إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا وعَظِيمَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات:

لا شك أن قطاعاً غير يسير من المسلمين والمسلمات في عصرنا هذا يعيش أزمةً في تصوره لطبيعة العلاقة بينه وبين العالم، بينه وبين الآخر، بينه وبين هذه الدنيا الوسيعة العريضة، ولا نود أن نخوض في تفاصيل هذه الجُملة فيطول أو يستطيل بنا الحديث، ثم لا ريب أن لهذه النظرة ولهذا التصور جذوراً في تفكيرنا الفقهي وفي منظومتنا الفقهية، هذه الجذور التي قد تجد مُبرِّراتها في زمنٍ أو في أزمانٍ خلت ولكن ما كان ينبغي أن تجد كثيراً من مُبرِّراتها في هذه الأزمان – مثلاً – التي استبحرت فيها الحريات وتحقَّق فيها قدرٌ غير قليل من استقلال الشعوب والأمم ومن التواصل المعرفي والرسالي والفكري بين الشعوب والأمم المُختلِفة .

ما أود أن أقوله باختصار هو أن النظرة الفقهية القديمة إلى طبيعة هذه العلاقة التي تحكم ما بين المسلمين وبين غيرهم تجسدت في آراء فقهية ثلاثة – إن جاز التعبير – حيث أن الرأي الأول هو رأي جماهير العلماء، والتحقيق أنه رأي جماهير العلماء ليس رأي طائفة قليلة كما ذهب بعض العلماء الأفاضل كالعلَّامة الشيخ أبي زُهرة – رحمة الله عليه – وأخطأ في هذا،فرأي الجمهور وليس رأي الأقلية أن الأصل في علاقتنا بالعالم الحرب والقتال، فالحالة الأصلية هى الحرب والحالة الطارئة هى السلم، ومن ثم نحن مأمورون أن نشن حرباً مفتوحة ودائمة على العالم المُخالِف لنا في الدين ، إلا أن يُسلِموا أو يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ۩ أي مع الصغار وإلا فلا يبقى إلا السيف، وهناك رأي لقلة قليلة من العلماء القدماء التقليديين كالسفيان الثوري والإمام الأوزاعي – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين – أن الأصل هو السلم و السلام، وأن الحرب هى الحالة الطارئة، وثمة رأيٌ ثالث يُنسَب إلى الإمام الأعظم أبي حنيفة – رحمة الله تعالى عليه رحمةً واسعة – وإلى بعض أئمة الزيدية، هذا الرأي يرى أو يذهب إلى أن المسألة على نحوٍ مُختلِف فيحتاج إلى نوع من التفصيل، ولكن كيف؟!

يقولون إذا كان بين دولة الإسلام وبين الدول الأخرى غير المسلمة بحارٌ أو صحارى ومفاوز شاسعة وواسعة فالأصل السلم، أما إن كانت مُتاخِمة لنا وتحدنا مُباشَرةً فالأصل الحرب، علماً بأنه قل مَن ذكر هذا الرأي الثالث فمُعظم المصادر على الإطلاق تكتفي بالرأيين، ولكن هذا رأيٌ ثالث موجود وهو وجيه وله اعتباره أيضاً.

طبعاً على هذه الآراء وخاصة الرأي الأول يتغذَّى كثيرون من شبابنا ويتغذَّى كثيرون من فقهائنا ومن أبنائنا ومن بناتنا ومن علمائنا، وهذا بلا شك يُورِث نظرةً كئيبة ونظرةً قلقلة مُستوفِزة مُتوتِرة للعالم أو للآخر، يُورِث مُشكِلة في التكيف مع عالمنا، مع الآخرين المُشارِكين لنا في هذا العالم.

تختلف الأديان كما تختلف العروق واللغات والسمات والشيات ولكن السماءُ واحدة، ومن هنا لابد أن نبحث أيضاً عن ما نتعايش به، عن الجوامع المُشترَكة وليس القواسم الفارقة، ولكن احتج هؤلاء بجُملة أدلة نُعرِّج على أشهرها وأظهرها طلباً للاختصار والإيجاز وهى آية السيف وهى الآية الخامسة من سورة براءة – التوبة – في الأرجح، وقيل بل هى الآية التاسعة والعشرون، وقيل بل هى الآية السادسة والثلاثون من سورة التوبة ذاتها، لكن كل هذه الآيات تفتح ناراً وتفتح حرباً مُستدامة على غير المسلمين سواءٌ أكانوا من المُشرِكين أم من أهل الكتاب، لأن الآية التاسعة والعشرين تتحدَّث عن وجوب وانبغاء قتال أهل الكتاب حيث تقول قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ – والأرجح أن “مِنَ” هنا بيانية لاعتبارات نحوية – حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ۩، أما الآية الخامسة وهى الأقوى – كما قلت – والأرجح في تعيين آية السيف تتمثَّل في قوله تبارك وتعالى فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ ۩أما الآية السادسة والثلاثون فتقول إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ۩، ومن هنا قالوا أن الآية واضحة وتقول “قاتلوا كل المُشرِكين، مُشرِكي العرب وغير مُشرِكي العرب”، ولكن ولابد أن نُعرِّج على عجل على جواب مَن يُمكِن أن نُسميهم السلميين لأننا يُمكِن أن ندعو الفريق الأول بالحربيين، فهناك علماء وفقهاء يتبنون أولوية وأصالة – علماً بأننا نتحدَّث عن الأصل في العلاقة وهذا ما يُعرَف بالأصالة – الحرب في تنظيم العلاقات الدولية، في تنظيم السياسة الخارجية بين الدولة المسلمة والدول المُخالِفة في الديانة، فيقولون هذه سياستنا الخارجية، لكن لابد أن أقول حتى لا أذهل أن هذا الرأي وإن كان رأي الجماهير إلا إنه لم يعد يحظى في عصرنا هذا بتأييد، وربما – إن شاء الله – إن اتسع المقام أُعرِّج على هذا حتى لا يُجتزأ بشيئ من كلامي ويُتخَذ أيضاً حُجة ضد الإسلام كما يفعل المُغرِضون الذين في قلوبهم مرض فكما يقولون الغرض مرض، لكن ما أُحِب أن أقوله هو أن هذا الرأي وإن كان رأي الجماهير في السابق إلا إنه لم يعد يحظى على مُستوى كبار العلماء المُجدِّدين والمُصلِحين في عصرنا هذا بتأييد، أبو الأعلى المودودي حربي ومن ثم هو مع هذا الرأي وكذلك سيد قطب – رحمة الله عليهما – مع هذا الرأي، العلَّامة الفقيه العراقي عبد الكريم زيدان مع هذا الرأي، مجيد خدوري العراقي مع هذا الرأي ومحمد نعيم ياسين – أستاذ إسلامي أردني – مع هذا الرأي، محمد خير هيكل – صاحب موسوعة الجهاد والقتال في السياسة الشرعية – مع هذا الرأي مع تفريق بسيط هو أشبه بالتلفيق، إذن هناك قلة تتبنى هذا الرأي لكن على كل حال مُعظم علمائنا المُعاصِرين ليسوا مع هذا الرأي، فالشيخ الإمام المُجدِّد محمد عبده سلمي يرى أن العلاقة الأصل فيها أن تكون السلم وليس الحرب أما الحرب فتكون طارئة – علماً بأن الحرب تُذكَّر وتُؤنَّث، فيُمكِن أن يُقال الحرب طاريء أو الحرب طارئة – وكذلك تلميذه الإمام المُجدِّد محمد رشيد رضا مع السلميين، الشيخ محمود شلتوت – شيخ الأزهر – مع السلميين وقبله الشيخ محمد الخضر حسين – ولا يُلتفَت إلى هذا ولكن بمُراجَعة كلامه وجدت أنه مع السلميين – رحمة الله عليه – في موسوعته الأعمال الكاملة التي طُبِعَت حديثاً، محمد الخضر حسين مع السلميين، ظاهر كلام الشيخ ابن عاشور مع الحربيين، الخضر حسين مع السلميين، الشيخ محمد الغزالي – رحمة الله عليه – مع السلميين وبقوة وبأدلة ناصعة وفاقعة، الشيخ يوسف القرضاوي – أمتع الله به – في موسوعته القيمة فقه الجهاد التي دأب في تأليفها على مدى ست سنوات مُتواصِلات مع السلميين وبمنطق قوي أيضاً، العلَّامة الداعية الكبير مصطفى السباعي – رحمة الله تعالى عليه – في كتابه هذا هو الإسلام – مُحاضَرات له – مع السلميين، أحمد شلبي – المُؤرِّخ أو العالم المصري الشهير – مع السلميين، إذن كثيرون جداً مع السلميين بل أن أكثر العلماء المُجدِّدين مع السلميين، ولكن ما بال الشباب لايزال يُسيطر عليهم المنطق الحربي ومنطق الاستعداء؟!

هل تعرفون لماذا؟!

بعبارة مُؤسِفة ومُحزِنة لأن الشباب لا يُوجِّههم كبار العلماء، ولا يُوجِّههم العلم والفقه والفكر، وإنما يُوجِّههم الوعاظ والدعاة خفيفو الوزن، وأعتذر عن هذا ولكن هذا الذي يحدث.

هناك فيلم سخيف كما وصفته السيدة كلينتون Clinton وهو فعلاً سخيف ومُقزِّز ومن ثم أنا لم استطع أن أُتابِع منه سوى ثوانٍ، وهذا الفيلم إسمه براءة المسلمين وهو ينال من رسولنا بأسلوب مُقزِّز، الإخراج والتصوير والأشكال والمنطق والسيناريو مُقزِّز مُقرِف، ولكن عار علينا أن نجعل هؤلاء أخصاماً لمحمد ومن ثم نخوض معركة كأنها معركتنا – علماً بأنني سأكتفي بهذا وأمضي لأنه عار علىّ أيضاً أن أطيل في هذا الموضوع – فنحن هنا أساءنا لمحمد – صَلَىَ الله عليه وسَلَّمَ – لأن الرجل الكريم منا الذي يعرف وزنه وقدره لا يُمكِن أن يرضى بأي أحدٍ أن يكون خصماً له، لا يرضى بأي أحد وإنما هناك بعض الناس يُمكِن أن تكون خصومتهم مُشرِّفة لأمثالنا، ولكن خصام محمد لا يُشرِّف أحداً، كل مَن خاصم محمداً – صَلَىَ الله على محمد وآل محمد – نزل مُباشَرةً، ونقلت لكم غير مرة كلمة الإمبراطور والفاتح الكبير نابليون بونابرت Napoléon Bonaparte تعليقاً على فولتير Voltaire – على فرانسوا فولتير François Voltaire – وليس على فيلم مُقزِّز مُقرِف، ففولتير Voltaire في مسرحيته محمد نال من رسول الله – نال من خير البرية – فعلَّق نابليون Napoléon على هذا على الرغم من أنه كان مُعجَباً بفولتير Voltaire جداً خاصة في آخر حياته قائلاً: وما عساه يقول في رجل التاريخ؟!

كأنه يقول مَن قولتير Voltaire أمام محمد؟!

وفولتير Voltaire هو أكبر عقل تنويري في القرن الثامن عشر، الرجل دبَّج ببراعته الموهوبة الحاذقة اللبقة أكثر من ثلاثين ألف صحيفة، فأكبر كاتب أوروبي هو فولتير Voltaire لأنه أكبر الكتاب الأوروبيين إنتاجاً، ولكن حيت يتحدَّث فرانسوا فولتير François Voltaire   عن محمد يُصبِح فولتير Voltaire قزماً، وهذا ما قاله بمعنى الكلام نابليون Napoléon، ولكن يأتيني مُجرَّد مُنتِج ومُخرِج ومُمثِّلون لا علاقة لهم بالفن ويصنعون فيلماً عن رسول الله ثم نجعل من هؤلاء أعداءً لمحمد ونقتل ونُقتَل من أجل ذلك فهذا لا ينبغي، ما هذا؟!

واضح جداً جداً جداً جداً أنها ألعوبة كيمياوية حقيرة، ولكن هل تعلمون لماذا؟!

لأنه يُمكِن أن تُستجَر هذه الشعوب – أعني شعوبنا – إلى معارك وإلى مجازر وإلى مذابح بأتفه الأسباب لأنها لم تتأسَّس توعوياً، فليس لديها فقه ولا ثقافة ولا فكر، استبد بها هؤلاء الوعاظ خفيفو الوزن وخلت الساحة من العلماء ثقيلي الوزن أن يرتفعوا، هذا المنبر الذي أُسميه دائماً منبر رسول الله – ليس منبري هذا وإنما منبر رسول الله في العالم – لماذا لايزال يدأب يبث الأشياء البسيطة والساذجة والصبيانية للناس والحكاوى الفارغة فلا يرتقى بمُستوى العامة وبمُستوى الجماهير المسلمة؟!

تُدير هكذا أنت أو تدور بين محطات التلفزيون Television – الفضائيات – فتجد سؤالاً يُطرَح عن حكم دفن قلامات الأظفار، فما هذا؟!

جميل يا سيدي فهذا من الفقه، ولكن بأي وزن هذا الفقه؟!

كم تحق حاجتنا إلى هذا الفقه؟!

ولا تجد العامي المسلم أو المرأة المسلمة العادية يسأل أسئلة من نوعية طبيعة علاقتنا بالعالم لكي نفهم كيف يُمكِن أن نتعايش مع هذا العالم، فهل يا مولانا نحن لعنة وحرب مفتوحة على العالم؟!

لماذا يكرهنا العالم؟!

الأمريكان حين ضُرِبوا في الحادي عشر من سبتمبر مُباشَرةً طرحوا السؤال الآتي: لماذا يكرهوننا؟!

في الأول طرحوه من باب المُناكفة ومن باب التعامي، ولكن بعد ذلك أخذوه بجد وقالوا: فعلاً لماذا يكرهوننا؟!

سُيّسَ هذا السؤال فجاء مُفكِّرون ومُثقَّفون على مُستوى عالٍ وأجابوه بصرامة وقالوا إننا نُكره لأسباب قاموا بتعديدها، ونحن كذلك لابد أن نسأل: لماذا هذه الحرب المفتوحة علينا؟!

لماذا يُتندَّر بنا؟!

تراث محمد يُشرِّف ليس الأمة الإسلامية فقط بل يُشرِّف العالمين لأنه جاء رحمة للعالمين ولكن واقع المسلمين اليوم لا يُشرِّفهم هم، ومن هنا أقول لكم بصدق أننا نحتاج بدل وعوض أن نتناحب ونتشاكى ونشتكي ونتلاوم من هؤلاء الذين يُمعِنون في سوء فهم ديننا وفي سوء تصويرِ أحوالنا أن نسعى نحن في فهم ديننا فهماً صحيحاً مُشرِّفاً.

بالأمس يُقتَل مفتي داغستان، يُفجَّر الرجل من خلال سيدة تنتمي إلى طريقة السلف في العبادة، فيقتل بعضنا بعضاً في كل مكان باسم إحياء السلف وسيرة السلف، فهل كان هدي السلف هو التقتيل والتذبيح في المسلمين وغير المسلمين وبالمجان؟!

وكل هذا بسبب التكفير حيث قيل عن مفتي داغستان أنه صوفي زنديق إذن هو كافر ومن ثم يُقتَل، فهناك حرب ملعونة مُستمِرة بين المسلمين وهذا شيئ عجيب جداً ومن ثم علينا عوض أن نتشاكى ونتناحب أن نفهم ديننا فهماً حقيقياً يُسعِدنا ويُشرِّفنا وبالتالي يرفع رؤوسنا بين العالمين.

ونعود إلى ما كنا فيه وعذراً عن هذا الاستطراد ومن ثم سأكتفي بهذا فقط حول الفيلم المسخرة هذا الذي جعلنا نحن مسخرة لأن رد فعلنا كان مسخرة حقيقةً، فهذه ليست معاركنا، نحن الآن خرجنا من ثورات لابد أن نُنجِح مُستقبَل هذه الثورات، ولكن هكذا نستجيب – كما قلت – لمثل هاته الأمور، فهم يعرفون كيمياء المسلمين المُعاصِرين وهى كيمياء بسيطة جداً ولها مُعادَلات سخيفة ومن ثم ليس لدينا مغالق تُتعِبهم وتُشقيهم، فهم يتعاملون معنا بسهولة وببضعة ملايين فقط مثلما حدث مع الفيلم الذي كلَّفهم بضعة ملايين الدولارات ولكنه يُمكِن أن يفعل ما يُراد له أن يُفعَل بنا ومنا وبأيدينا وأن يُخسِروا قضايانا، فإلى الله نشكو هذا الغثاء وإلى الله نشكو هذه السطحية وإلى الله نشكو سكوت العلماء، فأين هم العلماء؟!

فليتكلَّموا، فليُبرِزوا أنفسهم وليتكلَّموا، فكم ينبغي أن يكون بغيضاً دغدغة أهواء الجماهير، فقط نُسمِع الجماهير ماذا تُحِب أن تسمع وماذا تُحِب أن يُقال لها لكي نُثبِت لهم أننا أكثر منهم تديناً وأننا سدنة وحرسة هذا الدين، وهذا غير صحيح فالدين يُحرَس بالعقلاء وليس بالأشقياء الجهلاء وليس بخفيفي الوزن.

وأعود إلى ما كنت فيه، إذن هذه هى آية السيف وهى إما هذه وإما هذه وإما هذه من الآيات التي ذكرتها فهم لا يعرفون بالضبط ما هى آية السيف التي نسخوا بها مائة وعشرين آية من كتاب الله، والشيخ العلَّامة مصطفى زيد الأزهري في رسالته الحفيلة “النسخ في القرآن الكريم” قال “بل أنا عددت مائة وأربعين آية نُسِخَت بآية السيف”، فكل ما يدل على رحمانية الإسلام وسعة صدر الإسلام منسوخ مثل وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۩ ومثل قول الله وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۩ أو مثل فَاعْفُ عَنْهُمْ ۩ ومثل وَقُلْ سَلَامٌ ۚ ۩ ومثل ذكر الله الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ۩ ومثل قوله أَعْرِضْ عَنْهُمْ ۩ وقوله فَتَوَلَّى عَنْهُمْ ۩، أي أن كل آية يرد فيها الأمر بتسليم أمرهم إلى الله – تبارك وتعالى – وإلى آخره تُعَد منسوخة، فضلاً عن أن كل ما يدل على رحمانية الإسلام وسعة صدر الإسلام وليان الإسلام والتسامح الإسلامي أيضاً منسوخ، ولكن بماذا بمنسوخ؟!

بآية السيف التي لا يُدرى بالضبط ما هى، فلا يُعرَف أهى الخامسة أم التاسعة والعشرون أم السادسة والثلاثون، ومن ثم كيف ولماذا نسخت آية السيف كل هاته الآيات؟!

هذه قصة طويلة، ولكنهم يقولون أن آية السيف تفتح حرباً مفتوحة على المُشرِكين، والتاسعة والعشرون تفتح حرباً على أهل الكتاب من اليهود والنصارى مُباشَرةً، لا لأنهم اعتدوا علينا ولكن فقط لأنهم أهل الكتاب فهم كفار، وهذا غير صحيح فهم لا يقولون أن الحرب لا تُفتَح إلا إذا اعتدى علينا المُشرِكون، ومن ثم هذه مُغالَطة – ولا أُحِب أن أقول كذب وإنما سأقول مُغالَطة – لكتاب الله تبارك وتعالى، وهذا أمر عجيب

فآية السيف – كما قلنا – الأرجح أنها الخامسة ولكنها مسبوقة بالآية الرابعة التي تنقض هذا الفهم تماماً وتُؤكِّد أن المُشرِكين الذين أُمِرنا بحربهم هم فريقٌ خاص من المُشرِكين، مُشرِكون اعتدوا علينا ونبذوا عهودنا دون إيذان وظاهروا علينا وهم بدأونا أول مرة ولايزالون ينطوون على كثير وكبير حقد وضغينة وكراهية لهذا الدين ورسوله وأمته وحملته فهم مُصِرون على استئصالنا، فكما قال شيخنا الغزالي “تركناهم يعيشون بكفرهم وشركهم فأبوا علينا أن نعيش بإيماننا وبالحق الذي شُرِّفنا به”، هؤلاء هم المُشرِكون الذين أُمِرنا – ولا أقول نُدِبنا – بآية السيف إلى حربهم وهذا هو العدل، والله يقول وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ ۩، أي أن الله يقول أنا أمرتكم بقتالهم لأنهم مُعتدون، ثم يقول بعد بضع آيات وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ أَتَخْشَوْنَهُمْ ۚ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۩، والعجيب أن الآية الخامسة والتها آيةٌ أخرى تُؤكِّد سقم هذا الفهم الدارج والسائد فالله يقول وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ – هذا مُشرِك – اسْتَجَارَكَ – استجارك فلا تقل أن هناك أي حرب مفتوحة فيُقتَل من أجلها بل يُجار – فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ – ولم يقل بعد ذلك أبداً إما الإسلام وإما السيف – ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ۚ – اذهب به إلى البلاد التي يُحِب أن يذهب إليها – ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ ۩ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ۩، فالمُشرِكون إذا استقاموا لنا ولم ينقضوا بعدهم نستقيم لهم ولا ننقض عهدنا معهم بل نحترم العهود، فهذا هو القرآن وهذه هى عدالة القرآن الكريم التي تتحدَّث عن فريق مخصوصين من المُشرِكين وليس عن كل المُشرِكين وإنما عن مَن بدأونا من المُعتدين، فالله يقول في سورة البقرة وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ ۩، ولكن هؤلاء فهموا القرآن على أنه يُشرِّع ويُسوِغ العدوان، يُشرعِن – أي يُعطيه شرعية لأنه العدوان أصلاً غير شرعي – العدوان.

وأما آية مُقاتَلة أهل الكتاب فهى آية عجيبة وتُوجِب فعلاً خلطاً وخبطاً عظيمين، فالله يقول قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ۩، ولكن عليكم أن تنتبهوا إلى أن أول ما يُمكِن أن نُورِده على الفهم السائد لهذه الآية هو القياس الذي يكشف عن ما في هذا الفهم من سقم، فالفهم السائد يذهب إلى أننا مأمورون بقتال كل كتابي لمُجرَّد العنوان، أي نُقاتِله لأنه كتابي، فمَن إسمه كتابي يجب أن يُقاتَل أو يُعطي الجزية، ولكن أول سؤال يجب أن يُطرَح: هم يقولون أن الكتابي يُقاتَل أو يُعطي الجزية فقط ولكن أين خيار الإسلام؟!

عليكم أن تنتبهوا إلى أن القياس هنا يكشف عن ما في هذا الفهم من سقم ومن تهافت وضعف بادٍ وصارخ، فالمُشرِكون أنفسهم الله تحدَّث عن إمكانية توبتهم في موضعين قبل وبعد آية السيف بل ويقول في آية السيف نفسها الخامسة فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ ۩ أي أن لديهم فُسحة ألا يُقتَلوا حين تقع الحرب العوان، ولكن كيف هذا؟!

بأن يُسلِموا، فإذا أسلموا انتهى الأمر.

ثم بعد آيات يسيرة قال فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ۗ ۩، فلماذا لم يُعط أهل الكتاب مثل هذا الخيار والله لم يذكر هذه الغاية؟!

الله يقول يُقاتَل أهل الكتاب إلى غاية، والمفروض أن تكون الغاية مُتعدِّدة، وأولى الغايات هى الإسلام، فإذا أسلم الكتابي نكف عنه، ولكن ليس ثمة تكاف أو كف هنا وانكفاف بل أن الغاية التي لا ينبغي أن تقف الحرب دونها وقبلها – أي قبل تحقيقها وبلوغها – هى غاية واحدة فقط وهى إعطاء الجزية، ومن ثم يُفهَم من هذا أن هذا ليس عدلاً، فمَن أقرب إلينا: المُشرِك الوثني أم الكتابي؟!

الأقرب إلينا هو الكتابي، لذلك طعام الكتابيين حل لنا أما طعام المُشرِك ليس حلال لنا، وكذلك نكاح نساء أهل الكتاب حل لنا لكن نكاح المُشرِكات ليس حلاً لنا، والله يقول وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ۖ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ۩، فهم في الأصل مسلمون ولكن تحرَّف دينهم، طرقه التحريف والتغيير والتبديل بالزيادة والتنقص، فبإجماع الأمة هم الأقرب إلينا – بلا شك – من المُشرِكين، فلماذا لم يُعطوا فُسحة أن يُسلمِوا ونكف عنهم وقيل فقط حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ ۩؟!

هل تعرفون لماذا؟!
لأن الآية ببساطة – وهذا فهم يروع، فهو فهم جميل طيب يتلاءم مع رحمة الإسلام وعظمة وعدالة الإسلام وعدالة التشريع بل وإنسانية التشريع الإسلامي – لا تتحدَّث أبداً عن قتال أي كتابي من حيث أتى وإنما عن كتابيين مخصوصين كالمُشرِكين المخصوصين الذين بدأونا بالعدوان وضروا علينا أكثر من مرة وفي أكثر من واقعة.

عجبت لنقيب المُحامين في وقته الأستاذ العلَّامة ظافر القاسمي – ابن علَّامة الشام محمد جمال الدين القاسمي في كتابه عن الجهاد – حين قال “ومبلغ علمي في سيرة رسول الله – أيها الإخوة – أنه لم يقع مُواجَهة بين جيش المسلمين في عهد الرسول وبين النصارى إلا مرة واحدة”، لأن هذا غير صحيح، بل وقع أكثر من ثماني مُواجَهات، مثل مُواجَهة ذات السلاسل مع النصارى ودومة الجندل مع النصارى ومؤتة مع النصارى ثم تبوك العُسرة بعد ذلك مع النصارى وغير ذلك، أي أكثر من ثماني وقائع علماً بأنني سأحكي لكم بعضها على عجل، إذن قول العلّامة ظافر القاسيمي غير صحيح فهذا خطأ، وجلَّ مَن لا يُخطيء وجلَّ مَن لا يسهو.

إنهم إذن فريقٌ مخصوصون من أهل الكتاب بدأونا وعادونا وضروا علينا فأُمِرنا أن نُقلِّم أظفارهم، ولكن علينا أن ننتبه إلى أننا لا نُقاتِلهم الآن من أجل الدين أبداً، فنحن نُقاتِلهم ليس من أجل الدين وإنما من أجل درء عدوانهم، والغاية واضحة جداً لأن الغاية ينبغي أن تكون مُناسَبة مع الباعث، فالباعث على القتال وسبب القتال ومُسوِّغ القتال هو عدوانهم علينا، إذن ينبغي أن تكون غاية القتال صد ودرء هذا العدوان، وهذا العدوان لا يُصَد ولا يندريء إلا إذا قامت عليه أمارة، وهذه الأمارة هى أن يستخزو، فيكون استخزائهم بأن يُذعِنوا وأن يخضعوا بإعطاء الجزية عَنْ يَدٍ ۩ أي إذا كانوا مُقتدِرين، وهذا ما يدل على الرحمة أيضاً لأن الله يقول حَتَّىٰ يُعْطُواْ ٱلْجِزْيَةَ عَن يَدٍ ۩، أي إذا كانوا مُقتدِرين، فمَن لا يستطيع إعطاء الجزية نُعفيه، ما يدل على الرحمة حتى في هذا الموضع الذي يُشرِّع لتأديب هؤلاء العادين الواغلين، ومن هنا قال الله حَتَّىٰ يُعْطُواْ ٱلْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ۩علماً بأن الصغار ليس معناه الذل أبداً، فالصغار فسَّره الشافعي أن يخضعوا لسُلطة المسلمين ومن هنا سيعترفون لنا الآن بحق الوجود وحق السيادة أيضاً.

هذه الآية التاسعة والعشرون من سورة التوبة – براءة – إذا فهمناها على خلفية وقائع كثيرة – علماً بأنه يبدو أن بعض الناس لا يستحضر هذه الخلفية عند فهم هذا الآية والقول فيها تفسيراً وتأويلاً – سينكشف الغطاء، فما هذه الخلفية؟!

عامل الروم على معان – مدينة معان الآن في الأردن – الذي يُدعى أو يُسمّى فروة بن عمر الجُذامي أسلم – رحمة الله عليه – وبعث مع أحد رجاله هدايا إلى رسول الله، حيث أرسل – أكرمكم الله – بغلاً أشهباً وفرساً وحماراً وأثواباً كتانية وأشياء أخرى وذلك لأنه دخل في الدين فأصبح يُوالي رسول الله، ومن ثم بعث إليه هرقل يُثنيه عن ذلك ليُعيده إلى دينه الأول وهو الدين النصراني فأبى عليهم، فأُخِذ الرجل – وهو عامل أي سياسي كبير – وسُجِنَ ثم صُلِب، فأليست هذه مُحارَبة للإسلام؟!

أين حرية الاعتقاد؟!

مازلنا في الاضطهاد الديني فلقد مارس هؤلاء الاضصطهاد عبر قرون حتى ضد أنفسهم وهذه قصة طويلة مأساوية، ثم أصدر هرقل بعد ذلك أمراً بقتل كل من أسلم من أهل الشام، فأليست هذه حرباً على الإسلام؟!

بالإجماع – إجماع السلميين وإجماع الحربيين من فقهاء الإسلام – يجب علينا الدفاع عن أنفسنا ودرء الفتنة، فضلاً عن الآن حتى القانون الدولي يُسوِّغ مثل هذا التشريع بالإجماع، قال تعالى في البقرى وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ۩ وقال في الأنفال وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ۚ ۩، فما معنى قوله حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ۩؟!

قال بعضهم أن المعنى هو حتى لا يكون شرك، وهذا تفسير ضعيف ويحتاج إلى شرح طويل، ولكن الصحيح أن المقصود بالفتنة في قوله حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ۩ هو الاضطهاد الديني، فالله يقول في موضع آخر إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ۩، إذن الفتنة هى أن يُفتَن المسلمون في دينهم حتى يتراجعوا عنه ويدخلوا في دين الفاتن المُضطهِد لهم، هذه هى الفتنة ومن هنا قال الله وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ۩، أي لكي ترتفع الفتنة، وقال وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ ۩، إذن لابد من درء للفتنة وهذا سائغ جداً جداً، فالآن هل تسمح أمريكا أو هل تسمح أي دولة أوروبية باضطهاد أُناس يُبشِّرون بمبادئها وأفكارها وخاصة إذا كانوا تابعين لها في بلاد أخرى؟!
لا تسمح بهذا، هذا ممنوع فيجب أن تُتاح الحرية الكاملة للأفكار لأن يُبشَّر بها، ومن ثم الفكر يُناقَش بالفكر وليس بالذبح وليس بالصلب، لكن الرجل سُجِنَ وعُذِبَ وصُلِب، فقتلوه صلباً بل وصدر أمر هرقلي على مُستوى إمبراطورية بيزانطة بقتل كل مَن أسلم من أهل الشام وهذا عدوان، فلا تقل لي أن القرآن هو الذي تغيَّر كما قال غير واحد من المُستشرِقين، حيث قالوا أن القرآن المكي كان ضعيفاً وهذا غير صحيح، والمقصود بأنه كان ضعيفاً أي أنه كان مُلايناً مُتسامِحاً لأن المسلمين كانوا ضعفى عجزة فلما اشتموا ريحة القوة من أنفسهم والقدرة وواتتهم الفرصة أصبحوا فتّاكين، فهم ليسوا إلا قطّاع طريق، وهذا غير صحيح بالمرة لأن القرآن المدني كالقرآن المكي مع العدالة والقسط ومع الحريات، ففي سورة المُمتحِنة وهى مُتأخِّرة نسبياً في النزول في المدينة المنوَّرة يُوجَد آية مُحكَمة حقَّق مُحكميتها ابن جرير الطبري وزيَّف كل الآراء والتشبيهات التي تقول أنها منسوخة بآية السيف – قال هذه الآية ليست منسوخة – تقول لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ۩، وهذه الآية تتحدَّث عن المُشرِكين الوثنيين، فمن ثم من باب أولى إذن ألا نُنهى عن البر وعن القسط مع أهل الكتاب فهم أدنى إلينا، وهذه الآية معروفة لكم جميعاً وهى تسمح ببرهم وقسطهم بالشروط المذكورة.

بعد مقتل عامل معان يبعث الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – رسولاً من أصحابه المُكرَّمين وهو الحارث بن عُمير الأزدي إلى ملك غسان برسالة كما بعث إلى هرقل وإلى كسرى وإلى المقوقس وإلى النجاشي وإلى كل ملوك وعظماء العالم فيقتلونه هناك – قتله الغساني – ذبحاً بعد أن سخروا منه ومِمَن أرسله، وهددوا بأنهم سيُعبئون جيشاً يستأصلون به شأفة الإسلام في المدينة المُنوَّرة، فما هذا العدوان؟!

هذا لا يُذكَر لنا عندما يتحدَّثون عن الآية التاسعة والعشرين من سورة التوبة، والمُشكِلة أن مَن يفعل هذا هم علماؤنا ومشائخنا، فنظن أن الإسلام أصبح حرباً مفتوحة على العالم وأن هذا هو معنى عز الإسلام، وهذا غير صحيح لأن هذا عدوان فلا يُسمى العدوان عزاً أبداً، والآن ثلث الأمة الإسلامية تعيش كأقليات بين أغلبيات غير مسلمة ومن ثم لا يُسعِدهم ولا يُساعِدهم مثل هذا المنطق فلا يجب أن يُقال أن هذا فقهنا وهذا ديننا لأننا بهذه الطريقة نظلم أنفسنا فحتى براجماتياً – هذا التفكير براجماتي – هذا التفكير لا يُجدي، ولكن أنا لا أُفكِّر على المُستوى البراجماتي فالذي يهمني الآن نصاعة مبادئ رسالتي وسُمعة وصورة هذا الدين في العالم، هذا هو الذي يهمنا أو ينبغي أن يهمنا.

إذن الرسول لم يجد بداً من أن يُوجِّه جيشاً لينتقم من هؤلاء العادين البُغاة الظلمة ولكي يُقلِم أظفارهم، فعبَّأ جيشاً وأرسله بعد أن جعل على قيادته زيد بن حارثة على أنه إذا استُشهِدَ يتولى القيادة جعفر بن أبي طالب فإذا ما قُدِر له الشهادة تولاها عبد الله بن رواحة وهكذا كان، فالثلاثة استُشهِدوا في نظمٍ واحد بالتوالي وهذا من مُعجِزات رسول الله، استُهشِدوا – رضيَ الله عنهم وأرضاهم – وللأسف لم يُقيض لهم النصر، فلم يكن النصر حليفهم ومُنوا بهزيمة ساحقة لأن هذه المعركة لم تكن مُتكافئة بالمرة من حيث العدد، فيُقال أن الروم كانوا أكثر من مائة ألف، فالحديث ليس عن غسان فقط وإنما كل الروم، فجيش بيزنطة كان شيئاً مُخيفاً علماً بأنه كان جيشاً نظامياً عكس الجيش الإسلامي الذي لم يكن جيشاً نظامياً بمعنى الكلمة إلى آخر لحظة أيام الرسول، فالجيوش النظامية هى جيوش كسرى وجيوش بيزنطة التي يُقدَّر عمرها بمئات السنين ومن ثم عندها خبرات وتراكمات عسكرية مُخيفة فضلاً عن أنهم كانوا أكثر من مائة ألف فمُنيَ الجيش المسلم بهزيمة ساحقة، ولكن النصر تُرجِم في انسحاب سيدنا خالد بهذا الجيش وإلا كان أُبيد من عند آخره لأن هذه المعركة كانت شرسة جداً جداً جداً وهذا ما حدث، علماً بأن الرسول أرسل جماعة من خمسة عشر صحابياً لاستطلاع أخبار الروم والتبشير بالإسلام فقُبِض عليهم بواسطة جنود تابعون لبيزنطة وذُبِحوا في الأردن، أي أن كل هذه مُواجَهات ومن ثم يجب أن تُقال لنا حتى نفهم القرآن ونفهم الخلفية التاريخية لآيات القرآن لنعرف عن مَن يتحدَّث، فعليكم أن تنتبهوا إلى هذا فلا تقولوا لي أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهذا صحيح ولكنه لا يُساعِدك هنا بالمرة، فلماذا لم تقل الآية أن أمام اليهود والنصارى إذا ما حاربناهم غاية هى الإسلام؟!

وإلى اليوم أمامهم هذه الغاية بلا شك، فإذا أسلم اليهودي والنصراني لا يجب أن يُقاتَل، هذا إذا قامت حرب تجدد مُبرِّراً لها أصلاً، فإذا أسلم نكف عنه حتى ولو في ساحة المعركة، ولكن الآية لم تقل هذا لأن قصد الآية – كما قلت لكم – تأديب هؤلاء المُعتدين فقط فلا علاقة للسياق لا بالدين ولا بالتبشير ولا بالإسلام أبداً، وإنما هى مسألة سياسية محض وإلا مقبول من أي كتابي أن يدخل الإسلام في الحرب ونكف عنه إذا قامت الحرب بمُبرِّراتها، ولكن هذا لم يذكر لأن القرآن لا يُركِّز عليه وإنما يُركِّز على شيئ آخر يُريد أن يُعالِجه، فهكذا يُفهَم كتاب الله تبارك وتعالى!

آخر شيئ أود أن أختم به عن معركة العُسرة – تبوك – في شهر رجب من السنة التاسعة، فما قصتها؟!

مُعظم سورة التوبة تتحدَّث عن معركة العُسرة في أكثر من موضع، فلماذا؟!

هذه المعركة كانت كبيرة جداً، والنبي ظل يُعبّيء لها المسلمين بدواً وحضراً حتى اجتمع له أكثر من ثلاثين ألفاً – جيش لجب جرَّار – علماً بأن عشرة آلاف منهم – أي ثلث الجيش – كانوا فرساناً، فأتى النبي بكل هؤلاء الفوارس لأن المدينة كانت على وشك أن تُدهَم، ففي كل لحظة كان يُمكِن أن يدهم الروم وحلفاؤهم من العرب المُتنصِّرة المدينة، وبلغ الرسول عبر عيونه في بلاد الشام أن كل من لخم وعاملة وجُذام غسان طبعاً في المُقدِّمة أجلبوا مع هرقل – أي مع بيزنطة – على حرب المسلمين، فالروم جاءوا بجيش قوامه أربعون ألفاً – أي أتت بأربعين ألف رجل مُدرَّب عسكري – وأجلبت معهم غسان وعاملة وجُذام ولخم، فكان هناك عشرات الألوف من أجل هذه المُواجَهة، وسيدنا عمر في حديث طلاق رسول الله لأزواجه في الصحيح من رواية ابن عباس – رضوان الله عنهم أجمعين – قال “كانوا ينعلون النعال لغزونا “، أي نعال الخيل، والحديث في الصحيح ومع ذلك حين نقرأه للأسف لا يُلتفَت إلى هذه النُقطة ونظن أنه فقط يتحدَّث عن قضية تطليق الرسول لزوجاته، ففي نظرنا هذا هو المُهِم فقط وهذا غير صحيح فهناك شيئ آخر مُهِم أيضاً وهو الإشارة إلى أن المسلمين أخذوا هذا الأمر مأخذ الجد وكانوا في حالة فزع وقلق، فقال سيدنا عمر “فنزل صحابي – كان يتناوب هو وصحاب له على النزول عند رسول الله لكي يتعلَّم – ذات يوم فعاد مُبكِّراً – أتى العشاء مُبكِّراً – وطرق باب داري طرقاً شديداً”، ثم قال: ما له، أنائمٌ هو؟!

قال “ففزعت وفتحت له”، فقال “حدث أمرٌ عظيم” أي أمرٌ جلل، فقلت: أجاءت غسان؟!

هذا هو، إذن المسلمين كانوا في حالة ترقب فيُمكِن في أي لحظة أن تُدهَم المدينة المنوَّرة وأن يُستأصل الإسلام هكذا وأن يُقتَل الرسول، فهكذا أراد هؤلاء الروم ومَن معهم من مُتنصِّرة العرب، ولذلك قال عمر: أجاءت غسان؟!

فقال “لا بل أعظم من ذلك وأطول – الخطب أعظم وأطول – طلق رسول الله نساءه”، إلى آخر الحديث ولكن الذي يهمنا هنا هو الإشارة الواردة فيه وهى قول عمر: أجاءت غسان؟!

قال “وكنا نتحدَّث أن غسان تنعل النعال لغزونا”، ففي هذه الظروف وعلى هذه الخلفيات نزلت الآيات التي ذكرناها، ويُقال أن هذه الآيات من سورة التوبة نزلت جُملة واحدة بعد تبوك وليس قبلها طبعاً، علماً بأن الأمر لم يتوقَّف على هذا فهناك فئة كانت بمثابة طابور خامس حيث قال الله وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا ۩، فما هى قصة مسجد الضرار؟!

جماعة من المُنافِقين – طابور خامس من مُنافِقي المسلمين للأسف – في المدينة المُنوَّرة يتصل بهم الراهب أبو عامر للتأليب على الرسول، وكان هذا الراهب من قبائل المدينة، فقبل الإسلام كان مُترهبناً لكن لما جاء الإسلام كبر عليه الأمر فلحق بالروم عند هرقل وجعل يُؤرِّث ناراً يُريد أن يصلاها المسلمون والرسول معهم، وبعد ذلك – في هذه الفترة بالذات التي وقعت فيها تبوك – جعل يُراسِل هؤلاء المُنافِقين – لعنة الله على كل مُنافِق خوَّان أثيم – ويقول لهم “نحن سنقدم بجيش كبير مع هرقل ونغزو محمداً وصحبه ونُريحكم منهم، فاتخذوا لنا تهيئةً”، فاتخذوا هذا المسجد الذي يُعلَن فيه بالله أكبر ولكنه ضد الله أكبر وضد الرسول وأمة الإسلام وكانوا يطلبون من الرسول أن يُصلي بهم ويقولون تعال يا محمد صل بنا، فالنبي لم يكن قد كاشفه الوحي ولكن الله ألهمه، فالنبي قال للناس سنذهب إلى تبوك هذه المرة، وكان ذلك في الصيف الذي كان شديد الحرارة، ولما عاد أخبره الوحي بأن هذا كله مُجرَّد طابور خامس فبعث النبي مَن هدَّم هذا المسجد بالكامل من عند آخره !

إذن ظروف صعبة أحاطت بالإسلام في هذه اللحظة العصيبة، ومن ثم على هذه الخلفية نزلت الآية التاسعة والعشرون من سورة التوبة، فهل يُقال إذن الإسلام دين حربي ويفتح حرباً مُستدامة على العالم كله بدليل آية السيف التي لا يُعرَف ما هى؟!

اللهم لا، ولكن هذا – للأسف الشديد – ما جرَّه الفهم غير الدقيق للنص الإلهي العظيم.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخُطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.

قبل أن أغادِر أود بكلمة فقط سريعة أن أمر على قوله تبارك وتعالى وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ ۩، فهذه الآية فهمها كبار المُفسِّرين على غير ما تُفهَم عند عامة المسلمين، فالمسلم العامي يفهم أن المقصود بقوله وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ ۩ كل المُشرِكين، أي أن كل مُشرِك يُقاتَل لأنهم قالوا “تعليق الحكم بالمُشتَق مُشعِر بعلية ما منه الاشتقاق”، فالله – مثلاً – يقول وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ۩، فنقطع أيديهما لأنهما سرقا، إذن الحكم مُعلَّق على اسم الفاعل – سارق أو سارقة – لأن تعليق الحكم بالمُشتَق مُشعِر بعلية ما منه الاشتقاق، فما الذي ما منه الاشتقاق هنا؟!

السرقة، إذن السرقة هى علة القطع.

ومن ثم عندما يقول الله وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ ۩ يُقال لنا أن العلة إذن هى الشرك حسبما نفهم، ولكن هنا هذا لا يستقيم فهو فهم غير صحيح ولكن هذا الذي قالوا – للأسف – به، حيث قالوا أن قوله وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ ۩ يُقصَد به كل المُشرِكين في أي زمان وفي أي مكان بغير قيد أو شرط، فهو أمر مُطلَق غير مُقيَّد، أما شيخ المُفسِّرين ابن جرير الطبري على غير عادته ذكر هنا وجهاً واحداً للتفسير على الرغم من أنه يذكر في مُعظم الآيات أكثر من وجه من وجوه التأويل ثم يُرجِّح بينها في أحايين كثيرة، لكنه لم يفعل هذا هنا وفهم الآية بشكل مُختلِف سأُبسِّطه باختصار بلغة نحوية بسيطة، فهو فهم كلمة كَافَّةً ۩ على أنها منصوبة على الحالية من مُؤكدها، وقال أن المُؤكَّد هو الفاعل وليس المفعول، ومن ثم الصحيح الذي رجَّحه ابن جرير أنه يجب على المُؤمِنين مُجتمِعين أن يُقاتِلوا المُشرِكين، فقد يكون معنى وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً ۩ أي قاتلوا أيها المسلمون كافة المُشرِكين، فقوله كَافَّةً ۩ قد يعني حال كونكم أو كونهم كافةً فلا ندري ولكن من المُمكِن أن يكون معنى الآية أنه يجب على كل المسلمين أو يجب على المسلمين مُجتمعين أن يُقاتِلو المُشرِكين، فهذا القيد الحالي أُوتيَ به ليُحقِّق معنى قوله – تبارك وتعالى – في الأنفال وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ ۩، فحين تُقاتِلون قاتلوا مُجتمِعين غير مُتفرِّقين ومُؤتلِفين غير مُختلِفين لأن المُشرِكين يفعلون هذا في قتالكم ويتألبون عليكم ويرمونكم عن قوس واحدة كما تقول العرب، ومن ثم على هذا الفهم تكون كَافَّةً ۩ حالاً من الفاعل وليس من المفعول به، أي حالاً من الضمير، من واو الجماعة في قوله تبارك وتعالى وَقَاتِلُوا ۩، لأن واو الجماعة هى الفاعل، أي أن على هذا الفاعل أن يُقاتِل مُجتمِعاً غير مُتفرِّق المُشرِكين كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ ۩، وليس معناها قاتلوا كل المُشرِكين.

علماً بأن ابن جرير ذكر فقط هذا الرأي ثم عبر، وأسنده إلى السُدّي وابن عباس وقتادة لأن كلهم قالوا هذا وأكَّدوا أن المعنى ليس قاتلوا كل المُشرِكين وإنما قاتلوا مَن يُقاتِلكم من المُشرِكين ولكن كونوا مُجتمِعين غير مُتفرِّقين ومُؤتلِفين غير مُتفرِّقين فهم يجتمعون على قتالكم فاجتمعوا أنتم على قتالهم، ولكن الآن موضع النزاع: مَن هم هؤلاء المُشرِكون الذين يُقاتَلون؟!

هذه قضية أخرى، فليس في هذه الآية التي جُعِلَت أيضاً آية السيف ما يُساعَد على الفهم السائد، علماً بأن كل شيئ يُوجَد عنه جواب.

ينبغي – كما قلت – أن نُعيد فهم الإسلام وأن نُعيد بلورة وصياغة خطاب للإسلام يُشرِّف هذه الأمة ويجعلها تعيش مُرتاحة بين العالم فتأخذ وتُعطي دون أن تعيش محروبةً مكروثةً مكروهةً منبوذةً كارهةً نابذةً حاقدةً لأن هذه الحياة حياة مرضية فهم يقولون أن الأصل هو الحرب ولكن حتى لا أظلم علماءنا الإجلاء لابد أن أقول أنني أتفهَّم هذا جيداً ففي العصر الذي بزغ فيه نور الإسلام وتبلَّج فجره وما تلاه – في العصور الوسطى – هكذا كانت الأحوال للأسف، فالدنيا كلها كانت في حرب دائمة وليس فقط الأمر يختص بالمسلمين وحدهم، بل كل العالم كان في حرب دائمة.

ولذلك سأختم بفائدة لاحت لي – بفضل الله تبارك وتعالى – وهى أن الجمهور قالوا ما سمعتم ولكن الجمهور أنفسهم أيضاً خلافاً لإمامنا الشافعي قالوا “لا يُقاتَل الكافر لكفره وإنما لعدوانه” ومن ثم حصل انكسار هنا، لأنكم تقولون أن الأصل هو الحرب فنحن في حالة حرب دائمة بسبب الخلاف في الدين لأنهم ليسوا مسلمين ومن ثم الأصل هو الحرب والسلم هو الطاريء، ولكنكم مرة أخرى تقولون أن الكفار لا يُقاتَلون لكفرهم، فلماذا حصل هذا الانكسار؟!

هناك تناقض وتعارض في هذا الكلام، فهذا قول الجمهور وهذا أيضاً قول الجمهور لأنهم في الوقت الذي يقولون فيه أن الأصل هو الحرب يقولون أيضاً أن الكافر لا يُقاتَل لكفره مُراعاةً لآيات قرآنيات كثيرات أكَّدت أن الكفر ليس سبباً ومُبرِّراً للقتال،بالعكس القرآن يُؤكِّد على أن الكفر من حقه أن يعيش كما يعيش الإيمان والتوحيد، فهنا كانوا مُصيبين عندما قالوا أن الكافر لا يُقاتَل لكفره، ولكنهم مراعاةً ونزولاً على مُقتضيات الأحوال اضطُروا أن يجنحوا إلى الاجتهاد الآخر الذي يقول بأن الأصل هو الحرب إلا أن يحدث سلام، فالعالم كله كان يعيش حرب الإنسان على أخيه الإنسان وحرب الإنسان ذئب الإنسان، أي الحرب الهوبزية – نسبةً إلى هوبز Hobbes – إن جاز التعبير.

فهكذا كانت الدنيا للأسف ومن هنا قال زهير بن أبي سُلْمى:

وَمَنْ لَـمْ يَـذُدْ عَنْ حَوْضِهِ بِسِلاحِهِ             يُـهَدَّمْ وَمَنْ لا يَظْلِمِ الـنَّاسَ يُظْلَمِ

علماً بأن زهير مِمَن ثرَّب وشنَّع وكرَّه الحرب ولكنه قال هذا بعد أن تكلَّم في الحرب بما لم يأت به أحد قبله، فزهير سبق وأن تكلَّم في الحرب كلاماً عظيماً، مثل قوله:

وَما الحَربُ إِلّا ما عَلِمتُم وَذُقتُمُ               وَما هُوَ عَنها بِالحَديثِ المُرَجَّمِ

وإلى آخر هذه الأبيات التي درسناها من قديم ونحن في المدارس، فبعد أن شنَّع الحرب قال في نهاية المطاف أنه يعرف مُقتضى الحال فأحياناً يجب أن تبدأ أنت حتى لا يُبدأ بك وأنت تتغدَّى أنت حتى لا تكون عشاءً لغيرك، وهذا ما حدث مع فقهائنا رضوان الله عليهم أجمعين وجزاهم الله جميعاً جزاء شاكر.

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

فيينا (14/9/2012)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: