثر عمقاً و أكثر انفتاحاً وأكثر تجديدية وثورية غير الطرق البالية القديمة التقليدية الخاصة بنا، يجب أن نفعل هذا، إذن مَن الذي يستطيع أن يزن هذه الأشياء بالميزان الدقيق الذي لا يمين ولا يُجحِف؟ الله وحده لا إله إلا هو، لكن نحن مأمرون دائماً – كما قلت لكم – أن نقترب من هذا الميزان الأعلى للعدالة بكل ما لدينا من إمكانات، ولدينا – كما قلت – المُبرِّرات ليس العقلية فقط وإنما حتى الشرعية، الشرع فتح لنا هذا الباب ووسَّع لنا وقال لنا المرضى يُعامَلون معاملة خاصة، نحن أتينا ووسَّعنا مفهوم المرض ، ليس المرض البدني فقط لأن عندنا المرض النفسي وعندنا المرض الذهني، أي الـ Psychosis والـ Neurosis، يُوجَد الذُهان والعُصاب، عندنا الذُهان وهو مرض عقلي وعندنا العُصاب وهو اضطراب نفسي، كل الاضطرابات النفسية المُختلِفة وما إلى ذلك من الأمور التي تدخل في المرض، لابد أن يأخذه المُسلِم – ليس الفقيه والقانوني بل حتى المُسلم العادي مثلي ومثلك – هذا بعين الاعتبار ويقول لعل هذا المسكين يُعاني، مَن كان منكم يعاني مثلاً من فرط الدرقية – ليس Hypothyroidism وإنما Hyperthyroidism – كيف يكون؟ يكون مُنفعِلاً جداً وغاضباً دائماً، أي شيئ يستثيره، من المُمكِن أن يسب ويلعن ويكسر وما إلى ذلك، وبعد ذلك يعتذر في لحظة، يقول لك أنا عندي هذا المرض، هذا مسكين لا يتحكَّم في نفسه، عنده فرط في هذا الشيئ، هذا الشيئ بسيط جداً لكنه مرض، علماً بأنه سائد وشائع للأسف،  أمراض الغدة الدرقية سائدة وشائعة ومن ثم تُؤثِّر على سلوكاتنا دون أن ندري، لو أعطاك الطبيب المُختَص طبعاً العلاج المُناسِب – ليفوثيروكسين levothyroxine مثلاً – وبعد أسابيع بدأ يظهر مفعوله ثم تحسَّنت الحالة بعد أشهر – ما شاء الله – وتحسَّنت أكثر بعد نصف سنة وبعد سنة فإنك تعود ممتازاً كما كنت، تُصبِح هذا الإنسان الهادئ الجميل ويتراجع كل شيئ وتقول الحمد لله، فهذا شيئ غريب، ونفس الشيئ مع حبة – Pill – بسيطة يأخذها الإنسان فتُعدِّل عنده سلوكات غير طبيعية، الآن تلعب بكيمياء دماغه أو تلعب بهرموناته، وجهازنا الذهني – وهذه إحدى الاصطلاحات الآن العلمية – مُهِم جداً، ليس فقط الدماغ وما يتصل به بل أن جهاز المناعة والجهاز الهرموني والإندوكريني Endocrine وكل الأجهزة الهرمونية أمور – سبحان الله – هامة جداً جداً جداً في نشاطنا العقلي والذهني والعصبي، كلها تتداخل مع بعضها البعض، ليس فقط الجملة العصبية المركزية وما يتفرَّع منها بل أن هذه أيضاً لها علاقة، على كل حال كل هذه الأشياء لابد أن نأخذها بعين الاعتبار.

الجميل  أنك حين تقتنع بهذا المنطق وتبدأ تُمارِسه وتنطلق منه وتُفرِغ عنه أنك – كما قلت في الخطبة السابقة – لا تزداد فقط تواضعاً – طبعاً تزداد تواضعاً وتتواضع كثيراً  – بل وتزداد معرفةً وعلماً ومرونة، لماذا؟ لأنك تبدأ تُقارِن وتتخيَّل، تقول ماذا لو كنت مكانه؟ وماذا لو كان مكاني؟ ولو كان كذا لكان كذا، هذا – كما قلنا – إدراك مُعمَّق للمشروطية، وبالتالي يُعطيك هذا العمق وهذه المرونة وهذه السعة، ماذا يقول أينشتاين Einstein؟ يقول العلم كله والمعرفة – knowledge –  لعبة مُقارَنة، يُوجَد مثل إنجليزي أجمل من كلمة أينشتاين Einstein، ماذا يقول هذا المثل؟ يقول ماذا يعرف عن إنجلترا أولئك الذين لا يعرفون إلا إنجلترا؟  what should they know of England who only England know?، الجواب طبعاً لا شيئ، لا يعرفون عنها أي شيئ، بمعنى ماذا؟ إنجلترا لا هى أكبر ولا هى أصغر، لا هى أسوأ ولا هى أحسن، لا هى أجمل ولا هى أقبح، لا هى أغنى ولا هى أفقر، لماذا؟ لا تُوجَد إمكانية للمُقارَنة، الواحد منهم لم يزر أي بلد آخر غير إنجلترا، ولم يسمع ببلد آخر غير إنجلترا، إذن إنجلترا – كما قلت لكم – لا ولا، لا ولا،  لا ولا ، وهنا قد تقول لي إنجلترا أكبر، لكن مِن مَن يا حبيبي؟ هى أكبر مِن مَن؟ لا أعرف – والله – مِن مَن، لأنك طبعاً لم تر غير إنجلترا، قد تقول إنجلترا أفضل، لكن مِن مَن هى أفضل؟ ولذا ستقول لي هذه مُصيبة، هذه الكلمة ضربتنا بصخرة على رؤوسنا، حتى حين تقول لي ديننا أفضل سأقول لك أفضل مِن مَن؟ وهنا طبعاً سيُقال عني هذا زنديق، لكن لا تُزندِقني، أنا من المُمكِن أن أقولها بكل تواضع – إن شاء الله – لأنني درست قليلاً،   درست غير الإسلام وما إلى ذلك ومن ثم من المُمكِن أن أقدر على أقول ديني أفضل وأقدر على أن أُناقِش أصحاب الأديان الأخرى قليلاً، لكن أنت كيف تقول الإسلام أفضل وأنت لم تقرأ في حياتك  الكتاب المُقدَّس ولا أي كتاب له علاقة بالكتاب المُقدَّس ولا الفيدانتا Vedanta أو الأوبنشاد Upanishad الهندوسية ولا كتاب البوذيين  ولا التوراة العهد القديم ولا الكتب الخمسة لكونفوشيوس Confucius ولا ولا ولا؟  كيف تتكلَّم وتقول دينك أفضل؟ كيف يكون أفضل؟ دينك لا أفضل ولا أسوأ، لا أحسن ولا أردأ، ولذا اسكت، في هذه اللحظة ليس لديك الحق أن تتكلَّم، لا تتكلَّم ولا تدخل في لعبة مُقارَنة لا تملك عناصرها، أليس كذلك؟ لأنك مثل ذاك الذي لا يعرف إلا إنجلترا،  أنت لا تعرف إلا الإسلام فاسكت بالله عليك ولا تتبجَّح، إذن هذا يُعطيك التواضع ويُعطيك الخصوبة أيضاً والمعرفة والمرونة، وطبعاً ستقول لي بالحري أن إنساناً  وقرأ في هذه الأديان وقرأ فلسفات أخرى من المُؤكَّد أنه سيجد أشياء جميلة، وهذا صحيح طبعاً وهى أشياء كثيرة، هناك أشياء كثيرة حسنة جداً في المسيحية وفي اليهودية وفي البوذية وفي الكونفوشيوسية وفي الزرداشتية وإلى آخره، هناك أشياء جميلة، وفي الفلسفات – حتى الفلسفات العدمية – أشياء جميلة أحياناً وتفتح عينك على أشياء جميلة جداً، هذا موجود في الفلسفات الوجودية والعبثية، في كل شيئ يُوجَد شيئ جميل، مثلما قال الإمام أحمد في يوم من الأيام قلَّ أن نظر إنسان في كتاب – أي كتاب – إلا وعاد منه بفائدة، فكيف الحال حين تقرأ دين كامل أو فلسفة كاملة أو تراث أمة؟ سوف تستفيد، وسوف تجد أشياء جميلة جداً، سوف ترى منظوراً آخر للحياة غير منظورك وطريقة أخرى في فهم الأمور غير طريقتك التي تعوَّدت عليها وأسلوباً آخر يختلف تماماً عن أسلوبك، أليس كذلك؟ هذا تنوع عظيم، أنت تُدلِف إلى هذه النتيجة وتتنعَّم بهذه النتيجة من بوابة مُحاوَلة عدم دينونة أو إدانة الآخرين بل مُحاوَلة فهم مشروطيات الآخرين ومظروفيات الآخرين، تبدأ هكذا وتنتهي إلى هذا العمق وإلى هذا الإثراء وإلى هذه الخصوبة وإلى هذا الجمال كله.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخُطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله،  صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسلمياً كثيراً.

أما بعد، إخواني وأخواتي:

الله – تبارك وتعالى – يكره الزاني وكرهه الشيخ الزاني أشد، هكذا قال النبي عليه الصلاة وأفضل السلام، والله – تبارك وتعالى – يكره المُتكبِّر وكرهه للعائل – للرجل ذي العيال وقصده هنا الفقير، أي الإنسان الفقير – المُتكبِّر أشد، ويكره الكاذب وكرهه  للملك الكاذب أشد، وطبعاً أعتقد أنكم تفهمون لماذا، هذه مشروطية، هذا فهم المشروطية، شاب يزني والعياذ بالله – نسأل الله أن يعفنا شباباً وشواباً ورجالاً ونساءً – وشيخ يزني – ليس شيخ الدين فانتبهوا حتى لا يُقال لماذا هذا الشيخ يقول هذا عن المشائخ، أقصد شيخ في السن، أي رجل كبير في السن، النبي قال شيخ زانٍ، كلمة الشيخ لا تعني شيخ الدين وإنما تعني الرجل الكبير في السن، كالذي وصل إلى ستين سنة أو سبعين سنة – والله يكره الزنا طبعاً – الزنا مكروه دائماً – لكن كرهه لزنا الشيخ أشد، لماذا؟ لضعف الباعث، قوة ومُنة الشيخ أضعف بكثير من هذا الشاب المسكين المُراهِق غير المُتزوِّج، أليس كذلك؟ ومع ذلك ذهب وزنى والعياذ بالله، كأنه يعشق ما يكرهه الله، كأنه يعشق الفواحش، لا يجد نفسه إلا في الشيئ الفاحش والشيئ الوسخ، يرى نفسه في الاختيار، فهذا شائب وعائب، ولذا الله يكرهه أشد من كرهه للشاب الذي يفعل نفس الفعل، وكذلك الحال مع المُتكبِّر، يُوجَد – مثلاً – ملك أو أمير كبير غني ومُتكبِّر، هذا الله يكرهه لأن الله دائماً يكره المُتكبِّر، الله لا يُحِب الشخص المُتكبِّر، وهو لن يدخل الجنة، قال النبي لا يدخل الجنة مَن كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، نعوذ بالله من الكبر، أسوأ الكبر الكبر على الحقائق والكبر على الحق، وكلنا مُصابون بهذا المرض إلا ما رحم ربي وقليلٌ ما هم، وسوف نرى لماذا، لكن كره الله – تبارك وتعالى – للعائل المُتكبِّر أشد، أنت  فقير ومُتكبِّر فكيف لو كنت غنياً؟ لاستعبدت الناس، لادّعيت الإلهية في نفسك، أنت فقير فكُن مُتواضِعاً خاشعاً، الله يكره الكاذب أياً كان، أي شخص من الرعية مثلنا يكذب يكرهه الله، لكن حين يكذب ملك يختلف الأمر، لماذا يكذب؟ مِن ماذا تخاف؟ هل تخاف من السجّان؟ أنت ملك،  أنت ملك عليهم جميعهم،  تخاف مِن ماذا؟ هو لايخاف من شيئ، هو فقط يُحِب الكذب، هو مريض بالكذب، ومن ثم الله يكرهه أكثر، وهنا ستقول لي ماذا لو كان مريضاً بالمعنى العلمي؟ لو كان مريضاً بالكذب فعلاً – الكذب المرضي – فأن الله سوف يضع هذا في الاعتبار طبعاً، كل شئ عند الله يُؤخَذ في الاعتبار، فالنبي يُحاوِل أن يفتح أعيينا لفهم هذه المشروطيات، وبهذا المعنى سنُفرِّع ونقول شابان يزنيان، وحساب هذا غير حساب هذا بحسب ما يعلمه الله من قوة هذا وقوة هذا، قوة الكوابح عند هذا تختلف عن هذا، هذا تربى في المساجد، أي أنه تربى تربية دينية، أبوه عفيف وأمه عفيفة – ما شاء الله – وما إلى ذلك، ومن ثم عنده كوابح قوية جداً جداً، ثم أن قدرته الهرمونية أضعف قليلاً، لكن الآخر الكوابح عنده معدومة تقريباً، أبوه سكّير وأمه كما يُقال الله يستر على الولايا، يعيش حالة سيئة جداً، لم ير في حياته باب المسجد وكذلك الحال مع أصحابه، التنشئة أو البيئة سيئة ورديئة جداً، وعنده أيضاً طاقة جنسية فوّارة تفوق الأول مرتين ونصف، ثم ذهب وزنى، طبعاً حساب هذا غير حساب هذا،  كل شيئ يُؤخَذ في الاعتبار، ولذا هذا متروك لله، يا ليت – أنا أقول لنفسي وأطلب هذا من كل إخواني وأخواتي – نترك هذه الأمور لله، نحن لسنا إلهة والله العظيم، لا تدينوا عباد الله، أحسن شيئ هو ألا تُصدِروا أحكاماً على الناس، أسوأ ما يُمكِن أن يقع فيه الإنسان – والله العظيم إصدار الأحكام على البشر، كأن يُقال هذا مجرم ملعون وهذا والله أعلم ليس له إلا النار فلعنة الله عليه وكذا وكذا، ما هذا؟ اترك الخلق للخالق يا رجل، قد تقول لي قاتلك الله هذه عقيدة، إذا كانت عقيدة قرِّرها إجمالياً وقرِّرها قواعدياً، قل القواعد تقول كذا وكذا، قل القاعدة كذا وكذا، لكن الآن في التنفيذ بخصوص كل حالة ينبغي أن تعلم أنك لست قاضياً، القاضي هو الله، أليس كذلك؟ ولذلك قال الله للنبي عليه السلام حسابهم ليس عليك، هذا ليس لك، قال الله مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ۩، ليس أنت مَن تُحاسِبهم، أنا الذي أُحاسِبهم، لا تُحاسِب أحداً، علِّم واهد وقل فقط ثم امض، الحساب علىّ أنا، لماذا؟ لأنه هو العدل وحده وهو العليم وحده.

أحب أن أختم هذه الخُطبة باللفت يا إخواني إلى شيئ هو أننا كبشر ربما عكس ما نتوقَّع وعكس ما نأمل من أنفسنا فُرّاراً من الحقائق ولسنا عشّاقاً لها، البشر كبشر لا يعشقون الحقيقة ولا يُحِبونها ولا يُريدونها، لا تُحدِّثني عن الأنبياء وعن بعض الفلاسفة وبعض رجال الفكر العظماء، فهؤلاء قلة قليلة من البشر، وكذلك الحال مع المُصلِحين النبلاء، فهؤلاء قلة قليلة، اللهم اجعلنا من هؤلاء المُصلِحين النبلاء، فأنا أقول لكم هؤلاء قلة قليلة لكن مُعظَم البشر لا يُحِبون أن يعرفوا حقيقة جديدة ولا أن يُبدِّلوا ولا أن يُغيِّروا إلا بما يخدم  مصالحهم وكسلهم وحيثياتهم، يفرون من الحقيقة، هذا الذي قد يُفسِّر لكَ أو لكِ كما قلت أختم بهذا لماذا كل نبي في أمته ملعون، أليس كذلك؟ وما مِن نبي إلا أخرجه قومه، كل نبي قال في أمته ملعون دائماً، يا أخي هذا نبي ومع ذلك يلعنونه ثم يُخرِجونه، حتى محمد أخرجوه، لا تُوجَد فائدة، انظر ماذا حدث مع موسى وماذا حدث مع عيسى وماذا حدث مع إبراهيم وماذا حدث مع نوح وماذا حدث مع محمد، لا تُوجَد فائدة، تهديد بالإخراج أو بالرجم وما إلى ذلك باستمرار دائماً، ثم أننا سنترك الأنبياء الآن ونأتي إلى غير الأنبياء، قيل زمّار الحي لا يُطرِب، وطبعاً المقصود الزمّار نفسه وصاحب الدربكة والموسيقار والمُغني أيضاً، وكذلك الحال مع مُجوِّد القرآن وتالي الأفكار والفيلسوف والمُصلِح والخطيب والعالم والصحفي وإلى آخره، هذا ينطبق على الكل، وهذا معنى زمّار الحي لا يُطرِب، بين أهله وبين ناسه لا يُرى فيه أي شيئ، النبييقول أزهد الناس في عالمٍ أهله، لماذا؟ تجد أزهد الناس في العالم أهله ومَن حوله وأصحابه، لا يهتمون به، في حين أن أي أحد العالم يُريده ويتمنى أن يلتقي به وأن يجلس معه لخمس دقائق، لكن الأهل لا يهتمون به، لماذا؟ سوف نرى لماذا، لماذا أزهد الناس في عالمٍ أهله؟ لماذا زمّار الحي لا يُطرِب؟ لماذا كل نبي في أمته ملعون ومرجوم ومطرود؟ لماذا؟ لأننا فُرّار من الحقائق، ولماذا أيضاً كما ذكرت لكم في الخُطبة السابقة الناس حين يُعطون مُفكِّراً أو مُصلِحاً شيئاً من مال يخف تأثيره فيهم؟ هذا نفس الشيئ، نفس المبدأ يُفسَّر هنا،  نحن الآن نصف ظواهر فعلاً نلبسها، لكن لماذا؟ قطعاً في كل هذه الحالات السبب لا يكمن في الفكرة التي يأتي بها النبي في الرسالة أو في العقيدة أو التي يُبشِّر بها الفيلسوف أو المُصلِح أو الداعية، من المُؤكَّد أن السبب ليس في الفكرة، السبب في شيئ آخر، ما هو هذا الشيئ الآخر؟ لا تقل لي لأنه فقير أو لأنه ليس صاحب سُلطة أو لأن ليس عنده أي حسب ونسب وإلى آخره، كل هذه تعلات، انتبه حتى لا تُخدَع، ما معنى أن هذه تعلات؟ معاذير يتمعذر بها لا يعتذر حتى وإنما يتمعذر بها هؤلاء الكارهون للحقائق والفارون منها، لماذا هذا النبي ليس صاحب سُلطان؟ لو كان صاحب سُلطان لاتبعناه، وفي الحقيقة لو كان النبي صاحب سلطان لو كان نبياً وذا سلطان واتبعوه هل سيتبعونه لسلطانه أو لرسالته؟ واضح إذن أنهم سيتبعونه لسلطانه وليس لرسالته، لأن لو كانت العبرة بالرسالة نحن قلنا لهم هذه الرسالة وانظروا فيها ومع ذلك قالوا لا نُريد، لو كان صاحب سُلطة لاتبعناه، إذن أنتم تُريدون  السُلطة وتُريدون مغانمها وتريدون قوتها ورهبتها، تُريدون رهبوتها ورغبوتها،  حاشا لله أن يبعث نبياً ملكاً، حين إذن سوف تشتبه الأمور على الناس ولا يُدرى هل اتبعه مَن اتبعه لأنه الملك أو لأنه النبي، الله لا يُريد هذا، الله يُريد أن تتميَّز الأمور، هذا نبي وهو ليس ملكاً وليس غنياً، هو إنسان مُتواضِع وبسيط وأنتم تعرفونه، هل تتبعونه أو لا تتبعونه؟ اتركوا الحيثيات الأخرى، لا تقولوا هذا فقير أو يتيم أو ليس صاحب سُلطان، هذه الأمور ليس لها علاقة بفكرته وبرسالته، انظروا في الرسالة، الذي يُريد الحقيقة فقط هو مَن يفعل هذا مثل أوائل الصحابة رضوان  الله عليهم الذين فعلوا هذا وفارقوا مُجتمَعهم، أليس كذلك؟ علماً بأنهم لم يكونوا جميعاً من الفقراء والمساكين، كان منهم أبو بكر الصديق وهو تاجر غني جداً صديق الأمة رضوان الله عليه واتبعه، كان منهم عمر، وعمر لم يكن فقير ولم يكن صعلوكاً، كان منهم  الملياردير الكبير عثمان وأيضاً اتبعه، وهو من العشرة الأوائل، هذه ميزة الصحابة العظام رضوان الله عليهم، وطبعاً عليّ عليه السلام أول مَن أسلم على الأقل مِن الصغار كما يُقال أو أول مَن أسلم على الإطلاق وهذا غير بعيد، لكن كان لا يزال صغيراً وليس ذا حيثية اجتماعية كبيرة، إذن على كل حال الناس يتمعذرون ويعتلون بهذه التعلات، لكن ليست هى السبب الحقيقي، لماذا أزهد الناس في عالم أهله؟ هو عالم ويعيش بينكم وأنتم تعرفونه وأنتم على دينه فلماذا تزهدون في علمه؟ ولماذا زمّار الحي الذي يُزمِّر جيداً ويُزمِّر بنغمات مُمتازة كل أنواع الزمامير طبعاً كما قلت لكم لا يُطرِب أهل الحي؟ قد تقول لي بسبب الألفة، أي أنهم ألفوه، وهذا موجود إلى حدٍ ما لكنه ليس السبب الحقيقي، قد تقول لي بسبب الكسل، الناس تكسل عن أن تُطالِع الحقائق وأن تزن الأمر، لكنني أقول لك لا، هذا السبب موجود لكنه غير قادر على تفسير كل هذه الظواهر، ليس هو، فإذن ما هو السبب الوحيد تقريباً الذي يُفسِّر لك كل هذه الظواهر؟ هذه توصيفات فما السبب الحقيقي؟ السبب الحقيقي أن الإنسان في ذاته وفي قعر نفسه مُستغنٍ، يُحِب دائماً أن يُؤكِّد في نفسه شعور الاستغناء، إذا لم يُضطر إلى الاعتراف بشعور الافتقار أنني فعلاً جاهل فعلِّمني، أنا ضال  فاهدني، أنا لا أعرف فعرِّفني يُحِب دائماً أن يُمارِس دور أنه العالم وأنه المُهتدي وأنه أبو الكل وأبو الحرية  وأن أي شيئ يُوجَد عنده، ومن هنا هز الرؤوس، حين تتكلَّم مع أبسط الناس الذي لا يعرف كوعه من بوعه عن أحدث النظريات وما إلى ذلك يهز رأسه وكانه يعرفها، على الرغم من أنه لم يسمع عنها في حياته ولو لمرة واحدة، ومع ذلك يهز رأسه كأنه يقول أنا أعرفها وأفهمها ولا أُريد أن أسمع فتجاوزها إلى غيرها، ولذلك إذا أعطاك مالاً لماذا يزهد في علمك؟ العلم موجود، العلم هو العلم، فلماذا يزهد في علمك؟ لأنه في الحقيقة يُريد ما يُؤكِّد عنده شعور الاستغناء، كأنه يقول أنا مُستغنٍ عنك، أنا أاضطررت أن أعترف بك في ظروف مُعيَّنة ألزمتني، أما الآن عندي أسباب وتعلات تُمكِّنني ألا أعترف فلن أعترف، وهذا أمرُ عجيب، لن أنظر فيما عندك ولن أعتبره ولن أُقارِنه، خل عني واتركني أمضي في سبيلي، هذا شعور الاستغناء سبحان الله العظيم يا أخي، وهو طبعاً نابع من التأله الزائف، وهذا كله بسبب والله أعلم وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ۩، الإنسان عنده هذه الجُزئية لكنه يُخطيء السبيل، إذا أردت الاستغناء عليك بالسبيل الحقيقية للاستغناء، كيف؟ إذا أردت أن تستغني عن علم عالم تعلَّم علمه، إذا لم تُوجَد إمكانية إلا أن تتعلَّم على يديه تعلَّم على يديه،  حتى إذا استغنيت تجاوزته، وبعد ذلك تأتي مسألة ثانية، أن تكون جاحداً عاقاً أو تكون وفياً عارفاً بالجميل، هذه تعود إلى طريقة أخلاقية.

إذن أيها الإخوة نُحوصِل بكلمة، هل الشرط الجوهري لطلب الحقيقة معرفي أو أخلاقي؟ أخلاقي، الشرط الجوهري أو الشرط الأساسي لمعرفة الحقائق ليس معرفياً، بمعنى هل يعرف أو لا يعرف وفهم أو لم يفهم، ليس هذا وإن كان مُهِماً لكنه ليس الشرط الأول والأعمق، هل تعرفون ما هوالشرط الأول والأعمق؟ أخلاقي، من لون أخلاقي يتمثَّل في التواضع وفي إدراك إنسانيتي وضعفي وحاجتي وافتقاري، أعلم أن هناك أشياء كثيرة جداً جداً جداً وهى الأكثر لا أعرفها ولا أفهمها ولا أعلهما، ها أنا مُستعِد بأربعة آذاني أن أستمع إليها وأن أستوعبها فشكراً لكم، هذا المُتواضِع هو عبد الله الحبيب الذي يُحِبه الله والذي يُعطيه الله تبارك وتعالى والذي يُفيض علي .

اللهم اجعلنا من أحبك عبادك إليك، اهدنا واهد بنا، وأصلِحنا وأصلِح بنا، واجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها وأجِرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اغفر لنا ولوالدينا وللمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات بفضلك ورحمتك إنك سميعٌ قريبٌ مُجيب الدعوات.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة..   

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

فيينا (17/10/2014)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: