إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

 

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ۩ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ۩ قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا ۩ قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا ۩ قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا ۩ إِلاَّ بَلاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۩ حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا ۩ قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا ۩ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ۩ إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ۩ لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
أيها الإخوة الأفاضل، أيتها الإخوات الفاضلات:

انفرجت الزاوية جداً بين صنفين من الناس وقبيلين، قبيل يجعل أولوياته استعادة الحريات المفقودة وتوكيد الحقوق المهدورة وإنشاء نظام ينعم فيه الجميع بالأمن والكرامة، وفريق آخر يجعل في رأس أولوياته هدم قبور الصالحين وإيحاش قلوب المُؤمِنين والتفريق بين هذه الأمة بقصدِ – زعموا – الدفاع عن حياط التوحيد والنهي عن هذه المناكر المُستشرية في البلاد.

طبعاً وجهتان مُختلِفتان جداً، ويبدو أن الفريق الثاني قلَّ أو كثر لا يعبأ بمسألة ترتيب الأولويات، لا يُفكِّر وفق هذا المنهج، وهو يفهم شيئاً ويتعصَّب له ويُغالي فيه ثم يذهب إلى آخر الشوط فيما يرى أنه واجبه المحتوم وفريضته اللازمة.

طبعاً ليس يخلق بنا أن نُحاكم النوايا، فالنوايا لله تبارك وتعالى، ثم يخلق بنا أن نُؤكِّد ما سمعناه وما رأيناه في وسائل الإعلام المُختلِفة من تبرؤ أقطاب هذا الاتجاه الثاني من هذه الأعمال والأفعال الشنيعة للحق، لقد استمعنا إلى أقطاب هذا الاتجاه يتبرّأون من هذه الأفعال ويذمون فاعليها، فلم نستمع إلى شخصية مُهِمة ذات بال تتبنى هذه الأفعال، إذن مَن يكون وراء هذه الشنائع؟ هل هم شياطين وأبالسة الثورة المُضادة كما يُقال؟ ليس مُستبعَداً، هل هم بعض الشباب النافر المملوء بالحماسة من أتباع الاتجاه الثاني يتقرَّبون إلى الله – تبارك وتعالى – بهذه الأفعال؟ ليس يُستبعَد، لا نُريد أن نُناقِش المسألة من هذه الزاوية، وإنما من زاوية أخرى حريٌ بنا وبالأمة أن تُناقِش هذه المسألة ونظائرها من خلالها، لأن المسألة جد وليست هزلاً!

هذه الزاوية تُرينا أن هذا القبيل الثاني من الناس المُستقبَل معه وبصراحة لا أقول لن يكون مأموناً ربما ولكن لن يكون هانئاً ولن يكون مُستقِراً ولن يكون سعيداً، وذلكم لأسباب موضوعية لابد أن نأخذها بعين الاعتبار.

السبب الأول أن لهذا القبيل من الناس طريقةً في العلم والتعليم والذكر والتذكير تُؤدّي حتماً إلى إيحاش قلوب الأمة وإلى تفريق جمعها وإلى تأليب بعضها على بعض، طريقة تقوم على الاستخفاف بالأئمة المتبوعين، وهذا واضحٌ جداً في كتبهم وفي أعمالهم العلمية، فأعمالهم مملوءة وطافحة بهذا الاستخفاف بالأئمة المتبوعين من أمثال الأئمة الأربعة – مثلاً – وأتباعهم العلماء المشاهير الأساطين الراسخين، فهم يستخفون بهم وهم ليسوا منهم في قليل أو كثير في العلم والصلاح والعرفان والعمل، لا يُمكِن أصلاً أن يُقاس بهم أو يُنظَّر بأمثالهم وهذا معلوم للأمة، معلوم لعقلاء هذه الأمة والمُخلِصين منها أيضاً، فهذه الطريقة غير مرضية فضلاً عن أنها طريقة لا تُشيع التسامح والتواضع بين أتباعهم، فهم لا يتميِّزون بهذا التسامح وليسوا مُتسامِحين، إنهم غلاظ مُتعصِّبون وشداد وجُفاة، كلامهم جافٍ وعاسٍ وغليظ ومناهجهم كذلك، أتباعهم من العوام أو أشباه العوام بلا شك أكثر غلظةً منهم وأكثر جفاءً وأكثر قسوة، لا أُحِب أن أقول أكثر حماقة رغم أنهم يُعرِبون أحياناً عن حماقات في التصرف والسلوك في بيوت الله وفي كل ندي ومكان، فهذه الطريقة لا تُشيع التسامح ولا تشي بالتواضع فهم يقولون “رأيُنا وفقط”، لكن طريقة العلماء تمثل في أنهم يعرضون الآراء بنزاهة وبموضوعية، العالم الذي يخشى الله – تبارك وتعالى – وغايته نجدان الحق يعرض لرأي الخصم كما يعرض لرأيه ويستدله كما يستدل الخصم لرأيه، فلا يُفرِّط ولا يُخفي شيئاً ويظهر آخراً وخاصة أن الخلاف في قضايا دينية، فهو في قضايا علمية فقهية وعقدية دينية يُتعبَّد بها الله تبارك وتعالى، فلابد في كل أولئكم من الصدق والإخلاص وطلب الحق لوجه الله تبارك وتعالى، ونحن جميعاً نعلم أن الله – تبارك وتعالى – قد أوسع على هذه الأمة باختلاف أئمتها ومُجتهِديها، فهذا من السعة، والنقول لا يتسع لها المقام لنُؤكِّد هذا المُقرَّر، فهو مُقرَّر على كل حال إنه من السعة وليس من الضيق، وقد قال إمامنا أبو عبد الله الشافعي رضوان الله عليه “اتفق العلماء – أو قال أجمع – على أن الله لا يُعذِّب فيما اختلف فيه العلماء”، فإذا كان هناك مسألة وقع فيها الاختلاف واختلفت فيها الأنظار فإن الله لا يُعذِّب مَن اتبع هذا العالم دون ذاك أو ذاك دون هذا، الكل في سعة بإذن الله تبارك وتعالى، ولكن هذا القبيل من الناس يُريد أن يُفهِم الناس أنكم إن لم تتبعونا تعرَّضتم للهلاك!

أنا لا أُحدِّثكم حديث الخرص والتظني وإنما حديث العلم والتحقيق والبحث الدقيق، علماً بأنني لا أُحِب أيضاً أن أُوحِش القلوب فأقع فيما أنهى عنه، لكن من مشاهير ومن أعلام ومن أئمة هؤلاء مَن دُعيَ فيه أنه شيخ الوجود، وهم يُحارِبون الغلو ويغلون في علمائهم وأئمتهم فلم يقولوا حتى شيخ الإسلام الآن وإنما قالوا شيخ الوجود، وهذا الرجل – رحمة الله تعالى عليه – قرأنا له وقرأنا له الكثير فهو مُندلِعٌ ومُندلِق ومُبالِغ ومُغالٍ ومُولَع بالتكفير، حيث أنه يُكفِّر العلماء ويُكفِّر الصلحاء ويُكفِّر الأمة بالجُملة، وهذا شيئ مُخيف، فالتكفير الذي وقعنا عليه في كتبه يُعَد شيئاً مُخيفاً حقاً، وطبعاً لا يعدم من أتباعهم مَن يأتي يقول “هذا غير صحيح وشيخنا تنصَّل من التكفير وقال كذا وكذا”، ونحن قرأنا هذا، فهو يتنصَّل من التكفير ولكنه يُكفِّر بالجُملة وبالتفاصيل في عشرات المواضع من كتبه، وكتبه مطبوعة فنحن لا نُحيل على غائب، وإنما نُحيل على كتب أنتم تطبعونها في بلادكم وتُنفِقون عليها، وطبعاً هذا أمر بحثي، مَن أراد أن يُناقِش فيه يُمكِن أن يُناقَش فيه بالطبعة وبالصفحة وبالكتاب، وسوف ترون التكفير وهذا شيئ مُخيف جداً حتى بلغ به الحال وتمادى على أنه قال “مَن لم يلحق بنا وبدعوتنا وبطريقتنا فهو كافر حلال الدم”، وهذه خارجية، فالرجل خارجي – أي من الخوارج – في نظري قولاً واحداً لأن طريقته طرقة الخوارج وفكره فكر الخوارج وسلوكه وتاريخه سلوك وتاريخ الخوارج، وقد قام هو وأتباعه بذبح الألوف من المسلمين وشن الغارات، لكن المُشكِلة أن بعض المُعاصِرين وبعض الذين يأخذون الأمور فقط بأخذ أطرافها ترفاً لا تحقيقاً ولا رسوخاً في البحث يجهلون هذه الأشياء فإذا ما قرأوها صُدِموا، فاقرأوا التاريخ إذن، اقرأوا تاريخهم الذي كتبه أعلامهم والمُتشيِّعون لهم، فهم يقولون أن قتل المسلمين في بلاد كذا وكذا وكذا والحكم عليهم بالكفر وإهراق دمائهم واستباحة أموالهم وذراريهم وسبي ذراريهم جهاد في سبيل الله لأنهم كفار مُرتَّدون، وكتب تاريخهم طافحة به، فلابد أن تُقرأ هذه الكتب أولاً، علماً بأن هؤلاء الآن لهم اتجاه يتبعه الملايين في عالم العروبة وفي عالم الإسلام أيضاً إلى حدٍ ما، ومصر ليست للأسف ليست استثناءً من هذا، فلهم أتباع يزدادون سنةً فسنة، وهم من هذا المعين ينهالون ويستاقون من هذا المعين، أي معين التكفير والغلو، فأسهل شيئ عليهم رمي الإنسان بالبدعة، أما التخطئة فهذا شيئ طبيعي جداً أن يُخطِّئوك ولا يُقيمون وزناً لما تقول، إن ذهبت تُناقِشهم بقال أبو حنيفة وقال مالك وقال الشافعي وقال أحمد وقال أتباعهم وجدت في كتب إمامهم نعتاً للفقه بأنه – والعياذ بالله – شرك، فيقولون على كتب الفقه وكتب أئمتنا وعلمائنا أنها كتب شرك، ولا ندري كيف اهتدى هذا الرجل وأتباعه وأشياعه إلى محض التوحيد الذي ضلَّ عنه أماثل وأكابر أئمتنا وعلمائنا وعرفائنا وصلحائنا عبر القرون، فهل هم
لم يفهموا ما فهمت أنت؟ هذا شيئٌ عجيب، هل هم لم يفهموا ما يفهم أتباعك اليوم؟ هذا شيئٌ أعجب وأمرٌ عجب، لكن هذا هو الموجود، علماً بأنني لا أُريد أن أُصرِّح ولكن اللبيب والباحث بالإشارة يفهم.

إذن الله – وهذا نهج علمائنا ونهج أئمتنا – لا يُعذِّب الناس فيما اختلف فيه العلماء، وهذه هى طريقتنا، ولذلك من قواعدِ أهل السُنةِ أنه لا إنكار في مسائل الخلاف، نعم هناك التعليم والتذكير، فلك أن تُعلِّم ولك أن تُدرِّس رأيك ولك أن تُناضِل عنه وتحتج له – هذا أهلاً وسهلاً به – ولكن ليس لك أن تُنكِر علىّ وأنا أتبع مذهباً مُختلِفاً وأنا أتبع اجتهاداً مُختلِفاً، ليس لك أن تُنكِر وليس لك أن تُخطِّئني فتقول “أنت مُخطيء وأنت آثم”، ليس هذا لك وليس هذا من اختصاصك لأنك لا تُقاس بالأئمة الذين نتبعهم، لا تُقاس لا من قريب ولا من بعيد، فلست منهم أصلاً لكي تأتي تُعبِّد الناس لطريقتك في الفهم واجتهاداتك أنت، وبالتالي نحن لا نُريد هذا، اترك الناس في سعة مذاهبهم وسعة ما ارتضوه لأنفسهم عبر القرون وقد درج على ذلكم ألوف وألوف وألوف من العلماء والصلحاء والكبار من الأئمة الجهابذة، وأين أنت منهم؟!
إذن لا إنكار في مسائل الخلاف، ولكن هؤلاء يُنكِرون ويُغيِّرون ويُكفِّرون وطبعاً إن سنحت الفرصة حتماً يقتلون طبعاً، فلماذا لا أرتاح وأقول لكم والمُستقبَل لن يكون مُريحاً مع هذا المنهج وهذه الطريقة؟!

لأن الأمور لها لوازم تلزم عنها ومنها، لوازم ضرورية وهى لوازم شرعية في نظرهم وليست لوازم عقلية، يعني إن حكمت على فعل مُعيَّن وعلى مَن يفعله بالكفر،ما معنى الكفر في حق المسلم، أي في حق مسلم كفر بعد إيمان بمعنى الردة؟ معنى ذلك استباحة المال واستباحة الدم واستباحة سبي الذُرية والمنع من دفنه في مقابر المسلمين ومنع التوارث فلا يرث ولا يُورَث، وهذا شيئ مُخيف ولكن أعظم من ذلك كله هو استباحة الدم، فالواحد منهم يزعم أنه يقتله بحكم الله ويقول لك “أنا أقتله بحكم الله”، وقد قتل هؤلاء – كما ذكرت لكم قُبيل قليل – الألوف من الناس، فهم يشنون غارات جهاد في المسلمين وفي بلاد المسلمين، مثل في العراق وفي غير العراق، فيقتلون ويهدمون ويذبحون ويسبون ويأخذون الأموال، وهم عند أنفسهم مُجاهِدون ويتقرَّبون من ذي الجلال والإكرام بتطبيق الشريعة المحضة الصحيحة، وهذا شيئ عجيب ومُخيف ولكن هذه هى الطريقة التي يتقيلونها!

وانظروا إلى هؤلاء اليوم، انظروا إلى هذا القبيل من الناس كيف تفرَّق في ذاته أَيْادي سَبَأ ؟ يُكفِّر بعضهم بعضاً وينبذ بعضهم بعضاً ويلعن بعضهم بعضاً، ولا أُحِب أن أذكر لكم أمثلة لكن الأمثلة موجودة في كتبهم وفي مواقعهم وفي مُقدِّمات كتبهم، فهناك علماء يُكفِّر بعضهم بعضاً ويُزندِق بعضهم بعضاً ويلعن بعضهم بعضاً لأنهم اختلفوا وهم جميعاً على نهج السلف زعموا، فأي نهجٍ هذا؟ وأي طريقةٍ هذه؟ هذا شيئ مُخيف، ولكن هم للأسف يُغرِّرون بالصغار – بصغار العقول والقلوب – وبالزهدة في العلم والتحقيق ،وبقولون لهم “أنتم تعبدون الشافعي ومالكاً وأبا حنيفة وأحمد أم تعبدون الله؟ الحق أحق أن يُتبَع، نحن لا نتبع الرجال وإنما نتبع الحق، الشافعي أخطأ والأربعة أخطأوا وكلهم أخطأوا، لكن الحق معنا بالدليل”، كأن الشافعي وأبا حنيفة وسائر هؤلاء لم يكونوا يعلمون الدليل ما شاء الله حتى علمه هؤلاء في القرون المُتأخِّرة – قرون السوء هذه – لكن هؤلاء يعلمون، وأحدهم لو طُلِبَ إليه أن يُعرِب آية لما استطاع للأسف الشديد ومع ذلك يدّعي أن الحُجة في اجتهاده و في فهمه هو، أما في الأئمة العظام والعرفاء الكبار فلا، لا حُجة وهذا شيئٌ عجيب، فما هذا الغرور؟ ما هذا العُجب؟ ما الجدوى من كل هذا؟ لا جدوى إلا الدمار وإلا العار وإلا خراب الديار، ولذلك يُلعَب الآن بهؤلاء، فقد يُلعَب بهم وقد يُستغَل بعض حمقى أتباعهم لتفتيت البناء و تشتيت الشمل وتفريق الوحدة – تفريق وحدة المسلمين – وهم جديرون بهذا، يصلحون للأسف الشديد لهذا إن غُفِلَ عنهم، ولذلك حتى في المُقابَلات معهم ومع قاداتهم هناك لغة واضحة وهى لغة مرحلية ولغة تكتيكية واضحة جداً، فلم أسمع من واحد منهم يقول “هذا رأينا وهو قابل للتخطئة، فقد يكون خطأً، وعلى كل حال نحن نحترم آراء المذاهب الأربعة المتبوعة ونأمر باحترامها وتوقيرها ولا نطلب من الناس ولا نُكرِههم على أن يخرجوا عنها”، لم يقل أحدٌ منهم بهذا، لكن الكل يقول “هذا الفعل الخاطيء نحن الآن لا نُؤيِّده”، وبعضهم يقول “الآن”، لذا قد سُئل: أنت تقول الآن، فماذا بعد الآن إذن؟ لأنهم يتكلَّمون لغة تكتيكية مُخيفة طبعاً وهذا شيئٌ عجب!

في زمن القهر لم نر منكم إلا مُداهَنة السلاطين، وفي أول زمن الحرية كانت هذه أولويتكم أن تهدموا الأضرحة والمشاهد والقبور المبنية، وهذا شيئ عجيب، هل هذا هو ما خرجنا به منكم؟ هل هذه هى ثمرة دعوتكم وهدايتكم؟ هل هذا هو كل شيئ؟

طبعاً لم يُقدِّروا أصلاً الحرية ولم يرغبوا فيها، هم يُريدون حرية أن يتكلَّموا في هاته القضايا فقط وأن يحكموا علىّ وعليك بالكفر والبدعة والشرك والجهل وأن يسخروا منا ومن أئمتنا وعلمائنا وأن يُبرِزوا التعاظم بغرورهم وعنجهيتهم وغلظهم وجفائهم على الناس، هذا هو فقط.

كنت مرة في مكان مُقدَّس مع أحد إخواني وهو الآن يجلس هنا في المسجد وتكلَّم أحد مشائخ هؤلاء عن النقاب، والمسألة اجتهادية لم تُجمِع عليها الأمة، فالحجاب نعم نقول به أما النقاب فلا، لأن مسألة النقاب ليست مسألة إجماعية اتفاقية، وكان هذا الشيخ يتكلَّم في ألوف من الناس في المكان المُقدَّس فقال “كل مَن لا يُنقِّب امرأته فهو ديوث”، فقلت لأخي “هيا بنا نقم من هذا المكان، هذا الرجل يسبنا، هذا رجل أحمق لأنه بإسم العلم يسب الناس ويسب المسلمين”، ما هذا؟ أكثر الأمة على الإطلاق لا يُنقِّبون نساءهم هل هم يدوثون وأنت الفحل الرجل؟ لا كثَّر الله في المسلمين من أمثالك، هذه جرأة ووقاحة وغرور وعُجب وامتهان لكرامة المسلمين، فأين التواضع؟ لا يُوجَد تواضع لأن خلف هذه المظاهر التي تدّعي السُنية والسلفية يُوجَد نوع من الغرور ونوع من الغلظة ونوع من العُجب بالنفس، وطبعاً لا يُمكِن إلا أن يكون مغروراً ومُعجَباً وجاهلاً بقدر نفسه وبعيد من رحمة الله لأن الله لا يرحم إلا مَن عرف قدر نفسه مَن يُخطِّيء أبا حنيفة والشافعي وأحمد ومالك بجرة قلم وهو عند نفسه على الأقل في المسألة التي فهمها وحقَّقها أفقه من الأربعة بل من الأربعين والأربعمائة، فهذا مغرور ومُعجَب وبالتالي كيف سيُعامِلك هذا؟ هل سيُعامِلك بلين وبهدوء وبلطف؟ لن يُعامِلك إلا بكبر وعنجهية ولن يقول إلا كما قال شيخهم “إن لم تقل بما نقول وتتبعنا على ما نعتقد فأنت كافر حلال الدم وسنقتلك”، فكتبه تقول هكذا هكذا بالحرف، بالنص والفص، وهذا شيئ مُخيف، وقد فعل، وأُكرِّرها للمرة الثالثة “وقد فعل”.

على كل حال أُريد فيما بقيَ من خُطبة اليوم أن أُعطيكم مثالاً: كيف يُمكِن للأئمة وللعلماء ونحن من أتباعهم أن يقولوا في هذه المسائل وأمثالها؟ لماذا لم يقولوا كما يقول هؤلاء المُتأخِّرون؟ هل ظلت الأمة ضالة طوال القرون السابقة المُنصرِمة كلها وتعبد القبور والمقبورين والمشاهد والأضرحة وبالتالي كانت كافرة وزنديقة لا تفهم دينها والرسول هو الذي صحَّ عنه – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – أنه قال “إني لا أخشى على أمتي الشرك بعدي”وهو القائل “أُمتي كالمطر لا يُدرى أوله خيرٌ أم آخره”؟

قال الله كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ۩، فهذه الأمة لا يُخشى عليها الشرك، هذه الأمة لن تُشرِك وستُقبَض مُوحِّدة، الريح التي يُرسِلها الله تقبض آخر نفوس المُؤمِنين على إيمانهم، فلا تقوم الساعة على إلا على شرار الخلق مَن لا يقول: الله، الله.

ولذلك هذه الأمة تعيش مُؤمِنة وتُقبَض مُؤمِنة، والنبي أعطانا أماناً أنه لا يخشى عليها الشرك بعده، فأنتم خيرُ الأمم وأنتم موفون سبعين أو قال ثمانين أمة أنتم خيرها عند الله وأكرمها على الله تبارك وتعالى، فأكرم الأمم لا تكون مُشرِكة، لكن قال شيخهم من القرن السادس أو السابع “الأمة في جُملتها مُشرِكة”، وكان يُعلِم الناس “أنا ومَن معي نحن المُوحِّدون، تقريباً سائر الأمة مُشرِكون”، فهكذا يتعلَّمون ويكتبون، وهذا لا ننقله فلان عن فلان بالأسانيد وإنم هذا في كتاباتهم، فهم يقولون “سائر الأمة مُشرِك وثني لأنهم من عبَّاد القبور والأصنام والأولياء”، وهذا الكلام ليس معقولاً أبداً، فنأتي إذن إلى المسألة لنرى كيف ناقشها الأئمة، علماً بأن المسألة طويلة وصُنِّفَت فيها مُصنَّفات: مسألة البناء على القبور، مسألة بناء المساجد على القبور، مسألة قبر بعض الأولياء والصلحاء في المساجد، فهذه مسائل مُتشابِهة ومُتشاكِلة، لكن أولاً هم يُحرِّمون البناء على القبور قولاً واحداً ويقولون لك “هذا مُحرَّم ويجب هدم هذه الأبنية المُبتناة والمُقامة فوق القبور، يجب أن تُهدَم لأنها من المُنكَر الذي يجب إزالته”، أي أنهم قالوا أن هذا يجب، وابن القيم الجوزية – رحمة الله عليه – في إغاثة اللهفان وفي زاد المعاد قال “هذه القباب والمشاهد والحجر وما شاكل إن أمكن الله منها فلا يسوغُ أن تبقى يوماً بلا هدم”، أي إن أمكن هدمها اليوم يجب أن تُهدَم اليوم وليس غداً، وابن القيم فقيه وإمام جليل رضوان الله تعالى عليه، لكن هل هذا الكلام صحيح؟ ليس صحيحاً، فكلامه هذا ليس كلام فقيه لأن هذا ليس هو الفقه، فهذا ليس فقهاً وهذا ليس علماً لأن العلم لا يكون هكذا، لكن لماذا؟!

لأنه لابد أولاً أن نُحقِّق مسألة حكم البناء على القبور، هل يُمكِن أن نبني على القبر بناءً أو لا يجوز؟ هم يحتجون بحديث التابعي أبي الهيِّاج الأسدي – حيِّان بن حصين الكوفي – علماً بأن هذا الحديث أخرجه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه عن أبي الهيِّاج حيث قال “قال لي الإمام – عليّ عليه السلام – ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم؟ لا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مُشرِفاً إلا سوّيته”، فقالوا “هذا نص في الموضوع، والنبي أمر عليّاً ألا يدع تمثالاً إلا طمسه من التماثيل التي تُعبَد من دون الله ولا قبراً مُشرِفاً – ولا يكون مُشرِفاً إلا بالبناء، فهكذا فهموا – إلا سوّيته أي بالأرض، لذلك هذه حُجة ومن ثم يحرم البناء”، وهذا غير صحيح، فالحديث ليس فيه حُجة على ما ذهبوا إليه، ولذلك نحن ننظر إلى علم الأئمة الأربعة وأتباعهم وإلى علم هؤلاء المُتعجِّلين للأسف الشديد فنعجب!

أول شيئ الرسول قال “ولا قبراً مُشرِفاً إلا سوّيته”، والتسوية لا تُعارِض ولا تُضاد التعلية، فقد يكون عالياً ومُستوياً طبعاً، سيما وأن قبر سيدنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وضجيعيه – رضيَ الله تعالى عنهما – لم تكن لاصقة بالأرض، فقد دخل القاسم – أي ابن محمد بن أبي بكر الصديق رضوان الله تعالى عنهم أجمعين – على عمته عائشة – أم المُؤمِنين رضوان الله تعالى عليها – فقال لها “يا أماه بالله اكشفي لي عن قبر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وصاحبيه”، قال “فكشفت لي عن ثلاثة قبور بارزة ليست لاطئة” أي لم تكن مُستوية بالأرض وإنما بارزة مُرتفِعة، وهذا أمر معروف لأنها كانت مُرتفِعة قدر شبر على الأقل ومبطوحة بالعرصة الحمراء، وهذا أمر واضح، وهكذا كانت قبور الصلحاء ومن الصحابة والتابعين، وهذا رواه ابن أبي شيبة طبعاً – شيخ البخاري – في المُصنَّف، وأيضاً روى عن الإمام عامر بن شراحيل الشعبي – شيخ الإسلام وإمام أهل الكوفة في وقته المُتوفى سنة مائة للهجرة – أنه يقول “رأيت قبر حمزة وقبور شهداء أُحد بالبقيع وهى مُشرِفة”، أي أنه رآها مُشرِفة مُرتفِعة، فلم تكن مُسوَّاه بالأرض كما سووها هم للأسف الشديد في دولتهم الأولى، لم تكن كذلك أبداً، فإذن ما معنى قول النبي عليه السلام “ولا قبراً مُشرِفاً إلا سوّيته”؟

قال الإمام النووي – قدَّس الله سره – في المجموع شرحه على المُهذَّب – هذا من أوسع كتب الفقه المُقارَن أو المُقارِن على الإطلاق ولم يُكمِله كما هو معلوم أو لم يتمه بالأحرى- معنى الحديث “ولا قبراً مُشرِفاً إلا سوّيته” أنه نهيٌ عن التسنيم، وهذا مذهب الشافعية، فمذهب الشافعية ومَن وافقهم النهي عن التسنيم، أما أن يكون مُشرِفاً ومُستوياً مُسطَّحاً فنعم، وهذا هو مذهب الشافعية، فليس في الحديث أنك أنك تُسوّي القبر بالأرض ويُمنَع بناؤها على هذا، هذا غير صحيح وإلا كيف بناء ومُسوّى بالأرض؟ هذا غير صحيح طبعاً، فإذا أمكن أن يكونغير مُشرِفاً قليلاً أمكن بناؤه، والنبي هو الذي شرَّع وأسَّس لهذا البناء أصلاً في الحديث الذي رواه أبو داود وابن ماجه حين أتى بحجر – حجر عظيم – ووضعه عند رأس عثمان بن مظعون وقال “أتعلَّم به – أي أُعلِّم علامة – قبر أخي وأدفن إليه مَن مات من أهله”، فما الفرق بين الحجر وبين أن يكون بناءً إذن؟ لا يُوجَد أي فرق، وسوف نرى الآن أنه لا فرق، فهذا للتمييز بحجر أو ببناء لكي نعلم أنه هذا قبر فلان بن فلان وقبر فلانة بنت فلان، إذن لا مانع من حيث الأصل، وسوف نرى النهي عن البناء ولماذا النبي نهى عن أن تُبنى وأن تُجصَّص وما إلى ذلك، فهناك أحاديث صحيحة لأحمد ومسلم نعلمها، وبالمُناسَبة إذ ذكرت عثمان وهذا الحجر لابد أن نذكر أنه لما وُلّيَ مروان بن الحكم ولاية المدينة المُنوَّرة – على مُنوِّرها الصلاة والسلام إلى أبد الآبدين – مر بقبر عثمان ورأى هذا الحجر فأمر به فرُميَ، قال “لا والله لا يُعلَّم قبر ابن مظعون بحجر”، فقالت له بنو أمية “بئس ما صنعت، عمدت إلى حجر وضعه رسول الله بيده فرميت به، فمُر به فليُوضَع ثانيةً”، قال “أما وقد أمرت به فرُميَ فلا يُعاد”، قاتله الله، هذا هو مروان بن الحكم، وهذا تُروى عنه الأحاديث ويُوثَّق ورضيَ الله عنه وأرضاه، قال العلماء عن هذه الفعلة “وهذا من جرأته على رسول الله”، فهو جريء مثل أبيه الحكم بن أبي العاص الذي لعنه النبي – صلى الله عليه وسلم – وطرده من المدينة ثم استأذن له عثمان وأحرج النبي فيه، فهذا جريء مثل أبيه والعياذ بالله، وإلا كيف الرسول يضع حجراً وأنت ترميه؟ لكن هو قال أنه لن يُرجِعه لأنه رماه، قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ۩.

ما الحكمة إذن؟ لماذا نهى النبي – عليه الصلاة والسلام – عن البناء وعن التجصيص؟!
فقد روى أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود والترمذي – ابن ماجه فقط لم يروه – عن جابر – حديث جابر المشهور – أنه نهى – صلى الله عليه وسلم – في القبور أن تُبنى وأن يُكتَب عليها وأن تُوطاً وأن تُجصَّص، وطبعاً هذه الألفاظ يدخل بعضها في بعض، ولكن هذا موجود عند هؤلاء الذين ذكرتهم بغير تفصيل، فالعلماء ذكروا عللاً كثيرة،وهذه هى طريقة العلماء والأئمة، فلا يأخذون الأمور وهم عُمي ويقولون انتهى كل شيئ، لأن الأمور تتناقض إذن، فمرة يقول هكذا ومرة يقول النبي هكذا، فما الذي يحصل؟لابد أن تبحث عن العلة، والأمر ليس تعبدياً غير معقول المعنى، لابد أن يكون له معنىً يُعقَل عند العقلاء، فالمُهِم هو أن بعضهم قال “النبيُ نهى عن بنائها بالآجر وتجصيصها بالجص، لأن الآجر مما مسته النار وليس هذا مما يُتفاءل به”، فحتى في داخل القبر عند اللحد تضع هذا الآجر وأن تُقرِّبه من بدن أو من جثة الميت هذا لا يُتفاءل به لأنه مسته النار، والجص – هذا الجير أيضاً – مسته النار وطُبِخَ على النار طبعاً، ولذلك الذين ذهبوا إلى التعليل بهذه العلة قالوا “لا يُوضَع في ظاهر القبر ومن باب أولى ولا باطنه أيضاً – فالمسألة ليست حتى في الظاهر فقط بل ولا في الباطن أيضاً – لا جص ولا آجر لأن النبي كان يأمر حتى بالوضوء مما مست النار”، أي إذا أكلت أي شيئ مسته النار توضاً، ثم نسخ ذلك، لكن عند بعض الفقهاء أنهم لم يأخذوا بهذا النسخ وقالوا “هذا حكم ثابت إلى اليوم”، فأي شيئ مسته النار أنت تتوضأ منه سواء إذا شربته أو إذا أكلته، وحتى الخبز – مثلاً – مسته النار، فالأمر لا يقتصر فقط على اللحم وإنما على أي شيئ، ولذلك قالوا “هذا لا يُتفاءل به بسبب النار”، ولذلك لما مات للصحابي الجليل الأنصاري زيد بن أرقم غلامٌ – هو ابنه، حيث كان له ابن يُدعى سويداً، ومات سويد بن زيد بن أرقم رضيَ الله تعالى عنهما – أتى غلامٌ وجارية بجصٍ وآجر فقال زيد ما هذا؟ فقالا “نُريد أن نبني قبره”،أي أن نعمل له قبراً مبنياً، فلم يقل لهما زيد بن أرقم “البناء مُحرَّم” لأنه فهم العلة، وإنما قال للغلام “قد جفوت ولغوت، لا يُمس ابني بشيئ مما مسته النار” أو “لا يقرب ابني شيئٌ مسته النار”، فهو فهم العلة إذن ولذلك قال لك هذه العلة، فلا ينبغي أن تأتي لي بآجرة وجص مع ميت ولكنه لم يقل “البناء مُحرَّم”.

فهذا فقه وهذا كله موجود ومروي، فالأئمة لا يقولون بالتشهي، ولكن هؤلاء – سبحان الله – كما نقول بالعامية “يأخذون الشيئ من فم الكوز”، يأخذون كلمة من هنا وحرفاً من هنا وصفحة من هنا وشريط من هنا ويقولون لك “هذا فقه وهذه كتب، فهذا هو فقه السُنة الصحيح وبالأدلة الصحيحة”، ويُحرِّمون ويُحلِّلون ويهدمون ويبنون وينقضون ويُبرِمون، وهذا شيئ عجيب، فليست هكذا المسألة!

منهم مَن علَّل بالثقل على الميت فقالوا “لأن هذا البناء يكون فيه ثقل، والأحسن أن يُخفَّف”، ولذلك نهى كثيرٌ من الفقهاء عن أن يُوضَع في الحفرة ترابٌ أكثر من الذي أُخرِجَ منها، وروى ابن أبي شيبة أيضاً للمرة الثالثة أو الرابعة أن فضالة بن عُبيد – رضيَ الله تعالى عنه – فضالة بن عُبيد هو هذا الصحابي الشهير الذي كان على رأس غزاة في زمن مُعاوية أو في خلافة مُعاوية، أي في غزوة، فمات أحد المُجاهِدين فاحتفروا له حفرة في الأرض ثم جعلوا يُهيلون التراب – قال “كفى – أي أن هذا كافٍ – فقد أمر رسول الله بتسوية القبر فخفِّفوا عن أخيكم”، فهو فهم أن العلة هى التخفيف، ولذلك نهى النبي أن يكون مُسنَّماً – كما فهم العلماء – وأن يكون عالياً جداً وأن يكن مُشرِفاً بمعنى الكلام – هكذا فهموا – وبالتالي يكون مُستوياً، ففضالة بن عُبيد فهم أن العلة هى التخفيف وذلك حين قال “فخفِّفوا عن أخيكم”، فهذا فقه أيضاً واسع وهذه منادحُ للنظر تختلف من مُجتهِد إلى مُجتهِد ومن فقيه إلى فقيه، فلا بأس !

وطبعاً أنا الآن أُريد أن أفتح مُزدوَجين لكي أقول:

العامة هذا يُشوِّشهم كما يتشوَّش الآن بعضكم ويُقلِقهم فيقولون “ما هذه الدوكة؟ ما هذه الهوكة؟ هذه آراء وأقوال وأسانيد وأخرج وأقوال كثيرة، فما هذا يا إخواني؟ وطبعاً هذا يُوحِش قلوبهم فيقولون هل هكذا ديننا مُعقَّد ومُلتبَس في مسائل بسيطة مثل هذه؟ ما القصة؟” لكنه ليس – والله – كذلك، فهؤلاء – الذين أرادوا أن يُبهظِوا الناس بهذه الأحمال – هم الذين عقَّدوه، وإلا دين الله فيه السعة، والله فيه مندوحة من كل هذا الكلام ومن مثل هذه الخُطب أصلاً، ولكن للأسف:

وَجُرْمٍ جَرّهُ سُفَهَاءُ قَوْمٍ   وَحَلّ بغَير جارمِه العَذابُ

فهم يلزونك لزاً ويضطرونك اضطراراً أن تتكلَّم وإلا يقولون “أنتم لا علم لكم ولا علم لأئمتكم، تعالوا ناقِشونا”، كأنهم ما شاء الله أوعبوا العلم فلم يدعوا منه شيئاً واشتفوا شفاً، كلا ليست هكذا هى الأمور، ومن هنا أقول لكم الخُطة الأرشد هى خُطة علمائنا وأئمتنا وعرفائنا الكبار، وأقول لمثل هذا الشيخ اترك الناس في سعة مذاهبهم، فلا ينبغي أن تُوحِش قلوبهم بكثرة التشقيقات والتفريعات والافتراضات، اتركهم كما يُريديون، فهذا حنفي وهذا إمامي وهذا زيدي وهذا مالكي وشافعي وحنبلي، ولا بأس في هذا، اترك الناس إلا ما لابد منه مما اتفقت عليه الأمة وأجمعت عليه الأمة فمُخالَفته لا تُحتمَل، أما الذي اختلفت فيه الأمة يجب أن تترك الناس فيه ثم بعد ذلك علِّمهم وأرشدهم إلى ما فيه عصمتهم ومنجاتهم من ضروري شؤونهم دنيا ودين، وهذه هى الخُطة الصحيحة، ولكن هؤلاء أبعد خلق الله منها وعنها لأنهم لا يفعلون هذا، أبداً لا يفعلونه، وكل شيئ يعملون منه قبة، فمن كل حبة يصنعون قبة كما يُقال، إذا رأوك تلبس كرافت يُؤلِّفون كتباً في حكم الكرافت وهذا غير معقول، فضلاً عن أنهم يُؤلِّفون كتباً في حكم البناطيل لأن هناك مَن يلبس البنطال، ويُؤلِّفون كتباً في حكم كذا وكذا مثل أيهما أصح: النزول على اليدين أم على الركب في الصلاة، ومن ثم شقّوا على الناس وعقَّدوا الدين وشوَّشوا – كما قلت – عقول الناس وأذهانهم، ومن هنا تجد مَن يقول لك “أين الدين؟ أين الإسلام؟ يا جماعة أعطونا شيئاً نستمسك به لقد شتتوا علينا ديننا”، وبالفعل قد شكَّكوا الناس، فبعض الناس يشك ويترك الصلاة والمساجد ويقول لك “لا أُريد هذا الدين كله، هذا كلام فارغ وحكايات”، وهذا يحصل فعلاً وقد حصل مع كثير من الناس، فالواحد منهم يقول لك “لا أُريد لا المساجد ولا العلماء ولا المشائخ ولا الخُطب، لا أُريد هذا كله وسوف أُصلي في بيتي” وعما قليل يترك الصلاة أصلاً، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية الشاذة، ومَن شذَّ فعلاً شذَّ في النار، لكن للأسف هذا ما يحدث لأن الطريقة والمنهج غير سليم، والفارغ – نحن نقول والفاضي – يعمل لك قاضٍ، فهو يعمل لك أنه قاضٍ في قضايا تافهة وبسيطة جداً جداً جداً لا تستأهل كل هذا، لأن الأمة قضاياها أكبر من هذا بكثير، ولكن للأسف هذا ما يُفرَض!

إذن هذه علة أيضاً، لكن بعضهم قال “العلة شيئٌ وراء ذلك، فالعلة هى التميز وطلب التميز”، فلماذا تبني على القبر أنت وتُريد أن تُميِّز قبرك، أي قبر مَن دفنت من أهلك؟ ولذلك قال عبد الله بن عباس – رضيَ الله تعالى عنهما – لأحد مواليه “يا فلان إذا رأيت قبراً من قبور المسلمين صُنِعَ أو فُعِلَ به غير ما يُفعَل بقبور المسلمين فأرجعه حتى يكون مع قبور المسلمين سواء”، فما العلة إذن؟ التميز، فلماذا تتميِّز أنت؟ الناس تقبر بطريقة مُعيَّنة فاقبر مثلهم ولا تجعل علية وقبة ومشهداً على قبرك كأنك شيئاً مُتميِّزاً، فابن عباس فهم أن العلة هى التميز، ولكن إذا صار الناس يفعلون هذا تقريباً في الجُملة فلا بأس إذن ولا تميز على هذه العلة.

بعضهم قال “العلة هى زينة الحياة الدنيا التي لا تليق بأهل الآخرة وقد صار الميت من أهل الآخرة”، فما هذا التزيين وهذه القبور والورود والبناء والتجصيص وبقية هذه الأشياء؟ هذا لا يجوز ولا يليق”، لكن هذه العلة ضعيفة جداً ونُوقِشَت من العلماء والأئمة ولكنها مذكورة على كل حال!

بعضهم قال “العلة هى التشبه بالكفار”، لأن الكفار سواء من أهل الكتاب او من المُشرِكين مُعظمهم وإلى الآن فعلاً يبنون على قبورهم ويتكلَّفون فيها الكثير، ونحن منهيون في الجُملة ومبدئياً عن مُشابَهة هؤلاء الكفار، فقالوا أن العلة هى التشبه، علماً بأن العلل كثيرة، لكن هناك ما هو أقصر من هذا كله وهو الذي أرتاح إليه، لا أُلزِم به أحداً ولكن أرتاح إليه فقط، وهى العلة التي أشار إليها الإمام الحافظ الكبير بل آخر الحفَّاظ – آخر حفَّاظ الأمة الأمة المحمدية المغربي الذي كان حافظاً بلا امتراء – أبو الفيض أحمد الغماري قدَّس الله سره، الذي كان أعجوبة المسلمين في هذا العصر، فهذا الرجل – رحمة الله عليه – كان شيئاً مُخيفاً، على كل حال قال أن العلة عنده مُختلِفة وهذا هو الصحيح لأن هذه العلة مذكورة في الحديث، وهى أن النبي لم يبعث عليّاً ليفعل ما أمره بفعله في قبور المسلمين لأن الكلام كله عن قبور المُشرِكين والكفار والوثنيين، وعليّ يقول لأبي الهيِّاج الأسدي – حيِّان بن حصين الكوفي – ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لا تدع تمثالاً إلا طمسته، فهو يقول “تمثال” إذن، وأمة محمد ليس عندها تماثيل تُعبَد من دون الله مثل تمثال اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، لا يُوجَد عندها تماثيل تُعبَد مثل هذه، لكن أين هو أكثر مكان تُوضَع فيه هذه التماثيل؟ عند القبور – عند قبور طواغيتهم – والعياذ بالله أيضاً، وعلى كل حال انفردت أو كانت مع قبرٍ لابد من طمسها، فالنبي قال “لا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مُشرِفاً إلا سوّيته”، أي من قبور طواغيتهم، فهكذا كان يفعل الكفار بهؤلاء، فهذا هو إذن، فالموضوع ليس عن قبور المسلمين ولا لها علاقة بقبور المسلمين.

باختصار لأننا طبعاً ما زلنا في أول المبحث والكلام كثير جداً سأُحوّصِل وأُوجِز لكم رأي المذاهب الأربعة في المسألة، وبعد ذلك مَن أحب أن يتفرَّع وأن يوسَّع ليعد إلى المُدوَنات الموسوعية، فكل مذهب من المذاهب عنده مُدوَنة موسوعية في فقهه، أي عنده كتاب كبير في خمسة عشر أو في عشرين أو في ثلاثين مُجلَّداً أو جزءٍ، وهذا موجود في المذاهب الأربعة، لكن باختصار نقول:

السادة المالكية والشافعية والحنابلة قالوا “إن كان البناء على القبر في أرض مُحبَّسة – هذه هى لغة المالكية، أي موقوفة – أو في أرض مُسبَّلة – والأرض المُسبَّلة هى التي اعتاد أن يدفنوا الناس فيها مثل قرافة مصر مثلاً، فهى مقبرة معروفة للناس وهى لكل الناس وليست لناس مخصوصين، فهى ليست لآل فلان أو علان وإنما مقبرة لكل المسلمين في بلد مُعيَّنة، فهذه هى الأرض التي يُسمونها بالأرض المُسبَّلة – فهذا البناء مُحرَّم شرعاً وغير جائز”، ومعنى أنه مُحرَّم أنه يُهدَم، وعند الحنابلة قالوا حتى في هذه “مكروه” ولم يُحِبوا أن يقولوا “مُحرَّم”، فهذا غير مشروع من حيث الأصل ولكنه إما يُعتبَر مكروهاً عند الحنبلة أو يُعتبَر مُحرَّماً عند الآخرين ويجب هدمه، فيُهدَم لأنه مُحرَّم، وهنا كلام ابن القيم له مساغ لأنك تقول لي هذا الشيئ مُحرَّم، فما الذي يُقابِل المُحرَّم؟ الواجب، وبالتالي مُحرَّمٌ فعلها ومُحرَّمُ بناؤها إذن واجبٌ هدمها، أما لو كان البناء غير مُحرَّم وإنما فقط هو مكروه تنزيهاً أو جائز لا تقل لي يا ابن القيم – رحمة الله عليك – يجب هدمها، فهذا ليس فقهاً، لأن الفقه أن الواجب يُقابِل المُحرَّم، وهذا يُعتبَر مُحرَّماً في هذه الحالات فقط!

علماً بأننا لم نقع للحنيفة على قول، فكلامهم مُوجَز في هذه المسألة – مسألة البناء على القبور – ولكنني سأذكره في جُملتين.

أما إن بنى في ملكٍ له أو لغيره بإذنه – أي في أرضي وأرض آبائي وأجدادي، بمعنى أنني أتيت إلى بيتي أو إلى ملكي وقبرت أحد أيه أودائي وبنيت عليه – فلا بأس، لا يُوجَد أي علة تمنع من هذا البناء لأن لا ينبغي أن يكون هناك أي تضييق على المسلمين في هذا الصدد.

من العلل التي ذكروها أيضاً في النهي عن البناء – وذكرنا منها ربما ستة أو سبعة – أنهم ذكروا أن البناء يمنع دفن غيره معه وخاصة أن دفن المسلمين كان بطريقة اللحد للميت وليس الشق، فالنبي قال فيما أخرجه أحمد وغيره “اللحد لنا والشق لغيرنا”، فإذا لُحِدَ للميت ثم بُنيَ عليه لم يبق إمكانٌ لدفن غيره معه، وفي هذا تضييق على المسلمين، فالبناء قد يكون كبيراً أيضاً وبالتالي سيكون فيه تضييق من جهة الكبر ولذلك يُمنَع، ولكن في الأرض الموقوفة أو المُسبَّلة، أما في ملكي فلا يُوجَد أي شُبهة، فأنا لدي أرض واسعة وأستطيع أن أدفن فيها العشرات من أهلي – مثلاً – ومن قبيلتي ومن عشيرتي، وعلى كل حال هم قالوا “البناء على القبور في ملكه مكروه تنزيهاً”، وابن القصَّار البغدادي – أحد مشاهير نظَّار المالكية البغدادية، أعتقد مُتوفى ثلاثمائة وستة وثمانين – قال هذا جائز، فلم يقل حتى مكروهاً وإنما قال هذا جائز لأنه في ملكه وبالتالي هو جائز إن خلا من قصد المُباهاة، لكن عند المالكية حتى ولو في ملكه بقصد المُباهاة يحرم، لكن هنا فن خلا من قصد المُباهاة لم يحرم، أصبح مكروهاً تنزيهاً، وبالتالي علينا أن ننتبه أن هذا مكروه تنزيهاً عند هؤلاء إذا أمِنَ النبش من إنسان أو سبع أو سيل ماء، أما إذا لم يأمن صار جائزاً من غير كراهة ولا حتى كراهة تنزيه، فابن حتى لا يُنبَش وحتى لا يُسرَق وحتى لا يجتاحه الماء والسيل.

فهذا هو كلام المذاهب إذن، وعودوا إليه لأنه مكتوب من مئات السنين، لكن لماذا نتجاوز كل هذا التراث؟!

ابن القصَّار قال هذا جائز، ووافقه ابن رشد، أما الإمام اللخمي من المالكية منع منه وجعله مُحرَّماً، ولكن معروف في أصول الإفتاء والقضاء عند المالكية أن الفتوى والقضاء على قول ابن رشد لا اللخمي، وخاصة أن ابن رشد وافق القصَّار وهو من النظَّار المشاهير، فالكلام ليس هو كلام اللخمي، ومن ثم يجب أن ننتبه إلى أن هذا الشيئ دقيق وصعب طبعاً على أكثر هؤلاء، لكن أكثر مَن يتكلَّم بإسم المذاهب لا يعلم حتى أصول الإفتاء ومراتب المُفتين في المذهب، لو وجد أي قول في أي كتاب يُنسَب إلى المالكية حتى ولو كان كتاباً مُعاصِراً يقول هذا مذهب المالكية، وهذا ليس مذهب المالكية، هذا ليس كلام العلم وإنما كلام أُناس من الشارع يُعتبَرون مُثقَّفين، فيفتح الواحد منهم الكتاب ويتكلَّم، لكن كلام العلماء المُحقِّقين يُعتبَر شيئاً صعباً ويحتاج إلى دراسة وإلى تحليل دقيق ومعرفة الأشياء من أصولها، لكن على كل حال هذا قولهم!

بقيت مسألة بناء المساجد على القبور، فالنبي نهى عن هذا، وبعض العلماء أخذ بظاهر النهي، قال الإمام النووي “يُكرَه بناء مسجد على قبر، أما احتفار القبر في المسجد فمُحرَّم حُرمة شديدة”، فهو أخذ بظواهر النصوص – رضوان الله عليه – ومعه كثيرون، وبعض العلماء حتى في هذه المسألة له كلام وله نقاش واجتهاد، وهو اجتهادٌ لا أقول راجح ولكن له وجهٌ في النظر وسوف تسمعونه الآن، قال “نحن نُسلِّم بالأحاديث الصحيحة عن رسول الله”، قال الرسول “لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد لا يبقين دينان في أرض العرب”، وهذا الحديث صحيح ومعروف، وأم سلمة هى التي كانت تذكر لرسول الله – وهذا في الصحيح أيضاً – لما كانت بالحبشة – في هجرة الحبشة – كنيسة مارية، وهى كنيسة بأرض الحبشة، فذكرت له التصاوير والتماثيل التي فيها، فقال عليه الصلاة وأفضل السلام “أولئك قومٌ كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره – أي معبداً أو كنيسة أو كنيس Synagogues، أي مسجداً باللغة العربية – واتخذوا فيه تلك التصاوير – أي للعبادة، لكي يعبدوا صاحب القبر ويتوجَّهوا إليه ويتخذوه قبلة والعياذ بالله – أولائك شر خلق الله”، فهذا إذن فيه لعن لأن النبي قال “لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد”، فممنوع أن يُعبَد نبياً أو صالحاً من دون الله، وسوف نرى ما معنى اتخذ قبر النبي مسجداً واتخذ قبر الصالح مسجداً، فما معنى هذا؟ هذا شيئ خطير وفيه لعن، والآن هذه الأدلة تُعارَض بكتاب الله تبارك وتعالى، تقول الآية الكريمة فَقَالُوا – أي الكفار – ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا ۖ رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ۚ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَىٰ أَمْرِهِمْ – وهم المُؤمِنون تقريباً باتفاق المُفسِّرين – لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا ۩، وسكت القرآن ولم يُقبِّح ولم يُثرِّب ولم يُنكِر عليهم، والقرآن كتابٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۩، ومن الباطل أن الله يذكر باطلاً شركاً كفراً وثنياً ثم لا يُعقِّب عليه بما يُفيد استشناعه واستبشاعه فيُترَك كما لو كان جائزاً، لكن حاشا لله أن يحدث هذا، قال الله وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلا مَّسْحُورًا ۩ انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ۩ وقال أيضاً وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَٰذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَٰذَا لِشُرَكَائِنَا ۖ فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىٰ شُرَكَائِهِمْ ۗ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ۩ كَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ۩ وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نَّشَاء بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاء عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ۩، فالقرآن مملوء بهذا، القرآن لا يترك مقالةً شنيعة أو مقالةً باطلة كفرية شركية إلا عقَّب عليها بما يُفيد إبطالها ونقضها من أساسها، لكن هنا لم يتكلَّم القرآن كأن هذا عمل صالح وطيب، فالمُؤمِنون قالوا لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا ۩، ومسجد الطائف فيه قبر عبد الله بن عباس في الجهة الشمالية من المسجد، ثم علينا أن ننتبه إلى أن أعظم وأشرف وأقدس مساجد لله – تبارك وتعالى – البيت الحرام طبعاً، وذلك بمكة حيث الحطيم وحجر إسماعيل، وهناك يُوجَد قبر إسماعيل طبعاً بإجماع الأمة لأن النبي أخبر عن هذا، وأخبر النبي في أخبار أُخرى – لكن فيها كلام – عن أن بين زمزم والمقام يُوجَد قبر نوح وصالح وهود، ولكن باتفاق يُوجَد في الحطيم قبر إسماعيل، فلو كان هذا ممنوعاً من حيث ذاته لأمر النبي بنبشه طبعاً، أليس كذلك؟ لكنه لم يفعل.

وهناك الأكثر من هذا كله، فالأمر لا يقتصر على قبر إسماعيل أو قبر ابن عباس في الطائف في شمال المسجد وليس في القبلة طبعاً، وهو أن قبر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في مسجده، فالله قضى بهذا والأمة وافقت على هذا وانتهى كل شيئ، فلم يقولوا أبداً هذا لا يجوز، لأن الناس لا تتوجَّه إليه بالصلاةولا بغير ذلك، وإنما يتوجَّهون إلى القبلة ويعطونه حتى ظهورهم، فهذه الأمة – حاشاها – لا تعبد نبياً ولا رسولاً فضلاً عن أن تعبد صالحاً أو ولياً، حاشا لله وحاشا هذه الأمة المرحومة المُحمَّدية المأمون عليها الشرك – بإذن الله تعالى – أن يُصيبها وأن تتخوَّض فيه، لكن الله قضى بهذا كرامةً لرسول الله!

أدركنا الوقت، لكن انظروا على عجل إلى البشاعة ما يقوله بعض علماء هؤلاء – رحمة الله عليه وغفر الله له له بعامة وغفر له في هذه بخاصة – حيث يكتب في رسالته عن مناسك الحج والعمرة ويقول “من البدع – البدع المذمومة طبعاً في ما يختص بالحج وبالعمرة وبالبلدين المُشرَّفين – إبقاءُ قبر رسول الله في المسجد، فلماذا يبقى هناك؟” الله أكبر، هذه كلمة اقشعرت لها أبدان الأمة وجلودها، ماذا تُريد إيها الشيخ؟ إلى ماذا تُلمِّح؟

هو لمَّح إلى ما طالب به بعضهم، فبعض هؤلاء العلماء قالوا “نحن نُطالِب صراحة بأنه ينبغي أن يُخرَج الرسول من قبره وأن يُدفَن خارج المسجد”، الله أكبر، فاستفزوا   الأمة بهذا جداً، لكن أين هذا الشيخ. رحمة الله عليه وغفر الله له؟ ألم يقرأ التاريخ هذا؟

نور الدين محمود زنكي
نور الدين محمود زنكي

وأختم الآن الخُطبة بهذه القصة الرائعة جداً التي حكيتها لكم مرة واحدة قبل أكثر من عشر سنين، وهى قصة السُلطان الصالح الملك المُوفَّق المُسدَّد نور الدين محمود زنكي الذي هو ابن عماد الدين زنكي، علماً بأن نور الدين محمود هو أستاذ صلاح الدين الذي قيل عنه “صلاح الدين الأيوبي – وهو مَن هو – حسنة من حسنات نور الدين”، والأمة لا تعرف نور الدين وتعرف صلاح الدين أكثر، لكن هم قالوا”صلاح الدين حسنة من حسنات نور الدين”، فهو هذا السُلطان الصالح الراشد المُوفَّق والمُجاهِد العظيم!

نور الدين – قدَّس الله سره الكريم – رأى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ثلاث مرار – أي مرات – في ليلة واحدة، وكان يستفيق ويقول “لا إله إلا الله، اللهم اجعله خيراً، ما هذا؟ إنه الرسول”، وفي كل مرة النبي يُشير إلى رجلين أشقرين – مع اعتذارنا من الشقر طبعاً، فهم أحلى الناس ولكن هكذا هى هذه القصة – ويقول له “يا نور الدين أنجدني، أنقذني من هذين”، فلما رآها ثلاث مِرار أمر بوزيره فرحل له راحلة ولنفسه راحلة وأخذ حملاً خفيفاً واستصحب مالاً طائلاً عظيماً وسافر في عشرين نفراً – فقط عشرون رجلاً – بسرعة في نفس الليلة – رضوان الله على هذا الملك الصالح – حتى بلغ المدينة المُنوَّرة – على مُنوِّرها ألف تحية وألف سلام إلى أبد الآبدين – في ستة عشر يوماً، وجعل يدعو بالناس ويكتب أسماؤهم – كُتِبَت أسماء الناس – ويتصَّدق عليهم من المال العظيم الذي استصحبه معه قائلاً “هذه الصدقة لك، وهذه الصدقة لك” وهكذا، وفعلاً هذه كانت قُربى إلى الله، حتى انقضت الناسُ فقال: هل بقيَ أحد؟ فقالوا لم يبق أحد سوى رجلين شابين أعزبين عفيفين تقيين كثيري الصدقة، فقال علىّ بهما.

أتى الشابان فإذا هما الأشقران اللذان أشار إليهما رسول الله في المنام، فقال أين تسكنان؟ فإذا بهما يسكنان في رباط – مثل زاوية – قريب من الحجرة الشريفة، أي على بُعد ربما عدد من الأمتار اليسيرة، فلم يكن المكان بعيداً عن الحجرة الشريفة.
دخل نور الدين هناك وأمر بالنبش والبحث فإذا بهما – لعنة الله تعالى عليهما إلى أبد الآبدين – احتفرا سرداباً تحت الأرض أرادا به بلوغ الحجرة الشريفة لسرقة جسده الشريف صلى الله عليه وسلم.
آمنت بالله وآمنت برسول الله، هذا هو إذن، هذا رسول ونبي حق الرسالة وحق النبوة، وهذا ملك صالح، لا إله إلا الله، ومع ذلك تجد مَن يقول لك لماذا هذه الأمة مُتعصِّبة على هذا النحو لمحمدها؟ نحن نموت فيه، نحيا ونموت فيه لأن لدينا يقين مُطلَق به صلى الله عليه وسلم، فلو قُتِّلنا من عند آخرنا سيظل لدينا هذا اليقين المُطلَق بالله وبرسوله، فنحن نعرف هذا جيداً، ومرت كوائن كثيرة ودائماً تُؤكِّد صدقه حتى بعد وفاته، ولكن متى اتفقت هذه الحادثة لنور الدين محمود؟ في سنة خمسمائة وسبعة وخمسين للهجرة، وهذا أمر عجب، وقد رآها كل الناس وسجَّلتها دواوين التاريخ، فالقضية مُتواتِرة إذن!

أمر بهما نور الدين فقُتِلا – لعنة الله عليهما – لدى الشباك الذي يلي الحجرة الشريفة أمام الناس – هذا الشباك نحن نراه في الخارج – ثم حفر خندقاً عظيماً يُقال بلغ به الماء – ربما وصل إلى مسافة عشرين متراً لأنه كان خندقاً عظيماً – حول الحجرة الشريفة وأتى برصاصٍ كثير جداً – جمَّع كل الرصاص الذي كان في المدينة – ثم أُذيبَ هذا الرصاص ووُضِعَ في الخندق، وإلى اليوم الحجرة الشريفة مُسوَّرة من أربعة جهاتها بهذا الرصاص في هذا الخندق، رضيَ الله عن نور الدين محمود وأرضاه، فيا ليت شيخنا الفاضل – رحمة الله عليه – قرأ التاريخ وقرأ هذه الحكاية، لأن لو كان بقاء قبره الشريف في مسجده يُثير غضب الله واستياءه لما أمر نور الدين بأن يُنجِده وأن يُنقِذه من هذين الزنديقين الكافرين.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

 

(الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله الطيبين وصحابته الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.

أيها الإخوة:

في دقيقة فقط أُوجِز لكم بعض ما أجاب به العلماء عن هذا التعارض الظاهر بين الآيات والحديث أو تحديداً بين الآية الكريمة – لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا ۩ – والأحاديث الشريفة.

باختصار نقول: هذا المسجد الذي اتخذه المُؤمِنون على قبر الفتية الصلَّاح الصالحين أصحاب الكهف شأنه شأن مساجد كثيرة وفيها قبور أو بُنيَت على قبور أقطاب وصلحاء وعرفاء كبار أماثل أماجد، ومن فضل الله مُعظمها على الإطلاق ليست في القبلة ولا يتوجَّه إليها الناس ولا يُصلون إليها، هى فقط موجودة هناك للتبرك بها، والتبرك من حيث الأصل مشروع – هذا موضوع ثانٍ لكنه موضوع من المواضيع الفروعية وليس من المواضيع العقدية – وجائز ولا شيئ فيه، والإمام الشافعي كان يقول عند أحد أئمة البيت “قبر موسى الكاظم – عليه السلام – ذلك الترياق المُجرَّب”، والإمام الذهبي وهو من أئمة السلف – أي على طريقة السلف – أكثر من مرة وخاصة في سير أعلام النبلاء يقول “قبر معروف الكرخي – ولي الله الشهير معروف بن فيروز الكرخي – الترياق المُجرَّب”، وشيخ مشائخ المسلمين في وقته وفي كل وقت الإمام النووي – قدَّس الله سره – شدَّ الرحلة من الشام إلى مصر من أجل زيارة مشهد وضريح إمامنا وإمامه أبي عبد الله الشافعي، وهو إمام مقبورٌ وعليه مسجد وعليه قبة، أما العز بن عبد السلام – قدَّس الله سره – لما أفتى بتهديم الأبنية والقباب والأشياء المبنية في قرافة مصر لكونها مبنية في أرض مُسبَّلة استثنى قبر الإمام الشافعي وقال”لأنه مدفون في دار ابن عبد الحكم” أي في ملك، فإذن هو يقول بما قلنا به.

هذا هو الإفتاء وهذا هو الفقه وهو فقه الجهابذة، اللهم ألحقنا بهم ونوِّرنا بهم وعلِّمنا من علومهم.

 

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

بتاريخ 08/04/2011

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

تعليق 1

اترك رد

  • أين قال الشيخ : من لم يلحق بنا وبدعوتنا فإنه كافر حلال الدم ؟؟ أرجو أن تدلوني على موقع هذا الكلام من كتب الشيخ .

%d مدونون معجبون بهذه: