إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.

عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

 

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – جل مجده – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ۩ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ۩ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ ۩ يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ۩ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ۩ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ۩ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:

لو سألنا أي مسلمٍ أو مسلمة مسألة بقاء أو فناء النيران هل هى مسألة من القطعيات المُحكَمات أم أنها من المُتشابِهات؟لسارع إلى الجواب بأنها من القطعيات المُحكَمات بلا مثنوية، ولكننا وجدنا كبار العلماء والأئمة يجعلونها من عويصات المسألات ومن أشبه المُتشابِهات، وهى مُعترَكُ أنظار، وصفها بهذا الوصف السابق الإمام المُجدِّد المُجتهِد العلَّامة محمد بن إبراهيم بن الوزير اليماني الصنعاني – روَّح الله روحه في عليين – صاحب العواصم والقواصم، الموسوعة الكبيرة في الذب عن سُنة أبي القاسم محمد صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، ومن قبلُ نعتها الإمام ابن القيم أو ابن قيم الجوزية – رحمة الله عليه – في كتابه حادي الأرواح بأنها مسألة أكبر من الدنيا أضعافاً مُضاعَفة، مسألة هل تبقى النار أم تفنى مسألة كبيرة جداً وهى أكبر من الدنيا طرة، أكبر من الدنيا كلها أضعافاً مُضاعَفة، مسألة خطيرة هائلة ومُخيفة.

صار يتردَّد في الأوساط العربية وربما الإسلامية بعامة في هذه السنوات المُتأخِّرات سؤالٌ، كيف يُقال إن الله – تبارك وتعالى – أرحم الراحمين وإن رحمته وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ ۩ وإنها تسبق غضبه ومع ذلكم تعتقدون أنه يُؤبِّد في العذاب المُقيم الغرام اللازم مَن كفر به وأشرك إلى غير نهاية وإلى أبد الأبيد كما يُقال؟ أين الرحمة هنا؟كيف؟ أعتقد هذا سؤالٌ يعتلج ويحيك في كل نفس كل إنسان مِمَن سمع بهذه العقيدة، العلَّامة المُجدِّد الشيخ الكبير محمد رشيد رضا – رحمة الله تعالى عليه – في تفسيره للقرآن الكريم الذي تابع به خطو أستاذه محمد عبده – رحمة الله على الجميع – ذكر أن هذه المسألة مُهِمةٌ جداً، لأنه من المعلوم أن كثيراً من الذين يُحادون الأديان إنما يُحادونها وينحرفون عنها لهذا السبب بالذات، هذا من أعظم ما يجعل الناس يكفرون بالأديان، فلا ينتظم في عقولهم ما وردت به هذه الأديان أن مَن كفر وأشرك ثم صار إلى حساب الله أنه يُؤبَّد في نار جهنم ولا يخرجُ منها، عقولهم لا تقبل هذا، نفوسهم لا تقبل هذا، فيتطرَّق الشك إلى إيمانهم بأصل وجود الله تبارك وتعالى، يُقال لو كان هذا الإله موجوداً حقاً لما كان على هذا الوصف وأنتم تزعمون أنه رحمن رحيم، ذكر هذا الشيخ السيد رشيد رضا في آخر البحث الطويل الضافي الفائض الذي نقل فيه كلام العلَّامة الإمام ابن قيم الجوزية من كتابه حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح.

على كل حال مسألة بقاء أو فناء النار أو النيران – كما قلت لكم – مسألة بحثها العلماء والأئمة من قديم وفيها أقوالٌ سبعة لا نُريد أن نتقصى أطرافها، فلسنا بصددِ تقصي أطراف هذه أو هاته الأقاويل، لكن من هاته الأقوال قول مَن قال إن أصحاب النار بعد مُدةٍ لا يعلمها إلا الله – تبارك وتعالى – تجد لهم طبيعةٌ ناريةٌ جديدة بمُوجِبها يتلذذون بنار جهنم، فتُصبِح لذةً لهم وعليهم عذوبة، وهذا القول قال به في ظاهر ما وصلنا من كتبه الشيخ مُحي الدين بن عربي في فصوص الحكم، وله فيه شعرٌ مشهورٌ، وهو في طرفٍ وقول الوعيدية والمُعتزِلة في مُقدَّمهم في طرف آخر،
الوعيدية قالوا عُصاة المُوحِّدين من أصحاب الكبائر إذا دخلوا جهنم لا يخرجون منها أبداً، وهم مُوحِّدون من “أهل لا إله إلا الله، محمدٌ رسول الله”، إذا دخلوا جهنم – جزاءً على الكبائر التي احتقبوها ولم يتوبوا منها لن يخرجوا منها، ولابد أن يدخلوا جهنم،فالمُعتزِلة يُوجِبون على الله – أستغفر الله العظيم – وهذا سوء أدب بالغ، يُوجِبون على الله أن يُعذِّبهم وأن يُنفِّذ وعيده، والوعيد عندهم لا يتخلَّف كالوعدِ، قال الله خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۩، وأخذوا بالظواهر طبعاً، أي ظواهر الآي وظواهر بعض الأحاديث، كقول الله – تبارك وتعالى – في النساء وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ۩، ومن الحديثِ المُخرَّج في الصحاح قوله – صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً – ومَن قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يتوجأ بها بطنه في نار جهنم خالداً مُخلَّداً فيها أبداً، فالنبي يقول هذا، وفي الحديث الصحيح قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – عن رب العزة في الحديث القدسي الجليل فيمَن قتل نفسه – في المُنتحِر – عبدي بادرني بنفسه حرَّمت عليه الجنة، الله قال حرَّمت عليه الجنة وهذا على نحو قوله – تبارك وتعالى – إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ۩، فهذا على نحو هذا، من نفس البابةِ وفي نفس المهيع يسيران، أعني هذين النصين.

إذن هؤلاء على طرف وهؤلاء على طرف، ومنهم مَن قال بل إن جهنم – والعياذ بالله – تفنى بذاتها لأنها مُحدَثة، أي وُجِدَت وخُلِقَت من عدم بعد أن لم تكن، وما ثبت حدوثه استحال بقاؤه، هكذا قالوا ومهّدوا بالنظر، قالوا ما ثبت حدوثه استحال بقاؤه، فتفنى النار ويفنى مَن فيها، وهى تفنى بذاتها، وهو قولٌ مُتناقِض وغبي، ما معنى تفنى بذاتها؟ لا شيئ يفعل بذاته إلا عن إذن الله تبارك وتعالى، ما معنى أن تفنى بذاتها وهكذا يفنى مَن فيها؟ وهو قول جهم بن صفوان إمام الجهمية في وقته، ومذهبهم معروفٌ مشهورٌ في التعطيل، لكن جهم بن صفوان وشيعة جهم لا يُفرِّقون في هذا المعنى – عند تقرير هذا المعنى – بين الجنةِ والنار، والجنة أيضاً تفنى عندهم بذاتها ويفنى مَن فيها ولا يبقى إلا الله، فلابد أن نُنوِّه إلى هذا أيضاً، أي ليس النار فقط، هذا قول جهم بن صفوان وشيعة الجهمية، أي مَن شايعه من أتباعه.

هناك قولٌ سابع أخير، وأنا ذكرت ثلاثة فقط لأنني – كما قلت – لا أُريد أن أُضيِّع الوقت في تقصي هذه الأقوال، القول السابع أن نار جهنم لا تفنى بذاتها وإنما يُفنيها الذي خلقها سبحانه وتعالى، فيأتي عليها يوم تنتهي، تطفأ وتخمد نيرانها وتنتهي ولا يعود ثمة نار، تبقى الجنة مُؤبَّدة على مَن فيها من المُؤمِنين المسعودين – جعلني الله وإياكم والمسلمين والمسلمات أجمعين منهم بفضله ومنه وكرمه. اللهم آمين – أما النار فيُفنيها الله – تبارك وتعالى – بقدرته وبحكمته، وسوف نرى وجه هذه الحكمة كما قرَّرها العلماء، وهذا القول السابع – إخواني وأخواتي – نصره شيخُ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية رحمة الله تعالى عليه، فابن تيمية نصر هذا القول، وبحسب كلام شيخ الإسلام ابن القيم أيضاً فابن تيمية له مُصنَّفٌ في هذه المسألة لم يصلنا، صرَّح ابن القيم أن له مُصنَّفاً، والشيخ الألباني – رحمة الله عليه – صرَّح بأنه وقع على ثلاث صحائف – أي ثلاث صفحات كما نقول – منسوبة لشيخ الإسلام ابن تيمية فيها تشييد أركان وأُسس هذا القول، انتصر فيها لهذا القول، أي أن جهنم يأتي عليها يوم تصفق أبوابها ثم تفنى وتنعدم بالكُلية وتنتهي، وهكذا ينتهي عذاب مَن فيها، وأن هذا هو مُوجَب ومُقتضى ولازم الحكمة، وقد احتج بوجوه، وأما مَن طوَّل النفَس جداً وأجلب بخيل الأدلة ورجلها لتأييد وتعزيز هذه المسألة فهو تلميذه شمس الدين ابن قيم الجوزية رحمة الله تعالى عليه، فعل هذا في آخر كتابه شفاء العليل في مسائل القدر والحكمة والتعليل، وفعل هذا في كتابه الصواعق المُرسَلة على الجهمية والمُعطِّلة، وفي مُختصَره للموصلي، وفعل هذا بنحوٍ أطول وأشد إسهاباً وتفصيلاً في كتابه الجامع حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح في زُهاء ثلاثين صحيفة، فابن القيم دبَّج أكثر من ثلاثين صحيفة في هذه المسألة، وأتى بأدلة كثيرة، وأجاب عن أدلة الآخرين المانعين من فناء النار والقاضين بتأبيدها وأنها لا تنتهي وبدوامها، فهو ردَّ عليهم.
لا أُخفيكم أن المسألة على ما وصفتها مُعترَك أنظار ومزلة، وهى فعلاً – كما قال العلَّامة الإمام ابن الوزير اليماني – من أشبه المُتشابِه، فانتبهوا إلى أن المسألة مُتشابِهة وليست مُحكَمة واضحة بل من أشبه المُتشابِه، وقد فتح الله على العبد الفقير فيها بوجوه إذا ذكرتها نسبتها، فإن كانت حقاً وصواباً فهى من الله تفضلاً، وإن كان غير ذلك فمن نفسي ومن الشيطان، وفيما عدا ذلك أنا أسوق أقوال شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وآخرين ربما، على أن هذا القول لابن القيم وشيخه – رحمة الله على مشائخ الإسلام والمسلمين أجمعين – لم يحظ من أكثر العلماء بالقبول، أكثرهم لم يُسيغوه ولم يتقبَّلوه لأنه مُخالِف للمُقرَّر عند الجماهير في مُختلِف الأعصار والأمصار فتصدَّوا للرد عليه، ومنهم شيخ الإسلام تقي الدين عليّ بن عبد الكافي وهو أبو الحسن السُبكي – رحمة الله تعالى عليه – في كتابه الاعتبار ببقاء الجنةِ والنارِ، وكم للشيخ الإمام تقي الدين السُبكي من مُصنَّفٍ ومن رسالة يرد بها على ابن تيمية وتلميذه رضيَ الله عن الجميع، فهذه ليست الأولى، ردَّ عليه في أكثر من مسألة ردوداً قوية وردوداً مُتراوِحة، وهذا الكتاب يبدو أنه ردٌ على الشيخين، أيضاً هناك الإمام العلَّامة الأمير الصنعاني صاحب سُبل السلام وصاحب الكتب الماتعة المُفيدة المعروفة، فاليماني – رحمة الله تعالى عليه – ردَّ في كتابه رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار، وهو الكتاب الذي حقَّقه الشيخ ناصر الدين الألباني رحمة الله تعالى عليهم أجمعين، العلَّامة الإمام محمد بن عليّ الشوكاني – القاضي الشهير صاحب نيل الأوطار والكتب الشهيرة المُفيدة – له أيضاً رسالة بعنوان كشف الأستار في إبطال قول مَن قال بفناء النار، مرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي له رسالة بعنوان توقيف الفريقين على خلود أهل الدارين، أما الذين ردوا على الشيخين في غضون كلامهم فكثيرون جداً، أنا ذكرت هؤلاء لأنهم أفردوا ردهم بمُصنَّفات وبرسائل بحيالها أو برؤوسها، أما الذين ردَّوا في غضون الكلام كثيرون جداً.

الإمام ابن الوزير اليماني هو إمامٌ مُجتهِد – كما وصفه ابن حجر العسقلاني – لا يشق له غبار وكلامه مُفيدٌ جداً إلى الغاية، مَن قرأ كلامه في كتبه النافعة يجد أن كلامه كان مُفيداً جداً إلى الغاية، وهو يماني أيضاً رحمة الله تعالى عليه رحمةً واسعة، كان زيدياً ثم صار إلى مذهب الدليل، فارق التمذهب وصار إلى مُقتضى الدليل في المسائل أصلاً وفرعاً، فهو بالغٌ رُتبة الاجتهاد، ومُصنَّفاته تشهد له بذلك، ابن الوزير اليماني كان في البداية يقول بفناء النار، وانتهى بعد ذلك إلى التوقف، والذي ظهر لي أنه إلى بقائها وتأبيدها أميل، فالمسألة خطيرة والمسألة مُشكِلة، ولكن جميل أن يكون فيها هذا الخلاف، لأن هذ القول والذي سأقف في خُطبة اليوم على ذكر أدلته والجواب عن بعض ما احتج به الجماهير يصلح أن يُسكِّن من قلق هؤلاء الذين يجفون الدين والتوحيد لأجل هذه المسألة وأشباهها كما أشار إليها العلَّامة المُجدِّد رشيد رضا، فجميل أن نستحضر هذا القول، ومَن يعلم؟ لعله في نهاية المطاف هو الحق الذي لا حق سواه، مَن يعلم؟ ولعله لا يكون كذلك، الله أعلم فالمسألة كبيرةٌ جداً، وقد حاولت أن أرد أيضاً على الشيخين قبل أكثر من ربع قرن في رسالة وضعتها في ثلاث ليالٍ وأسميتها آنذاك على طريقة أهل السجع بالصُلح بين الإخوان في مسألة فناء النيران والتسديد والتأييد لقالة التأبيد، وكنت في زُهاء الحادية أو الثانية والعشرين من عمري، والآن أنا مُقتنِعٌ تقريباً وأميل إلى قول الشيخين ابن تيمية وابن القيم، العلَّامة رشيد رضا كان يقول بقول الجماهير، فلما وقف على قول ابن القيم وأدلته سَّر بها جداً وجزَّاه خيراً وقال لا يعلم مثوبته إلا الله، فهو قال لا يعلم مثوبته إلا الله على هذا الاجتهاد وعلى هذه الأدلة الجميلة القوية المُعزَّزة، ونحن نرجو ونرغب أن يكون هذا هو الحق الرحمة أيضاً بالخلق جميعاً.

أولاً قد يقول قائل هذه المسألة مفروغٌ منها وهى من القطعيات بلا تردد ولا اشتباه، وذلكم أن الله – تبارك وتعالى – قضى في غير ما موطنٍ من كتابه الأعز الأجل بتخليد الكافرين والمُشرِكين في جهنم وقيَّد تخليدهم فيها في مواضع بالتأبيد، أي جعله خلوداً مُؤبَّداً، فماذا أنتم قائلون؟ لكن هذا لا يُفيد، لماذا؟ أولاً ما معنى الخلود؟ ما معنى الأبد والتأبيد في لغة العرب؟ على أي معنىً وُضِعَ لفظ الخلود؟ وعلى أي معنىً وُضِعَ لفظ الأبد والتأبيد؟ الخلود في لغة العرب ليس يعني أكثر من البقاء المُتطاوِل والبقاء المُستطيل والبقاء الطويل، هذا هو الخلود، لذلك العرب تُسمّي الحجارة التي تُوضَع تحت القدر وهى الأثافيّ – تعرفون المثل الشائع الذي يقول ثالثة الأثافيّ، والأثافيّ جمع أثفية – بالخوالد، فهذه الأثافيّ تُسمّى في لغة العرب الخوالد مع أنها لا تبقى إلى أبد الآبدين، لا تبقى إلى غير نهاية وإنما تنتهي بعد عشرين أو ثلاثين أو خمسين سنة وتتفتت، ولكن لماذا تُسمّى خوالد؟ لأنها تمكث طويلاً، هى تمكث عشر سنوات كحجارة يُوقَد عليها ومن ثم هذه مُدة طويلة فتُسمّى الخوالد، وربما وصفوا الجبال بالخوالد، والعرب تقول لأخلِّدنك في السجن، والسجن ليس خالداً بالمعنى الذي نعرفه نحن العامة الآن أو المعنى الاصطلاحي الشرعي وهو البقاء إلى غير نهاية وإلى غير غاية، فضلاً عن أن يكون السجين مُخلَّداً بالمعنى الاصطلاحي، أليس كذلك؟ فما معنى لأُخلِّدنك في السجن؟ هذا هو الخلود، فكلمة الخلود بحيالها لا تُجدي كثيراً، لأنها موضوعة لا على معنى البقاء غير المُنتهي لغةً، ونحن مُخاطَبون بماذا؟ مُخاطَبون بالعربية، ويجب أن نفهم كلام الله وكلام رسوله بما أُنزِلَ به وعليه، هو أُنزِلَ بالعربية وعلى دستور العربية، أي أُنزِلَ بها وعلى دستورها وعلى طرزها، وأما الأبد والتأبيد فنفس الشيئ، الأبد والتأبيد يعني المُدد المُتامدية، يُقال في الدعاء كما في أساس البلاغة للعلَّامة جار الله محمود الزمخشري – رحمة الله تعالى عليه، وهو مُعتزِلي حنفي الفروع ولكنه مُعتزِلي في الأصول – رزقك اللهُ عمراً طويل الآباد وبعيد الآماد، ولا يُوجَد أحد يُؤبَّد بالمعنى العُرفي، بعد أي عمر – ستعيش مائة أو مائة وعشرين أو مائة وستين سنة – ستموت، يأتي عليك الفناء ويأتي عليك الموت، ولكن يُقال في الدعاء رزقه الله عمراً طويل الآباد وبعيد الآماد، ولذلك قال العلَّامة الراغب الأصفهاني في كتاب المُفرَدات في غريب القرآن وناهيكم به – معروفة دقة الراغب في هذه المسائل الدلالية واللغوية، فهو دقيقٌ جداً رحمة الله تعالى عليه وكتابه مرجع، يُقال قال الراغب، وطبعاً هناك كتب أخرى أُلِّفت في هذا الباب، أي في مُفرَدات القرآن، وأجودها على الإطلاق كتاب الراغب، لذا عليكم به، أن هذه الكلمة – أي كلمة الأبد – تُقال للمُدة الطويلة وليس للمُدة التي لا تنتهي، والدليل على ذلك كثيرٌ جداً ومُبارك ووفيرٌ في كتاب الله تبارك وتعالى، قال الله فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا ۩، ما معنى لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا ۩؟ هل النبي مُؤبَّد؟ هل هم مُؤبَّدون؟ قال الله لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا ۩ وقال أيضاً وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ ۖ ۩ فضلاً عن أنه قال – والثلاث الآيات في سورة براءة، أي التوبة – لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ۩ وذلك في مسجد الضرار، قال الله في القاذفين المُفترين الأفائك – والعياذ بالله – فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا۩ وهل يظلون مُؤبَّدين في الدنيا؟ قال الله مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ۩ وذلك على لسان صاحب الجنة، وهل جنته – أي حديقته بمعنى البُستان Garten – مُؤبَّدة؟ قال الله مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ۩ وقال أيضاً بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا ۩، والرسول والمُؤمِنون ليسوا مُؤبَّدين، وهذا كثيرٌ جداً، الله يستخدم كلمة أبداً في كتاب الله وفي هذه المواضع كلها لا يُفهَم منها البقاء إلى غير نهاية، بل المفهوم منها واضحاً هو ما وُضِعَت عليه لغةً وهو البقاء المُتمادي الطويل أو المُستطيل، يُقال طويل ومُستطيل، كبقاء مُستطيل أو بقاء طويل مُتمادٍ، ولكنه ليس بقاءً إلى غير نهاية فانتبهوا، لكن طبعاً العامة لا تعرف هذا، قد يقول أحدهم كأني لأول مرة أقرأ هذه الآيات، وهو يقرأها كل سنة على الأقل في رمضان، ولكن صعب امتلاخ جذور العوائد وما تم الائتناس به، فالناس تعوَّدت وائتنست أن الأبد معناه إلى غير نهاية, سوف يُقال كيف تقول هذا والله يقول خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۩؟لكن هل تعرف ما معنى كلمة أَبَدًا ۩؟ الأبد لا يعني إلى غير نهاية، نعم جاء الشرع في مواضع ونقل هذه المعاني إلى اصطلاحٍ حادث واصطلاح شرعي بحيث قد يُفيد في مواضع كثيرة البقاء المُتمادي إلى غير نهاية ويُعرَف هذا بالقرينة وبالسياق لكن أنا أتكلَّم عن أصل الوضع اللغوي، فاللغة إلى جانبنا، اللغة إلى جانب هذا القول وتُسعِده، فهذا الاجتهاد ليس يشقى بالوضع اللغوي لهاته الألفاظ.
سأُشير إلى مسألة ذات بال، وهى أن الله – تبارك وتعالى – أبَّد مُقام المسعودين في دار النعيم المُقيم، أبَّد مُقامهم المُخلَّد، يعني هم مُخلَّدون أبداً، يعني أبَّد خلودهم في الجنان وذلك في تسعةِ مواضع، ولكنه لم يُؤبِّد خلود الكافرين والمُشرِكين في جهنم إلا في ثلاثة مواضع، وهذه لها دلالة، لأن رحمة الله – تبارك وتعالى – دائماً تسبقُ غضبه، ولأن رحمة الله – تبارك وتعالى – دائماً تغلب غضبه، رحمة لابد أن تغلب، فإذا ذكر المُؤمِنين وذكر تخليدهم وشاء أن يُقيِّده في النظم الكريم بالتأبيد فعل هذا في تسعةِ مواضع، ولكنه حين شاء أن يُعرِب عن تأبيد خلود الكافرين في النيران فعل ذلك فقط في ثلاثة مواضع، الموضع الأول من سورة النساء إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً ۩، الموضع الثاني في سورة الأحزاب إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا ۩ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ۩، الموضع الثالث والأخير في سورة الجن وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۩، هذا هو فقط، إذن تخليد الكافرين والمُشرِكين في نار جهنم مُقيَّداً بالتأبيد لم يرد إلا في ثلاثة موارد فقط، على أن الرحمن الرحيم – انظروا إلى بدائع الكتاب العزيز – قابل هاته المواضع الثلاثة بثلاثةٍ أُخرى أو أُخر استثنى فيها وفتح الباب على احتمالٍ تفوح منه رائحة الرحمة والتجاوز ولو بعد حين، كيف؟ ثلاثةٌ بثلاثة ولتغلبن رحمة الله غضبه، هكذا أقول لكم، وهذا لم أجد مَن التفت إليه، أي أن هذه المُناظَرة والمُقابَلة لم أجد مَن التفت إليها والله أعلم، الموضع الأول هو قول الحق – سبحانه وتعالى – في سورة الأنعام، والسياق واضح أنه في الكفار والمُشرِكين وذلك في ثلاث آيات، قال الله يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ – الله أكبر، هذا استثناء عجيب قاله الحق جلَّ مجده وعزَّ جنابه في حق الكافرين وفي حق أولياء الشياطين – إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ۩ كَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ۩ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ ۩ فهم اعترفوا بكفرهم، هذه الآيات في الكفار والله استثنى وقال إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ۩، الله أكبر، الموضع الثاني وهى آيات المقام أو المُقام في أواخر سورة هود – لعلها في الثلث أو الربع الأخير من سورة هود – حيث قال الله في ثلاث آيات يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ۩ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ۩ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ۩،الله أكبر، وسنُجيب عن بعض ما اعترضوا به بالذات في آية هود التي تقول خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ۩، هل سمعتم آية هود؟ هذه من أكبر مُعضِلات كتاب الله، لو سألك سائل هناك آية تُعتبَر من أكبر المُعضِلات التي عضُلَت بالعلماء وفيها أقاويل وتفسيرات مُتضارِبة جداً ماهى؟ قل له آية هود، آية الثنية، أي آية الاستثناء، ما مُراد الحق بثنياه هنا – باستثنائه هنا – حين قال إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ؟ الموضع الثالث والأخير في حق الجهنميين في الآية التي تقول لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ۩ إذن الله قال أَحْقَابًا ۩،وماذا بعد الأحقاب؟ الله أعلم هل تفنى أم يخرجون أم ما الذي يحدث، قال لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ۩، وطبعاً الاستدلال بهذه الآية بالذات هو أضعف الاستدلال بهذه الثلاثة، لماذا؟ لأنه مبنيٌ على مفهوم العدد، ومفهوم العدد من أضعف المفاهيم، وطبعاً هذا تعبير أصولي، مَن لم يقرأ أصول الفقه لن يفهم عني جيداً الآن، لكن لا وقت لدي، هذا هو مفهوم العدد، العدد لا مفهوم له عند أكثر العلماء، ومَن قال له مفهومٌ – وهو مفهوم العكس – فنحن نعترف أن مفهوم العدد من أضعف المفهومات، والقائلون به قُل، أي ندرة أو قلة، ليس الأكثر وليس الجماهير، الجماهير لا تقول بمفهوم العدد، لكن هذه مسألة أصولية!

نعود مرة أُخرى ونأتي إلى آية هود بالذات وهى الآية المُعضِلة، من أشبه الآيات أيضاً في كتاب الله تبارك وتعالى، ولكن سنتحدَّث باختصار لأن هذه تحتاج إلى مُحاضَرة طويلة حتى نتقصى فيها أقوال المُفسِّرين المُختلِفة وكيف انتصر كل فريق لقوله ورأيه، باختصار القاعدة ما هى؟ القاعدة أن ما بعد (إلا) يأتي مُخالِفاً لما قبلها، الله يقول خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ – أي مُدة دوام – السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۚ ۩، إذن لابد أن يكون ما بعد (إلا) الاستثنائية مُخالِفاً لما قبل إلا، لابد أن تكون الثنية أو يكون الاستثناء هنا مُخالِفاً لما قبل إلا، ما هو الذي قبل إلا؟ أنهم خالدون فيها مُدة بقاء ودوام السماوات والأرض، هذا هو المعنى، فأن يُقال إن الثنية أو الاستثناء يعود إلى مُدة دوام هؤلاء في البرزخ أو في موقف الحساب قبل أن يُقضى ويُفصَل في حسابهم كل هذا مُخالِف للنظم ومُخالِف لظاهر الآية، الآية تقول خَالِدِينَ فِيهَا ۩ فالكلام عن تخليدٍ في جهنم والاستثناء من هذا، وهنا قد يقول لي أحدكم أن قول الله إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۚ ۩ من الزيادة على ذلك، وقد يقول آخر أن قول الله إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۚ ۩ من تنويع العذاب عليهم، فيُعذَّبون مرة بالحر والحرور ومرة أخرى بالزمهرير، لكننا نقول هذا لا شيئ،هذا القول بالذات هواء، هذا – كما أقول أنا – كلام فارغ، لماذا هواء أو كلام فارغ؟ لأن جهنم لا تعني فقط النار، تعني النار والزمهرير، فكل هذا هو جهنم، كل هذا هو النار، لأن كل هذا في النار، هى فيها حرارة شديدة وفيها زمهرير، أي أن كل هذا في جهنم وليس في عالم آخر غير جهنم، لذا هذا ليس بشيئ، وأما القول بأن قول الله إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۚ۩ من الزيادة على ذلك فهذا مُحتمَل لكن سوف نرى.

الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري – رحمة الله تعالى عليه – في تفسيره العظيم المُبارَك بمعنى كلامه قال وقال آخرون – أي قال قومٌ آخرون – أوقفنا الله – تبارك وتعالى – على معنى الاستثناء أو معنى ثنياه بخصوص أهل الجنة الذين سُعِدوا – ففي الجنة خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۚ ۩ أن من المُمكِن أن يكون قول الله إِلَّا مَا شَاءَ ۩ من الزيادة أو يكون قول الله إِلَّا مَا شَاءَ ۩ من النقصان، وأنهم يفنون أو يخرجون منها أو يُخرَجون فلا ندري، لكن نحن علمنا أن المُراد من الزيادة التي تجعلهم بقاؤهم دائماً غير مُنقطِع في الجنة، لماذا؟ لمكان قوله – تبارك وتعالى في الآية، بماذا ذيَّلها؟ قال إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ۩، أي غير مقطوع، فهذا عطاء مُمتد ومن ثم الآن عرفنا ماذا يُريد الله بالثنية أو بالاستثناء في حق المسعودين، يُريد أن يُبقيهم وأن يُديمهم في النعيم المُقيم إلى غير نهاية، لقوله  غَيْرَ مَجْذُوذٍ ۩، أما في حق الأشقياء المتعوسين أو التاعسين قال إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ۩، وفي الأنعام قال إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ۩، وهذا أمرٌ عجيب، ومن ثم لا ندري، فهل هذا الي استثناه الله – تبارك وتعالى – يعني النقصان؟ سوف نرى.

بعض الناس قالوا هذا لا يُفيد، لماذا؟ لأن الله – تبارك وتعالى – أخبر عن أهل جهنم وقال وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ۩ وذلك في سورة البقرة، وقال في سورة المائدة يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ۩، فضلاً عن أن الله – تبارك وتعالى – قال في الحج كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا ۩ وقال في الم السجدة كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا ۩، فواضح أنهم لا يخرجون، لكن هذا لا يُفيد، هل تعرفون لماذا؟ فرقٌ كبيرٌ بين أنهم يخرجون وأنهم يُخرَجون، هذا فرقٌ كبير وسوف أُوضَّح لكم هذا، هذا لم أُسبَق إليه، هذا من اجتهادي وأسأل الله أن أكون أصبت به الحق وله الحمد والمنة، وهو كما سأتلوه على مسامعكم بعد قليل وكما سترون.

في حق أهل الجنة قال الله لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ ۩، من أوهام العلَّامة ابن القيم ومَن تابعه حتى الأمير الصنعاني أنه ذكر هذه الآية في حق أهل جهنم وهذا خطأ، هذه لم تقع مرة واحدة – باستثناء شيئ في الجاثية سأتلوه عليكم – في حق أهل جهنم، هذا غير صحيح، ولذلك الكبار يهمون – هذا من وهم العلماء – لأنهم يكتبون من حفظهم أحياناً وبسرعة، أذهانهم سيَّالة – ما شاء الله – وحفظهم حاضر لكن يقع الوهم، والإنسان مُستهدَفٌ للنسيان، فابن القيم جعل هذه الآية في حق جهنم ولم يتفطَّن، ضيَّع على نفسه وعلينا برهاناً من ألطف ما يكون، لكن الله هداني إليه بفضله ومنه، بالعكس القرآن قال في حق أهل الجنة وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ ۩ ولم يقل هذا مرةً في حق أهل النار، قال وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ۩، ففرقٌ كبيرٌ كفرق ما بين السماء والأرض، كفرق ما بين رحمة الله وغضبه، أي بين المقامين، كيف؟ هل مَن دخل الجنة وتروَّح بأرواحها وتنَّعم بنعيمها والتذَّ بلذائذها يخطر على باله مرةً من الدهر أو من الأبد أن يخرج منها؟ هذا مُحال، وإنما كل همه أن يبقى فيها مُؤبَّداً مُقيماً دائماً، وكل خوفه من أن تتعلَّق الإرادة بإخراجه، فأمَّنه الله من أن يُخرَج، وطبعاً لم يُؤمِّنه من أن يخرج لأنه لن يخرج، لا يُمكِن أن يدخل الجنة ثم يُريد أن يخرج، هذا مُستحيل طبعاً، قال تعالى لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا ۩، لكن في الدنيا لو أنك وضعت إنسان في أعظم قصر من قصور أعظم الملوك وعاش فيه سنة أو سنتين أو ثلاث لمله ولأحب أن يتحوَّل عنه، لأن الإنسان يمل، ولذا بعض أصحاب القصور ينتحرون، أليس كذلك؟ ولكن الله قال الجنة ليست كقصور الدنيا ولا نعيمها، قال لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا ۩، الواحد منهم يجلس فيها ويُحِب أن يجلس باستمرار إلى الأبد وإلى غير ما نهاية وغاية، ولذلك الله لم يُؤمِّنهم من شيئٍ هم لن يفعلوه أبداً، وهو أن يخرجوا، لكن أمَّنهم مما يخافون، وهم يخافون مِن ماذا؟ مِن أن يُخرَجوا، كما قال جهم بن صفوان أو أن يفنوا، كأن يُفنيهم الله، أو كمال قال أبو الهذيل العلَّاف – فيلسوف المُعتزِلة في وقته – أن تعدم أو تنعدم حركاتهم ويُصبِحون كالعدم، ضطرداً لمبدئه النظري الفلسفي في استحالة أن تبقى الحركات والحوادث إلى ما لا نهاية، وهو لا يُفرِّق – أبو الهذيل العلَّاف – في هذا المعنى بين الجنة والنار أيضاً.

الله قال أنا أمَّنتكم من أن أُخرِجكم، لن تتعلق إرادتي ومشيئتي يوماً من الأبد والدهر أن أُخرِجكم منها، الله أكبر، ما أعظم كرم الله، والله الذي لا إله إلا هو إن هذا لقرآنه وكلامه، القرآن كلما تدبَّرناه – أُقسِم بالله الذي لا إله إلا هو – علمنا أنه من عند الله، فيه دقائق وعجائب لا يُمكِن أن تكون من عند بشر، لا يُمكِن أن تكون من عند رسول الله، هذا يستحيل طبعاً، هذا كلام رب العالمين، ولكن القرآن يحتاج إلى تدبر وتعمق، الله هنا يقول وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ ۩، لكنه في حق الناريين وفي حق الجنهميين قال ماذا؟ قال وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا ۖ ۩ وقال أيضاً وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ۩ فقط، ولكن يا رب ماذا عن قولك وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ ۩؟ سكت عنه، لئلا يقطع هذا الأمل لمَن تدبَّر في كتاب الله، كأنه يقول نعم – والله أعلم فلا نفتري على الله الكذب – سيأتي يوم أنا أُخرِجهم، أما أن يخرجوا هم لا، ممنوع أن تخرج من جهنم، الموضوع ليس كما تُحِب، وكل مسكين منهم سوف يدخلها سوف يُحِب أن يخرج من أول لحظة، لكن الملائكة سوف تقمعهم – وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ۩ – وتضربهم على رؤوسهم، تقول الآية الكريمة قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ ۩، ففرقٌ بين مُخرَجين وبين خارجين. لو قال مرة وما هم منها بمُخرَجين لانقطع الأمل لكنه لم يقل هذا مرة، ولكن عنه جواب أيضاً، في آخر الجاثية منع الله – تبارك وتعالى – أنهم يُخرَجون منها ولكن قيَّده باليوم، قال الله فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ ۩، الله أكبر، ألم أقل لكم هذا كلام الحق لا إله لا هو؟ قال فَالْيَوْمَ ۩، لماذا قال الله فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ ۩؟ هل تعرفون لماذا؟ لأنه يبدو والله تبارك وتعالى – وهو أرحم الراحيمن وخير الغافرين – أعلم وأحكم أن عذاب كل مَن دخل النار من هؤلاء الكافرين والمُشرِكين هو يومٌ، ولكن هذا اليوم كما قال ابن القيم – ابن القيم هو الذي قال هذا – قدَّرته نصوص صحيحة بخمسين ألف سنة، وورد عن رسول الله أن هذا اليوم خمسون ألف سنة، أي يُساوي خمسين ألف سنة لا أكثر من ذلك، هذا هو، لماذا؟ قال العلَامة ابن القيم في حادي الأرواح وجدنا أن الله – تبارك وتعالى – في كتابه كلما أوعد هؤلاء الكافرين والشاردين والمُشرِكين في مواضع كثيرة بعذاب الآخرة جعله مُضافاً إلى يوم، فهو عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ۩، وهو عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ۩، فهو عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ۩، لماذا يقول يوم ويوم ويموم؟ وهذا من حسن تدبره رحمة الله عليه، قال ولم نجد الله – تبارك وتعالى – مرةً واحدة جعل نعيم أهل الجنان نعيم يوم، ولا مرة أضاف النعيم إلى يوم، ولكن ليس في قوله الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ۩ إضافة النعيم إلى اليوم، فانتبهوا وهنا أخطأ العلَّامة الأمير الصنعاني، وأنا قرأت رده طبعاً، فهنا كبى به جواده – كبى به جواد التبيان والدليل – ولم يُصِب المحز،
قال هنا الله قال نفس الشيئ حين قال إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ۩، لكن فرقٌ كبير بين أن يكونوا اليوم في شغل وهم غداً في شغل وبعد غد وإلى أبد الأبيد في شغل ، وبين أن يجعل نعيمهم نعيم يوم، انتبهوا فهنا الصنعاني أخطأ رحمة الله عليه، لكل جوادٍ كبوة، ويبقى كلام ابن القيم على الجادة، يبقى قوياً ظاهراً، لماذا أضاف الله العذاب إلى يوم؟ فكأن الله يُرسِل إلينا رسالة من وراء وراء ويقول عذاب هؤلاء لا يُجاوِز يوماً من أيامي، إما أن يكون هذا اليوم – وهذا الأرجَّح كما قدَّرته النصوص الصحيحة في أحاديث صحاح عن رسول الله – يُساوي خمسين ألف سنة – وهذا شيئ مُخيف جداً – وإما أن يكون يوماً من أيام الله، قال الله وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ۩، ولذلك أشار إليه بقوله لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ۩، هنا يُصبِح مفهوم العدد له وجاهة في هذا الموضع، قال الله أَحْقَابًا ۩، ولذلك يُروى عن أكثر من صاحبٍ، صحيح أن الأسانيد ليست بتلك، الأسانيد ضعيفة ولكن مما يلفت أن هذا رُويَ عن أكثر من صحابي أيضاً، لماذا؟ بل مما يلفت أيضاً أن بعض الأئمة الأجلاء كعبد بن حُميد الكشي وهو شيخ الإمام مسلم – رضيَ الله تعالى عنهما – في تفسيره لآية لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ۩ ينقل هذا عن الصحابة ولا يُنكِره، وقد نبَّه شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمة الله عليه – بأن سكوت مثل عبد بن حُميد على هذا القول يُؤكِّد أن القول ليس بدعاً وليس مُنكَراً من القول، ولو كان بدعة مذمومة وضد الاعتقاد لما سكت عنه، وقد أثره عن أكثر من صاحبٍ جليل، كقول عبد الله بن مسعود – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – ليأتين على جهنم يومٌ وليس فيها أحد وذلك بعدما لبثوا فيها أحقابا، قال الله لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ۩، وكقول عبد الله بن عمرو بن العاص – رضيَ الله عنهما – ليأتين على جهنم يومٌ تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد، وكقول أبي هريرة – رضيَ الله عنه – ما أنا بالذي أقول إنه لا يأتي على جهنم يومٌ ليس فيها أحد، أي قال أنا أقول هذا أيضاً، ومثله عن عمرو بن ميمون التابعي الجليل ليأتين على جهنم يومٌ كذا وكذا، أي نفس الكلام، ومثله أو قريبٌ منه قول الفاروق عمر – رضوان الله تعالى عليه – لو لبث أهل النارِ في النارِ عدد رمل عالج – وعالج رملةٌ كثيرة الرمل، مكان فيه رمل كثير معروف إسمه عالج، فيُشبَّه به ويُضاف إليه الرمل لأنه كثير الرمل، فالحديث عن الرملةٌ أو مُجتمَع الرمال، أي مثل عدد حبات رمل عالج – لأتى عليهم على ذلك يومٌ يخرجون منها، عمر الفاروق يقول هذا، ومثله مرويٌ عن أبي سعيد أو جابر أو أحد الصحابة، هكذا رُويَ، واحد منهم بالترديد، إما أبو سعيد وإما جابر وهناك جُملة آثار في هذا الباب، فالقول مطروق مُنذ البداية، على الأقل إن لم يصح عن الصحابة – فكما قال شيخ الإسلام – لم يُنكِره أمثال عبد بن حُميد وسكت عليه، ولذلك لما سُئل الإمام عليّ – عليه السلام وكرَّم الله وجهه – عن مُنتهى الأمر ماذا قال؟ قال – عليه السلام – إذا دخل أهل الجنةِ الجنة وأهل النارِ النارَ – صار كلٌ إلى مقامه وصار كلٌ إلى مصيره – ما ثم بعد ذلك إلا مشيئة الرب، قال الله إِنَّ رَبّك فَعَّال لِمَا يُرِيد ۩، انتهى الأمر كله إلى مشيئة الله، وقد علمنا بالنصوص القطعية أنه شاء أن يجعل نعيم أهل الجنة نعيماً غَيْرُ مَمْنُونٍ ۩ وأيضاً نعيماً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ۩ باقياً ليس له نفاد، قال الله مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ ۖ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ ۗ ۩، ولكن لم يرد مثل هذا بهذه القطعية في حق أهل جهنم، بل ورد ما تلونا عليكم بعضه من إشارات واستثناءات، ولذلك لما سأل حرب إسحاق بن راهوية – رحمة الله تعالى عليهما – عن قوله – تبارك وتعالى – في حق الذين شقوا – لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ۩ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۚ ۩ – قال أتت هذه الآية – إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۚ ۩ – على كل وعيدٍ في كتاب الله، كل وعيد في حق أهل جهنم محكوم بهذا الاستثناء طبعاً، لأن الوعيد هناك مُطلَقٌ غير مُقيَّد، وهنا جاء مُقيَّداً بقيد الاستثناء، فيُحمَل هذا على هذا، وهذا فقهٌ سديد وفهمٌ سديد في كتاب الله، قال الإمام الجليل إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بإسحاق بن راهوية – رحمة الله عليه – أتت هذه الآية على كل وعيدٍ في كتاب الله، إذن أين ينتهي الأمر؟ إلى ماذا ينتهي الأمرُ؟ إلى قوله تعالى إِنَّ رَبّك فَعَّال لِمَا يُرِيد ۩، لا إله إلا الله، ولذلك قال حبر الأمة وعيلمها وبحر علومها وترجمان كتابها ابن عباس – رضيَ الله تعالى عنهما وأرضاهما – لا يجوزُ أو لا يحقُ ولا يسوغُ لأحدٍ من عباد الله أن يحكم في عباد الله ولا أن يُنزِل أحداً منهم جنةً ولا ناراً، قال الله إِنَّ رَبّك فَعَّال لِمَا يُرِيد ۩، اترك الخلق للخالق واترك الأمر لله، أنت لا تعرف شيئاً، المشيئة واسعة والرحمة ضافية فائضة، لا إله إلا هو، فهذا موضع الاستثناء ومعناه على سبيل العجلة وعلى سبيل الإسراع والعجلة بحول الله تبارك وتعالى، وهناك بعض الأنظار الأخرى، كيف؟ يعترض مُعترِض بأن النار سبيلها سبيل الجنة، وبما أن الجنة وهى مقام ودار المُؤمِنين المبرورين دائمة بلا انقطاع فالنار مثلها، وهذا خطأ أجاب عنه ابن القيم بجوابات جميلة وسديدة فيما يبدو لنا ويظهر ومنها:

أولاً أن الجنة ونعيمها مُوجَب – مُوجَب أي لازم ومُقتضى وليس مُوجِب، الموُجِب هو الملزوم وهو السبب، لكن هذه مُسبَّب، فيُقال مُوجَب وليس مُوجِب – ومُقتضى ولازم رحمة الله ومغفرة الله ورضوان الله الذي هو أكبر من الجنة وما فيها، قال الله وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ۩، كما قال أعلم وأعرف خلق الله بالله – صلى الله عليه وآله ومَن والاه – سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه – الله أكبر – وزنة عرشه ومداد كلماته، ورضا نفسه أكبر من الدنيا وما فيها بل أكبر من الجنة وما فيها، أكبر من كل شيئ، هذا رضا نفسه لا إله إلا هو، وهو لا يرضى لعباده الكفر، وهو لا يُحِب أن يُعذِّبهم، قال الله مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ ۩، وهو أرحم بهم من أمهاتهم بل أرحم – والله وعزته وجلاله – بهم من أنفسهم بأنفسهم، لا إله إلا هو، إذن فرقٌ كبير بين هذا وهذا، الجنةُ مُوجَب رحمته ومغفرته ورضوانه وبره وكرمه، والنار مُوجَب غضبه وسخطه، فأما الرحمة والبر والكرم والمغفرة والصفح والجود فهى صفات ذاتية لله، وأما الغضب والسخط فهى صفاتٌ فعلية، أليس كذلك؟ لذلك لا يُقال إن من أسمائه الغاضب أو الغضبان، لا يُقال إن من أسمائه المُعاقِب أو المُعذِّب، هذا ليس من أسماء الله، هذا من أفعاله وليس من أسمائه وصفاته، ولذلك فرَّق المولى الأجل – لا إله إلا هو وجلَّ جلاله – في كتابه في غير ما موضعٍ بين المعنيين وقال نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا – يقول أَنَا ۩ كذات لا إله إلا هو، هذه من صفاته ذاته الأجل الأقدس الأبر الأطهر الأكرم، لا إله إلا هو – الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ ۩، لم يقل وأني أنا المُعذِّب المُؤلِم، لا لم يقل هذا، لا يُوصَف الله بهذا، هذا وصفٌ لعذابه ووصفٌ لفعله، وما كان مُوجَب وصف ذاته وإسمه فهو يدوم بدوام ذاته ودوام أسمائه وصفاته، والجنة هى مُوجَب هذه الأشياء، وأما النار والعذاب والإيلام فيها مُوجَب فعله وليس مُوجَب أسمائه وصفاته، وهذا الفعل بالحكمة الإلهية ينقطع، في لحظة مُعيَّنة يرفع العذاب ويزول العذاب، لأنه – أي العذاب – إنما كان لا عبثاً، وإنما كان لحكمة سوف نقف عليها بُعيد قليل، فهذا أتى تطهيراً لهم، تطهيراً لهم من أدران الشرك والوثنية والكفر والجحود والعنود والنكود، فإذا تطَّهروا وعادوا إلى صفاء الفطرة ورواقها الأول ينتهي الأمر، إني قد خلقت عبادي حنفاء – على الفطرة – فَاجْتَالَتْهُمْ الشياطين، كل مولود يُولَد على الفطرة، قال الله وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ۩ بلا استثناء، فلسنا بحاجة إلى بعض الآثار التي لا معنى لها هنا لأنها مُناكِدة ومُناقِضة لنصوص كتاب الله، كالذي رُويَ عن ابن عباس أن منهم مَن قال بلى إكراهاً، أي قالها كرهاً، وهذا الكلام غير صحيح، الله لم يقل هذا، والنبي لم يقل هذا، قال الله فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۩، فإذا عادوا إلى صفاء الفطرة لم يكن ثمة مُوجِب أن يبقوا في العذاب فينتهي العذاب ويخرجون، يخرجون لأنه انتهى، قال الله إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ ۩، وهذا أمرٌ عجيب، لم يقل إن ربك لمُعاقِبٌ، وإنما قال إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ ۩، هذا وصف لعقابه وهو من فعله وهو مُوجَب غضبه، قال الله وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ۩، ولم يقل وإنه لعظيم الرحمة، وإنما قال هو غفورٌ رحيم، هو لا إله إلا هو، فهل ميَّزتم بين المقامين؟ قال الله إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ۩، ومثلها في الأنعام وفي الأعراف، أي قريبٌ منها أيضاً في الأنعام وفي الأعراف، فهذا فرقٌ إذن، ولذلك في الحديث الصحيح – وهو في الصحيح – قال عليه الصلاة وأفضل السلام إن الله لما قضى الخلق – أي فرغ من الخلق – كتب كتاباً فهو عنده على عرشه – وفي رواية تحت عرشه – إن رحمتي تسبق غضبي، الله أكبر!

انتبهوا يا إخواني وأخواتي – نوَّر الله صدري وصدوركم وصدوركن بمعرفته وبأنواره وبحُسن الفهم عنه في كتابه وعن رسوله في سُنته – إلى أن الله – تبارك وتعالى – جعل هذه الدنيا أيضاً مجلىً من مجالي رحمته، ولذلك يُكفَر به فيها ويُتنكَّب سبيله ويُقتَّل أولياؤه من النبيين والآمرين بالقسط من الناس من المُصلِحين، وهو على ذلكم ومع ذلكم يُبقيهم فيها ويُحييهم ويرزقهم ويمدهم ولا يُعاجِلهم بعقوبة إلا أن يشاء، على أنه لو عجَّل لهم العقوبة وآخذهم بما كسبوا ما أبقى على ظهرها من دابة، كما نطقت به – أي بهذا المعنى – أكثر من آية وغير آيةٍ، أليس صحيحاً؟ فما هذه الرحمة العظيمة جداً جداً جداً؟ يُكفَر به ويُقتَّل أولياؤه ومع ذلك يُبقيهم ويرزقهم، وهذا أمرٌ عجيب، كل هذا مجلىً لرحمة واحدة من رحمات الله، وادخر لخلقه يوم القيامة تسعاً وتسعين رحمة، فأين ستبلغ تلكم الرحمات؟ هذه رحمة في الدنيا فما مدى فعل تلكم الرحمات يوم القيامة ووخاصة أن الكفار المُشرِكين إذا دخلوا جهنم ندموا وانكسروا وأُهينوا وذلوا وأقروا واعترفوا؟ قال الله فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ ۩،وهنا قد يقول لي أحدكم لقد أجبت عن نفسك، لكن لا ما أجبت، هذا هو محل النزاع، الآن قال بعض العلماء كلام ابن القيم ساقط عن رُتبة الاعتبار، لا نعتبر به وليس دقيقاً، لماذا يا مولانا؟ قال لأن الله أخبر عن الكافرين أنهم لو عادوا إلى الدنيا لكفروا، وأنت تقول تبعاً لشيخك ابن القيم أنهم يدخلون جهنم ويتطهَّرون ويعودون إلى صفاء الفطرة، وكل هذا كلام إنشائي خطابي شاعري وليس قرآنياً، هذا ضد القرآن، لماذا؟ لأن الله قال وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ۩، لكننا قلنا لا، الآية لا تُساعِدك، لماذا؟ انظروا إلى مُعترَك أنظار، هذه هى المُشكِلة، لأن الله تبارك وتعالى واقرأ الآية بطولها واقرأها في سياقها واقرأ ما قبلها – وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ – هذا القيل قالوه وهم في جهنم أم حين يُوقَفون عليها قبل أن يُلقوا فيها وقبل أن يُدعّوا فيها دعّاً؟ قبل أن يُدعّوا فيها دعّاً – فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِن قَبْلُ ۖ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ۩،الحمد لله على الوفاق ونحن بهذا قائلون، نحن نقول لو رُدَّ الكفار والمُشرِكون قبل أن يُصلوا بعذاب جهنم – بنار جهنم – إلى الدنيا لعادوا إلى الكفر، ولكن لو رُدوا بعد أن يصلوها سيختلف الأمر، هذا مقام وهذا مقام، فليس هذا بالجواب، ثم أن الله – تبارك وتعالى – لا يفعل شيئاً إلا لحكمة، وحاشاه أن يكون تعذيبه لعباده هؤلاء المُعذَّبين في نار جهنم بكفرهم وكنودهم وشركهم لأجل أن يتشفَّى منهم، قال الله مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ ۩، قال هذا لا يحدث لي، لماذا؟ لأنه صح في الحديث المشهور أن العباد كلهم أولهم وآخرهم وإنسهم وجهنم لو كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ فيهم – وهو فرعون – لما نقص ذلك من مُلك الله شيئاً، والعكس بالعكس أيضاً، لو كانوا على قلب مثل محمد أو على مثل قلب محمد ما زاد ذلك في مُلك الله شيئاً، تقول الآية الكريمة فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ۩، المظلوم منا إذا أوقع أو سطا بعقوبة بمَن ظلمه يفعل هذا ليشفي غيظه، يقول شفيت نفسي، لأنك البشر القاصر الضعيف الذي بلغ بك ظلمه مبلغاً عظيماً جعلك لا تستطيع أن تذوق غمضةً ولا تنعم بحياة ولا تلتذ بلذة، أما رب العالمين فهذا لا ينقص من مُلكه شيئاً، سواء تعبد أو تكفر أو تُؤمِن فهذا كله عند الله سواء، لكن عليك ليس سواءً، فالله حاشاه – لا إله إلا هو – في عليائه ومجده وعزه وغناه أن يسطو بعباده وينتقم منهم لأجل أن يشفي غيظاً، الله ليس عنده غيظ وليس عنده شفاء، إذن لماذا يفعل هذا؟ لحكمة، لابد من وجود حكمة، ويبدو أن هذه الحكمة هى – كما قلت لكم – أن يُطهِّرهم من خبثِ ودنسِ ونجاسة الشرك والكفر – والعياذ بالله – والمعصية الكُبرى، لأن الجنة لا يدخلها إلا طيب، وهذا موضوع آخر، هل يدخلونها بعد ذلك كما ألمع ابن القيم؟ هذا موضوع آخر على كل حال والله أعلم، لكن الجنة لا يدخلها إلا طيب، تقول الآية الكريمة سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ۩،وهؤلاء ليسوا طيبين فلا يدخلون الجنة، إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ۩، فهى مُحرَّمة عليه، لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ۩ إذن هناك الحكمة، فإذا دخلوا النار وصلوها – والعياذ بالله من مثل مصيرهم ومُقامهم – وتطَّهروا من هذا – كما قلت لكم – هل يبقى بعد ذلك من مُوجِبٍ وداعٍ لأن يطول أو يستمر أو يمتد مُقامهم في جهنم ؟ لا، ما يبقى بعد هذا من مُوجِب، ولذلك يبدو أن هذه النار كما أشارت تلكم الآثار وبعض هذه الدلائل الخفية في كتاب الله تنتهي في يوم من الأيام وتفنى ويُخرَج منها هؤلاء، والآن قد يقول قائل لكن يا رجل الله – تبارك وتعالى – في كتابه قال إن عذابهم مُقيم، وقال ووصف عذاب جهنم بأنه عذابٌ غرام، تقول الآية الكريمة إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً ۩،والعذاب الغرام هو المُلازِم، كالغريم يُلازِم غريمه، أي كالمدين والدائن، فالدائن يُلازِم المدين الذي يُسمّى، والنبي يتعوَّذ من المغرم والمأثم، إذن الغرامة مُلازِمة، وقال – تبارك وتعالى – لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا ۩وقال وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ۩وقال لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا ۩ فضلاً عن الآية التي تقول قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ ۩، ونحو هاته الآيات، قلنا مرحباً بالوفاق، كل هاته الآيات نحن نصدع بها ونقول بها وننزل على دلالاتها، ولكنها خارج محل النزاع، ما هو محل النزاع؟ محل النزاع هو إذا عَدِمَت جهنم وطفئت وصفقت أبوابها وانتهت ينتهي كل شيئ، فرقٌ كبير بين هذا وذاك، فجهنم بما أنها باقية فإنهم طول مُدة بقائها لا يُغادِرونها – أعني المُشرِكين والكافرين وليس عُصاة المُوحِّدين – ويظلون فيها، والعذاب في ازدياد والجلود في نضيجٍ وتجديد، كل هذا نقول به وقال به ابن تيمية وقال ابن القيم، ولكن هذا كله مُقيَّد بماذا؟ مُقيَّد بالظرف المكاني، أي جهنم، فإذا طفئت وانتهت انتهى كل شيئ، فيُفعَل بهم كل ما ذُكِر طالما هى موجوة، تماماً كما يُقال فلانٌ في السجن ويُفعَل به كذا وكذا وكذا ويزداد عليه العذاب ويُضاعَف وهو عذابٌ مقيم وإلى آخره لكن كل هذا صحيح ما لم ينهدم السجن، فإذا انهدم السجن وانتُقِضَ بناؤه انتهى كل شيئ، ولكن طالما السجن موجود يُوجَد العذاب، وهذا هو الفرق بين هذا وبين مُؤمِن عاصٍ ومُوحِّد عاصٍ قضت النصوص – وخاصة النصوص النبوية الصحيحة – أنه يدخل جهنم ويُخرَج منها بالشفاعة ولم يرد مثل هذا أن الشفاعة تنال الكافرين، قلنا مقامان مُختلِفان، المُؤمِن يُخرَج من نار جهنم وهى باقية، وأما الكافر فيُخرَج منها وقد طفئت وانتُقِضَ بناؤها، هذان مقامان مُختلِفان، إذن ليس في كل تلكم الآيات كما أشار ابن تيمية وابن القيم – رحمة الله عليهما – ما يُشكِّل جواباً واضحاً وقطعياً عن ما أتيا به، انتبهوا فهذا شيئ وهذا شيئ.

أدركنا الوقت، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، فيا فوز المُستغفِرين!

(الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

نُقطتان قبل أن نمضي من هذا المقام المُبارَك، النقطة الأولى رحمة الله سابقة، هى غالبة وهى سابقة وهى أولُ كل شيئ وآخرُ كل شيئ، والكون كله فيض الرحمة، فهى أول كل شيئ وهى آخر كل شيئ بإذن الله وحوله وطوله ومنه وكرمه، برحمة الله أوجدنا من عدم وسوَّانا وأمدنا وأحيانا وأشبعنا وأروانا وغفر لنا، برحمة الله – تبارك وتعالى – هدانا وضوَّءنا ونورنا وأرشدنا وسلك بنا المهيع المُستقيم والصراط القويم، فأرسل إلينا المُرسَلين وأنزل علينا الشرائع القويمات البيّنات، وبرحمة الله يقبل التوبة من عبده إلى آخرِ لحظةٍ، وبابُ مفتوح وهو أعرض من أُفق المشرق أو المغرب، هو بابٌ كبيرٌ جداً جداً، وهذا برحمة الله، ومن رحمة الله أنه قضى وسبق منه بكرمه أنه لا يُعذِّب أحداً إلا بعد أن يقطع ويرفع عذره، وقد أعذر هو من نفسه بذا لا إله لا هو، قال الله وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا ۩، وفي معنى الآية أيضاً أن الله – تبارك وتعالى – لا يُعذِّب أحداً حتى تبلغه رسالة الرسول البلاغ المُبين – الحُجة الرسالية – والتي يقوم بمثل بلوغها إياه الحُجة على مثله، أما أن يسمع مُجرَّد سمع بمحمد والإسلام والقرآن ويسمع أن المسلمين يعتدون على الناس ويأخذون كذا وكذا ويفعلون كذا كذا وأن محمداً كان كذا فهذا ليس سماعاً وليس بلوغاً لحُجة تقوم بها أو بمثلها حُجة على مثله، انتبهوا هذا من رحمة الله، ولذلك أنا أقول لكم كبار العارفين وكبار المُحقِّقين – وذكرت هذا غير مرة – قالوا هذا، ومنهم شيخ الإسلام وحُجة الإسلام أبي حامد الغزالي الذي انتهى في آخر حياته إلى هذا وقال الذي أدين الله – تبارك وتعالى – به أن مُعظم خلق الله داخلون في رحمة الله، لكن المسلم اليوم بضيق نظره وضيق عطنه يظن أن كل مَن ليس مسلماً مأواه النار، وهذا ظن باطل وعاطل عن الدليل ومُناقِض للكتاب والسُنة، لكن تفصيل المقام يطول وهذا يحتاج إلى خُطبة بحيالها أو خُطب.

باختصار أقول لكم أن القرآن والسُنة تساعدا وتعاونا على إبراز هذا المعنى بشكلٍ لطيف، كيف؟ الله – تبارك وتعالى – يقول وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ۩، وهنا قد يقول لي كيف هذا وأبو حامد يقول الذي أدين الله تبارك وتعالى – أي أتعبد الله بهذا الاعتقاد – أن مُعظم خلق الله داخلون في رحمة الله، أي أن مُعظم الخلق يصلون إلى الجنة؟ سيقول هذا المُعترِض المُستعجِل هذا غير صحيح، لماذا؟ مُعظم مَن يعترض من هؤلاء باستعجال وبجهل، هو يعترض على حُجة الإسلام، لماذا؟ قال لأن الله قال لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ ۩وهو يقول مُعظمهم، وأنا أقول له لا، فاتك ما هو ألطف وأعجب، صح عن المُصطفى الأبر – عليه الصلاة وأفضل السلام – في حديث الصحيحين أنه – عليه السلام – قال إن بُعد ما بين منكبي الكافر في جهنم مسيرة ثلاثة أيام للراكب المُسرِع، وسوف تقول لي ما معنى هذا؟ سنفهم، وصح في صحيح مسلم وغيره إن ضرس – وفي رواية إن ناب – الكافر في جهنم كجبلِ أحد، وورد أن غِلظ جلده سبعون ذراعاً، وإلى آخر هذه الأحاديث، هناك أخبار وآثار كثيرة صحيحة، ولم يرد شيئٌ من هذا في حق أهل الجنة إلا ما رواه أبو نُعيم – صاحب الحلية – عن سعيد بن جبير من قوله – ليس يأثره ولا يسنده وبصيغة التمريض – وكان يُقال إن رجال أهل الجنة تسعون ذراعاً، ونساء أهل الجنة ثمانون، وهذا الكلام لا يُقام له وزن أبداً، لأنه ليس حديثاً ولا آية وإنما هو كلام فارغ، يقول كان يُقال، لم يقل حتى قال النبي ولم يُرسِله، هذا مُرسَل هيان بن بيان، لم يصح ولم يرد شيئٌ في هذا، ولكن ورد الكثير الطيب في حق أهل النار، والآن الحكمة والعلة، لماذا؟ أنا أقول لكم لأن مَن سيدخلها سيكون أقل عدداً، عدد قليل يدخل جهنم، فعلاً هو الكافر الكافر المُعانِد المُجرِم الذبَّاح السفَّاك، إلى آخره من هؤلاء الكفرة العتاة – والعياذ بالله – من كل الملل، ولكن لأنه أخذ على نفسه وأقسم – لا إله إلا هو – لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ ۩ فكيف سيملأها؟ هو يستطيع أن يملأها بخمسة أو بعشرة أو بألف أو بخمسة آلاف، لأن ورد إن ضرس – وفي رواية إن ناب – الكافر في جهنم كجبلِ أحد، وورد أن غِلظ جلده سبعون ذراعاً، هل فهمتم هذه العلة؟ لماذا النبي قال هذا الشيئ ولم يُوضِّح لنا؟ قال هذا أُلقيه إليكم وأنتم فكِّروا، كأنه يقول لنا الله – تبارك وتعالى – برحمته وحكمته يملأ جهنم ولكن بعد قليل من هؤلاء التاعسين الأشقياء، أما الجنة فتمتليء أيضاً من عند آخرها ويبقى فيها فضلة بنا – الله أعلم – في خلقنا الجديد من غير أن تُضَّخم أبداننا، وليس عندنا نص فنبقى على الأصل، ويبقى فيها فضلة فيُنشيء لها خلقاً لم يعملوا يوماً خيراً قط، لأنهم هؤلاء خلق الآن نشأوا والآن أُنشئوا، فيُدخِلهم الجنة برحمته لا إله إلا هو، وللأسف ورد حديثُ انقلب على الرواي – يُسمونه المقلوب – أن الله يُنشيء خلقاً لم يعلموا شراً قط ويُدخِلهم النار، وهذا كذب وباطل، هذا مما انقلب على الرواي، ولذلك الآن البخاري – رضوان الله عليه – روى هذا الحديث وأشار أيضاً بحديثٍ آخر إلى كونه مُنقلِباً على راويه، فهذا ما خطر لي وهو من فتح الله علىّ، فإن يكن صواباً فمنه وله الفضل والمنة لا إله إلا هو، ولم أر مَن نبَّه عليه من قبلي، لأول مرة بفضل الله عزَّ وجلَّ، حتى يقول لك نعم أنا على قسمي.

وأخيراً الله – تبارك وتعالى – وعد وأوعد – أي وعد وتوعَّد – وهو إذا وعد بإجماع الأمة لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ۩ ونطق بهذا وقال أنا لا أُخلِف الميعاد، ولم يقل مرة في كتابه أنه يُخلِف الوعد، وهنا قد يقول أحدكم بل قال هذا لأن الآية تقول مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩، فقلنا نعم وحيّاهلاً بقول الله، على الرأس ونعمة ألف مليون عين، ولكن ما هو القول الذي قاله؟ نحن اليوم في تفصيل وتفسير القول الذي قاله، من القول الذي قاله إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ۩، أليس كذلك؟ هذا من القول الذي قاله، فنهاية أمرهم إلى قوله إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ۩.

أتى أبو عثمان عمرو بن عُبيد رضوان الله عليه – أنا أحترم هذا الرجل وهو من أوائل القدرية الأُوَل ولكنه كان عابداً تقياً، أي بذور الاعتزال أيضاً في أفكاره ولكنه رجل عابد تقي صالح، لا أسبه أبداً، رحمة الله عليه – إلى إمام من أئمة أهل السُنة وهو أبو عمرو بن العلاء زَبَّان – مُختلَف في إسمه على عشرين قولاً على الأقل، وابن العلاء معروف وهو أحد القراء السبعة وأحد أئمة العربية بلا نزاع – فقال له يا أبا عمرو إذا وعد الله – تبارك وتعالى – عبده – أيُخلِفه؟ قال لا، هذه مسألة وفاقية، قال فإذا أوعده عقاباً على عملٍ عمله أُيخلِفه؟ قال يا أبا عثمان – لعمروا بن عُبيد – من العُجمة أوتيت، أي أنت أعجم لا تعرف العربية كما أعرفها أنا، وأبو عمرو بن العلاء ألَّف كتباً في العربية ملأت غرفة بأكملها – للأسف – ثم بيَّضها ولا أدري لماذا لكنه بيَّضها، فكتبه ملأت غرفة كاملة وهذا شيئ عجيب، لذا هذا الرجل من أعاجيب الدهر، وعلى كلٍ قال من العُجمة أوتيت، ثم قال إن العرب لا تعد عاراً أن يُخلِف الرجل وعيده بل تراه فضلاً، وإنما العار أن يعد بفضل وبخير ثم يُخلِف، هذا هو العار، ولكن لو توعَّد ثم أخلف هذا يُحمَد به ولا يُذَم، فقال أوجدني هذا في كلام العرب، أي هل هذا من عندك أم هو معروف في العربية؟ فقال أما سمعت يا أبا عثمان إلى قول الأول:

لا يرهب ابن العم ما عشت صولتي                   ولا أختشي من صولة المتهدد.

وفي رواية سطوتي.

وإني وإن أوعدته أو وعدته                           لمخلف إيعادي ومنجز موعدي.

قال هذا معروف وهو في شعر العرب في الجاهلية فأُفحِمَ، وهذا المعنى يتنوَّر بقول كعب بن زهير وهو مشهور عند الجميع في بانَت سُعادُ:

نُبِّئْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَوْعَدَنِي                           وَالْعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ مَأْمُولُ.

والله وهو القائل إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ۩ له أن يُخلِف وعيده متى شاء لا إله إلا هو.

اللهم إنا نسألك بقدسك وبأسمائك وبصفاتك العُلا الجُلّة أن ترحمنا برحمتك الواسعة التي رحمت بها كل شيئ يا رحمن الدنيا والآخرة رحيمهما، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.

اغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أسرفنا وما أسرفنا على أنفسنا وما جنينا على أنفسنا وما أنت أعلم به منا، أنت المُقدِّم وأنت المُؤخِّر، لا إله إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربونا صغارا، اجزهم بالحسنات إحساناً وبالسيئات مغفرةً ورضواناً، واغفر اللهم للمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات بفضلك ورحمتك إنك سميعٌ قريبٌ مُجيب الدعوات.

عباد الله: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقم الصلاة.

 (انتهت الخُطبة بحمد الله)

فيينا (4/5/2012)

 

 

 

 

 

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

تعليقان 2

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: