روتانا خليجية…شبابها.. أدرى بشعابها.
تابعونا http://twitter.com/#!/Khalejiatv و http://www.facebook.com/khalejiatv

روتانا خليجية أقوى البرامج الحوارية والاجتماعية والفكرية والرياضية والكوميدية.. اليومية والاسبوعية، بالإضافة لأروع المسلسلات العربية والخليجية وأضخم الإنتاجات الغنائية تجدونها فقط.. على خليجية..

الترددات.

NileSat 104 Freq. (11,296 MHz) – H – SR: 27500 S/s – FEC 3/4
102 Freq. (10,775 MHz) – H – SR: 27500 S/s – FEC 3/4
Arabsat Freq. (11,843 MHz) – H – SR: 27500 S/s – FEC 3/4

 

برنامج آفاق

لا نسخ في القرآن

 

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآلاه وصحبه ومَن والاه.

إخواني وأخواتي:

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، كثيراً ما نسمع بمُصطلَح النسخ والناسخ والمنسوخ وأن الآية الفلانية نسختها الآية العلانية وأن هذا الحُكم لا يُعمَل به فقد أُبطِل العمل به لأنه منسوخ، إلى آخر هذه المُصطلَحات وهذه الجُمل العجيبة، التي قد تصدم بعض مَن ليس له إلمامٌ بهذا الموضوع التخصصي إلى حد ما.

فنُريد أن نُحاوِل في هذه الحلقة – فيما يتسع له وقت حلقة مُتلفَزة إخواني وأخواتي – أن نُلِم إلمامة سريعة بأطراف هذا الموضوع ونخلص فيه إلى رأي نُرجِّحه إزاء الآراء المُختلِفة الشائعة في هذا الموضوع المُثير والشائك، لأنه في الحقيقة هو مُثير وشائك، لكن بدايةً ما هو النسخ؟ نقول النسخ والناسخ والمنسوخ، ما هو النسخ؟

اصطلح علماء أصول الفقه على تعريف النسخ بأنه رفع حُكم شرعي بدليل شرعي مُتأخِّر، أي حُكم يرد في آية قرآنية، يُعمَل به فترة أو مُدة من الزمن، ثم بعد ذلك تأتي آية أُخرى وترفع هذا الحُكم، والفرق بين النسخ والتخصيص يا إخواني – هناك تخصيص – أن الحُكم المنسوخ لا يجوز العمل به أبداً إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، انتهى! أُبطِل العمل به، ولذلك النسخ إبطال، النسخ إبطال! أما التخصيص فيختلف، وطبعاً الفروق كثيرة جداً، هذه مسائل فنية كما قلت وتخصصية، هناك عشرون فرقاً تقريباً بين النسخ والتخصيص، لكن التخصيص يكون كالآتي، لدينا نص عام، نخص منه شيئ، وبعد ذلك يبقى النص الأصلي على ما هو عليه، يُعمَل به فيما تبقى، هذا هو، ليس إبطالاً، لكن النسخ إبطال.

ثم بعد ذلك تحدَّثوا عن أنواع للنسخ، في العادة يتحدَّثون عن أنواع ثلاثة للنسخ، يقولون هناك نسخ للتلاوة مع الحُكم، وهذا شيئ غريب جداً، بمعنى أن هناك قرآناً كريماً أُنزِل أو آيات قرآنية أُنزِلت وكانت تتضمن أحكاماً، ثم رفع الله الأحكام مع آياتها، هذا منسوخ وهذا منسوخ، وهذا شيئ من أغرب ما يكون، هل تعرفون لماذا؟ لأنه كيف نعرف أن هذا الحُكم هو حُكم شرعي؟ نعرفه بدليله، بدليله! ما هو الدليل؟ الآية، لكن أنتم تقولون الآية ارتفعت أو رُفِعت، أي ما عادت موجودة، فكيف نعرف هذا الحُكم لنعرف من بعد أنه حُكم منسوخ؟ خاصة أن هذه الآية رُفِعت بالكامل، بحيث أنها غير مرقومة، غير مكتوبة في كتاب الله، وغير متلوة، لا تُكتَب ولا تُتلى، فهذا شيئ غريب جداً.

وتحدَّثوا أيضاً عن نسخ التلاوة دون الحُكم، أي هذه الآية القرآنية التي أُنزِلت – أنزلها الله تبارك وتعالى – لن تجدها في المُصحَف الشريف، لأنها منسوخة التلاوة، غير موجودة، غير مكتوبة، لكن الحُكم الذي تضمنته موجود ويُعمَل به إلى يوم الدين، فهذه أقل عجباً أو هذا النوع أقل عجباً، ولكنه أيضاً عجيب وغريب، وآخر شيئ – وهذا أقل الثلاثة عجباً وغرابةً – نسخ الحُكم دون التلاوة، أي الآيات موجودة – الآيات التي يُقال إنها منسوخة، أي منسوخة الأحكام طبعاً، منسوخة الأحكام وليست منسوخة التلاوة – ولكن الحُكم الذي تتضمنه الآية لا يُعمَل به، والآية موجودة تُتلى، ويُتعبَّد الله بتلاوتها، ومرقوبة في المُصحَف، إذن هذه أنواع ثلاثة للنسخ.

نسخ التلاوة والحُكم، الحُكم لا يُعمَل به، والتلاوة أيضاً غير موجودة، لا تُتلى هذه الآية، مثل ماذا؟ مثَّلوا له بأمثلة يسيرة جداً، كالذي أخرجه مُسلِم في صحيحه من حديث أم المُؤمِنين عائشة – رضوان الله عليها -، قالت كان فيما أُنزِل – أي على رسول الله من القرآن الكريم – عشر رضعات يُحرِّمن، أي الصبي الرضيع إذا رَضِع أو رَضَع عشر رضعات فإنها تُحرِّم، يُصبِح ابناً لمَن رضع منها من الرضاعة، يُصبِح ابناً لها من الرضاعة، وهكذا! قالت عائشة فنُسِخن بخمس معلومات، فتُوفيَ رسول الله وهن أول وإن هن لمما يُتلى من كتاب الله، شيئ غريب جداً جداً! وهم فسَّروا وتكلَّفوا وتمحلوا – وهذا لا يرفعه تكلف وتمحل – بأنه اقتربت وفاته، وكانت هذه الآيات تُتلى.

مكي بن أبي طالب أحد كبار علماء القراءات وعلماء العلوم القرآنية أيضاً – رحمة الله تعالى عليه – قال هذا لا نظير له، هل تعرفون لماذا؟ لأن أم المُؤمِنين عائشة فيما يُنسَب إليه طبعاً – فيما يُنسَب إليها – تقول كان فيما أُنزِل عشر رضعات يُحرِّمن، إذن أين الآية؟ ماذا قالت الآية؟ هي لم تتل علينا هذا المنسوخ، فنُسِخن بخمس معلومات يُحرِّمن، إذن ماذا قالت هذه الآية؟ ماذا قالت؟ أين نص الآية؟ غير موجود، هي تُخبِر فقط، تحكي أن كان هناك قرآن قضى بكذا، وتلاه قرآن نسخه قضى بكذا، لكن نص المنسوخ غير موجود، ونص الناسخ غير موجود، يقول مكي بن أبي طالب وهذا لا أعلم له نظيراً، ليس له نظير، ولن تجد له نظيراً، شيئ غريب!

نسخ التلاوة دون الحُكم، المتلو منسوخ، ولكن الحُكم موجود ويُعمَل به، مثَّلوا له بما في الصحيح من حديث عمر بن الخطاب – رضوان الله عليه -، أنه قال كان فيما أُنزِل – أي على رسول الله – والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله، قال نكالاً من الله، وفي بعض الروايات بما كسبا من اللذة، أو كلام مثل هذا، وهذا ليس عليه جزالة ولا بلاغة ولا فصاحة ولا رونق القرآن الكريم، الكلام الإلهي، ويُنسَب هذا إلى عمر، ومُخرَّج في الصحيح،يقول هذا كان قرآناً، وبعد ذلك نُسِخت التلاوة، ولكن الحُكم معمول به، وهذا الحديث عليه إشكالات، العلماء أشكلوا عليه بإشكالات كثيرة جداً، فهذا ما مثَّلوا به.

وأخيراً طبعاً هناك المهيع الواسع والطريق المسلوكة للنسخ، نسخ الحُكم دون التلاوة، وستأتيكم أمثلة ونماذج بعد حين في إبانه – إن شاء الله تبارك وتعالى -.

إخواني وأخواتي: 

باختصار يكفينا رداً للقول بنسخ التلاوة، سواء نسخ التلاوة مع الحُكم أو نسخ التلاوة دون الحُكم، كلاهما نسخ للتلاوة، يكفينا لكي نرفض هذا ونرده ونُزيِّفه أن نستحضر حُجة واحدة من بين عشرات الحُجج التي احتج بها مُنكِرو نسخ التلاوة من العلماء – جزاهم الله خيراً -، حُجة هي أقوى حُجة، وتقريباً ما من أحد أنكر نسخ التلاوة إلى احتج بها، ضم إليها ومعها أخوات لها أو لم يضم، لكن هذه الحُجة المحورية، ببساطة يفهمها العامي كما يفهمها العالم.

تعرفون – إخواني وأخواتي – أن القرآن العظيم لا يثبت ولم يثبت إلا بالتواتر، القرآن مُتواتِر، القرآن ليس حكاية روايات واحد عن واحد، ومُتواتِر طبقياً، رواه المئون من الناس، من أصحاب رسول الله، وعنهم الألوف – إن لم يكن عشرات الألوف -، وعن هؤلاء أضعاف أضعافهم، مُتواتِر طبقياً، يُتلى صباح مساء، بل في كل آن وفي كل أين، في كل مكان وفي كل زمان، ويُتلى في المحاريب وفي الصلوات ويُتعبَّد الله به، مُتواتِر! فالقرآنية – أحبتي – لا تثبت إلا بالتواتر، فكيف يسوغ للعلماء أن يدّعوا ولأصحاب الروايات هؤلاء أن يدّعوا أن قرآناً ما أُنزِل ثم نُسِخ بأحاديث آحاد؟! أحاديث آحاد!

أي بمعنى آخر وبصيغة بسيطة جداً جداً النسخ فرع ماذا؟ فرع ثبوت القرآنية، أي في البداية أثبت لي أن قرآناً نزل، وبعد ذلك سوف نبدأ نتكلَّم في النسخ، يقول لي أحدهم نعم، نزل قرآن! بماذا نزل؟ أبأحاديث آحاد؟ كيف أنا أُصدِّق أن هذا كان من القرآن وأنه كان قرآناً يُتلى بأحاديث آحاد والقرآنية لا تثبت إلا بالتوتر؟ هذا كلام فيه غلط وتجاوز منهجي فاضح وواضح – إخواني وأخواتي -، فعلينا أن نستحضر هذه الحُجة دائماً، وهي الحُجة المحورية في هذا الباب.

ولذلك – إخواني وأخواتي – كل مَن أنكر نسخ الأحكام في كتاب الله – تبارك وتعالى – بالضرورة هو مُنكِر لنسخ التلاوة، لا كلام في هذا! هناك علماء أنكروا هذا، وقد يسأل سائل وهل هناك من علماء الأمة مَن أنكر وجود النسخ في كتاب الله – بمعنى نسخ الحُكم مع بقاء التلاوة -؟ نعم، هناك جماعة يسيرة من العلماء أنكروا هذا، هؤلاء بالذات بالحري وبالضرورة أنهم يُنكِرون نسخ التلاوة، التلاوة مع الحُكم أو التلاوة دون الحُكم، ولا يُؤمِنون بهذا بتاتاً – إخواني وأخواتي -، والعكس طبعاً ليس موجوداً.

مِمَن أنكر نسخ التلاوة الإمام الجليل وشيخ أهل السُنة والجماعة في وقته أبو بكر الباقلاني – رحمة الله عليه – في كتابه الانتصار، وحكى عنه أيضاً عن هذا الإنكار الإمام الزركشي في كتابه البُرهان في علوم القرآن، واحتج بذات الحُجة، بالحُجة ذاتها! أن القرآنية لا تثبت إلا بالتواتر، وهذه أحاديث آحاد، فلا يُمكِن أن تُثبِت قرآنية هذا المُدّعى قرآنيته والمُدّعى بعد ذلك رفعه بالنسخ، حُكماً مع تلاوة أو تلاوة دون حُكم.

ومنهم أيضاً ابن ظفر الصقلي – رحمة الله عليه – صاحب كتاب الينبوع في التفسير، له كتاب اسمه الينبوع، لا يزال مخطوطاً، مُتوفى هذا الرجل سنة ثماني وستين وخمسمائة للهجرة، واحتج بالحُجة ذاتها، من المُعاصِرين العالم الأزهري الكبير الدكتور محمد محمد أبو شُهبة – رحمة الله تعالى عليه – أو أبو شَهبة، أنكر أيضاً نسخ التلاوة، الدكتور مُصطفى زيد في رسالته الأزهرية العظيمة عن النسخ في القرآن الكريم أنكر نسخ التلاوة دون الحُكم، لكنه – وهذا عجيب – وافق على وقوع نسخ التلاوة مع الحُكم، وأما نسخ الحُكم دون التلاوة فحصره في آيات قلائل منزورات، في ست آيات فقط، هذا موقف الدكتور العلّامة مُصطفى زيد، ومنهم أيضاً الشيخ المُحدِّث الكبير عبد الله بن الصدّيق الغُماري – رحمة الله تعالى عليه -، هذا أنكر نسخ التلاوة، وله كُتيب مُمتاز وماتع وفيه حُجج قوية، اسمه ذوق الحلاوة ببيان امتناع نسخ التلاوة.

نأتي الآن إلى مُنكِري نسخ الحُكم مع بقاء التلاوة، وإذا ذُكِر النسخ إنما يُراد به هذا، لأن المُطلَق يُحمَل على الكامل، إذا قلنا النسخ وهذا ناسخ وهذا منسوخ فسوف يُراد به نسخ ماذا؟ نسخ الحُكم مع بقاء التلاوة، الآيات تُتلى في كتاب الله، لكن أحكامها لا يُعمَل بها، أحكامها أُبطِلت أو أُلغيت أو رُفِعت، وهذه التعبيرات كلها عن مُعبَّر واحد وعن معنى واحد – إخواني وأخواتي -.

أولهم تقريباً كان عالماً مُفسِّراً من علماء ومُفسِّري المُعتزِلة، مشهود له برسوخ القدم في التفسير وطول الباع، وهو أبو مُسلِم محمد بن بحر الأصفهاني، وطبعاً بعض الناس حاول أن يغض منه، بالذات لأنه مُعتزِلي، وأنكر النسخ، لكن الإمام الفخر الرازي في التفسير الكبير يُعوِّل عليه كثيراً، وكثيراً ما يذكر آراءه ويستروح إليها، حتى أن أحد العلماء قد جمع آراء أبي مُسلِم الموجودة في تفسير الفخر وطبعها في مُجلَّد، على أنه تفسير أبي مُسلِم الأصفهاني، لكن تفسيره الأصلي يقع في أربعة عشر مُجلَّداً، للأسف يبدو أنه لم يصلنا، ويا ليته وصل!

على كل حال من المُعاصِرين مُفتي مصر في وقته الشيخ الإمام محمد عبده، وتأثَّر به كثيراً تَلميذه محمد رشيد رضا، وأيضاً من جُملة تَلاميذه ومن طبقة تَلاميذه العلّامة محمد الخضري بك في كتابه علم أصول الفقه، في كتاب أصول الفقه لمحمد الخضري بك أنكر أيضاً نسخ الأحكام، قال هذا غير موجود في كتاب الله – تبارك وتعالى -، وقد أحسن الشيخ الخضري بك جداً ما شاء حين أتى بإحدى وعشرين آية، زعم السيوطي أنها الآيات المنسوخات في كتاب الله – تبارك وتعالى -، مع أن السيوطي استثنى منهما اثنتين، اعتبرهما مُحكَمتين، وحصر المنسوخ في تسع عشرة آية، الشيخ العلّامة محمد الخضري بك في كتابه أصول الفقه أجاب عن هاته الآيات وبيَّن أنها مُحكَمة، يُمكِن ببساطة أن نُثبِت أنها مُحكَمة، لا داعٍ للقول بأنها منسوخة، وهكذا يُنتهى – بفضل الله تبارك وتعالى – إلى أن كل ما في كتاب الله من آي هن أو هي آيات مُحكَمات، والقرآن كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ ۩ – بفضل الله تبارك وتعالى -، فلماذا نقول إنها منسوخة؟! وهو أيضاً كتاب عزيز يا إخواني، لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۩، لا تُبطَل أحكامه، لا يُبطَل ما فيه.

وعلى كل حال منهم أيضاً الشيخ محمد الغزّالي، الشيخ الداعية الكبير بل شيخ الدُعاة في هذا العصر الشيخ محمد الغزّالي في كتابه نظرات في القرآن الكريم كتب فصلاً في هذا الباب، وأثبت فيه عدم وقوع النسخ في كتاب الله – تبارك وتعالى – على طريقته وبحسب ما يحتمله باب في كتاب مُتوسِّط، منهم أيضاً الباحث الشيخ عبد المتعال الجبري، وهذا الشيخ – جزاه الله خيراً – له سلسلة كاملة في موضوع الناسخ والمنسوخ، لا نسخ في القرآن، سلسلة كاملة! تقريباً أربعة أجزاء، ومنهم أيضاً العالم الأزهري أحمد حجازي السقا، رحمة الله على الجميع، وجزاهم عن كتابه الكريم خير الجزاء، وغيرهم! لكن هؤلاء نُبلاء العلماء الذين أنكروا النسخ.

في المُقابِل – إخواني وأخواتي – هناك علماء قالوا بالنسخ، ولكنهم اقتصدوا جداً، فجزاهم الله خيراً، أي هؤلاء أخف قليلاً من الذين بالغوا وأُولِعوا بادّعاء النسخ في المئين من آيات كتاب الله العزيز الأغر، لا! قالوا النسخ موجود، ولكن باقتصاد، هناك آيات قليلة، واختلفوا، فمنهم – مثلاً – وهو أقلهم تقريباً الشيخ محمد سعد جلال – رحمة الله تعالى عليه -، هذا عالم مصري كان شهيراً في وقته، حصر الآيات المنسوخات فقط أو عدد الآيات المنسوخات بأربع آيات، قال فقط النسخ وقع في أربع آيات، لا يزيد على ذلك.

منهم شاه ولي الله الدهلوي – رحمة الله تعالى عليه -، هذا شيخ الإسلام في عصره، ويُقال مُجدِّد الإسلام في القرن الثاني عشر الهجري، العلّامة أحمد بن عبد الرحيم، المعروف بشاه ولي الله الدهلوي، صاحب الكتاب العجيب الذي لم يُنسَج على منواله مثله حُجة الله البالغة، وله عشرات الكُتب في علوم الشريعة المُختلِفة، وهو الذي أحيا سُنة التحديث والإسناد في الديار الهندية، مُتوفى سنة ست وسبعين وألف ومائة للهجرة.

شاه ولي الله الدهلوي قال الآيات المنسوخات خمس آيات فقط، خمس آيات فقط! ومثله أيضاً الشيخ الأزهري عليّ حسن العريض، له كتاب في الناسخ والمنسوخ، قال هن خمس آيات، العلّامة مُصطفى زيد – العلّامة الأزهري الكبير – في رسالته للدكتوراة أو أطروحته للدكتوراة قال الآيات المنسوخات ست آيات، ست آيات! وربما – إن شاء الله – إن اتسع الوقت نختم الحلقة بالقول فيهن، أي في هذه الحلقة – إن شاء الله تعالى -.

محمد عبد العظيم الزرقاني – رحمة الله عليه -، صاحب مناهل العرفان في علوم القرآن، وهو كتاب جامع وجيد في علوم القرآن، ادّعى أن الآيات المنسوخات سبع آيات، وعلى ما أذكر ولكن لست الآن مُوقِناً العلّامة أيضاً محمد أبو زُهرة كأنه جعلهن سبع أو ثماني آيات، لم أُراجِع هذا.

العلّامة اللبناني الشهيد صبحي الصالح – عالم كبير مُتفنِّن، رحمة الله تعالى عليه – قال الآيات المنسوخات عشر آيات، شيخ الإسلام، الحافظ، الفقيه، والأصولي الكبير جلال الدين السيوطي حصر في الإتقان الآيات المنسوخات – أي عددهن – في تسع عشر آية، في البداية هو ذكر إحدى وعشرين آية – كما قلت لكم -، ثم استثنى اثنتين، فقال يبقى المنسوخ فقط محصوراً في تسع عشرة آية.

أيها الإخوة:

القائلون بالنسخ أو بوقوع النسخ في كتاب الله – تبارك وتعالى – لهم مُبالَغات ولهم تفنن في ادّعاء وزعم النسخ يُثير العجب والاستغراب، حتى أنه جرهم ولوعهم بالقول بالنسخ إلى أن ادّعوا النسخ في أشياء لا تقبل النسخ بطبيعتها، آيات في كتاب الله بطبيعتها ما ينبغي أصلاً أن تقبل النسخ، لكن – سُبحان الله – كأنهم غفلوا، نسوا أنفسهم، وهم يُمارِسون مُتعتهم في ادّعاء النسخ، هذا ناسخ وهذا منسوخ وهذا منسوخ وهذا منسوخ! شيئ غريب.

فمن مُبالَغاتهم أنهم عدوا من المنسوخ ما نسخه كتاب الله وشرع الله من عادات الجاهلية ومن تقاليدها ومواريثها، لكن ما علاقة هذا؟ هذا لا يدخل أصلاً في تعريف الناسخ والمنسوخ ولا يدخل في تعريف في التنسيخ، قالوا لك هذا من المنسوخ، هذه الآية ناسخة، نسخت كذا وكذا، وهذا ليست صحيحاً أبداً، هذا لا علاقة له بالناسخ والمنسوخ كما عرَّفناه، مثلاً كتحريم نساء الآباء، وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ ۩… قالوا هذه ناسخة، نسخت كذا وكذا من عادات الجاهلية، لكن هذا ليس النسخ الشرعي.

أيضاً عدوا تحديد الطلاق من النسخ، الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ۩… فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ۩… إذن الطلقات كلها ثلاث طلقات، فما معنى الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ۩؟ أي الطلاق الذي يملك المُطلِّق مع الرجعة، الطلاق الرجعي مرتان، يملك طلقتين، أي الحر يملك طلقتين رجعيتين، أما الثالثة فتبين منه، فتبين منه ولا يملك معها الرجعة، ولا يملك معها حق الرجعة! فقالوا هذه الأحكام في سورة البقرة نسخت ما كان يتعاطاه أهل الجاهلية من عدم الوقوف في الطلاق أو التطليق عند عدد، عجيب! قالوا هذا أيضاً من النسخ، وكذلك تشريع الدية، وتشريع القصاص، قالوا هذا من النواسخ، غريب جداً.

أيضاً يجري في هذا المجرى عدهم ما نسخ الله – تبارك وتعالى – في كتابه من الأحكام الواردة في شرائع الإسرائيليين، أي في شرائع بني إسرائيل، قالوا هذا من الناسخ، هذا ناسخ وهذا منسوخ، لكن هذا ليس النسخ الشرعي، ليس النسخ الشرعي كما عرَّفناه لكم! مثلاً كإباحة بعض المطعومات التي كانت حُرِّمت عليهم جزاء ما اقترفت أيديهم، شدَّد الله – تبارك وتعالى – عليهم، فحرَّهم عليهم أنواعاً من المطعومات، ثم عاد فأباحاها لنا في كتابه العزيز، قالوا هذا من الناسخ!

أيضاً من مُبالَغاتهم التي تستثير العجب – كما قلت لكم إخواني وأخواتي – أنهم يعمدون إلى الآية، الآية الواحدة من كتاب الله، الآية الجليلة المُتسِقة المُلتئمة بالسياق، فيُقطِّعون أوصالها، ويدّعون – مثلاً – أن آخرها نسخ أولها، وهي آية! وحتماً نزلت جُملة واحدة، مرة واحدة، يدّعون أنها منسوخة ببعضها، بعضها نسخ بعضاً، وهذا من أغرب ما يكون يا إخواني، هناك آية في سورة المائدة تقول يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ۩… إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ۩ هي الناسخة، نسخت، عجيب! والأول منسوخ، كيف هذا؟ كيف نسخوا أول الآية بكلمة في آخرها وهي آية واحدة ونزلت مرة واحدة مع أنهم عرَّفوا النسخ بأنه رفع حُكم شرعي بدليل شرعي مُتأخِّر عنه؟ لابد أن يكون تأخر عنه، فهذا من أعجب العجب يا إخواني.

أيضاً أبو بكر بن العربي – القاضي المالكي والعلّامة الكبير المُتفنِّن، مع أنه بشكل عام طبعاً مُقتصِد إلى حد ما في القول بالنسخ، وقد رد في عشرات المواضع على دعاوى نسخ كثيرة، جزاه الله خيراً، ولكنه ليس مُقتصِداً كالذين ذكرنا طبعاً، وله كتاب مشهور ومطبوع في الناسخ والمنسوخ – أتى إلى قول الله – تبارك وتعالى – في الأعراف خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ۩، فقال خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ۩ ثلاث تعبيرات أو ثلاث جُمل قصيرة، أوسطها مُحكَم، وأولها وآخرها منسوخ، غريب جداً! أي خُذِ الْعَفْوَ ۩ منسوخ، وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ۩ منسوخ، وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ۩ مُحكَم، هل تعرفون لماذا؟ أي هنا يثور سؤال، لماذا ذهب هذا الإمام المُتفنِّن والعلّامة الجليل إلى هذا القول؟ لأنه يعتقد بآية السيف، أنها نسخت آيات كثيرة من كتاب الله، فأينما وجد – ليس فقط ابن العربي، ابن العربي وأمثال ابن العربي، رضوان الله عليهم أجمعين – آية فيها أمر هكذا بالإعراض عن الجاهلين، بالعفو، بالصفح، بالمُحاسَنة، بالمُلاينة، بالمُسالَمة، وبالمغفرة، قال منسوخة، نسختها آية السيف، غريب جداً! أرادوا أن يُحوِّلوا الإسلام وبالتالي أن يُحوِّلوا العقلية الإسلامية والنفسية الإسلامية إلى نفسية كأنها تقريباً مُؤسَّسة على الحرب، على القتال، على الصدام، وعلى الصراع الدائب الدائم، حتى أنهم – وهذا من أبشع ما وقعوا فيه وأشنع ما أتوه – زعموا أن قوله – تبارك وتعالى – أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ۩ منسوخ، أستغفر الله العظيم، عجيب جداً يا أخي! الله – والله الذي لا إله إلا هو – هو أحكم الحاكمين أزلاً وأبداً، لا إله إلا هو! لماذا هي منسوخة؟ لا أدري، أنا تساءلت كثيراً، كيف يُدّعى أن قوله أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ۩ منسوخ؟ أهذه منسوخة؟ كيف يُدّعى هذا؟ ولماذا؟ ما الذي حملهم على إدعاء النسخ في هذه الآية الجليلة؟ تحكي صفة من صفات الله الثابتة أزلاً، أنه أحكم الحاكمين، كأنهم فهموا من طرف خفي أن هذه الآية تدعونا إلى أن نأخذ بمُقتضى الحكمة، وهذا اجتهاد مني، قد أكون مُخطئاً فيه، ومُقتضى الحكمة – فعلاً الحكمة تقضي بهذا – أن نُصالِح الناس وأن نُسالِم الناس ما صالحونا وما سالمونا، وأن نكف عن الناس، نكف أذانا عن الناس، وألا نتقدَّم إليهم إلا بخير، وأن… وأن… وأن… هذا مُقتضى الحكمة، قالوا لكم إذا هذا مُقتضى الحكمة فنعم هذه منسوخة، شيئ غريب جداً ومُخيف يا إخواني، يُوجَد نزوع هنا غير مفهوم، نزوع غير مفهوم!

حتى قول الله – تبارك وتعالى – وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ۩ قالوا منسوخ، عجيب! ماذا نقول للناس إذن؟ أنقول السوء؟ أنسب الناس ونبذأ عليهم؟ أنفحش على الناس؟ لماذا منسوخة؟ نسختها آية السيف، كأن المُسلِم لا يعرف إلا السيف، وطبعاً هذه الأفكار مُناسِبة جداً الآن لأفكار مَن يُدعون بالإرهابيين الإسلاميين، وفعلاً هناك بعض الإرهابيين، لا يعرف إلا منطق الرصاص ومنطق القتل، لا تُحدِّثه عن حوار، عن انفتاح، عن جدال بالتي هي أحسن، وعن قول الحُسن للناس، لا! لا يفهم هذا، يفهم فقط أنا وفقط، أنا وما أقوله، أنا وما أختاره، إن وافقتموني وإلا فهو الرصاص، المذبحة الحمراء، والمعركة الضروس، غير معقول! طبعاً مثل هذه الأفكار ومثل هذه المناهج في النسخ – وهذا منسوخ بآية السيف وهذا منسوخ بكذا – طبعاً يُساعِد على هذا كثيراً، يُؤسِّس لهكذا عقلية، ولذلك موضوع الناسخ والمنسوخ مُهِم جداً يا إخواني، ليس ترفاً أصولياً، ليس من باب الزائد، وليس من باب الفضول، مُهِم جداً! حتى ننجح في تأسيس عقلية وتأسيس مِزاج إسلامي يا إخواني يتحرَّك وينطلق من مُنطلَقات مُختلِفة ويتحرَّك في اتجاهات مُختلِفة أو في اتجاه مُختلِف عن هذا الاتجاه الأحمر والاتجاه الصراعي، وهو اتجاه كارثي، كارثي على الإسلام ومُستقبَله وصورته، وكارثي على أمة المُسلِمين، نسأل الله أن ينتشلنا من هذه الوهدة، وأن يشفينا من هذه العلة ومن هذا الداء.

على فكرة وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ۩ – أي حتى هذه معلومة هكذا على الهامش – يستحيل أن تكون منسوخة، ولو أجمعوا جميعاً من عند آخرهم على أنها منسوخة، هل تعرفون لماذا؟ لأنها حكاية، هي خبر حاكٍ، عن ماذا؟ عن الميثاق الذي أخذه الله على بني إسرائيل، أخذ منهم هذا الميثاق، وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ ۩، في سورة البقرة! هذه ليست آية من الآيات التي تشرع حُكماً لنا، هي آية حاكية، خبر يحكي عن الميثاق الذي واثق الله به بني إسرائيل، فكيف تقول لي هذا منسوخ؟ هي آية خبرية، والأخبار لا يدخلها النسخ، لكن الغفلة، كما قلت لكم هم يتصيَّدون أي موضع فيه ذكر مُسامَحة، مُلاينة، صفح، مغفرة، وسلام، ثم يقولون لكم هذا منسوخ، وهذه داهية ما لها من واهية!

كونوا معنا أحبتي، إخواني وأخواتي، بعد هذا الفاصل، بارك الله فيكم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم إخواني وأخواتي.

أيضاً – أيها الإخوة والأخوات – من تفننهم في ادّعاء وزعم منسوخية بعض الآيات في كتاب الله أنهم ربما ادّعوا النسخ في آية بآية أُخرى، ثم يدّعون بعد ذلك أن الآية الناسخة صارت بدورها منسوخة، فيعود الناسخ منسوخاً، وهذا من (البُدعة) كما نقول بالعامية، مثل قوله – تبارك وتعالى – لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ۩، قالوا نسخته آية السيف، وطبعاً آية السيف غير معروف بالضبط ما هي، أي غير معروف بالضبط هي أي آية من سورة التوبة، هل هي الآية الخامسة فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ  ۩… أم الآية التاسعة والعشرون وهي آية الجزية أم الآية السادسة والثلاثون أم… أم… ؟! المسألة فيها أربعة أقوال أو خمسة أقوال، آية السيف هكذا! على كل حال قالوا لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ۩ منسوخ بآية السيف فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ ۩… ثم قالوا وآية السيف هذه أو فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ ۩… منسوخة بالآية التاسعة والعشرين، أي آية الجزية حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ۩… لأن هذه لا منجاة فيها، هذه فيها قتل أو إسلام، تلك فيها منجاة وفتح باب جديد وهو الجزية، إذا دفع الجزية لا يُقتَل، ولا يُوجَد فيها إسلام، فقالوا هذه نسخت هذه، وهذا شيئ غريب – إخواني وأخواتي -، لماذا؟ لأن الآية الخامسة من سورة التوبة هي في المُشرِكين، وهؤلاء مُشرِكون حربيون، والآية التاسعة والعشرون في أهل الكتاب، وطبعاً والأرجح أنهم أهل كتاب أيضاً مُحارِبون، فكيف تنسخ هذه هذه؟ الموضوع غير مُتحِد، ولا تعارض بين الآيتين، وشرط القول بالنسخ وجود التعارض، هم يقولون هذا، هم شرطوه وقرَّروه ومهَّدوه، وجود التعارض الذي لا يُرفَع إلا بالمصير إلى القول بالنسخ، لكنهم قالوا هذا مع أن الموضوع غير مُتحِد، وهذا من مُبالَغاتهم!

ومن مُبالَغاتهم أيضاً – إخواني وأخواتي – أنهم يعدون ما دخله تخصيص، يعدونه منسوخاً، والأفضل أن يُقال هذا مخصوص، سواء خُصَّ بالاستثناء أو بالغاية، أي بالإ أو حتى أو كذا، يقولون هذا منسوخ، وهذا من المُبالَغات الغريبة – إخواني وأخواتي -، أي وَالْعَصْرِ ۩ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ۩ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا ۩… قالوا هذا نسخ هذا، وهذا غريب جداً، هذا ليس نسخاً، هذا استثناء، أي تخصيص، تخصيص بالاستثناء، ولكنهم يقولون هذا نسخ، يُحِبون تكثير المنسوخ في كتاب الله.

وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ۩ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ۩… إلى أن يقول – تبارك وتعالى – إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ ۩… قالوا هذه نسخت، مع أنه استثناء، هذا ليس نسخاً، هذا استثناء، وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ۩، استثناء هذا بالغاية، حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ۩، قالوا هذا نسخ هذا، وهو تخصيص وليس استثناءً، ولذلك كانوا يتورَّطون في ورطات ليس لها مخرج، من ذلكم ما يذكره العلماء المُؤرِّخون وأصحاب التراجم من حكاية هبة الله بن سلام المصري الضرير – رحمة الله عليه -، المُتوفى على ما أذكر سنة أربعمائة وعشر للهجرة، عنده كتاب وهو كتاب مُتوسِّط في الناسخ والمنسوخ، والرجل كان مُبالِغاً في ادّعاء منسوخية آيات كثيرة.

المُهِم كان يُقرأ عليه كتابه – أي على هبة الله بن سلامة الضرير، مرةً كان يُقرأ عليه كتابه ويسمع وهو ضرير – وابنته من خلف الستر تستمع، كانت طالبة علم نجيبة، حتى أتى القارئ على قول الله – تبارك وتعالى – وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ۩، فقال الشيخ في كتابه هذا منسوخ، منسوخ بماذا؟ منسوخ بآية السيف فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ ۩… لا يُوجَد أسير، الكل يُقتَل، حتى الأسرى! فتكلَّمت ابنته واعترضت من خلف الستر، قالت يا أبتِ قد أخطأت في هذا الموضع، قال أين يا بُنية؟ لماذا؟ وكيف؟ قالت قد أجمع المُسلِمون على أن الأسير يُطعَم ولا يُقتَل، فقال أصبتِ يا بُنية، قالت له أنت لم تُصب، وهذه يا إخواني – هذه الحكاية بالذات – تُوضِّح لنا أنهم كانوا يدّعون منسوخية آيات بالاجتهاد، ليس لديهم شيئ يستند أو شيئ مُسنَد، قد يقول لي أحدكم وهل من المُمكِن إذن أن يُسنَد هذا إلى رسول الله؟ في الحقيقة ليس بين أيدينا حديث واحد خلا حديثاً ضعيفاً وحقه حتى ربما أن يكون موضوعاً، لأن فيه المُسيب بن شريك، وهذا الرجل أجمعوا على كذبه، قالوا كذّاب، وترك حديثه، أي أجمعوا على كذبه وترك حديثه، حديث رواه البيهقي عن الإمام عليّ، وفيه طبعاً – كما قلنا في سنده – المُسيب بن شريك، أن النبي قال نسخت الزكاة كل صدقة، ونسخ صوم رمضان كل صوم، ونسخ غُسل الجنابة كل غُسل، ونسخت الأُضحية كل ذبح، وهذا الحديث واضح أنه ليس حتى عليه فحولة النبوة، وفيه هذا الرجل الكذّاب، فيه هذا الرجل الذي أجمعوا على كذبه، فيما عدا وباستثناء هذا الحديث الكذب ليس بين أيدينا حديث واحد عن صاحب الرسالة المعصوم – عليه الصلاة وأفضل السلام – يقول فيه هذه الآية منسوخة أو هذه ناسخة لتلك، أبداً! وهذا شيئ غريب.

قد يقول لي أحدكم كيف يُوجَد هذا الأصل الكبير – أصل مُؤصَّل في الدين، ناسخ ومنسوخ وآيات منسوخة وآيات ناسخة – والنبي لم يتحدَّث مرة من الدهر بهذا المُصطلَح وبهذا اللفظ ولم يُفِد أن هذا منسوخ بهذا وأن هذا ناسخ لذاك؟ كيف؟! هذا يُثير بلا شك تساؤلات، يُثير تساؤلات! قد يُقال الصحابة قالوا هذا، الآثار عن الصحابة كثيرة في أن هذا منسوخ وهذا منسوخ وهذا منسوخ، صحيح الصحابة عنهم آثار كثيرة، لكن انتبهوا، وهذا نبَّه عليه بعد أن تنبَّه إليه جُملة من نُبلاء العلماء المُحقِّقين الكبار، مثل الإمام ابن قيم الجوزية – رحمة الله عليه – وأبي إسحاق الشاطبي والإمام الدهلوي الذي ذكرته اليوم وغير هؤلاء، نبَّهوا إلى وعلى أن الصحابة كانوا يستخدمون النسخ كثيراً جداً بمعنى التخصيص، تخصيص العام، وبمعنى تقييد المُطلَق، وهذا مروي عن جماعات منهم، عن ابن عباس وعن أبي سعيد وعن غيره، يقول فنسخ من ذلك ما شاء وخص، يعتبر الاستثناء نسخاً، أي يعتبر التخصيص نسخاً، وهذا ليس نسخاً، مثلاً مثل آية الشعراء، وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ۩، إلى أن قال إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ۩، قال ابن عباس فنسخ من ذلك ما شاء وخص، لكن هذا ليس نسخاً، هذا تخصيص، يُطلِقون على التخصيص نسخاً، وهذا ليس النسخ الذي تعارفه علماء أصول الفقه فيما بعد، والذي عرَّفوه بأنه رفع حُكم شرعي بدليل شرعي مُتأخِّر.

قال الله وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ۩، فقال لكم هذه منسوخة، منسوخة بماذا؟ منسوخة – قال لك – بآية إيجاب الزكاة، أي خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ۩… كيف هي منسوخة؟ أصلاً آيات الإنفاق في كتاب الله – تبارك وتعالى – يا إخواني موجودة في المكي قبل المدني، هذه الآيات يتسع صدرها أو تتسع صدورها لآية الزكاة المفروضة، بلا شك الزكاة المفروضة نوع من النفقة، لكنها مفروضة، فيما عدا هذه الزكاة المفروضة النفقات كالإضافة وقرى الضيف والإعانة في النوائب – وفي المال حق سوى الزكاة – تبقى على ماذا؟ تبقى على أصل الندب والاستحباب والحث عليها والبعث عليها، هذا هو! لماذا يُقال إنها منسوخة؟ قال لكم منسوخة، شيئ غريب جداً، شيئ من أغرب ما يكون!

ذكر الإمام أبو بكر بن العربي وذكرته اليوم مرة أو مرتين، ذكر أنهم نسخوا بآية السيف وحدها مائة وثلاث عشرة آية، تخيَّلوا هذا إذن، نسخوا بآية لم يتفقوا عليها ولم يُحدِّدوها بالضبط – أهي الآية الخامسة أو الآية التاسعة والعشرون أو… أو… من سورة التوبة؟ -، نسخوا بها مائة وثلاث عشرة آية، وكما سمعتم أينما وجدوا آية فيها أمر بصفح أو بمُسالَمة أو بعفو أو بمغفرة أو كف قالوا منسوخة، أو حتى بإحسان! قالوا نسختها آية السيف، نسختها آية السيف، فلله در هذه الآية الناسخة التي عطَّلت المئين من كلام الله – تبارك وتعالى -.

إخواني وأخواتي:

هم يحتجون على وقوع النسخ في كتاب الله – تبارك وتعالى – زعموا بأدلة من كتاب الله، وهذا ليس صحيحاً أبداً، بحيث لا يسوغ لأحد بعد ذلك أن يتكلَّم، قالوا لكم الله – عز وجل – هو الذي قال القرآن فيه نسخ، كيف تُنكِرون؟ وكيف تجترئون؟ لكن أين قال الله ذلك؟ قالوا في آية النسخ في سورة البقرة، قال – تبارك وتعالى – مَا نَنسَخْ ۩… وهذه طبعاً جُملة شرطية، هذه جُملة شرطية وليست جُملة نافية، لم يقل ما ننسخُ، قال  مَا نَنسَخْ ۩، قال مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۩، هذه الآية المفتاحية التي يتكئون عليها ويستندون إليها في الاستدلال على وقوع النسخ في كتاب الله – تبارك وتعالى -، وفي الحقيقة هذه الآية ليست ظاهرة فيما ذهبوا إليه أبداً، أي هل هي ليست نصاً؟ قطعاً ليست نصاً، وحتى ولا ظاهرة فيما ذهبوا إليه، لماذا؟ سنشرح هذا بنحو من التبسيط حتى يضح الكلام ويضح المعنى.

الله – تبارك وتعالى – يقول مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ ۩… الآية في كتاب الله وردت على النحو الآتي، وطبعاً الآية في الأصل اللُغوي أو في أصل الوضع اللُغوي ما هي؟ العلامة والدليل، وطبعاً كل علامة على مُعلَّم وكل دليل على مدلول، له مدلوله، هذا في أصل اللُغة، في كتاب الله – تبارك وتعالى – وردت الآيات بثلاثة معانٍ، المعنى الأول الآيات التكوينية أو الكونية، الآيات التكوينية أو الكونية! وسُميت بالآيات لدلالتها على مُنشئها وخالقها – لا إله إلا هو -، تدل على الله، قال – تبارك وتعالى – وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ ۩… قال آيَاتٌ ۩، وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ ۩ وَفِي أَنفُسِكُمْ – أي آيات – أَفَلَا تُبْصِرُونَ ۩، إذن آيات آفاقية وآيات أُنفسية، آيات آفاقية عُلوية وآيات أنفسية سُفلية، في السماوات وفي الأرض! إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۩، قال لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۩، آيات! هذه آيات تكوينية، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ ۩ في الروم، قال وَمِنْ آيَاتِهِ ۩، هذه الآيات التكوينية، الآيات القدرية، الآيات الخلقية، وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا ۩… هذه من آيات الله، وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۩… وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ۩… وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا ۩… كلها آيات! هذه الآيات ماذا؟ الكونية، الآيات الطبيعية، كما قلنا في عالم الخليقة وعالم الفليقة، في النباتات وفي الحيوانات، في السماوات وفي الأرضين، في الأرضين وفي الآداميين، وهكذا! هذه آيات، بلا شك هذه آيات.

وهناك الآيات بمعنى ماذا؟ بمعنى معاجز الأنبياء التي أوتوها من لدن الله ومن قِبل الله – تبارك وتعالى – تأييداً لهم في دعواهم النبوة والرسالة، هذه اسمها آيات، وواضح أن القرآن الكريم ملآن منها، ملآن بذكر هذه الآيات! وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ ۩…  أي آيات؟ آيات الأنبياء، معاجز الأنبياء، خوارق الأنبياء، وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً ۩… أي آية مُبصِرة، فناقة صالح هذه آية، مُعجِزة طبعاً، مُعجِزة لصالح، وهي واضحة، مُبْصِرَةً ۩، لا يغبى ولا يعمى عنها إلا أعمى البصر والبصيرة، هذا معنى مُبْصِرَةً ۩، قال فَظَلَمُوا بِهَا ۩… إلى آخره، نعم!

فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ ۩… موسى أُرسِل فِي تِسْعِ آيَاتٍ ۩، أيَّده الله بتسع آيات، لماذا تسع آيات؟! كانت تكفي آية العصا تنقلب حية أو أية اليد تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ۩… أي من غير برص وبهق، لماذا فِي تِسْعِ آيَاتٍ ۩؟ لأن عادة الكفّار – أيها الإخوة والأخوات – معروفة، هذه عادتهم، تحكي طبيعتهم الجحود، عادتهم في الكفر والمُكابَرة والمُجاحَدة كانت تُملي عليهم التفنن في طلب الآيات واقتراح الآيات، كلما آتاهم أو جاءهم النبي أو الرسول بآية طلبوا غيرها، ولهذا كفروا بها، هذا من كفرهم بالآيات، ولذلك قال – تبارك وتعالى – بعد آية النسخ ماذا؟ عقبها بقوله ماذا؟ أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ ۩… مَن الذي سأله؟ قومان، فرعون وقومه سألوا مزيداً من الآيات، هات المزيد، هات المزيد! وأيضاً بنو إسرائيل، حتى أنهم تجاسروا إلى حيث ذهبوا إلى سؤاله ماذا؟ أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً ۩… أستغفر الله العظيم، لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ۩… – والعياذ بالله -، فقومه من بني إسرائيل تفننوا في اقتراح الآيات، وفرعون أيضاً وملأه تفننوا في اقتراح الآيات، فالله – تبارك وتعالى – يُخاطِب هذه الأمة المرحومة، يقول أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ۩، لأن هذا من باب ومن قبيل الكفر بالآيات والتكذيب بالآيات.

فِي تِسْعِ آيَاتٍ ۩، إذن فهمنا لماذا هن أكثر من آية، وآيات الأنبياء كثيرة جداً جداً، لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ ۩… يقترحون على محمد أن يأتي بآية، وهذه ليست آية قرآنية طبعاً، آية ماذا؟ معاجزية، آية خوارقية، يُريدون مُعجِزة، يُريدون مُعجِزة منه – عليه الصلاة وأفضل السلام -، في سورة الإسراء مُقترَحات كثيرة، مُقترَحات كثيرة! هذا أو هذا أو هذا أو هذا، قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا ۩، هذه الآيات بالمعنى الثاني!

وأخيراً – وكلكم تعرفون هذا أو تعلمون هذا – الآيات بمعنى الآيات القرآنية، قطعة من السورة، قطعة من السورة لها مطلع ولها مقطع، لها مطلع ولها مقطع أي لها بداية ولها نهاية، تُسمى آية، طبعاً وواضح لماذا سماها الله – تبارك وتعالى – آية، يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ ۩… أي الآيات التي تُتلى، وهي آيات القرآن الكريم، الآيات التشريعية، أو الآيات الوحيانية، أي آيات الوحي، الآيات الوحيانية! كل آية – كما قلنا – سُميت بذلك لماذا؟ لأنها دلالة على صدق محمد، تأييد له، أي موسى أُيِّد بآياته التسع، وعيسى أُيِّد بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى وإخبارهم بما يأكلون ويدخرون في بيوتهم، إلى آخره! محمد أُيِّد بماذا؟ أُيِّد بآيات القرآن العظيم – إخواني وأخواتي -، هذا هو! فهي آيات، دلالة أيضاً، كما تدل الآيات الكونية على عظم الله وجلاله وقدرته وبديع صنعته، وكما تدل معاجز الأنبياء على صدقهم في دعوى النبوة والرسالة، دلت آيات القرآن الكريم على صدق محمد في دعوى النبوة والرسالة، فسُميت آيات، هذا هو!

ويُشير إليه بل يُصرِّح به الصادق الأبر المعصوم – عليه السلام – بقوله ما من نبي من الأنبياء قبلي إلا أوتي من الآيات… إذن ما المقصود بالآيات الآن؟ ليست التشريعية، وإنما المعاجز والخوارق، مثل العصا والحية وإبراء الأكمه والأبرص، يقول إلا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً… يقول أنا آيتي ليست آية خوارقية وليست آية معاجزية، آيتي ماذا؟ آيتي آيات متلوة، هي أدل على صدق دعواي، وأجدى على الناس في شأن الإيمان، يقول وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلىّ، وإني لأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة، إذن استخدم الآية بالمعنى الذي سمعتم وعرفتم الآن، جميل!

نعود الآن يا إخواني، إذن الله يقول مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۩… كلمة آيَةٍ ۩ هنا ليست بالضرورة أن تكون القطعة من القرآن الكريم، أي الآية القرآنية، يُمكِن أن تكون ماذا؟ آية النبي، أي المُعجِزة، مثل آية موسى أو آية عيسى، وهذا هو الأرجح، هل تعرفون لماذا؟ هذا الذي كشف النقاب عنه ونوَّره المُفتي الإمام محمد عبده – جزاه الله خير الجزاء – بطريقة ولا أروع، فعودوا إلى تفسيره واقرأوا بحثه الماتع.

الله يقول مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۩… التذييل كان بماذا؟ لو المُراد النسخ الذي يتحدَّث عنه العلماء – علماء أصول الفقه، أي نسخ الآيات التشريعية والآيات الوحيانية – أو لو كان النسخ هنا بهذا المعنى لناسب أن تُذيَّل الآية بماذا؟ بنحو ألم تعلم أن الله عليم حكيم، هكذا! لكن الآية ذُيِّلت بماذا؟ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۩، فدل ولفت إلى أن المقصود بالآية الخوارقية، مثل إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وفلق البحر والحية – أي العصا والحية – واليد، إلى آخره! هذه آيات خوارقية، والله يقول أنا قادر على ذلك، أنا الذي آتيت الأنبياء هؤلاء الآيات وقادر على أن محمداً بنحوها وبأقوى منها وبأبلغ منها، فأنا قادر على كل شيئ.

انتبهوا إذن واتلوا الآية التي تليها وعقَّبتها، أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۩ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ۩ أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ ۩… وكما قلت لكم موسى لم يُسأل مرة آية تشريعية، بالعكس! هم كانوا لا يُحِبون هاته التشريعات والأحكام والإلزامات، لذلك رفع فوقهم الطور، وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ ۩، لا يُحِبون! يتحللون ويتنصلون منها.

وأما المُقترَح فهو آيات معاجزية، آيات خوارقية، افعل لنا كذا، أرنا كذا، نُريد كذا، وهكذا! فإذن هنا الآيات ليست تشريعية، كل السياق الكريم يُؤكِّد أن الحديث عن آيات ماذا؟ خوارقية، ليس عن آيات تشريعية، ليس عن آيات الوحي يا إخواني، هذا هو! واضح جداً جداً هذا الأمر، أي مَن تلا اللآيات في سياقها وضح له الأمر على نحو لا يحتمل معه – بإذن الله تعالى – اللبس، هذا الصحيح، وهذا الذي يُعطيه التأمل في كتاب الله – تبارك وتعالى -.

وهناك أيضاً آية في سورة النحل، لكن للأسف يبدو أن الوقت بقيَ منه اليسير، نفس الشيئ! احتجوا بها، احتجوا بها على وقوع النسخ في آيات الله، وهي أضعف طبعاً، أي أضعف بكثير في الاحتجاج بها، وجه الاحتجاج به أضعف، وهي قول الله – تبارك وتعالى – في سورة النحل وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ۩، آية النحل المشهورة نفس الشيئ، وهذه الآية لا يُحتَج بها – إخواني وأخواتي -، لماذا؟ لأن النحل كما تعلمون مكية، صحيح أن من العلماء مَن قال كما سمعتم ربما في مُناسَبة أُخرى مثل جابر بن زيد وقتادة، قالوا النحل من الآية الحادية والأربعين إلى آخرها مدنية، قد يصح هذا الكلام، وقد يكون بعض الآيات مدنية والبعض الآخر مكية كما عليه جماعة، لكن على كل حال هذه الآية إذا قلنا إنها مكية ففي المرحلة المكية لم يقع هناك ناسخ ومنسوخ، لم يكن هذا موجوداً، لم تكن هناك تشريعات شُرِّعت في مكة ثم نُسِخت، فكيف يُحتَج بآية مكية على وقوع هذه الأشياء أو على وقوع النسخ في كتاب الله – تبارك وتعالى -؟ فهذه الآية أضعف، وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ – أي مُفترٍ – بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ۩ قُلْ نَزَّلَهُ – في الآية التي بعدها – رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ ۩… إلى آخره! إذن وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ ۩… 

تعلمون أيها الإخوة أن – بفضل الله – مُعظَم المُفسِّرين قالوا هذا في آيات الأنبياء، وليس في آيات القرآن الكريم، وراجعوا التفاسير، وخاصة تفسير القرطبي، والسياق أيضاً يُعين عليه ولو من وجه، هذا في آيات الأنبياء وليس في الآيات التشريعية.

أيها الإخوة:

بقيَ القليل من الوقت، ولكن أُحِب أن أقول لكم هناك ست آيات هي أقوى الآيات التي يُمكِن أن يُدّعى فيها المنسوخية، أنهن آيات منسوخات، وهن الآيات التي رجَّح العلّامة الأزهري الكبير مُصطفى زيد أنهن آيات منسوخات، أنكر النسخ في سائر القرآن الكريم، إلا باستثناء هاته الآيات الست.

أيها الإخوة:

من النافع جداً والجيد أن نعلم أن هؤلاء الآيات الست يُمكِن أيضاً إثبات مُحكَميتهن، أنهن مُحكَمات، غير منسوخات، كيف يا إخواني؟

من هاته الآيات أو أولى هاته الآيات آية المُناجاة، آية المُناجاة في سورة المُجادَلة، يُسمونها المُناجاة، أي آية المُناجاة، الله – تبارك وتعالى – قال يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَٰلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ۩ أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا ۩… إلى آخر الآية! قالوا هذه من الآيات المنسوخة، لا! العلماء أنفسهم اختلفوا، وبين قوسين – إخواني وأخواتي – أقول (ما من آية ادّعى فيها عالم أنها منسوخة إلا ووُجِد من العلماء مَن قال إنها مُحكَمة وبيَّن مُحكَميتها، ولذلك المسألة سهلة، يُمكِن لببساطة لمَن يرفض النسخ أو يُقلِّل حتى حدود المنسوخ في كتاب الله أن يستعين بهذه الطريقة، لأنه ما من آية ادُّعي فيها النسخ إلا ادُّعيَ فيها الإحكام – بفضل الله تبارك وتعالى -، فيُمكِن أن تُجيب عن كل ما ادُّعيَ فيه النسخ في كتاب الله بأنه مُحكَم من خلال هذه الطريقة).

للأسف الوقت أدركنا، لكن نُجيب بسرعة – إن شاء الله – ربما في دقيقتين أو في ثلاث دقائق، هذه الآية اختلف العلماء فيها، فمنهم مَن قال هي أصلاً لا تُحتِّم عليهم أن يُقدِّموا الصدقة بين يدي رسول الله، بل هي تندبهم إلى ذلك، تحثهم! ولذلك في نفس الآية – ليس في الآية التي بعدها والتي قيل إنها نسختها، أي أَأَشْفَقْتُمْ ۩… لا! ليس في آية الإشفاق، وإنما في نفس الآية – فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ۩، وواضح أنها تنبدهم، ابن كثير – رحمة الله عليه – في تفسيره ذهب هذا المذهب، قال هذا محمول على الندب، ولذلك ليست منسوخة.

أحسن من هذا قول أبي مُسلِم الأصفهاني وأيضاً ومَن ذهب مذهبه، قالوا هذه الآية زال حُكمها بزوال السبب، لأن الله – تبارك وتعالى – ما أمرهم بتقديم الصدقة بين يدي مُناجاتهم لرسول الله إلا لماذا؟ إلا لغرض، فلما تحقَّق هذا الغرض انتهى الأمر، لم يعد ثمة داعٍ إلى تقديم الصدقة، ما هو الغرض؟ الغرض أن يكف البطّالين منهم عن مُناجاة رسول الله بالباطل، وهو يعلم أنهم مُتبطِّلون، ولذلك هم كفوا، ما عادوا إلى المُناجاة، إذا المسألة فيها تكليف وأموال وصدقات فلا نُريد أن نُناجي، فتحقَّق الغرض، إذن هذا ليس من باب المنسوخ، ليس من باب المنسوخ وإنما من باب ما زال بزوال سببه، ما زال بزوال سببه وليس من باب المنسوخ.

على كل حال هناك أيضاً آية أُخرى، آية أُخرى ادّعوا فيها المنسوخية، وهي آية الجهاد في سورة الأنفال، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۩… إلى آخر الآيات! الوقت ضيق، على كل حال قالوا منسوخة، هذه الآية أوجبت على المُؤمِنين أن يصبر الفرد منهم لعشرة من الكفّار، يجب أن يثبت في وجه عشرة، ثم الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ۩، قالوا نسخها بآية التخفيف، فصار لزاماً على المُقاتِل المُسلِم أن يصبر وأن يُكامِع اثنين، مثليه، ضعفيه! 

في الحقيقة أيضاً هذه الآية يُمكِن أن يُيبَّن ببساطة أنها ليست منسوخة، لماذا؟ هذه من باب وهذه من باب آخرـ هذه لها مجالها وهذه لها مجالها، وبكلمة واحدة هذه عزيمة وهذه رُخصة، هذه عزيمة وهذه رُخصة! في حال العزيمة يجب أن يصمد المُؤمِن لعشرة، في حال الرُخصة لاثنين، لوجود الضعف، وخاصة أنها مُعلَّلة، بماذا؟ بالضعف، وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ۩، فإذا قلنا إن الرُخصة نسخ للعزيمة جاز أن نقول هنا إن هذه نسخت هذه، لكن ما من أحد يقول إن الرُخص تنسخ العزائم، لا! الرُخص لا تنسخ العزائم، فالعزيمة تعمل بشرطها في سياقها وظرفها، والرُخصة تعمل في سياقها وظرفها.

بقيت أربع آيات، لكن للأسف أدركنا الوقت، وإلا كنا بيَّنا فيها قولاً مثل هذا القول.

إلى أن ألقاكم في حلقة أُخرى أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: